مراجعات الكتب

جائزة وترستون للرواية الأولى: الاستشفاء بالكتابة/ سناء عبد العزيز

تجلس الرواية الأولى في مقعد خاص على رف كاتبها، ربما لأن اختلافها عن سائر أعماله ينبع من مفارقة بديهية، فالشيء الأول دائمًا ما يحدث للمرة الأخيرة، بمعنى أن هذه آخر مرة كانت الأولى في مسيرته الإبداعية. لهذا لا نتوقع أن يفوز كاتب مرتين بجائزة وترستون، لأنها إحدى الجوائز المعنية بباكورة الروايات المنشورة في المملكة المتحدة، بصرف النظر عن عمر وجنسية المؤلف، ويتم التصويت عليها من قبل بائعي الكتب في وترستون، باعتبارهم شهودًا على استقبال القارئ وقراء دائمين في الوقت عينه.

الآن، في عامها الثالث، ترشحت للجائزة لعام 2024 ست روايات لمؤلفين من ثقافات متنوعة في قائمتها القصيرة “تميزوا بقصصهم الواثقة ورؤاهم الفريدة”، كما وصفتهم بيا كارفاليو، رئيسة قسم الكتب بوترستون، مضيفة أن الكتب الستة تحتفي “بقدرة الفن على الخلاص، ومرونة الروح الإنسانية، والفرح الخالص الذي يمكن العثور عليه في الحكايات”.

حوار بين الماضي والمستقبل

تدور أحداث “وزارة الوقت/ The Ministry of Time” رواية الكاتبة البريطانية الكمبودية كاليان برادلي، في المستقبل القريب، وترويها شخصية لم تجد الكاتبة داعيًا لمنحها اسمًا، لأنها ستتخذ صفة حركية في الرواية هي “الجسر”. لقد كانت المرأة الجسر تعمل مترجمة في وزارة الخارجية البريطانية، حين عرضت عليها وظيفة براتب طالما حلمت به، في تجربة سرية تجريها الحكومة لتحديد ما إذا كان السفر عبر الزمن ممكنًا لا بالنسبة للجسم فحسب، ولكن بالنسبة لنسيج الزمكان أيضًا. ومصطلح الزمكان/ Spacetime صاغه عالم الفيزياء هيرمان مينكوفسكي 1908 بعد ثلاثة أعوام من ظهور نظرية النسبية، وهو ليس بنسيج مجازي كما نظن، إذ أثبتت التجارب أنه ينحني تحت ثقل الأجسام، ويجبر ما حولها على الدوران في مجاله نتيجة لهذا الانحناء أو الانبعاج. واستنادًا إلى نتائجه الدقيقة التي أصلحت العوار في معادلات نيوتن، وفسرت الكون في إطارها، حلّ متصل الفضاء الزماني ــ المكاني الرباعي الأبعاد محل الأثير، ونجم عنه اكتشاف ممرات دودية للسفر عبر الزمن؛ ماضيه ومستقبله.

وهكذا تنجح الحكومة في التقاط خمس شخصيات معروفة من بوابات الزمن، جميعها ماتت بالفعل في حوادث حقيقية، منهم آرثر، الذي أُخرجوه من الحرب العالمية الأولى قبل أن يموت بقليل، والفتاة مارغريت من القرن السابع عشر التي ماتت بسبب الطاعون، والأهم من هؤلاء القائد غراهام غور، الذي توفي أثناء خدمته في بعثة فرانكلين إلى القطب الشمالي. لقد اختاروا أشخاصًا يعرفون، من السجلات التاريخية، أنهم سيموتون قريبًا، معتقدين أن إخراجهم من عصرهم لن يؤدي إلى تغيير المستقبل، لأنهم كانوا سيموتون على أي حال.

وتتلخص مهمة الشخصية الرئيسية في أن تكون “جسرًا” يعبر عليه الماضي ليتسنى له التأقلم مع القرن الواحد والعشرين، وذلك بالعيش معه في بيت واحد وتقديم يد المساعدة لكل فرد تم انتشاله من الموت، ثم كتابة تقرير عنه إلى الحكومة.

تنقل لنا برادلي في روايتها الأولى القفشات المتوقعة من تعايش زمنين في حيز محدد، منها استنكار القائد الذي مات عام 1845 فكرة بقائه مع امرأة ليست بزوجته تحت سقف واحد. كذلك عدم ألفته مع أجهزة حديثة، مثل الغسالة الأتوماتيك، وتطبيق سبوتيفاي، وأحداث تالية مثل تفكك الأمبراطورية البريطانية. وعلى غير المتوقع، يقع المستقبل في غرام الماضي، وتنجرف “الجسر” في حب القائد صاحب الشخصية المثيرة للاهتمام، في الوقت نفسه تكتشف دوافع الحكومة غير البريئة من وراء تجربتها العلمية.

