سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024
لمتابعة التغطيات السابقة
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024
سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات
——————————–
جدلية الاستبداد والصهيونية في مرآة الزلزال السوري/ حسن نافعة
21 ديسمبر 2024
كشف الزلزال الذي ضرب سورية، وما تزال توابعه تهز جنبات المنطقة بأسرها، عن مشهديْن يجسّدان واحدة من أهم المعضلات التي تواجه العقل العربي، وتحدّ من قدرة الشعوب العربية على بناء مؤسّسات تمكنها من الانطلاق، والمساهمة من جديد في صنع الحضارة العالمية. الأول: جسّده سقوط النظام الحاكم في سورية، وفرار رئيسه بشّار الأسد إلى موسكو خفية وفي جنح الظلام. والثاني: جسّده ذلك الانقضاض الوحشي لآلة الحرب الإسرائيلية على ما تبقى من الجيش السوري المنهار إلى أن جرى تدميره كليّاً، ومكّن الكيان من احتلال مساحات جديدة أضيفت إلى الأراضي السورية المحتلة منذ حرب 1967. وبينما يفصح المشهد الأول بوضوح عن حجم الخراب الذي يمكن أن يصيب أياً من الدول التي تغيب عنها الديمقراطية، ما قد يساعد على تعزيز القناعة باستحالة التعايش مع الاستبداد وحتمية هزيمته شرطاً أساسياً من شروط تقدّم الشعوب وازدهارها. يفصح المشهد الثاني، بالقدر نفسه من الوضوح، عن تمتّع الكيان الصهيوني بشهية توسّعية تبدو جاهزة على مدار الساعة لالتهام كل شبر من الأراضي، يعجز العالم العربي عن الدفاع عنه، ما قد يساعد على تعزيز القناعة باستحالة التعايش مع المشروع الصهيوني وحتمية هزيمته شرطاً أساسياً من شروط التقدّم والازدهار.
ورغم ما ينطوي عليه هذا الطرح من مسلّمات تبدو بديهية، إلا أن العقل العربي ما يزال عاجزاً عن حسم قضية ترتيب الأولويات بين الأهداف المتعلقة ببناء الديمقراطية والأهداف المتعلقة بمواجهة المشروع الصهيوني، وكلاهما لازم وضروري وحتمي، للانعتاق من أسر التخلف والتبعية، فبينما يرى بعضهم أن بناء نظم ديمقراطية يعدّ شرطاً ضرورياً لتمكين العالم العربي من مواجهة المشروع الصهيوني بطريقة أكثر فاعلية. ويرفض، بالتالي، التماس الأعذار لتبرير الاستبداد، يبدو آخرون مستعدّين للتسامح مع النظم الاستبدادية التي تتبنّى خطاباً مناهضاً للمشروع الصهيوني، وهو ما يفسّر انقسام النخب العربية تجاه نظام بشّار الذي تعامل معه باعتباره ركناً أساسياً من أركان محور المقاومة، على الأقل بسبب دوره حلقة وصل لتأمين وصول السلاح إلى المقاتلين في حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة. غير أن ما جرى في سورية ينبغي أن يشكل حافزاً لدفع الجميع إلى إعادة التفكير في هذه الإشكالية، خصوصاً وأن استبداد النظام السوري وفساده أدّيا، في النهاية، إلى إلحاق أفدح الأضرار بالمقاومة أيضاً.
كان انهيار الجيش السوري بهذه السرعة أمراً صادماً، غير أن هروب قائده الأعلى إلى الخارج، بهذه الطريقة المهينة، كان كاشفا للمعدن غير النفيس لهذه القيادة، ويدفع إلى رفض كل ما يُساق من حجج أو أعذار لتبرير ما جرى. ربما تفسّر قسوة العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على سورية، من ناحية، وشدّة الضربات العسكرية التي تلقاها حلفاء النظام، من ناحية أخرى، بعض هذا الذي جرى. غير أن القائد الذي يترك الأوضاع في بلاده تتدهور إلى درجةٍ تؤدّي إلى اضطرار ما يقرب من نصف شعبه إلى الهجرة أو اللجوء، وإلى احتلال قوى أجنبية عديدة أجزاء ومناطق واسعة من بلاده، وإلى تدمير البنية الأساسية لدولةٍ كانت قد اقتربت كثيرا من تحقيق اكتفاء ذاتي بالنسبة لمعظم السلع الأساسية، خاصة الزراعية، ويمارس، في الوقت نفسه، سياسات قمعية ضد مواطنيه الذين ألقى بعشرات الألوف منهم في السجون، وعرّض كثيرين منهم للتعذيبين، الجسدي والنفسي، لا يمكن التماس أي نوع من الأعذار له، بل ولا يمكن أن يكون مقبولاً وفقا لأي معيار وطني أو قومي أو إنساني. ذلك أن سياساته التي لم يكن لها سوى هدف وحيد، التشبث بالسلطة ختى النهاية، لم تلحق الأذى بشعبه أو بالدولة السورية وحدهما، وإنما بشعوب العالم العربي ودوله كلها، ولم تؤدّ إلى تغييب المسألة الديمقراطية وحدها، وإنما ألحقت ضرراً فادحاً بقضية المقاومة أيضا.
شعور الشعب السوري بسعادة غامرة لتمكّنه من التخلص من نظام فاسد وجبان طبيعي ومستحقّ، لأنه شعبٌ حيٌّ يستحقّ بالتأكيد نظاما أفضل. ولذا نتمنى، بإخلاص، أن ينجح في تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي وملهم لغيره من الشعوب العربية التي ما تزال ترزخ جميعها تحت نيْر الاستبداد، غير أن هذا الشعور المستحقّ بالسعادة للتخلص من نظام فقد كل مبرّر لاستمراره لا ينبغي أن يخفي شعوراً عميقاً بالقلق مما هو آت، فالقوى التي أطاحت نظام بشار الأسد لا تملك رؤية واضحة للنظام الذي ينبغي أن يحلّ محله، والجذور السياسية والأيديولوجية لمعظم القيادات التي برزت عقب رحيله لا توحي بأن لديها إيمانا عميقا بالديمقراطية أو على دراية واعية بمقوماتها الأساسية. صحيح أن التصريحات الحالية لزعيم سورية في مشهدها الراهن، أحمد الشرع، الملقب سابقاً أبو محمّد الجولاني، تبدو مطمئنةً إلى حد كبير، لأنها تتحدّث عن نظام تشارك في صنعه وإدارته جميع القوى السياسية والتيارات الأيديولوجية، لأن العبرة بالأفعال وليس بالأقوال، خصوصاً وأن التحدّيات الداخلية والخارجية التي ستواجه سورية في المرحلة المقبلة هائلة وخطيرة. ويكفي أن نتذكر هنا ما آلت إليه “ثورات الربيع العربي” التي نجحت في إطاحة رؤوس نظم استبدادية كثيرة في العالم العربي، وفشلت في بناء نظم بديلة أكثر ديمقراطية، لنتبيّن، بوضوح، أن لهذا الشعور العميق بالقلق ما يبرّره.
على صعيد آخر، يتصرف رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، وكأن جيشه هو من أطاح نظام بشّار الأسد، وليس قوى المعارضة السورية، فهو يعتقد أنه لولا الضربات القاسية التي جرى توجيهها إلى قوات حزب الله وتجهيزاته في لبنان، وللقوات الإيرانية على الساحة السورية، لما استطاعت هيئة تحرير الشام أو قوات المعارضة السورية الأخرى إسقاط نظام بشار، ولهرع لنجدته حلفاؤه، ولربما تمكّنوا من إنقاذه. لذا قرّر نتنياهو على الفور أن يتقاضى الثمن باهظاً، بالقيام بعملية شاملة وسريعة لتدمير الجيش السوري، الذي هو في النهاية ملك للشعب وللدولة السورية، فقد نفّذ جيش الكيان مئات الطلعات الجوية للإغارة على جميع المواقع التي فيها أسلحة استراتيجية أو ثقيلة يملكها الجيش السوري، وتم تدميرها من دون أن تصدُر عن أيٍّ من رموز النظام الجديد إشارة اعتراض واحدة. لذا يمكن القول إن نتنياهو يشعر بأنه أول المستفيدين من سقوط نظام بشّار، وأن هذا السقوط مكّنه ليس من إلحاق هزيمة كاملة بكل أطراف محور المقاومة فحسب، وإنما أيضاً من فتح الطريق أيضاً أمام إمكانية توجيه ضربة قاصمة لإيران، قلب هذا المحور ومركزه الرئيسي، بل لا مبالغة في القول إن نتنياهو يشعر بأنه حقق نصراً استراتيجياً يتيح له القدرة على أن يشرع على الفور في إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتفق ومصالح المشروع الصهيوني الذي يستهدف إقامة دولة يهودية كبرى، تعيد بناء “الهيكل الثالث”. وبالتالي، ما حققه في الأسابيع الماضية لا يقل أهمية عن النصر الذي حققته إسرائيل في حرب 1967. ولذلك، الأرجح أن لا يسمح نتنياهو أبدا بقيام دولة سورية قوية، حتى ولو كان نظامها نموذجيا في الديمقراطية، ويرى أن الفرصة باتت سانحة أمامه للعمل على تقسيم سورية إلى كانتونات ترسم حدودها الجغرافية وفق معايير طائفية أو، على أحسن الفروض، أن يدفع في اتجاه العمل على إقامة نظام سياسي سوري على غرار النظام العراقي أو اللبناني.
كشف ما جرى في المنطقة في الأشهر الأربعة عشر الماضية الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني، أنه يرتكز على القوة وحدها، وليس على التسويات الدبلوماسية أو الحلول الوسط، ولن يتخلى مطلقاً عن حلمه في إقامة الدولة اليهودية الكبرى بالقوة المسلحة إذا تطلب الأمر. لذا لا يعنيه أن تكون النظم السياسية القائمة في الدول العربية المحيطة، أو حتى في الدول الشرق أوسطية البعيدة، ديمقراطية أو استبدادية، يحكمها سنة أم شيعة أم دروز أم أكراد أم أفارقة، بقدر ما يعنيه أن تتصرّف هذه الدول على أساس أنه لم يعد أمامها من خيار سوى إقامة علاقات سياسية واقتصادية وثقافية كاملة مع دولة يهودية كبرى، ينبغي الاعتراف بأنها باتت الدولة المهيمنة في المنطقة، والمسؤولة عن تحديد جدول أعمالها ورسم سياساتها. ولأنه يستحيل على الشعوب العربية أن تقبل هذا المنطق المذل، لم يعد أمامها من خيار آخر سوى إقامة نظم سياسية قادرة على مقاومة مشروع الهيمنة الصهيونية على المنطقة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن هذه النظم ستستمد شرعيتها في المرحلة المقبلة من قدرتها على مواجهة هذا المشروع فعلاً، وليس التظاهر بمواجهته، ما يتطلب أن تكون قادرة على توحيد كل القوى التي ترى أن المشروع الصهيوني مصدر الخطر الرئيسي على الأمة، بصرف النظر عن الانتماءات الأيديولوجية أو السياسية أو الطائفية لهذه القوى.
العربي الجديد
———————–
سورية… حرّية وخبز وأمن/ بشير البكر
21 ديسمبر 2024
حقٌّ لكل سوري أن يبدي رأيه بالتحول الجديد، الذي تلا سقوط حكم عائلة الأسد. ثار السوريون من أجل الحرية، كي يعبّروا ويتكلموا من دون خوف أو رقابة. وقياساً على الأثمان التي دفعوها، وبالنظر إلى الخصوصية السورية، لن يستطيع حاكم، من الآن وصاعدا، ومهما كان طابع الشرعية التي اكتسبها، قطع ألسنة الناس وتكميم الأفواه بالترهيب أو بالترغيب. لقد استعاد الشارع السوري حرّيته، وهذا ما عكسته ساحات الاحتفالات في عموم المحافظات السورية، من الشمال إلى الجنوب والوسط والساحل، وما حفلت به وسائل التواصل الاجتماعي من آراء وانتقادات دليل وعي، ورفض لكل سلطة، باستثناء القانون الذي سيحكم بين الجميع على قدم المساواة.
يمكن اعتبار كل الأفراح التي شوهدت في خانة ردود الفعل العفوية التي اقتضتها الحالة، وهي تعكس قدراً كبيراً من التعويض عن القهر والكبت والحرمان، أكثر من نصف قرن، كانت سورية خلالها محكومة بالحديد والنار والسجون والحزب الواحد والرأي الواحد وقائد الأبد. تحرّر السوريون من الخوف عام 2011 عندما نزلوا إلى الشوارع يطالبون بالحرية والكرامة، لكن النظام حرمهم من تذوق طعم الفرح، وقابل ثورتهم السلمية بالرصاص والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية، ومارس عليهم حرب تهجير داخل البلد وإلى خارجه، أجبرت اكثر من 12 مليوناً منهم على مغادرة بيوتهم وأراضيهم. لقد انتظروا قرابة 13 عاما كي يحتفلوا بالحرية. وفرار حارس السجن الكبير بشّار الأسد في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي هو الإنجاز الكبير الذي لا توازيه سوى ولادة الكيان قبل حوالي قرن، وتحقيق الاستقلال من الانتداب الفرنسي عام 1946. وعلى هذا، يجب تجنّب كل ما يمكن أن ينغّص صفاء هذه الأيام التاريخية، وقبل كل شيء الخلافات الداخلية، التي يجب تأجيلها حتى تحين لحظتها المناسبة. وكما يليق بكل فرح استثنائي، يجب طي صفحة الماضي، بكل ما تحمله من أثقال ومرارات، فالمستقبل الجديد الخالي من القمع وكبت الحريات يستحقّ التضحية من أجله جماعات وأفراداً، منظمات مجتمع مدني، وأحزاباً سياسية وهيئات معارضة وفصائل عسكرية… إلخ.
يحتاج الفرح السوري إلى تحصينه من الهزّات والانتكاسات، وأول خطوة على هذا الطريق هي مواجهة التحدّيات الكبيرة، التي تقف أمام البلد من داخلية وخارجية، وفي مقدمتها الخدمات الأساسية ومتطلبات المعيشة، وبرزت في الأيام الماضية مسائل ملحّة تحتاج حلولاً سريعة، مثل انقطاع الكهرباء وشح مياه الشرب وعدم قدرة الأفران على تلبية حاجات الناس من الخبز وارتفاع أسعار بعض المواد الأولية، بالإضافة إلى الأمن. ورغم التحسّن البطيء في بعض المجالات، مثل تقليل ساعات تقنين الكهرباء، عما كانت عليه قبل سقوط النظام، فإن حلّ المصاعب المتراكمة منذ أكثر من عقد غير ممكن خلال فترة وجيزة، ما يستدعي من الجميع وضع كل قضية في نصابها، والنظر إليها بحجمها، وعدم تضخيمها، لأن الموقف السلبي يؤثر على الجهود التي تقوم بها السلطات الجديدة، والتي تحتاج من الناس التفهم والصبر والمساعدة، وليس العكس.
هناك فئات من السوريين تنتظر أن يحدُث التغيير في حياتها بسرعة شديدة، تريد رحيل النظام ومحاسبة رموزه، وحل مشكلات الكهرباء والماء والمازوت، وإقامة الديموقراطية والتعدّدية والدولة المدنية، خلال زمن قصير جداً، ولا تقبل الانتظار قليلاً حتى يتسلم الحكم الجديد الملفات من الحكومة السابقة، ويدرسها ويضع خطط عمل قائمة على تلبية الأولويات. ومن بين المطالبين بالتغيير السريع الذين لا يروْن جبال المشكلات والتراكمات الكبيرة من العهد السابق. ولذلك يطالبون بارتجال الحلول، وفي هذا قصور نظرٍ ذي تبعاتٍ كارثيةٍ على المستقبل.
العربي الجديد
———————–
سرديّات بوتين السورية/ بيار عقيقي
21 ديسمبر 2024
لم يتردّد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في محاولة إبعاد بلاده عن معسكر المهزومين في إسقاط نظام بشار الأسد في سورية، معتبراً، في مؤتمره الصحافي السنوي، أول من أمس الخميس، أن “ثمّة من يحاول تصوير ما حدث في سورية هزيمة لروسيا. أؤكد لكم أن الأمر ليس كذلك”. يطرح موقف بوتين ثلاث سرديات جوهرية، بدءاً من احتمال تواطؤ روسيا في موضوع إسقاط حليفها، الذي أُوحيَ وكأنه الأهمّ لها في شرق المتوسط، بحجّة نيلها مكاسب في حقبة فاتحي دمشق. سردية أخرى يُمكن وضعها في سياق المساعي الروسية لطيّ صفحة الأسد، والتفاهم مع السلطات الجديدة في سورية. أما السردية الأخيرة فمتعلقةٌ حقاً بهزيمة روسيا في سورية، وارتباكها في كيفية التصرف بشأن قواعدها هناك، سواء بنقلهم إلى ليبيا أو بإعادتهم إلى موسكو.
في السردية الأولى، فإن تواطؤاً روسياً مع حلفاء دوليين وإقليميين على إسقاط الأسد يعني أن أرباحها في مواقع أخرى في العالم “مضمونة”. وهو ما ليس واضحاً حالياً، خصوصاً أنه في حال قبول روسيا إسقاط الأسد، يعني، في مكان ما، أنها قابلة للتبدّل مع حلفاء آخرين، مثل إيران وكوريا الشمالية، ولم لا حتى الصين. في السردية الثانية، فإن ترداد وسائل الإعلام والمعلقين والسياسيين في روسيا، مقولة أن “جيش الأسد لم يشأ القتال، بالتالي، فإن روسيا لن تقدّم المساعدة”، مجرّد تبرير لا أكثر، على اعتبار أن ذلك يعني فعلياً نسف التدخّل الروسي في سورية بالأساس في سبتمبر/ أيلول 2015. في حينه، كانت الحكاية الروسية تتمحور حول وجوب محاربة الجهاديين في سورية، كي لا يصلوا إلى روسيا”. وبعد تسع سنوات، وصل “حكم جهادي” إلى السلطة في سورية، وفق أدبيات كثيرين، شرقاً وغرباً. … ماذا فعل بوتين؟ لا شيء، سوى التأكيد على التواصل مع السلطات الجديدة.
أما السردية الثالثة فتكمن في حقيقة خسارة روسيا بانهيار حكم بشّار الأسد. في الواقع، يبدو ذلك أقرب إلى الواقع، بفعل قرائن عدة، الأبرز فيها أن إنشاء قاعدة للاتحاد السوفييتي في ميناء طرطوس على الساحل السوري في عام 1971، كان بداية تفاهم عميق بين موسكو السوفييتية ـ الروسية ودمشق ـ الأسدية، مع الأب حافظ والابن بشار. واليوم، لم يعد واضحاً مصير هذه القواعد. وتالياً مصير الوجود البحري الروسي في البحر المتوسط. ومع أن مناطق نفوذ اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، تحديداً في بنغازي، تبقى خياراً روسياً، غير أن حفتر نفسه ليس كذلك، بل إنه ممسك بأوراقٍ غربية وعربية عديدة، بما يجعله مرناً أكثر في قراراته عما كان عليه الأسد، الذي كان محدوداً بين طهران وموسكو.
وإذا كانت السردية الثالثة الأكثر واقعية، فذلك يؤشّر إلى أن بوتين سيعمل على تركيز جهده على أوكرانيا، وهو أصلاً ما تطرّق إليه الكرملين في الأيام التي رافقت سقوط الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الحالي. ويعني ذلك أيضاً، بالنسبة للغرب، أن عدم قدرة بوتين على تركيز الموارد على أكثر من جبهة، فضلاً عن الاستعانة بعشرة آلاف جندي كوري شمالي على الأقل في حرب أوكرانيا، يؤكّد أن روسيا على مشارف 2025 أكثر ضعفاً عما كانت عليه في عام 2022، على وقع ثقل العقوبات الغربية عليها. ومع أن أوكرانيا ليست في أفضل حالٍ أيضاً، إلا أن خياراتها تبقى أكثر تشعّباً من روسيا. تكفي الإشارة إلى أن أهم ما تعاني منه كييف هو النقص في الجنود والسلاح، فيما تعاني موسكو من ذلك، وأيضاً من غضب صيني كامن بفعل الاستعانة بقوات كورية شمالية، ومن تراجع نفوذها في الشرق الأوسط. ما حصل في سورية هزيمة للروس، كما أفغانستان (1979 ـ 1989). باتت أوراق بوتين محدودة واحتمالات الخسارة والربح فيها متساوية مع اقتراب اللحظات المفصلية.
العربي الجديد
—————————–
سوريا: القطيعة الثوريّة ومصاعب الإثنوقراطية الجديدة/ وسام سعادة
21 كانون الأول 2024
في سوريا وحدها أمكن تحطيم النظام بالكامل الذي قامت بوجهه ثورة 2011. لم يكن بالمتسع تحقيق ذلك لا في مصر ولا في تونس ولا في ليبيا ولا في اليمن ولا في البحرين.
في مصر ساهم العسكر في التعجيل بإزاحة حسني مبارك، وهم لم يعذروا له مسعى توريث الرئاسة في صلبه، ومن خارج سلكهم، أسوة بما نجح بتأمين السبيل إليه حافظ الأسد… هذا لأن عصبة الضباط الأسديين كان لديها مصلحة في حفظ الطغيان ضمن الشبكة اللامؤسسية الواحدة، بخلاف الجنرالات المصريين الأكثر انهماماً بحفظ السلطوية ضمن المؤسسة الواحدة.
وعليه، أدار العسكر في مصر المرحلة الانتقالية بعد تنحي مبارك، بالتنسيق مع «شباب الثورة» و«الأخوان» قبل أن تمضي المرحلة الانتقالية إلى جولات انتخابية تختتم بالنتيجة بانقلاب عسكري مدعوم شعبياً ضد أول رئيس عربي منتخب بالاقتراع العام المباشر في انتخابات تعددية. فكان قمع الإخوان، وتفريق «شباب الثورة».
في تونس، حصل الالتباس منذ البدء. هل هي ثورة على زين العابدين لوحده، أو على كامل النهج السلطوي الذي أسس له المحامي الحبيب بورقيبة. فظهر أن للبورقيبية قدرة على التجدد، بشكلين مختلفين تماماً، علماني – رحب في حالة الباجي قايد السبسي، ومحافظ – شعبوي في حالة قيس سعيد. فهي العمق الوطيد للسستام الذي ما استطاعت الثورة تجاوزه.
في ليبيا ما كان للثورة أن تحسم الحرب مع معمر القذافي لولا التدخل الأطلسي المباشر، لكن القذافية ظهر بعد ذلك أنها لم تزل حية ترزق بنموذجين مختلفين: سيف الإسلام، وخليفة حفتر.
في اليمن، أطاحت الثورة بعلي عبد الله صالح. فعاد من بعد مجافاة الرياض له، من بوابة التحالف مع الحوثيين، ثم تأخر في التمرد عليهم، فقضوا عليه، ولم تزل اليمن مقسمة، إنما ورث الحوثيون أشلاء نظامها، وورث أخصامهم القسم المتبقي من التركة. لا يمكن القول إنه حدثت لحظة «قطيعة» جذرية. وإنما يحدث هرج ومرج لا يعرف من نهاية.
أما في الجزائر، فانتفاضة الشعب على عبد العزيز بوتفليقة، وبدلا من تفكيك جبهة التحرير فقد أدت حتى الآن لترسيخ حكمها.
وفي السودان، كل الولع بتجمع المهنيين وحيوية المجتمع المدني لم يحل في المقابل دون وراثة ضباط عمر البشير له بعد خلعه، وانقسامهم بين فريقين لدودين متناحرين.
فقط في سوريا، حدث ما يعادل «القطيعة». انهار النظام بعناوينه الاستئثارية الطائفية، والعسكرية – المخابراتية، والبعثية. انهار بعد سنوات على تمكن الروس من الحجر على القوى المتمردة على هذا النظام وحصرها في ريف إدلب، هذا في حين قادت السويداء الحراك المنتفض على النظام في السنوات الماضية. ربما تكون سوريا هي أول حالة، غير كمبوديا من بعد بول بوت، الذي لن يشعر فيها أي جمع بالنوستالجيا لمرحلة بشار الأسد.
ما قام به بشار حافظ الأسد وحلفاؤه ضد المجتمع السوري ككل لم يقم به أي من الطغاة العرب الآخرين. تفوق بشار على الثنائي المشكل من والده ومن صدام حسين. تلاقت مصالحه في النهاية مع كافة عناوين الثورة المضادة للربيع العربي، وعلى هذا الأساس أعيد للجامعة العربية، كأن شيئاً لم يكن، ويبدو هنا أن زيادة المتقاطعين على إبقائه، ما بين الروس والإيرانيين «الممانعين» والأنظمة العربية «الأنتي ممانعة» ساهمت في القضاء عليه في آخر الأمر، فكانت النتيجة شبه التلقائية للحرب الأخيرة على «حزب الله» وتراجع النفوذ الإيراني في سوريا تهاويه الكاريكاتيري كنظام.
القطيعة الجذرية في الحالة السورية معطى أساسي، ليس بالمستطاع القفز عليه، وليس بالإمكان الاكتفاء به أيضاً. يأتي المتغير السوري بعد سنوات على تخلّع مسارات الانتقال نحو الديمقراطية في البلدان العربية التي أصابها الربيع، وعودة الروح للنظم السلطوية الأمنية في كل مكان، وللاحتراب الأهلي في ليبيا والسودان. يأتي هذا المتغير أيضاً بظروف مرتبطة بكل المسار الذي أعقب هجمات حماس في 7 أكتوبر والحرب التدميرية الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة والتي صبت رعبها على «حزب الله» وشيعة لبنان على امتداد الشهرين الماضيين. أما انهيار النظام البعثي فلم تفهمه إسرائيل إلا إجازة لها بتدمير الترسانة العسكرية للجيش السوري والتوغل أكثر فأكثر في الأراضي السورية. لا يمكن فصل المتغير السوري عن كل هذا السياق الحربي الكارثي الذي يكشف مرة جديدة حجم الانفصال بين الشعارات التي يخاض على أساسها الصراع مع إسرائيل وبين مجرى الأمور على أرض الواقع.
لأجل ذلك، القطيعة الجذرية التي يحققها الاندثار الكامل لنظام الطغيان الأسدي الفئوي الدموي تتعايش مع واقع كارثي إقليمي أتاح سقوط بشار الأسد في بضعة أيام، وسقوط حقبة كاملة من تاريخ المنطقة معه، لكنه لا يتيح بالقدر نفسه تأمين الطريق الانتقالي نحو نظام للحرية، خاصة إذا ما جرى الاستسهال، أطناباً، في الحديث عن «استثناء سوري» يعيد تركيب السردية المتداعية مع ضمور «الاستثناء التونسي».
منذ لحظة انفصالها عن دولة الوحدة مع مصر عام 1961 تعيش سوريا مفارقات «الحكم الإثنوقراطي» حكم قوم على بقية القوم. هذا في حين كان نظامها قبل الدخول في تجربة الوحدة يتآكل بفعل التباين الإقليمي بين الشام وحلب. عقب الانفصال، قاد العسكريون المحافظون «السنة» البلاد، ثم جاء انقلاب عسكري من قبل حزب البعث، وسريعاً تصدّر العسكرويون الأقلويون المشهد، وقد ظهر أن الأيديولوجية القومية العربية هي الأداة الأفضل لتغطية الحكم الإثنوقراطي. من وقتها، والكيان السوري يبدو وكأنه لا يستطيع أن يشكل نظامه إلا من خلال سيطرة «رهط من قوم على بقية القوم». منذ عام 1966 دخلت سوريا مرحلة الإثنوقراطية الأقلوية، وبعد ستة عقود نراها الآن تدخل مرحلة الإثنوقراطية الأكثروية.
الإثنوقراطية ليست محصورة في سوريا، بل لها أشكال متعددة في أنحاء العالم. فقد تكون الإثنوقراطية متعايشة مع آليات ومؤسسات ديمقراطية تمثيلية، أو قد تأتي في شكل سلطوي فظ، وقد يغلب عليها نشدان سلم أهلي يشذبها ويكرّسها في آن، أو بخلاف ذلك، كي تجد نفسها غير قادرة ولا حتى راغبة في إنهاء النزاعات المحلية.
المتغير السوري جذري من جهة أن ثمة نظاما لم يفضل منه شيء، لكن هذا المتغير يبدل القطب المتغلب، مع إبقاء السمة الإثنوقراطية للعبة ككل. في الأمر ما يبدو أنه غير قابل للرجعة إلى الخلف، فسوريا لن تحكم بعد اليوم إلا من قبل نخبة «عربية سنية» في المقام الأول. وفي الأمر أيضاً ما هو غير ميسر التقدم للأمام، فهل ثمة مجال لمأسسة الإثنوقراطية الجديدة وبالتالي تشذيبها وجعلها متساكنة مع موجبات إحياء الدولة وطي صفحات الاحتراب الأهلي؟ هذا من دون إغفال أن هناك نموذجا آخر. في أفغانستان، تمكنت حركة طالبان من فرض الإثنوقراطية الباشتونية، ولم تجد أي مقاومة من الطاجيك أو الأوزبك بعد الانسحاب الأمريكي. الأمور يفترض أنها أصعب في سوريا. في النهاية، هناك قطيعة جذرية مع نظام طغيان دموي يجعل أي محاولة لفرض نزعة سلطوية جديدة مصدراً للضعف والتفكك.
أيا يكن من شيء، يمكن أن تتوقع لمن ينادي بالديموقراطية التمثيلية وحقوق الإنسان أن لا يلتزم بها، لكن لا يمكن أن تتوقع لمن لا ينادي بهاتين المقولتين، أن يحققهما ضمنياً.
يبقى أن الدولة ـ ولا بأس بالخروج من «الفصل الميتافيزيقو ـ دستوري» بين مفهومي الدولة والنظام أحياناً، كانت، حتى دخول فصائل المعارضة إلى دمشق، دولة قائمة على إرهاب العدد الأكبر من السكان، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل سيعاد تأسيسها كدولة بشكل يرهب العدد الأقل، أو بشكل ممتنع منهجياً عن استقاء حيثيته من إرهاب أي شريحة من السكان؟
قامت دولة البعث الفئوي على تخويف السكان من البقاء الأبدي للنظام، ومن «كابوس» انهياره كنظام، على تخويفهم من بعضهم البعض أيضاً.
على أي خوف يمكن أن تقوم الدولة الآن؟ هل هناك من دولة أساسا تقوم على اللا ـ خوف؟ أم على تنظيم الخوف؟ تقطيعه، تقسيطه، تداوله؟
عدم إقامتها على الخوف من «رجعة البعثيين» فيه مصلحة أكيدة لجميع السوريين، وهذا لسبب بسيط: لم يبق من الأسدية شيء قابل لأن يرجع. كلما كان بالمقدور عدم رؤيتها مجدداً في المنامات كلما كانت الرؤية أكثر تروياً، ورحمة، وأوضح.
من الضرورة في الوقت نفسه، عدم إقامتها على وهم البحث عن «اللاخوف المطلق» أيضاً. قد يكون بالإمكان تنحية الكثير من تصورات توماس هوبز حول العقد الاجتماعي والدواعي اليه، إلا أنه لا يمكن تنحية دور الخوف، والخوف من الخوف، في المسارعة في اتجاه هذا العقد، وهو ما احتل مكانة أساسية في فكر هوبز.
القدس العربي،
—————————–
ملاحطات/ برهان غليون
من المؤكد ان هيئة تحرير الشام ليست القوة التي يمكن المراهنة عليها لصناعة الديمقراطية، لكن من دون كسرها الحلقة المقفلة التي وضع الاسد السوريين فيها، وهو هدف لايزال لم يكتمل بعد، لن تكون هناك سياسة ولا امل في التغيير. من يراهن عليها لتحقيق الديمقراطية ساذج، لكن من يوجه حرابه الان نحوها بدل العمل الجاد على بناء القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على التقدم نحو الديمقراطية لا يساعد على تعبيد الطريق نحو الهدف المنشود، وربما يدفع إلى العكس من ذلك تماما. الديمقراطية يصنعها الديمقراطيون بمقدار ما ينجحون في تنظيم صفوفهم والتحول إلى قوة شعبية فعالة وهو ما يستدعي بلورة اجندة سياسية وخطة وتكتيكات وأساليب عمل سليمة،واقعية وناجعة ويحتاج إلى وقت ووعي وتضحيات كبيرة من قبل النخب الاجتماعية المتناحرة.
والمقصود ان الديمقراطية لا تصنعها السلطة، اي سلطة، حتى لو ادعت الديمقراطية او امتلكتها قوى سياسية تتبنى مفاهيمها، وانما المجتمع بمقدار ما ينجح في توليد قوى منظمة وفاعلة تراقب السلطة وتتدخل لتقويم عملها. وهذه هي الضمانة الوحيدة. تماما كما ان الجسم من دون عضلات يصبح هيكلا عظميا لا يستطيع الوقوف ولا السير على الأقدام . ومهمتنا اليوم بموازاة تغيير السلطة بناء المجتمع اي القوى السياسية والنقابيّة والمدنية على مختلف أنواعها. وهذا يعني ان جذور الديمقراطية وحمايتها تكمن في المجتمع اساسا وليست الدولة سوى التعبير الشفاف عنها. هذا انتقاد للمتعجلين والمتعلمنين “سكر زيادة” وليس العكس.
الفيس بوك
————————–
التغيير السوري الذي يغيّر وجه الشرق الأوسط/ ماجد كيالي
لا يمكن النظر إلى ذلك التغيير إلا باعتباره خطوة إيجابية لا بد منها
21 ديسمبر 2024
سيكون لانهيار نظام الأسد آثاره الكبيرة على مجمل الشرق الأوسط، وبخاصة في بلدان المشرق العربي، لأسباب عديدة، ضمنها أن ذلك النظام الفظيع والمهول في بشاعته وقسوته، كان طوال ستة عقود فاعلا سياسيا سلبيا، في مجمل التحولات السياسية في تلك المنطقة، وبمثابة سد هائل يحجز إمكانيات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سوريا وفي المجتمع السوري، إضافة إلى أنه تحكّم أو أثر على نحو كبير، كسلطة وصائية غاشمة بلبنان وبالفلسطينيين، وحتى بفضاءات السياسة العربية، بادعاءاته وابتزازاته ومزايداته.
بديهي أنه من المبكر ومن الصعب، في هذه الفترة العصيبة، والأحداث والمداخلات المعقدة، التكهن، بطبيعة أو باتجاهات التغيير الحاصل في سوريا. بيد أنه رغم ذلك لا يمكن النظر إلى ذلك التغيير إلا باعتباره خطوة إيجابية لا بد منها، إذ تم تقويض “نظام الأبد” الأسدي، إلى الأبد، وهذا كان من سابع المستحيلات، وخارج تخيلات السوريين، الذين عايشوا قسوته وخبروا فظاعاته، واغترابه عنهم، إذ أزاح صخرة صلبة مكثت على صدورهم (مع اللبنانيين والفلسطينيين)، طويلا، ما يفتح المجال أمام ممهدات التطور في سوريا، رغم كل التحفظات والتخوفات والمداخلات والتحديات المشروعة.
أيضا، تنبع النظرة الإيجابية للتغيير الحاصل في سوريا من الطريقة الهادئة والسلسة والسلمية التي تم بها، بنأي القوى المعنية عن معارك عسكرية، وعن إراقة دماء، ما بين هشاشة هيكل النظام، وفضح الفساد المعشعش في جسده. كما تنبع من الحفاوة التي استقبل بها السوريون في كل مناطق سوريا التغيير، وهم الذين ظلوا يتوقون للحرية، وهو ما تمثل في نأيهم بأنفسهم عن القيح الذي زرعه النظام في أجسادهم، المتمثل بالخوف من الآخر والكراهية وروح التعصب الطائفي، إذ لم تشهد مدن سوريا اعتداءات على خلفيات طائفية، أو ثأرية، فحتى “موالي” النظام استقبلوا كمندهشين التحول الحاصل، والتفاهة التي تكشف عنها الرئيس الفار، الذي تصرف كشخص مهجوس بشخصه وعائلته المباشرة، ولم يتصرف كرجل دولة، إذ ذهب بالطريقة التي أتى بها، لدى تغيير الدستور، قبل 24 عاما، ببضع دقائق، كي يصبح على قياسه، في ما عرف بسوريا الأسد إلى الأبد، كجمهورية وراثية، أو كمزرعة للعائلة.
الآن، مع ولادة سوريا جديدة، رغم الغموض، والمداخلات المختلفة، الداخلية والخارجية، بشأن قيامها، يمكن ملاحظة أن الشرق الأوسط تغير أيضا، فالتغيير السوري أدى إلى تغيير إقليمي، تمثل أساسا بأفول مكانة ودور النظام الإيراني في المنطقة، من العراق إلى لبنان، إذ كانت سوريا، الأكثر أهمية للنفوذ الإيراني، وبمثابة حلقة الربط الأساسية له.
والمعنى أن تقويض نظام الأسد، أدى، أيضا، إلى تقويض النفوذ الإيراني في المشرق العربي، الذي صعد مع الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، أي طوال عقدين، إذ إن حقبة الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) في سياسات إيران بالشرق الأوسط، التي أدت إلى تخريب بني الدولة والمجتمع في بلدان المشرق العربي انتهت، بعد أن استهلكت، وأدت ما عليها، وبعد أن انكشفت عن أوهام مع شعار “وحدة الساحات”، وقرب انهيار إسرائيل، وادعاء القدرة على تسويتها بالأرض في غضون ساعات أو أيام، إذ نأت إيران بنفسها عن تدمير إسرائيل لغزة، ثم عن الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على لبنان، ثم عن ضرب إسرائيل لسوريا.
في المحصلة فإن تقويض النفوذ الإيراني في المشرق العربي نهائيا، أو تحجيمه، يعني خلاص لبنان من ذلك النفوذ، وخلاصه من طغيان “حزب الله” على الدولة والمجتمع، وربما يشمل ذلك العراق، وحتى “الحوثيين” في اليمن، عاجلا أم آجلا.
على ذلك فإن إسقاط النظام السوري، الذي يعني إسقاط النفوذ الإيراني في بلدان المشرق العربي، يفيد بصعود نفوذ تركيا في المنطقة، وهي المرة الأولى من نوعها، إذ بينما كانت إسرائيل، كقوة إقليمية، تتصدر الهندسة الإقليمية في الشرق الأوسط، في الفترة من 1967-2003، فإن إيران تصدرت ذلك، بفترة سماح، أو بفترة توظيفات، أميركية-إسرائيلية، في الفترة من 2003-2023، أي منذ تسليمها العراق على طبق من فضة إلى لحظة عملية “طوفان الأقصى” (7/10/2023)، فإن تركيا تبدو اليوم في مكانة الصدارة في تشكيل الشرق الأوسط، عبر التغيير السوري، الذي لا شك أن لها اليد الطولى فيه، مع الشعب السوري، الذي بذل كثيرا بمعاناته وتضحياته وكفاحه. (يمكن مراجعة مقالتي في مجلة “المجلة”: “حرب إسرائيل كهندسة جديدة للمشرق العربي”- 9/11/2024)
الآن نحن إزاء دولتين إقليميتين قويتين تتحكمان في المشرق العربي، هما إسرائيل، التي تبدو منتصرة، وفقا للمعطيات الحالية، إذ قوضت المقاومة في غزة، وفرضت هيمنتها المباشرة على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، كما قوضت “حزب الله”، في لبنان، وهشمت النفوذ الإيراني في المنطقة. في المقابل ثمة تركيا، التي تبدو أنها- من مدخل التغيير السوري- قد استعادت اعتبارها كدولة شرق أوسطية قوية ونافذة، ولا يمكن تجاوزها، في المنطقة.
وفقا لكل تلك الاعتبارات، فإن كثيرا من الأمور ستتوقف، أولا، على اتجاهات التغيير السوري، ببناء سوريا كدولة مواطنين أحرار ومتساوين، أو تعثر هذا المسار، بإعادة إنتاج النظام السابق، أو بوجود تفاعلات، داخلية وخارجية، تحول دون قيامة سوريا الجديدة. ثانيا، سيتوقف هذا على شكل العلاقة بين إسرائيل وتركيا، كدولتين إقليميتين تتصدران المشهد، وهي علاقة معقدة، وتسمح بسيناريوهات عديدة. ثالثا، الأمر سيتعلق، أيضا، بمدى استجابة النظام السياسي العربي للتحول السوري، وكيفية التعاطي معه، وأيضا، كيفية تعاطيه مع الدولتين الإقليميتين أي إسرائيل وتركيا، وبالأساس وعي النظام العربي بمصالحه وأولوياته. رابعا، في الغضون ستبقى المنطقة أمام إسرائيل- كدولة استعمارية وعنصرية واستيطانية، وهي في هذه الحال، كدولة متجبرة ومدعومة من الدول الغربية- ستبقى مصدر توتر وعدم استقرار في الشرق الأوسط، ما يعني أن كثيرا من الأمور ستتعلق بمدى استجابتها أو عدم استجابتها، للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
المجلة
———————————–
لا فلول تعزّي الأسد في شتائه الروسي/ عمر قدور
السبت 2024/12/21
بعد مفردة “التكويع” التي شاعت إثر سقوط الأسد مباشرة، راح السوريون (من خصوم الأسد) يستخدمون تعبير الفلول. استخدام التعبير الأول كان أقرب إلى السخرية، وإن حمل الكثير من المرارة إزاء شخصيات عامة ساندت الأسد وهو يرتكب جرائمه، وسارعت إلى التنصّل من مواقفها السابقة على نحو يمكن وصمه بالانتهازية. أما الحديث عن الفلول فلا يستهدف أولئك “التائبين”، وإنما يستهدف فئة غامضة يُحذَّر من نواياها وتحفُّزِها لاستعادة الحكم السابق، ومن ضمن الفئة المستهدفة أفراد قلائل لم يظهروا الندم عمّا مضى، أو لا يرون أنفسهم معنيين بإبدائه.
التحذيرات من الفلول تغذّت مما ظهر كأنه تحفّظ على السلطة الجديدة في دمشق، من قبل حكومات عربية ساندت على نحو خاص الانقلاب العسكري في مصر على حكم الرئيس السابق محمد مرسي، وقد لا تكون بعيدة عن دعم الانقلاب الأبيض في تونس أيضاً. والريبة تجاه حكومات عربية مسنودة أيضاً بما أبدته من حماسة للتطبيع مع بشار الأسد، وكان يمكن لها المضي بعيداً في دعمه لولا العقوبات والتحذيرات الغربية. أبعد من الحكومات العربية، لا تزال المرارة ماثلة في أفئدة الكثير من السوريين مما كانوا يرونه في المحصلة انحيازاً دولياً للأسد، ولا يُتوقّع زوال المرارة نهائياً خلال بضعة أيام أو أسابيع.
إلا أن المخاوف، سواء كانت حقيقية أو يُقصد بها التخويف والترهيب، لا تستند إلى الواقع السوري المختلف حقاً عن تجارب “الربيع العربي” الأخرى، أقلّه حتى الآن. وإذا بدأنا بالجانب الإقليمي، سيكون من السهل القول أن سلطة الأسد لا تشبه سلطة بن علي في تونس أو مبارك في مصر، فمبارك وبن علي لم يتسببا بفوضى إقليمية على النحو الذي فعله الأسد، ولم يكونا عوناً للمشروع الإيراني، ولم يستخدما أسلوب البلطجة الذي استخدمه جزار سوريا حتى اللحظات الأخيرة من خلال إغراق دول عربية بالمخدرات، بعد إغراق بعضها باللاجئين. أي أن المستائين الإقليميين من السلطة الجديدة في سوريا ربما يسعون إلى تغييرها، لكن من المستبعد أن يسعوا إلى إعادة الأسد.
قد يُقال أن فرصة الأسد في العودة معدومة، بخلاف استعادة نظامه التي ستجد لها سنداً في الداخل والخارج. أيضاً هذا قول فيه الكثير من الاستعجال، وعدم التوقّف عند التغيرات التي طرأت على حكم الأسد، منذ دخوله مرحلة التوريث وصولاً إلى السقوط. وأول التغيرات أنه كان من قبل الدخول في التوريث يسعى ليكون نظاماً، ولو بتقليد مبتذل لأنظمة مثل الاتحاد السوفيتي وكوريا الشمالية ورومانيا، بينما تخلّى الأسد الأب عن فكرة النظام منذ قرر توريث ابنه، وصار مطلوباً إفراغ حتى السلطة من أية كفاءة، من أجل تسوية الطريق تماماً أمام ولي العهد، وهذا قلّما يحدث حتى في الأنظمة الوراثية. نسجّل هنا تحفّظاً من ناحية المفاهيم على استخدام تعبير “نظام الأسد”، فهو قد انحدر إلى مستوى لا يرقى إلى “النظام” كما هو متعارف عليه عالمياً، حتى عندما يُستخدم التعبير على سبيل الشتيمة.
من المعلوم أنه تم إقصاء كافة شخصيات السلطة المعروفة في عهد الأسد الأب، حتى إذا كانت تنافس الوريث سوءاً. وأهم ما جرى بالتوازي مع تفريغ المستويين العسكري والمخابراتي هو إطلاق هامش من الحريات الاقتصادية، وهذا كان في المقام الأول ما يحتاجه أصحاب الثروات من العائلة الحاكمة وحاشيتها، فضلاً عن محاولة استمالة شرائح مجتمعية واسعة تضررت من العزلة الاقتصادية التي فرضها الأسد على السوريين. لكن الوريث لم يتأخر في التراجع عن وعود الانفتاح السياسي، بالتوازي مع تراجع وعود الانفتاح الاقتصادي لتستقر فعلياً على حلقة ضيقة تملك اقتصاد البلد، مع شركاء صغار هامشيين سيُقضى عليهم لاحقاً.
بدءاً من عام 2011، مع حالة الاستقطاب القصوى التي أحدثتها الثورة، صارت النواة الصلبة للسلطة متعيّنة بـ”صفوة” المخابرات والجيش، يساندها عدد محدود من الشركاء الاقتصاديين الذين موّلوا ميليشيات الشبيحة، في حين سُجّلت مغادرة معظم الفعاليات الاقتصادية إلى الخارج، وبما يُقدَّر بعشرات مليارات الدولارات. وإذا قفزنا عشر سنوات إلى الأمام، نستطيع اختزال اللوحة بآلة مخابراتية تعمل وفق العادة، إلى جوارها جيش منهك لم يعد يحارب لأن التفاهمات الدولية أوقفت الحرب، مع اقتصاد منهار وعدم وجود نية لدى الأسد وحلقته الضيقة للتخلي عن احتكار الاقتصاد بالمطلق على شاكلة احتكار السلطة.
قبل سنة ونصف من الآن، كان ثمة حديث عن ثورة قد تندلع في الساحل السوري، وعن أن الأسد بذل جهده لتطويقها، وأشار حينها معظم التقديرات إلى فقدانه شعبيته، وإلى توق الناس إلى الخلاص. وكان الواقع قد استقر على نزول النسبة الكاسحة من السوريين تحت خط الفقر، بل تحت خط الجوع، مع نسبة مئوية متدنية جداً فوق الخط تقتصر على شبيحة الأسد بالمعنى المباشر وشركائه في المزيد من استنزاف الذين أفقرهم من قبل.
واحد من المؤشرات الوضيعة على ما كان يحدث ذلك الانخفاض الذي حدث في أسعار السلع ما أن سُحبت حواجز الفرقة الرابعة مع إسقاط الأسد، فتلك الحواجز العائدة لماهر الأسد كانت تتقاضى الأتاوات لصالحه من العابرين، وخصوصاً من الشاحنات المحمّلة بالبضائع. ولا يصعب إيراد العديد من الأمثلة المشابهة، الأمثلة التي تثبت أن رأس السلطة انحدر تماماً إلى مستوى البلطجة وفرض الأتاوات كمهووس بزيادة ثروته.
يجوز لنا تشبيه ما آلت إليه الأسدية برأس ضخم جداً وجسد هزيل إلى أقصى حد، وربما يصحّ أكثر التشبيه برأس ضخم جداً مع أذناب هزيلة. بسقوط الأسد، سيكون من المبالغة الحديث عن أسدية بلا رأس، أسدية يمكن تشبيهها بما يُحكى عن “الدولة العميقة” في مصر، أو حتى عن فلول بن علي في تونس. أي أنه لا وجود لأسدية تعبّر عن شبكة منتظمة ومتنوعة من المصالح، والتعيّن الوحيد الذي يُخشى منه هو المجرمين والشبيحة المهدّدين بسبب جرائمهم، وهم جميعاً أدنى من أن يقيموا نظاماً، إلا أنهم يمتلكون القدرة على إثارة الفوضى الأمنية ما دام السلاح في حوزتهم.
من الضروري اليوم الحذر من الأذناب المستعدين لحرق البلد دفاعاً عن أنفسهم هذه المرة، لا دفاعاً عن الأسد، والذين لا مشروع لهم ولا مشروعية اجتماعية تجعلهم مؤهّلين لاستلام السلطة، وفي أقصى حالات استغلالهم من قوى خارجية، فسيكونون قادرين على زعزعة الاستقرار. ولعل خشية كبيرة ماثلة أمام السوريين، هي فشل السلطة الجديدة وعملية التحوّل الديموقراطي في البلاد، ما قد يصطنع فلولاً للأسد من فئات تأذّت بغير حق من العهد الجديد، أو لم تنصفها الديموقراطية الوليدة. أما الآن فلنا أن نتخيّل الأسد سعيداً في شتائه الروسي، وهو يتابع تخوّف السوريين من ترِكتِه، ويظنّ أنه قد نبتت له فلول من حيث لا يحتسب! لعلها هدية قيّمة جداً لمن هو أقل من أن يُقال عنه “نظام سابق”، أقل من أن تكون له فلول.
المدن،
————————-
اقتصاد سوريا من الاستقلال إلى سقوط الأسد… ماذا ينتظره؟/ عبد الفتاح خطاب
تراجع الناتج المحلي بأكثر من 86% والسوريون الفقراء أكثر من 69%
17 ديسمبر 2024
عانت سوريا خلال فترة الانتداب الفرنسي من أزمات اقتصادية كبيرة، وخصوصا الأزمة الخانقة نتيجة الحرب العالمية الثانية وتوقف الاستيراد، مما جعلها تستند إلى بدائل محلية، فتعززت فيها الصناعة والزراعة. وشهد الاقتصاد السوري بعد الاستقلال عن فرنسا نمواً سريعاً وملحوظاً، فازداد الدخل الوطني من 488 مليون دولار عام 1953 إلى 632 مليون دولار عام 1957.
وتفيد الإحصاءات أن نصيب الفرد من الدخل الوطني عام 1950 كان 102 دولار، ليرتفع إلى 134 دولاراً عام 1953، من ثم ازداد حتى 152 دولاراً عام 1957.
تصدرت سوريا دول منطقة الشرق الأوسط في تلك الفترة من حيث مستوى المعيشة، وكان قطاع الزراعة يعتبر حجر الأساس في تكوين الدخل الوطني بنحو 44 في المئة في معظم سنوات الخمسينات. وحل قطاع التجارة ثانياً بنسبة 16 في المئة، وجاء بعده قطاع الصناعة التحويلية بنسبة 7,15 في المئة، وقطاع المواصلات، وقطاع الإنشاءات، كما ساهمت القطاعات الخدماتية في الدخل الوطني.
ارتفع دخل الصناعة في سوريا بين عامي 1953 و1957، بنسبة 25 في المئة، وفي مقدمها قطاع الغزل والنسيج، إلى جانب الصناعات الغذائية والإسمنت والزجاج.
تحوّل النهج الاقتصادي
على الرغم من الانقلابات المتتالية والوضع السياسي غير المستقر، استمر النمو الاقتصادي في الارتفاع، وكذلك توسع الاستثمار في البنى التحتية.
ثم دخلت الأفكار الاشتراكية إلى سوريا في عهد الوحدة مع مصر، ودخل معها مفهوم سيطرة الدولة على الاقتصاد وعهد التأميم، مما غيّر الواقع الاقتصادي. كما فقدت المنتجات السورية أسواقها الكبرى في لبنان والأردن والعراق والسعودية.
وبدأ تدمير بذور النهضة الاقتصادية على يد حزب البعث الذي شكل 9 حكومات ما بين 1963 و 1970، تم خلالها إصدار قرارات التأميم. ومن ثمّ توالت الضربات المميتة للاقتصاد السوري على يد انقلابين عسكريين بعثيين، الأول في 8 مارس/آذار 1963، تلاه انقلاب 17 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1970 على يد حافظ الأسد.
الواقع الاقتصادي في عام 2024
أدى اندلاع الحرب الأهلية في مارس/آذار 2011 إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بنسبة 54 في المئة. ووفق تقرير للبنك الدولي، قد يكون تأثير الصراع أكبر من ذلك بكثير. وأثرت الاضطرابات المرتبطة بالصراع تأثيراً شديداً على التجارة الخارجية، وأدى انهيار الإنتاج الصناعي والزراعي المحلي إلى زيادة اعتماد سوريا على الواردات، ولا سيما الغذائية منها.
وقال التقرير: “سيظل الاستهلاك الخاص، وهو المحرك الرئيس للنمو، ضعيفاً في عام 2024، مع استمرار ارتفاع الأسعار في تآكل القوة الشرائية. ومن المتوقع أن يظل الاستثمار الخاص ضعيفاً وسط وضع أمني متقلب، وحالة كبيرة من عدم اليقين الاقتصادي والسياسي”.
كما توقع البنك الدولي ارتفاع معدل التضخم إلى 99,7 في المئة في 2024، مما يعني استمرار الأسعار في الارتفاع بشكل كبير، ومفاقمة معاناة السوريين وزيادة صعوبة تأمين احتياجاتهم الأساسية. ومن المتوقع أن يصل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في سوريا إلى 781,90 دولاراً في نهاية عام 2024، وذلك بحسب “ترايدينغ إيكونوميكس” (Trading Economics)، وتوقعات المحللين.
واصلت #الليرة السورية تحسنها، بعد أن تراجعت إلى أدنى مستوى في تاريخها قبيل أيام من إسقاط بشار #الأسد.
وبلغ سعر الدولار 16 ألف ليرة سورية في #دمشق و #الحسكة، و17 ألف ليرة في #حلب، وفق موقع “الليرة اليوم”.#الشرق_سوريا pic.twitter.com/rwDDZh3RgC
— الشرق للأخبار – سوريا (@AsharqNewsSYR) December 10, 2024
واعتباراً من عام 2022، أثّر الفقر على 69 في المئة من السكان، وكشف البنك الدولي في مايو/أيار 2024 أن أكثر من ربع السوريين يعيشون في فقر مدقع، فيما توقع التقرير أن يستمر انكماش الاقتصادي السوري خلال السنة الجارية بنسبة 1,5 في المئة، في مقابل 1,2 في المئة في عام 2023.
لقد “أدى أكثر من عقد من الحرب القاسية إلى تدهور كبير في رفاه الأسر السورية، حيث 27 في المئة من السوريين، أي نحو 5,7 ملايين نسمة، يعيشون في فقر مدقع”، وفق ما نقلت “فرانس برس” عن تقرير البنك الدولي.
يُذكر أن الوضع تدهور أكثر بسبب تأثير الزلزال المدمّر في 6 فبراير/شباط 2023 الذي ضرب شمال سوريا بقوة 7,8 درجات، وتبعه زلزال آخر بقوة 7,7 درجات وعدّة هزات ارتدادية أخرى، حيث أودت هذه الكارثة الطبيعية بحياة أكثر من 59 ألف شخص وجرحت أكثر من 120 ألف شخص وشرّدت الملايين، ودمّرت الآف المنشأت والبنى التحتية. كما ساهمت عوامل خارجية عديدة، بما في ذلك الأزمة المالية لعام 2019 في لبنان، وجائحة “كوفيد – 19″، في زيادة التدهور الاقتصادي في سوريا.
واجه الاقتصاد السوري تطورات متعددة منذ تولي بشار الأسد السلطة عام 2000، فقد بدأ الحكم بوعود بالإصلاح الاقتصادي والانفتاح التدريجي، لكن سرعان ما واجه تحديات داخلية وخارجية، بلغت ذروتها مع اندلاع الأزمة السورية في عام 2011.
الاقتصاد في عهد بشار الأسد
خلال العقد الأول من حكم الأسد، نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي يتراوح بين 4 في المئة و5 في المئة، مدفوعاً بالإصلاحات الاقتصادية المحدودة وزيادة أسعار النفط العالمية.
وبلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو 60 مليار دولار في عام 2010، وفقاً لبيانات البنك الدولي، بالمقارنة مع 18 مليار دولار في عام 2000، وشكل قطاعا النفط والزراعة الركيزة الأساسية للاقتصاد، كما بدأت السياحة والخدمات تشهد انتعاشاً في العقد الأول من حكمه. وفي عام 2011 بلغ الاقتصاد السوري ذروته عند 67,5 مليار دولار.
بلغت الصادرات نحو 12 مليار دولار في 2010، وكانت تتضمن النفط الخام، المنتجات الزراعية (مثل القطن والقمح)، والصناعات النسيجية، ومثّل النفط نحو 30 في المئة إلى 35 في المئة من إجمالي الصادرات. كما استوردت سوريا منتجات متنوعة بنحو 17 مليار دولار في 2010.
الصادرات انهارت
ثم انخفضت الصادرات إلى أقل من مليار دولار سنوياً بسبب العقوبات وتدمير البنية التحتية، في حين ارتفعت الواردات الأساسية من المواد الغذائية والوقود، مع اعتماد متزايد على المساعدات الإنسانية وتوقف أغلب الأنشطة الإنتاجية.
هبط الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 86 في المئة بسبب الحرب، حيث تراجع إلى نحو 8,9 مليارات دولار فقط في عام 2021، وفقاً لأرقام البنك الدولي.
انخفاض في إنتاج النفط
وبلغ إنتاج النفط نحو 380 ألف برميل يومياً في عام 2000، لكنه انخفض تدريجياً إلى نحو 240 ألف برميل يومياً في عام 2010 بسبب تراجع الاحتياطات. وسيطرت الفصائل المسلحة على معظم حقول النفط خلال الحرب، مما أدى إلى انخفاض الإنتاج إلى أقل من 25 ألف برميل يومياً في 2018.
مع استعادة الحكومة السيطرة على بعض الحقول (بدعم من روسيا وإيران)، ارتفع الإنتاج بشكل طفيف إلى نحو 40 ألف برميل يومياً في 2023، وفقًا لتقارير من وكالة الطاقة الدولية (IEA) وأخرى من الأمم المتحدة.
قال رئيس حكومة تصريف الأعمال السورية محمد البشير، الأربعاء، إن “خزائن الدولة خاوية، بعد أن التهم النظام وحده كل شيء”.
وأضاف البشير، في مقابلة مع صحيفة “كوريري دي لا سيرا” الإيطالية، “وضعنا المالي سيئ جداً، ليس لدينا نقد أجبني، ولا يوجد في خزائن الدولة سوى الليرة السورية، التي… pic.twitter.com/UEG2mIme65
— الشرق للأخبار – سوريا (@AsharqNewsSYR) December 11, 2024
وقال البنك الدولي: “بينما كان الإنتاج في انخفاض بالفعل قبل الصراع بسبب تقادم حقول النفط، إلا أن الحرب سرّعت وتيرة الانخفاض بشكل حاد”.
تراجع الزراعة وانهيار السياحة
شكلت الزراعة، قبل الحرب، نحو 20 في المئة إلى 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وكانت سوريا مكتفية ذاتياً في القمح، وتصدّر القطن. وخلال الحرب، تعرض القطاع الزراعي لضربات كبيرة نتيجة النزوح الجماعي، والجفاف، وعدم توفر الموارد.
شكلت السياحة، قبل الحرب، نحو 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2010، حيث جذبت سوريا نحو 8 ملايين سائح سنوياً بإيرادات تزيد على 8 مليارات دولار. لكن قطاع السياحة انهار تماماً خلال الحرب، مع استثناء زيارات دينية محدودة من العراق وإيران.
تدهور الليرة وارتفاع التضخم والديون
كان سعر صرف الليرة السورية، قبل الحرب، مستقراً نسبياً، حيث بلغ نحو 46 ليرة في مقابل الدولار في عام 2010. وفي عام 2023، انخفضت قيمة الليرة السورية انخفاضاً كبيراً بنسبة 141 في المئة في مقابل الدولار الأميركي. ثم شهدت العملة خلال الحرب انهياراً حاداً، لتصل إلى أكثر من 22 ألف ليرة في مقابل الدولار في فجر يوم الأحد الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024.
.أ.ف.ب .أ.ف.ب
أوراق الليرة التركية في التداول في بلدة الدانا، في محافظة إدلب شمال سوريا، 13 ديسمبر 2024.
هذا التدهور انعكس على أسعار السلع والخدمات، حيث ارتفعت الأسعار بصورة جنونية، وشهدت الأسواق نقصاً حاداً في المواد الغذائية الأساسية.
وتشير التقديرات إلى أن تضخم أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 93 في المئة، وقد تفاقم هذا الوضع بسبب خفض الدعم الذي تقدمه الحكومة، وفق تقرير صادر عن البنك الدولي. وبلغ التضخم مستويات قياسية مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية بأكثر من 2000 في المئة. كما انخفض دخل العاملين بشكل كبير، حيث أصبح راتب الموظف الحكومي لا يتجاوز 30 دولاراً شهرياً.
وصرح وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية السوري السابق محمد ربيع قلعه جي، “إن تجريم التعامل بالدولار كان أحد الأخطاء التي أضرت كثيرا بالاقتصاد، فضلاً عن القيود التي فرضها الأسد على حركة الأموال”.
كانت الديون الخارجية قبل الحرب تقدر بنحو 8 مليارات دولار وفقاً لتقديرات البنك الدولي وصندوق النقد، وارتفعت خلال الحرب بشكل كبير بسبب اعتماد الحكومة على التمويل الخارجي من روسيا وإيران.
وفرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات مشددة، خاصة قانون “قيصر” في عام 2020، الذي حد من قدرة سوريا على إجراء المعاملات الدولية.
اقتصاد الكبتاغون
وأوضح البنك الدولي أن اقتصاد سوريا في الوقت الحاضر مدفوع بالكبتاغون، إذ تعد البلاد “منتجاً ومصدرّاً رئيساً” لهذه المادة.
وتقدر القيمة السوقية الإجمالية لـ”الكبتاغون” السوري المنشأ بما يتراوح بين 1,9 مليار دولار و5,6 مليارات دولار سنوياً، وهو ما يعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي لسوريا الذي قدر بـ6,2 مليارات دولار العام المنصرم، حسبما ذكر البنك الدولي في تقريره. وأضاف التقرير أن “الجهات الفاعلة المتمركزة في سوريا، أو المرتبطة بها، تحقق أرباحاً من بيع “الكبتاغون” تصل إلى 1,8 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل تقريباً ضعف الإيرادات المتأتية من جميع الصادرات السورية المشروعة في عام 2023″.
يُعتبر الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 بداية حقبة جديدة، سياسياً واقتصادياً، في مسيرة سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وذلك بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب والعقوبات الأميركية والأوروبية، التي تسببت بحالة من الموت السريري للاقتصاد، وأذابت الناتج المحلي الإجمالي الذي قد يستغرق إحياؤه وقتاً طويلاً، إضافة إلى إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، وإعادة بناء رأس المال البشري والاجتماعي.
وتوقع وزير المالية السوري السابق رياض عبد الرؤوف، ألا يستمر تدهور سعر صرف الليرة طويلاً، معتبراً أنه تدهور مبني في الأساس على ضعف الحياة السياسية والتقهقر السابق. كما توقع أن تكون معدلات نمو الاقتصاد جيدة خلال عام 2025، مشدداً على أن السياسة المالية يجب أن يتم وضعها لصالح الشعب السوري. وتوقع أن تقوم الحكومة السورية المقبلة بمراجعة جميع الاتفاقات.
كما طمأن بنك سوريا المركزي السوريين على ودائعهم، وجاء في بيان: “نؤكد للأخوة المواطنين المتعاملين مع جميع المصارف العاملة بأن ودائعهم وأموالهم الموضوعة لدى تلك المصارف آمنة ولم ولن تتعرض لأي أذى”.
وأشار إلى أن العملة المعتمدة في التداول في سوريا “هي الليرة السورية بكافة فئاتها، ولم يتم سحب أي فئة من التداول”.
فراس كرم فراس كرم
ومن هذا المنطلق وجه بنك سوريا المركزي نداء إلى شركات الصرافة والحوالات الداخلية كافة بضرورة “التزام تسليم الحوالات لمستحقيها بالليرة السورية وفق القرارات النافذة الناظمة لهذا الموضوع”.
وقال بنك سوريا المركزي في بيان اوردته “روسيا اليوم”: “إن المصرف مستمر في عمله، وسيستمر في المتابعة والإشراف على عمل المؤسسات المالية المصرفية وغير المصرفية العاملة وفقا للأنظمة النافذة”.
يرى المحللون أن الاقتصاد السوري يمكن أن يستغرق عقداً من الزمن للتغلب على تداعيات الاضطرابات، شريطة أن تهدأ العواصف السياسية وتحصل البلاد على دعم خارجي.
هل يتعافى الاقتصاد السوري؟
كما يرون أن وجود جالية ثرية كبيرة من المغتربين، واستعداد المنظمات الدولية للتدخل، فضلاً عن أن 70 في المئة من الشعب السوري تحت سن الثلاثين مما يعكس حيوية المجتمع وإنتاجيته، ستتيح لسوريا فرصة لتحقيق الازدهار.
ويمكن لقطاع الطاقة في سوريا المساهمة في عملية بناء الاقتصاد من جديد، فهناك احتياطات نفطية مؤكدة تُقدر بنحو 2,5 مليار برميل. كما يمكن للقطاع السياحي أن يلعب دوراً مهماً، فسوريا تعد من بين أغنى دول العالم من حيث التراث الثقافي والآثار التاريخية.
وتمتلك سوريا ثروات وكنوزا طبيعية هائلة، منها الفوسفات، ومناجم الفحم الحجري في دير الزور، ومناجم الذهب في الشمال، وجبالاً من الرخام والغرانيت الأجود عالمياً. كما تشتهر بزراعة القطن والقمح القاسي العالي الجودة عالمياً، إلى جانب كونها من أبرز الدول في إنتاج الزيتون وزيت الزيتون، وزراعة وتصدير الحمضيات والخضروات.
لا شك أن السنة المقبلة ستجيب عن أسئلة الخبراء الاقتصاديين، ولا سيما اتجاهات اقتصاد سوريا وماذا ينتظر مختلف القطاعات، الناتج المحلي للبلاد ومستوى معيشة العباد.
المجلة
——————————-
قفا نبك من ذكرى سجينٍ!/ سنان أنطون
21 كانون الأول 2024
«إنني لم أكن في يوم من الأيام من الساعين للمناصب على المستوى الشخصي، بل اعتبرت نفسي صاحب مشروع وطني استمد دعمه من شعب آمن به»، نُسِبت هذه الكلمات المضحكة المبكية إلى بشار الأسد، ونشرها موقع الرئاسة السورية على تلغرام، بعد أيام مما لا يمكن أن يوصف إلا بأنه هروب. ليس بشار الأسد أول ولا آخر ديكتاتور يفرّ من قصره ويترك وراءه بلداً دمّرته سياساته. لكنه لم يكلّف نفسه عناء إلقاء خطاب أخير وهو في سوريا يوجهه لشعب يدّعي أو يتوهّم أنّه «آمن به!». وجاء البيان متأخراً، لكن يبدو أن الرئيس كان منهمكاً بترتيب تفاصيل الهروب إلى موسكو التي أخفاها حتى عن الحاشية وأقرب المقرّبين.
ولم يعطِ البعضُ، السوريين ولو فسحة قصيرة للابتهاج بزوال كابوس الديكتاتورية الطويل، فسارعوا للإشارة إلى التحولات الجغراسياسية والترتيبات والصفقات الإقليمية والدولية، التي مهّدت الطريق إلى دمشق، وإلى السجل والماضي الدامي لأبي محمد الجولاني، الذي لا تخفي ماضيه، صورته وشخصيته الجديدة ولا اسمه غير الحركي المستعاد، وإلى أطراف ودول ستجني ثماراً سياسية واقتصادية وستستغل هذا السقوط والفراغ الذي سيعقبه لصالحها بالطبع. وكل هذه لا تجانب الصواب، لكن خطاب هؤلاء خلا حتى من إشارة بسيطة إلى معنى الحدث ووقعه بالنسبة للإنسان السوري، الذي عاش في سجن الديكتاتورية لعقود، والذي دمّرت سياساتها حياته وحاضره. اختزلت مقاربة وخطاب هؤلاء الإنسان السوري وألغت وجوده وماضيه والظلم والخراب اللذين عاشهما.
ذكّرني هذا بخطاب كان رائجاً غداة غزو العراق، الغزو الذي كان كاتب هذه السطور ضده، كما كان ضد نظام صدام حسين، مع اختلاف السياق والظروف، إلا أن هناك قواسم ونزعة مشتركة، فلم يكن بمقدور الكثيرين، ممن يحسبون على اليسار، أن يقفوا ضد الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، من دون أن يغضوا النظر عن جرائم الديكتاتورية في الوقت ذاته. في تلك الأيام، وقبل أشهر من الغزو، وقّع المئات من المثقفين العراقيين في الشتات، ومن بينهم كاتب السطور، على بيان بعنوان «لا للديكتاتورية ولا للغزو» كان يحذر من مآلات الغزو والتبعات الكارثية على العراق والمنطقة. لا شك في أن الولايات المتحدة وحلفاءها من الأنظمة اللاديمقراطية في المنطقة، كانت وستظل، تستغل خطاب التحرر والثورة، وتجيرهما لمصالحها، بل تعمل كل ما في وسعها لتحويل الانتفاضات إلى حروب أهلية. لكن هذا لا يستوجب تبرئة الديكتاتوريات من سجلها الإجرامي وتنزيه الطغاة. كما أن جرائم وفساد الأنظمة التي تعقب الديكتاتورية، لا يمكن أن تستخدم كمساحيق تجميل لإخفاء أو تخفيف بشاعة ما سبقها.
قرأتُ كلمات بشار الأسد عن «المشروع الوطني» الذي يدّعي أنه كان صاحبه (هل «المشروع الوطني» شركة أو مزرعة يرثها المرء من أبيه؟) وأنا أشاهد على الشاشات السوريين والسوريات يبحثون عن أحبتهم الذين لم يظهروا ولم يعودوا، حتى بعد كسر أقفال الزنازين، وفتح الأبواب وإفراغ السجون والحفر بحثاً عن سجون أخرى سرية. وذكّرني المنظر بعراقيين بعيد سقوط النظام العراقي في 2003 انتظروا عودة المغيبين بعد إفراغ السجون وكان يخيل إليهم وهم يمشون في الشوارع أنهم يسمعون صرخات تستنجد بهم من تحت الأرض. لكن الغائبين، الذين لم يعودوا، كانوا قد أذيبوا، أو دفنوا في المقابر الجماعية. وآنذاك، كما هو الحال اليوم، كان الوقوف ضد الاحتلال الأمريكي يمنع الكثيرين من الالتفات ولو للحظة لآلام الأمهات اللواتي تعرّفن على عظام أولادهن وأزواجهن التي نبشت في المقابر الجماعية.
بعض الذين خرجوا من السجون في سوريا فقدوا ذاكراتهم بعد سنين من التعذيب. لكن يبدو أن المسؤولين عن سياسات الأخبار في الفضائيات العربية، يظنون أو يراهنون على أن المشاهدين أيضاً فقدوا مساحات من ذاكراتهم والقدرة على استعادة الماضي القريب. فهذا النظام الذي يبدو وكأنهم فوجئوا بممارساته القمعية وبسجونه ومقابره كان قد أعيد إلى «الحضن العربي» واستقبل بشار بحفاوة حين دعي إلى القمة العربية (وكلما سمعت عبارة «القمة العربية» تذكرت مظفر النواب: قمم قمم!). كما أن سجون هذه البلدان التي تحرص أنظمتها أيما حرص على حرية الشعب السوري ومستقبله تعج بمواطنين يقاسون أنواع العذاب والذل لأنهم حلموا بحرية التعبير وإبداء الرأي ونقد المسؤولين. فبعضهم، مثلاً، يقضي حكماً بالسجن لسنين لأنه كتب تغريدة.
كاتب عراقي
القدس العربي»
———————-
الأجساد العارية في محرقة الأسد/ فاطمة العيساوي
21 ديسمبر 2024
مثال آلاف المتابعين من اللبنانيين والعرب، أمضيت الأيام الأخيرة بعد هروب بشار الأسد وأنا أتفرّج، مرّة بعد الأخرى، على صور المساجين المحرّرين يخرجون من زنازينهم وهم غير مصدّقين أنهم باتوا أحراراً، بعضهم لا يقوى حتى على مغادرة الزنزانة تعباً أو رعباً، وصور الجثث وآليات التعذيب التي لا يمكن تخيّلها حتى في أبشع إبداعات الخيال العلمي. مثل غيري، وعدتُ نفسي بأنني سأتوقف عن الإدمان على هذه المشاهدات، ثم لم أقوَ على ذلك. ثمّة جاذبية لهذه المواد، لعلها في التناقض بين الشعور بالنجاة غير المتوقعة أو الولادة الجديدة من سراديب الموت وهشاشة الأجساد التي هشّمتها آلات التعذيب وتعبيرات الألم الفظيع على ما تبقّى من وجوهها.
ليست الفظاعة التي شاهدناها غير معلومة أو مفاجئة، رغم أن منظمات دولية، مثل “العفو الدولية” (أمنستي) البريطانية، أعلنت أن ما شاهده فريقها في سجن صيدنايا لم يشبه أي شيء شاهده حتى الآن في دهاليز التعذيب في العالم. أجساد مقطّعة مهشّمة معصوبة الأعين قبل أن تُقلع أو تُعدم برصاصة في الرأس، لم ترَ النور منذ سنوات، اقتاتت من فتات غارق في بول الحراس الذين يمارسون التعذيب من أجل التسلية ثم يعودون إلى عائلاتهم آباء محبّين سعداء. زنازين مكتظّة بالنزلاء يتناوبون على الجلوس وينامون بعضهم فوق بعض في ما يشبه كوم الجثث. أدوات تعذيب لم يكن لأي فيلم رعب أن يتخيّلها، من الجلد إلى نزع الأظافر والتعذيب بالكهرباء والاغتصاب، إلى آلة كبس الجثث الرهيبة وغرف تذويب الجثث بالأسيد. لا نعترف بأننا كنا دوماً نتعايش مع كل هذا الرعب، رغم أننا كنا نعرف أنه موجود. قدّمت “وثائق قيصر” دليلاً على تعذيب واسع، عبر توثيق عشرات الآلاف من الصور لجثث ضحايا التعذيب سرّبها إلى الخارج المصوّران الرسّميان المنشقّان عن النظام “قيصر” و”سامي”، بعدما تمكّن قيصر من الفرار من سورية في عام 2014. باتت هذه الصور التي كان تهريبها مغامرةً شديدة الخطورة جزءاً من “لائحة الاتهام” ضد الأجهزة الأمنية التي كانت تابعة للأسد. في شريط جرى تداوله أخيراً، يقول سامي، واسمه الحقيقي أسامة عثمان، بعدما قرّر أخيراً الكشف عن هويّته الحقيقية، إنه غير قادر على وصف تأثير الصور التي كان يلتقطها يومياً لأعداد كبيرة من الضحايا، ومنها صور لجثث انتُزعت عيونها وآثار الدماء على وجوهها؛ ما يدلّ على أنّها كانت لا تزال على قيد الحياة عندما انتُزعت عيونها، وصور جثث نساء بينهنّ طفلة بعمر السابعة أو امرأة في السبعينات أُعدمتا بتهمة الانتماء إلى جماعة إرهابية.
تمكّن، في أغسطس/ آب 2013، مصوّر النظام المعروف بالكود الأمني “قيصر” من تهريب 530275 صورة لضحايا تعذيب في سورية. معظم هؤلاء كانوا موقوفين في نقاط للاستخبارات في دمشق بين مايو/ أيار 2011 وأغسطس/ آب 2013، عندما هرب قيصر من سورية. وكانت منظمة “هيومان رايتس ووتش” الحقوقية قد أصدرت تقريراً تحقّق من وثائق قيصر عبر إجراء مقابلات مع 33 من أقارب وأصدقاء الضحايا و37 معتقلاً سابقاً شاهدوا أشخاصاً يموتون في المعتقلات وأربعة منشقّين عملوا في المعتقلات الحكومية أو المستشفيات العسكرية السورية حيث التُقطت هذه الصور. وتمكّنت المنظّمة، عبر استخدام صور الأقمار الصناعية وتقنيات تحديد الموقع الجغرافي، من إثبات موقع التقاط صور الضحايا. قدّمت هذه الصور أدلّة أكثر من كافية على وجود انتشار واسع النطاق للتعذيب، يتجاوز الحالات الفردية. مئات الشهادات خرجت بعد سقوط النظام في الأيام القليلة الماضية من ناجين وأهالي ضحايا عن تعذيب وحشيّ يفوق الوصف. ومنها انتقلنا أخيراً إلى معلومات بشأن مقابر جماعية منتشرة في مناطق مختلفة من البلاد. وقد كشف تقرير للقناة البريطانية الرابعة عن مقبرة جماعية لأكثر من 150 ألف ضحية في منطقة القطيفة، في ما اعتبره التقرير أكبر مقبرة جماعية في القرن الحادي والعشرين. ينقل التقرير عن أفراد تولّوا مهام نقل الجثث أو ردمها حديثهم عن أشكال مختلفة لعلامات التعذيب على الأجسام، أغلبها رصاصة في الرأس وتعصيب العيون. بحسب شهود رافقوا عمليات نقل هذه الجثث، كانت حافلات البرادات المثلجة تنقل الجثث طوال اليوم، في حين تطمرها فرق خاصة للتخفيف من رائحة الموت المنبعثة من الجثث المتفسّخة. يقول أحد العاملين في طمر هذه الجثث إنهم اضطروا يوماً إلى استدعاء خدمات الإطفاء، لتفكيك حوالي مائة جثة ملتصقة بعد تجمّدها في كتلة واحدة. يقول رئيس البلدية السابق إن الجميع كانوا على علم بعمليات دفن جثث الضحايا في المنطقة، إلا أن أحداً لم يكن يقوى على أن يتحدّث أو حتى أن ينظر إلى عمليات طمر الجثث.
لن تستعيد الجثث المشوّهة مقطعة الأطراف المجمّدة في عتمة الثلاجات أو المذوّبة في الأسيد إنسانيّتها التي فقدتها في التعذيب. صور المختفين التي علّقها أهاليهم في الساحات العامة، في محاولة للتحرّي عن مصيرها، هي ما تبقّى من هذه الإنسانية. ولعل المحاولة الأكثر تعبيراً لمنح هذه الأجسام القليل من الاعتبار حملات السخرية العابرة لصفحات “السوشيال ميديا” السورية، والتي تنشر وتعيد نشر صور الأجساد شبه العارية لعائلة الأسد، وقد عُثر عليها في ألبوم الصور العائلية في قصر الهارب وعائلته. في عريّها البشع والخالي من أي حرارة إنسانية، تبدو أجساد الديكتاتور وأفراد عائلته خالية من أي سطوة، هزيلة، بشعة، مثيرة للسخرية والنكات، عوضاً عن الرعب. من المضحك أن تبدأ عملية تحرير الناجين من الخوف وعملية إعادة بعض الإنسانية لمن قضوا في هذه الوحشية غير المتصوّرة.
فقدنا، في المقابر الجماعية السورية، بعض إنسانيتنا مع الضحايا. لا مجال للادّعاء أننا لم نكن نعرف، وأنه كان من الصعب تخيّل حجم التعذيب وأشكاله. العدالة للضحايا ولأجسادهم التي تحمّلت عذاباً لا يوصف هي العنوان الوحيد الذي يستحقّ الهمّ والاهتمام اليوم بعد سقوط الطاغية. ولعل في هذه العدالة استعادة لبعض من إنسانيتنا المفقودة أيضاً.
العربي الجديد
————————–
ثلاث مطبات في طريق الانتقال السياسي السوري/ فراس فحام
السبت 2024/12/21
ما إن طوت سوريا صفحة نظام بشار الأسد الذي هرب من البلاد دون إعلان تنحي أو نقل للسلطة، تحولت أنظار مختلف المكونات السورية وأنظار الفاعلين الدوليين باتجاه عملية الانتقال السياسي، حيث لا يُخفِ الكثيرون مخاوفهم من استئثار هيئة تحرير الشام وحلفائها، الذين حسموا مصير النظام عسكرياً بالسلطة، على الرغم من كل التطمينات التي تصدر عن الهيئة بأنها ترغب بتسهيل مشاركة الجميع في الحياة السياسية، وعدم إقصاء أي مكون.
في الحديث عن الانتقال السياسي ومستقبل نظام الحكم في سوريا، تبرز ثلاث مطبات في الطريق، ومن غير الواضح ما إذا كانت هناك قدرة على تجاوزها في المدى المنظور، والمطب الأول، هو المرجعية التي سيتم الاستناد إليها في عملية الانتقال السياسي، والثاني، متعلق برفع هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية، أما الثالث فهو مصير قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الذي لا يزال يسيطر على غالبية حقول النفط شمال شرق سوريا، ويحظى بغطاء سياسي أميركي.
الخلافات حول القرار2254
يتمسك مجلس الأمن بأن يكون القرار 2254 هو المرجعية التي يجب أن تستند عليها العملية السياسية في سوريا، الذي ينص على إجراء عملية سياسية بتيسير من الأمم المتحدة تشميل الجميع، وتحديد جدول زمني لصياغة دستور جديد ثم تنظيم انتخابات حرة ونزيهة في غضون 18 شهراً من تاريخ إقرار الدستور.
أحمد الشرع المتصدر للإدارة الجديدة في سوريا طالب بدوره المبعوث الأممي غير بيدرسون خلال اللقاء معه منتصف كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بإجراء تعديلات على القرار المذكور، مراعاة للتطورات التي طرأت على الأرض، حيث تمت صياغة هذا القرار في وقت كانت سوريا تعيش الصراع بين النظام والمعارضة، وهو أمر لم يعد موجوداً الآن بعد سقوط النظام بعملية عسكرية.
المعارضة السورية السياسية خصوصاً هيئة التفاوض بمختلف مكوناتها، هي الأخرى تميل إلى إجراء عملية سياسية برعاية الأمم المتحدة ووفق القرار 2254، وفيما يبدو أن هذا الخيار الوحيد الذي يتيح لها المشاركة في مستقبل البلاد السياسي فهي عولت طيلة السنوات الماضية على الموقف الدولي ولا تمتلك بعداً شعبياً داخل سوريا.
المعلومات في أوساط الإدارة الجديدة أو ما يسمى بحكومة “تصريف الأعمال”، تشير إلى الإعداد لإطلاق مؤتمر وطني سوري جامع، مع إعلان دستوري ينهي العمل بالدستور القديم، في خطوة تهدف إلى رسم معالم المرحلة الانتقالية بصورة مختلفة عن المحددات التي يتضمنها القرار الأممي الخاص بسوريا.
مصير قسد
وفقاً للمعلومات، فإن الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري حاليا (تركيا – الولايات المتحدة – روسيا)، متوافقون على ضرورة اشتراك المكون الكردي في المرحلة الانتقالية، لكن لا يوجد تصور واضح حول الكيفية حتى اللحظة، حيث يعتبر تنظيم قسد الذي تعتبره أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني، هو أقوى مكون كردي في ظل إقصائه لباقي التكتلات وعلى رأسها المجلس الوطني الكردي الذي عانى من التضييق على نشاطه في المحافظات السورية التي يقطنها الكرد.
يدور الحديث حالياً عن استيعاب مختلف مكونات الشعب السوري من خلال إقرار لا مركزية إدارية وليس سياسية، مما يتيح إدارة محلية بهوامش مرتفعة، بالمقابل تتولى السلطة المركزية الأمن والدفاع عن البلاد والسياسة الخارجية.
عموماً، يبدو أن خيارات قسد تضيق مع الوقت في ظل بوادر التفاهمات الدولية حول الملف السوري، خصوصاً مع ظهور مؤشرات على دعم واشنطن لفكرة إدماج الأكراد في الحل السياسي السوري وعدم الموافقة على استمرارهم على شكل إقليم منفصل، فقد أكدت الخارجية الأميركية بتصريحات صدرت عنها أمس، أن الظروف التي دفعت الأكراد لحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم في سوريا تغيرت، كما طالبت الخارجية الألمانية أيضاً بنزع سلاح الجماعات الكردية ودمجهم ضمن الجيش الوطني السوري مستقبلاً.
من غير المؤكد ما إذا كانت قسد ستستجيب لمساعي إدماج المكون الكردي ضمن الدولة السورية، خصوصاً إذا ما توفر لها خيارات إقليمية تتيح لها المزيد من المناورة مثل الدعم الإيراني على سبيل المثال، حيث يوجد مؤشرات على رغبة إيرانية باستخدام هذه الورقة في مواجهة تركيا، سواء في العراق عن طريق الاستمرار في دعم حزب العمال الكردستاني، أو في سوريا من خلال تمرير بعض الدعم لقسد، لكن هذه الآمال قد تتبخر نهائياً في المستقبل مع استلام ترامب لإدارة البيت الأبيض رسمياً بداية عام 2025، والتوقعات بأن ينتهج سياسة متشددة ضد نفوذ إيران في العراق أيضاً.
الوضع القانوني لتحرير الشام
على الرغم من إعلان وزارة الخارجية الأميركية بأن قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، لم يعد مطلوباً للجانب الأميركي، وإلغاء المكافأة المالية المخصصة لمن يدلي بمعلومات حوله إثر لقاء باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية معه، لكن لا يوجد مؤشرات على توجه واشنطن لإزالة الهيئة من قائمة المنظمات الإرهابية، كما أن تصنيفها مستمر ضمن الأمم المتحدة، وهذا ما سيثير جدلاً واسعاً في الأوساط السورية حول إشراف الهيئة على عملية الانتقال السياسي.
من الواضح أن المسألة مرتبطة بالمصالح السياسية، وهذا ما أشار له مسؤولين أميركيين تحدثوا لوسائل الإعلام عقب إنهاء ملاحقة الشرع، فقد أكدوا أن الأمر سياسي ومرتبط بالمصالح الأميركية، وبالتالي قد نكون أمام قائمة من المطالب الأميركية والغربية لتحرير الشام مقابل إزالتها من قائمة المنظمات الإرهابية، أبرزها العمل على إنهاء النفوذ الروسي في سوريا، وهذا ما تدركه موسكو أيضاً حيث بدأت بالحديث رسيماً عن مراجعة مسألة تصنيف الهيئة هي الأخرى، كما أوضح بوتين أن الفصائل التي هزمت الأسد عسكرياً تغيرت ولم تعد إرهابية والغرب يتواصل معها.
سيتعين على سوريا انتظار الإدارة الأميركية الجديدة لتتضح معالم التعامل مع الملف السوري، وما إذا كانت ستفضل تركه للأطراف الإقليمية الحليفة معها مثل تركيا، أو ستنحاز للرؤية الإسرائيلية بخصوص الملف، وبناء عليه ستمارس ضغوطات مكثفة لإعطاء دور أكبر للأقليات مع العمل على تقويض سلطة التيارات الإسلامية.
المدن،
—————————–
أيها السوريون: لا تصغوا لهؤلاء المحرضين المفضوحين!/ د. فيصل القاسم
21 كانون الأول 2024
ما أن سقط النظام الذي جثم على صدر الشعب السوري لأكثر من نصف قرن، حتى راح بعض المتضررين من سقوطه خارج سوريا يحاولون دق الأسافين بين مكونات الشعب السوري لعلهم ينتقمون للنظام الساقط بإشعال الجبهة الداخلية في سوريا وتحويل فرحة الانتصار التاريخي العظيم إلى حرب أهلية ومن ثم إلى تقسيم سوريا على أسس طائفية وعرقية. وبالرغم من أن الأيام الأولى ما بعد السقوط مرت بهدوء وسلام ووئام لم يسبق له مثيل في تاريخ المنطقة، إلا أن بعض الأصوات المغرضة والمعروفة بولاءاتها المشبوهة لأعداء سوريا، بدأت تعزف على الوتر الطائفي، وتنشر الإشاعات، وتختلق وتفبرك قصصاً ليست موجودة إلا في مخيلاتها الحاقدة، فلفقت مثلاً أخباراً عن اعتداءات على بعض الأقليات، وذلك لإفساد الجو الاحتفالي، وثانياً لإرباك الوضع الداخلي وتحويل الأنظار والاهتمام إلى صراع داخلي مزعوم. لا بل إن بعض المفضوحين بدأ يصدر بيانات هزيلة يدعو فيها إلى حماية الأقليات ومناصرتها، بينما الهدف الأساسي من هذا التحريض المفضوح هو خلق بيئة تسمح لاحقا بتفكيك سوريا وتقسيمها لصناعة دويلات طائفية وعرقية يحلم أعداء المنطقة بإقامتها، لكن تلك الأصوات والجهات التي تقف وراءها بدت من خلال تدخلها السافر في الوضع السوري، سخيفة لا بل غبية جداً في لعبة الفبركة والتحريض، بدليل أن بعض وكلائها اضطروا إلى حذف بياناتهم ومنشوراتهم بعد أن اتضحت صبيانيتها وركاكتها وأهدافها المفضوحة.
لقد غاب عن بال المحرضين على اقتتال طائفي في سوريا بعد التحرير أن ورقة الأقليات لم تعد تنطلي على أحد، فقد استغلها المستعمر من قبل، وعانت الأقليات بسببها كثيراً وأدركت متأخرة أنها كانت مجرد أداة لتحطيم البلدان وتقسيمها خدمة للأطماع والمخططات الاستعمارية القذرة. ثم جاءت بعض الأنظمة الطائفية الأسوأ من الاستعمار بعشرات المرات كالنظام السوري الساقط ليلعب بالورقة الطائفية مرة أخرى لحماية نفسه وللظهور بمظهر النظام العلماني الذي يدافع عن الأقليات في وجه الأكثرية المسلمة. وقد نجح النظام جزئياً في استخدام تلك الورقة لفترة من الزمن حتى اندلعت الثورة السورية، ومع أنه استخدم كل الأساليب المخابراتية القذرة للتلاعب بالورقة الطائفية، إلا أن أساليبه المفضوحة فشلت لاحقاً بعد أن أدرك السوريون عموماً والأقليات خصوصاً أن النظام البائد كان يحتمي بالأقليات ولا يحميها. لقد صنعت المخابرات السورية شعارات كاذبة مثل «العلوي عالتابوت والمسيحي عبيروت» لتخويف الأقليات وجعلها تصطف مع النظام ضد الأكثرية، وكانت مخابرات بشار الهارب تدعي أن تلك الشعارات كتبها المتطرفون المسلمون في سوريا، بينما الحقيقة أن كل الشعارات واللافتات الطائفية كانت تخرج من أقبية المخابرات السورية التي شاهد العالم كله قذارتها ووحشيتها وهمجيتها قبل أيام. ولعل أكثر المتضررين من اللعبة الطائفية في سوريا كان العلويين الذين استخدمهم النظام كمخلب قط وضحى بمئات الألوف من شبابهم ورجالهم بحيث أصبحت الطائفة العلوية طائفة بلا رجال كما وصفتها إحدى الصحف قبل سنوات.
وقد تبين لاحقاً أن أكبر نسبة من المسيحيين في سوريا خرجت من البلاد كانت في عهد حافظ الأسد ومن بعده عهد بشار، ولم يبق منهم سوى بضعة ألوف، مع أن النظام كان يصور نفسه للخارج على أنه حليف المسيحيين وحاميهم الأول. وفعل الشيء نفسه مع الدروز حيث كان يدفع بشبابهم خارج البلاد كي لا يشكلوا خطراً عليه. وبالتالي، فإن الأقليات في سوريا باتت بعد سنوات من المتاجرة بها من قبل النظام واعية تماماً للعبة الطائفية، ولم تعد تمر عليها لعبة حماية الأقليات، لكن مع ذلك لم يفهم الحمقى الذين بدأوا يكررون اللعبة الأسدية قبل أيام أن العزف على وتر حماية الأقليات لم يعد مجدياً أبداً، فراحوا مع ذلك يحاولون مرة أخرى وذلك باتهام السلطة الجديدة في البلد بأنها تستهدف العلويين والشيعة من خلال فبركة أحداث وقصص مبالغ فيها لا تمت للواقع بصلة، ولم يرها أحد أصلاً، وظلوا يضخون أخباراً وتلفيقات لبث الفوضى في الشارع السوري وتأليب الأقليات على السلطة الجديدة. والمضحك في الأمر أن الأبواق التي تدعي الدفاع عن الأقليات اليوم كانت على مدى عقود تغض الطرف عما فعله النظام الساقط بالأكثرية التي قتل وشرد منها الملايين، فهل يعقل إذاً أن نصدق دموع التماسيح التي تذرفها تلك الأبواق اليوم على الأقليات؟ على العموم، عندما بدأنا نتصدى للمخربين على مواقع التواصل ونفضح أكاذيبهم وفبركاتهم، انسحبوا فجأة من اللعبة وحذفوا منشوراتهم، وراحوا يكتبون منشورات جديدة ويوجهون التحية للثورة السورية بعد أن فشلت محاولاتهم المكشوفة للمتاجرة بورقة الأقليات.
لا شك أن فكرة الانفصال عن سوريا قد راودت البعض في مرحلة ما، لكن ليس حباً بالانفصال، بل لأن الجميع ضاقوا ذرعاً بالنظام وما فعله بهم، لكن عندما سقطت العصابة لم يعد لدى السوريين بمختلف مكوناتهم أي نزوع للانفصال أو التقسيم، لأن المسبب والدافع الأول والأخير للتقسيم هو النظام الفاشي القذر الذي لا شك كان ينفذ مخططات خارجية لتحطيم سوريا وطناً وشعباً خدمة لمصالح مشغليه في الخارج، وهم معروفون للقاصي والداني، لكن بمجرد سقوط النظام وجدنا أن السوريين عادوا ليلتحموا ببعضهم البعض بطريقة أذهلت العالم، فاختفت الأصوات الطائفية والمطالبات الانفصالية، وراح الجميع بمن فيهم الأقليات يحتفلون معاً بسقوط أقذر وأبشع نظام عرفه التاريخ الحديث، لأنهم كانوا يدركون أن ذلك النظام الساقط كان عادلاً فقط في توزيع الظلم على الجميع دون أي استثناء، وبأن الأقليات عانت من ظلمه وطغيانه مثل الأكثرية وربما أكثر كما يعترف العلويون أنفسهم الذين كان يستخدمهم آل الأسد كأداة لتثبيت حكمهم لا أكثر ولا أقل. وقد شاهدنا أن أبناء الأقليات كانوا فرحين بسقوط الطغيان مثلهم مثل بقية السوريين، وقد شعر العلويون بنشوة كبيرة عندما تطهرت منطقتهم من تماثيل آل الأسد وأضرحتهم. وقال بعضهم إنهم تخلصوا من أكبر كابوس جثم على أرواحهم لأكثر من نصف قرن، ولا ننسى أن الموحدين الدروز كانوا يتظاهرون في ساحة الكرامة بالسويداء منذ أكثر من سنة مطالبين بإسقاط النظام الغاشم، لهذا أيها الأخوة في سوريا المحررة لا تصغوا لأية أصوات نشاز تصطاد في الماء العكر وتحاول تجريب وسائل وأدوات تحريض وتهييج طائفية أكل عليها الدهر وشرب، وداسها السوريون وداسوا تماثيل مستخدميها تحت أقدامهم في طول سوريا وعرضها.
كاتب واعلامي سوري
القدس العربي،
———————
الجولاني… كلام مجاني وخطاب مكلف/ سامح المحاريق
21 كانون الأول 2024
بعد مجموعة من التصريحات المعدة بعناية لتبعث رسائل مطمئنة لمختلف الأطراف، وفي مقدمتها الشعب السوري، تظهر تصرفات أقل ما يمكن أن توصف بالمقلقة من قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، الذي عليه أن يتحول مع الوقت، إلى أحمد الشرع، لينتقل إلى نسخة مدنية تختلف عن نسخته الجهادية السابقة. داخل رحلته السابقة في الحركات المسلحة التي مثلت طرفا أساسيا من الصراع في سوريا وعليها، كان الجولاني/ الشرع، يتخذ مع الوقت مواقف تميل إلى التخفف من التطرف، وأتى أكثرها وضوحا رفضه للانضواء تحت مظلة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهو الأمر الذي يوضح براغماتيته التي وصلت إلى ذروتها في إجابته الذكية والمراوغة لشاشة قناة «بي بي سي» مقابل سؤالها المفخخ حول السماح باستهلاك الكحول في سوريا الجديدة، مجيبا بأنه ليس من حقه التحدث عن ذلك، لأنها مسألة قانونية، مردفا أنه لا ينوي تحويل سوريا إلى نسخة من أفغانستان.
يعيش الجولاني تحت إضاءة ساطعة، فالجميع يترقب تصريحاته، ويعمل على تحليلها وقراءتها بعناية، السوريون يعرفون أنها سترسم شكل حياتهم لسنوات مقبلة طويلة، والمجتمع الدولي يريد أن يبني تصورا حول خططه المستقبلية، ليتمكن من تحديد مواقفه تجاه سوريا، ولكن وسط الكلام الجميل الكثير الذي يطلقه الجولاني تأتي مجموعة من الأفعال المقلقة والصادمة، التي تؤشر إلى وجود تناقض داخلي بين تصريحاته وتصرفاته، وأنه يعمل بصورة واعية على استثمار الكاريزما الشخصية، التي مكنته من الاستحواذ على موقعه المتقدم في ظل مسيرة مركبة ومعقدة بين التنظيمات المسلحة، ليتمكن من تحقيق غاية هي ليست واضحة تماما حتى اليوم، حتى بالنسبة له.
ولأن الجولاني ليس وحده، فهو لا يستطيع أن يفرض إرادته الكاملة، وهي مسألة متعذرة تقريبا في جماعات ذات طبيعة انشقاقية، تجعل فكرة التشظي والصدام الداخلي قائمة بصورة مستمرة، فيلجأ إلى مهادنة جماعته، ويدفعهم إلى تشكيل حكومة جديدة بعد تصريحات أولية توجهت للإبقاء على حكومة النظام السابق مع محمد الجلالي الذي أبدى تعاونا مع هيئة التحرير، وبظهور محمد البشير رئيس الحكومة الجديدة، كان يتوجب الانتباه إلى أن الجولاني صاحب الإطلالة التلفزيونية المناسبة، وراءه الكثير من الغرف المغلقة وبعضها مظلم وغامض، فالبشير يبدو أكثر تمثيلا للتحفظ، وأن قوة ما طرحته ليزاحم الجولاني ويذكره بأن الهيئة تتشكل من عشرات الآلاف من الأشخاص الذين ليسوا بالضرورة ينتظرون الكلمات الملهمة من الجولاني الذي يعرفونه أكثر مما يعرفه السوريون وأي طرف آخر في المنطقة العربية وخارجها. هو ليس صاحب القرار الأخير، ولكن الهيئة تعرف أنه الأكثر ذكاء وقدرة على التعامل مع العالم الخارجي، وما يجري حاليا هو تحديد لشكل الاشتباك المقبل، الذي سيتطور مع تفاعلات الهيئة مع السوريين خلال الأسابيع المقبلة، وملايين السوريين هم الآن أمام سؤال معقد، بين أن يعتبروا الجولاني قدرا جديدا، ويعتنقوا سلوكا سلبيا تجاه حكمه، يشجعه أو يشجع المحيطين به على بناء نظام منغلق ومهيمن، أو أن يستيقظوا من النشوة ويدركوا الفرصة التاريخية أمامهم، ليبدأوا كتابة تاريخ جديد لبلادهم ومجتمعهم.
لم يترك الأسد الهارب وراءه شيئا، لم يترك جيشا ولا مؤسسات بالمعنى الحقيقي، وخزائن سوريا خاوية على عروشها، والحديث عن احتياطيات متواضعة للغاية، والفراغ أمام الجولاني يظهر واسعا، ولكن التقدم وفقا للمحيطين به يتطلب أن يبقي على رجاله المقربين، وهو الإغراء الذي يتمدد أمام رجال عاشوا لسنوات في خنادق القتال، ويجدون أمامهم قصورا رئاسية، ومكاتب وثيرة، ومجتمعا يعطي المسؤولين الكثير من الأهمية، ويجعلهم يتقدمون في المناسبات، يتحلق حولهم الانتهازيون والمنتفعون في عملية صناعة الطغيان الممنهج، وفي وسط ذلك كله يخطو الجولاني، ولا يبدو أنه محصن بأي صورة عن التورط في الفخ، فمع إعلان الحكومة السورية، كان شقيقه الأكبر، واسمه ماهر للمفارقة المحزنة التي تعبر عن مكر التاريخ، بين أعضائها، ليبدأ التبرير حول كفاءته وأهليته لتولي المنصب.
يبدو أن ثقافة الجولاني الدينية – شأن كثير من أعضاء الجماعات الإسلامية – انتقائية إلى أبعد الحدود، فهو يقع في الشبهات التي يمكنه أن يتجنبها، ويفوت ضرب المثل بترفعه عنها، ولكن تركيبة الخوف والشعور بعدم الاستحقاق ومعرفة أن وجوده في السلطة، تأتي نتاج لحظة ارتباك تاريخي عادة، وليست تسلسلا طبيعيا لأحداث وتفاعلات تعبر عن المجتمع، تجعل أي شخص يعود إلى حواضنه القبلية وحتى الأسرية، ليحتمي بها وداخلها، عمليا ونفسيا، ويعمق ذلك من غربته تجاه المجتمع الذي يحكمه، وهذا تحديدا ما على الجولاني، ليتسق مع خطابه الدبلوماسي الذي يصدره منذ دخول قواته إلى دمشق، العمل على تقويضه لتصبح الدولة هي الملاذ للجميع، والحائط الذي يمكن الاستناد إليه، وليست الأسرة أو الجماعة أو الطائفة. الابتسامات واللغة الواثقة أمام الكاميرات مسألة يمكن أن يؤديها كثيرون بطريقة أفضل من الجولاني، أي ممثل محترف سيفعل ذلك بطريقة تستدعي التصفيق، ولكن ترجمة الأقوال والتصريحات إلى خطاب حقيقي يشكل أساسا لثقافة جديدة في المجتمع مسألة يبدو أن الجولاني لا يدرك إلى حد كبير أنها تحتاج إلى كثير من الرسائل العملية التي تبعث الطمأنينة أكثر من الكلمات المنمقة والذكية.
*كاتب أردني
القدس العربي
————————–
المتلاعبون بالإعلام… من وراء الحملة الإعلامية ضد أحمد الشرع؟!/ سليم عزوز
21 كانون الأول 2024
لا يجوز لمصر أن تكون خارج الكادر في المشهد السوري، وتترك الأمر لرعونة الأبواق الإعلامية للسلطة!
فالدول لا تخاصم لأسباب أيديولوجية، والنظام الحاكم المصري لديه مشكلة مع الإسلاميين، المنافس الوحيد له على السلطة، لذا فقد اتخذ موقفاً ضد كل الإسلاميين في عموم الكرة الأرضية، فضلاً عن أنه يشعر باهتزاز موقفه بسقوط بشار الأسد!
في بداية الانقلاب عادى حركة «حماس»، والسلطة في السودان، واندفع إعلاميون بالتلفيق والادعاء، يهاجمون الحركة والنظام السوداني باعتبارهما حليفين للرئيس مرسي، دون وعي بمخاطر هذا على الأمن القومي المصري، لكن النظام وجد نفسه مضطراً للتقارب مع السلطة السودانية، ففعل، ليتحول عمر البشير إلى صديق، ثم استشعر أن «حماس» سترتب له مكانة دولية، بحكم سيطرته على المعبر، ومن ثم طلب وساطته، فتقرب منها، وكان بايدن في حملته الانتخابية قد أعلن أنه لن يتحدث مع الرئيس المصري إلا بعد أن يُحدث تغييراً في ملف حقوق الإنسان، لكنه وجد نفسه مضطراً للتواصل معه بدون أن يفعل هذا، طلباً للوساطة!
نست السلطة المصرية كل الدعاية الإعلامية عن أن «حماس» فتحت السجون في أيام الثورة، وأن رجالها اخترقوا الحدود المصرية بسيارات الدفع الرباعي ليلة جمعة الغضب، وأنهم قتلوا الجنود المصريين، واستقبلت قادة الحركة، في وقت كانت فيه تحاكم مجموعة منها الرئيس مرسي بتهمة التخابر مع «حماس»!
وفي الموقف من «حماس»، ومن الحكم السوداني، تم تدارك الأمر، فكل طرف كان بحاجة للآخر، لكن ليس بين سوريا ومصر، علاقة جوار، أو مشترك مثل نهر النيل، أو بوابة مثل معبر رفح، يتحكم بها في أهل غزة، غضباً ورضاء، والسلطة الجديدة في سوريا، مختلفة في الانتماء الديني عن مدرسة الإخوان فلن ترضخ بالقول ولن يُلوى ذراعها، ومع هذه الشيطنة الإعلامية لشخص أحمد الشرع، قد لا يجد معنى للتقارب عندما يستشعر أصحاب الاستيعاب المتأخر للأشياء، أن القطيعة ساهمت في إخراج مصر من ملعب لا بد أن تكون لاعباً أساسياً فيه!
لقد كان جمال عبدالناصر من الذكاء بمكان، بحيث كان من بين المحيطين به، من يمثلون رسل السلام بينه وبين العالم، فمثلا كان علي صبري للتواصل مع روسيا، ومحمد حسنين هيكل للتواصل مع الأمريكان، وهكذا، والسلطة في مصر الآن تفتقر لسمات الدول، فلا يوجد في الحكومة من يصلح للتواصل مع أي جهة خارجية، ويتم قبوله بأريحية مع الجهة المكلف بالتواصل معها!
ومع ذلك ماذا لو امتلك الخيال، وكان رسوله إلى دمشق هو شيخ الأزهر، برمزيته ومكانته، فخطب الجمعة في المسجد الأموي؟ إن السلطة الجديدة ستعتبر حضوره مكسباً، ثم إنه إذا كان الخوف من أن يحسب تأييداً للثورة من الثورة المضادة في مصر، فشخص شيخ الأزهر سيخفف من مظهر التعبير عن النظام المصري، ثم إنه في خطابه سيكون داعية للوحدة، وعدم الاقتتال، والتمسك بحبل الله جميعا.
بيد أن السلطة التي تفتقد للخيال السياسي، دفعت بإعلامها لشيطنة الحاصل في سوريا، وافتعال مشكلات مع السلطة الجديدة.
في الأسبوع الماضي، اندفع أكثر من برنامج من برامج التوك شو، التي تقدمها الأذرع الإعلامية، في إبراز صورة أحد المعارضين المصريين مع الشرع، وكان ثالثهم السياسي التركي ياسين أقطاي، ونشر الصورة خطأ، وتصرف يفتقد للرشد من جانب هذا المعارض، وعلمت أن أقطاي طلب منه عدم النشر، لكنه فعل، في وقت توجد فيه صور للزعيم السوري والسياسي التركي بدون هذا الثالث، بل إن المباحثات بين الطرفين لم تظهر وجود المعارض المصري، فربما اكتفى بهذه الصورة، وربما كانت كل ما تعنيه!
وقد استغلتها هذه البرامج في الهجوم على أحمد الشرع، الذي استقبل من اغتال النائب العام المصري السابق هشام بركات، ولم يكن هذا صحيحاً، فلم يرد اسمه في قضية اغتيال النائب العام ولو على سبيل الخطأ، لكن الإعلام المصري يكذب، لنكون أمام صورة من صور التلاعب بالإعلام، باستخدامه في الاحتيال لتمرير الأكاذيب!
هل مطلوب من الشرع، أو أي شخصية عامة، أن يسأل عن هوية كل من يطلب التقاط صورة معه، ويطلب منه حمل «فيش وتشبيه» والاتصال بالجهات المعنية لمعرفة صحيفة الحالة الجنائية له وسوابقه الإجرامية؟
إنه التربص مع سبق الإصرار والترصد، والذي دفع مذيع قناة «القاهرة والناس» إلى أن يطلب من السلطة المصرية أن تلقي القبض على والدي أحمد الشرع، وهما يقيمان في مصر، حسب قوله، فهل يقيمان فيها فعلا؟!
لا يوجد ما ينفي أو يؤكد أن والدي الشرع في القاهرة، فلماذا في القاهرة وهو كان يحكم المناطق المحررة، التي كانت تقع خارج ولاية حكم بشار الأسد، ومع ذلك يتباكى المتباكون على وحدة سوريا بعد سقوط الأسد؟!
فقد قرأت خبراً يفيد أن الشرع ذهب لبيت أسرته في دمشق، وطلب من محتليه بقرار من النظام البائد اخلاءه، ومنحهم مهلة لذلك، حتى تتمكن أسرته من العودة إليه!
الحاجة لمجموعة إعلامية
وكثير مما ينشر في وسائل الإعلام يؤكد أن «حملة الشرع على دمشق» كانت في حاجة إلى مجموعة إعلامية تتابع ما يذاع وينشر، وترد عليه، تدقيقاً أو تكذيباً، وقد بدا جاهزاً للحكم من أول يوم، وهو ما تبين من خلال التشكيل السريع للحكومة، فلم يكن مشغولاً بالإعلام، حيث يختلف الإسلاميون بينهم ويجمع بينهم عدم الوعي بأهمية الإعلام!
والطواقم الإعلامية هناك، تحولت إلى جمهور، مشغول بنشر الصور من دمشق، عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، أكثر من انشغالهم بتقديم مواد إعلامية، فحتى مذيعات «العربية» في تدافع من أجل التقاط الصور مع الشرع، فقد أفسدت وسائل التواصل الاجتماعي العمل الصحافي، وكم حدث من تلاعب بهذه المنصات، في ترويج الأكاذيب!
في الأيام الأولى لسقوط نظام بشار، بدأ استغلال منصات التواصل في نشر الأكاذيب، ومن الطرف المؤيد للثورة السورية والمعارض لها، وما انتشر انتشار النار في الهشيم، أن الإذاعة السورية منعت إذاعة أغاني فيروز، لأنها (بحسب ما نشر) نصرانية، وأن الشرع قرر عزل القاضيات. ليعتمدها كاتب كبير كعبدالله السناوي في مقال له، وإذا أعتبره البعض أنه فعل هذا عامداً متعمداً لكونه ناصرياً فإنني أستبعد ذلك تماماً، غير أن هذه المنصات أدخلت على كثيرين الغش والتدليس!
موقع الإذاعة السورية نفى منع فيروز بعد أن انتشرت الاشاعة واستقرت، لكنه موقع فقير وبدائي ليس واسع الانتشار، ومن عيب الإعلام الإلكتروني هو أنه يسهل عملية النقل، فلا تعرف أول من نشر الأكاذيب، والمجموعة الإعلامية كان يمكن أن توقف هذا التلاعب الإعلامي عند حده!
حقيقة «القاهرة والناس»
ما علينا، فقد رفع إبراهيم عيسى في قناة «القاهرة والناس» عقيرته مطالباً السلطة المصرية بالقبض على والدي أحمد الشرع (الجولاني)، فكان كالدبة التي قتلت صاحبها، عندما يصور النظام المصري على أنه قاطع طريق، يتصرف خارج إطار القانون، فيأخذ الأهل رهائن، وهي دعاية غاية في السلبية لهذا النظام، من داخله!
من قبل سألت من يملك قناة «القاهرة والناس»، ويتبنى الخطاب الزاعق ضد الإسلام وضد المقاومة الفلسطينية؟ ومن يعرف هيمنة السلطة على وسائل الإعلام لا يمكنه أن يفهم أن مطرب القناة يقدح من رأسه، ويقدم خطاباً يخالف هوى السلطة، فالكل مسير لا مخير، والسلطة أوقفت برنامجه على قناة «أون» لمجرد أنه انتقد رئيس مجلس النواب!
«القاهرة والناس» أنشأها رجل الإعلانات طارق نور، وكانت في البداية تعمل في شهر رمضان فقط، كمنصة إعلانية، وتأتي المادة الأخرى، لخدمة الإعلان فكانت برامجها منوعات، وقد تحولت إلى قناة مستمرة، لبرنامج واحد، فهل هي صدفة أن يكون هذا البرنامج لإبراهيم عيسى بالذات، ولا نعرف عن نور في يوم من الأيام أنه صاحب توجه فكري أو سياسي؟!
وكان عجباً أن الشركة «المتحدة للخدمات الإعلامية» لم تستحوذ على القناة، مع أنها وضعت يدها على القنوات التلفزيونية والصحف والمواقع الإلكترونية، وعلى التلفزيون الرسمي أيضاً، لكن قناة «القاهرة والناس» ليست ضمن هذه القنوات بحسب المعلن، الأمر الذي دفعني للمطالبة بتطبيق القانون بنشر ميزانيتها، لنعرف بالتحديد من كفيل إبراهيم عيسى، ومن يطلقه ينهش في الإسلام وفي المقاومة؟!
في هذا الشهر تم الإعلان عن تحالف بين الشركة المتحدة وشركة طارق نور وقناة المحور لوضع استراتيجية مستقبلية لتطوير المنظومة الإعلامية بما يعود بالنفع على صناعة الإعلام، وفي نفس الخبر تعيين طارق نور رئيساً للشركة المتحدة!
وتقرأ هذا العبث فلا تعرف رأسك من قدميك، فهل طارق نور تحالف مع طارق نور، وهل طارق نور رئيس المتحدة هو ذاته طارق نور مالك «القاهرة والناس»، وأليس هذا يدخل في باب تضارب المصالح، بين مالك قناة ورئيس شركة تملك 17 قناة؟!
إبراهيم عيسى ليس مستقلاً يطل من قناة مستقلة، فلمصلحة من تذهب القاهرة بعيداً بهذا الخطاب غير المسؤول! لا يجوز لمصر أن تكون خارج الكادر!
٭ صحافي من مصر
القدس لعربي
——————————
بشار الأسد… سقوط متأخر/ جمال محمد تقي
21 كانون الأول 2024
انتهى العمر الافتراضي للحكم الأسدي القائم على بعض حطام الطوبوغرافية السورية منذ عام 2011، اما انتهاء صلاحيته الديموغرافية فقد كانت أبعد زمنا، وهي مرتبطة بالطور الثاني للحكم وانطلاقته في ربيع دمشق عام 2000، حيث وعود الأسد الابن بالتغيير، وإنعاش الآمال بالإصلاح، وانتهى بانكشاف زيفها عام 2001، وبعدها تكشير الأسد الابن عن أنياب مستعارة، اثبتت أنها أكثر فتكا من أنياب أبيه، وإذا كان الطور الأول الذي قاده الأب حافظ الأسد منذ عام 1971 قد تميز بتكريس حكم العائلة وحاشيتها للجيش والحزب والدولة، فإن الطور الثاني الذي قاده الابن بشار الأسد تفوق عليه بالسمسرة على مصير الوطن وما عليه، ورهنه بمصير حكمه المتهالك.
أسد في لبنان أرنب في الجولان
كان البيان التبريري لانقلاب الأسد عام 1970 الذي وصفه بحركة تصحيحية لفساد الحكم وضعفه المؤدي لضعف الجيش، ومن ثم هزيمته في حرب 67 واحتلال إسرائيل للجولان، يحمل في طياته ما يبطله، لأن الطاقم الانقلابي ذاته هو من كان يقود الجيش، فحافظ الأسد كان وزيرا للدفاع، ومصطفى طلاس كان رئيسا لأركان الجيش، وعندما انتهت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 خطب حافظ الأسد قائلا: «إننا انتصرنا.. لم تحرر الأرض ولكن حررنا ما هو الأساس، وما لا بد من تحريره أولا، حررنا إرادتنا من كل قيد!»، وفعلا بعد طي صفحة حرب أكتوبر، وتقمص الأسد لدور المنتصر مع إيقاف التنفيذ راح، بحجة البحث عن التوازن الاستراتيجي، يستعرض عضلاته في أرض أخرى غير الجولان، فكان تدخله كطرف ثالث في لبنان في الحرب الأهلية اللبنانية، فزج جيشه عام 1976 لقطع الطريق على تقدم جبهة القوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، على الميليشيات المرتبطة بالمشروع المناهض للمقاومة، وبذلك وقف في خندق إسرائيل المتخندقة أصلا مع الميليشيات المارونية، اغتالت المخابرات السورية كمال جنبلاط زعيم الجبهة الوطنية الداعمة لمقاومة إسرائيل عام 1977، وفي عام 2005 اغتالت الأجهزة السورية رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان وقتها، ما أدى إلى انفجار بركان الغضب اللبناني المتراكم في وجه الوجود السوري في لبنان الذي اصبح دولة داخل دولة، اضطر بعدها الأسد الابن على التقهقر!
لا كرامة وطنية ولا إنسانية!
الشرعية الثورية أو الشعبية لا تتأتى جزافا، أو من خلال الضخ المستدام لزخات متتالية من الشعارات الرنانة والشعبوية، التي ليس لها رصيد ملموس في الواقع المعيش، ومثلها الشرعية الانتخابية أو التمثيلية، فهي الأخرى لا تتأتى بإكسسوارات وديكورات تعكس قشور الممارسة الديمقراطية، ففي غياب حرية التعبير وتكافؤ الفرص، وفصل السلطات وسيادة القانون، لا قيمة حقيقية لكل أشكال الدساتير والبيعة والاستفتاء والانتخاب، وتشكيل المجالس النيابية، لأنها جميعا ستكون مجرد أقنعة مطاطة لاستبداد الزعيم الأوحد، أو القائد الضرورة وحزبه وعائلته وجلاوزته، وأصدق مثال على ذلك ما حدث في سوريا بعد وفاة حافظ الأسد مباشرة، فخلال ربع ساعة اجتمع مجلس الشعب لتغيير المادة الدستورية الخاصة بعمر رئيس الجمهورية لتناسب عمر
بشار الأسد!
لا تتحقق الكرامة الوطنية من دون كرامة المواطن، وبالتالي احترام كامل حقوقه ومن ثم تكريس واجباته إزاء الدولة والمجتمع، فالإخلال بالحقوق سيحتم الإخلال بالواجبات، وفي الدولة البوليسية حيث يكون المواطن ملاحقا متهما حتى يثبت خضوعه واستسلامه لسلطة الحاكم، تنعدم كرامة وإنسانية، الحاكم والمحكوم، وهذا بحد ذاته دافع أصيل للتمرد، والتفريط الداخلي بالكرامة الوطنية والإنسانية يلازم التفريط بهما خارجيا، وفي عينة نظام الأسد تجسد التفريط الوطني والإنساني بوجهيه الداخلي والخارجي، فالأرض محتلة والعدو يهين بغاراته الدائمة، كرامة وسيادة الدولة، وهي تستأسد على المواطن المغلوب على أمره، وما ظهر في سجون الأسد من فظائع، خاصة سجن صيدنايا، يؤكد لا إنسانية أو وطنية نظامه!
من إدلب إلى غزة الجرح واحد
ما يجري في إدلب وحلب وحماة وحمص ودمشق لا يريح إسرائيل، فالثورة التي تملك بوصلة التغيير من التشرذم والتشاؤم والانكسار والخنوع والنزوح نحو التفاؤل والتوحد، واستعادة كرامة وإنسانية الوطن والمواطن ستجعل من سوريا المستقبل، أقوى وأكثر قدرة على صد وردع العدوان، ومن أي طرف كان، إسرائيل تريد اقتتالا داخليا، تريد انقساما وتقسيما، تريد دويلات متصارعة، وهي متأبطة مع حليفتها الكبرى أمريكا لدعم دويلة كردية شرق الفرات، وإن تعذر عليها ذلك فنفخ الروح في الخلايا النائمة للجماعات الإرهابية وتحت أي مسمى قديم أو جديد، أمر وارد لديها، خاصة أن الوجود الأمريكي يتحجج بحراك أشباح من الدواعش الجدد، ربما من جنس الذكاء الاصطناعي الذي يُرهب ولا يرى بالعين المجردة، إسرائيل تتمادى بقصفها المتواتر لأغلب المراكز والمطارات العسكرية في دمشق، لتشوش على الأجواء الصافية التي خلقتها الثورة، إسرائيل تلغي ومن طرف واحد اتفاقية فك الاشتباك الموقعة مذ عام 1974، إسرائيل تتوعد بالتوسع لإقامة منطقة عازلة تتحكم بمساحتها في الجولان، إسرائيل تريد استفزاز وابتزاز الثورة وجرها إلى تطبيع غير مشروط، لكن ثوار سوريا الذين رفعوا علم فلسطين على قلعة حلب يدركون مرامي إسرائيل وسيفوتون عليها فرصة الابتزاز، فردع العدوان ليس محصورا بعدوان نظام الأسد.
إسقاط الأسد لا الدولة السورية
باغت الحراك الثوري المسلح الأخير للمعارضة «ردع العدوان» كل المتصيدين بالوضع السوري بسرعته وإقدامه وحنكته، ولم يمنح الأمريكيين والإسرائيليين فرصة، الإعاقة الاستباقية، بهدف إسقاط مقومات الدولة قبل إسقاط الأسد، من خلال فرض مخارج اضطرارية لتفكيك الدولة، كطرح مشروع فدرلة الملل والنحل كعربون لحسن النوايا، بحجة ضمان حقوق الأقليات، وشرعنة ما هو قائم من حدود لمناطق السيطرة، ولم يمنح الروس والإيرانيين فرصة استبقاء دور للأسد في معادلة سوريا الجديدة، كان الدور التركي والقطري أكثر قربا من نبض الثورة وأكثر حرصا على انطلاقتها المتسارعة لما لذلك من عوائد تخدم عملية فك الاشتباك الضروري لإنقاذ الوطن السوري أولا وعوائده على مشكلة النزوح السوري في تركيا.
عدم حل الجيش وأجهزة الدولة المدنية والتنسيق مع مجلس الوزراء السابق، والسعي لتشكيل مجلس انتقالي يقود عملية الانتقال برمتها، ودعوة كل القطاعات لمزاولة أعمالها، ومناشدة الكوادر والكفاءات النازحة والمهاجرة للعودة من أجل إعادة بناء سوريا الجديدة، كلها مؤشرات على الشعور العالي بالمسؤولية الوطنية والإنسانية لدى المتصدرين للثورة وحاضنتها الشعبية.
كاتب عراقي
القدس العربي»
————————
في فنون “التكويع” السوري وأسبابه/ حسين عبد العزيز
21 ديسمبر 2024
لم يكن مفاجئا اتساع ظاهرة “المكوعين” في سورية، بغض النظر إن كان “التكويع” صادقا، أي يعبّر عن حالة صدق لم يكن صاحبها قادراً في السابق على التعبير عن حقيقة مواقفه أو مزيفا يعكس حالة من الانتهازية الرخيصة، فالحالتان موجودتان في سورية، وإن كانت الثانية الأكثر انتشاراً، خصوصا مع الشخصيات العامة، وتحديدا الممثلين والمغنّين.
شكّل الفن مجالاً هاماً للنظام السوري خلال حكم الأسديْن، فوضع ثقله في الهيمنة على المجال الفني بطريقة ذكية، سامحاً بهوامش تعدّ عالية جدا في بلد يُهيمن فيه نظام دكتاتوري قاسٍ ورَثٌّ. وفي ظل توجيهات سياسية مُضمرة للأعمال الفنية (مسرح، دراما، سينما)، نشأت صناعة فنية في سورية، ونشأ معها نجومٌ سرعان ما وجدوا أنفسهم ضمن المجال التداولي الفني والسياسي للنظام، فنشأ لا شعورٌ أو ربما شعور لدى الفنان يربط كينونته الفنية بكينونة النظام السياسية.
لم يؤدّ غياب المساحة بين النظام السياسي وحركة المجتمع الثقافية والفنية في الحالة السورية إلى قتل حالة الإبداع الفردية والجماعية بوصفها فعلاً فنيّاً في ذاته، وإن أدّت إلى قتل الرسالة الفنية باعتبارها حاملة مضامين معرفية وقيمية عامة، مهمّتها النهوض بالمجتمع والتعبير عن تطلعاته. ولمّا كان الفن يستطيع النطق بما لا يستطيع أن ينطُق به الأفراد والجماعات، فإن الشخوص الفنية وجب بالضرورة، وفق النظرة المعيارية، أن تكون انعكاسا لمضمونها الفني، خصوصا تلك القامات الرفيعة في عالم الفن.
مناسبة هذا القول ما يحدُث في سورية منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، من انقلابٍ حادٍّ في المواقف السياسية، واستخدام عباراتٍ تثير الغثيان. والملفت للانتباه في الحالة السورية، خصوصاً لدى الأسماء الفنية الكبيرة التي دافعت بقوة عن النظام، ظاهرة يمكن تسميتها تقزيم الأنا، في مفارقة غريبة مع ظاهرة الإعلاء الوهمي للذات عند النظام السوري.
على سبيل المثال، ما قاله الفنان دريد لحام، في مقابلته على قناة العربية، إنه لم يستطع في أثناء حكم الأسد التعبير عن مواقفه، ولو فعل ذلك، لكان مرميا في المعتقل. وعندما يقول إن الأسد حوّل سورية إلى الرأي الأوحد بلا أي معارضة، فإنه قد صغّر ذاته، ووضعها مع عموم الناس، وتوجيه الانتقاد إلى الخواص ليس مثله عند العوامّ.
لو صدر هذا الكلام عن شخص من عموم الناس لكان مفهوماً ومبرّراً، أما أن يصدر عن قامة فنية عالمية مثل دريد لحام، فهذا أمر غير مفهوم وغير مبرر، فالشخصيات العامة الكبيرة، كالمفكرين والسياسيين والفنانين والأدباء، وجب بالضرورة أن تكون لديها منظومة معرفية تتولد عنها بالضرورة منظومة قيمية تأخذ موقفا من العالم الذي تعيش فيه، فكيف الحال بنظام قتل الحياة السياسية والاقتصادية في سورية وارتكب جرائم مروّعة بحق الشعب لعقود خلت.
ينطبق الأمر على المغنية الكبيرة ميادة الحناوي التي مثلت ما بقي من زمن الفن الماضي الجميل، فوقفت داعمة للنظام السوري طوال حياتها، بل وغنت للأسد الأب، وأعلنت أن ليس لديها مانع من أن تغنّي للأسد الابن، رغم المجازر التي ارتكبها. غير أنها سرعان ما قلبت مواقفها السياسية لتعلن بعد هروب الأسد أن “الشعب السوري مر بحقبة كثير صعبة وطاغية، مثلي مثل الناس أنا كنت يعني ما بنعرف شي أبدا”. وهذا كلام غريب وغير مفهوم لقامة فنية أن تقول إنها لا تعرف شيئا عما جرى في سورية، وهي إذ فعلت ذلك، فإنها على غرار دريد لحام موضع نفسها في مكان متدنٍّ على المستوى المعرفي لا يستقيم مع إنسان ذي معرفة بسيطة.
ظاهرة دريد لحام وميادة الحناوي وأيمن زيدان وسوزان نجم الدين (المتطرّفة مع نظام الأسد) وعارف الطويل (قَبَّلَ حذاءً عسكريا لأحد الجنود في جيش النظام)، وغيرهم، ليست ظاهرة وعي معرفي مطابق للواقع نشأ فجأة بعد وعي زائف ظل قائما عقوداً، بل هي حالة انتهازية رخيصة من جهة، وتعبير عن الخوف من جهة ثانية. وفي الحالتين، تعبّر الظاهرتان عن وضع متدنٍ لهذه الشخوص على المستويين، المعرفي والقيمي.
الخوف من القمع والإهانة والسجن حقيقة لا يمكن إنكارها، لكن ذلك ليس مبرّراً للتماهي مع النظام فحسب، بل ذهاب بعضهم إلى حد التزلف المبالغ به. ليس الخوف هو سبب هذه الحالة بقدر ما هو حجة تُرفع، ووسادة يمكن الاتكاء عليها لتبرير المواقف والسلوكيات، ففي أفضل الحالات كان يمكن لهؤلاء الفنانين الاكتفاء بالصمت، أو على الأقل الحديث عن الواقع السوري بلغة عامة تعكس الحالة التي وصلت إليها البلاد من دون تبرير أفعال النظام وتفخيم شخص الأسد بإضفاء الصفات الأخلاقية والرجولية عليه.
تزداد المفارقة السورية في شخص الممثل باسم ياخور الذي غادر سورية فور سقوط النظام، وقد وصف عبر وسائل التواصل الاجتماعي الواقع السوري الجديد بـ “البطاطا”، في إشارة إلى ما يعتبره مستوى متدنياً وسيئاً وصلت إليه سورية بعد 8 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. هنا نحن أمام فجوة أو شيزوفرانيا معرفية صارخة، فياخور اعتبر الواقع الجديد سيئا ومتدنيا، في وقت لم يستطع أن يرى خلال العقود السابقة، سيما منذ عام 2011، حجم الاستبداد والقتل اللذين مارسهما النظام السوري بحق الشعب.
ختاماً، تنهار الرسالة الفنية حين ترتبط بسياسة الأنظمة الحاكمة، وإذا كانت هذه ظاهرة قد وسمت سورية بشكل عام خلال حكم الأسدين، فإن المرحلة المقبلة تتطلب الارتقاء بالفن إلى مستواه الإنساني، باعتباره انعكاسا لكينونة المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية. يحسُن بالفنانين السوريين التزام الصمت، ومتابعة تطورات الأوضاع في بلدهم، وأن تكون أقوالهم وسلوكهم وأعمالهم الفنية المقبلة تعبيراً عن أهداف المجتمع ومتطلباته، بدلا من أن يتحولوا إلى بوق جديد تجاه الحكام الجدد. عليهم أن يتخلصوا من إرث الأسد، وأن ينظروا إلى ذواتهم بما تستحق ووضعها في الموقف الصحيح.
لم يكن الفن في أيٍّ من أيام التاريخ يقتصر على الجانب التصويري الجمالي فحسب، بقدر ما كان موقظا للشعوب، وسلطة لها من القوة والفعل على التأثير تساهم في رفع مستوى الشعوب. … قال غوستاف لوبون إن التجربة تكاد تكون الطريقة الوحيدة لترسيخ حقيقة ما في نفوس الجماهير وتدمير الأوهام التي أصبحت خطيرة. وفي حالتنا السورية، التجربة السياسية الجديدة التي بدأت البلاد تشهدها، لا بد أن تكون الطريقة الوحيدة لتغيير ما بقي في عقول ونفوس الفنانين ممن وضعوا أنفسهم في دائرة منافية لما وصفه هيغل “تحقّق المُطلق في التاريخ”.
العربي الجديد
———————–
محنة الدولة الوطنية العربية/ أنور الهواري
21 ديسمبر 2024
مائة عام أو أكثر قليلاً عمر الدولة الوطنية السورية. قبلها كانت ولاية عثمانية ثلاثة قرون، وقبلها كانت مقاطعات في شكل نيابات مملوكية تُحكم من القاهرة، وقبلها عاشت دويلات مستقلة منذ تفكّكت الدولة العباسية مع مطلع القرن العاشر الميلادي. وُلدت الدولة السورية الوطنية بحدودها الراهنة في حقبة الانتداب الفرنسي 1920 حتى الاستقلال 1946، وعاشت ديمقراطية غير مستقرّة حتى 1963، وحَكمها حافظ الأسد من 1970 إلى 2000. وكان الحاكم الجمهوري الأول والأخير الذي ينجح في توريث السلطة لأحد أنجاله، بشّار الأسد، الذي ورث دولة أبيه من 2000 حتى قيام ثورات الربيع العربي 2011، حيث مسّت رياح الثورة هواء سورية، فالتهبت أرجاؤها إلى حرب أهلية دامت 13 عاماً حتى سقط النظام في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.
تبلورت في فترة الانتداب الهوية الوطنية، كما تبلورت الأفكار المتصارعة، مثل الوحدة العربية أو الوطنية المستقلة، ومثل التطور الرأسمالي أو التنمية الاشتراكية ومثل التحديث الغربي أو الهوية الإسلامية، وهي جملة الأفكار التي صبغت الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في سورية على مدار قرن. مثلما حدث في بلدان عربية عديدة ترك الاستعمار الفرنسي نموذج الحكم الديمقراطي الهش، حيث سيطرت على مقاليد السلطة الأغلبية السنية من وجهاء الإقطاع وتجار المدن، شهدت الفترة من 1949 – 1970 نحو 20 انقلاباً ومحاولة انقلاب عسكري، وصل بعضها إلى السلطة، وجرى إجهاض بعضها. وفي 1970 قفز اللواء حافظ الأسد إلى السلطة، فانتهت كل فرصة للديمقراطية الهشّة. كما انتهت، في الوقت نفسه، كل فرصة للانقلابات العسكرية التي وسمت السياسة السورية، كأن حافظ الأسد “منح” سورية الانقلاب الأخير. وكان النموذج الناصري في الحكم لا يزال ملهماً، رغم فشل الوحدة بين سورية ومصر وهزيمة جمال عبد الناصر في 1967 ثم وفاته في 1970. وكانت الدولة الناصرية ملهمة لحزب البعث الحاكم، سواء في العراق أو سورية من عدة زوايا: السلطات الواسعة في يد الرئيس، الاقتصاد الاشتراكي مع دور للقطاع الخاص، الدور الكبير للأجهزة الأمنية والمؤسّسات السيادية، الاتكاء على بيروقراطية الدولة في إدارة العملية السياسية، إلحاق التنظيمات الحزبية والشعبية بالدولة، تأميم الإعلام، الإصلاح الزراعي، كفالة ضمان اجتماعي للطبقات الفقيرة.
نجح حافظ الأسد في جعل سورية رقماً صحيحاً ولاعباً مهماً في الإقليم والعالم، رغم أنه جاء في مطلع السبعينيات، حيث ذروة الحرب الباردة بين السوفييت والأميركان، إلا أنه حافظ على توازن حكيم بينهما، رغم أن السوفييت كانوا مصدر سلاحه الأكبر، ورغم الصراعات الحادّة بين العرب المحافظين والثوريين، إلا أنه أيضاً لم ينفخ النار في الصراع، وحاول اعتماد موقف وسط يتجنّب معادلة “مع أو ضد”. وساعده ذلك في الحفاظ على الساحة الداخلية السورية من تسلّل النفوذ الخارجي، سواء من الجوار العربي والإسلامي، أو من قوى الهيمنة الدولية. لم تعد سورية في عهد الأسد مضطرّة لتختار الوحدة مع العراق أو مع الأردن أو مع مصر، أو التبعية للغرب في أحلاف مع العراق وتركيا مثل حلف بغداد.
من هذه الزوايا كلها، كان حافظ الأسد من صنّاع السياسة الحكماء في الثلث الأخير من القرن العشرين، لكن ثمن ذلك كان فادحاً، لمّا قامت عناصر من الإخوان المسلمين باغتيالات في البلاد، فردّ بعنف شديد، ودخلت سورية في حرب أهلية محلية النطاق قي مدينة حماة بين 1979 – 1982، انتهت بحمامات دم أقدم عليها حافظ الأسد بقلب بارد. خرج النظام منها مستقرّاً، لكنه خرج مجروحاً يحمل وزراً عظيماً، ثم صار الوزر أوزاراً، مع استقرارٍ استمرّ حتى وفاته. بين التاريخين من حمام الدم في حماة 1982 حتى وفاة حافظ الأسد، اكتسبت الجمهورية السورية المستقرّة خصائصها الجوهرية: قمع بوليسي، فساد إداري، طبقات انتفاع ومحسوبية، تفاوت فادح اقتصادي واجتماعي بين من يملكون السلطة والثروة ومن لا يملكون منهما شيئاً .
كانت الجمهوريات العربية، في نهاية الالفية الثانية ومطلع الالفية الثالثة، تتنافس في نموذج التسلطية المتمكّنة المستقرّة التي لا يهتزّ لها قائم. أصبحت الجمهورية هي الرئيس، كما أصبح الرئيس هو الجمهورية. بات صدّام حسين في العراق يهيئ نجليه لحكم العراق من بعده، ومعمّر القذافي في ليبيا يجهز أكبر أبنائه للحكم من بعده، وعلي عبد الله صالح في اليمن يعد ولده لحكم اليمن بعده، وحسني مبارك في مصر يعد أحد نجليه ليحكم مصر من بعده. الرئيس الوحيد الذي نجح أن يورّث بلده لنجله هو حافظ الأسد. 54 عاماً من تاريخ سورية ذي المائة عام هي جملة سنوات الأسد ونجله من بعده في حكم هذا البلد المهم.
ربما لم يكن أحد يتوقّع أن وصول حافظ الأسد إلى حكم سورية في مطلع 1971 سوف يكون أضخم الأحداث في تاريخها دولةً وطنيةً معاصرة. وبالطبع، لم يكن لأحد أن يتخيّل أن يرتبط تاريخ سورية به، ثم بنجله من بعده أكثر من 50 عاماً، أي أكثر من نصف تاريخ الدولة الوطنية، بما فيه عهد الانتداب السوري. لذلك ليست نهاية حكم آل الأسد في سورية مجرد نهاية لنظام حكم ديكتاتوري، هي نهاية لنصف تاريخ سورية، كما هي بداية الجواب على السؤال الأكبر: محنة الدولة الوطنية في العالم العربي، وبالذات الأنظمة الجمهورية، محنة الفشل في بناء توافق وطني داخلي يعصمها من الاستقطابات الحادّة، ثم الفوضى، ثم الحروب الأهلية، ثم محنة الفشل في بناء مناعة ذاتية وحصانة داخلية تجعل من الوطن حرماً آمناً لا يقفز فوق أسواره الدخلاء والغرباء من الخصوم والأعداء، محنة الفشل في بناء نموذج حكم عقلاني رشيد ينجز تنمية اقتصادية، ويضمن انسجاماً اجتماعياً بين مكوّنات الأمة، ويحمي المال العام من الهدر كما يصون الإدارة البيروقراطية أن يرتع فيها الفساد، كما يضع الاحتياطات العادلة التي تحول دون أقلية تتمتع بخيرات البلاد في مقابل أغلبية تعاني الشظف والشقاء.
من سقوط “البعث” الحاكم في العراق 2003 حتى سقوط “البعث” الحاكم في سورية 2024 عقدان تساقطت فيهما أنظمة جمهورية في تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان، تساقطت وسط ترحيب قطاعات شعبية معتبرة، إن لم يكن ثمة إجماع كامل ضدها، فعلى الأقل حصل توافق أغلبيات كاسحة ضدها، رغم تفاوت مقادير السخط والغضب عليها من شعوبها، تبعاً لتفاوت مقادير القمع والبطش التي حكمت بها شعوبها.
أربع محطات وضعت الدولة الوطنية في اختبار عنيف: غزو العراق الكويت 1990، هجوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ثورات الربيع العربي 2011، حرب طوفان الأقصى 2023. … أولا، تزامن غزو العراق الكويت مع انكشاف عربي أمام حقيقة أن الخطر على العرب يأتي من العرب أنفسهم، ثم مع انهيار الاتحاد السوفييتي، حليف أكثر الجمهوريات العربية، ومعه انهيار الكتلة الشرقية، وانفراد أميركا بقيادة العالم على العموم، وبالهيمنة على الشرق الأوسط من باب الخصوص. وقد ترتب على ذلك دخول العرب كافة في مفاوضات سلام مع إسرائيل، ترتب عليها اتفاقان مع الفلسطينيين والأردنيين.
ثانيا، هجوم 11 سبتمبر (2001)، أعقبه في 2002 تصعيد أردوغان في تركيا نموذجاً لحكم إسلامي، يكسب عاطفة عوام المسلمين مع ولاء لأميركا والغرب، وإبقاء على متانة العلاقات مع التركية الوثيقة مع إسرائيل، ثم أعقبه في 2003 إسقاط أول جمهورية عربية، ثم أعقبه في 2004 الطرح الأميركي لمفهوم الشرق الأوسط الكبير، وكان يعني كل الدول الاسلامية والعربية الموالية للغرب، باستثناء إيران وسورية. قبل أن تنتهي ولاية جورج بوش الأبن الأولى وتبدأ ولايته الثانية في يناير/ كانون الثاني 2005 كانت فكرة الشرق الأوسط الكبير قد اكتملت بلورتها بما يعني تغيير سلوك بعض الأنظمة، تغيير بعض الأنظمة، الترحيب بحكم إسلاميين مثل أردوغان.
ثالثاً، ثورات الربيع العربي 2011، جزء منها شعبي أصيل له مبرّراته المشروعة، وجزء منها ترتيب أميركي على وجه التحديد، فقد انعقد أول اجتماع يناقش فكرة الشرق الأوسط الكبير في الرباط 2004. وبات حاكم مخضرم مثل حسني مبارك في مصر على علم يقيني بأن الأميركان يفكرون في الاستغناء عنه منذ عام 2005، أي بعد أن ظل يحكم ربع قرن بانتخابات رئاسية مزوّرة وانتخابات برلمانية مصطنعة. لم يكن مبارك يصدّق أنهم يريدون الديمقراطية، وهو في ذلك على حق، كانوا يريدون منه تحديداً قوات مسلّحة مصرية مقاتلة في أفغانستان والعراق. ولم يكن مبارك ليستجيب لهذا الطلب تحديداً، فالجيش المصري استجاب للمشاركة في تحرير الكويت، لكنه لا يقبل فكرة أن يذهب ليحارب المسلمين في أفغانستان والعراق مع الأميركان. قال مبارك لوزير خارجيته أحمد أبو الغيط، في مارس/ آذار 2005، إن الأميركان لا يريدونه في حكم مصر، ثم بعدما أزاحوا برويز مشرف من باكستان 2008 عاد وقال له كلمته الشهيرة “المتغطي بالأمريكان عريان”. وكانت عشر سنوات من 2001 – 2011 كافية لتجهيز الأرض لثورات الربيع العربي، أنظمة فاسدة رفع الغرب عنها غطاء الحماية، فلم تصمد أمام غضب الشعوب، حين سُمح لها بالتعبير العلني عن هذا الغضب.
رابعا، كشف “طوفان الأقصى” (2023) محنة الدولة الوطنية العربية التي لم تحرّك ساكناً طوال 15 شهراً جرت خلالها فصول الإبادة العلنية للمقاومة الفلسطينية.
العربي الجديد
———————–
دروس من انهيارِ النظامِ السوري/ مهنّد ذويب
21 ديسمبر 2024
إذن؛ انهارَ النّظامُ المنهارُ أصلاً، بعدَ أنْ أصبحَ بشار الأسدُ، الطاغيةُ الذي مِن ورق، عبئاً ثقيلاً على حلفائه وأعدائِه. وليس مبالغةً القولُ إنّ بشار رفع سقف التوحش في العالمِ العربيّ، مُقدماً أنموذجاً أكثر توحشاً من مجازر والده في الثمانينات بحقِّ السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. إنه يتحمّل مسؤوليّة كلّ ما جرى، بشكل مطلق، فهو الذي دفع الثورة إلى العسكرة، وفَتَّحَ الأبوابَ لأن تتحوّل الأراضي السوريّة إلى مرتعٍ للمليشيات والدول والأحزاب والتحالفات والأموال، مقابل بقائه في كرسيّ حكم بقايا سورية، وبقايا اقتصادها، وعلى مساحة لم يستطع، هو ونظامه، أنْ يوفّروا لها الكهرباء، وفي دولةٍ وهميّة لا يستطيعُ اتّخاذ قرارٍ فيها. وإذ انتهتْ الحقبة الطويلة لحكمِ عائلة الأسد، تجدُ سوريّةُ نفسَها أمام حلمِها المُحقّق، الذي تأخرَ بعد آلافَ الشهداء والمصابين والأسرى والنازحين والغرقى في المتوسّط، لكنّها تدركُ، في الآنِ نفسه، أنّ هذا الحلم تحفّه عشرات التحدّيات، تبدأ من “انهيارِ اتّفاق فضِّ الاشتباك”، وتوغّل جيش الاحتلال في سورية، وتمرُّ بسوء نيات التصريحات الإسرائيليّة، ولا تنتهي عندَ احتماليّات الفوضى والانزلاقِ أكثر إلى التقاسُمِ والتقسيم.
عمل “طوفان الأقصى” على “تعرية” النظام السوريّ، الذي ظنّ أنّ باستطاعته اللعب على الحبال كلّها، والنأي بنفسه ونظامه المتهالك عمّا يجري، فكانَ أنْ اتّخذ خطواتٍ لتحجيم حزب الله، واستوعبَ الضربات الإسرائيليّة كلّها من دونَ أنْ يفكّر بفتح جبهة إسناد حقيقيّة، كانَ يمكنُ لو تضافرت مع جهودٍ حقيقيّة أنْ تسهم في وقفِ العدوان على غزّة في وقتٍ مبكّر جدًا. كما أنّ من المنصِف القولُ إنّ طوفانَ الأقصى أظهرَ هشاشة ما يُسمّى “محورَ المقاومة”، الذي ورغمَ التضحيات التي قدّمها في لبنان، إلّا أنّ أهدافه المُعلنة التي تتخذ من فلسطين شمّاعةَ شرعيّة ليست هي أهدافه التوسّعية، ضمن لعبة النفوذ والسيطرة في المنطقة العربيّة، وانعكاساتها الاستراتيجيّة عليه. فالذي تسلّمَ السلطة من القوّات الأميركيّة في العراق، وسَحَقَ “المقاومة” العراقيّة، والذي ساهَمَ في حرقِ فلسطينيي لُبنان بعدَ الخروج من بيروت، كانَ لا بُدَّ له أنْ يسحبَ مفردة المُقاومة من سياقها التاريخيّ ليمنحها معانٍ جديدة، تمحو حمولتها الأصليّة وتتوافقُ مع أهدافه.
في (درسِ) انهيارِ نظامِ الأسد بهذه الطريقة، ثمّة الكثير ليُقال، وثمّة الكثير أيضاً يحتاجُ التأني وعدم التسرع في إطلاق الأحكام والتصوّرات، لكن يجدُرُ الانتباه إلى أمورٍ أساسيّة أهمّها: عدمُ الانجرار وراءِ الخطاب الإسرائيليّ المُغرض الذي بَدا كأنّه يوحي بأن دولة الاحتلال هي الي أنجزت ما يحدث في سوريّة وسقوط نظام الأسد، منذُ تصريح نتنياهو قبل انطلاق عمليّة فصائل المقاومة السوريّة بعدّة أيام، وحتّى تصريحاته الأحد من الحدود مع سوريّة. وهي تسعى إلى بناء “ستيروتايب” في عقل المتلقي العربيّ، الجاهز للتلقي المشوّه، عن الفصائل السوريّة، بغرض إيجاد تمثّلات تربطها بالاحتلال الإسرائيليّ، بُغية تعميق الشرخ الطائفيّ المتعمّق أصلًا، و”شيطنة” هذه الفصائل. الأمرُ الآخر هو الفرحُ الحذِر بالتنظيم والانضباط والمسؤوليّة التي اتّخذتها الفصائلُ السوريّة المنضويّة تحت “إدارة العمليّات العسكريّة”، والتي قدّمت وتقدم رؤية مسؤولة ترومُ الانتقال الآمن إلى دولةٍ ديمقراطيّة، وإبقاء كيانِ دولة المؤسّسات. وهي انتقلت انتقالاً سلسلاً من الفكر الجهاديّ الذي طبعَ بعضَ فصائِلها فترةً إلى فكر الدولة المنظم، الذي يخدمُ الهدف الأساسيّ الذي انطلقت منه ولأجله الثورة السّوريّة، وإنّ أمامَ هذه الفصائِل مسيرةٌ طويلة لإعادة بناء سورية، ورفضِ تقسيمها إلى دويلاتٍ على أسسٍ طائفيّة وعرقيّة.
يجدرُ أخيراً النظرُ بازدراء إلى المآتمِ الجنائزيّة لبعضِ “المثقّفين)” بعدَ انهيارِ نظام الأسد، ففي مرحلةِ “الرداءة بالجملة…” هذه، يبحثون عن أيِّ طاغية يضعُون رأسَهُم تحتَ نعليه، ويخوضُون لأجلِهِ “حروباً دونكيشوتية”؛ تغطّي، وتصرفُ النظر، عن النقصِ الحادِّ في بلاغتهم الثقافيّة والأدبيّة، إن وجِدت أصلًا، والطاغية قد يكونُ شخصًا.. أو حزبًا.. أو مذهبًا، يوظَّفُ بالضلالة “للإنقاذ من الضّحالة”، فبعدَ أنْ كرّسوا جهدهم سنواتٍ للبحث في شعريّة البراميل المتفجّرة للطاغية، وفي التلطي بلفظة المُقاومة بمعانيها المُحوّرة، يقيمونَ الآن مأتماً تأبينياً يأخذُ من تصريحات نتنياهو وكيانه مرتكزاً للنّواح على انهيارِ نظامِ حزبِ “العَبَث” (لطالما عبِثَ بالفلسطينيين وقسَّمهم وموّل انشقاقهم، وعبثَ باللبنانيين)، وعلى هَرَب الطاغيّة (الكاريكاتوريّ) من دمشق. أمّا النواحُ الآخَر العجيب، الذي لا يمكنُ تناوله إلّا بالسخرية، فهو حالُ (بعضِ) الفلسطينيين، الذينَ يتلقون آراءهم المعلّبة عبر “الجيوبِ العميقة لمجموعاتِ واتساب”، والذينَ يفشلون في التفكير وفي الفعل والتغيير في آنٍ معاً؛ إذ انتقلوا من مرحلةِ اتّهامِ إيرانِ بتدمير المنطقة و”توريطِ” غزّة، والخطرِ الشيعيّ على السنّة (رغمَ علمانيتهم)، إلى مرحلةِ فضائِل بشّار وخطرِ الزحفِ الإخوانيّ. وهذا مما يتعذّر التعليقُ عليه.
العربي الجديد
————————–
يوميات التغيير الدمشقيّة: توتّر الأحوال المعيشيّة والانتقال السياسي/ ملاذ الزعبي
20.12.2024
يكتب ملاذ الزعبي عن جولاته في مدينة دمشق بعد سقوط نظام الأسد راصداً هموم الناس ومعاناتهم وما يتداول في الشارع السوريّ.
عادة يخشى السوريون الحديث في السياسة مع سائقي سيارات الأجرة، ثمة قناعة سائدة أن كتلة وازنة من هؤلاء هم عملاء أمن متخفون. اليوم، تغير هذا الوضع، ربما على العكس تماماً، باتوا البارومتر الأنسب لقياس نبض الشارع. جميع من تحدثت معهم رحبوا بالتغيير الحاصل وسقوط نظام الأسد، لكنهم أيضاً لم يترددوا في بث شكاوى متعددة، كلها انصبّت حول مسائل معيشية: توفير المحروقات لسياراتهم، تحسين الأوضاع الخدمية وبخاصة الكهرباء، تأمين إسطوانات الغاز، إعادة الشرطة الى شوارع دمشق وضبط الوضع الأمني، العمل على تخفيض أسعار المواد الغذائية، وتحسين جودة الخبز وغيرها.
بعض من تحدثت معهم في شوارع العاصمة عبّروا عن وجهات نظر مشابهة. “لا شيء قادم سيكون أسوأ من السابق”، “كنّا بأسفل سافلين ولا يمكن أن يتردى الوضع أكثر”، “أيّاً من سيحكمنا أفضل من بشار”، عبارات كهذه مألوفة جداً، والتركيز دائماً منصب على أمور حياتية. خليط واضح من الفرح بالخلاص من جهة، والإنهاك من سنوات القمع والإفقار الطويلة من جهة مقابلة.
قد يكون هذا باعثاً على القلق بالنسبة الى ساسة وناشطين وفاعلين في الشأن العام ممن يلحّون، بشكل مفهوم، على مسائل الانتقال السياسي وكتابة الدستور والحريات العامة والخاصة،، مع ذلك تشهد سوريا عموماً ودمشق خصوصاً حراكاً هائلاً لجهات أهلية ومدنية. اجتماعات ومبادرات في كل مكان. في ساحة الأمويين شارك المئات في تظاهرة تطالب بدولة مدنية وضمان الحريات وحقوق النساء.
تعلق سوسن أبو زين الدين، المديرة التنفيذية لـ”مدنية”، وهي عبارة عن مبادرة تضم أكثر من 200 منظمة مجتمع مدني سورية داخل البلاد وخارجها، على هذا الانقسام بين الأمور المعيشية والشؤون المدنية والسياسية، بأن “هذه نقطة يجب الحوار بشأنها والعمل عليها”، مضيفة أن “موضوع الحريات يتقاطع مع الأوضاع المعيشية وتفاصيل الحياة اليومية الأخرى”. وتردف أن على المجتمع المدني أن يشتغل على ذلك، وأن يركز بشكل متزامن على الجانبين الخدمي والسياسي.
مبادرة مدنية نفسها، يقودها ويمولها سوريون، تستعد لإطلاق مقرها الجديد في دمشق، وشارك أعضاؤها، إلى جانب ناشطين آخرين، في لقاءات مع الوفود الدبلوماسية التي ما زالت تتوافد على العاصمة السورية.
في السياق ذاته، جاء خبر إقالة رئيس منظمة الهلال الأحمر السورية خالد حبوباتي، الصديق الشخصي لبشار الأسد، ومن ثم تعيين طبيب ومدير في المنظمة ذي خبرة وسمعة طيبتين، ليبثّا بعض الارتياح عموماً بعد سلسلة تعيينات لمناصب أخرى أثارت لغطاً وجدلاً.
حبوباتي هو واحد من فئة رجال الأعمال التي تشابكت مصالحها مع النظام السابق. تقول سيدة مجتمع دمشقية ومديرة لمنظمة خيرية، إن بعض هؤلاء، بما يشمل اقتصاديين ساعدوا النظام على الالتفاف على العقوبات الدولية، يحاولون التبرؤ من علاقاتهم السابقة بالنظام واستئناف أعمالهم من دون أي مراجعة أو تحمّل للمسؤولية أو اعتذار أو كشف الملفات السوداء للفترة السابقة.
بعض الناشطين يتهمون رجال أعمال من هؤلاء بتمويل ميليشيات كذلك، ولعب دور في الإخفاء القسري الذي طاول عشرات الآلاف من السوريين.
في معتقل وفرع فلسطين الأمني الشهير جنوب دمشق، لا تزال العائلات تتوافد للبحث عن أبنائها وبناتها المفقودين. دخلنا، أنا والزملاء من “درج”، إلى الفرع بعد أن تأكد الحارس الملثم، الذي خاطبه العناصر الآخرون بـ”الشيخ”، من وجود تصاريح إعلامية معنا.
غرفة البوابة تضم المئات من جوازات السفر والهويات الشخصية، من غير الواضح إن كانت جميعها لأشخاص كانوا معتقلين في هذا المكان، بعض الجوازات تعود الى أطفال لم يتجاوزوا الخمس سنوات من العمر، والقليل منها لجنسيات أخرى. صادفنا رجلاً من عصبة الأنصار الفلسطينية الناشطة في مخيم عين الحلوة اللبناني، قال إنه أتى لزيارة الزنزانة التي أمضى فيها خمس سنوات بين 2006 و2011.
في الباحات الخارجية، آثار معركة ليست عنيفة لا تزال بادية للعيان، بقايا رصاص وعلب ذخيرة وحافلات مهشّمة الزجاج. دخلنا إلى المباني المتعددة للفرع، بعض المكاتب والغرف محروقة جزئياً أو كلياً. في الداخل لا يمكن إلا أن تشعر بالانقباض لدى استطلاع الزنزانات المعتمة ببواباتها الحديدية السوداء، بعضها لا يزال يحتوي على ملابس نسائية وحذاء لطفل قد لا يبلغ عمره أكثر من ثلاث سنوات.
الكثير من الملفات والوثائق ما زالت مبعثرة أو موجودة في المكاتب، كلها تحتاج لحفظ، وتبويب وتصنيف عاجلين، مجلدات وسجلات وأقراص مدمجة وأوراق تحقيق وقوائم الدوام اليومي ولوائح اعتقال وبرقيات ومراسلات مع جهات خارجية ومفكرات يومية لبعض كبار الضباط وتقارير تقييم وكتب ومتعلقات شخصية.
في ساحة الفرع المفتوحة على السماء خارجاً، عثرناً على ملف حساس متعلق بحزب الله اللبناني، فكّرنا لو أن الجو كان ممطراً في أي من الأيام السابقة لكان الملف تعرض للتلف بشكل كامل.
لدى مغادرة الفرع، كان المزيد من العائلات تصل باحثة عن أي معلومة قد تساهم في كشف مصير أحبائها المفقودين، أم وابنتها قدمتا من رأس العين على الحدود التركية للبحث عن ابن الأولى وشقيق الثانية المعتقل منذ 2012، عائلة أتت من ريف البوكمال عند الحدود العراقية تبحث هي الأخرى عن ابنها. شاب من ريف درعا يحاول العثور على أخيه، لم ييأس من تفقّد كل جوازات السفر على مرأى عدسة كاميرا التلفزيون الهولندي التي كانت توثق المشهد. بدأت سيدة بالنواح واللطم والدعاء على بشار الأسد مع تسرب اليأس إلى نفسها إثر تقليب عشرات البطاقات الشخصية بلا طائل.
اختتمت يومي الطويل بجولة سريعة في دمشق القديمة. دخلت إلى إحدى الحانات في زقاق داخلي، كانت الحانة خالية تماماً من الزبائن. سألت النادل إن كان ذلك اعتيادياً فأجاب بأن ذلك متوقع في قلب الأسبوع، لكن صاحبة البار تدخلت في الحوار القصير لتقول إن “الناس خايفين بسبب الوضع الأمني والعتمة” في الشوارع، مضيفة أنه لا داعي للإنكار أن البعض قلق “من الوضع الجديد”. والوضع الجديد هذا سيبقى جديداً لأشهر عدة على الأقل، وقد لا تعود الحياة إلى كامل طبيعتها قبل ذلك.
درج
———————–
غموض وأخبار شحيحة عن الإشكاليّة الأمنيّة والطائفيّة في سوريا/ سارة حسام
20.12.2024
يحيط الغموض بالكثير من الأخبار التي تتسرب إلى وسائل التواصل الاجتماعي عن انتهاكات وتجاوزات بحق الأقليات في سوريا بعد سقوط النظام، لكنها إلى الآن لا تعكس انتهاكات منظمة، إلا أن تكرارها يشي بأنها تتنامى، وقد تنفجر في أي وقت إن لم يتم تداركها، وبخاصة أن من بينها أعمالاً انتقامية على أساس طائفي.
ما زالت مظاهر الاحتفال بسقوط نظام الأسد مستمرة في سوريا، وعلى رغم التطمينات والمشهدية السلمية التي أعقبت هذا السقوط، برزت بعض الحوادث التي قد تشكل تحدياً كبيراً لسوريا ما بعد الأسد، إذ يشهد عدد من المناطق السورية أعمالاً انتقامية وصلت حد القتل وأحداث شغب تتمثل في التخريب والنهب، آخرها كان الهجوم على مطرانية حماة، حيث أطلق شخصان النار على صليب المطرانية، وتم هدم بعض القبور وتكسير الصلبان والتماثيل..
يحيط الغموض بالكثير من الأخبار التي تتسرب إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها إلى الآن لا تعكس انتهاكات منظمة، إلا أن تكرارها يشي بأنها تتنامى، وقد تنفجر في أي وقت إن لم يتم تداركها، وبخاصة أن من بينها أعمالاً انتقامية على أساس طائفي.
انتهاكات مخاوف الأقليات
إدارة العمليات العسكرية بقيادة أحمد الشرع (الجولاني) تعهدت بعدم المساس بالأقليات أو معتقداتهم، لكن باتت أعمال الشغب والانتقام تثير المخاوف، بخاصة مع انتشار فيديوهات وقصص كثيرة ظهرت في بعضها عمليات تصفية لعناصر قيل إنهم تابعون للنظام السوري السابق، من دون أي معلومات واضحة سوى شهادات متفرقة على وسائل التواصل الاجتماعيّ تحاول رصد ما يحدث.
تنتشر هذه الأخبار بالتوازي مع عمليات “تسوية الوضع” التي تقوم بها الإدارة الجديدة، للنظر في مستقبل الآلاف من العساكر وموظفي الأمن الذين عفا عنهم الشرع ما إن وصل إلى السلطة، بصورة يمكن وصفها بالمتسرعة أو محاولة للحد من الانتقام وخلق اقتتال داخلي.
من المعروف خلال حكم آل الأسد استخدام ورقة الطائفية طويلاً في حكمه، خصوصاً أن الأسرة تنحدر من الأقلية العلوية المتمركزة في الساحل الشمالي للبلاد، وتشكل نحو عشرة بالمئة من سكان سوريا، وانتشرت أخبار عن فرار الكثير من عناصر النظام وأسرهم إلى الساحل.
الـ”واشنطن بوست” نشرت تقريراً عن حالات انتقام شهدها الساحل السوري، وبحسب الصحيفة فقد تمكنت من التأكد من فيديوهات عدة بهذا الخصوص، أحد كان في قرية ربيعة غرب حماة، ويُظهر الفيديو مسلحاً يركل وجه رجل يبدو ميتاً، ويظهر خلفه رجل آخر مُقيّد اليدين والقدمين يُركل في وجهه.
يستخدم الشخص الذي يصور الفيديو، مراراً، تعبيرات مهينة للعلويين، ثم يتم إطلاق النار على الرجلين. ولم تتمكن الصحيفة من تأكيد هوية الجناة أو الضحايا، ما يعني أننا لا نعلم شيئاً عن توجههم أو خلفياتهم، وقد يكون بينهم ثأر قديم أو خلاف سواء مالي أو سياسي.
في فيديو آخر، يظهر مقاتل بملابس عسكرية وهو يعدم شخصين بجانب الطريق، يقول المقاتل: “هؤلاء خنازير؛ ضباط من قوات الأسد كانوا يحاولون الهرب” ثم يركع الرجلان، بملابسهما مدنية، على الرصيف وأيديهما مربوطة خلف ظهريهما. يقول أحدهما: “يا شيخ، أعطنا فرصة، نحن معك”، قبل أن يصرخ مقاتل آخر: “الله أكبر!”، ثم يطلق النار عليهما ليسقطا قتيلين.
انتشر الفيديوهان على نطاق واسع وتناقلهما الخائفون من مذبحة الأقليات وحتى من يودون إذكاء نار الفتنة على حد سواء، وباتت مثل هذه الفيديوهات، على قلتها، إثباتاً على مستقبل الأقليات الغامض، خصوصاً مع غياب تفاصيل موثوقة عن الأشخاص.
أحد شيوخ الطائفة العلوية في اللاذقية، يقول لـ”واشنطن بوست” من دون أن يكشف عن هويته: “من هو القاضي؟ من يقرر من هو الشبيح ومن ليس كذلك؟… من يمكنه السيطرة على هذا؟ إنها مسألة وقت فقط قبل أن تنفجر الأمور”.
لكن السؤال، هل يجب على أبناء الساحل دفع ثمن جرائم الأسد سواء عبر الضغط المعنوي وتحميلهم مسؤولية 13 عاماً من الدماء أو عبر الانتقامات على أرض الواقع؟
حوادث باسم مجهولين !
مقارنة بما ترافق مع سقوط أنظمة أخرى في المنطقة، كان سقوط الأسد أقلها دموية، بل إن السلمية التي رافقت هذا التغيير التاريخي فاجأت كثيرين، واستطاع عناصر “إدارة العمليات العسكرية” ضبط الوضع إلى حد كبير. لكن مع استمرار وقوع أعمال شغب وعمليات انتقامية تتمثل في تصفية عناصر شاع أنهم تابعون للنظام، يغدو الحديث عن الحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي ضرورة.
والأهم الحديث عن المحاسبة، إذ ليس المطلوب في سوريا عفواً عاماً ولكن محاكمات عادلة تحدد المسؤوليات وتحاسب عليها وليس ترك الباب أما حوادث انتقام وثأر.
كان من المتوقع أن تكون قضية الطائفة العلوية في مقدمة المعضلات في سوريا، بسبب انحدار الرئيس السابق بشار الأسد منها وانتماء مجموعة من الضباط المتهمين بارتكاب جرائم حرب إليها.
يتجاوز المتمسكون بهذا الأمر حقيقة أن مناطق العلويين تعيش في فقر مدقع وأن النخبة الحاكمة “باسمهم” لم تمنحهم سوى الفتات وفرضت عليهم الولاء بالقوة، ومن كان يخرج عن النظام كان يدفع ثمناً مضاعفاً.
عانى السوريون كثيراً على مدار 13 عاماً، وجربوا كل أنواع الموت، ما ترك شروخاً عميقة داخلهم من دون تحقيق أي شكل للعدالة. واليوم الكثير منهم بحاجة الى هذه العدالة، والتي قد يختلف مفهومها بالنسبة إليهم، ما سيدفع البعض ربما الى القيام بأعمال انتقامية، ما يذكرنا بالحاجة الملحة إلى تفعيل دور المحاسبة العادلة. لكن وفي ظل وجود حكومة انتقالية تحتاج الى شهرين ونصف الشهر بعد لترسيخ أسس الدولة، تبدو هذه الفترة مقلقة، ما يستوجب إيجاد طريقة فعالة للتعامل معها.
من جهة أخرى، يشكل وجود المقاتلين الأجانب في صفوف المعارضة عقدة شائكة، في ظل تصاعد الأخبار عن تجاوزاتهم. كما أن وجود هذا المكون الغريب بين السوريين لن يشعرهم بالطمأنينة بأي حال، خصوصاً أنهم اختبروا دور المقاتلين الأجانب في سوريا منذ عام 2011، والدوافع الأيديولوجية التي تحرّك “نشاطهم”.
يجدر بالذكر أن هوية مرتكبي هذه الانتهاكات لم تُحسم بشكل قاطع، وفي بعض الحالات تُنفَّذ عمليات النهب والسلب من عصابات محلية. ففي بلدة الحكيم بمحافظة اللاذقية، اعتدى أشخاص عدة على سيارة تابعة للهيئة، أشخاص معروفون لأهل المنطقة بـ”نشاطهم الإجرامي”.
على الجانب الآخر، تعرض معارضون إلى هجمات من شبيحة النظام السابق، ووثقت الـ”واشنطن بوست” مقتل شابين على يد بلطجية موالين للنظام السابق.
أحد المخاوف الجدية التي أشارت إليها الصحيفة، هو وجود مقاتلين يضعون علامات تشابه علامات التي يضعها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بعد ظهور مسلحين يرتدون الشارات نفسها عند بوابات السفارة التركية في دمشق هذا الأسبوع.
على الرغم من أن أحمد الشرع (بالجولاني)، قائد إدارة العمليات العسكرية، أعلن مراراً انفصاله عن تنظيم القاعدة، ونفى وجود أي ارتباط للهيئة بتنظيم الدولة (داعش)، إلا أنه لم يتم التأكد بشكل قاطع من خلو الهيئة من مقاتلين سابقين في صفوف داعش.
البلد الممزق منذ 13 عاماً يلقي بمهام معقدة على إدارة العمليات العسكرية، لكن أبرزها وأكثرها إلحاحاً هي ضبط الوضع الأمني وحماية الناس، ولا يمكن اليوم تفضيل إصلاحات أخرى على السلم الأهلي، بخاصة مع استغلال بعض المسلحين الفوضى لتصفية حسابات شخصية وطائفية.
لكن السؤال، إلى أي مدى الهيئة قادرة فعلاً على ضبط الأوضاع، وبخاصة في مساحة كبيرة وذات طبيعة اجتماعية وسياسية معقدة كسوريا. وكانت الهيئة قالت في بيان لها: “سنعمل على معالجة آثار الماضي من خلال آليات شفافة تهدف إلى تحقيق سلام دائم واستعادة النسيج الاجتماعي”.
إدارة العمليات العسكرية تحاول ضبط الأمن
أصدرت إدارة العمليات العسكرية عفواً عاماً وافتتحت مراكز للتسوية في مختلف المحافظات. وبالفعل، توجه الكثير من ضباط الشرطة والعسكريين السابقين لتسوية أوضاعهم وتبرئة أنفسهم. ومع ذلك، وقعت بعض الحوادث التي أثارت قلق الناس وزادت من مخاوفهم.
في حمص، نشرت سيدة تدعى صفاء مخلوف على “فيسبوك”، أن زوجها وأخاه ذهبا إلى مركز تسوية، هناك وبحسب صفاء سألتهما إحدى سيارات إدارة العمليات: “من الضابط ومن العسكري؟”، وعندما أجابا أنهما ضابطان اقتادتهما إلى مكان مجهول. ومنذ يومين فقط، أعلنت صفاء مقتل زوجها محمد سمير الصوفي وأخيه سمير الصوفي، لكن أحداً لم يتأكد إن كانت السيارة تابعة فعلاً لإدارة العمليات.
من جهة أخرى، يبدو أن المسيحيين والشيعة أيضاً متخوفون، وأول مظاهر هذا الخوف كان نزوح الكثير من شيعة سوريا إلى لبنان، رغم عدم حصول حوادث ضدهم، إلا أنهم فضلوا المغادرة إلى حين جلاء الأمور.
في بلدة مصياف في مدينة حماة والتي تضم سكاناً من الشيعة والمسيحيين والعلويين، عُثر على أربع جثث ملقاة بجانب الطريق. وبحسب مراسل “واشنطن بوست”، ظهرت على الجثث آثار التعذيب من دون تحديد هويّة الضحايا أو الجناة.
كما تكررت حالات طرق أشخاص ملثمين على الأبواب ليتضح أنهم سارقون، ما استدعى الهيئة لإصدار بيان بعدم فتح الأبواب لأي شخص إذا لم يكن يملك تصريحاً رسمياً، وبرفقة مختار المنطقة.
وكانت أعلنت هيئة تحرير الشام عن إنشاء لجنة خاصة للتحقيق في مزاعم الانتهاكات، في محاولة للتخفيف من حدة هذه التوترات، لكن للآن لا يوجد أي شيء واضح ويبدو التأخير جزءاً من مشهد الفوضى العام.
درج
——————————–
هل هوية سورية جامعة أمر ممكن؟/ بشير أمين
21.12.2024
في سوريا مظلمات تاريخية عديدة، ولكن توجد مظلمتان كبيرتان في السنوات الأخيرة، تطغيان على باقي المظلمات، والمتمثلة في “الإخوان المسلمين” والكرد، عانى هذان المكونان من خطر إبادة كاملة بسبب هويتيهما، وليس فقط معارضتيهما للنظام.
قد تبدو هوية سوريا الجديدة واضحة بالنسبة لكثير من السوريين، هوية سوريا الثورة، بشعاراتها ورموزها المعمول بها خلال العقد الفائت. سقط الأسد، ورحل الأبد. اليوم يفرح السوريون، ويحاولون فهم سياقات ما جرى ومتتاليات الأحداث المتسارعة التي دفعت وساهمت في سقوط الأسد.
إشارات على هذا الوضوح، وضوح الهويّة، ظهرت في تسارع السوريين إلى إعلان جوانب من هوية سوريا الجديدة حيث كانت بديهية لهم، عسكريين ومدنيين، محافظين وليبراليين. مثل علم الاستقلال السوري بوصفه علم الثورة، وتداولوا أيضاً نشيداً من قصيدة للسوري عمر أبو ريشة بوصفه نشيد سوريا الجديدة، وبدرجة أقل يتوافق السوريون أيضاً على دولة مدنية ويختلفون على مركزية الحكم فيها.
هوية سوريا مطروحة للنقاش والتداول إذاً، والسوريون متلهفون لمعرفة هذه الهوية وإعلانها. جوانب مهمة سياسية مؤجلة إلى حين تتوضح المرحلة الانتقالية، وجوانب أخرى اعتبروها بديهية، وسارعوا إلى إعلانها مثل العلم والنشيد.
إعادة النظر في البديهيات
اعتبار العلم والنشيد من البديهيات، لا يعبّر عن هويات سوريا كلها، حتى لو لم يكونا يعبّران عن هويات مواطنيها جميعاً، فإنهما يبدوان أقل أهمية أمام بعض الأمور الأكثر وضوحاً، التي ستكون جزءاً من نقاشات المرحلة المقبلة، مثل شكل الحكم، والحريات وهيكل الدولة. فما الذي ينبغي أن يقدّمه كل طرف في سوريا للوصول إلى هوية جامعة لهم ؟.
من يحكم سوريا اليوم هي قوى الأمر الواقع، التي كانت موجودة قبل سقوط الأسد، ولم يكن السوريون قد توافقوا على شرعية هذه القوى من ناحية، كما أنهم أيضاً اعترضوا على سياساتها من ناحية أخرى، وبمجرد سقوط النظام نجد إشارات من الدول المتداخلة والمتسارعة لإرسال وفودها، للسماح بإشراك هذه الأطراف في العملية السياسية والفترة الانتقالية، بل ربما قيادتها.
تتطلب المرحلة الانتقالية توافقاً عالياً ومرونة كبيرة من هذه الأطراف، التي تصارعت في ما بينها أيضاً، إلى جانب معركتها مع النظام، حتى وصلت إلى سوريا فيها الكثير من اللاعدالة، من الثأر الدفين، من التغيير الديموغرافي، ومن حالات القتل والإبادة، إلى غياب تام للثقة بين الشعوب السورية ومكونات سوريا المتعددة.
في سوريا مظلمات تاريخية عديدة، ولكن توجد مظلمتان كبيرتان في السنوات الأخيرة، تطغيان على باقي المظلمات، والمتمثلة في “الإخوان المسلمين” والكرد، عانى هذان المكونان من خطر إبادة كاملة بسبب هويتيهما، وليس فقط معارضتيهما للنظام.
ارتكب النظام السوري مجازر بحق “الإخوان المسلمين”، قبل حماة ١٩٨٢وبعدها، كان الإسلاميون في سوريا عدو النظام الأول، وانتقم منهم بطرق وحشية. وأثناء الثورة السورية، تركزت المقتلة السورية على المكون السني بشكل أكبر بكثير من باقي المكونات. في المقابل تعرض الكرد لإلغاء مماثل وإجرام من الحكومات السورية المتعاقبة، ومن قبل معارضين للنظام أيضاً، كما تعرضوا لهجوم الإسلاميين وحرب مدعومة من تركيا، لا تزال مخاطرها قائمة.
الأهم من هذا، أن هذين المكونين هما الوحيدان اللذان يمتلكان قوة مسلحة منظمة على الأرض (قوات سوريا الديمقراطية، وهيئة تحرير الشام) لدى كل منهما سلطة ونظام حكم خاص بها، كما لديهما تحالفات إقليمية ودولية، ولا شك في وجود كلمة كبرى لهما في تشكيل هوية سوريا الجديدة.
من يمثّل السوريين ؟
لا تمثّل هاتان القوتان الشعب السوري بصفة شرعية، لكنهما تعبّران بطريقة ما، عن ثنائية سورية قد تظهر في السنوات المقبلة، وتعبّران عن تيارين رئيسيين في المجتمع السوري. تيار محافظ يتمثّل بالإسلام السياسي، الذي سيدفع نحو قوانين شرعية ووجود لافت للدين في هوية الدولة وقوميتها وعروبتها، وتيار آخر يدعو إلى العلمانية واللامركزية والمدنية، وحماية الأقليات وتعددية سوريا، بعيداً عن الهوية العربية الأحادية، ولا ينفي ذلك التجاوزات وأحياناً الانتهاكات التي يرتكبها الاثنان ! والصراعات بينهما لـ”حكم” التراب والناس !
تُظهر، حتى الآن، “هيئة تحرير الشام” مرونة نحو الأطراف الأخرى، وتحمل خطاباً تسامحياً حتى مع ما يمثّل النظام الساقط. لم تتبنَ الهيئة خطاب تركيا والمعارضة المسلحة في محاربة القوات الكردية، ولم تعتبر تلك معركتها، واللافت عدم الإتيان على ذكر “قوات قسد”، أو وصمها بالإرهاب.
الحالة الوحيدة التي شهدناها، هي توافقات بتسليم سلمي لبعض المناطق، وحماية متبادلة لمناطق النفوذ والمدنيين. في المقابل ترسل “قسد” تطمينات عن انفتاحها على الحوار مع أي سلطة جديدة في دمشق، رفعت علم الاستقلال على مؤسساتها، وأكدت كونها جزءاً رئيسياً من سوريا الموحدة.
على السوريين اليوم، فهم واقع سوريا الجديد وتقبل جميع أنواع التغيير. سوريا الجديدة لا تعني تغيير علمها ونشيدها والشخصيات الحاكمة فيها، إنما تتطلع إلى تغييرات جذرية على شكل الدولة، وشكل الحكم. يخشى السوريون من مركزية للسلطة في دمشق، تمنعهم من الوصول إلى ما حلموا به طوال سنوات طويلة، بينما تذوقوا ومارسوا الحرية في المجتمعات الأوروبية، ووصلوا إلى البرلمانات.
في الجزيرة السورية في المقابل، مظلمة كردية إلى جانب مظلمة عربية وأشورية على حد سواء. التهميش السلطوي لم يكن مقتصراً على النظام الحاكم في سوريا، لكن “الجزراوي” السوري عانى طويلاً من تهميش النخب السورية، ومركزية المدن الرئيسية الصناعية على حساب الأرياف والمدن النائية.
عانى “الجزراوي” من التنميط والخطاب الفوقي والعنصري أيضاً. في سوريا هويات متعددة، غير الهوية الدمشقية والحلبية، التي تمثّلت في الإعلام، في الفن والأدب والهوية السائدة، وفي سوريا أيضاً لغات متعددة، علها تكون جزءاً من تنوعها المقبل،يُنظر إلى هذه الاختلافات بعين الاعتراف على المستوى النظري، إلا أن هذه الاختلافات تتطلب أفعالاً وخطوات عملية، من شأنها إعادة بناء الثقة بين السوريين. وذلك سيعني بالضرورة تقديم كل طرف تنازلات معينة للوصول إلى صيغة جامعة.
هويّة لـ”كلّ السوريين” ؟
لا تعطي أصوات سورية كثيرة الأهمية الكافية لمطالب السوريين وقلقهم على هوياتهم الفرعية، ويعتبرون انتصار الثورة تطميناً كافياً بأن سوريا الجديدة ستكون لكل السوريين، رافضين النظر إلى سنوات من الحروب والتمزيق وغياب الثقة، وبما أن أحد أطراف الحاملة لمظلومية كبيرة (المظلومية السنية) تصل لتكون قريبة من الحكم، فإنها لا تُولي الاهتمام بمظلومية الكرد والأقليات الأخرى، سوى بشعارات التطمين، بل يذهب البعض إلى اتهامهم بقلة الوطنية وبالتخوين والانفصال.
استطاعت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا خلال ما زاد عن سنوات عشرة، أن تكون الطرف الأكثر براغماتية في الصراع السوري، وأظهرت ليونة معقولة في خلق توازن بين تأمين حد أدنى من المتطلبات الخدمية والأمنية، ترصين التحالفات العسكرية واللعب على التوازنات الإقليمية، ونجحت في تمييز نفسها بهوية وثقافة متفردة عن محيطها.
في حين نجحت في تحقيق مكتسبات عديدة، مرّت أيضاً بأوقات عصيبة هددت وجودها، لتكون في المحصلة، حتى الآن، أحد أكثر الأطراف السورية تنظيماً وفاعلية. برغم الاختلاف على مشروعية وصول “قسد” وعلى ما هي عليه من عدمه، فبرنامجها السياسي يقدّم هوية سياسية سورية جامعة، تتبنى العلمانية واللامركزية. فهل تقدّم أطراف سورية أخرى هوية جامعة واعدة للسوريين؟
لم يقدّم النظام بطبيعة الحال أي هوية جامعة للسوريين. والهوية الوحيدة التي قدّمها لسوريا على مدى عقود، كانت هوية “سوريا الأسد”. على الجانب الآخر لم تقدّم المعارضة حتى الآن هوية جامعة. العكس تماماً، أظهرت معارك “فجر الحرية” وارتهان “الجيش الوطني” للقرار التركي؛ حتى أثناء توجه السوريين لإسقاط الأسد، نية أطراف من المعارضة في إنهاء أي وجود كردي، وأعادت إلى أذهان الكرد عقداً من الانتهاكات الممنهجة ضدهم.
بعد محاصرة “قسد” في حيي الاشرفية والشيخ مقصود في حلب، وتل رفعت، أجبرت فصائل المعارضة “قسد” على التوجه نحو مناطق نفوذها في شرق الفرات. الأمر الذي أدى إلى نزوح جماعي جديد لمهجرين كانوا أصلاً مهجرين قسراً من عفرين وغيرها. ولم يعودوا إلى بيوتهم حتى بعد إسقاط النظام. وبرغم تجنب الاشتباك حتى الآن، وعرض الهيئة تطمينات للمدنيين، لا يثق المجتمع الكردي بها.
يستمر الإصرار من بعض أطياف المجتمع السوري (محافظين وليبراليين) على شيطنة مشروع الإدارة الذاتية، على أنه كردي قومي ومناهض للثورة. يزيد هذا من شعبية “قسد” في مناطق شرق الفرات (من الكرد والمسيحيين وعرب المنطقة والمتخوفين من هو متخوف من الإسلام السياسي) ويزيد من انكماش هذا المشروع على نفسه، بعيداً عن هوية وطنية مزعومة. أبعد من ذلك، يصبح هذا المشروع بالنسبة إلى معارضي “قسد” المحليين أنفسهم، ملاذاً يحميهم من احتمالات عنف قد تصل إلى تطهير عرقي، ويدفعهم إلى أن يفضلوها على السلطة المركزية.
ما بعد حزب العمال الكردستاني
في المقابل تعي “مسد/ قسد” تماماً أن الحكم بمنطق الميليشيا أصبح من الماضي، لذلك تحاول ما استطاعت، صنع بعض التغييرات الهيكلية، وظهرت إشارات لهذه المرونة من قبل “قسد” في السنوات الأخيرة، خلافاً للسلطوية الحادة في بداية سيطرتها على الشمال الشرقي.
لكن منذ “هزيمة عفرين” عام ٢٠١٨ على سبيل المثال، قامت “مسد” بالتقرب من المكونات الأخرى بشكل أكبر، والاعتماد على “مجلس سوريا الديمقراطية” كممثل سياسي، وإبقاء حزب “الاتحاد الديمقراطي” حزباً ضمن منظومة أكبر، وإعادة تدوير شعار الفيدرالية في مؤتمرها المنعقد صيف ٢٠١٨، وتبني اللامركزية السياسية في وثيقة العقد الاجتماعي بشكل معقول، وقدّمت بالمقابل كل التطمينات المطلوبة، للبدء بمرحلة انتقالية ورفع شعارات الثورة وعلمها، ويُطلب منها انفكاك القرار السياسي من حزب “العمال الكردستاني”.
الانفكاك عن قرار حزب “العمال الكردستاني” هو مطلب سياسي للقوى السياسية، كما هو مطلب شعبي أيضاً. لكن يُطلب اليوم من السوريين تفهّم سياقات المجتمع الكردي، وفهم المسألة الكردية تاريخياً واجتماعياً وسياسياًً.
لا يمكن أن ينفك حزب “الاتحاد الديمقراطي” أيديولوجياً عن حزب “العمال الكردستاني”، لان كرد سوريا جزء رئيسي من بنية الحزب، ناضلوا ضمنه، وقاتلوا وتطوعوا منذ تأسيسه في نهاية السبعينيات.
لم يكن الكرد ينتمون إلى الدول التي أُلحقوا بها، وانتموا بشكل طبيعي إلى نسيجهم الكردي، وحركات التحرر ضد المشاريع التي مزقت مجتمعاتهم. وجود حزب “العمال الكردستاني” في سوريا، هو نتيجة إيمان شريحة كبرى من الكرد السوريين، بنضالاته وما انتزعه لكرد تركيا من حقوق.
يشبه الكرد بذلك الفلسطينيين الملتفين حول حركات التحرر الفلسطينية المؤمنة بحقهم التاريخي في الأرض، وإذ يفهم الحزب أن أدوات النضال والمقاومة اليوم تغيرت، والصراع المسلح لن يكون خياره الأول، فإنه يتوجه لدمشق، ويؤمن بضرورة حل مسألة كرد سوريا ضمن إطار الدولة السورية، بعيداً عن القوموية، لا يمكن مطالبة كرد سوريا بحل الحركة الكردية وتخطيها، في حين يجب إشراكها وفهم مطالبها المحقة.
وصف مشاريع الكرد السوريين بـ”الإرهاب” و”الانفصال”، وشيطنة هذا المشروع، يخدم المشروع التركي فقط، الذي حاول خلال سنوات من الحرب السورية واحتلال الأراضي السورية، تغيير ديمغرافيتها، وهويتها الدينية، وفرض سياسات تتريك.
هذه المخاوف لم تتلاشَ بعد، لذلك الاعتراف والحوار مع الإدارة الذاتية في المرحلة الانتقالية ضرورة قصوى، والانفتاح على تغييرات في شكل الدولة واسمها ورموزها، سواء كانت علمانية، أو لون العلم، أو كلمات النشيد. بعد نصف قرن من حكم أحادي، يجب أن تكون هوية سورية مطروحة على طاولة النقاش، من دون شروط أو “فيتو”.
درج
——————————
العبث البعثي في بيروت : صدّام حسين وعلم الثورة السورية!/ حسام فران
21.12.2024
صورة صدام حسين المرفوعة إلى جانب علم الثورة السورية في بيروت، لشدّة سوريالتيها، تبدو مفبركة أو معدّة بالذكاء- أو الغباء- الصناعي. لكنها حقيقية تماماً، وحدثت فعلاً، إذ احتفى لبنانيون حقاً بسقوط بشار الأسد عبر التهليل لصورة طاغية بعثي آخر هو صدّام حسين
هي صورة لصدام حسين، الطاغية البعثي العراقي، ترتفع إلى جانب علم الثورة السورية في إحدى التظاهرات الشعبية المحتفلة بسقوط بشار الأسد، الطاغية البعثي السوري، في العاصمة اللبنانية بيروت.
الصورة تقدمة من “شباب عائشة بكّار”، وقد رفعها شبّان أغلبهم لم يكن قد وُلد حين سقوط صدّام حسين في العراق، ورفعوا معها أيديهم بإشارة النصر: انتصار طاغية على طاغية. وما كان هذا التحريف للواقع ليكون مستفزاً، لولا رفع هؤلاء أنفسهم، يداً بيد، أعلام الثورة السورية.
الصورة لشدّة سوريالتيها، تبدو مفبركة أو معدّة بالذكاء- أو الغباء- الصناعي. لكنها حقيقية تماماً، وحدثت فعلاً، إذ احتفى لبنانيون حقاً بسقوط بشار الأسد عبر التهليل لصورة طاغية بعثي آخر هو صدّام حسين، الذي لا تزال له بعض الشعبية المثيرة للشفقة في بيئات سنّية، تعوّض بنوستالجيا الغائب، غياب زعامتها الطائفية، وانتقاماً متأخراً من الخصم الطائفي البعثي الآخر المتمثّل ببشار الأسد.
المجموعة نفسها، رفعت علم “تيار المستقبل” وعلم فلسطين، الذي يصادف أنه مطابق تماماً لعلم حزب “البعث السوري”، فيبدو لوهلة، كأن بعثيين سوريين يحتفون بسقوط بشار الأسد، عبر حمل صور صدّام حسين ورايات “تيار المستقبل”!.
وقد يكون مفهوماً أن يعبّر محبّون بائسون لصدّام حسين عن بهجتهم بسقوط ابن حافظ الأسد الخصم اللدود لزعيمهم البائد، نظراً لتاريخ الصراع الطويل بين البعثين في العراق وسوريا، مع أن بشار الأسد وقف إلى جانب خصم والده صدّام خلال حصار العراق بين عاميّ 2000 و2003، بعد توليه السلطة، كما عارض بشار الحملة العسكرية الأميركية لخلع صدّام عن “عرشه” في العام 2003، ولعب دوراً ملحوظاً في منع استقرار العراق، وفي تصدير المقاتلين إليه في حربه الأهلية بعد سقوط الطاغية.
كل هذا ربما لا يعرفه من يرفعون صور صدّام في احتفالات إسقاط بشار، وما يثير القلق حقاً، هو مجاورة صورة الطاغية علم الثورة على الأسد، بما يعنيه ذلك من محاولة تحجيم ثورة وطنية ضد نظام فئوي، إلى مجرد ردّ فعل طائفي فئوي انتقامي، يستبدل طاغية بطاغية، ولو رمزياً.
هذه المحاولات، لا شك، في أنها جزء من نهج يسعى إلى مصادرة الثورة السورية وإنجازات الشعب السوري، وحشرها في زوايا متطرفة تفوح منها روائح طائفية كريهة. وهذا يشكّل امتحاناً لكيفية تعاطي نخب الثورة السياسية والثقافية والاجتماعية في التصدي لظواهر مماثلة تُسقط صور بشار الأسد، لترفع مكانها صور صدّام حسين، أو من يعادله في الرمزية والدلالة.
هذا الأمر ينسحب إلى مسائل شكلية أخرى، قد يُهملها كثيرون، بداعي “سكرة” النصر، فيستفيق الجميع بعدها على تحوّل الشكليات إلى أمر واقع، ويعاد إنتاج نوع آخر من القمع الاجتماعي والثقافي والحياتي، بحجة التحرر من القمع السياسي. وهذا ليس اتهاماً لحكام دمشق الجدد المفترضين، بل هو توصيف لسلوك ظاهر، لا يُخفيه أصحابه، ويبرز في فلتات ألسنتهم، وإن كان الأداء العام حتى الآن قائماً على الطمأنة.
من هنا تتأتى أهمية التوقف أمام صورة صدّام الملاصقة لعلم الثورة، إذ يبدو هذا الترميز المكثّف في تأويله، إلى عبثيته وبعثيته، شديد الدلالة على العناصر الدخيلة البشعة التي يمكن أن تقتحم الصورة الحلوة للثورة السورية، والنماذج المقيتة التي يمكن أن ترفع علمها في الشوارع. وإذا كان صدّام يمثّل تكثيف الاستبداد البعثي، وصورة بشار الأسد في المرآة، فإن حضوره إلى جانب علم الثورة السورية يدقّ ناقوساً رمزياً لخطر غير افتراضي، بل واقعي تماماً، من مصادرة الثورة وعلمها وشعاراتها وإعادتها مكبّلة إلى زنازين البعث، العراقي أو السوري، لا فرق، أو أي مرادف آخر لهما.
درج
—————————-
سوريا والنظام العربي المقبل/ محمد الرميحي
21 ديسمبر 2024 م
في الفترة السابقة لم يعد النظام العربي الإقليمي قادراً على مقاومة الكثير من التحديات. كان نظاماً شبه معطل؛ بسبب «الزعيق» الآيديولوجي، وأيضاً بسبب وضع سوريا التي اختارت تحت نظام الأسدين الأب والابن الارتباط بمكوِّن آخر خارج النظام. وسوريا مع مصر والمملكة العربية السعودية تشكل جميعاً قاعدة النظام العربي المشرقي. فإن استطاع هذا المحور التعاون البنّاء، يمكن أن ينضم إليه آخرون على قاعدة الندية والخير المشترك.
بدأت هذه المسيرة الثلاثية بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومحاولة دول كبرى أن تستقطب دول الإقليم وتزجها في صراعها الأممي، فكان ما عُرف في ذلك الوقت بـ«حلف بغداد»، والذي ضم كلاً من إيران وتركيا وباكستان وبريطانيا والولايات المتحدة، وأُعلن في عام 1955 باسم «حلف المعاهدة المركزية».
بعدها تداعت الدول الثلاث؛ المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا، إلى اجتماع في مدينة الظهران في المنطقة الشرقية على ضفاف الخليج. ضم الاجتماع كلاً من الراحلين الملك سعود بن عبد العزيز، والرئيسين جمال عبد الناصر وشكري القوتلي، فكان ميلاد ما عرفه المشتغلون بالسياسة بأنه قاعدة النظام العربي الجديد، المعتمد على البُعد عن المحاور والصراعات الدولية، والدفاع عن المصالح العربية. كان ذلك التوجه للنأي بالمنطقة من استنزاف مواردها التي تحتاجها شعوبها للتنمية عن مصالح صراعية دولية، بين ما عُرف وقتها بالمعسكر الغربي والمعسكر الشرقي.
خرجت بغداد من الحلف أواخر عام 1958. وبعد انفراط الوحدة المصرية – السورية آخر عام 1961، دخلت سوريا في صراع داخلي، ثم انزلقت إلى حكم الأسرة الأسدية، ومن وقتها ولنصف قرن تقريباً وهي تبتعد عن المحور العربي باتجاه محور إقليمي يناقض كل ما يرغب فيه الشعب السوري.
ذلك التاريخ انقطع أو يكاد ينقطع بسقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وبدخول قوات المعارضة السورية إلى دمشق.
في السنوات الأخيرة «نضج حكم الأسد وأصبح قابلاً للسقوط» لأسباب كثيرة يصعب حصرها؛ من قمع الداخل الذي طال تقريباً كل المكونات السورية، بما فيها ما عُرف بحاضنته الاجتماعية، ومنها سياساته الخارجية العبثية. ورغم محاولة تعويمه في أكثر من مرحلة، فإن مرض الإنكار كان قد تمكن منه، وهو مرض قاتل.
سوريا مهمة لقاعدة النظام العربي من أجل تصليبها. وثلاثية المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا ممكن من جديد أن تكون قاعدة النظام الإقليمي العربي، بعد التطورات التي حدثت في المنطقة؛ فالمملكة بما تملك من اتصال وثيق بمحيطها الخليجي والعالمي، ومصر بمخزونها البشري، وسوريا هي واسطة العقد العربي؛ لذلك من الأهمية أن يكون النظام الذي يتمخض عن الثورة الأخيرة منسجماً مع هذا المحور المصري – الخليجي، آخذاً بالاعتبار كل التطورات التي مرت بالمنطقة، مع الاستفادة من الدروس الدموية التي دفعتها كل مكونات الشعب السوري.
كثير من المراقبين يرحبون بالتغيير في سوريا، إلا أن هناك بعض التحوطات التي يجب الأخذ بها، منها أن مكوناً واحداً لا يستطيع أن يبحر بسوريا في خضم المتغيرات الإقليمية والدولية، كما أن سوريا في محيطها العربي هي أكثر أماناً، وأكثر قابلية للفعل على المستوى الدولي.
التحدي أمام النظام الجديد عنوانه الرئيس ألا يقع النظام الجديد في أخطاء النظام السابق الذي أغرق سوريا في القمع والفقر والخوف والعزلة. و«روشتة» الخروج من هذا المأزق هي أربع ركائز: أولاً، نظام سياسي يكفل الحريات لكل المواطنين والمكونات السورية، وينظم السلطات. وثانياً، نظام اقتصادي يكفل العيش الكريم بعيداً عن الشمولية والاستحواذ. وثالثاً، يحوط ذلك نظام قانوني يكفل الحقوق بميزان العدل الإنساني. ورابعاً، نظام إعلامي حر في حدود قوانين حديثة.
الانزلاق إلى الأحادية، والاهتمام بالصغائر والشكليات التي هي مفارقة للعصر وللعقل… يدخلان النظام الجديد، وهو هشّ، إلى مداخل مظلمة، ويؤلبان الآخرين عليه، ويتركانه صيداً للقوى الإقليمية المستعدة للقفز من النافذة بعد خروجها من الباب! لأن المسارات النقيضة للنقاط الأربع السابقة، هي «نوافذ» لقفز الآخرين منها على مقدرات الشعب السوري.
يمكن في المرحلة الحالية توصيف ما جرى في سوريا حتى أسبوعين من سقوط النظام، إن استعرنا ضوابط إشارات المرور، بأنه «أخضر وبرتقالي»؛ أخضر في الكلام والوعود، وبرتقالي في بعض الأفعال، كما القول «إن صح» بعزل النساء عن القضاء، وما شابه من تصريحات تقود إلى توسيع حالة البرتقالي الذي بالضرورة سوف يقود إلى الأحمر الذي لا يتمناه أي وطني سوري ولا عربي مُحبّ لسوريا.
آخر الكلام: أي تغيير له شهر عسل، قد يطول وقد يقصر. العمى السياسي أن يعتقد البعض أن شهر العسل لا نهاية له!
الشرق الأوسط
————————–
أخطار الفرز والضم: الوحدة بعد التقسيم/ رفيق خوري
لم يعد الشرق الأوسط كما هو على خرائط الجامعات والخارجية الأميركية بل ضم دولاً أخرى
السبت 21 ديسمبر 2024
تعلمنا من درس لبنان ثم العراق، أن خرائط سايكس- بيكو لا تزال منذ أكثر من مئة عام عصية على نجاح المساعي القومية للتوحيد والمساعي الفئوية للتقسيم فلا وحدة بين بلدين نجحت ولا تقسيم تحقق.
ليس غريباً أن ترتفع أصوات تدعو إلى تقسيم سوريا، وسط الدعوات الرسمية العربية والدولية إلى التمسك بوحدتها وسلامة أراضيها. الغريب هو تجاهل ثلاثة أمور أساسية لدى دعاة التقسيم. أولها أن سوريا مقسمة أصلاً منذ عام 2011 إلى حصص تتحكم بكل منها قوة إقليمية أو دولية أو معاً. وثانيها أن التوجه الطبيعي بعد سقوط النظام هو الانتقال من التقسيم إلى التوحيد، وليس تكريس التقسيم بشكل رسمي أو بالقوة. والثالث أن خريطة سوريا ليست معزولة عن خريطة المنطقة، بالتالي فإن اللعب بها ليس عملية مغلقة على اللعب بالخرائط الأخرى، ولو كان اللاعبون محليين وإقليميين ودوليين.
وقد تعلمنا من درس لبنان ثم العراق، أن خرائط سايكس- بيكو لا تزال منذ أكثر من مئة عام عصية على نجاح المساعي القومية للتوحيد والمساعي الفئوية للتقسيم. فلا وحدة بين بلدين نجحت. ولا تقسيم تحقق. إذ هي متشابكة ومترابطة، بصرف النظر عن الروايات حول جهل السير مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو بالمنطقة والاعتباط في رسم حدود تضم مجموعات غير متجانسة لأسباب تتعلق بالخيارات الاستراتيجية البريطانية والفرنسية والتسابق بين البلدين المنتدبين على النفط وأمور أخرى.
وبكلام آخر، فإن تغيير الخريطة في سوريا يفرض تغيير الخرائط في لبنان والعراق وفلسطين وتركيا وإيران. شيء من الفرز، وشيء من الضم. فرز البلدان الضعيفة بما يأخذ منها. والضم إلى البلدان القوية التي تريد الحصول على ما تحلم به. من أحلام السلطنة العثمانية ولا سيما بالنسبة إلى ضم حلب والموصل إلى أحلام “ولاية الفقيه” حول ضم كل شيء عند “ظهور الإمام الغائب وتأليف حكومته” وحكم العالم. فضلاً عن أحلام “إسرائيل الكبرى” وبعضها في الجولان السوري وقمة جبل الشيخ ومساقط المياه والضفة الغربية وبالطبع غزة وحتى الجنوب اللبناني حتى نهر الأولي.
ولا أحد يجهل كيف يكون المشهد في المنطقة إذا تحققت بالفعل معادلة الفرز والضم. وهو بالتأكيد ليس مشهد سلام وتنمية وتعاون بين البلدان التي تخسر من أرضها والبلدان التي تضم إليها أرضاً ليست لها. إنه مشهد صراعات وحروب. لا فقط مئة عام أخرى من الصراع العسكري مع إسرائيل لتحرير الأرض بل أيضاً استعادة لقرون من الصراع مع السلطنة العثمانية والإمبراطورية الفارسية، والصراع بينهما على ما هو أكثر من النفوذ.
ولا مجال للتصور أن اللعبة الإقليمية مقتصرة على تركيا وإيران وإسرائيل، سواء في إطار الصراع العنيف أو في إطار التفاهم على النفوذ في مناطق خاصة بكل قوة إقليمية، بالتالي ترتيب نظام أمني إقليمي جديد. فاللعبة الدولية أكبر. والدور مفتوح لظاهرة القوى غير الدولتية التي جاءتها فرصة في ما سماه العالم السياسي الفرنسي برتران بادي “دخول زمن تتلاشى خلاله التحالفات تدريجاً لمصلحة سيولة شديدة تسم الواقع الحالي، بحيث أضحى الحليف الذي يحظى بالحماية أو الوكيل يتمتع بهامش استقلالية حيال الأصيل”.
وإذا كانت روسيا مشغولة بحرب أوكرانيا، فإنها تعمل بكل نشاط للحفاظ على قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية في سوريا. وحتى في حرب أوكرانيا، فإن ما يخوضه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو حرب أكبر بكثير من أوكرانيا، حرب “إعادة تصحيح” ما يسميه التغول الغربي على روسيا بعد الحرب الباردة، وإثبات أن موسكو محور قوة عظمى.
وإذا كانت أميركا “فشلت في ضمان أمن البحر الأحمر وتوقفت أمام سؤال عن قدرتها على أمن المحيطين الهندي والهادئ”، كما يقول مارا كارلين في مقال عن “الحرب الكلية”، فإنها مصرة على اللعبة الكبيرة في الشرق الأوسط والشرق الأقصى. وإذا كانت الصين شديدة الاهتمام باستعادة تايوان المحمية أميركياً، وكثيرة الراحة حيال مشروع “الحزام والطريق” الذي تشارك فيه 130 دولة، فإنها تبني قوة بحرية وجوية هائلة تفرض البحث عن مناطق نفوذ لها. والشرق الأوسط ليس كله تجارة.
ومع حديث الفرز والضم، يتحدث مارك لينش أستاذ العلوم السياسية والقضايا الدولية في جامعة جورج واشنطن عن “نهاية الشرق الأوسط”. لماذا؟ لأن “خريطة قديمة تشوه واقعية جديدة” فالشرق الأوسط لم يعد العالم العربي وإسرائيل وتركيا وإيران كما هو على خرائط الجامعات والخارجية الأميركية. هو يشمل الآن أفغانستان وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وباكستان والصومال، بحسب خريطة القيادة الوسطى الأميركية. و”كل حياة هي سباحة في بحر اللايقين” كما يقول إدغار موران.
——————————
الشرق الأوسط إذ يحتفظ بمكانته الاستراتيجية/ إيلي القصيفي
أسئلة كثيرة عن موقع روسيا في سوريا الجديدة
21 ديسمبر 2024
شكّل الحدث السوري بسقوط نظام آل الأسد دليلا قويا على المتغيرات الجيوسياسية التي حدثت في المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. صحيح أن الضربات القوية التي تعرض لها “حزب الله” في لبنان، منذ منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، والتي أضعفته كثيرا كانت هي أيضا دليلا على هذه المتغيرات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بدعم أميركي. لكن الحدث السوري كان حاسما في تأكيد هذه المتغيرات بالنظر إلى أنه كان حلقتها الثالثة بعد غزة ولبنان، وكنتيجة لما جرى في كليهما.
هذا يطرح سؤالا أساسيا عن أين ستقف حلقات المتغيرات تلك؟ هل ستكون سوريا آخر محطاتها، أم إنها ستشمل العراق أيضا وربما إيران؟ في الواقع أثبت مسار الأحداث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أنه من الصعب جدا التنبؤ بمستقبل التطورات في منطقة مثل الشرق الأوسط، وفي حرب كتلك التي تخوضها إسرائيل في ظل مشهد إقليمي ودولي معقّد على خلفية تجذّر الاصطفاف بين الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة وبين القوى الإقليمية والدولية التي تحاول أن تطرح نفسها كقطب صلب في مواجهة “الهيمنة الغربية”.
الأكيد أنّ كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023 يؤكد أن الشرق الأوسط لا يزال يحتفظ بمكانته الاستراتيجية على الساحة الدولية. هذا في وقت كان الحديث قبل الحرب عن تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة نظرا إلى تحوّل أولوياتها نحو مواجهة روسيا والصين كل في إطاره الجغرافي وسياساته. وهو ما خلق انطباعا عن انخفاض القيمة الاستراتيجية للشرق الأوسط على الساحة الدولية لمجرد “تخلّي” الولايات المتحدة عنه. لكن في الواقع فإنه ينبغي قراءة هذا التخمين في إطار مساعي قوى إقليمية ودولية لخلق أرضية إعلامية وسياسية تصور تبدل الأولويات الأميركية كما لو أنه فرصة لها لتقوية نفوذها في المنطقة على حساب النفوذ الأميركي المتداعي.
ولا ريب في أن يحيى السنوار لم يكن بعيدا عن هذه القراءة عند تخطيطه لعملية “طوفان الأقصى” على اعتبار أن تحول واشنطن نحو أوروبا والمحيط الهادئ سيجعلها أقل استعدادا للانخراط مجددا في المنطقة دفاعا عن إسرائيل. طبعا هذا لا يختصر دوافع السنوار لتنفيذ العملية والتي لم تتكشف كلها بعد وربما سيبقى العديد من جوانبها غامضا ومجهولا، إلا أن الأكيد أن السنوار كان يراهن على الانقسامات الداخلية الإسرائيلية على خلفية الخلاف حول مشروع “الإصلاحات القضائية” الذي قاده بنيامين نتنياهو، كما كان يراهن على استعداد “محور المقاومة” وعلى رأسه إيران للدخول في الحرب إلى جانبه تطبيقا لمفهوم “وحدة الساحات”، والذي كانت “حماس” والسنوار وقطاع غزة برمته أولى ضحاياه، ثم لحق بهم “حزب الله” ولبنان.
أي إن السنوار وقع في أوهام القوة التي كان يروجها “المحور” عن نفسه، وفي تقديرات خاطئة للمشهد الإسرائيلي الداخلي، ولمدى استعداد واشنطن لدعم تل أبيب. وهذا من دون إغفال أن السنوار نفسه، وبحسب مصادر “حماس”، لم يكن يقدّر أن تبلغ عملية طوفان الأقصى هذا الحجم وأن هدفها كان القيام بعمليات أسر والتفاوض بعدها على صفقة تبادل، لكن العملية خرجت عن السيطرة خصوصا مع تداعي شبكات “الدفاع” الإسرائيلية في غلاف غزة. كما تردد أوساط قريبة من “حماس” معلومات عن أن السنوار أبدى لوسطاء نرويجيين في بداية الحرب عن استعداده للتفاوض على صفقة شاملة لكن نتنياهو رفض عرضه.
أيا يكن من أمر فتفاصيل العملية لا تزال طي الكتمان وربما ستشكل التحقيقات الإسرائيلية بشأنها أحد أهم المصادر لمعرفتها، ولكن ما يفترض أخذه في الاعتبار أن تقدير السنوار لظروف العملية وإن لم يكن منسقا تماما مع “محور المقاومة” فإنه لم يخرج عن الإطار العام لتقدير “المحور” لموازين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة، ليظهر لاحقا أن “المحور” بكامله وليس “حماس” فقط وقع في أوهام تقدير قوته، أو أنه لم يتوقع أن تفضح الأحداث حجم قوته.
بيد أن الأهم من ذلك كلّه أن المتغيرات التي شهدتها المنطقة لا تقتصر نتائجها على “محور المقاومة” وحسب بل تشمل أيضا القوى الدولية التي كانت تطمح لحجز مساحة صلبة في خريطة النفوذ الإقليمية والدولية في المنطقة وفي مقدمتها روسيا. فموسكو التي كانت تراهن على إشغال أميركا والغرب في حرب الشرق الأوسط وبالتالي تخفيف الضغط عليها في أوكرانيا– وهو ما طرح تساؤلات عن دور روسي معين في “طوفان الأقصى”- وجدت نفسها تواجه نتائج هذه الحرب في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وهو ما يفرض تحولا كبيرا على مستوى النفوذ الروسي ليس في سوريا وحسب بل في المنطقة برمتها.
لذلك لا يقتصر السؤال حول تأثيرات أحداث المنطقة في غزة ولبنان وسوريا على إيران، وما إذا كانت هذه الأحداث الدراماتيكية ستؤدي الى إضعاف نظامها من الداخل وتوجيه ضربة إسرائيلية وربما أميركية لبرنامجها النووي– بعد وضع دونالد ترمب هذا الاحتمال على الطاولة- بل إن هناك سؤالا عن مدى تأثير أحداث المنطقة وخصوصا في سوريا على روسيا التي وعلى الرغم من دورها المتأخر في “ترتيبات” سقوط الأسد بعد أن اتضحت حتمية هذا السقوط، فإن سقوطه نفسه شكل انتكاسة استراتيجية لها. فبعد أن شكل تدخل موسكو لإنقاذ الأسد في عام 2015 دلالة على عودتها القوية إلى المنطقة والمياه الدافئة، وتحولها لاعبا رئيسا على المسرح الدولي- خصوصا أن ذلك حدث بعد ضمّها لجزيرة القرم– فإن انهيار المشروع الروسي في سوريا، عسكريا بعد فشل الجيش السوري الذي استثمرت موسكو في بناء وحدات فيه، وسياسيا بعد فشل مساري “آستانة” و”سوتشي” لخفض التصعيد، لا يمكن أن يكون إلا مؤشرا لبداية تراجع مكانة روسيا على الساحة الدولية انطلاقا من الشرق الأوسط. وهو ما يؤكد احتفاظ المنطقة بأهميتها الاستراتيجية، باعتبار أن تراجع نفوذ أي قوة عالمية أو إقليمية فيها يؤدي إلى تراجع حضورها على المسرح الدولي.
طبعا لا يمكن القياس على الحدث السوري لوحده للبرهان على تعرض المكانة الدولية لروسيا للتراجع، إذ إن المحك الأساسي لهذا التراجع يبقى الحرب في أوكرانيا، وقدرة موسكو على الخروج منتصرة منها أو بأقل تقدير غير مهزومة. إلا أنه في الوقت عينه وقياسا على تصوير موسكو لقوتها ولعودتها قطبا رئيسا في مواجهة الهيمنة الغربية، فإن عدم تمكنها من الدفاع عن نظام الأسد كما حصل في عام 2015 ليس تفصيلا عابرا في قياس مدى قدرة موسكو على الاحتفاظ بمكاسبها الاستراتيجية على المسرح الدولي.
فالقول إن جيش الأسد لم يكن مستعدا للقتال لا يفسّر وحده عدم قيام موسكو وكذلك طهران في الدفاع عنه، فالواقع أن كليهما لم يعد قادرا على منع سقوط نظام الأسد. فلا إيران التي تلقت أذرعها ضربات قاسمة خلال الحرب الأخيرة كانت قادرة على الزج بمستشاريها ومقاتلي الفصائل الموالية لها للقتال ضد الفصائل السورية، ولا روسيا التي لن تلقى طائراتها مواكبة ميدانية على الأرض، بخلاف العام 2015، قادرة على وقف تقدم الفصائل نحو دمشق. وهو ما يدل إلى تكامل النفوذ بين كل من طهران وموسكو في المنطقة وخصوصا في سوريا، على الرغم من كل ما قيل في المرحلة الماضية عن تناقضات بينهما. لكن أيضا فإن روسيا الغارقة في الحرب الأوكرانية منذ أكثر من عامين والتي تستعين الآن بمرتزقة من كوريا الشمالية لاسترجاع منطقة كورسك داخل حدودها بعدما احتلها الجيش الأوكراني قبل أشهر، لم تعد قادرة ولا مستعدة للانخراط مجددا في معركة الدفاع عن نظام الأسد وتفضل التركيز على حربها في أوكرانيا. والأهم أن المتغيرات الجيوسياسية التي فرضتها الحرب في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023، وضعت موسكو أمام أمر واقع جديد في سوريا لا تمتلك أدوات كافية للتعامل معه، مما اضطرها للاستسلام له ومحاولة التكيف معه وتحديد خسائرها من جرائه. وهو ما يؤكد أنه لا يمكن مقاربة تطورات الأحداث في المنطقة مقاربة إقليمية بحت وكأن تأثيراتها تنحصر في الشرق الأوسط، بل ينبغي مقاربتها دوليا على قاعدة انعكساتها على موازين القوى الدولية.
وفي السياق فقد دفع اغتيال أرفع مسؤول نووي بالجيش الروسي الثلاثاء الماضي، وعلى بعد 7 كيلومترات من الكرملين، إلى التفكير في معاني التزامن بين اغتياله من جانب الاستخبارات الأوكرانية وسقوط نظام الأسد.
للوهلة الأولى يبدو الربط من حيث التوقيت بين الحدثين في غير محله على اعتبار أنه ينبغي عدم المبالغة في البحث عن علاقة سببية مباشرة بينهما بالنظر إلى انفصالهما الجغرافي وإلى أن هذا الاغتيال ليس الأول من نوعه منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية. لكن واقع الأمر أن تزامن الحدثين يطرح سؤالا أساسيا عن مدى تأثير الانتكاسة الروسية في الشرق الأوسط على مستقبل ديناميات القوة الروسية داخل روسيا وفي مجالها الاستراتيجي المباشر وحول العالم. بصيغة أخرى إلى أي مدى سيحفز تراجع نفوذ روسيا في المنطقة خصومها إلى تكثيف أدوات الضغط السياسية والعسكرية ضدها؟
طبعا لم تتوفر بعد معطيات كافية للاجابة عن هذا السؤال، ولاسيما مع اقتراب دخول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وهو الذي وعد بإحلال السلام في أوكرانيا ولو لم يفصح عن استراتيجيته لتحقيق ذلك. ومن دلالات المتغيرات التي فرضها انتخاب ترمب على ملف الحرب الروسية الأوكرانية تولي “الناتو” تنسيق المساعدات العسكرية لكييف بدلا من أميركا. وفي المقابل فإن فلاديمير بوتين لا يزال يتصرف على اعتبار أن اليد العليا ما تزال له في أوكرانيا، وهو ما أكده الاثنين الماضي بقوله إن العام الحالي كان عاما تاريخيا على صعيد تحقيق الأهداف العسكرية في أوكرانيا. لكن في الواقع فإن انتخاب ترمب رفع من مستوى الاهتمام باحتمالات التسوية السياسية للنزاع أكثر منه بمجريات المعارك على الأرض التي تتراجع أهميتها نسبيا، ولو كان الجيش الروسي يحقق بعض التقدم على الأرض لكنه تقدم بطيء وغير قادر على حسم المعركة.
وإذا كانت بوتين، لو يتطرق في كلمته الاثنين الماضي، والتي أوجز فيها مجريات العام الحالي على خطوط المواجهة في أوكرانيا، إلى الحدث السوري، فهو تعهد بمواصلة تعزيز تحالفات بلاده العسكرية مع أطراف تتشارك مع روسيا مواقفها في مواجهة الهيمنة الغربية.
والحال فإن كلام بوتين هذا يعيد إلى الأذهان السردية التي تتحدث عن بداية أفول الإمبراطورية الأميركية لصالح صعود قوى عالمية جديدة على المسرح الدولي في مقدمتها روسيا والصين، في وقت أن الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط أظهرت أن أميركا ما تزال قادرة على التدخل بقوة وحسم الصراعات، بينما خصومها يقبعون في خلفية المشهد، ويحاولون تحديد خسائرهم. ولو كانت أدوات فوز إسرائيل وأميركا قد تحمل في طياتها مخاطر عليهما على المدى البعيد بالنظر أنها أدوات قوة بحت زادت في تقليص إمكانات السياسة في المنطقة.
وربما لا يصلح الشرق الأوسط ليكون دليلا كافيا على حجم التفوق الأميركي حول العالم، لكن الأكيد أنه لا يمكن التعامل مع المتغيرات في الشرق الأوسط كما لو أنها لم تحصل وكما لو كانت بلا تأثير على المسرح العالمي، وبالأخص بالنسبة لكل القوى التي تعد نفسها بمواجهة الولايات المتحدة، من إيران إلى روسيا، وحتى الصين التي لا شك أنها تراقب بدقة التطورات الدراماتيكية في المنطقة وتأثيراتها على حلفائها المفترضين.
وفي المحصلة فإنّ كلام بوتين، الخميس الماضي، عن أن بلاده لم تهزم في سوريا وأنها حققت أهدافها فيها “بشكل ما”، يؤكد أن موسكو باتت في موقف دفاعي في المنطقة، ولو حاول بوتين التقليل من حجم مسؤوليته عن سقوط الأسد، مرة بالإشارة إلى مغادرة الإيرانيين والموالين لهم دمشق من دون قتال، ومرة بالقول إن بلاده تحافظ على العلاقات مع الفصائل السورية. لكن الأكيد أن موقع روسيا في سوريا الجديدة لن يكون هو نفسه في “سوريا الأسد” التي يشكل سقوطها نهاية حقبة طويلة في المنطقة، ويعيد رسم خريطة النفوذ الإقليمية والدولية فيها.
المجلة
——————
سوريا التي تحرج العراق/ عقيل عباس
21 ديسمبر 2024
لا شيء اختبر العراق “الجديد” مثل سوريا “القديمة”. فعلى مدى أعوام طويلة اختار ساسة العراق “الديمقراطي” الوقوف بقوة مع نظام استبدادي بعثي يعاقبونه بشدة في العراق ويدعمونه بقوة في سوريا، باستخدام حجج مُضللة جوهرها بقاء أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في الحكم، وليس الدفاع عن مصالح البلد المشروعة، من ضمنها تلك المرتبطة بالأمن القومي العراقي. هَيمن هذا السلوك الأناني والضيق الأفق أخلاقيا وسياسياً والمُضرّ استراتيجياً على صناعة القرار العراقية نحو سوريا على مدى الأعوام الثلاثة عشر الماضية.
في الرابع من أبريل/ نيسان 2012 قال رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، بنبرة لا تخلو من الانفعال في إشارته للأوضاع في سوريا: “لغة استخدام القوة في إسقاط النظام، سوف لن يسقط النظام بالقوة، قلناها سابقاً. قالوا شهرين وقلنا سنتين، والآن أكثر من سنة والنظام لم يسقط، ولن يسقط. ولماذا يسقط؟ لكن المشكلة أن النظام يتشبث ويقاوم والمعارضة تتشبث وتقاوم… وظيفتنا نحن كعرب وكمسلمين أن نذهب لإطفاء النار وتطويق الأزمة ما دامت هذه الأزمة قابلة لأن تتفاعل… نحن نرفض تسليح المعارضة بالمطلق… حتى لو سقط النظام، إذا سقط النظام، وماذا بعد؟ لا أحد يفكر في ماذا بعد، نحن نفكر في ماذا بعد!”.
في هذا المؤتمر الصحافي الذي عُقد بعد نهاية القمة العربية في بغداد (أقصد القمة الثالثة والعشرين للجامعة العربية) وكانت الأزمة السورية موضوعاً رئيساً وخلافياً فيها، دعا المالكي إلى حوار بين المعارضة والسلطة لحل الأزمة المتصاعدة حينها.
كان الافتراض الذي استند عليه المالكي وتكرر فحواه المتشابه في إعلانات كثيرة، عراقية وإيرانية ولـ”حزب الله” اللبناني وقتها، أن ثمة إمكانية حقيقية للتفاوض بين النظام والمعارضة لحل المشكلة وأن على المعارضة أن لا تضيع فرصة التفاوض هذه وتصر على درب السلاح. كان الواقع على الأرض مختلفاً تماماً، فالنظام سد طرق التفاهم والتفاوض مبكراً، ولجأ إلى العنف المفرط حتى قبل الخطاب الشهير للرئيس المخلوع، بشار الأسد، أمام مجلس الشعب في نهاية مارس/آذار 2011، بعد أسابيع من اندلاع الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإصلاحات جدية مثل إلغاء قانون الطوارئ وتفكيك الدولة الأمنية وحكم الحزب الواحد. اعتبر الرجل أن ما يحدث هو عبارة عن مؤامرة خارجية ينبغي الوقوف ضدها بحزم، فيما لم يتحدث عن أي إصلاحات فعلية وحقيقية أو الاستعداد لها تستوعب مطالب المحتجين.
قبل تصريح المالكي هذا بأربعة أشهر، أي في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2011، ذكر الرجل، في لقاء صحافي، استعداده للوساطة بين المعارضة والنظام، محذراً من اندلاع حرب أهلية في سوريا، ومؤكداً من جديد على رفضه إسقاط نظام الأسد مع تأكيده على ضرورة قيام هذا النظام بإصلاحات وإنهاء حكم الحزب الواحد! في حينها، مع اندلاع الاحتجاجات السورية وتحولها تالياً إلى نزاع مسلح بسبب القمع الأمني الشديد الذي سلّطه نظام الأسد على المحتجين السلميين، كان ثمة ترقب عربي عام، شعبي ورسمي، يشبه الإجماع، لنهاية وشيكة ومتمناة لهذا النظام في سياق الربيع العربي الذي أطاح بثلاثة أنظمة جمهورية عربية استبدادية (تونس، مصر، ليبيا) وكان المتوقع أن سوريا ستكون الرابع. شذَ العراق عن هذا الإجماع العربي إذ وقف مبكراً مع نظام الأسد حتى مع المفارقة المريرة التي كانت تُثار عراقياً بقوة ضد هذا التأييد المبكر لهذا النظام، فحكومة المالكي، كما دولة ما بعد 2003 العراقية، دأبت على معاقبة حزب “البعث” الذي في العراق، ومطاردة أعضائه، وكثيرٌ منهم هربوا واختبأوا في “سوريا الأسد”، لكنها في الوقت ذاته تدعم حزب “البعث” الذي في سوريا وتدافع عنه في المحافل العربية!
لم يكن قرار المالكي المبكر بدعم نظام الأسد مرتبطاً بموقفه من حزب “البعث”، بل بخوفه من “الربيع العربي” واحتمالات امتداده إلى العراق خصوصاً مع تصاعد المظاهرات المعارضة لحكومته في البلد وقتها متأثرة بنجاحات الربيع العربي الأولى، واندلاع “الربيع الكردي” في إقليم كردستان، شمال العراق. مَثَّلَ “الربيع العربي” تحدياً حقيقياً لكامل الطبقة السياسية العراقية الحاكمة، خصوصاً الشيعية منها، وكانت الإطاحة المحتملة بالأسد تلوح ككابوس حقيقي يرعب هذه الطبقة، لأن حكمها سيكون مهدداً بقوة. هذا الخوف من “الربيع العربي”، وبوابته العراقية كانت سوريا المجاورة، هو الذي دفع الجماعة السياسية الشيعية الحاكمة إلى التحالف مع نظام الأسد. قبل هذا، كان العراق ينظر بارتياب لنظام الأسد، بل اشتكى ضده أمام الأمم المتحدة بحجة صحيحة وموثقة تتعلق بتدريبه إرهابيين في معسكرات داخل سوريا قبل إرسالهم إلى العراق لتقويض تجربته الجديدة بالديمقراطية المدعومة أميركياً خوفاً من انتقالها إلى سوريا تالياً في حال نجاحها.
على هذا النحو، وجد العراق نفسه مع إيران في المعسكر نفسه الداعم للأسد، لكن لأسباب مختلفة، إذ كانت إيران قد قررت منذ بدء الاحتجاجات السلمية السورية، في مارس 2011 الوقوف إلى جانب النظام على أساس حلف تاريخي وثيق بين الجمهورية الاسلامية وسوريا البعثية منذ نجاح الثورة في إيران في 1979، يقوم على مناهضة الغرب في المنطقة، و”إحباط مخططاته” ومنع تمدد نفوذه فيها.
في ظل هذا الحلف الأيديولوجي والبرغماتي بين نظام ديني إسلامي وآخر قومي عربي يجمعهما العداء للغرب بزعامة أميركية والرغبه بالتصدي له إقليمياً، استطاعت إيران تشكيل “محور المقاومة” المناهض للغرب، ودعم “حزب الله” في لبنان لتصبح سوريا، في ظل حكم عائلة الأسد، جزءاً من الأمن القومي الإيراني.
وبخلاف الأسباب الإيرانية الاستراتيجية والبعيدة المدى للوقوف إلى جانب حكم الأسد، كانت الأسباب العراقية مباشرة ومصلحية، وفئوية الطابع وتتعلق بالحفاظ على حكم أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في العراق.
لكن المشقة التي واجهتها الحكومة العراقية حينها تمثلت في عجزها عن تقديم تبرير متماسك سياسياً ومقبول شعبياً في العراق وطويل الأمد، لدعمها نظام الأسد، خصوصا في سياق ما أصبح حربا أهلية سورية مفتوحة، بلا نهاية لها في الأفق. في البدء استخدم المالكي خليطاً مرتبكاً وعمومياً من حجج الاضطراب الأمني والخوف من المجهول وضرورة قيام النظام السوري بإصلاحات لاستيعاب المعارضة. لكن هذه الحجة توارت سريعاً لصالح حجة مختلفة أشد رسوخاً، لكنها أكثر إشكالية: الإرهاب المُحرك طائفياً الذي يستهدف الشيعة، أي الصراع المذهبي بين متطرفين سنة “ارهابيين” وشيعة يدافعون عن أنفسهم. بدأت هذه الحجة بالبروز في أواسط عام 2013، بعد عام تقريباً من حديث المالكي بعد القمة العربية بخصوص بقاء نظام الأسد، عبر تأكيد زعيم “حزب الله” اللبناني حسن نصرالله في مايو/أيار 2013، لأول مرة، أن حزبه يقاتل في سوريا ضد “التيار التكفيري” الذي يهدد بالسيطرة على مناطق سورية محاذية للبنان ما يعرض ليس فقط الشيعة اللبنانيين للخطر بل كل اللبنانيين وصيغة عيشهم المشترك. تحدث نصرالله حينها عن مؤامرة عالمية تقودها الولايات المتحدة الأميركية لدعم التكفيريين محذراً من أن “وباء الجماعات التكفيرية ينتشر في العراق وتونس وغيرها” وأن أغلبية المنظمات المقاتلة في سوريا ضد النظام هي تكفيرية، ما يتطلب الوقوف ضدها.
عملياً، عنى بروز حجة الصراع المذهبي ومواجهة التكفيريين في سوريا تنحيةً لموضوع بقاء الأسد في السلطة بوصفه شأناً ثانويا لا قيمة له أمام الضرورة الكبرى بدفاع الشيعة عن أنفسهم أمام الهجوم الإرهابي التكفيري الذي يستهدفهم. لم تكن هذه التنحية مريحة سياسياً فقط، بل ضرورية مذهبياً أيضاً لأنها أزالت عن الفصائل المسلحة العراقية الشيعية المختلفة التي أرسلت مسلحيها إلى سوريا للقتال إلى جانب الأسد الحرجَ السياسي والديني والشعبي الكبير الذي كانت تواجهه في العراق بخصوص دعمها لنظام بعثي “علماني” قمعي، مرفوض ومُحارَب في العراق أصلاً، وساهم سابقاً في تدريب إرهابيين وإرسالهم للعراق. لعبت هذه التخريجة الجديدة، أي القتال دفاعاً عن الشيعة والتشيع ضد التكفيريين وليس عن الأسد و”البعث” ضد معارضيه، دوراً أساسياً في تحشيد الجمهور الشيعي في العراق وخارجه لتأييد القتال في سوريا وتطوع الكثيرين من الشيعة فيه (حسب تصريح القائد العام لـ”الحرس الثوري” الإيراني، محمد علي جعفري، في 2019 بأن بلاده جندت نحو مئة ألف عراقي للقتال في سوريا).
كان هذا التحشيد هائلاً وناجحاً، عبر استنفار الحس المذهبي الشيعي العميق بالخطر والخوف من الاستهداف الخارجي. في هذا السياق أنتجت الكثير من المقولات المزيفة لضمان استنفار نفسي عال ودائم تولت تغذيته آلة دعائية ضخمة كما في الادعاء المضلل بأن “التكفيريين” في سوريا يستهدفون إزالة ضريح السيدة زينب في دمشق (خصوصاً المقولة التي اشتهرت حينها “سترحلين برحيل النظام” رغم أنه ليس مؤكداً، حتى شيعياً، أن السيدة زينب مدفونة في دمشق فعلا). كان الرد على هذا التهديد المفترض مقولة مضادة، ترسخ الصراع الوجودي، استثمرت عميقاً في الوجدان الشيعي العام “لن تُسبى زينب مرتين” التي تُنسب لقائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، عبر التسمية التي اختارها في 2012 لعملية حماية الضريح التي قادها.
في خضم هذا التحشيد المذهبي القوي، بالمقولات المضللة التي أحاطت به وتخللته وأدامته على مدى أعوام، غابت الأسئلة المنطقية عراقياً، بخصوص فحوى الذي كان يجري في سوريا فعلاً. ففي الحقيقة، لم تكن الجماعات السورية المسلحة، وكثير منها سلفية، مهتمة بالشأن العراقي، ولم تهدد العراق أو الشيعة، بل كان جهدها منحصراً فى الإطاحة بالأسد، بلا أجندة إقليمية عابرة للحدود. فأهم هذه الجماعات وأشدها تأثيراً، “جبهة النصرة” التي تشكلت في سوريا عام 2012، لم تقم بأي عملية إرهابية في العراق، ولم يكن خطابها مهتماً بالعراق أو موجهاً ضد حكومته أو شيعته، إذ كان تركيزها العسكري، كما خطابها، هو إنهاء حكم الأسد، وإقامة دولة إسلامية في سوريا (وتراجعت تالياً عن هذا الهدف الأخير). الفصيل الوحيد الذي كان يستهدف العراق ويهدد شيعته هو تنظيم “داعش”، لكن أصل هذا التنظيم في العراق، حيث تأسس هناك في 2006 وكان العراق مركز قوته وعاصمة زعامته، ومنه انتقل إلى سوريا في ربيع 2013، تحت عنوان “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، بعد نحو عامين من وقوف العراق إلى جانب سوريا الأسد ضد خصومه.
ساهمت عوامل مختلفة في غياب الأسئلة المنطقية في العراق بخصوص ما يحصل في سوريا ودور العراق فيها، وفي صعوبة الحصول على أجوبة معقولة. بين أهم هذه العوامل هو إعلام عراقي معظمه كسول وفاقد للمهنية تعوزه القدرة على التشكيك والتساؤل الضروريين بحثاً عن الحقيقة، إذ اندرج هذا الإعلام بسهولة مقلقة في التحشيد المذهبي عبر اختصار فج للنزاع في سوريا في ثنائية ضيقة: إرهابيين داعشيين ومتعاطفين معهم يهددون العراق من جهة، ونظام حكم بعثي سيئ يمكن التعايش معه من جهة أخرى.
إزاء مثل هذه الثنائية الخانقة، لكن المزيفة، لم يكن أمام العراق إلا اختيار أهون الشرين: نظام الأسد. في ظل هذا الاندراج الإعلامي وحتى النخبوي والثقافي العراقي، ضاع التمييز بين عشرات الفصائل السورية المسلحة وتوجهاتها المختلفة، كما ضاعت أيضاً معها الفظاعات المهولة التي ارتكبها نظام الأسد، بمساعدة قوية إيرانية وروسية وفصائلية عراقية ولبنانية، ضد السوريين المعارضين وحتى العاديين الذين كان أقصى ذنبهم أنهم كانوا يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة المعارضة.
ليس هذا الفشل السياسي والأخلاقي العراقي الفادح إلا انعكاساً مخيفاً آخر لمعنى النفوذ الإيراني في العراق، بما ينطوي عليه من الخطورة الواضحة في تحول الأولويات الرسمية الإيرانية إلى أولويات عراقية.
المجلة
——————
نحو “مُتَحد سياسي” يجمع السوريين/ إياد الجعفري
2024.12.21
“لا يزال حلم رجال الدولة والعسكريين الذين يتصورون أنهم يستطيعون إيجاد المُتَّحَد في مجتمعاتهم، من دون الخوض في غمار السياسة. لكن الناس يمانعون الاستسلام لصورة الانسجام الاجتماعي من دون نشاط سياسي”. تلك الكلمات الواردة في كتاب “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة”، للأكاديمي الأميركي الراحل، صموئيل هنتنغتون، قد تكون مفتاحاً لفهم ما عشناه في سوريا، خلال الـ 13 عاماً الأخيرة بعد الثورة ضد نظام المخلوع بشار الأسد. وما نعيشه اليوم أيضاً، وما قد نعيشه في المدى الزمني القريب.
يرفض كثير من المطلعين بشكل كبير على الأدبيات الكلاسيكية في علم السياسة، الاستشهاد بأفكار هنتنغتون، المعروف بنظرية “صدام الحضارات” في تسعينات القرن الماضي. ليس فقط، بسبب نظريته تلك المثيرة للجدل، والتي اعتبرها البعض أنها تستهدف تحقيق المصالح الغربية وتأكيد الهيمنة الأميركية. بل لأسباب أبعد ذلك. فالأستاذ بجامعة هارفرد لأكثر من خمسين عاماً، عُرف برهاناته الواقعية المحافظة، وبتقديم معيار الاستقرار وديمومة نظام الحكم، أكثر ربما، من معيار الديمقراطية، في معالجاته المتخصصة لأنظمة الحكم القائمة في بلدان العالم خلال عمله البحثي، منذ ستينات القرن الماضي، وحتى بداية الألفية الحالية.
ومقابل الرأي السابق، يقر متخصصون بمقاربات هنتنغتون الملفتة للغاية، بخصوص العلاقة بين العسكر والحكومة المدنية، وتحليل عمليات إرساء الديمقراطية، والتطور السياسي للأنظمة الحاكمة. ومن أبرز مساهماته في هذا المجال، كتابه الصادر عام 1969، والمعنوّن بـ “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة”. ومن بين سطور هذا الكتاب، تحديداً في جزئه الأول حيث تتركز الأفكار والتصورات الأساسية التي نظّر لها هنتنغتون، نجد إسقاطات مفيدة للغاية في مقاربة المشهد الراهن اليوم، في سوريا.
من أبرز تلك الإسقاطات، إشارته إلى أن “أبسط نظام سياسي هو ذلك الذي يعتمد على شخص واحد، وهو في الوقت نفسه، الأقل استقراراً”. وإشارته الأخرى إلى أن “السياسي الذي يحاول مضاعفة السلطة أو غيرها من القيم على المدى القريب غالباً ما يضعف مؤسسته على المدى الطويل”. الإشارة الأخيرة تلك، يمكن لحظها بشكل خاص في تجربة حكم حافظ الأسد، الذي راهن على مضاعفة السلطة المركّزة في قبضته، حتى أورث لابنه نظاماً قصير الأمد مؤسساتياً. ليأتي ابنه، ويضيف إلى هوس أبيه باحتكار السلطة، هوساً باحتكار الثروة، التي عمل على تركيزها في قبضة المحسوبين عليه، منذ وصوله إلى الحكم. النتيجة كانت انحلالاً مؤسساتياً، رأينا كيف انعكس انهياراً صادماً في أيام معدودة، لنظامٍ ظُنَ لعقود أنه راسخ، ليُوصف بعيد سقوطه، وفي الصحافة الروسية ذاتها، بأنه كان “بيت من ورق”.
لكن، لا يكفي هوس الحاكم بمضاعفة السلطة والثروة في قبضة المحسوبين عليه، لتفسير الانهيار المؤسساتي الذي حصل مع سقوط نظام الأسد في سوريا. وهنا، يصبح الحديث بهدف تحصيل العِبرة لتجنب استنساخ ذات التجربة “الأسدية”. خاصة وأننا نحيا في لحظة تاريخية. تاريخيتها ليست متمثلة في تخلص السوريين، من لعنة حكم “آل الأسد”، فقط. بل والأهم من ذلك، أنها اللحظة التاريخية المناسبة لتجنب استنساخ هذه التجربة. وبهذا الصدد، يشير هنتنغتون إلى أن “عملية التخلص من طبقة حاكمة صغيرة ومتجانسة، مضافاً إليه تنوع القوى الاجتماعية والتفاعل المتزايد بين هذه القوى، هي شروط مسبقة لبروز التنظيمات السياسية والإجراءات ولاستحداث المؤسسات السياسية أخيراً”. وهي الحالة القائمة الآن في سوريا، بحذافيرها. فالتخلص من طبقة آل الأسد والمقربين منهم، أتبعها حراك اجتماعي وتفاعل كبير. فالسوريون وكأنهم كانوا مغيبين لعقود، في سجن، وخرجوا اليوم إلى ساحات الحرية السياسية، ليدلي كل منهم بدلوه. عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أولاً، ومن ثم إلى أرض الواقع، اعتباراً من تظاهرة ساحة الأمويين المتواضعة، أمس الخميس، رغم الجدل حول خلفية من دعا إليها، والمواقف السابقة للمنظّمين والمتكلمين فيها. هذه التظاهرات والوقفات ستتفاقم في الفترة المقبلة. وكلما حظيت بحماية وإتاحة وسلمية أكبر، كلما اقتربنا أكثر من المنعطف التاريخي الأهم، الذي يمكن له أن يقطع مع الاستبداد بكل ألوانه، ويتيح لسوريا أن تبدأ مسيرتها الطويلة والتي ستكون مرهقة من دون شك، نحو نظام سياسي يعبّر عن “مُتَحد” يمثّل السوريين.
يركّز هنتنغتون على هذا المصطلح كثيراً. ويمكن أن نفهم أن “المُتحد” الذي يقصده، هو شكل من أشكال العقد الاجتماعي الذي يمثّل حلاً وسطاً يجتمع حوله أبناء مجتمع معقّد، ليشكّلوا على أساسه تجمعهم السياسي المشترك.
لكن قبل الولوج إلى خلق “متحد سياسي” يجمع السوريين، يجب محاولة تغيير النظرة المتبادلة بين مكونات مجتمعهم المعقّد. ويوضّح هنتنغتون “لا تستطيع جماعتان لا ترى الواحدة منهما في الأخرى إلا عدواً رئيسياً لها، أن تكوّنا قاعدة لمُتَحد حتى تتغير تلك النظرة المتبادلة. لا بد من وجود بعض الانسجام في المصالح بين الجماعات التي تؤلف المجتمع”.
في الحالة السورية الراهنة، ومع ما أورثته حقبة الأسد من أضرار على العيش المشترك بين مكونات هذا البلد، نحتاج بشدة لتغيير النظرة المتبادلة إلى بعضنا. وقد يكون الانهيار الاقتصادي والمعيشي غير المسبوق الذي وصل إليه السوريون بفعل حرب النظام ضدهم لأكثر من عقد، سبباً لدفعهم إلى تفضيل المصلحة المشتركة، على المصالح الخاصة بكل مكوّن. لذا، نكرر أننا أمام لحظة تاريخية، بكل ما للكلمة من معنى. وإسقاطاً على الحيثية الأخيرة، نستشهد بهنتنغتون مجدداً، حينما يقول: “الإجماع العام والمصلحة المشتركة عاملان للمتحد السياسي، ويجب أن يكون الاجتماع مؤسساتي”.
بطبيعة الحال، يتحقق “الإجماع العام”، عبر عقد اجتماعي يمثّل صيغة وسط يمكن أن يتفق عليها كل السوريين، حول شكل الحكم والدولة ونواظمها القانونية والقيمية. والدافع على تحقيق ذلك بأسرع وقت، وبأسلم طريقة، هو “المصلحة المشتركة” بينهم، المتمثلة بحاجتهم الملحة لتأسيس حكم رشيد، ينتشل البلاد من الكارثة المعيشية التي تحيق بكل مكوناتها، دون تمييز. لاحقاً، يتم تمتين هذا “المُتَحد” بالمؤسسات.
ويمكن أن نختم بأن خلق “مُتَحد سياسي” يجمع السوريين، ويكون قاعدة لنظام سياسي مستقر ومؤسساتي، تتوضع على قمة هرمه حكومة رشيدة، لا يمكن أن يتحقق إلا بمقدار واسع من الدعم في المجتمع. ووفق هنتنغتون “إذا كانت جماعة صغيرة من الطبقة العليا هي التي تنظم فقط وتتصرف وفق مجموعة من الإجراءات، يكون هذا الدعم محدوداً. أما إذا كان قسم كبير من السكان منظماً سياسياً ويتبع الإجراءات السياسية، يصبح المقدار (مقدار الدعم) كبيراً”.
وهكذا تصبح الحاجة ملحة لتقبّل مشاركة سياسية واسعة من مختلف أطياف المجتمع السوري. لتكون منخرطة في مرحلة انتقالية يكون هدفها خلق هذا “المُتَحد” المعبّر عنه في دستور يمثّل كل السوريين، كحل وسط بين تطلعاتهم وأمزجتهم القيمية المتنوعة. بخلاف السير بهكذا وصفة للمستقبل، فإننا سنكون أمام تجربة حكم “أسدي” جديدة، أو فوضى غير خلّاقة، وفي أحسن أحوال، سنكون أمام نظام سياسي مُهلهل، يمكن لمؤسساته أن تنهار في لحظة رفض مجتمعي واسعة، كما انهار نظام الأسد ومؤسساته، وكأنه “بيت من ورق”.
تلفزيون سوريا
—————————
العدالة الانتقالية بعد النزاعات والحروب: العلقم الذي فيه الشفاء/ عبد الله شاهين
2024.12.21
العدالة الانتقالية هي إطار عمل يهدف إلى معالجة إرث الصراع وانتهاكات حقوق الإنسان لتعزيز المصالحة والمساءلة والسلام المستدام. بالنسبة للحكومة الناشئة عن حرب أهلية أو عقب نزاع مسلح، يتطلب تنفيذ العدالة الانتقالية التخطيط الدقيق وإشراك أصحاب المصلحة والقدرة على التكيف مع السياقات المحلية.
تركز العدالة الانتقالية على معالجة الفظائع الماضية لتعزيز السلام والمصالحة والحكم المستدام. وهي تشمل البحث عن الحقيقة والمساءلة والتعويضات والإصلاح المؤسسي. ولا خلاف أن العدالة الانتقالية قاصرة ولا ترقى لكثير من تطلعات الضحايا في غالب الأحيان، إلا أن هدفها هو أولاً خلق إطار شعبي جامع يعيد ردم الصدوع في البنى المجتمعية، كما أنها ضرورية لإثبات أهلية السلطة الجديدة واكتساب المصداقية. وتتناول المقالة التالية كل عنصر من عناصر التنفيذ، مع مراعاة سياقات ما بعد الحرب الأهلية وبالأخص الحالة السورية.
يجب التأكيد على أن العدالة الانتقالية ذات أهمية قصوى تستلزم العمل الفوري عليها، وأنها مصدر للصداع الذي لا بد منه، وأنها يجب أن تكون شاملة وتنظر حتى في سوابق الجهة أو الجهات التي خرجت منتصرة من الحرب، ولعلها فرصة للتطهر من ذنوب سابقة وتجاوز الماضي عبر النظر في صفحاته وطيها ليستطيع الجميع البدء على بياض صفحة جديدة.
أولاً: الخطوات الفورية بعد الصراع
اتفاقيات وقف إطلاق النار وتدابير بناء السلام
إن إرساء وقف إطلاق النار أمر بالغ الأهمية لخلق بيئة مواتية للعدالة الانتقالية. ويمكن لقوات حفظ السلام التابعة للهيئات الدولية، مثل الأمم المتحدة، أن تساعد في مراقبة الالتزام بشروط وقف إطلاق النار. ومن الأمثلة الجيدة أزمة رواندا (1994) حيت كانت اتفاقيات أروشا تهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية بين الحكومة الرواندية والجبهة الوطنية الرواندية، وإرساء الأساس للعمليات الانتقالية. [1] تدابير وقف إطلاق النار وإنهاء القتال لا تكتمل دون تأمين الالتزامات من جميع الفصائل لإنهاء الأعمال العدائية. وتتطلب بكل تأكيد إنشاء آليات لمراقبة وتنفيذ اتفاق السلام. كما تستلزم بدء حوارات على مستوى المجتمع لبناء الثقة.
تأسيس حكومة انتقالية
كما أن تأسيس حكومة انتقالية في إطار زمني مناسب وظرف مناسب ضرورة ملحة. إن ضمان تمثيل جميع الفصائل المشاركة في الصراع، وإعطاء الأولوية للشمولية ومعالجة مظالم الفئات المهمشة. ثقافة “الغلبة للمنتصر” والحكم لذي الشوكة تضمن فشل المشروع السياسي عاجلاً أم آجلاً. لدينا تجربة جنوب أفريقيا (1994) حيث ضمت حكومة نيلسون مانديلا أعضاء من المعارضة (الأحزاب البيضاء التي كانت حاكمة في فترة الفصل العنصري)، مما عزز الوحدة الوطنية. لقد كتب مانديلا أن المهمة الأكثر أهمية كانت “التوفيق بين مطلب حكم الأغلبية في دولة موحدة واهتمام جنوب أفريقيا البيضاء بهذا المطلب، فضلاً عن إصرار البيض على الضمانات البنيوية التي تؤكد أن حكم الأغلبية لن يعني هيمنة السود على الأقلية البيضاء”. وكان التوفيق بين هذه الأمور من خلال التفاوض ضرورياً لكسر “الجمود”، وهو الموقف الذي لم يكن لدى أي من الجانبين الوسائل اللازمة للانتصار بقوة السلاح.
وفي حين رأى المؤتمر الوطني الأفريقي إمكانية وجود “ضمانات بنيوية” على نحو عام وغير محدد، فإن حكومة الفصل العنصري، التي اعتقدت أنها تمتلك القوة الكافية لمنع – أو على الأقل تأخير – حكم الأغلبية، قدمت مقترحات متباينة بشأن الهياكل الدستورية التي من شأنها أن تمنح الأقليات، وخاصة البيض، سلطة تتجاوز الأعداد التي تستطيع منظماتهم السياسية أن تسيطر عليها.
لكن في السنوات الأربع التي أعقبت إطلاق سراح مانديلا ورفع الحظر عن حركة التحرير، كان مستوى التنظيم والتعبئة بين الأغلبية السوداء، والعواقب المترتبة على الأرض المحروقة على جميع مواطني جنوب أفريقيا، ومهارة التفاوض لدى المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفائه، والصوت الموحد لمعظم البشرية – كل هذا اجتمع ليقضي على المقترحات المقدمة من جانب الحكومة بشأن “الضمانات البنيوية” في شكل حقوق المجموعات، وتقاسم السلطة، والأغلبية الخاصة، وحق النقض للأقليات، والرئاسة الدورية وما شابه ذلك. وفي النهاية، عندما أزيلت “الحواجز”، اتخذ الحل الوسط الذي توقعه مانديلا شكل حكومة الوحدة الوطنية، كآلية انتقالية نحو حكم الأغلبية الديمقراطية. كل هذا لم يكن ليحدث لولا أن طاولة الحديث امتدت للجميع وكشفت طلبات كل الجهات المشتركة في الوطن الواحد، وصدر قرار وطني شامل يؤدي بالمحصلة إلى إعادة رسم البلد وحفظ الحقوق المنطقية للبيض وفتح مجالات للسود في ذات الفرص الاقتصادية المحتكرة. هذه كانت آلية لمنع النظام القديم من إعادة إنتاج نفسه أو القيام بثورة مضادة.
وبما أن البنية السياسية في سوريا متصحرة ولا يوجد بها أحزاب كثيرة على مستوى شعبي أو منخرطة في الشأن العام؛ فالأهمية تنتقل إلى التمثيل الجغرافي والمناطقي والعرقي والطائفي، وهذا بحد ذاته إشكالي كونه قد يخلق بيئة عمل تدفع إلى المحاصصة الطائفية أو المناطقية والعرقية كجزء من المخرج السياسي بدل الوحدة الوطنية. ولا يعني هذا إقصاء هذه الجماعات، ولكن إعادة صياغة شكل السلطة والحكم بحيث تضمن منح المجتمعات المختلفة أدوات حكم بعيدة عن سلطة مركزية صارمة تسمح للخصوصيات المحلية أن تلعب دوراً في تشكيل بعض القوانين الخاصة بها، دون أن تخترق مركزية الحقوق العامة لكافة مواطني الدولة أو تستثني أياً من المكونات الأخرى من باقي المجتمعات. ولقد رأينا تفاوت خطاب مختلف الطوائف في سوريا عقب سقوط النظام، وكشفت بوضوح عن رؤية بعض منها على أنها حالة خاصة تستلزم معاملة خاصة وعفواً استثنائياً غير عادل، إلا أن إدخال خطاب هذه الطائفة ومطالبها عبر جسم وطني يجعل قبول أو رفض هذه المطالب ضمن إطار أوسع ويجعل من ذلك فرصة لصياغة قوانين تتعامل بخصوصية وعمق أكبر مع مثل هذه التحزبات الطائفية التي كانت سبباً رئيسياً في تفاقم المعضلة السورية وتعاظم المجزرة التي شهدتها سوريا على مدى خمسة عقود مؤلمة.
التقييم القانوني والمؤسسي
هنالك حاجة ماسة إلى مراجعة الإطار القانوني وتقييم المؤسسات مثل القضاء لتحديد المجالات التي تتطلب الإصلاح. وذلك بدلاً من نسف بنية النظام القديم كما حدث في العراق بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003، فلقد أدت سياسات اجتثاث البعث إلى تفكيك نظام صدام حسين، وبالرغم من أثرها في إعادة النظر في السياسة الشمولية للدولة المركزية التي كانت قائمة إلا أنها أدت بالدولة وكامل قطاعاتها الخدمية والإدارية إلى الانهيار الكامل والتي لم تتعاف منه بعد ولم تقم بالتشكل على نحو فعال إلى اليوم، بعد مضي 21 عاماً على زوال النظام القديم[3]. لذلك؛ فهنالك ضرورة لمراجعة القوانين والمؤسسات القائمة لتحديد المتواطئين في الانتهاكات المرتبطة بالصراع، وفي ذات الوقت تعليق أو إعادة هيكلة المؤسسات التي تفتقر إلى الثقة العامة أو الشرعية. وإيجاد طرق إلى تعزيز المؤسسات ذات الدور الحيوي كقطاع الصحة والكهرباء والخدمات الأساسية دون إيقاف عملها أو تعطيله.
ثانياً: آليات العدالة الانتقالية
مبادرات البحث عن الحقيقة
يجب على أية حكومة انتقالية تشكيل لجان تقصّ للحقائق والإعلان عنها جزء أساسي من عمل تلك الحكومة، فهذه القضايا مرتبطة بملفات يمكن أن يتم إتلافها أو سرقتها ويمكن لمرتكبي الجرائم الهروب قبل إتمام العدالة، وسوف توثق لجان الحقيقة انتهاكات حقوق الإنسان وتوفر للضحايا منصة لمشاركة تجاربهم. ومثال لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا (1995-2002) التي ترأسها ديزموند توتو مثال مهم لكيفية عمل مثل هذه اللجان بفاعلية، أكدت لجنة الحقيقة والمصالحة وقتها على أسس العدالة التصالحية، ومنح العفو في مقابل الكشف الكامل[4]. هذا على الأقل يكشف العيوب المنهجية والفجوات التي في بنية الدولة والمجتمع والتي ساهمت في وقوع هذه الجرائم، وإن أدت إلى هروب العديد من مرتكبي تلك الجرائم في المستويات الدنيا في هرمية السلطة مما يستحقون من العقاب، كونهم استبدلوا شهادتهم الدقيقة بالحرية وفرصة العيش ضمن ذلك المجتمع. فلا يمكن معاملة رئيس ديوان فرع أمني كما يعامل الجلاد وضابط التحقيق، والعفو عن بعض الحرس في ذلك السجن سيكون ثمن القبض على الرؤوس الفعلية لتلك الأجهزة.
المساءلة الجنائية
قد تحتاج المساءلة الجنائية في حالات العدالة الانتقالية إلى إنشاء محاكم هجينة، والمقصود بالمحاكم الجنائية المدوّلة أو المحاكم المختلطة أو الهجينة، تلك المحاكم المشكلة من قضاة محليين ودوليين يتمتعون بسلطة قضائية داخل الدولة التي حصلت فيها انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. يمكن للمحاكم الهجينة التي تجمع بين القانون المحلي والدولي مقاضاة الجناة الرئيسيين مع الحفاظ على الشرعية. ومثال ذلك المحكمة الخاصة في سيراليون (2002)، حاكمت المسؤولين عن الفظائع أثناء الحرب الأهلية، مما وضع سوابق للمساءلة[5]. ويجب التأكيد على العدالة القادمة من تلك المحاكم لتجنب اتهامات عدالة المنتصر، التي هي الانتقام القانوني الذي يمارسه من ينتزع السلطة من خصومه، كما حدث ويحدث في العراق، وكما فعلت الولايات المتحدة مراراً من قبل، والتي قد تزيد من التأجيج الطائفي وتساهم في انفجاره في المستقبل.
لدينا في سوريا مشكلة أن النظام القضائي الذي كان قائماً كان أحد أدوات البطش السلطوي وفاقد للأهلية والشرعية، وسوف يكون ذلك تحدياً آخر في قضية المساءلة الجنائية كونها تحتكم إلى نظام فاسد وبلا مصداقية أمام الجمهور، ودون بنية تشريعية قانونية ملائمة. ولهذا فإن أهمية إقامة محاكم هجينة تزداد في مثل هذه الظروف، ولربما كان من المناسب دعوة قضاة من دول ذات تجارب مشابهة مثل البوسنة والهرسك وراوندا وجنوب أفريقيا.
كمان أن من الضرورة النظر في سوابق كل الجهات السابقة والحالية والتي انخرطت في النزاع، حتى المنتصر منها، وإلا فوقوع عدالة انتقائية ترفع المنتصر فوق المساءلة سوف يبقي جراحاً غائرة ومظلوميات لم يتم حلها وسوف تقوض مصداقية كل ما قد تقوم به تلك الجهة، وإن بعد حين.
تعويضات للضحايا
يمكن أن تشمل التعويضات التعويض المالي ودعم الإسكان والوصول إلى الرعاية الصحية. ومثال ذلك برنامج التعويضات في الأرجنتين، حيث قدمت تعويضات لضحايا الاختفاء القسري تحت الحكم العسكري[6]. ويجب توفير التعويضات المالية والدعم النفسي والمبادرات المجتمعية لضحايا الاعتقال والتعذيب وغيرهم، وإعطاء الأولوية للمجموعات الضعيفة مثل النساء والأطفال والسكان النازحين. مما يعني أن هنالك تعاملات استثنائية في هذا الخصوص. ومن الضروري كذلك العمل على تخليد الذكرى والتعويضات الرمزية للضحايا والناجين، عبر إنشاء النصب التذكارية والمتاحف لتكريم الضحايا والحفاظ على الذاكرة التاريخية. وتعزيز المبادرات الثقافية التي تحتفل بالوحدة والتراث المشترك.
إعادة التأهيل وإعادة الإدماج
تضمن البرامج الموجهة إلى المقاتلين السابقين عدم عودتهم إلى العنف من خلال توفير التعليم وفرص العمل. ومثال ذلك ما قامت به كولومبيا (2016) بعد انتهاء حقبة ثورة الفارك، دعمت الحكومة الكولومبية برامج إعادة الإدماج في القوات المسلحة الثورية الكولومبية انتقال المقاتلين السابقين إلى الحياة المدنية[7]. كما وضعت برامج لتسريح وإعادة إدماج المقاتلين السابقين، وضمان عدم عودتهم إلى العنف. وهنالك أهمية قصوى لتعزيز التعليم والتدريب المهني للمقاتلين السابقين والمجتمعات المتضررة من الحرب.
في سوريا عشرات الآلاف من الشباب الذين قضوا جل وقتهم في السنوات العشر الأخيرة في أعمال قتالية أو تدريبات عسكرية، إن عدم إعادة دمجهم وتأهيلهم مهنياً ودعم هذه الجنود سوف يجعل هؤلاء الجنود المنسيين ساخطين، وقد يؤدي ذلك إلى عودتهم إلى حمل السلاح لكسب قوتهم عبر الطرق القليلة التي يعرفونها.
الإصلاحات المؤسسية
إن إصلاح القضاء والشرطة والجيش لتعزيز المساءلة ومنع الانتهاكات في المستقبل ضرورة. ويتطلب الأمر التقصي في تاريخ كل المسؤولين السابقين لبحث مدى تورطهم في جرائم الحرب وفصل أولئك الذين ثبت تورطهم. وبناء سلطات بديلة على أسس وطنية جامعة. وكما ذكرنا آنفاً فإن كل هذه السلطات التي ذكرنا كانت فاقدة للشرعية وأدوات قمعية للنظام السابق بما فيها جهاز القضاء والقضاة. ما يشكل تحدياً مضاعفاً للسلطات الجديدة في تحقيق عدالة انتقالية ذات مصداقية وأحكام يراها الجمهور على أنها ممثلة وعادلة.
ثالثاً: إشراك أصحاب المصلحة
الضحايا والناجون
يجب التركيز ضرورة إشراك الضحايا في المشاورات لضمان أن تعكس آليات العدالة الانتقالية احتياجاتهم. كما حدث في تيمور الشرقية إبان الاستقلال وانتهاء النزاع مع إندونيسيا (2002) لقد ساهمت شهادات الضحايا في شكيل خطة العمل والأهداف للجنة تقصي الحقائق والمصالحة[8].
منظمات المجتمع المدني
إن الشراكة مع منظمات المجتمع المدني تضمن الملكية المحلية والوعي العام بمبادرات العدالة الانتقالية. ونرى كيف لعبت منظمات المجتمع المدني دوراً حاسماً في الدعوة إلى إنشاء لجان الحقيقة بعد الحرب الأهلية في نيبال (2006)[10]. وفي الحالة السورية العشرات من المنظمات التي استطاعت التحول إلى مؤسسات ذات خبرة ممتازة في شتى المجالات، وعلى أية حكومة ناشئة أن تعمل على الاستفادة من تلك المؤسسات ومن كوادرها لبناء المؤسسات الحكومية أو إعادة تأهيلها. كما يمكن استخدام شبكاتهم لحشد الدعم الشعبي لتدابير العدالة الانتقالية.
المجتمع الدولي
إن الدعم المالي والفني من الجهات المانحة الدولية أمر لا بد منه للدول الخارجة من الصراعات. ومثال ذلك ما تم في البوسنة (1996) وكوسوفو (1999)، حيث ساهم تدخل حلف شمال الأطلسي في تسهيل إعادة الإعمار بعد الحرب وآليات العدالة[9]. إلا أن تدخل المجتمع الدولي أمر لا يمكن التحكم بتوقيته ولا حيثياته. لا بد من السعي للحصول على الدعم الفني والمالي من المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية، وضمان توافق آليات العدالة الانتقالية مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
أخيراً: الرصد والتكيف
إن من الضرورة القصوى إنشاء هيئة مراقبة العدالة الانتقالية، يجب أن تكون هذه الهيئة كاملة الاستقلالية، وهدفها ضمان تنفيذ الآليات بشكل فعال وتعديل النهج حسب الحاجة. كما يجب عليها نشر تقارير دورية عن التقدم والتحديات. أخيراً؛ يجب علينا التعلم من تجارب الآخرين، عبر تحليل النجاحات والإخفاقات من بلدان أخرى في مرحلة ما بعد الصراع (على سبيل المثال، جنوب أفريقيا، ورواندا، وكولومبيا)، وتكييف هذه الدروس مع السياق المحلي. ومن هنا فإن مثل هذه المقالة ما هو إلا إشارة صغيرة نحو الطريق الأفضل للمضي في قضايا العدالة الانتقالية، والتحذير من بعض المطبات والأخطاء، ومن الوقوع في جورة عدالة المنتصر، ومعرفة الأدوار التي يمكن لجهات أخرى أن تلعبها، وأهمية التشاركية في إنجاز هذه المهمة الشاقة.
ويجب أن يؤدي الرصد والمراقبة إلى عملية ديناميكية من التكيف والتعديل على العمل لضمان سيره بالشكل الصحيح والأكثر فائدة والأقرب إلى العدالة. وأقول أقرب إلى العدالة لأن إحقاق العدالة في وجه الفظائع المرتكبة مستحيل للأسف، لكن ومن خلال محاولة تحقيق المحاسبة والتعويض إلى الضحايا، تقدّم العدالة الانتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا وتشجّع الثقة المدنية، وتقوّي سيادة القانون في ذلك البلد الناشئ.
إن تنفيذ العدالة الانتقالية بعد الحرب هو خطوة صعبة، ولكنها ضرورية نحو المصالحة والسلام الدائم. ويتطلب الأمر تحقيق التوازن بين العدالة والتسامح، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع، وضمان مشاركة جميع أصحاب المصلحة. ومن خلال الالتزام والشفافية والشمول، يمكن للحكومة تحويل تاريخ العنف إلى مستقبل من الوحدة والازدهار.
المراجع:
[1] ليديراش، ج. ب. “بناء السلام: المصالحة المستدامة في المجتمعات المنقسمة”. مؤسسة العدالة الانتقالية.
[2] هاينر، بريسيلا. “الحقائق التي لا توصف: العدالة الانتقالية وتحدي لجان الحقيقة”.
[3] دودج، توبي. “مستقبل العراق: أعقاب تغيير النظام”.
[4] Tutu, Desmond. “No Future Without Forgiveness.”
[5] شاباس، ويليام. “المحكمة الخاصة في سيراليون: نموذج جديد للعدالة الجنائية الدولية؟”
[6] Skaar, Elin. “Judicial Independence and Human Rights in Latin America.”
[7] Meernik, James. “Transitional Justice and Peacebuilding on the Ground.”
[8]: Kent, Lia. “The Dynamics of Transitional Justice: International Models and Local Realities in East Timor.”
[9] باريس، رولاند. “في نهاية الحرب: بناء السلام بعد الصراع المدني”.
[10] Sharma, Bishnu. “Civil Society and Transitional Justice in Nepal.”
تلفزيون سوريا
———————————
أفضل خيارات قسد/ سمير صالحة
2024.12.21
دشنت صفحة سورية جديدة في الثامن من كانون الأول بعد تسلل بشار الأسد إلى العاصمة الروسية محملًا بأموال ووثائق سرية تهدف إلى دعم المساومات وعقد الصفقات.
تبدلت أولويات تركيا تجاه سوريا مع تغير المعطيات الميدانية. أصبحت أنقرة أكثر تأثيرًا في التعامل مع الملف السوري، ولم يعد ضمن أولوياتها إبقاء يدها ممدودة نحو الأسد أو مراعاة مصالح طهران في سوريا. باتت تركيا تنسق مع موسكو في العديد من التفاصيل، وأصبحت جزءًا من الحراك الإقليمي والدولي الجديد في التعامل مع تطورات الملف السوري، إذ أبرزت مشاركتها في قمة العقبة هذا التوجه.
ما زالت مناطق شرق الفرات خارج هذا المشهد السوري في انتظار حسم “قوات سوريا الديمقراطية” لموقفها، وما إذا كانت ستتبنى توجهات قيادات قنديل في حزب العمال الكردستاني أو التعليمات القادمة من واشنطن.
أكدت وزارة الدفاع التركية في بياناتها الأخيرة أن أيام “قسد” باتت معدودة، مشددة على أن أنقرة لن تفاوض مجموعات إرهابية، وأنه لا صحة للتقارير التي تتحدث عن هدنة طويلة في شمال شرقي سوريا. وأوضحت أن الفصائل السورية ستتولى تحرير أراضيها وضمها لمشروع الدولة الموحدة. كما جددت تركيا موقفها الرافض للتفاوض قبل مغادرة العناصر الإرهابية المنطقة وتسليم “قسد” أسلحتها إما لواشنطن أو للدولة السورية الجديدة، مع تخليها عن مشروعها الانفصالي.
يصعب التكهن بنتائج المسار السياسي والميداني الجديد في سوريا، لكن، كما كان يوم الثامن من كانون الأول صادمًا، قد تكون التحركات العسكرية نحو عين العرب وشرق الفرات بنفس الحدة.
تشير بعض وسائل الإعلام إلى أن التصعيد التركي ضد “قسد” يمثل حملة عسكرية ضد السوريين الكرد، مستندة إلى مزاعم “خرق هدنة” غير موجودة أصلًا. في حين تؤكد أنقرة على ارتباط “قسد” بحزب العمال الكردستاني. ورغم ذلك، ترفع بعض الجهات شعار “الحرب على أكراد سوريا”، متجاهلة ممارسات “قسد” ضد الفصائل الكردية الأخرى في شمال شرقي سوريا، ما دفع العديد منهم للفرار إلى أربيل أو تركيا طلبًا للحماية. سؤال قيادات إقليم كردستان العراقي عن رأيها ربما يساعد في الإجابة أيضا.
خسرت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) كثيراً بهزيمة الأسد، رغم أن النظام في دمشق لعب باحتراف بورقة الأكراد في سوريا لتشتيت الصفوف وزيادة الشرذمة. كلف النظام “حزب العمال الكردستاني” وحليفه “قسد” بالمهمة بعد عام 2012، وتنازل عن مساحات جغرافية ونفوذ لصالحهما. كما سهل تنسيقهما مع طهران والسليمانية، متجاهلًا الدعم الأميركي لهذه المجموعات التي استغلت ورقة “داعش” حتى النهاية. في المقابل، استخدم الأسد هذه التنازلات لتحقيق أهدافه الخاصة، بما فيها تعميق الانقسامات بين الكرد السوريين وإفشال جهود الحوار بين الفصائل الكردية التي قادتها أطراف إقليمية ودولية لسنوات.
استفادت “قسد” من وضع جغرافي وسياسي وأمني خاص في شمال شرقي سوريا لسنوات. وسعت مناطق نفوذها وهيمنتها بعد سقوط الأسد، واستغلت مواردها لتحقيق أهداف متعددة، منها الاحتفاظ بالأراضي التي سيطرت عليها، والاستقواء بالدعم الأميركي ومواجهة “داعش”، والتمسك بمخططها السياسي والدستوري لبناء دولة حديثة. كما راهنت على دعم بعض العشائر والقبائل التي ساعدتها في تسهيل السيطرة على الأرض، بالإضافة إلى محاولة الاندماج في المخططات الإسرائيلية لتعزيز موقفها وإطالة عمر مشروعها.
تكمن مشكلة “قسد” ليس فقط مع أنقرة، بل أيضًا مع الفصائل السورية التي تطمح لبناء دولة جديدة بعد إزاحة الأسد. أرسل أحمد الشرع رسائل واضحة بهذا الشأن، مفادها أن “حزب العمال الكردستاني” مجموعة إرهابية، وأن الشعب الكردي جزء من الدولة السورية. وأكد ضرورة تسليم السلاح لوزارة الدفاع السورية ودمج الفصائل كافة تحت مظلتها. تصريحات الشرع لا تقل أهمية عن المواقف التي تعلنها واشنطن والعواصم الغربية الداعمة لـ”قسد”. لكن السؤال يبقى: هل يمكن لـ”قسد” مواصلة التغريد خارج السرب السوري والتمسك بطروحاتها؟
تحاول إلهام أحمد ومظلوم عبدي اللجوء إلى دعم بعض أعضاء الكونغرس الأميركي للضغط على أنقرة وتهديدها بعقوبات جديدة إذا تحركت الفصائل السورية نحو عين العرب وشرق الفرات. تقول قيادات “قسد” إنها لن تسلم السلاح الذي ائتمنتها عليه واشنطن لمحاربة “داعش”، ولن تتردد في استخدامه ضد الفصائل السورية والقوات التركية دفاعًا عن نفسها. هذا الموقف يضع واشنطن أمام خيار صعب بين شريك محلي يرفع السلاح الأميركي ضد أنقرة، وبين ضرورة الاستماع إلى الحليف التركي وثاني أكبر قوة في حلف الناتو.
أمام “قسد” خيارات محدودة: إما إقناع العشائر الداعمة لها بالقتال إلى جانبها، أو الاستفادة من تجربة الأسد الذي خسر فرصة تاريخية مع أنقرة. خيار آخر قد تلجأ إليه “قسد” هو تحريض أميركا وإسرائيل على تدخل عسكري مباشر في سوريا تحت ذريعة مكافحة الإرهاب المتمثل بـ”الجولاني” و”هيئة تحرير الشام”، إذ ما زال كلاهما على قوائم الإرهاب الدولية، وواشنطن ترصد مكافآت مالية ضخمة لمن يدلي بمعلومات عن أماكن وجودهما، ما يمنح مظلوم عبدي ورقة ضغط إضافية.
بدأ العد العكسي أمام “قسد”. خياراتها تمر عبر القطيعة مع “حزب العمال الكردستاني”، وطرد عناصره من شمالي سوريا، وتسليم السلاح، والتراجع عن مشروعها الانفصالي، والانضمام إلى المشروع الوطني السوري القادم. عليها أن تدرك أن من تعول عليهم اليوم سيكونون أول من يتخلى عنها، تمامًا كما حدث مع الأسد حين لجأ إلى طهران وموسكو من دون جدوى. في الغرب، ينتظر حلفاء “قسد” انفتاحًا أكبر على ملف “الجولاني”، ولن يترددوا في إبلاغ قيادات “قسد” بأن خياراتهم تتضاءل، وبينها احتمال البحث عن بدائل أو الإصغاء لما تقوله القيادات الجديدة في دمشق، وما نصحت به أنقرة الأسد طوال 13 عامًا ولم يتعظ منه.
تلفزيون سوريا
————————–
جبل الشيخ “عين إسرائيل”… محطّة جديدة لحلم التوسّع؟/ شادي طنوس
أُطلقت تسمية جبل الشيخ، المعروف أيضاً بـ”جبل حرمون”، نسبة إلى قممه التي تُغطّى بالثلوج وتُشبه عمامة الشيوخ البيضاء.
المشرق العربي
21-12-2024
على علو 2814 متراً وفي الهواء البارد، أطلّ “مهندس الشرق الأوسط الجديد” بنيامين نتنياهو ليعلن بقاء جيشه في جبل الشيخ “لحين التوصّل لترتيب مختلف”، فيفرِد سيطرة إسرائيل على هذه القمّة الاستراتيجية وسط حماوة التطوّرات الإقليمية من البوابة السورية بعدما أسقطت المعارضة المسلّحة بشار الأسد، وبالتالي حكم عائلته الذي دام أكثر من 50 عاماً.
يوسّع نتنياهو المبتهج بـ”انتصاراته” حدود السيطرة الإسرائيلية من جنوب لبنان إلى جنوب سوريا، مستفيداً من عوامل عدّة، الأبرز فيها تراجع النفوذ الإيراني والروسي في سوريا مع سقوط الأسد وفراره، ضرباته الساحقة لـ”حزب الله” في لبنان، تهديداته للعراق و”نووي إيران” وآخرها في الساعات الماضية تنفيذ غارات عنيفة ضد الحوثيين في اليمن. فأمام هذا المشهد الإقليمي الساخن والمتجدّد، ماذا تريد إسرائيل من قمّة جبل الشيخ؟
عن الجبل… التاريخ والجغرافيا
يقع جبل الشيخ ضمن مساحة هضبة الجولان التي تبلغ 1200 كيلومتر مربّع، على الحدود بين لبنان وسوريا وفلسطين، أقصى شمال الجولان وتُعد أعلى نقطة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط. وتمتد السلسلة الجبلية على طول حوالى 45 كيلومتراً من بانياس السورية وسهل الحولة في الجهّة الجنوبية الغربية إلى وادي القرن في الجانب الشمالي الشرقي.
يحِد جبل الشيخ من الشرق والجنوب منطقة وادي العجم وإقليم البلان وقرى الريف الغربي لدمشق والجولان، ومن الشمال والغرب القسم الجنوبي من سهل البقاع ووادي التيم في لبنان. ويضم 4 قمم، أعلى قمّة تُسمّى شارة الحرمون في سوريا ويصل ارتفاعها إلى 2814 متراً، الثانية إلى جهّة الغرب بارتفاع 2294 متراً، الثالثة إلى الجنوب بارتفاع 2236 متراً عن سطح البحر والرابعة فتقع في جهّة الشرق بارتفاع يصل إلى 2145 متراً.
أُطلقت تسمية جبل الشيخ، المعروف أيضاً بـ”جبل حرمون”، نسبة إلى قممه التي تُغطّى بالثلوج وتُشبه عمامة الشيوخ البيضاء.
وأطلق عليه العرب أيضاً اسم “جبل الثلج”، ويُعرف كذلك باسم “جبل الزعيم” لكونه أعلى نقطة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط. أمّا في إسرائيل، فيُسمّى بـ”عيون الأمّة” لأن ارتفاعه يجعله مكاناً استراتيجياً لوضع نظام الإنذار المبكر الأساسي لها على علو 2280 متراً.
بالإضافة إلى موقعه، يتمتّع جبل الشيخ بموارد مائية غنيّة وتربة خصبة، إذ تغطّي الثلوج قممه معظم أيّام السنة وتتميّز الحياة النباتية فيه بالخصوبة حيث تكثر كروم العنب وأشجار الصنوبر والبلوط والحور.
إلى ذلك، يُعد الجبل المنبع الرئيسي لنهر الأردن ولأنهار عدّة أخرى في المنطقة كنهر الوزاني ونهر جرجرة، ما يوفّر حوالى 1.5 مليار متر مكعّب من المياه سنوياً. ويغذّي أيضاً نهر الحاصباني، نهر بانياس ونهر اللدان.
في الموازاة، تحتوي المنطقة على آثار كثيرة إذ اكتشف فيها أكثر من 30 مزاراً ومعبداً.
ماذا تريد إسرائيل؟
بعد أيّام من سقوط الأسد وانهيار الجيش السوري وسيطرة الفصائل المسلّحة على الحكم في دمشق، احتلّت قوّات إسرائيلية جبل الشيخ بعدما دخلت المنطقة منزوعة السلاح بين سوريا والجولان.
ومع سقوط النظام، أعلن نتنياهو انهيار اتّفاق “فضّ الاشتباك” الموقّع عام 1974 مع سوريا بشأن الجولان، وأمر الجيش بالسيطرة على المنطقة العازلة حيث تنتشر قوّات من الأمم المتحدة. فإثر حرب تشرين الأوّل (أكتوبر) 1973 بين إسرائيل وسوريا، توصّل الطرفان إلى اتّفاق هدنة استمر سريانه حتّى 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024. وكجزء من الاتّفاق، أُقيمت منطقة عازلة بطول 80 كيلومتراً تخضع لمراقبة الأمم المتحدة.
يطلّ جبل الشيخ على 4 دول هي سوريا ولبنان والأردن وإسرائيل فيوفّر نقطة مراقبة تُشرف على مناطق واسعة من هذه الدول، فيُمكّن إسرائيل من تعزيز قدراتها في جمع المعلومات الاستخباراتية ومراقبة التحرّكات في المنطقة.
يكشف الجبل على دمشق التي تبعد عنه نحو 40 كيلومتراً فقط وبادية الشام والجولان وسهول حوران في سوريا، وجبال الخليل وبحيرة طبريا وسهل الحولة وجزء من محافظة إربد الأردنية، بالإضافة إلى كل جنوب لبنان وسلسلة جبال لبنان الغربية وسهل البقاع، وتعتبر تُضاريسه الوعرة عاملاً ناجحاً للتجسّس.
مع هذه الأهمّية الاستراتيجية لإسرائيل، ذُكر جبل الشيخ في النصوص الدينية اليهودية أكثر من 70 مرّة، ما يمنحه أهمّية دينية عقدية لدى اليهود، خصوصاً المتطرّفين.
من قمّته، أعلن نتنياهو أن إسرائيل ستبقى في موقع جبل الشيخ لحين التوصّل لترتيب مختلف، كاشفاً نيّتها تكريس وجودها العسكري فيه.
بدوره، أوعز وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إلى الجيش بالاستعداد للبقاء في قمّة جبل الشيخ طيلة فصل الشتاء، وقال: “جبل الشيخ عاد للسيطرة الإسرائيلية بعد 51 عاماً في لحظة تاريخية مؤثّرة”.
وأضاف في بيان له: “سنبقى هنا طالما كان ذلك ضرورياً، إن وجودنا في قمّة جبل الشيخ يعزّز الأمن وُيعطي بعداً إضافياً للمراقبة والردع لمعاقل حزب الله في سهل البقاع، فضلاً عن الردع ضد المعارضين في دمشق الذين يدّعون أنّهم يمثّلون وجهاً معتدلاً. جبل الشيخ بات عين إسرائيل لتحديد التهديدات القريبة والبعيدة”.
أمان المستوطنين
انطلاقاً من تجربة 7 تشرين الأول (أكتوبر) وتداعياتها وحرب أيلول (سبتمبر) مع “حزب الله” في جنوب لبنان، تنظر إسرائيل إلى السيطرة على جبل الشيخ كنقطة عسكرية لنشر أنظمة دفاعية واستخباراتية متقدّمة تعزيزاً لأمن المستوطنات في الجولان والجليل الأعلى.
ومع هذا التفصيل، أفاد مكتب نتنياهو الأحد الماضي بأن الحكومة وافقت بالإجماع على خطّة بقيمة 11 مليون دولار “للتنمية الديموغرافية للجولان… في ضوء الحرب والجبهة الجديدة في سوريا والرغبة في مضاعفة عدد السكّان”.
وشدّد نتنياهو على أن “تدعيم الجولان هو تدعيم لدولة إسرائيل وهو أمر مهم خصوصاً في هذا الوقت”، وقال: “سنواصل ترسيخ وجودنا هنا وتطويره والاستيطان”.
ويعيش في الجولان نحو 23 ألف عربي درزي ويعود وجودهم إلى ما قبل السيطرة الإسرائيلية عليه ويحتفظ معظمهم بالجنسية السورية، إضافة إلى نحو 30 ألف مستوطن إسرائيلي.
وسيطرت إسرائيل على القسم الأكبر من الجولان عام 1967 وأعلنت ضمّها عام 1981. بعد شهر فقط، أسّست مستوطنة مروم جولان كأول مستوطنة فيها. وبحلول عام 1970، أقامت 12 مستوطنة إضافية.
على وقع التطوّرات المتسارعة، يعود إلى الذاكرة تصريح الرئيس العائد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب عندما قال إن “مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها”، وهو الذي اعترف عام 2019 بسيادة إسرائيل رسمياً على مرتفعات الجولان.
فبين الشرق الأوسط الجديد وعودة ترامب، هل تتغيّر خرائط حدود الدول فيتحقّق حلم إسرائيل الكبرى؟
النهار العربي
—————
كيف ساهم فشل المساكنة بين روسيا وإيران في نجاح الثورة في سوريا؟/ د.ناصر زيدان
21-12-2024
يرتبط البلدان الكبيران روسيا وإيران بعلاقات تجارية مقبولة، وتصل التبادلات المباشرة بينهما إلى 5 مليارات دولار، وقد تعاونا سياسياً وأمنياً في ملفات دولية ساخنة، خصوصاً في سوريا، وعلى درجة أقل في أوكرانيا، بينما لا تتوافر معلومات كافية لتوضيح كامل صورة الرؤية الروسية للملف إيران النووي، رغم أن موسكو كانت شريكة في اتفاقية 5 + 1 التي تمَّ توقيعها عام 2015. لكن مركز الصدارة في هذه الاتفاقية احتلته الولايات المتحدة الأميركية، والمعلومات المتداولة في حينها تُشير الى أن إدارة الرئيس باراك أوباما قدَّمت هدية إلى طهران مقابل موافقتها على المعاهدة، وهي عبارة عن تفويض أو “قبة باط” مكَّنت إيران من الانفلاش في بلاد المشرق العربي، وفي اليمن من دون أي معارضة، رغم أن الرئيس دونالد ترامب عاد وانسحب من هذا الاتفاق عام 2018.
لكن هذا التعاون الروسي – الإيراني لا يكفي لحرف أنظار موسكو عن مغريات أخرى أكثر فائدة لها، لا سيما في العلاقة مع تركيا، حيث تجاوز التبادل التجاري معها 55 مليار دولار، ويطمح البلدان إلى إيصاله إلى 100 مليار، ويبدو أخصام ايران في الولايات المتحدة وعلى الساحة العربية، على استعداد لتعويض روسيا أي خسائر قد تحصل جراء تراجع تعاونها مع طهران.
تراكضت إيران ثمَّ روسيا الى الساحة السورية عام 2014 عندما شعرا أن حليفهما بشار الأسد يواجه خطراً مؤكداً، قد يُطيح بنظامه. فلإيران مصالح ميثولوجية واقتصادية وأمنية يحميها الأسد في سوريا، ولروسيا مصالح جيوسياسية تتمثل في وجود قواعد عسكرية استراتيجية على الساحل السوري الذي يقع وسط شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو من أهم البحار في العالم على الإطلاق، وسوريا ذات أهواء روسية قديمة، وجيشها مُجهَّز بالأسلحة الروسية، ولموسكو استثمارات كبيرة في البلاد.
بدأت مصاعب المساكنة السياسية بين البلدين الصديقين اللدودين على الساحة السورية تظهر منذ أكثر من عام، فقد جَنَحت إيران إلى فتح جبهة عسكرية واسعة مع إسرائيل بواسطة حلفائها، أو أذرعتها في غزة وفي لبنان، ويبدو أن هذه الحرب لم تكُن مُنسقة مع موسكو، ولا مع البيئة العربية والإسلامية المحيطة، وبالغت طهران في استثمار الساحة السورية الاستراتيجية في المعركة، رغم الضغوط التي مارستها موسكو على النظام السوري لكي لا ينخرط بالحرب. ومن ميدانيات العمل العسكري تبين أن الشكوك بدأت تتسلَّل إلى بنات أفكار الجهتين، وتبادل الاتهامات بين الحليفين خرج إلى العلن في أكثر من مرَّة إبان العمليات العدوانية التي قامت بها إسرائيل ضد أهداف إيرانية. واتهم مسؤولون في الحرس الثوري بعض الضباط والأفراد المقربين من روسيا بتسريب معلومات أمنية عن المجموعات الموالية لإيران لجهات على صلة بإسرائيل، وهي لم تقُم بأي جهد لردع الطائرات الإسرائيلية التي كانت تقصف مواقع في سوريا، ومنها مواقع قريبة من قواعد عسكرية روسية (كما في عملية الإنزال الاسرائيلية على مصانع الصواريخ في مصياف). وروسيا أخذت موقفاً محايداً نسبياً في الحرب، ويبدو أنها أعطت ضمانات لإسرائيل بعدم تورّط النظام السوري في الحرب وأبعدته نسبياً عن منظومة “وحدة الساحات” الممانعة التي تقودها طهران.
تؤكد المعلومات المتوافرة من أكثر من جهة؛ أن موسكو طلبت من الأسد مباشرة حوار جدي مع المعارضة لإجراء بعض التعديلات على الدستور، احتراماً للقرار الدولي 2254، ووفقاً لمقررات منصة “استانا” التي رعتها روسيا وتركيا وايران، كما أنها طلبت من الأسد لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لأن ذلك يُنتج بعض التوازن ويساعد النظام على وقف تراجعه المُتسارع، لكن الأسد لم ينفذ أياً من الوعود في هذا الاتجاه، او أنه لم يكُن قادراً على تحقيق هذه الرؤى. وقد أدرك الروس أن بشار الأسد غير قادر على الإيفاء بأي من وعوده، أو أنه أصبح أسيراً لدى الحرس الثوري الإيراني، ولدى بعض الذين ينسِّقون معه داخل الجيش، لا سيما الفرقة الرابعة بقيادة شقيقه ماهر الأسد.
وقد أُضيفت هذه المعطيات الى الاختناق الروسي من ممارسات غير مقبولة، يقوم بها الأسد والمقربون منه في صناعة المخدرات والتجارة بها، وفي تنفيذ إعدامات لمعارضين من دون أي مُحاكمة، كما في القيام بعمليات تعذيب رهيبة للسجناء، وكل ذلك يُسيء إلى سمعة روسيا، كونها ترعى النظام وتحميه. والمفاوضات التي أجراها ضباط روس في مدينة السويداء الجنوبية خلال السنة الماضية، للتخفيف من حدة انتفاضتهم ضد الأسد، أكدت لهم أن رجال الدين الدروز في المحافظة لا يمكنهم السكوت عن ترويج النظام المخدرات بين أبنائهم، الوضعية ذاتها حصلت في محافظة درعا التي حيدها الروس من مواجهة النظام بمصالحات لم يحافظ عليها مناصرو الأسد، وأجهضوها.
واضح أن نجاح الثورة السورية لم يكُن ليحصل بهذه السهولة، في ما لو كان موقف روسيا معارضاً بشدة للتغيير، وعلى أقل تقدير كان بإمكان القوات الروسية أن تحمي قوات النظام وتدفعها إلى قتال المعارضة في مناطق الساحل المحصنة. لكن يبدو من المؤكد أن روسيا فضَّلت مجاملة تركيا، وتوليف رسالة تحضيرية إلى الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وإرضاء الرأي العام “السني” على الساحة العربية والقوقازية، وهي لا تريد أن تتحوَّل سوريا بالكامل الى ساحة صافية لمحور الممانعة بقيادة فقهية إيرانية، كما أنها لا تريد الاشتباك مع طهران لمنع ذلك، بينما المعلومات تؤكد أن روسيا تلقت ضمانات لقواعدها. أما قادة المعارضة فقد التقطوا هذه الإشارات وشرعوا لتحقيق النصر المُبين.
النهار العربي
———————————
“خلايا حلب السرية”… كيف تعاونت مع الجولاني وقتلت المستشار الإيراني؟/ وائل عصام
السبت 21 ديسمبر 2024
لا يزال سقوط النظام السوري السريع يثير أسئلة كثيرة، خصوصاً الانهيار العسكري في معركة حلب. لعبت عوامل عديدة أدواراً متباينة، منها ما يتعلّق بانشغال روسيا بحرب أوكرانيا، واطمئنان دمشق لاستقرار حدود أستانا، وداخلياً وهو الأهم؛ ترهّل المؤسسة العسكرية للنظام وتفشّي الفساد فيها تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة، فظهر ما يعرف بـ”التفييش” وهو دفع الجنود مبالغ مالية لمسؤولي وحداتهم لإعفائهم من الحضور إلى ثكناتهم العسكرية، ووصل الحال إلى أن يبيع الجنود “مازوت” دباباتهم وآلياتهم العسكرية في بعض قرى الريف الحلبي.
على الجانب الآخر، كان أبو محمد الجولاني يخطّط لهذا الهجوم بصمت لنحو عام ونصف العام حسب مقرّبين منه، وشملت خطّته زراعة خلايا سرية داخل حلب، بالتنسيق مع ميليشيا عشائرية موالية للنظام من قبيلة البكارة، هي “لواء الباقر”، فكيف تمت هذه العملية ومن هم الذين عملوا عليها؟
في شتاء عام 2013، التقيت الشيخ نواف البشير شيخ قبيلة البكارة في إسطنبول بتركيا. كان البشير يقلّب أوراقه غاضباً، ويتمتم: “أين كان هؤلاء الذين يتحدّثون باسم الثورة الآن عندما كنت أنا في الأمانة العامة لإعلان دمشق منذ 2005”. بدا البشير ناقماً على قادة المعارضة الذين “ارتهنوا للخارج”، حسب قوله. في ذلك الحين كان بيت من قبيلتِه البقارة (البكارة) في ريف حلب، يقوده حسين الحسن المرعي العلوش، قد اتخذ موقفاً معاكساً وتحالف مع النظام، ليُقتل مع ابنه علي خلال اقتحام المعارضة شرق حلب صيف 2012.
وكعادة العشائريين الذين تحرّكهم الثارات والنكايات، أسّس ابنه الناجي، خالد المرعي، ميليشيا “الباقر” العشائرية للانتقام من قتلة والده، وقد انضمّ إلى قوات “الدفاع الوطني” الموالية للنظام، مستفيداً من علاقات قديمة له مع حزب الله اللبناني خلال إقامته في لبنان قبل الثورة السورية.
كان نواف البشير رقماً صعباً داخل سوريا بحكم ثِقله العشائري وعضويته في الأمانة العامة لـ”إعلان دمشق”، وعقدت عدّة جلسات للمعارضة في مضافته بدير الزور. ولكن بعد أن سجنه النظام نحو شهرين في عام 2011 ومغادرته سوريا، لم يجد خارج سوريا مكاناً يطمح إليه في قيادة مؤسّسات المعارضة، ولم تفلح محاولاته لفتح خطوط تواصل ودعم من الدول الراعية لمؤسسات الثورة كقطر والسعودية، فاتجه في عام 2015 للتنسيق مع الأتراك والأمريكيين وأسّس قوات عشائرية تسمى “جيش القبائل” واهتم بقتال تنظيم داعش. لكن قلة الملتحقين بفصيلِهِ وتعرّضه لكمائن متكرّرة من “داعش” أجهضا مشروعَه وجعلا الأتراك والأمريكيين يبتعدون عن دعمه أيضاً. وهنا بدأ بالتلفّت إلى الوراء، نحو دمشق، وبدأ يطرح نفسه كعلمانيّ ويقول عن نفسه في بعض الجلسات إنه أقرب للنظام السوري من جبهة النصرة و”داعش”، وهكذا في عام 2016 عاد لحضن النظام وأسّس ميليشيات عشائرية موالية لقتال “داعش”.
وفي عام 2016، بلغ حنق نواف البشير تجاه قادة المعارضة ذروته، فاتصل بابن قبيلته خالد المرعي قائد “لواء الباقر” ليؤمّن عودته من تركيا إلى “حضن النظام” في دمشق، ويتحوّل من قيادي في المعارضة إلى مؤسس ميليشيا عشائرية موالية لدمشق تُدعى “أسود العشائر”.
“الحاج باقر”
وهكذا توحّد اثنان من كبار بيوتات قبيلة “البكارة” في صفّ النظام، وأصبح خالد المرعي “الحاج باقر”، الذي كان والده مختار باب النيرب بريف حلب قبل الثورة؛ من أعمدة قوات النظام في حلب. ويبدو أن إقامته في لبنان وعلاقة المصاهرة التي أقامها مع عائلات شيعية مقرّبة من حزب الله اللبناني، دفعته إلى تبنّي سياسات مذهبية في ريف حلب، بتشجيع التشيّع وإقامة الحسينيات في بيئة سنية ، ليجمع عصبة القبيلة مع عصبيّة المذهب، ويصبح فصيله “الباقر” من أشد المرتبطين بالحرس الثوري الإيراني.
لكن تقلّب ولاءات العشائريين لا يقلّ حدّةً عن تقلّب الدهر وتبدّل الزمان. ففي 2023، وبعد نحو 11 عاماً من قتاله إلى جانب النظام وتقديم العشرات من اخوانه وأقاربه ضحايا في معاركه، تتصاعد نقمة “الحاج باقر”-خالد المرعي- ضد النظام وأجهزته الأمنيّة، ويمر بحالة تبدّل في الولاءات، مشابهة لما مر به الشيخ نواف البشير في 2016، ويقرّر أن يفتح خطوط اتصال مع الجولاني. فمن كان همزة الوصل؟
تحوّل خالد المرعي وعودته للتقارب مع المعارضة كان له عدة أسباب، بعضها في إطار خلافات مع أجهزة أمنية قامت بالتدقيق في نشاطاته التجارية، في وقت كان يمر النظام بظروف اقتصادية ضاغطة، بحيث تقلّصت الميزانية المخصّصة للميليشيات الرديفة المنضوية في الدفاع الوطني، إضافة إلى استمالته من أبناء قبيلته في البكارة في جانب المعارضة، وقد قام بهذا الدور أبو أحمد زكور.
لم يجد خالد المرعي أفضل من ابن قبيلته البكارة أبو أحمد زكور “جهاد الشيخ”، القيادي السابق في “تحرير الشام”، كوسيلة اتصال مع المعارضة، وابتداءً من شتاء 2023 بدأت تعقد اجتماعات بين ممثلين عن “الحاج باقر” وبين الحاج زكور في بلدة سرمدا، بريف إدلب، لكن في هذا الوقت كان زكور منشقّاً عن “تحرير الشام”.
زكور… رفيق مسيرة الجولاني من أيام القاعدة بالعراق
أبو أحمد زكور، كان من الشباب الذين نفروا من القتال في العراق بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، وقد انضم إلى تنظيم القاعدة بزعامة الزرقاوي كما فعل الجولاني، وبعد عودته من العراق اعتُقِل في سجن صيدنايا منذ 2004 حتّى 2012، وعندما أُطلِق سراحه التحق برفيقه الجولاني في جبهة النصرة وأصبح نائب والي حلب، واستمرت مسيرته مع الجولاني حتّى وضعته الولايات المتحدة في قائمة عقوباتها، ولكن الخلافات تصاعدت بين زكور والجولاني في 2023 وأعلن زكور انشقاقه، لكن ما كان يجري في السر بعد منتصف 2024 هو جهود للمصالحة بين زكور والجولاني من جهة، وفتح قنوات تنسيق بين “الحاج باقر” -خالد المرعي- وابن قبيلته أبو أحمد زكور.
رصيف 22
————————-
حضور تركي وخفوت عربي.. من يقود دفة النفوذ الإقليمي بعد الانحسار الروسي الإيراني؟/ عبد الغني دياب
السبت 21 ديسمبر 2024
أحدث سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد صدمة كبرى على المستويين الإقليمي والدولي، فمع مغادرة طائرة الأسد نحو موسكو، كان المتظاهرون في دمشق يستعدون للفتك بما تبقى من مبنى السفارة الإيرانية في بلدهم. تزامن ذلك مع نقل معدات عسكرية روسية من مدينة طرطوس الواقعة على الساحل السوري باتجاه ليبيا، لتكون هذه الأحداث شاهدة على انحسار أدوار القوتين التي ضمنت صمود نظام الأسد لـ13 عامًا، ولتبدأ مع هذا السقوط محاولات إقليمية ودولية لملء الفراغ الذي أحدثته الانسحابات الروسية الإيرانية.
على إثر الأحداث السابقة، سارعت قوى إقليمية وعربية للحضور في المشهد السوري المعقد، وهو ما يراه خبراء ومراقبون تحدثوا لرصيف22 بدايةً لصراع نفوذ، وترتيبات إقليمية ربما لا تكون في صالح المنطقة العربية.
تركيا تستعد لملء الفراغ الإيراني
وفي هذا الصدد يقول أستاذ العلوم السياسية، في جامعة قناة السويس المصرية، والمتخصص في الشأن الدولي، الدكتور سعيد الزغبى، إن سقوط نظام الأسد، فتح شهية كلاً من إسرائيل وتركيا لتوسيع نفوذهما الإقليمي، فتحركتا للتمدد في الأراضي السورية سريعاً.
ويقول لرصيف22: “وصول المعارضة لدمشق قدم سوريا على طبق من ذهب للأتراك، إذ كانت أنقرة أول الحاضرين في دمشق، حيث زار وزير خارجيتها هاكان فيدان العاصمة السورية، وتجول في شوارعها برفقة قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)”.
على الجانب الآخر، استغلت إسرائيل الظروف التي تعيشها البلاد، وتوغلت في المناطق الجنوبية الغربية منها، وظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يتفقد جنوده داخل العمق السوري. وبحسب ما يراه الزغبي، ضمن التحولات الإقليمية الجديدة، فمن المستبعد أن تنسحب إسرائيل من هذه الأراضي قريباً، بعدما أخذت الضوء الأخضر من واشنطن.
6 قوى تتصارع في سوريا الآن
يقول الزغبي إن الساحة السورية تحولت لمنطقة صراع إقليمية بين 6 دول حيث تنتشر القوات الأمريكية والروسية كقوى دولية متنافسة، يضاف إليها قوات “تركيا وإيران وإسرائيل” كقوى إقليمية، بالإضافة للجماعات المسلحة المحلية، ومنها القوات الكردية التي تتحالف مع جهات دولية وتعادي جهات إقليمية أخرى.
وتظهر حالة التنافس في التصريحات الصادرة عن القوى الإقليمية الثلاث المتصارعة في سوريا، ففي الوقت الذي اعتبرت فيه تركيا التوغلات الإسرائيلية في الجولان وجبل الشيخ، تعدياً على السيادة السورية، ردت خارجية الخاريجة الإسرائيلية بهجوم مماثل على أنقرة، مؤكدة رفضها للتصريحات التركية.
وقالت الخارجية الإسرائيلية إن تركيا هي آخر دولة يجب أن تتحدث عن احتلال سوريا، لأنها تحتل 15% من الأراضي السورية، ونفذت اعتداءً منهجياً على سوريا عبر عمليات عسكرية في الأعوام 2016، 2018، و2019، كما أنشأت مناطق خاضعة لوكلائها، إذ تعمل مجموعات مسلحة مثل “الجيش الوطني السوري” تحت سيطرتها.
وعطفاً على هذه الملاسنات، اعتبرت صحيفة كيهان الإيرانية ما قاله وزير الخارجية التركي عن ضرورة أن تتعلم إيران وروسيا مما حدث في سوريا، مجرد ثرثرة.
عدم استقرار مفتوح
حالة التنافس هذه، يقول عنها الباحثان في مركز مالكوم كارينغي للشرق الأوسط، خضر خضور وأرميناك توكماجيان، إنها قد تنتج عدم استقرار في المنطقة، مؤكدين في ورقة بحثية لهما، أن استمرار العنف بشكل رئيسي في المناطق الحدودية، التي تسيطر عليها الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، قد يؤدي إلى انفجارات داخلية لها تداعيات إقليمية في نهاية المطاف.
بناءً على ما سبق، يرى الباحث فالي نصر، أستاذ كرسي ماجد خضوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط بمدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز، أن أي فراغ ستنسحب منه إيران في المنطقة ستملؤه تركيا، لافتاً في مقال له إلى أنه مع مرور الوقت يمكن لتركيا حصد المكاسب وتوسعة نفوذها في كل في لبنان والعراق، خاصة أن موقف إيران في هذين البلدين يضعف مع خسارة سوريا.
ويشير نصر إلى أن ما حدث في سوريا قد يشجع تركيا على محاولة تكرار الأمر في مناطق أخرى، متوقعاً أن تكون الخطوة المقبلة دعم أذربيجان (حليفة أنقرة) لفرض سيطرتها على طريق ممر زانجيزور التجاري الذي سيربط أذربيجان وأرمينيا بتركيا، وهو ما يهدد النفوذ الإيراني، مؤكداً أن إيران تعتبر تركيا منافساً إقليمياً يتحدى مناطق نفوذها في الشرق الأوسط والقوقاز.
وفي هذا الصدد، يتوقع الزغبي أن ينحسر أيضاً الحضور الروسي في سوريا والمنطقة العربية، لافتاً إلى أن الروس يرون أن أوكرانيا تمثل أهم أولوياتهم حالياً، وأن موسكو، وإن كانت سوريا هي بواباتهم للمتوسط، تخشى من التغيرات التي قد تحدث خلال الأشهر القليلة المقبلة، فلم تعد خطوات بايدن التي سيقدم عليها قبل رحيله عن البيت الأبيض متوقعة تماماً، كما أن الأسابيع الأخيرة شهدت توغلاً كبيرا للأوكران في الأراضي الروسية.
وتوقع الأكاديمي المصري أن تتمدد روسيا خلال الفترة المقبلة في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث بدأت عقد اتفاقيات مع حكومات أفريقية، تضمنت التنازل عن جزء من الديون الروسية مقابل إسناد مشروعات في البنية التحتية لشركاتها.
الغاز قد يقرّب أنقرة من تل أبيب
رغم التلاسن الإسرائيلي التركي بعد أحداث سوريا، يرى الزغبي أن المصالح قد تجمع الطرفين سريعاً، مستدلاً بما حدث في 2022 إذ أعلنت الدولتان عن تحالف الطاقة، الذي تم إحياؤه بعد سنوات من الموات، موضحاً أن تركيا ترى أنها أفضل شريك لتوصيل غاز المتوسط الإسرائيلي إلى أوروبا كبديل عن الغاز الروسي، الذي توقف بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
وتتفق مع هذا الطرح الدكتورة شيماء سمير، الخبيرة في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، والتي ترى أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت منبعاً للصراعات الإقليمية والدولية.
وتؤكد لرصيف22 أن تركيا وإسرائيل وظفتا مجموعة واسعة من الأدوات لمدّ نفوذهما في المنطقة، من بينها استخدام الدبلوماسية النشطة لتحسين علاقاتهما بدول الجوار، حيث سعت أنقرة لإصلاح علاقاتها بالدول العربية، وفي المقابل أطلقت تل أبيب حملة تطبيع قبل سنوات مع الدول العربية.
وترى أن الدولتين حليفتان للقوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلنطي (الناتو) وتستضيف قواعد أمريكية على أراضيها، كما أن الأطراف الثلاث (تركيا والغرب وإسرائيل) يجمعهما العداء الإيرانى مما يجعل كلاً منهم داعماً لسياسة الآخر فى المنطقة.
وترى الباحثة المصرية أن أكبر التحديات التي تواجه النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، هو ملف الصراع الإسرائيلى الفلسطينى خاصة فى الفترة الأخيرة، وهذا ما يضع عقبات أمام العلاقات العربية الإسرائيلية على المستويين الرسمي والشعبي، يقابله تركياً، بحسب الزغبي، الوجود الكردي، كأحد التحديات التي تواجه النفوذ التركي المتنامي، لا سيما في ظل دعم الولايات المتحدة للقوات الكردية في سوريا.
حضور عربي خافت
وينتقد الزغبي الحضور العربي على المستوى الإقليمي، مشيراً إلى أن جامعة الدول العربية لم تظهر على الساحة إلا متأخرة، كما أن اجتماع العقبة الذي عقد في الأردن، وضم وزراء خارجية “مصر والبحرين والإمارات وقطر، والولايات المتحدة، وتركيا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جاء بعد حوالي 10 أيام من بدء تحرك المعارضة السورية.
ويلفت إلى أنه رغم تقديم هذه الاجتماع لرؤى جيدة بالنسبة لسوريا، هناك عراقيل كثيرة تقف في وجه هذه التوصيات، لا سيما تصنيف “هيئة تحرير الشام” كمنظمة إرهابية في عدد من الدول، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وعطفاً على ذلك ترى الباحثة شيماء سمير أن المساعي العربية قد تواجه تحديات جسام منها الانقسامات الداخلية التي تعاني منها بعض الدول، وكذلك تعدد الولاءات الدولية، كتبعية بضع دول عربية للقوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية واعتمادها بشكل قوي على الدعم الخارجي، الذي يحول دون استقلال القرار العربي.
دخول عربي محتمل من باب الاقتصاد
وتشير إلى أن الوضع السوري حالياً شديد التعقيد، إلا أنه بالرغم من ذلك فإن العرب يمكن أن يلعبوا دوراً محورياً في سوريا الجديدة، من خلال عدة آليات تتمثل فى الدعم الاقتصادي وإعادة الإعمار، إذ تحتاج سوريا إلى استثمارات ضخمة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية والأمن الغذائي، ويمكن للعرب أن يجدوا موطئ قدم لهم من خلال هذه الآلية، ولكن في الوقت نفسه هناك تحديات عدة، منها حساسية تعامل بعض الدول مع فصائل المعارضة السورية الحالية والتي مازال هناك منها من هو مصنف على قوائم التنظيمات الإرهابية، مما يجعل أي دعم اقتصادي مقدم لسوريا مجهول مصيره.
ولة عربية تتشكل من خلال علاقاتها مع جيرانها العرب أولاً.
بالعودة للباحث الإيراني فالي نصر، فإنه يقول إن الدول العربية ومن بينها “مصر والأردن ودول الخليج ” قد ترى أن انتصار هيئة تحرير الشام، بمثابة صدى خطير للربيع العربي، فبعدما اعتقدت هذه الدول أنها ناضلت طوال السنوات الماضية لسحق الحركات الإسلامية، في بلدانها، جاءت الأحداث السورية لتعيد الأمور 14 عاماً للوراء.
الدور العربي
ويشير نصر في مقاله إلى أن سوريا تسير بخطى سريعة نحو المصير الليبي، إذ أصبحت متورطة في دوامة التنافس الإقليمي، متوقعاً أن تساهم حالة التنافس الإقليمية في إطالة أزمة البلاد ومعاناة سكانها.
على العكس من الطرح السابق تقدم الباحثة برونوين مادوكشس، مديرة مركز “تشاتام هاوس البريطاني” رؤية مغايرة، مفادها أنه بالرغم من التأكيد على الخسارة الفادحة للروس والإيرانيين على المستوى الإقليمي، وأن ذلك قد يعد مكسبا لتركيا، إلا أن سقوط الأسد قد يجلب المتاعب لأنقرة أيضاً، لا سيما التحدي الدائم الذي يمثله المقاتلون الأكراد الذين يسعون إلى الحكم الذاتي.
وترى مادوكشس في مقال لها أن المملكة العربية السعودية والعراق والأردن، قد تلعب أدواراً أساسية لاستقرار النظام السوري الجديد، مؤكدة أنه سيتعين على أنقرة أن تهتم بما يحدث في دمشق، وأن تعترف بأن قرارات سوريا كدولة عربية تتشكل من خلال علاقاتها مع جيرانها العرب أولاً.
رصيف 22
———————————
======================