تحقيقات

مخيمات شمال سوريا بلا مياه… والجرب يلتهم أجساد الأطفال/ مصعب الياسين

10.07.2024

توقف برنامج الغذاء العالمي عن عمله في سوريا، بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، ما أدى إلى توقّف خدمات مياه الشرب شمال غربي سوريا مطلع شهر حزيران/ يونيو 2024، ما ترك سكان المخيمات أسرى العطش وغلاء أسعار المياه.

تسكن أم صابر، نازحة من محافظة حلب، في أحد المخيمات، تعاني الأمرّين لتأمين مياه الشرب، تقول لـ”درج”:”لا يوجد لدينا ما نبيعه لنحصل على مياه الشرب سوى اسفنجات بالية وموقد لإعداد الطعام وبعض البطانيات، وكل هذا الأثاث المتهالك لا يفي بتعبئة خزانين سعة خمسة براميل”.

تضيف أم صابر: “أقطن في مخيمات منطقة حارم منذ ستة أعوام، مضت في غالبيتها من دون حصولنا على سلة غذائية أو مساعدات مادية، وفي ليال كثيرة كنا نبيت من دون عشاء، وصبرنا على هذه الحال هرباً من القصف والموت بصواريخ الطائرات حتى وصلنا اليوم إلى الحرمان من مياه الشرب والخبز، ولم نعد ننتظر سوى الموت مخلصاً من هذه المعاناة”.

 المخيم الذي تقطنه أم صابر إلى جانب 990 مخيماً آخر شمال غربي سوريا، تعاني من التوقف النهائي لخدمة التزوّد بالمياه، بالتزامن مع عدم استقرار الخدمة ذاتها لـ 318 مخيماً تأوي نازحين قسراً من مختلف المحافظات السورية، بحسب “منسقو استجابة سوريا”.

يقول سمير العجان المهجر قسراً من محافظة حماة في مخيمات أرمناز، إن ثمن برميل المياه يبلغ 15 ليرة تركية، وهو يشتري واحداً كل 25 يوماً، ويضيف: “كل يوم نحن بحاجة 300 لتر مياه على أقل التقدير يومياً للاستحمام والشرب والغسيل في أيام الصيف، واليوم نقتصر في حاجتنا على 100 لتر مياه نشتريها بـ 15 ليرة من عمل بناتي الصغار في حقول الخضروات بواقع أجر 50 ليرة يومياً نقسمها بين ثمن مياه وطعام”.

يتابع العجان: “بعد توقف حصولنا على المياه مجاناً منذ مطلع الشهر الحالي، لم نعد نستحم بشكل يومي كحال أيام الصيف خلال السنوات الماضية”.

سطل المياه أصبح حلماً

تختلف أسعار المياه بين مخيم وآخر بحسب قرب المخيم من الآبار التي تعاني أصلاً من الشح في فصل الصيف، حسب جمال النبهان، صاحب صهريج مياه في منطقة سرمدا، إذ تلعب أسعار المحروقات والمسافة بين المخيم والبئر وغزارة البئر حتى دوراً في سعر برميل المياه.

وفي كثير من الأحيان وبسبب فقر النازحين، يشتري بعضهم 100 لتر مياه فقط كل ثلاثة أيام، وبعض العائلات تشتري 50 ليتراً فقط يقتصر فيها على مياه الشرب بعيداً عن الاستحمام والغسيل والنظافة الشخصية.

يقول النبهان: “أبلغتنا معظم المنظمات التي كانت داعمة لمشاريع تزويد المياه للمخيمات بانتهاء عملنا بشكل مفاجئ في بداية شهر حزيران/ يوليو، لنتحول إلى شراء المياه على حسابنا من الآبار وبيعها في المخيمات بناء على طلب النازحين حتى لا ينقطعوا من المياه”.

يضيف النبهان: “أسعار البيع والشراء مرتفعة بالنسبة الى واقع النازحين ودخلهم، إذ نبيع برميل المياه 100 ليتر بـ 15 ليرة، وأساس هذا السعر هو ارتفاع أسعار الوقود، كما أننا لم نتلقَّ أي دعم في سعر الوقود الخاص لتزويد المخيمات بالمياه، ودائماً ما تجتمع النساء والفتيات حول الصهريج في المخيمات للحصول على سطل مياه واحد بثمن 3 ليرات تركية”.

يقطن منذر البغداد في مخيمات عفرين شمال حلب، بعد تهجيره قسراً من ريف دمشق. يصف واقع حاله قائلاً: “لم تعد هذه حياة وربما الموت أرحم من العيش في خيمة ملتهبة من حرارة الصيف لا تحتوي حتى على مياه الشرب. لا نطالب كسوانا من البشر بثلاجات عالية الجودة أو مكيفات يمكن النوم على هوائها البارد أو حتى مسابح للاستجمام والترفيه، أقصى ما نتمناه هو الحصول على المياه في ظل حياتنا داخل الخيمة المصنوعة من النايلون”.

يشير البغداد: “نعلم أنه غير مسموح لنا بالحلم بحياة أفضل، وأنا أتمنى الموت على هذه المعاناة المتكررة، رضينا بالجوع ورضينا بحرارة الصيف اللاهبة، ورضينا بالابتعاد لسنوات طويلة عن ديارنا، لكن حرمان أطفالنا من المياه في ظل عجزنا عن تأمينه بات يشكّل لنا كابوساً يطارد نومنا في كل ليلة”.

بيع الطعام للحصول على الماء

لا يقتصر توقّف دعم المياه عن النازحين في المخيمات شمال غربي سوريا على حرمانهم من مياه الشرب فقط، بل يهدد السكان أيضاً يوماً بعد آخر بالإصابة بأمراض جلدية فتاكة كحال عائلة لينا العلي في مخيمات دير حسان شمال إدلب.

تقول العلي إنها لم تعد تجد حلاً لنظافة أبنائها وحمايتهم من الجرب بعد توقف دعم المخيم بالمياه، إلى حد أن فتك الجرب بجسد طفلتها نهى البالغة من العمر 8 سنوات. وتعزو العلي السبب الرئيسي لحرمانهم من المياه واقتصارها على مياه الشرب، الى تخلي المنظمات العالمية عن مساعدة السوريين في حياتهم البائسة من جهة، وبسبب فقر العائلة المدقع بسبب تهجيرها القسري عن بلدها الأصلي جنوب محافظة إدلب منذ سبع سنوات من جهة أخرى.

تلفت العلي في حديثها لـ”درج”: “لم نعد نستخدم المياه المرتفعة الثمن بالنسبة الى دخلنا المعدوم سوى للشرب، واليوم ألجا الى بيع بعض المؤن الغذائية  التي أحصل عليها من التبرعات المحلية لشراء المياه، إذ أبيع علب الفول والحمص وأكياس الأرز والبرغل وأحاول أن أخلق توازناً بين الغذاء والمياه حتى نبقى على قيد الحياة”.

تضيف العلي: “غابت عنا مياه النظافة الشخصية والاستحمام ولم نعد نقوى على تأمين مياه لدورات المياه، التي يملأ خزاناتها بعض التبرعات الفردية من حين الى أخر، وما كنت أهرب منه منذ أشهر حلّ بي بعد إصابة طفلتي بمرض الجرب، وأعتقد جازمة أن شح مياه النظافة قاد الى هذه الحال”.

 الأوبئة تفتك بالعطشى 

بعد انقطاع المياه عن المخيمات في شمال غربي سوريا، وقطع الخدمات المعروفة باسم خدمات الووش المدعومة من الأمم المتحدة، اجتاحتها موجة جرب أصابت المئات من النازحين، وبحسب دراسة استقصائية أجرتها منظمة الصحة العالمية، فإن مرض الجرب ينتشر بشكل مرتفع غير عادي ضمن ست مناطق في إدلب، حيث يعيش 4.2 مليون شخص، معظمهم نساء وأطفال، وأن سكان المخيمات أكثر عرضة للإصابة بالجرب سبع مرات مقارنة بالقاطنين خارجها.

وأوضحت الدراسة  المنشورة في مطلع شهر أيار/ مايو 2024، أن 32.4 في المئة من المخيمات، 51.6 في المئة من المجتمعات، لديها حالياً خدمات الاستجابة للجرب، ما يترك معظم المناطق ذات الأولوية القصوى من دون مساعدة. ولفت المركز إلى أن الظروف المعيشية المكتظة ومحدودية الوصول إلى العلاج الفعال تساهمان في زيادة خطر الإصابة.

وكانت منظمة “أطباء بلا حدود” الدولية  سجلت الصيف الماضي أكثر من 5700 إصابة بـالجَرَب الجلدي، في مخيمات النازحين بريفي إدلب وحلب، خلال أشهر صيف 2023، ضمن موجة إصابات عالية ألمّت بمنطقة شمال غربي سوريا، في حين سجلت المنظمة نحو 1500 إصابة شهرياً عبر فرقها النقّالة.

تشمل خدمات الووش المقدمة من الأمم المتحدة عبر منظمات سورية محلية، خدمات المياه وترحيل النفايات لتتعدى مشكلة المياه مشكلة خطرة متمثلة بتجمع النفايات والأوساخ وسط المخيمات، والتي باتت بعض التجمعات فيها بؤرة لتجمع الحشرات والقوارض وعموم ناقلات الأمراض، كحال بعض المخيمات كللي وحارم، إذ يعمل النازحون على إلقاء القمامة بعيداً عن خيمهم، لكن ليس بالمكبات والمجمعات، ما حوّل محيط بعض المخيمات الى تجمعات أوساخ تصدر منها روائح كريهة وفيروسات.

يقول سعدون الجاسم القاطن في مخيمات جنديرس: “أكثر ما أخشاه اليوم من تكدّس القمامة هو أن تصبح ملجأ للأفاعي والعقارب والزواحف التي تتغذى على الأوساخ والفضلات، إذ لم أعد أستطع النوم في الخيمة ودائماً ما أتفقد باستمرار أرضية الخيمة تحت فرشات الأطفال خوفاً من تسلل أفعى من تجمع القمامة وسط الخيمة. ويحاول النازحون في المخيم دائماً التبرع ببعض المال لترحيل القمامة، لكن تلك التبرعات لا ترقى الى ثمن وقود للجرار عدا أجور العمال، ولا نعلم إلى متى سيستمر الوضع الراهن على ماهو عليه”.

حلول إسعافية

أمام أزمة المياه والنظافة، أطلقت بعض الجمعيات والفرق التطوعية حملات لجمع تبرعات لحفر آبار أرتوازية لمد بعض المخيمات بمياه الشرب وترحيل القمامة. وفي هذا الصدد، يقول المتطوع فراس منصور العامل في فريق الاستجابة الطارئة: “انقطاع خدمات المياه والنظافة جعلنا نجمع التبرعات لخدمات أساسية نظراً الى  الحاجة الماسة إليها بعدما كنا نجمع التبرعات لحملات السرطان والمشاريع ذات النفع على النازحين، وهذا يؤثر كل التأثير على خدمة النازحين وتوفير الحياة الكريمة لهم.

يضيف منصور: “زاد انقطاع برنامج الأغذية العالمي عن الدعم الغذائي أيضاً من مسؤوليتنا ووسّع دائرة حاجات النازحين من جهة، واستجابتنا من جهة أخرى، إذ كان البرنامج يؤمن الدعم الشهري لقسم كبير من النازحين، وكان عملنا يستهدف الباقي منهم، أما اليوم فأصبحنا مسؤولين عن جميع النازحين، وهذا يتطلب جهداً كبيراً وتبرعات أكثر في ظل غياب الدعم الدولي وتخلّي العالم شيئاً فشيئاً عن السوريين، وعجز النازحين عن شراء المياه وارتفاع مستوى البطالة، ما يتطلب جهداً دولياً مكثفاً”.

يأتي هذا فيما خصص الاتحاد الأوروبي تمويلاً إنسانياً طارئاً بقيمة 450 ألف يورو لدعم منظمة الصحة العالمية في استجابتها الطارئة لمعالجة تفشّي الجرب المسجّل حالياً في شمال غربي سوريا.

وفي هذا الصّدد، قال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في سوريا، دان ستونيسكو، في تصريح عبر الدائرة الإعلامية بالاتحاد: “نؤكّد دعمنا لجهود منظمة الصحة العالمية في شمال غرب سوريا تفانينا في معالجة الأزمات الصحية العاجلة وتحسين الظروف المعيشية للفئات الهشّة في سوريا، ولن يساعد هذا التمويل الطارئ في الحد من انتشار الجرب فحسب، بل سيعزز أيضاً الصّمود الصحّي الشامل في المنطقة. نحن نقف متضامنين مع الشعب السوري وسنواصل دعم المبادرات التي تعزز الصحة والكرامة والرفاه”.

لم يعد النازحون السوريون مشغولين بحقهم بالعودة إلى بلداتهم ومسقط رأسهم، بل تحوّل اهتمامهم اليوم للحصول على المياه النظيفة والمجانية، بالتزامن مع تطلع الساكنين منهم في الخيام القماشية والبلاستيكية الى الانتقال إلى مساكن إسمنتية ضمن المخيمات بحسب الناشط علي العلي.

يقول العلي أيضاً، إن الاهتمام تحوّل من الحق الأساسي إلى الاهتمام بمشكلات خلقتها ظروف النزوح وتحدياته، ويضيف: “كأنها سياسة دولية كانت متبعة بالصمت إزاء ترحيل نظام الأسد السكان من بلداتهم إلى الشريط الحدودي مع تركيا، ومتابعة النظام الدولي الجريمة بإطالة أمد الصراع وخلق أهداف جديدة للسوريين وتحويلهم عن هدفهم الأساسي بالعودة الأمنة والكريمة الى منازلهم أو بقايا منازلهم”.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى