سعد الله ونّوس في باريس/ فاروق مردم بيك
في ذكرى وفاة الصديق الحبيب سعد الله ونّوس:
ألقيتُ هذا النصّ (الذي لم يُنشر بلغته الأصليّة، العربيّة) في الندوة التي أقيمت في الجامعة الأميركيّة في بيروت في شباط 2017, وقد تُرجم إلى الإنكليزية في الكتاب الذي اصدرته دار نشر جامعة كيمبردج عن اعمال سعد الله في 2021، بإشراف سونيا مجشر أتاسي وروبرت مييرز.
أمضى سعد الله في باريس عامين بين 1966 و1968، ثمّ عاماً بين 1973 و1974، وشهرين أو أكثر في 1992 للتداوي من سرطان البلعوم الأنفي. كنّا قد التقينا قبل ذلك في دمشق، حين صدر كتابه الأوّل، “حكايا جوقة التماثيل”، وبذرنا بذور صداقتنا الطويلة، وتواعدنا على أن نكتشف معاً خبايا باريس في السنة القادمة. غير أنّنا لم نلتقِ إلّا لِماماً في الأشهر الأولى من إقامته فيها، إذ كنت أتابع دراستي الجامعيّة في مدينة كان، ولكنّي رافقته منذ خريف 1966 كما لم يُرافقه إلّا صديقان أو ثلاثة من أصدقائه الباريسيّين، وكان لنا في كلّ يومٍ تقريباً موعدٌ للغَداء أو العَشاء، أو للذهاب إلى أحد المسارح أو إحدى دور السينما. كان سعد قد شرع بتعلّم اللغة الفرنسيّة، حائراً بين الأليانس فرانسيز والسوربون ولكنْ مُدمناً على قراءة “لوموند”، يشتريها من بائعٍ مُتجوّل في السان ميشيل. وكان قد تعرّف إلى بعض معالم باريس، واطّلع على جوانب من حياتها الثقافيّة والاجتماعيّة. وكان يُسجّل يوميّاً، بخطّه المُتأنّي الدقيق، ملاحظاته على ما رآه وسمعه وقرأه، وأحسبُ أنّ ملاحظاته هذه، أو بعضها، كانت مادّته الأّوّليّة للرسائل التي نشرها آنذاك عن الثقافة الأوروبيّة المُعاصرة في مجلّتي “الآداب” و “المعرفة”، واستعاد اثنتين منها وحرّرهما من جديد في كتابه “هوامش ثقافيّة”: الأولى هي”فضيحة الحواجز/ البرافانات” عن الشغب الذي جوبهت به من قبل ايتام الاستعمار الفرنسي في الجزائر، في نيسان 1966، مسرحيّة جان جينيه المشهورة، والثانية “سينما في مرآة السينما” عن جان- لوك غودار.
ولكنْ، قد يجدر بي، قبل الكلام على سيرة سعد الله في باريس، أن أرسم بخطوطٍ عريضة صورته الشخصيّة، وهو في السنة الخامسة والعشرين من عمره، كما رسخت في ذاكرتي، ولم تتغيّر قليلاً بعد ذلك إلّا في بعض ملامحها. كان سعد يتمتّع بقدرٍ من الوسامة تلفت إليه أنظار النساء، وكان يعتني بلا شططٍ بهندامه (على النقيض من الإهمال البوهيميّ المُفتعل الذي درج عليه شبّان الستّينات في فرنسا). كان وفيّاً للهجته الجبليّة الأُمّ، سخيّاً على الرغم من قلّة زاده، قليل الشهوة للطعام (وكم سخر من نهمي وولعي بالحلويات!). كان دائم الشكوى من ألمٍ ما، في معدته أو صدره أو رأسه، جادّاً بالغ الجدّ في الأمور التي تعنيه، لا تغيب عن باله في جميع حالاته، قاطعاً صادماً في أحكامه، مُتطلّباً في تعامله مع نفسه ومع الآخرين، قلقاً أرقاً، لا يُشارك أصدقاءه ضوضاءهم في سهراتهم بأكثر من ابتسامةٍ شاحبة. لم تُهمّه فرنسا، في غضون تلك السنوات الثلاث، إلّا من ناحيتين: حياتها الثقافيّة المُعاصرة وسياستها الخارجيّة. لم يسعَ مثلاً إلى زيارة موقعٍ أثريّ حتّى في