على الرغم من الطابع الكوميدي للرواية، وتصاعد الإثارة في الجزء الأخير، فإنها تغطي عددًا من الموضوعات الجادة، مثل الفساد الحكومي، وأزمة اللاجئين، وتغير المناخ، والإبادة الجماعية في كمبوديا، وأحداث 11 سبتمبر، بالإضافة إلى تعليقات حول الاستعمار، والصدمات الموروثة، والعبودية، والعنصرية، ومجتمع المثليين، وغيرها من الموضوعات العاجلة في الألفية الثالثة.

على الجهة الأخرى من مجرى الزمن، تعود رواية “مآثر مجيدة/ Glorious Exploits” للكاتب الليبي فيرديا لينون المولود في دبلن، إلى الوراء أكثر من ألفي عام حين تحتدم الحرب البيلوبونيسية عام 412 قبل الميلاد، وتنقلب جزيرة صقلية رأسًا على عقب بسبب الغزو الأثيني.

عقب الحرب، تحاول المدينة التعافي بفتح طرق تجارية جديدة، وزيادة البنية التحتية المتداعية، مع معاقبة الأثينيين الباقين الذين تجرأوا على غزو مدينتهم بنفيهم في محاجر شديدة الحرارة، من دون طعام، أو خدمات.

عند هؤلاء الأسرى، يجد بطلا الرواية لامبو وجيلون وسائل ممتعة لتمضية الوقت، وهما خزافان عاطلان عن العمل يحبان الشعر والسُكر، فيتجرآن على زيارة أعدائهما ليتبادلا معهم لقيمات الخبز والجبن في مقابل مقتطفات من مسرحيات يوربيدس فحسب. بينما يرى جيلون أن “لا مقابل لسوفوكليس، ولا إسخيلوس، ولا أي شاعر أثيني آخر. يمكنك أن تقرأها إذا شئت، لكن الماء والجبن مخصصان فقط ليوربيدس… ولقمة من الزيتون لمقتطف من مسرحيته ميديا”.

سرعان ما تمتد طموحاتهما إلى إعادة صياغة ميديا يوربيدس على أن يقوم السجناء بتمثيلها. ولكن، مع اقتراب ليلة الافتتاح، تقع سلسلة من الأحداث غير العادية، توضح للصديقين أن عرض المسرحية يمكن أن يشكل خطرًا لا يقل عن خوض حرب جديدة. وبالرغم من الشوط الزمني الذي قطعه لينون في مآثره المجيدة، فإن الكتاب يروى بصوت أيرلندي معاصر شديد الطرافة ما يصنع جدلًا بين رصانة العنوان وطبيعة القصة من جهة وخطاب الحكاية من جهة أخرى.

حكاية شاعر

برز اسم الشاعر الإيراني الأميركي كاوه أكبر في السنوات الأخيرة، وهو أحد رموز الشعر المعاصر، مع أنه لم ينشر سوى ديوانين. ويمكن إضافة روايته الأولى “الشهيد/ Martyr” إلى نتاجه الشعري، لأنها تشبهه في التعقيد وتعدد الطبقات، كما “تنطلق في الغناء من السطر الأول”، وفقًا لرأي موظفي ووترستون. إنها ببساطة أنشودة عن الطريقة التي نمضي بها حياتنا في البحث عن معنى، تسترشد بأصوات الفنانين والشعراء والملوك لتعلي من شأن هؤلاء الذين ضحوا من أجل هدف بعينه.

تدور “الشهيد” حول صبي يدعى سايروس، ابن عامل مصنع إيراني مهاجر في ولاية إنديانا، ماتت أمه في جريمة قتل حقيقية عندما أطلقت البحرية الأميركية صواريخ على طائرة الركاب الإيرانية رحلة رقم 655 في عام 1988. وكانت النتيجة موت الجميع عدا سايروس الذي نجا من الكارثة، لأنه كان صغيرًا جدًا على هذه الرحلة. وحتى يملأ الفراغ الهائل يدمن الخمر، لكن الخمر والملذات كافة لا يمكنها أن تملأ فراغًا حقيقيًا، فلا يقوده هوسه بفكرة الاستشهاد إلا إلى فحص ألغاز ماضيه؛ عمه الذي فاجأ الجنود في ساحات القتال الإيرانية مرتديًا زي ملاك الموت لإلهام الموتى وتهدئتهم، وأمه، من خلال لوحة تم اكتشافها في معرض فني في بروكلين. وهكذا يقضي الرواية في تتبع “الأشخاص الذين حاولوا على الأقل جعل موتهم يعني شيئًا ما”.

يقول أكبر في حوار معه “أريد فقط أن أكتب شيئًا عن الشهداء العلمانيين المسالمين. الناس الذين ضحوا بحياتهم لشيء أكبر من أنفسهم. ولا سيوف في أيديهم”.

على عكس فكرة الاستشهاد، تقدم الرواية إضاءة خاصة عن ازدواج الهوية، وليس الوقوع بين الهويتين الفارسية والأميركية، حيث يشعر هذا المزدوج بالنعمة والنقمة في الوقت نفسه، ويعتنق الموت بينما يبحث جادًا عن مسعى لعيش الحياة كما كان ينبغي عليه.

تعدد الأصوات في مرحلة البلوغ

من الصعب تصنيف رواية “غريتا وفالدين/ Greta and Valdin” للكاتبة الماورية (نيوزيلاندا) ريبيكا كيه رايلي، ولكنها إحدى الروايات التي كتبت بذكاء وطرافة عن مرحلة البلوغ المبكر. وتتتبع أخًا وأختًا وهما يشقان طريقهما إلى الحب بتقلباته وإمكاناته الغامضة، وسط دراما فوضوية لعائلتهما المترامية الأطراف والغريبة الأطوار من الماوري والروسية والكاتالونية.

تقول رايلي: “ربما لم يكتب كثيرون عن شعب الماوري غريب الأطوار الذين يعيشون في أوكلاند الوسطى والذين كانوا في الأساس من أكثر الأشخاص هوسًا، ولكنهم ما زالوا يتعايشون مع كثير من الأجانب المثيرين، أعتقد أنه سيكون من الجيد إن وجد هذا الكاتب”.

يتناوب كل من غريتا وفالدين الحكي عبر فصول الرواية، وتشير الأحرف الأولى من أسمائهما إلى من يتولى الحكي، ولكن بعد قليل يألف القارئ صوتيهما فلا تجد ريبيكا داعيًا للحروف من تلقاء نفسها. وهي تضم أيضًا قائمة بالشخصيات في بداية الكتاب، لفهم الصراع الدائر وخلفياته العائلية.

على المنوال نفسه، تنسج الممثلة البريطانية هناكو فوتمان روايتها الأولى من أصوات ثلاث شابات يابانيات، مي التي تفقد أمها في سن السادسة وتختبر الآن سن البلوغ واستيقاظ مشاعرها الجنسية. يوكي التي تغادر الريف الياباني لتحقيق حلمها في أن تصبح عازفة كمان في لندن. وأخيرًا هاروكا التي تعمل مضيفة في حانات مشبوهة.

تقول فوتمان عن روايتها الأولى “الهجين/ Mongrel”: “إنها قصة تحتفل بجمال الانتماء إلى أكثر من مكان. إنها حكاية تمتد لأجيال وبلدان، من المملكة المتحدة إلى اليابان، وتشمل آلام الشباب المتزايدة وآلام البلوغ. إنها منزل لمن يريد ذلك. ورسالة حب إلى أمي”.

لقد كانت كتابة هذه الرواية وسيلة رائعة لفوتمان لتحقيق السلام مع كونها نصف يابانية ونصف بريطانية، فهذا الشخص الهجين استطاع أن يدرك عبر الكتابة كيفية الرجوع إلى ذاته اليابانية بعد أن تخلى عنها لسنوات طويلة.

تكتمل قائمة وترستون المختصرة برواية “الصمت بينهما/ The Silence In Between” للكاتبة السويدية جوزي فيرغسون، والتي تدور أيضًا حول عائلة يتسبب جدار برلين في فصل أفرادها عن بعضهم، حيث تعيش ليزيت في برلين الشرقية، لكنها تضطر لإحضار طفلها حديث الولادة إلى مستشفى في برلين الغربية. وبموجب أوامر الطبيب، تعود إلى المنزل لتستريح، وتترك الطفل في رعاية المستشفى. وبين عشية وضحاها تغلق الحدود بين الشرق والغرب، مما يؤدي إلى تقسيم المدينة ــ والعالم ــ إلى قسمين. ومع الفوضى التي تعيشها المدينة، والأوامر بإطلاق النار على أي شخص يحاول العبور، تجد الأم نفسها في موقف لا تحسد عليه.

على جانب آخر، يحدث الانفصال بينها وبين ابنتها المراهقة إيلي التي تستنكر صمت العالم حيال أمها عازفة البيانو بعد أن كانت ملء السمع والبصر. وهكذا تكافح الفتاة للم شمل الأسرة ووضع خطة لإعادة أخيها إلى المنزل.

إن قائمة وترستون هذا العام تضم بالفعل موضوعات متنوعة ومثيرة من ثقافات مختلفة، لكن الخيط الذي يربط بين مؤلفيها مزدوجي الهوية هو تلك المحاولة المستميتة للاستشفاء بالكتابة، والاحتماء بالأمل، مهما بدا بصيصًا في نفق طويل ومظلم.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى