الذكاء الاصطناعي ضدّ محمد الماغوط/ صبحي حديدي
14 – أبريل – 2024
اختُتمت قبل أيام قليلة الدورة السابعة لـ»المهرجان الدولي للغة والثقافة العربية» الذي يُقام في ميلانو الإيطالية برعاية كلية الآداب واللغات الأجنبية – معهد بحوث اللغة العربية التابع للجامعة الكاثوليكية، الأكبر والأعرق على نطاق المدينة. وهذه السنة أيضاً أثبت الصديق الكاتب والأكاديمي المصري د. وائل فاروق، أنه أحد كبار رافعي ألوية اللغة والأدب والثقافة العربية في إيطاليا عموماً، وأنه الأبرز بين رعاتها وصانعيها في مدينة ميلانو خصوصاً؛ بمساندة فريق أكاديمي وطلابي، إيطالي وعربي، عالي الكفاءة والتفاني.
موضوع هذه الدورة كان سبّاق الطابع، واستباقياً من زاوية أنّ القرار بصدده كان قد اتُخذ من الهيئة الاستشارية قبل عام ونيف؛ لأنه استقرّ على العنوان التالي: «اللغة والذكاء الاصطناعي؛ قيد للماضي أم أفق للمستقبل؟»، وقُدّمت في مناقشته أوراق بالغة الأهمية والتعدد، في الميادين التالية: أخلاقيات وتشريعات الذكاء الاصطناعي، الذكاء الاصطناعي مترجماً وشاعراً وروائياً، الذكاء الاصطناعي وتعليم اللغة، تطبيقات الذكاء الاصطناعي ولغة التواصل الاجتماعي، الذكاء الاصطناعي والتحيز والبحث العلمي والفلسفة وإعادة هيكلة التراث واللغة والفنون…
وقد تشرفت بالمشاركة في أعمال المؤتمر بورقة عنوانها «الذكاء الاصطناعي ضدّ محمد الماغوط»؛ نهضتْ على فرضية مركزية أقرّت بأنّ الذكاء الاصطناعي أنجز قفزات نوعية ملموسة، ومبهرة أحياناً، في ميادين شتى تمكن خلالها من التنافس مع الذهن البشري. كذلك نجح في أداء مهامّ عديدة شديدة التعقيد والتطلّب ضمن نطاقات متنوعة لا تبدأ من التقنيات المختلفة ولا تنتهي عند إنشاء النصوص؛ لكنه ما يزال يتعثر في ميدان كتابة الشعر، خاصة أنّ بعض منصاته الشهيرة أجابت بـ»لا» عند سؤالها إذا كانت تجيد كتابة قصيدة.
وقد توزعت أفكار الورقة على ثلاثة أجزاء، يستعرض الأوّل سلسلة افتراضات تنظيرية حول علاقة الذكاء الاصطناعي بالشعر عموماً، وبمحاولات كتابة قصيدة تُظهر مواصفاتها من حيث المحتوى واللغة والنبرة التعبيرية والبنية الشعورية، أقرب ما يُتاح رصدُه من هوية الشعر أو تعريفاته العديدة. وتُساق في هذا الجزء سلسلة من المظانّ والطعون التي تكتنف تلك الافتراضات، أسوة بالمزايا والفوائد التي يساجل البعض بأنها يمكن أن تُجنى عبر إقامة علاقة حيوية بين الشعر والتوليد الرقمي للنصوص عموماً. الجزء الثاني من الورقة تطبيقيّ الوظيفة؛ لأنه، باستخدام أداة إنشاء القصائد المعروفة باسم Canva برعاية OpenAI، جرّب كتابة 4 فقرات شعرية تحاكي، أي تتحدى على أكثر من مستوى، فقرات موازية في قصيدة الشاعر السوري محمد الماغوط المعروفة «أغنية لباب توما»، من مجموعته الشعرية الأولى «حزن في ضوء القمر»، 1959. وقد وقع الاختيار على نصّ الماغوط تحديداً لأنه ينتمي إلى شكل قصيدة النثر، وبالتالي يجنّب منشئ النصوص عراقيل العروض العربية وصعوبات الإيقاع الموزون. الجزء الثالث اقترح سلسلة مقارنات بين نصّ الماغوط وما حقّقته نصوص Canva؛ كما انتهى إلى خلاصات حول مقدرة الذكاء الاصطناعي على كتابة الشعر أياً كانت تعريفات الحدود الدنيا لهذا الفنّ.
وضمن تفريعات القسم التجريبي من الورقة، تمّ تلقيم برنامج الـCanva بنحو 70 كلمة، منتزعة من قصيدة الماغوط البالغ عددها الكامل 150 كلمة، واختيرت المفردات على نحو يزوّد برنامج الكتابة الإلكترونية بأكبر قدر ممكن من المفاتيح الدلالية إلى أجواء النصّ الأصلي. هنا أمثلة على تلك الكلمات: حلوة، عيون، النساء، باب توما، حصاة، ملونة، الرصيف، أغنية، طويلة، الزقاق، تجويف، الوحل، الأملس، يذكّرني، الجوع، الشفاه، المشرّدة، الأطفال، يتدفقون، الملاريا، الله، الشوارع، الدامسة، وردة جورية، شاعر، كئيب، أواخر النهار، حانة، الخشب الأحمر، يرتاد، المطر، الغرباء، شبابيك، ملطَّخة، الخمر، الذباب، الضوضاء، الكسولة، زقاق، ينتج، الكآبة… كذلك تعمدت التجربة إغفال علامات الوقف والتشكيل في هذه المفردات، بغية إتاحة الفرصة أمام الكمبيوتر لاستكناه المعنى وتشعباته وروابطه على نحو تلقائي وبعيد عن التوجيه، أياً كان. وللغرض هذا ذاته، اجتنبت التغذية أدوات الجرّ والعطف والنداء وما إليها.
ليس هنا المقام المناسب لاستعراض النتائج، كما جاءت في الورقة الأمّ التي تقع في أكثر من 3000 كلمة، وسوف توضع تحت تصرّف المؤتمر إذا سنحت فرصة طباعة الأوراق. لكن قد تصحّ الإشارة إلى خلاصة أولى تخصّ الفقر الواضح في المخيّلة الكمبيوترية، بالمقارنة مع مخيّلة الماغوط، وهذا يحيل إلى سؤال اكتنف على الدوام السجال حول أهلية الكمبيوتر لإنتاج الشعر: إذا كان مخزون المجاز الذي يُغذّى به برنامج الكتابة هائلاً ومتنوعاً وشاملاً لميادين شتى، فهل هذا يعني تلقائياً أنّ الطاقات التصويرية للشاعر الاصطناعي سوف تكون بدورها هائلة ومتنوعة وشاملة؟
ومن حيث المبدأ، منهجية الورقة لا تنطلق مسبقاً من القاعدة التقليدية السائدة التي تقول إنّ الكمبيوتر لا يعطي إلا من مخزون ما يُغذّى به من مادّة محرضة على الشعر؛ بل تنحاز إلى رأي موازٍ يمنح الكمبيوتر فضيلة الشكّ في احتمالات كامنة لانهائية من القدرة على التباري مع المخيّلة البشرية. وبهذا المعنى فإنّ النظرة إلى التحدي الافتراضي بين منتَج الذكاء الاصطناعي وقصيدة الماغوط أقرب إلى التفاؤل بالمستقبل منها إلى التعنت في ترجيح كفّة المخيّلة الشعرية البشرية، والانحياز إلى إبداعها بصفة حصرية أو تكاد.
القدس العربي
——————————-
أغنية لباب توما / محمد الماغوط
حلوه عيونُ النساءِ في باب توما
حلوه حلوه
وهي ترنو حزينةً إلى الليل والخبز والسكارى
وجميلةٌ تلك الأكتافُ الغجريةُ على الاسّره ..
لتمنحني البكاء والشهوة يا أمي
ليتني حصاةٌ ملونةٌ على الرصيف
أو أغنيةٌ طويلةٌ في الزقاق
هناك في تجويفٍ من الوحلِ الأملس
يذكرني بالجوع والشفاه المشرده ،
حيث الأطفالُ الصغار
يتدفقون كالملاريا
أمام الله والشوارع الدامسه
ليتني وردةٌ جوريةٌ في حديقة ما
يقطفني شاعرٌ كئيب في أواخر النهار
أو حانةٌ من الخشب الأحمر
يرتادها المطرُ والغرباء
ومن شبابيكي الملطَّخة بالخمر والذباب
تخرج الضوضاءُ الكسوله
إلى زقاقنا الذي ينتجُ الكآبةَ والعيون الخضر
حيث الأقدامُ الهزيله
ترتعُ دونما غاية في الظلام …
أشتهي أن أكون صفصافةً خضراء قرب الكنيسه
أو صليباً من الذهب على صدر عذراء ،
تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى
وفي عينيها الجميلتين
ترفرفُ حمامتان من بنفسج
أشتهي أن أقبِّل طفلاً صغيراً في باب توما
ومن شفتيه الورديتين ،
تنبعثُ رائحةُ الثدي الذي أرضَعَه ،
فأنا ما زلتُ وحيداً وقاسياً
أنا غريبٌ يا أمي .