باريس وضواحيها القريبة، ولكنّه كان يتردّد بانتظامٍ على مكتبة فرنسوا ماسبيرو للاطّلاع على آخر إصدارات دور النشر. لم يُغادر باريس بين 1966 و1968 إلّا أيّاماً قليلة لحضور عرض مسرحي أو تدريب فرقةٍ مسرحيّة. لم يُخالط كثيراً من الفرنسيّين من خارج وسطه المهني، ولا أعرف ما إذا كان، على غرار غيره من الأدباء العرب، قد دوّن ملاحظاته عنهم في دفتره الذي كان لا يُفارقه، ولكنّي سمعته مراراً يعيبُ عليهم فرديّتهم، حتّى في تسديد فاتورة المقهى أو المطعم، ويستهجنُ بعض عاداتهم، كجلوسهم ساعاتٍ وساعات حول مائدة الطعام، وكحذر الجار من إقامة أيّ علاقةٍ بجاره تتجاوز إيماءةً من الرأس في المصعد …
مسالتان كانتا تشغلان سعد الله طوال سنواته الباريسيّة، ولم يملّ من التفكير فيهما حتّى وفاته: الأولى عن العلاقة المُلتبسة بين العرب والغرب، والثانية عن وظيفة المسرح في عصرنا. وتتفرّع الاولى إلى ثلاثة أسئلةٍ تعمّق في طرحها يوماً بعد يوم وتوسّع في الإجابة عنها في مقالاته الأخيرة: هل يقتضي التقدّم، هل تقتضي الحداثة، أن نتبنّى الثقافة الغربيّة؟ وكيف يُمكن أن نتبنّاها، إذا افترضنا أنه لاّ بدّ لنا من تبنّيها، من دون الخضوع للغرب اقتصاديّاً وسياسيّاً؟ ثمّ أليست الثقافة الغربيّة نفسها، على الأقلّ في صيغتها الرأسماليّة، في أزمةٍ طاحنة، كما يتبيّن من أعمال كبار الفلاسفة الغربيّين، ومن تمرّد الشبيبة في اوروبا والولايات المُتّحدة على السلطة بجميع اشكالها ومراتبها؟ أمّا المسألة الثانية فتبدأ بالسؤال عن ماهيّة المسرح، أي عن مُقوّماته منذ نشأته اليونانيّة، وتنفتح على قضايا المسرح العربي: كيف نستطيع أن نُثمّر التجارب المسرحيّة الأوروبيّة ونتفادى تقليدها؟ وكيف ننهلُ من الثقافة الشعبيّة العربيّة ولا نبتذلُها، أي لا نغرقُها ونغرقُ معها في الفولكلور؟ تؤكّد محاوراتُ سعد في العام 1968 مع الناقد برنار دورت والمُخرج جان ماري سيرّو، وفي 1973 مع المخرج والممثّل جان لوي بارو، دقّته في طرح هذه الأسئلة وفي مُعالجة شؤون المسرح وشجونه، كما تُبيّن اطّلاعَه الواسع على المشهد الثقافي الفرنسي على الرغم من قرب عهده به. كان قد قرأ بعناية كتابي دورت ” قراءة بريخت” و “مسرح شعبي” قبل الذهاب لمقابلته (ولعلّهما الآن في مكتبته المُهداة إلى الجامعة الأميركيّة)، وكان قبل لقائه بسيرّو قد شاهد (ودعاني إلى أن أشاهد معه) مسرحيّتين اخرجهما سيرّو من أعمال كاتب ياسين، هما “الأجداد يزدادون ضراوة” و “مسحوق الذكاء”. ولمّا كان معجباً بدورت وسيرّو، فإنّا نراه يبدأ معهما حديث المسرح من أوّله، ويستعيد معهما تاريخه، ويستدرجهما للكلام مطوّلاً على وظيفته السياسيّة في عصرنا، ويستشيرهما عن جدوى استخدام فنون الأدب الشعبي في الكتابة المسرحيّة. أمّا بارو، الذي كان يُمثّل في نظره “المسرح الطقسي”، نقيض “مسرح التسييس”، والذي كان يُناور ببراعة دفاعاً عن نظريّته في المسرح، منذ احتلال الأوديون من قبل الطلّاب في ايّار 1968، فإنّ سعد الله ذهب إليه ليُساجله ويُناكفه، على معرفته بمكانته العالية، وعاد إلينا سعيداً راضياً بفعلتهَ!
كتب سعد في مقدّمته لفصل “حوار مع الآخر” في كتاب ” بيانات لمسرح عربي جديد”: ” أثناء دراستي في فرنسا، كان لديّ هاجسٌ مزدوج: أن أتعلّم المسرح الاوروبي، وأن أبلور في الوقت نفسه موقفاً نقديّاً منه. كنتُ أدرك أنّ هذين الهدفين يتكاملان، وأنّهما يُشكّلان زاداً ضروريّاً في رحلة البحث عن خصوصيّتنا في المسرح.” والحقّ أنّه لم يتعلّم المسرح الأوروبي في معهدٍ للدراسات المسرحيّة بقدر ما تعلّمه في المسارح التي ارتادها عشرات المرّات، من أصغرها في شارع هوشيت، في الحيّ اللاتيني، حيث حضر بُعيد وصوله “وحيد القرن” و”الدرس” ليونسكو، إلى أكبرها وأشهرها، المسرح القومي الذي كان قد تولّى إدارته جورج ويلسون خلفاً لجان فيلار، أو الأوديون، “معبد” جان لوي بارو ومادلين رُنو. ولا يُمكن ان أنسى كيف كان سعد يستنفر كلّ حواسّه وهو يِشاهد أيّ عرضٍ مسرحيّ، بحيث لا تفوته شاردةٌ أو واردة من حيل المُخرجين وأداء الممثّلين، وكنت أعجب من قدرته بعد أسابيع طويلة على تذكّر أصغر التفاصيل ومناقشتها. حضرتُ معه على الاقلّ مسرحيّة أو اثنتين في كلّ شهر، ومن بينها بعض الروائع، مثل “السيّد بونتيلا وتابعه ماتي” لبريخت في المسرح القومي، و” آه الأيّام الجميلة” لبيكيت في الأوديون، و”مارا ساد” لبيتر فايس في مسرح سارة برنار، ومسرحيّتي كاتب ياسين اللتين ذكرتهما آنفاً في صالة جيمييه التابعة للمسرح القومي، وكان من عادته بعد العرض ان يطرح عليّ أسئلةً دقيقة جدّاً عمّا شاهدنا فأعجز عن الإجابة، فينظر إليّ بأسى الأستاذ حين يخيب أملُه بتلميذٍ كان يظنّه نجيباً ! وقد رسخت في ذهني من مناوشاتنا جملتان صرنا نردّدهما كلّما التقينا: ” يا للبؤس! يا للبؤس الأسود! يا لبؤس الفلسفة!” من مسرحيّة “مسحوق الذكاء” لكاتب ياسين، و” مارا، مارا، ماذا فعلوا بثورتنا العظيمة” من مسرحيّة “مارا ساد”…
كان سعد يُكبر بصورةٍ خاصّة تجربة جماعة المسرح القومي الشعبي (ولنتذكّر أنه هو الذي ترجم إلى العربيّة كتاب جان فيلار “حول التقاليد المسرحيّة ” (1976)، ولكنّه كان يُتابع أيضاً باهتمامٍ كبير عروض المسرح التجريبي الجديد على اختلاف اتّجاهاته، ويبحث فيها عمّا يُمكّنه من استكمال ما أسماه ” رحلة البحث عن خصوصيّتنا في المسرح”. ولكنْ، لا بدّ في نظري لفهم مراحل هذه الرحلة من التوقّف قليلاً في مُنعطف “الزلزال المُريع”، بعبارة سعد، زلزال هزيمتنا المدوّية في حزيران 1967. صُدم قبلها، كما صدمنا كلّنا، بالريح المجنونة التي عصفت بفرنسا منذ أواخر نيسان، حين تفجّرت العنصريّة المعادية للعرب والمسلمين على نحوٍ غير مسبوق في وسائل الإعلام وتصريحات قادة الأحزاب السياسيّة، باستثناء الحزب الشيوعي والتنظيمات اليساريّة الراديكاليّة وحفنة من الديغوليّين، وزادهُ قهراً بعدها الاحتفاءُ الصاخب بانتصار إسرائيل، وكأنّها ثأرت لفرنسا من هزيمتها في الجزائر. ولعلّ أكثر المواقف التي أثارت عجبه وغضبه ونقمته آنذاك كان انضمامَ كثيرٍ من المُثقّفين اليساريّين الكبار الذين كنّا نُبجّلهم، وعلى رأسهم جان- بول سارتر، إلى الحملة الإعلاميّة المؤيّدة لإسرائيل، ثمّ ارتياحَهم للنتيجة التي أسفرت عنها الحرب. أتذكّر جيّداً وجومَ سعد في تلك الأيّام السوداء، وعجزَه حتّى عن الكلام (ومثله صديقنا المُشترك ياسين الحافظ)، وكيف قرّر إنهاء إجازته الدراسيّة والعودةَ فوراُ إلى دمشق. إلّا أنّ معاناتَه في الأشهر التي قضاها في سورية حزيناً مُحبطاً يائساً دفعته إلى الرجوع عن قراره، فعاد إلى باريس وقد حسم أمره فكريّاً وسياسيّاً وفنّيّاً.
عاد منحازاً من دون لبس إلى الماركسيّة، مع حذرٍ من الغرق، على منوالي ومنوال غيري من الطلّاب العرب اليساريّين، في السجالات المتصاعدة بين التيّارات السوفييتية والصينيّة والتروتسكيّة والمجالسيّة وسواها. والأهمّ أنّه عاد حاملاً مشروعاً جميلاً مُغرياً مستحيلاً عرّفه فيما بعد بانّه “الكلمة-الفعل التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل الثورة”. وهكذا أجّل كتابة مسرحيّة “مُغامرة رأس المملوك جابر” التي كان قد حدّثني مراراً عن فكرتها، وانهمك في “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”، يتقدّم فيها خطوة، ثمّ يتراجع، ويبدأ من جديد، مُتقلّباً بين القناعة بإمكانيّة تفسير الواقع وتغييره في وقتٍ معاً وشكّه بجدوى الكلمات في الواقع العربي الفاجع، مُكرّراً طرح السؤال الممضّ: هل تستطيع الكلمة أن تُصبح فعلاً؟ ولا شكّ عندي أنّ لأحداث أيّار 1968، وما سبقها منذ آذار، صداها في “حفلة سمر”، وأنّها جذّرت نظرة سعد الله إلى المسرح، او لنقلْ جعلته أكثر إيماناً من أيّ وقتٍ مضى بأنّه، أي المسرح، “حدثٌ اجتماعيّ” قبل أيّ شيءٍ آخر، جوهره المواجهة الندّيّة بين الممثّل والجُمهور، وبأنّ الكاتب والمُخرج والمُمثّل مواطنون أوّلاً وليسوا مُهرّجين في سيرك. شهد سعد بعينيه احتلال الأوديون من قبل الطلّاب المُتمرّدين، وكاد لا يُصدّق ما رآه، أي نقد الثقافة البورجوازيّة السائدة في أرقى أشكالها، وفي قلعتها الحصينة، نقداً عمليّاً مباشراً عنيفاً. وتابع أيضاً المناقشات الصاخبة عن مسرحيّة جماعة الليفينغ تياتر، “الفردوس الآن”، التي شاهدها في جنيف. كان مُقتنعاً، على الرغم من تحفّظه عنها وعن غيرها من نماذج المسرح التجريبي، بضرورة القطيعة التامّة مع المسرح الطقسي التقليدي ونشوء علاقةٍ من نوعٍ جديد بين الخشبة والجمهور، وبين النصّ والإخراج، وبين القصديّة والعفويّة في سياق العرض، إلخ.
انتهى سعد الله من كتابة مسرحيّته وهو في حالةٍ نفسيّة غير مُستقرّة، تتراوح بين الرضا عمّا فعل والشعور الذي طالما راوده بخواء الكلمات، وأطلعني على المخطوطة، وقرأنا مقاطع منها بصوتٍ عال، وطلب منّي، إذْ كنت على أهبة السفر إلى بيروت، بحملها إلى أدونيس لنشرها في “مواقف”، وهذا ما كان في العدد الثالث من المجلّة، في أوائل 1969, بُهر أدونيس بالمسرحيّة، وبُهرت خالدة سعيد ونزار قبّاني، ولكنّ جميع المدائح التي سمعها سعد أو قرأها، وأخصّ بالذكر عبارة أدونيس في رسالةٍ بعثها إليه: ” إنّها مُدهشة، تكنيكيّاً بصفةٍ خاصّة”، أغضبته وأحبطته وأشعرته بأنّه فشل في مسعاه: الكلمة إذاً كلمة، والفعل فعل، ورهان الكلمة- الفعل رهانٌ مستحيل(هذا ما كتبه بقلمه فيما بعد، تحت عنوان “الحلم يتداعى”). ولكنّ من يتتبّعْ أعمال سعد بين 1969 و1972 يستنتجْ أنّ تجربة “حفلة سمر” لم تُحبطه بل دفعته إلى الانخراط بحماسة في تجارب جديدة، مُتنوّعة. ففي هذه الفترة القصيرة كتب ثلاث مسرحيّات (“الفيل يا ملك الزمان” و” مُغامرة رأس المملوك جابر” و”سهرة مع أبي خليل القبّاني”)، ومؤلّفه النظريّ المشهور، “بيانات لمسرح عربي جديد”، وحرّر مقابلاته مع دورت وسيرّو، واشترك في تنظيم مهرجان دمشق المسرحي الأوّل، وأخرج مع عمر أميرالاي (الذي كان قد تعرّف إليه في باريس) فيلم “الحياة اليوميّة في قرية سوريّة”. وحين عاد إلينا في بداية 1973 وجدتُهُ أقلّ سوداويّة من ذي قبل، وأكثر حماسةً للسجال في مُختلف الأمور. وكان توّاقاً منذ أن استقرت أوضاعه المعيشيّة إلى وصل ما انقطع بينه وبين الحياة الثقافيّة الباريسيّة، من موقعٍ بدا لي مُتناقضاً إذْ يتجاذبه الولاء السياسي للخطّ الشيوعيّ الرسميّ من جهة والوفاء العاطفي، إذا صحّ التعبير، لشعارات أيّار عن “سلطة الخيال” و “واقعيّة المستحيل”.
لن أُطيل الكلام على هذه الشهور الغنيّة بمُشاهداتها ومُقابلاتها ومُطالعاتها. غاب سعد في غضونها شهراً في ألمانيا الشرقيّة حيث أُخرجت مسرحيّته “مُغامرة رأس المملوك جابر”، وحضر عروضاً في المحافظات، وبرامجَ سينمائية استعاديّة لكبار المُخرجين في صالات الحيّ اللاتيني، وحاور جان جينيه (وكان قد التقى به أوّل مرّة في صيف 1970 في دمشق)، وتعرّف إلى بول تيفنان، ناشرة أعمال أنطونان آرتو، وإلى أنطوان فيتيز الذي كان آنذاك يخوض غمار تجربة جديدة في مسرح أحياء إيفري، وتابع باهتمامٍ السجال العنيف حول الأعمال الأدبيّة والفنيّة التي بدا أنّها تُبرّر الفاشيّة بدعوى تفسيرها، مثل فيلم لوي مال “لاكومب لوسيان” وفيلم ليليانا كافاني “بوّاب الليل”، وكان يشرب قهوته ويتغدّى أحياناً في مقهاه الصغير الأثير الواقع في شارع كلّية الطبّ، بالقرب من مكتبة جوزيف جيبير. فجعه كما فجعني في أيلول 1973 الانقلاب الفاشي في التشيلي، وحمّستهُ كما حمّستني حرب اوكتوبر، فهرعنا إلى دمشق وأقمتُ في بيته أيّاماً، غمرني فيها هو وفائزة وفكتوريا بكرمهم، ورافقتُهُ في جلساته مع أصدقائه المُقرّبين، وكنت آنذاك في وادٍ سياسيّ غير واديهم. وحين عدنا إلى باريس في منتصف تشرين الثاني صُدمنا من جديد بمواقف بعض المًثقّفين الكبار، وعلى رأسهم سيمون دوبوفوار، الذين عُرفوا سابقاً بمناصرتهم الجزائر وفيتنام وكوبا، ورأيناهم يبزّون غُلاة الإعلاميّين الرجعيّين في دفاعهم الأعمى عن السياسة الإسرائيليّة، شانهم شأن التيّار السائد في اليسار غير الشيوعي. ولا شكَّ في أنّ هذه المواقف جدّدت نفوره القديم من جُمهور المُثقّفين الغربيّين، وحذرَه من المدارس الفكريّة الجديدة في الغرب، وحبّبت إليه، في صدد العلاقة بالغرب، هرطقةَ صديقه “عدوّ الغرب الصريح”، أعني جان جينيه، العصيّة على التصنيف.
” ثمّ انقضتْ تلك السنون وأهلُها”… ألقى سعد بعدها على عاتقه، خلال خمس سنواتٍ، مسؤوليّاتٍ ثقيلةً، أهمُّها إدارة المسرح التجريبي ومجلّة “الحياة المسرحيّة”، إضافةً إلى كتابة “الملك هو الملك” وإعداد نصوصٍ لجوجول وبريخت وفايس. وفي يومٍ من أيّام 1979، أو1980، أغلق على نفسه الباب وصمت، ودام صمتُه، كما هو معروف، ما يقرب من عشر سنين. قابلته في أثنائها يوم مرّ بباريس في زيارةٍ خاطفة (1987؟ 1988؟)، وتذاكرنا حديثه مع مجلّة “الحريّة” الذي فسّر فيه أسباب عزلته الطوعيّة ودعا المُثقّفين العرب إلى رؤية المشهد العربي الفاجع على حقيقته: دولٌ تنقضّ على مجتمعاتها، ومجتمعاتٌ تُمعن في سلفيّتها، وقوى سياسيّة تدّعي التقدّميّة، فقدت حيلتها أمام الرأسماليّة المُتوحّشة والأنظمة الاستبداديّة والأصوليّة الدينيّة. هذا إلى الحروب الأهليّة، وتغييب المشروع النهضويّ العربيّ، واتّساع الهوّة في كلّ مكانٍ وكلّ ميدان بين القول والفعل. كان حزيناً جدّاً، قاسياً جدّاً على مشروعه الشخصيّ الذي ” تفتّت بين يديه”، كما قال، حانقاً على كلّ ما حولَه ومن حولَه. أذكر أنّي أريتُه، طامعاً بكلمة مديح، العدد السادس من “مجلّة الدراسات الفلسطينيّة” التي كنّا نُصدرها باللغة الفرنسيّة، وفيه نصّ جان جينيه البديع ” أربع ساعات في شاتيلا” في طبعته الأولى، فكان تعليقُه الوحيد، هو المولع بجينيه، كاتباً وإنساناً: “عارٌ عليكم هذا الورق الفاخر، وهذا البذخ”!
بقي عليّ، لاستكمال هذه الذكريات، أن أقول إنّ سعد الله، عندما جاء إلى باريس في 1992 للاستشفاء من السرطان، برفقة فائزة وديمة، كان واضحاً شديد الوضوح في خياراته السياسيّة والفكريّة التي عبّر عنها منذ “الاغتصاب (1989)، وبالأخصّ منذ أن أصدر مع عبد الرحمن مُنيف وفيصل درّاج سلسلة ” قضايا وشهادات” (1990). أهداني الأعداد الثلاثة الأولى، وكنّا كلّما التقينا (والتقينا أكثر من عشرين مرّة!) نعود إلى ما كتبه في العدد الأوّل المُخصّص لطه حسين، وإلى إنجازات “الفكر العربي في العصر الليبيرالي” وإخفاقاته، وإلى تاريخانيّة عبد الله العروي وياسين الحافظ، وإلى الصلة بين الديموقراطيّة والعلمانيّة، وإلى الإسلام السياسي والسلفيّة، وإلى الوضع الدُوليّ، فنتّفق ونختلف. نتّفق في الاعتقاد بوحدة الثقافة الإنسانيّة، وحتميّة المُثاقفة، وغثاثة الثقافويّة، أغربيّةً كانت أو عربيّة إسلاميّة، وبأنّ من حقّ الأديب أو الفنّان أن يقول “أنا” وأن لا يُخضع عمله لمُقتضيات النضال السياسي المباشر من تحالفاتٍ وتعرّجاتٍ تكتيكيّة. ونختلف، كما اختلفنا دائماً، في تقييم الأحزاب الشيوعيّة و”التقدمية”، وتفسير أزمات المنظومة السوفييتيّة، وفي مُستويات التعامل مع التراث الإسلامي، بعيداً عن التقديس والتدنيس.
ودّعت سعد الله آملاً أن أراه في وقتٍ قريبٍ وقد شفي تماماً، وما إن مضى شهرٌ أو شهران حتّى وصلتني منه رسالةٌ طويلة أحتفظ بها بحنان، يُطمئنني فيها عن أحواله الصحّيّة ويُذكرّني بمناقشاتنا الباريسيّة. ولعلّ خير ما أختتم به حديثي اليوم هذه الأسطر التي اقتطفتها منها: ” يقول المثل العامي إنّ الصحّة تخرج من الباب وتعود من خرم الإبرة، وأنا الآن ألمس صدق هذا المثل. لقد انتهت العذابات الجوفيّة ولكنّ الصحّة تعود ببطء يكاد لا يُحسّ. في كلّ الأحوال إنّي الآن أفضل… ومن شدّة ما ضاقت روحي خلال الأشهر الطويلة الماضية، عدتُ استنشق عبير السجائر بين وقتٍ وآخر، وأحاول الجلوس وراء طاولتي بين يومٍ وآخر، وما زال امامي شهورٌ من الصبر ونفاد الصبر، ولكنّها كما يقولون هانت (…) إنّي شبهُ واثق أنّ الواقع وكآبتي الداخليّة هما اللذان أوهنا مُقاومتي وأنبتا السرطان في حلقي. وها أنذا الآن أتأهّب للعودة. العودة إلى أين؟ إلى هذا الواقع ذاته وقد ازداد انحلالاً وتدهوراً، وحاملاً في أعماقي كآبتي وقد تضاعفت كمّاً وكثافةً. كئيبٌ هذا العالم الذي كُتب علينا أن نعيش فيه (…) لا شيء إلّا التفسّخ الدمويّ الذي لا يُفضي إلّا إلى العدم ومزيدٍ من التفسّخ. اضمحلّت فكرة التقدّم، وانهزمت فكرة العقلانيّة، والبشريّة تبدو وكأنّها تقهقرت مئات السنين مُتخلّيةً عن كلّ ما أنجزه الفكر الإنساني خلال هذه المئات من السنين(…) وإن نفضتَ العالم عن كاهلك والتفتّ إلى قريتك العربيّة فإنّ الكآبة تتحوّل إلى ما يُشبه الهستيريا. حقاً إنّها الهزيمة، وصديقنا محمود درويش يستعير الأندلس وغرناطة لكي يبكي فلسطين (اللعنة على الأندلس وغرناطة. ثمّ ألم يكن درويش هو القائل في أجمل سُخرياته: في كلّ مئذنةٍ حاوٍ ومُغتصبُ / يدعو لأندلسٍ إنْ حوصرتْ حلبُ!) … ومع هذا ففي القصيدة فيضٌ من الشعر، ويحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره (…) ألا يعجب المرء أنّ كل الهزائم التي تعاقبت علينا لم تُعلّمنا كيف نكون جدّيّين، وكيف نطرح الأسئلة المناسبة في اللحظة المناسبة. كان المرء يتوقّع حواراً جدّيّاً يُشارك فيه كلّ مُثقّفي الأمّة حين ركب السادات طائرته، وحين أُخرجت المُقاومة من بيروت، وحين أعلن صدّام الحرب على إيران، وحين غزا الكُويت، وحين تدافع العرب جميعاً إلى المُفاوضات، ولكنّ شيئاً من هذا لم يحدثْ (…) لديّ بضعةُ أعمال، أحدها أنجزتُ أكثر من نصفه، ونُشرت مقاطع منه في مجلّة “الطريق” اللبنانيّة، صدر أثناء وجودي في فرنسا. عنوان العمل “منمنمات تاريخيّة”. أقول لديّ بضعة أعمال سأحاول الانكباب عليها دون همّة في الأسابيع القادمة. لا أكتمُك، ما عدتُ متأكّداً من أهميّة دوري ككاتب ولا من أهميّة الكتابة رغم أنّه لا يوجد ما أفعله إن لم أقرأ وأكتب.”
قال سعد “هانت”، ولم تهُن، خلافاً لما قال، بل اشتد عليه المرض وأودى به بعد خمسة أعوام من العراك اليوميّ المرير، خمسةِ أعوام بيّن فيها، خلافاً أيضاً لما قال، أهميّة الكتابة وأهميّة دوره ككاتب. أنجز خمس مسرحيات باهرة، انتقل فيها من مسرح التسييس إلى مسرح التساؤل والاستفهام، بشخصياته المركّبة المُتناقضة التي لا تكتفي بأن تكون قناعاً لفكرةٍ أو موقف، وكتب نصّاً نثريّاً فريداً من نوعه في الأدب العربي، بعنوان “رحلة في مجاهل موتٍ عابر”، وترك لنا وصيةً كثيراً ما نردّدها ثمّ ننساها إحباطاً ويأساً: ” ما يحدثُ اليوم لا يُمكنُ أنْ يكونَ نهايةَ التاريخ”. نعم يا صديقي، لا يُمكن