أبحاث

مراكز البحوث والدراسات السورية بين الواقع والمأمول/ حسن النيفي

2024.04.29

تُعدُّ ظاهرة وفرة مراكز البحوث والدراسات في بلدٍ ما، ملمحاً حضارياً وعلامة دالة على حفاوة العالم المتحضّر بالتطور المعرفي والعلمي على العموم، ولعل من أبرز ملامح تلك الحفاوة هي أن المراكز البحثية، خاصة في الدول التي تحظى باستقرار سياسي واجتماعي، لم تعد أحد مصادر المعرفة وتحليل السياسات فحسب، بل باتت مصدراً من مصادر صنع القرار أيضاً.

إذ غالباً ما تلجأ الحكومات وأصحاب القرار للتزوّد بالمعلومات والدراسات التي تحتاج إليها سواء لمشاريعها التنموية أو لأي شأن آخر سواء أكان اقتصادياً أم عسكرياً من تلك المراكز، وبهذا تتخذ المراكز دور الشريك سواءٌ في تقديم التصورات والخطط البحثية اللازمة للقضايا الراهنة أو في استشراف القضايا المستقبلية أيضاً.

بالطبع هذا الضرب من النشاط المؤسسي الفكري كان شحيح النتائج إن لم يكن عديمها في أغلب البلدان العربية، وخاصة في البلدان المحكومة بالقبضة الأمنية والعنف الممنهج الذي يصادر الفضاء العام كالحالة السورية التي بات عمل المؤسسات البحثية فيها محكوماً بتوجيهات السلطات الأمنية، إذ كان يندرج عملها على الغالب الأعم في سياق إعادة إنتاج السلطة نتيجة فقدانها حيّز الاستقلالية وحرية البحث وارتهانها للتوجّهات السياسية والأمنية للسلطة الحاكمة.

أتاحت انتفاضة السوريين في آذار 2011 انفراجةً أمنية كبيرة وخاصة في المناطق التي لم تعد خاضعة لسلطات نظام الأسد، بالإضافة إلى أماكن اللجوء والشتات، وذلك من جهة تحرّر الوعي السوري من أهم الكوابح التي كانت تحول دون انطلاقته ونعني بذلك الكابح الأمني بالدرجة الأولى.

وفي موازاة البحث الحثيث والنشاط الذي كان يبذله العديد من الناشطين لإيجاد ما يُدعى بالإعلام البديل أو إيجاد منافذ وآفاق إعلامية وثقافية من خارج فضاءات السلطة، بدأ السعي في الآن ذاته لإيجاد مراكز بحثية تعنى بالإنتاج المعرفي فضلاً عن التحليل العميق للظواهر والقضايا ذات الأهمية، إضافةً إلى محاولات الاستشراف لما يمكن أن يكون عليه مستقبل السوريين على العموم.

وبالفعل وجدت المراكز البحثية الجديدة أو الناشئة في الحالة السورية وفرة غزيرة في المواد الخام التي يمكن أن تكون منطلَقاً للبحث والتنقيب الفكري، باعتبار أن البلاد السورية كانت صندوقاً مُقفلاً منذ أكثر من نصف قرن، وما بداخل هذا الصندوق كان عصيّاً على أي مقاربة بحثية من خارج قنوات السلطة.

وقد لاقى هذا المُنتَج البحثي قبولاً بل ترحيباً كبيراً لدى معظم السوريين، وبخاصة فئة الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 18-30 سنة، إذ إن معظم هؤلاء لا يعرفون عن تاريخ سوريا إلّا ما حاولت السلطة الأسدية ترسيخه في الوعي العام فحسب، إلّا أن الفتح الإعلامي وكسر احتكار الإعلام الذي حقّقته الشبكة العنكبوتية وانتشار وسائل التواصل الذي تزامن لدى السوريين مع انطلاق ثورات الربيع العربي قد حقق فتحاً كبيراً أمام المواطنين ولم يعد بمقدور السلطة الأمنية تقنين المعلومة أو التحكّم بالمادة المعرفية والسيطرة على شيوعها وانتشارها.

وهكذا بدأ كثير من جيل الشباب السوري في رحلة استكشافية يتعرَّف من خلالها إلى بلاده من جديد، من حيث تاريخها السياسي والبنية الأمنية للسلطة وأهم القوى التي تتحكّم بمفاصل الدولة، إضافة تعرُّفِ طبيعة القوى والجهات التي كانت تمسك بمفاصل الاقتصاد والسياسة كما تتحكّم بمفاصل الإدارات والمؤسسات الأخرى داخل الدولة، وذلك في ضوء تعدّد مصادر المعلومات وتحرّر كامل من حالة الخوف من العواقب الأمنية التي واكبت الحصول على المعلومة طوالَ عقود مضت.

من جهتها، لم تكتف المراكز البحثية بتناول القضايا الراهنة للسوريين، كمواكبتها بالتحليل لمسارات التفاوض بين الكيانات الرسمية للمعارضة والسلطة الحاكمة مثلاً، أو متابعتها بالتحليل للواقع الميداني السوري، أو رصدها المستمر لتحولات المواقف الإقليمية والدولية وأثرها على القضية السورية، أو التحليل المعمّق للتاريخ السوري المعاصر وبنية السلطات المتعاقبة على حكم البلاد فحسب، بل حاولت، عبر مقاربات بحثية وورشات عمل وندوات وحوارات معمّقة وجادّة، مواكبة تطلّعات السوريين نحو بناء الدولة على أسس حديثة تتجاوز طور الاستبداد والسطوة الأمنية، وترتكز على سيادة القانون والعدالة والديمقراطية وتداول السلطة، واستلهام تجارب الشعوب في بناء نهضتها وتجاوزها لأطوار التخلف والعبودية.

ويمكن التأكيد في هذا السياق على أن الشطر الأعظم من النشاط والعمل البحثي لمعظم مراكز الدراسات السورية، وخلال أكثر من عقد مضى، بات يتمحور حول القضايا والشؤون ذات الصلة بمستقبل الدولة السورية، فأصبحنا أمام وفرة، بل لعلها طفرة في إنتاج رؤى ودراسات وأبحاث وتصورات تتناول مسائل عديدة في سوريا المستقبل، من مثل: شكل نظام الحكم أهو رئاسي أو برلماني، المركزية واللامركزية، الفدرالية، التنوع العرقي والطائفي، المسألة الطائفية وتداعياتها، علاقة الدين بالدولة، علمانية الدولة، المواطنة، تعدد اللغات في الدولة الواحدة ونظام التعليم، بالإضافة إلى مسائل أخرى لا تقلّ أهمية عمّا ذُكر.

ولا شك على الإطلاق بأهمية هذا المُنتَج البحثي، بل هو ضرورة لازمة التحقق كونه الفحوى الجوهري لمشروع التغيير الذي يطمح إليه السوريون، بل يمكن التأكيد على أنه ركن أساسي لمشروع الثورة التي لا تحقِّقُ منجَزها المنشودَ إلّا بتحقّقه.

ولكن على الرغم من هذه الأهمية يبقى تحقيق الجدوى المأمول من هذا الجهد البحثي الذي يُعنى بـ(سوريا المستقبل) مرهوناً بتجسيد استحقاق آخر، ربما كان موازياً أو سابقاً له، أعني عملية التغيير السياسي بما في ذلك زوال السلطة الحاكمة التي بات استمرار وجودها حائلاً ومُعطّلاً لأي مشروع للتغيير، بل يمكن الذهاب إلى أن استمرار السلطة الأسدية هو العامل الأهم في استمرارية مأساة السوريين بعموم انتماءاتهم وتوجهاتهم.

ولعلنا لسنا بحاجة للتأكيد على أن المواجهة بين نظام دمشق والشعب السوري باتت مواجهة وجودية تتجاوز تخوم السياسة، كما تؤكّد مجمل المعطيات على أن الحلول المنبثقة عن المرجعيات الأممية، وخلال أكثر من عقد فات على صدورها، لم تعد تجسّد أي ملمح من ملامح انفراج المأساة السورية، بل لعل التوجّه الدولي والإقليمي العام والمحكوم دوماً بمصالحه، بدأ ينحو باتجاه الانعطاف للتصالح مع نظام الأسد وإعادة تعويمه من جديد، بعيداً عن المعاناة الدامية للسوريين والتي تتعزّز باستمرار، ولا شك أن الواقع المؤلم يطرح أسئلة عديدة وقضايا أخرى أمام مراكز البحوث والدراسات، لعل أهمها:

    أولاً– تعاني قوى الثورة السورية من افتقادها المبادرة الوطنية، وبالتالي للقرار الوطني السوري، نتيجة الخضوع للقوى الخارجية، فما سبل استعادة المبادرة والقرار الوطنيين؟ وماذا يمكن أن تقدمه مراكز البحوث والدراسات من رؤى وتصورات وخطط في هذا الجانب؟

    ثانياً– في ضوء عطالة المرجعيات الأممية في تنفيذ قراراتها ذات الصلة بالقضية السورية، وكذلك في ضوء عدم وجود أطراف دولية ضاغطة على نظام الأسد لإلزامه بتنفيذ القرارات الأممية، هل تبقى قوى الثورة في انتظار الإرادات الدولية، أم عليها التفكير المتجدّد بإيجاد وسائل وآليات عمل نضالية أخرى إلى جانب تأكيدها والتزامها بالحلول الأممية؟

    ثالثاً– لم يفلح السوريون على مدى أكثر من عقد في إيجاد حوامل تنظيمية أو كيانات سياسية جامعة للسوريين وقادرة على تجاوز الكيانات المفروضة من الخارج، ما الذي يمكن أن تقدمه مراكز البحوث والدراسات من رؤى وخطط وتصورات تفيد السوريين في تنظيم أنفسهم سياسياً وتمكّنهم من إدارة مسعاهم نحو التأطير السليم والقائم على أسس عصرية تتجاوز أعراف التأطير الحزبي التقليدي؟

    رابعاً– لعل استمرار تسليط الضوء والتنقيب في قضايا ومسائل مستقبل الدولة السورية، بمقابل الانكفاء الكلّي عما يعانيه السوريون من استعصاءات قاتلة، يوحي لكثيرين بأن سرّ الانفجار السوري هو التنازع القومي والطائفي والاختلاف على شكل نظام الحكم إلخ، وليس نظام الإبادة الأسدي.

لا شك أن جانباً مما يمكن أن تقوله مراكز البحوث عن الأسئلة السابقة قد قيل بعضٌ منه، وبعضه الآخر ما يزال مسكوتاً عنه، فممّا قيل مثلاً: إن مراكز البحوث تعنى بالمسائل الفكرية والمنتج البحثي الذي يستلهم قضايا المجتمع والاقتصاد والسياسات الدولية والظواهر المجتمعية بغية تحليلها وإخضاعها للبحث العلمي المنهجي، ولا تعنى بالقضايا والمسائل ذات الطابع الثوري الشعبوي.

ونؤكّد التكرار: على مراكز البحوث أن تعيد النظر في مفهوم ما هو (الشعبوي)، باعتبار الحالة الشعبوية منطلقاً لمعظم الثورات في العالم، ولعل الانتقال بالحالة الثورية من الحيّز الشعبوي إلى سياقها الفكري هي مهمّة مراكز الأبحاث والدراسات قبل غيرها.

أما القول بأن المراكز البحثية هي كيانات علمية مستقلّة معنية بالإنتاج الفكري والثقافي وليس لها أي تدخّل مباشر لدى الكيانات السياسية أو الأطراف والقوى الميدانية الفاعلة، فربما كان هذا الكلام صحيحاً، ولكنه في الوقت ذاته لا يعفيها من المسؤولية الأخلاقية، ولئن كان من الصحيح أن معظم مراكز البحوث والدراسات ليست كيانات ثورية أو سياسية مماثلة للكيانات الحزبية في تبنّيها لشعارات أو أهداف محدّدة، ولكنها من جهة أخرى تتبنّى قيماً ومبادئ إنسانية عامة تكاد تتماهى كلّياً مع أهداف وتطلعات ثورة السوريين، وهذا هو مدخلنا المشترك للتفاعل معها عبر الحوار وإبداء الرأي.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى