سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

———————————–

سوريا الجديدة.. خارطة طريق للمرحلة الانتقالية

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

2024.12.24

مع إسقاط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، خطا السوريون خطوة مهمة نحو الخروج من حقبة مظلمة في تاريخهم المعاصر، وأصبحوا على أبواب مرحلة انتقالية حاسمة لإعادة بناء الدولة السورية بعد عقود من الاستبداد، وأربعة عشر عامًا من التضحيات التي أظهرت تطلّع الشعب السوري نحو الحرية والكرامة، وتركت آثارًا عميقة في بنية الدولة والنسيج الاجتماعي.

تمثّل المرحلة الانتقالية فرصةً لإرساء أسس نظام سياسي جديد لا يتجاوز نظام الاستبداد الذي عرفته سوريا طوال أكثر من نصف قرن فحسب، بل يمنع نشوء أيّ نوع من الاستبداد أيضًا، ويستند إلى مبادئ الحكم الرشيد والمشاركة الشعبية واحترام حقوق المواطن وحرياته والتعددية السياسية والثقافية والدينية والمذهبية للمجتمع السوري. وتتطلب هذه المرحلة مواجهة التحديات الكبيرة، المتمثلة بضعف مؤسسات الدولة، وانهيار بعضها (الجيش والأمن)، وانعدام الثقة بين مختلف الفئات الاجتماعية، والتدخلات الخارجية، والاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، ما يتطلب خطة واضحة للانتقال تسمح بالتغلب على هذه التحديات تشمل ما يلي:

أولًا: تشكيل هيئة حكم انتقالية

إن تشكيل هيئة حكم انتقالية ضرورة؛ فمن دونها يصعب فهم عملية صنع القرار في المرحلة الانتقالية أو إضفاء الشرعية القانونية عليها.

تتكوّن هذه الهيئة من شخصيات عسكرية ومدنية يجري اختيارها بناءً على معايير واضحة لضمان الكفاءة والقدرة على مواجهة تحديات المرحلة. وتعكس تركيبتها تضافر الجهود بين المقاتلين الذين كان لهم الدور الأبرز في هزيمة نظام بشار الأسد وإسقاطه، ومجموعة من التكنوقراط أصحاب الخبرات المناسبة، والسياسيين من ذوي الشعبية الواسعة، ممّن شاركوا في النضال ضد نظام الأسد. ويرأس مجلس الهيئة قائد إدارة العمليات العسكرية بصفته هذه.

وتتحمل الهيئة الانتقالية مسؤوليات أساسية تشمل ما يلي:

    توفير الأمن والاستقرار من خلال وضع أسس لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بطريقة احترافية.

    إعادة بناء الجيش الوطني والإشراف على جمع السلاح، بما في ذلك من الفصائل المقاتلة، ودمج عناصرها في إطار الجيش الوطني الجديد.

    الإشراف على إدارة الشؤون الخارجية، بما في ذلك وزارة الخارجية، مع التركيز على بناء علاقات دولية تخدم المصلحة الوطنية السورية.

    الإشراف على تشكيل حكومة تسيير أعمال تتولى إدارة المهمات اليومية للدولة، بما في ذلك تقديم الخدمات الأساسية، وضبط الأمن.

    ممارسة صلاحيات تشريعية استثنائية تُمكّن المجلس من معالجة الأوضاع القانونية المتراكمة من النظام السابق، تشمل ما يلي:

    إعلان دستوري مؤقت.

    إلغاء القوانين القمعية، بما في ذلك قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب، وأيّ قوانين أخرى تمنح أفراد السلطة العامة حصانات تحميهم من المحاسبة القانونية، لضمان عدم إفلات أيّ مسؤول من العقاب.

    تشريع قوانين جديدة (محدودة) متعلقة بالمرحلة الانتقالية تدعم الانتقال الديمقراطي، مثل قانون الانتخابات المؤقت، وقانون الأحزاب المؤقت، وقانون إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية، وسنّ تشريعات أساسية لإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية والقضائية بما يضمن حياديتها واستقلاليتها.

وتتمثل معايير اختيار أعضاء الهيئة الانتقالية في:

    الكفاءة المهنية والخبرة، بما في ذلك امتلاك الخبرة العملية في مجالات الإدارة والأمن والعلاقات الدولية، مع وجود ما يُثبت القدرة على العمل في ظروف استثنائية، والإلمام بالآليات السياسية والقانونية اللازمة لإدارة المرحلة الانتقالية.

    النزاهة والاستقلالية، حيث يجري اختيار أعضاء سجلّهم خالٍ من الفساد والتجاوزات، وليس لهم ارتباط بالنظام السابق ولم يشغلوا مناصبَ قيادية فيه.

    الالتزام بالمبادئ التي قامت عليها الثورة السورية، مثل الحرية والكرامة والعدالة.

    التمثيل الوطني، بما يشمل ضمان تمثيل كافة المكونات الوطنية، والتنوع المجتمعي السوري، وأن يكون العضو ذا قبول في منطقته ومجتمعه.

    الالتزام بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، والإيمان بسيادة القانون، واحترام التعددية السياسية، والعمل على تعزيز مشاركة مختلف الأطراف الوطنية.

    التحلّي بالمرونة والقدرة على العمل الجماعي ضمن فريق متعدد الخلفيات والخبرات.

ويمكن اعتماد الآليات التالية في اختيار الأعضاء:

    التوافق والمشاورات، بحيث تُعقد مشاورات مكثفة بين مختلف القوى الوطنية بقيادة إدارة العمليات العسكرية للوصول إلى توافق يعكس الإرادة الشعبية.

    الاستعانة بلجنة لتقديم توصيات، يكون من مهماتها التحقق من السيرة الذاتية والخبرات العملية للمرشحين.

ثانيًا: حكومة تسيير الأعمال

تعمل حكومة تسيير الأعمال تحت إشراف الهيئة الانتقالية، وتُعدّ ركيزة أساسية للمرحلة الانتقالية. وتهدف إلى تحقيق استقرار الحياة اليومية للسكان ووضع اللّبنات الأولى لإعادة بناء الدولة السورية على أسس سليمة. وتتعاون مع الهيئة في بذل الجهود لرفع العقوبات عن سوريا. وتتمثل أهدافها الرئيسة في ما يلي:

    إدارة شؤون الحياة اليومية وتوفير السلع الأساسية، وتشغيل القطاعات الحيوية، بما في ذلك قطاعَا الصحة والتعليم.

    إعادة تشغيل المرافق الحيوية، مع التركيز على إعادة تأهيل شبكات المياه والكهرباء التي تضررت بسبب الحرب، وضمان توزيعها على نحوٍ مستدام وعادل.

    إدارة المؤسسات الحكومية وإعادة تنظيم عملها لتقديم الخدمات بكفاءة وشفافية، بما يضمن وصول الخدمات إلى جميع المناطق من دون تمييز.

    إغاثة الفئات الأشدّ تضررًا، ووضع خطط طوارئ لمساعدة النازحين، بما يشمل توفير المأوى والغذاء والرعاية الصحية.

    وضع الأسس الاقتصادية والاجتماعية الممهّدة لإعادة الإعمار والتنمية، وتطوير سياسات اقتصادية لمعالجة التضخم والبطالة، وتوفير فرص عمل للشباب والمجتمع المحلي.

    إطلاق عمليات إعادة إعمار البنية التحتية من خلال دراسة المشاريع العاجلة لإعادة بناء الطرق والجسور المدمرة، وربط المناطق الريفية بالمدن، وإعادة بناء المدارس والمستشفيات.

    تأهيل القطاعات الاقتصادية، ودعم القطاعات الزراعية لإحياء الإنتاج الزراعي، وضمان الأمن الغذائي.

    تقديم التسهيلات لإعادة تشغيل المصانع والمنشآت الصناعية الصغيرة التي كانت قائمة قبل الحرب.

    تعزيز التماسك الاجتماعي، وإنشاء برامج دعم اجتماعي تركز على إعادة النازحين واللاجئين إلى أماكن سكناهم الأصلية، ورعاية الأيتام وأسر الشهداء، وتوفير فرص تدريب وتأهيل مهني لهم.

    العمل على توفير بيئة سياسية تتيح حرية الرأي والتعبير، وضمان حق التجمع السلمي وإشراك المواطنين في صنع القرار.

    توفير بيئة آمنة تمهد الطريق لحوار وطني جامع يشمل كلّ مكونات الشعب السوري، وإطلاق منصات للحوار تشمل جميع المكونات السياسية والاجتماعية، بغرض التوصل إلى رؤية مشتركة حول شكل الدولة الجديدة مع إشراك ممثلين عن الشباب والمرأة والأقليات في عملية الحوار لضمان التنوع والشمولية.

    العمل على إرساء مبادرات مصالحة محلية تهدف إلى حل النزاعات القائمة بين المجتمعات المحلية، وتقديم الدعم لآليات بناء الثقة بين مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية بما يضمن التماسك الوطني.

    وضع إطار مبدئي للعدالة الانتقالية يركز على وضع أسس قانونية ومرجعية لإنصاف ضحايا الانتهاكات، والكشف عن الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، بما يضمن التمهيد لمصالحة مستدامة.

وتتبعُ حكومة تسيير الأعمال في عملها الآليات التالية:

    إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وفقًا لمعايير الكفاءة والنزاهة لضمان تقديم خدمات فعالة لجميع المواطنين.

    الاستعانة بالكفاءات الوطنية في الداخل والخارج، بما يضمن توفير خبرات قادرة على إدارة التحديات المعقدة التي تواجه الحكومة المؤقتة.

    التعاون مع المجالس المحلية والمنظمات غير الحكومية لتوفير حلول سريعة ومبتكرة للتحديات اليومية، مع ضمان إشراك المواطنين في عملية صنع القرار.

    العمل على تأمين دعم مالي دولي وإقليمي لإعادة الإعمار، مع توجيه هذه الموارد بشفافية لتلبية الاحتياجات الملحّة.

ثالثًا: الإعلان الدستوري

تُدار المرحلة الانتقالية بموجب إعلان دستوري يمثّل مرجعيةً قانونيةً للسلطات التي تديرها، ويُعدّ الوثيقة القانونية المؤقتة التي تنظم شؤون الدولة، وهو لا يحدد مستقبل سوريا بل يحدد قواعد لإدارة البلاد في هذه المرحلة. وإلى جانب تحديد الحقوق الأساسية وآليات الرقابة، فإنه يمنح بعض الصلاحيات التشريعية للمجلس الانتقالي لضمان تحقيق العدالة والبدء في عملية بناء الدولة على أسس قانونية عادلة وتعلنه الهيئة الانتقالية، ويُعنى أساسًا بما يلي:

    الحقوق المدنية والسياسية: يمثّل الإعلان الدستوري ضمانةً أساسيةً لحماية الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، بما في ذلك ضمان حرية الرأي والتعبير من دون خوف من الملاحقة، وحماية الصحافيين ووسائل الإعلام من التضييق أو القمع، وتمكين المواطنين من التجمع السلمي للتعبير عن آرائهم ومطالبهم، مع ضمان حماية هذا الحق من أيّ تعسف. وبموجب الصلاحيات الممنوحة للهيئة الانتقالية، تُلغى القوانين الاستثنائية التي قيّدت الحريات العامة، من قبيل قوانين الطوارئ التي تُستخدم أداةً لقمع المعارضة، وتأكيد مبدأ المساواة التامة بين جميع المواطنين أمام القانون، من دون تمييز أو محاباة.

    الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية الصعبة وحالة عدم الاستقرار في المرحلة الانتقالية: تشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها في الإعلان الدستوري الحق في التعليم (المجاني) لجميع الفئات العمرية (مع وضع برامج خاصة لإعادة تأهيل الأطفال المتضررين من النزاع)، والحق في الصحة (مع ضمان توفير الرعاية الصحية المجانية لجميع المواطنين، وإعادة تأهيل المستشفيات والمراكز الطبية، وإنشاء برامج لمعالجة جراح الحرب النفسية والجسدية، خاصة للفئات الأشدّ ضعفًا).

    إلغاء القوانين التي تمنح حصانات خاصة لأفراد السلطة العامة، والتي تُستخدم، غالبًا، لحمايتهم من المحاسبة على أفعالهم غير القانونية.

    إعادة الإعمار والتنمية، بإطلاق خطط قصيرة ومتوسطة الأجل لإعادة بناء البنية التحتية، ودعم النشاطات الاقتصادية لتحفيز النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية.

    آليات الرقابة وحماية حقوق المواطنين: تضمن آليات الرقابة المضمّنة في الإعلان الدستوري حماية المواطنين والمساءلة.

ولتنفيذ مضامين الإعلان الدستوري بفاعلية، يجري اعتماد هيكل إداري مؤقت، يضمُّ:

    الهيئة الانتقالية: ذات صلاحيات واسعة لتوجيه المرحلة الانتقالية، بما في ذلك التشريع ومراقبة أداء حكومة تسيير الأعمال.

    حكومة تسيير الأعمال: تتولى إدارة الشؤون اليومية للدولة، وتنفيذ السياسات المنصوص عليها في الإعلان الدستوري.

    الهيئات التابعة للحكومة والمجلس: مثل هيئة العدالة الانتقالية.

رابعًا: الدعوة إلى مؤتمر وطني جامع

تتولى الهيئة الانتقالية مسؤولية الدعوة إلى مؤتمر وطني جامع باعتبارها الجهة المخوّلة بإدارة المرحلة الانتقالية. ويهدف المؤتمر إلى توحيد الجهود الوطنية ورسم ملامح سوريا المستقبل على أسس تشاركية وشاملة. وتشمل أهدافه ما يلي:

    جمع ممثلين عن كافة مكونات الشعب السوري ومختلف القوى السياسية، بما في ذلك الأحزاب، والجمعيات غير الحكومية والأهلية والاتحادات، والنخب الفكرية والأكاديمية؛ للمساهمة في بناء رؤية وطنية متكاملة.

    وضع رؤية وطنية مشتركة تحدد الأولويات المستقبلية، مثل إعادة الإعمار والمصالحة الوطنية والانتقال الديمقراطي، والاتفاق على المبادئ الأساسية لبناء دولة مدنية حديثة تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.

    اختيار لجنة دستورية مستقلة تتولى صياغة دستور جديد يعكس تطلعات الشعب السوري، ويضمن مشاركة جميع مكوّناته في بناء الدولة، مع ضمان تمثيل كافة الأطياف والمكونات السورية في اللجنة الدستورية لتعزيز شرعية الدستور الجديد وصدقيته.

1. معايير اختيار المشاركين في المؤتمر الوطني

لضمان نجاح المؤتمر وتحقيق أهدافه، تعتمد الهيئة الانتقالية معايير واضحة وشفافة لاختيار المشاركين، تشمل:

    التمثيل الشامل والمتوازن: يجري تمثيل كافة المناطق السورية ومختلف مكونات المجتمع.

    الكفاءة والخبرة: يجري اختيار شخصيات ذات كفاءة وخبرة في مجالات السياسة والقانون والاقتصاد وغيرها، مع ضمان أن يكون المشاركون قادرين على تقديم رؤى بنّاءة وحلول عملية للقضايا الوطنية.

    النزاهة: اختيار شخصيات ذات سمعة حسنة، ولم تتورط في انتهاكات أو ممارسات قمعية خلال النزاع.

    التنوع الفكري: يجري إشراك شخصيات من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية؛ على نحو يضمن أن تكون مخرجات المؤتمر شاملة وممثلة لكافة أطياف المجتمع.

    الالتزام بالمبادئ الوطنية: اختيار المشاركين الذين يلتزمون بمبدأ وحدة سوريا أرضًا وشعبًا، ورفض التدخلات الخارجية التي تقوّض السيادة الوطنية، ورفض استخدام العنف في حلّ الخلافات السياسية.

2. آليات اختيار المشاركين

لضمان اختيار المشاركين على نحوٍ عادل وفعّال، تضع الهيئة الانتقالية آليات واضحة تشمل:

    تشكيل لجنة تنظيمية منبثقة من الهيئة الانتقالية للإشراف على عملية اختيار المشاركين، وتضمّ شخصيات قانونية معترف بها لضمان الشفافية والنزاهة.

    الإعلان عن إجراءات شفافة تشمل معايير الاختيار وآلياته بصورة علنية؛ لضمان مشاركة المواطنين وموافقتهم على مخرجات المؤتمر.

    التشاور مع القوى الوطنية، من خلال دعوة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني لتقديم قوائم بأسماء مرشحيها لحضور المؤتمر، وإجراء مشاورات مكثفة مع القيادات المحلية والمجالس الأهلية؛ لضمان تمثيل المناطق المختلفة.

    إشراك المنظمات المحلية في عملية اختيار المشاركين؛ لضمان شموليتها وشفافيتها، مع ضمان وجود مراقبين محليين لمتابعة سير العملية وإعداد تقارير حولها.

    إنشاء منصات إلكترونية؛ لتلقّي ملاحظات المواطنين وضمان استيعاب آرائهم.

3. آليات تنفيذ مخرجات المؤتمر الوطني

لتنفيذ مخرجات المؤتمر الوطني، يجب:

    توزيع التمثيل داخل المؤتمر بناءً على معايير عادلة تراعي التوازن بين المناطق والمكونات السورية، ومنع احتكار أيّ طرف للقرارات، بما يضمن أن تكون مخرجات المؤتمر معبّرة عن التوافق الوطني.

    توفير إشراف محلّي؛ لضمان الشفافية والصدقية، مع احترام السيادة الوطنية.

    العمل على بناء الثقة مع المجتمع الدولي؛ لدعم مخرجات المؤتمر وتقديم الدعم اللازم لتنفيذها.

    تحديد جدول زمني واضح لتنفيذ البنود، من قبيل تشكيل اللجنة الدستورية وصياغة الدستور الجديد.

    إطلاق حوار وطني مستمر، بجعل المؤتمر بداية لحوار وطني مستمر يشمل جميع مكونات المجتمع السوري لضمان تحقيق المصالحة الوطنية وتعزيز التماسك الاجتماعي.

خامسًا: صياغة الدستور الجديد

تُعدّ صياغة دستور جديد لسوريا من أولى الخطوات الأساسية في بناء الدولة بعد المرحلة الانتقالية؛ فهو يمثّل العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، ويهدف إلى إرساء قيم الديمقراطية وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية، بما يضمن مشاركة جميع مكوّنات الشعب السوري في بناء مستقبلهم على أسس متينة وشاملة، ويشمل ذلك:

1. عمل اللجنة الدستورية

تُكلَّف اللجنة الدستورية بصياغة دستور جديد يعكس تطلّعات الشعب السوري وتوجهاته نحو الديمقراطية والعدالة. ويجري تشكيلها بناءً على معايير واضحة تضمن استقلالها وكفاءتها، وتحدد مهماتها بصياغة دستور جديد يسعى إلى:

    تحديد شكل الدولة ومؤسساتها، عبر مواد تحدد شكل الدولة بوصفها دولة مدنية ديمقراطية تضمن حقوق جميع المواطنين، ووضع نصوص واضحة تنظم عمل السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)؛ لضمان الفصل بينها وتجنّب الاستبداد.

    ترسيخ قيم الديمقراطية، وذلك بنظام سياسي يضمن إمكانية تداول السلطة سلميًا ودوريًا، وإرساء مبدأ سيادة القانون بحيث يكون الجميع متساوين أمامه من دون أيّ استثناءات.

    تعزيز التعددية السياسية، من خلال نصوص قانونية تضمن حرية تأسيس الأحزاب والجمعيات السياسية.

    إدراج مواد تضمن حقوق الإنسان وتنص على الحقوق المدنية والسياسية (مثل حرية الرأي والتعبير، وحرية التجمع السلمي، وحرية الصحافة)، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (بما يشمل الحق في التعليم والصحة والسكن).

    حماية حقوق مختلف مكونات المجتمع السوري، وذلك بتحقيق المساواة الكاملة على أساس المواطنة وضمان عدم التمييز أو إقصاء المنتمين إلى جماعات محددة عن المشاركة السياسية، وحماية الحقوق الثقافية الجماعية.

    تحقيق العدالة الانتقالية، من خلال وضع إطار قانوني يشمل كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، عن طريق محاكمات علنية تستوفي كافة معايير العدالة، وجبر الضرر للضحايا، وإنشاء آليات لتوثيق الجرائم والانتهاكات التي حدثت خلال النزاع لضمان عدم تكرارها.

    تمكين الفئات المهمشة، بما يشمل تعزيز مشاركة المرأة في الحياة العامة من خلال تخصيص نسبة معيّنة للتمثيل النسائي في المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وإدراج نصوص تدعم حقوق الشباب وتشجع مشاركتهم في صنع القرار، وتمكين ذوي الإعاقة وضمان حقهم في التعليم والعمل والمشاركة السياسية.

2. آليات عمل اللجنة الدستورية

لضمان نجاح اللجنة الدستورية في تحقيق مهماتها، تُعتمد آليات عمل محددة تشمل:

    التشكيل المتوازن: تضمّ اللجنة خبراء قانونيين وسياسيين من مختلف مكونات المجتمع السوري، مع تمثيلٍ عادل للمرأة والشباب والأقليات لضمان شمولية المخرجات.

    إجراءات شفافة ومشاركة شعبية: عقد جلسات علنية لإطْلاع المواطنين على مسار صياغة الدستور وضمان مشاركتهم في المناقشات، واستقبال المقترحات من المواطنين والمجتمع المدني، بما يضمن أن يعكس الدستور تطلعات الشعب.

    الاستفادة من الخبرات والتجارب الدولية: دراسة تجارب الدول الأخرى في صياغة دساتيرها بعد النزاعات للاستفادة من أفضل الممارسات.

    التنسيق مع الهيئة الانتقالية: العمل على نحوٍ وثيق مع الهيئة الانتقالية؛ لضمان اتساق الدستور الجديد مع المرحلة الانتقالية وأهدافها، وعرض المسودة النهائية للهيئة قبل طرحها للاستفتاء الشعبي.

3. آليات الاستفتاء الشعبي

يُعرض الدستور الجديد على استفتاء شعبي عام؛ لضمان شرعيته وموافقة الشعب عليه، وفقًا لآليات تضمن الشفافية والصدقية، وتشمل:

    تنظيم الاستفتاء: يجري تحديد موعد لإجراء الاستفتاء بعد إتمام صياغة الدستور ومراجعته، وإعداد آليات إجرائية تضمن سهولة وصول المواطنين إلى مراكز الاقتراع في جميع المناطق السورية.

    إشراف مستقل: إنشاء لجنة وطنية مستقلة للإشراف على تنظيم الاستفتاء (تضمّ شخصيات معروفة بالنزاهة والاستقلالية)، مع ضمان وجود مراقبين محليين ودوليين لمتابعة سير العملية الانتخابية وتقديم تقارير عن نزاهتها.

    ضمان الشمولية: تمكين اللاجئين والنازحين داخليًا من المشاركة في الاستفتاء عبر آليات ميسّرة، وتوفير التوعية الكافية حول محتوى الدستور الجديد؛ بما يضمن نجاح عملية التصويت.

    الإعلان عن النتائج: إعلان نتائج الاستفتاء بطريقة شفافة ومباشرة عبر مختلف وسائل الإعلام، والالتزام بمخرجات الاستفتاء، والعمل على تنفيذها بوصفها تمثيلًا للإرادة الشعبية.

سادسًا: إجراء الانتخابات

تُعدّ الانتخابات الحرة والنزيهة المحطة النهائية في المرحلة الانتقالية، حيث تمثّل تتويجًا للجهود المبذولة في إعادة بناء المؤسسات وضمان مشاركة الشعب السوري في تقرير مصيره. وتُعتبر أساسًا لإضفاء الشرعية على النظام السياسي الجديد، وتحديد القيادة التي ستتولى إدارة شؤون الدولة خلال مرحلة الاستقرار.

1. إجراءات تنظيم الانتخابات

تتطلب الانتخابات الناجحة تنظيمًا دقيقًا لضمان شفافيتها ونزاهتها، وتشمل الإجراءات التالية:

    إعداد الإطار القانوني والتنظيمي: صياغة قانون انتخابات جديد يضمن التعددية السياسية، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة للإشراف على الانتخابات تتمتع بالاستقلالية والحياد، وتنظيم حملات توعية للناخبين حول أهمية الانتخابات وآلياتها لضمان مشاركة فعّالة.

    تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة: إجراء انتخابات برلمانية لتشكيل مجلس تشريعي يمثّل إرادة الشعب ويُشرف على سنّ القوانين ورقابة الحكومة، وانتخابات رئاسية لاختيار رئيس للدولة وفقًا للدستور الجديد، والالتزام بجدول زمني محدد لإجراء الانتخابات في إطار المرحلة الانتقالية.

    ضمان مشاركة كافة المواطنين في الداخل والخارج: توفير آليات تصويت للنازحين داخليًا واللاجئين في الخارج بالتنسيق مع الدول المضيفة، وإنشاء مراكز اقتراع إضافية في المناطق التي يصعب الوصول إليها لضمان شمولية العملية الانتخابية، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، مثل التصويت الإلكتروني، في المناطق الآمنة لتسهيل المشاركة.

    الإشراف الدولي والمحلي: تجري دعوة منظمات دولية متخصصة مثل الأمم المتحدة؛ للإشراف على الانتخابات لضمان نزاهتها، وإشراك منظمات المجتمع المدني المحلي في متابعة العملية الانتخابية وتقديم تقارير عن سيرها.

    ضمان أمن العملية الانتخابية: يجري تأمين مراكز الاقتراع لضمان عدم التدخل أو الترهيب، ومراقبة العملية الانتخابية لمنع أيّ محاولات للتزوير أو التأثير في الناخبين.

2. ضمان الشمولية في الانتخابات

لضمان تمثيلٍ عادل وشامل لجميع مكونات الشعب السوري، يجب اتخاذ تدابير خاصة تشمل:

    تمكين المرأة والشباب: تخصيص نسبة معينة من المقاعد تضمن حدًّا أدنى لتمثيل النساء، ووضع برامج خاصة لتشجيع الشباب على الترشح والمشاركة في العملية السياسية.

    مشاركة مختلف مكونات الشعب السوري: ضمان تمثيل عادل للمكونات الاجتماعية العرقية والدينية في المجالس المنتخبة من خلال تمثيل عادل لمختلف المحافظات، وضمان التنوع في قوائم مرشحي جميع الأحزاب، وتوفير بيئة سياسية تضمن حرية التعبير والمشاركة لكل المكونات من دون تمييز.

    إعادة دمج النازحين واللاجئين: تسهيل عودة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية لضمان مشاركتهم في الانتخابات، وتوفير وثائق تعريفية للمواطنين الذين فقدوا أوراقهم الرسمية خلال النزاع؛ لضمان حقّهم في التصويت.

3. الإجراءات اللوجستية والفنية للانتخابات

يتطلب تنظيم الانتخابات، على المستوى اللوجستي والفني، ما يلي:

    إعداد قوائم الناخبين: إنشاء قاعدة بيانات وطنية محدثة تضم جميع المواطنين المؤهّلين للتصويت، والتحقق من قوائم الناخبين بالتعاون مع المجالس المحلية لضمان دقّتها.

    تنظيم الحملات الانتخابية: ضمان تساوي الفرص لجميع المرشحين في الوصول إلى الناخبين من خلال وسائل الإعلام والفعاليات العامة، ومنع استخدام المال السياسي أو الموارد العامة في الحملات الانتخابية.

    مراقبة الانتخابات: يجب نشر مراقبين دوليين ومحليين في جميع مراكز الاقتراع لمتابعة سير العملية الانتخابية، وإنشاء خط ساخن لتلقّي الشكاوى والانتهاكات التي ربما تحدث أثناء الانتخابات.

    إعلان النتائج: تعلن الهيئة الوطنية للانتخابات عن النتائج بطريقة شفّافة ومباشرة، ويجري توفير آليات للطعن في النتائج أمام قضاء مستقل؛ لضمان معالجة أيّ اعتراضات بصورة عادلة.

سابعًا: نهاية المرحلة الانتقالية

تُختتم المرحلة الانتقالية بنقل السلطة إلى قيادة منتخَبة من الشعب السوري، بما يدشّن مرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية. وتشمل هذه المرحلة:

    تسليم الهيئة الانتقالية السلطة إلى حكومة منتخبة بعد انتهاء الانتخابات، بما يضمن تجنّب أيّ فراغ سياسي أو إداري.

    إطلاق مرحلة الاستقرار من خلال العمل على تنفيذ البرامج المتفق عليها خلال المرحلة الانتقالية لتعزيز التنمية الوطنية.

    إعادة بناء المؤسسات الوطنية، بتفعيل عملها بما يتوافق مع الدستور الجديد.

    تعزيز الثقة بالمستقبل، إذ يجب أن تؤكد القيادة المنتخبة التزامها بمبادئ الشفافية والمساءلة والعمل على تحقيق تطلعات الشعب السوري، وإطلاق مشاريع وطنية كبرى لإعادة الإعمار وتحقيق التنمية الشاملة.

خاتمة

تمثّل المرحلة الانتقالية فرصةً تاريخيةً لإعادة بناء سوريا على أسس ديمقراطية وعدالة شاملة، وإنشاء نظام يحظى بشرعية شعبية. ويعتمد نجاح هذه المرحلة على وضوح الرؤية وشمولية الإجراءات والوحدة الوطنية لإنجاح الانتقال، ودعم المجتمع الدولي، من خلال تشكيل مجلس انتقالي قويّ، وإعلان دستوري شامل، وصياغة دستور ديمقراطي يضمن الحقوق العامة، ويمكّن من تحقيق انتقال سياسي مستدام وبناء سوريا المستقبل التي تطمح إليها الأجيال المقبلة.

———————————–

اثنا عشر يوماً من أجل دمشق: القصة الكاملة لمعركة ردع العدوان من الداخل/ عروة خليفة

24-12-2024

        يبدأ الصحفي والكاتب التركي جنكيز تشاندار كتابه قطار الرافدين السريع باقتباسٍ لخوسيه ساراماغو: «لا أعتقد بالإلهام. ولا أعرف ما هو الإلهام… أول شروط الكتابة هو الجلوس، فنحن نكتب بعد أن نجلس»، مثلُ تشاندار، الذي قدّم لنا واحداً من أبرز الكتب حول القضية الكردية في تركيا والمشرق، عَلِمتُ بأنّ كتابة تقرير كامل عمّا جرى خلال الأيام القليلة الماضية، أمرٌ غير ممكن إلا إذا «جلست»، مجازاً على الأقل، فكانت عطلة نهاية العام – التي كان فريق الجمهورية سخيّاً معي فيها – الوقتَ الأنسب حتى أعود إلى دفتر ملاحظاتٍ كنت قد بدأت بتدوينها، إلى جانب اقتباساتٍ من مقابلاتٍ أجريتها عبر الهاتف مع مصادرَ داخل سوريا وخارجها، لتدوين ونقل أخبار ما يجري في البلاد خلال الأسابيع الفائتة. اكتشفتُ مع مباشرة العمل على هذا التقرير بأنّ دفتر الملاحظات الكبير نسبياً قد امتلأ، واضطررتُ لاستعارة دفتر جديد من ابنتي طالبة الصف الثاني الابتدائي، لكتابة بعض النقاط من مكالمةٍ جديدة.

        المعلومات الواردة أدناه هي حصيلة عشرات المكالمات مع شخصيات سياسية سورية، وباحثين وسياسيين سوريين وعرب مطّلعين على الأجواء الدبلوماسية المتعلقة بسوريا، وعاملين في المجال الإنساني. تواصلتُ أيضاً مع شبّان سوريين شاركوا بعد انقطاع لسنوات كمقاتلين في معركة ردع العدوان، وتحدّثتُ مع قيادات في غرفة إدارة العمليات التي قادت المعارك، ومقرّبين من الفصائل؛ تناقشتُ مع زملاء صحفيين-ات ومراسلين-ات شاركوا بشجاعة منقطعة النظير في تغطية تطورات الأيام التي غيّرت وجه سوريا، وأعلنَت نهاية الأبد الأسدي بعد 54 عاماً، تواصلتُ مع أصدقاء ومصادر في حلب وحماة ودمشق، وفي الثامن من كانون الأول (ديسمبر) شاركتُ الدموع مع صديقي من دمشق عندما أُعلن خبر هروب بشار الأسد من البلاد، وسقوط نظامه.

        عندما فكّرت بعنوان مناسب لهذا التقرير، الذي أريد أن أجمع فيه كل ما عرفته خلال سير المعارك أو حولها بعد أيام من انتهاء الأعمال العسكرية الرئيسية، خطر لي عنوان كتاب الصحفي الأميركي جون ريد عشرة أيام هزّت العالم، والذي كان في الأصل واحداً من أشهر الريبورتاجات الصحفية المعمقة الذي غطى فيه ريد أيام ثورة أكتوبر في روسيا، لكنني تراجعتُ فوراً عن الأمر بعدما تذكّرت بأنّ الراحل مصطفى طلاس اختار عنواناً مستوحى منه لنشر كُتيّب ثلاثة أشهر هزّت سوريا، والذي كان جزءاً من مذكراته، ويتناول الفترة التي شهدت توتراً في البلاد إثر محاولة رفعت الانقلاب على أخيه حافظ الأسد. لنذير فنصة أيضاً كتابٌ بعنوان مشابه عن أيام الانقلاب الأول في تاريخ سوريا الحديث، والذي نفّذه عديله حسني الزعيم، 137 يوماً هزّت سوريا، وعلى الرغم من أنّ الأيام التي سأتحدّثُ عنها في هذا التقرير حملت أثراً يفوق ما جرى الحديث عنه في تلك الكتب، كما أظن، إلّا أنّني اخترت عنواناً آخر في نهاية الأمر.

        كان العون الذي حصلت عليه من زميلاتي وزملائي في الجمهورية حاسماً في قدرتي على الإحاطة الكاملة بكل تلك التفاصيل الهائلة التي حصلت خلال أيام قليلة، كما كانت النقاشات التي أجريناها حول موقفنا من تلك المعارك عندما بدأت، والمراجعة الحذرة لمسألة الانخراط الكامل في تغطية الأحداث العسكرية في سوريا بعد سنوات على توقفها وطرق التعامل معها، عاملاً هامّاً في الوصول إلى تصوُّر تحريري لم يكن العمل ممكناً دونه، وهو ما سيصبح مفيداً لي أيضاً خلال كتابة هذا المقال.

        *****

        كنتُ قادراً على سماع صوت شُربِه للشاي أثناء المكالمة، اعتذرَ موضّحاً أنّ هذه الفرصة الأولى التي أتيحت له منذ أيام للتواصل معي، وقد خصص وقت استراحته الوحيدة خلال اليوم ليُجيب على أسئلتي بخصوص الوضع الحالي في سوريا، وأسئلة أخرى تعود لبداية التحضير لعملية ردع العدوان، باشرتُ بسؤاله عن اللحظة التي بدأوا فيها الإعداد للمعركة، كنت أتخيّل إطاراً زمنياً لا يزيد عن عام، لكنه أجاب دون تردد: «منذ توقّف إطلاق النار في آذار (مارس) عام 2020». كان أحمد دالاتي، نائب قائد حركة أحرار الشام وعضو غرفة إدارة العمليات، والذي عُيّن مؤخراً نائباً لمحافظ ريف دمشق، يتحدّث عن تاريخ انتهاء المعارك التي بدأها نظام بشار الأسد بدعمٍ روسي وإيراني شتاء 2019، واستطاع من خلالها السيطرة على مساحاتٍ واسعة «كانت ذات لون أخضر»، أي أنّها كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية. خسرت الفصائل في ذلك الوقت قرىً وبلدات ومدنَ مهمة، مثل سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون، وذلك تحت وطأةِ نيران الطائرات الروسية وتقدُّم قوات نظام الأسد على الأرض، مدعومةً بميليشيات إيرانية وبمقاتلي حزب الله اللبناني. شكّلت تلك الهزيمة استكمالاً لمسار من التراجع العسكري منذ نهاية عام 2016، مع خسارة المعارضة السورية لوجودها في أحياء مدينة حلب الشرقية، ومن ثمّ الغوطة الشرقية قرب دمشق، وكل وجودهم في محافظة درعا جنوب البلاد وريف حمص الشمالي في عام 2018.

        لم تعد فصائل المعارضة السورية تسيطر سِوَى على شريط ضيّق بالقرب من الحدود التركية، وأصبح شمال غرب سوريا يعجُّ بنازحين قادمين من مختلف أنحاء البلاد، هرباً من بطش نظام بشار الأسد.

        يُكمل أحمد دالاتي حديثه بالإشارة إلى اجتماعاتٍ عقدتها جميع الفصائل في المنطقة على الفور، لمحاولة الخروج بعِبَر ونتائج من تلك الهزيمة التي تعرّضت لها، وكيف اتّخذت قراراً بتشكيل قيادة عسكرية موحدة، ولكن قبل ذلك إنشاء «كليّات عسكرية وفق الأصول العسكرية المتبعة في العالم»، يبدو أنّ الفصائل التي وُلِدت كمجموعات مقاومة محلية أو خلايا لتيارات إسلامية جهادية قد قررت عند تلك اللحظة، التحول إلى جيش نظامي لا ميليشيا. وقد كانت بالفعل مشاهد ناقلات الجند التي تأخذ الشبّان المتطوعين إلى المعركة، بعد 27 نوفمبر، تعطي انطباعاً مؤيداً لذلك.

        مصدر مقرب من غرفة العمليات قال لي، خلال حديث أجريته معه بعد تحرير مدينة حلب بيومين، إنّ النيّة لبدء المعركة كانت قد عُقدت قبل عامٍ من الآن، لكنّ ضغوطاً تركية أخَّرَتَها. وأكّدت عدّة مصادر أخرى، من بينها سياسيين سوريين مطّلعين على مسار الأحداث، معلومةَ الضغوط التركية وعدم رغبة أنقرة باندلاع تصعيد عسكري جديد في المنطقة، وسط مخاوف من تحوّل النازحين الذين يزيدون على الثلاثة ملايين شمال غرب سوريا إلى لاجئين وافدين إلى أراضيها. وربما خوفاً من سيناريو مشابه لما حدث في غزّة بعد عملية 7 أكتوبر.

        لا يمكنني تحديد اللحظة التي اتُّخذ فيها القرار بشكلٍ نهائي، لكنّ مصدرين، أحدهما شارك في العمليات العسكرية والآخر مُقرّب من غرفة العمليات، أكدا لصالح هذا التقرير بأنّ غرفة العمليات أرسلت وحدات من النخبة إلى مدينة حلب سراً، وجرى تحضيرهم لإجراء عمليات اغتيال واستهداف لمواقع عسكرية وأمنية عند بدء المعركة. قبل ستّة أشهر من انطلاق ردع العدوان، كان عددهم بحسب المصدر الأول 800 عنصر، وقد استطاعوا بالفعل عند اقتراب قوات ردع العدوان من مدينة حلب القيامَ بتفجير اجتماع يضم قيادات أمنية وعسكرية، واستهداف مواقع أمنية وتنفيذ اغتيالات لعدد من قيادات قوات نظام الأسد في مدينة حلب، يقول مصدري: «عندما دخلنا مدينة حلب كانت قد تحررت منذ ساعتين». مشيراً إلى انهيار قوات نظام الأسد على وقع الضربات التي أتتهم من خلف الخطوط، لكن أيضاً بسبب استراتيجية الحرب الخاطفة التي تمّ تطبيقها عبر التقدم بسرعة على محور رئيسي، تحت غطاء جوي وفرته مسيرات شاهين، ومن ثمّ التقدم على عدّة محاور أخرى لتشتيت قدرات الطيران الروسي.

        تحدّث أحمد الشرع، كان يشار إليه باسم أبو محمد الجولاني في ذلك الوقت، في عدد من اللقاءات العامة والخاصة، عن التحضير للمعركة قبل عام من بدء ردع العدوان. وخلال نقاشات حول العمل، أشار زميلي الصحفي علي دالاتي إلى حضوره عدّة لقاءات مع حكومة الإنقاذ التي جرى فيها الحديث من قبل وزراء ومسؤولين عن اقتراب موعد المعركة، وذلك قبل أشهر قليلة من 27 تشرين الثاني (نوفمبر).

        قبل شروق شمس يوم الأربعاء 27 نوفمبر، انطلقت مدافع غرفة إدارة العمليات، التي كان لا يزال يشار إليها باسم غرفة الفتح المبين، وبدأ مقاتلوها بالتقدم نحو خطوط التماس معلنين بدء معركة ردع العدوان.

        غرفة الفتح المبين هو اسمٌ استُخدم للمرة الأولى عام 2019 خلال المعارك مع قوات نظام بشار الأسد. هذه المظلة كانت تطوراً لغرفة فتح دمشق التي أُعلِن عنها خلال المعارك التي استطاعت بعدها فصائل المعارضة السورية من السيطرة على مدينة إدلب، وطرد قوات النظام منها إلى جانب جسر الشغور وأريحا عام 2015، كانت تلك المرحلة واحدة من أبرز اللحظات التي شعر فيها بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون بتخوّفٍ من انهيار نظامه، ما استدعى قيام القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بزيارته الشهيرة إلى موسكو ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طالباً العون الروسي في سوريا، وهو ما حدث فعلاً نهاية شهر أيلول (سبتمبر) 2015، وكان ذلك شرارة البداية لسيطرة نظام الأسد مجدداً على مساحات واسعة من البلاد كان قد خسرها منذ العام 2012.

        لم تكن العلاقة بين الفصائل المكوِّنة لغرفة الفتح المبين جيدة دوماً، فقد شهدت منطقة شمال غرب سوريا عدداً من المعارك الدموية بين فصائل المعارضة، أدت في النهاية إلى سيطرة شبه كاملة لهيئة تحرير الشام  – وريثة جبهة فتح الشام أو جبهة النصرة سابقاً – على منطقة إدلب وريف حلب الغربي، بينما بقيت مناطق عفرين وريف حلب الشمالي تحت سيطرة فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا، والتي سيطرت على المنطقة بعد عمليتي درع الفرات ضد تنظيم داعش نهاية عام 2016، وغصن الزيتون ضد قوات سوريا الديمقراطية عام 2018.

        وعلى الرغم من استمرار وجود غرفة الفتح، كان النفوذ يميل عملياً لصالح هيئة تحرير الشام التي يقودها أبو محمد الجولاني، ومع ثبات سلطته وتشكيل حكومة الإنقاذ التابعة له بشكل غير رسمي، تراجعت حدّة الصدامات في المنطقة، وإن بقيت حالة من التنافس التي يدعمها الجولاني ضمن الفصائل الأساسية، مثل التنافس بين القيادات في حركة أحرار الشام على المنصب الأول، والذي أدى إلى صدامات محدودة وشقاقات، جرى تجاوزها مع الوقت.

        بعد ساعات قليلة من بدء المعركة، أعلنت غرفة العمليات عن اسمها الجديد، وعن توحّد كامل الفصائل ضمنها للقيام بعمل عسكري ضد قوات النظام، التي كانت قد عادت إلى قصف شمال غرب سوريا بشكل مكثّف منذ أشهر، ما تسبب في وقوع عشرات الضحايا وتدمير منشآت مدنية وحيوية في المنطقة.

        بحلول الساعة الثانية وخمسٌ وخمسون دقيقة من بعد ظهر يوم الأربعاء 27 تشرين الثاني (نوفمبر)، صدر تسجيلٌ مصور للرائد حسن عبد الغني، الناطق باسم غرفة إدارة العمليات، تحدّث فيه عن واجب الفصائل بردع عدوان قوات النظام عن المدنيين، و«استرداد الكرامة».

        قبل يوم من بدء العمليات، كنتُ قد سجلت حواراً مطولاً مع ممثل الأمم المتحدة المقيم في دمشق، آدم عبد المولى، حول «استراتيجية التعافي المبكر»، وهي خطة لتمويل مشاريع تنموية كان قد أُعلن عنها قبل أيام. على الرغم من توارد أنباء عن إمكانية اندلاع معارك شمال غرب البلاد، لم نكن (نحن هيئة تحرير موقع الجمهورية) نضعُ في الحسبان قرب بداية العملية ونطاقها الواسع، لتتغير الخطة التحريرية بالكامل خلال أقل من 24 ساعة على انطلاق ردع العدوان، لصالح التحليلات الميدانية والسياسية لمجريات المعركة وخرائط النفوذ الجديدة.

        لم تترك لنا التطورات الكثيرَ من المساحة للتفكير والتحليل، فقد استطاعت فصائل ردع العدوان السيطرة على مدينة حلب بعد يومين من انطلاق المعركة فقط، وسط انهيار كبير لقوات الأسد في ريف حلب الغربي والجنوبي، أدت تلك التطورات إلى صدمة واسعة في مجتمع الناشطين والعاملين في الشأن العام، خاصةً المنحدرين من مدينة حلب. جرى ترتيب اتصالات سريعة استفدتُ منها مباشرةً، وقررنا أنا وزميلي كرم نشار في اجتماع مساء يوم الأحد العملَ على نموذج جديد للتغطية لمواكبة تلك الأحداث المتسارعة، كانت الأخبار تخرق جدار الصوت في عقلي، بدأت استعادة اتصالي بعدد كبير من الأشخاص الذين عرفتهم وعملت معهم في المنطقة، إذ كان قد سبق وأن زرت المناطق الشرقية المحررة من مدينة حلب عام 2014، لتدريب ناشطين ومراسلين على العمل الصحفي.

        من خلال معارف مشتركين تمكّنتُ من التواصل مع المهندس فؤاد مبيض، والذي كان أحد المشاركين الفاعلين في الحراك الثوري لمدينة حلب، لكنّه فضّل البقاء في المدينة، ونشط المهندس مبيض فور تحرير المدينة في التنسيق بين غرفة إدارة العمليات وإدارة المؤسسات التي تقدم الخدمات الرئيسية مثل المياه والكهرباء، استطعتُ الحصول على تصور كامل منه عن الوضع الخدمي في المدينة بعد 48 ساعة على طرد نظام الأسد منها، وأشار المهندس فؤاد المبيض إلى أنّ غرفة إدارة العمليات كانت قد جهّزت كوادر فنية من مهندسين وعاملين في القطاع الخدمي، للدخول الفوري إلى المؤسسات وتسيير أمورها وتغطية أي غياب فيها، وهو ما حصل بالفعل، ما أدى إلى أن تكون عملية انتقال السيطرة على المدينة بأقل خسائر ممكنة بما يخص احتياجات السكّان الأساسية.

        في اليوم التالي، وخلال حديث مع شخص مقرب من غرفة إدارة العمليات، قال إنّ التحضيرات لإدارة مدينة حلب قد بدأت منذ أشهر، وإنّ هناك مبنىً كان مخصصاً في أحد وزارات حكومة الإنقاذ للموظفين الذي يجري تجهيزهم لإدارة المدينة بعد تحريرها، مصدرٌ آخر مطلع على سير العمليات أفاد بأنّ الخطط كانت تركز في المرحلة الأولى على ريف حلب الغربي، ومن ثمّ على مدينة حلب، إذ سيشكّل تحرير المدينة نصراً عسكرياً وسياسياً كبيراً على النظام، يعدّل كفة الهزائم السابقة، ويضع فصائل المعارضة في موقف تفاوضي أفضل مستقبلاً، لكنّ انهيار قوات النظام سريعاً في ريف حلب الغربي، أدى إلى تطوير الهجوم فوراً نحو مدينة حلب.

        على جبهات ريف إدلب الشرقي والجنوبي التي بدأت بعد يوم من انطلاق المعركة، كان انهيار قوات الأسد وانسحابهم بشكل سريع، يغذي الرغبة القديمة لدى قطاع كبير من المقاتلين المنحدرين من مدينة حماة للتقدم نحو المدينة وتحريرها، وهي ضغوط بدأت منذ تحرير مدينة إدلب على يد غرفة «الفتح» عام 2015.

        مصدر مطّلع على الاتصالات التي جرت بين تركيا وغرفة إدارة العمليات، صرّح لنا قبل بدء تقدم القوات إلى حماة، بأنّ تركيا ضغطت من أجل وقف المعارك، لم تكن تريد تطور الأمور إلى درجة تستدعي دخول ميليشيات إيرانية مجدداً إلى سوريا، وهي مخاوف عززها طلب نظام الأسد رسمياً العونَ من العراق، وانتشار شائعات عن تحضير مقاتلين من الميليشيات العراقية للقدوم إلى سوريا والاشتراك إلى جانب قوات نظام الأسد في المعركة.

        مساء الثالث من كانون الأول (ديسمبر)، أرسلتُ رسالة إلى المقاتل الذي عاد إلى المشاركة في عملية ردع العدوان بعد انقطاع لسنوات عن العمل العسكري، رد علي برسالة عبر تطبيق واتساب «على أبواب حماة»، فوجئت بسرعة تطوّر الهجوم، لقد سقطت دفاعات النظام بالفعل في ريف حماة الشمالي، وكان التقدم إليها بعد تحرير كامل محافظة إدلب تطوراً منطقياً للمراقب المهتم بالتفاصيل الميدانية، لكنّ تطوير المعركة ومهاجمة مدينة حماة، كان أشبه بالخيال بالنسبة لي، بعدها سيصبح وسط سوريا مفتوحاً أمام تحرك فصائل المعارضة، وستستطيع توجيه ضربات موجعة لنظام الأسد في مواقع مهمة للغاية، هذا عدا عن وجود طريق يعبر من البادية ويتجاوز حمص يصل بين حماة ودمشق نفسها.

        كانت الميليشيات التابعة لإيران قد تعرّضت على مدى العام الماضي لضربات جويّة واسعة من الطيران الإسرائيلي، وطيران التحالف الدولي في منطقة الجزيرة شرق البلاد، كما تعرض حزب الله لهزيمة كبيرة بعد استهداف معظم قيادات الصف الأول والثاني، وقصف مواقع أسلحته في لبنان. ترك ذلك أثراً كبيراً على قدرة تلك الميليشيات على الحركة وحشد قواتها، وأدى هذا الضغط العسكري إلى انسحابها من مواقع عديدة في سوريا، لم يكن هذا واضحاً للجميع بشكل مسبق، ولكنّ معركة ردع العدوان بدأت وسوريا شبه فارغة من المقاتلين الموالين لإيران.

        صباح الخامس من ديسمبر، تحدّثتُ مع المصدر ذاته، والذي وضّح أنّهم استطاعوا في الليلة الماضية السيطرة على 80 بالمئة من جبل زين العابدين، الذي يتضمن أقوى تحصينات لقوات النظام شمال مدينة حماة، لكنّ القصف المكثف، والذي شاركت فيه كل القوات الروسية الموجودة في سوريا، بما في ذلك القطعات البحرية التي قصفت بالصواريخ مواقع فصائل المعارضة على خطوط الجبهة، أدت إلى تراجعهم من مواقعهم شمال حماة.

        كانت الأخبار في الليلة السابقة، تأتي من اللاذقية وطرطوس عن سماع دوي انفجارات ضخمة، خاف السكّان هناك من أن تكون انفجارات ناجمة عن قصفٍ إسرائيلي، لكنّها كانت في الحقيقة أصوات مدافع البوارج الروسية الراسية قبالة السواحل السورية بالقرب من مدينة طرطوس.

        قبيل اقتراب فصائل ردع العدوان من حدود مدينة حماة، قام بشار الأسد باستدعاء العميد سهيل الحسن ليقود قواته التي عمل معها طويلاً في الفرقة 25 مهام خاصة من جديد، تضم تلك القوات مجموعات نخبة يطلق عليها مجموعات الطراميح، وهي مجموعات ميليشياوية بالأساس ينتمي معظم مقاتليها إلى قرية قمحانة شمال مدينة حماة (معظم سكّانها من المسلمين السنّة)، وكان اسم الفرقة 25 مهام خاصة قد أطلق على مظلة من الميليشيات تابعة بالأصل للمخابرات الجوية، والتي كان الحسن ضابطاً فيها قبل عام 2011، ساهمت الفرقة 25 مهام خاصة في تحقيق انتصارات عسكرية عديدة لصالح نظام الأسد، وجرى دعمها ورعايتها هي وقائدها العميد سهيل الحسن من موسكو بشكل مباشر. لكنّ نظام الأسد الذي لا يمكنه تحمّل سطوع نجم أي ضابط أو شخصية تعمل لديه، أزاح في شهر نيسان (أبريل) 2024 الحسن من منصبه وعيّنه كقائد للقوات الخاصة، وهو نوع من الإبعاد كان النظام يتبعه طوال سنوات وجوده ويسمى «التسريح لفوق»، أي تعيين الضابط أو المسؤول في موقع أعلى نظرياً، لكن دون صلاحيات أو بعيداً عن مواقع علاقاته التي شكّلها خلال تسلمه لمنصبه السابق، ما يُفقده دوره ونفوذه.

        نقلت وسائل الإعلام التابعة لنظام الأسد صور الحسن وهو يقود مجموعات الطراميح، وقد أظهرت تسجيلات مصورة، نشرتها حسابات مرتبطة بتلك الميليشيات، اشتباكات عنيفة بينها وبين فصائل المعارضة السورية، وتركزت العمليات العسكرية ضد قوات الحسن في منطقة جبل زين العابدين الذي يحوي تحصينات عسكرية ضخمة، وحُشِدَت فيه نخبة قوات النظام من أجل إيقاف تقدم قوات ردع العدوان.

        مساء الخامس من ديسمبر، وعلى الرغم من محاولاتهم في استيعاب الهجوم وصدّه، انهارت قوات نظام الأسد واستطاعت فصائل ردع العدوان دخول مدينة حماة والسيطرة عليها، بذلك كُسر أحد الحواجز المهمة أمام تقدم فصائل المعارضة السورية نحو وسط سوريا. اتصلتُ بمصدر مقرب من غرفة إدارة العمليات فقال لي: «بدأنا الطريق نحو دمشق»، علقّتُ بأنّهم لم يسيطروا على حمص بعد، فأخبرني أنّ ما تبقى من قوات قادرة على القتال لدى نظام الأسد قد كُسِرت وهزمت في حماة، وبأنّه لن يستطيع حشد قوات قادرة على صدّ تقدمهم السريع.

        أشارت أنباء في تلك الليلة إلى أنّ الطائرات الروسية قصفت جسر الرستن، لقطع الطريق بين حماة وحمص، لكنّ القصف على ما يبدو لم يدمر الجسر، الذي يوجد أصلاً طُرقاً بديلة عنه.

        وقبل ثلاثة أيام من تلك الليلة، طلبت إيران من روسيا وتركيا حضور اجتماع سريع لثلاثي أستانا، من أجل مناقشة التطورات الميدانية في سوريا، لعلّها تضغط سياسياً على أنقرة بالاشتراك مع موسكو لوقف العمليات العسكرية، وجرى الاتفاق على الاجتماع في قطر يوم السبت 7 كانون الأول (ديسمبر) على هامش منتدى الدوحة، كان انهيار النظام في حماة عاملاً رئيسياً في تخييب أمل حلفاء النظام الرئيسيين (روسيا وإيران)، وتراجعهم عن تقديم الدعم السياسي له في تلك اللحظة.

        وفي الثاني من كانون الأول (ديسمبر)، كان رتلاً تابعاً لميليشيات عراقية موالية لإيران، قد تعرض لقصف من طائرات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، واعتُبر ذلك إغلاقاً للحدود بين سوريا والعراق، وتعبيراً عن موقف أميركي يمنع تدخل ميليشيات الحشد الشعبي لإنقاذ نظام بشار الأسد.

        في اليوم التالي لتحرير مدينة حماة، قال وزير في حكومة الإنقاذ لمراسل صحفي إنّ الخدمات في المدينة ستحتاج لوقت أطول مما تحقق في حلب، لأنّ الخطط المسبقة التي كانت معدة لم تكن تتوقع التقدم أكثر من سراقب، فحتى معرة النعمان لم تكن من ضمن الخطط التي تمّ تحضيرها من الناحية الإدارية والخدمية.

        واضطرت غرفة إدارة العمليات لاستدعاء مهندسيها وجزءاً من كبار الموظفين في مدينة حلب، وهو ما أدى إلى تراجع جودة الخدمات المقدمة في حلب بعد توسع رقعة المدن المحررة، وهو ما وثقتُهُ أيضاً من خلال اتصالات عديدة مع مصادر محلية في مدينة حلب.

        كل الأدلة والتصريحات التي حصلنا عليها، أشارت إلى أنّ الخطط لم تكن تتوقع هذا التطور السريع للمعارك، أو التقدم نحو مدينة حماة ومن ثم حمص ودمشق. في حديثي معه قال أحمد دالاتي إنّ الخطط وُضِعَت من أجل الوصول إلى دمشق، لكن على مراحل.

        لم يحصل المقاتل الذي كنتُ على تواصل معه على النوم بالشكل الكافي، إذ تقدّمت القوات بعد حماة نحو ريف حمص الشمالي على الفور، وكان مقاتلون محليون من بلدات تلبيسة والرستن قد طَردوا مفارز الأمن التابعة للنظام مسبقاً، وأصبحت فصائل ردع العدوان على مشارف مدينة حمص بحلول يوم الجمعة السادس من ديسمبر.

        في اليوم التالي، كانت وجوه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عابسةً، بينما أظهر حقان فيدان وزير الخارجية التركي ارتياحاً واضحاً، عرضت طهران وموسكو تنازلات سياسية مقابل وقف المعارك، لكنّ الموقف الميداني كان قد تجاوز جميع تلك العروض، كانت معلوماتهم الاستخباراتية تقول إنّ وضع النظام أصبح ميؤوساً منه، ومن أجل الحفاظ على ما تبقى لهم من مصالح في البلاد، وافقت إيران وروسيا على اتفاق يتضمن رحيل بشار الأسد من سوريا، وجرى طلب اجتماع موسع لعرض الخطة والتأكد من قبول الدول العربية بها، ضمّ الاجتماع كل من السعودية ومصر وقطر والأردن والعراق، إلى جانب ثلاثي أستانا، لم يحضر لافروف الاجتماع، وحضر بدلاً عنه ألكسندر لافرنتييف، الممثل الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا.

        حصلتُ على هذه المعلومات من مصدرين مطلعين على مجريات المشاورات الدبلوماسية في الدوحة، مساء اليوم الذي سقط فيه نظام الأسد، ونشرها موقع الجمهورية.نت صباح اليوم التالي.

        تضمّن الاتفاق مجموعة من النقاط الرئيسية هي؛ ضمان الانتقال المُنظّم والسلس للسلطة، والحفاظ على المؤسسات الدبلوماسية وأمنها بالإضافة إلى المراقد المُقدَّسة حسب طلب إيران. والحفاظ على مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى منع عمليات الانتقام والاقتتال الأهلي، وتأمين السلاح الكيماوي والأسلحة الاستراتيجية، ومنع التعدي على القواعد العسكرية الروسية، وأخيراً الالتزام بالقرار 2254 في عملية التحول السياسي.

        بعد التواصل مع غرفة إدارة العمليات، وافقت على تلك الشروط مقابل تسليم السلطة بشكل علني من قبل رئيس الوزراء محمد غازي الجلالي، وبأنّ تقوم قيادة الجيش بالاتصال مع ضباطها وإبلاغهم بأنّ النظام قد سقط، وهو ما حدث.

        قالت المصادر من الدوحة إنّ الدول لم تكن تتوقع هذا الانهيار السريع لنظام الأسد. كان هذا النظام على ما يبدو مجرد خيالات لنظام سلطوي حكم سوريا منذ 54 بعد الانقلاب الذي قاده والد بشار، حافظ الأسد، عام 1970، وأطاح فيه برفاقه في الحزب ليتسلّم الحُكم بشكل مباشر.

        في الساعة السادسة وثمانية عشر دقيقة من صباح يوم الأحد الثامن من كانون الأول (ديسمبر)، نقلت وكالة رويترز عن مصادر مطلعة خبر هرب بشار الأسد خارج البلاد، وسقوط النظام السوري، سقط الأبد وبلا عودة.

        أكتب هذه المقالة ولم يمضِ بعد شهرٌ على هذا الحدث الهائل في حياة جميع السوريين، ولم تتكشف بعد جميع تفاصيل تلك اللحظات، لكنّ ما حدث قد حدث فعلاً، علينا تذكير أنفسنا طوال الوقت، لم يكن ذاك حلماً، قد سقط الأبد فعلاً.

موقع الجمهورية،

———————————-

دمشق في قلب التحولات- قراءة في الزيارات الدبلوماسية إلى سورية

25 كانون الأول/ديسمبر ,2024

تشهد دمشق في الأيام الأخيرة حراكًا دبلوماسيًا مكثفًا ومهمًّا، على إثر سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وتحمل تلك الزيارات نوعًا من الاعتراف بالإدارة السياسية الجديدة في دمشق، لكونها ذات أبعاد سياسية واستراتيجية، حيث تسعى تلك الدول من خلال زياراتها لتقييم الوضع الراهن في سورية، والاستماع للإدارة الجديدة حول موقفها من العديد من القضايا المتعلقة بسورية والمنطقة.

نستعرض في هذه الورقة أهمّ تلك الزيارات، ونحلّل أهدافها، ومن ثم نناقش السيناريوهات المستقبلية للعلاقات الخارجية لسورية.

    الزيارات الدولية والإقليمية البارزة:

تعدّدت الزيارات إلى دمشق، ومن أبرزها:

    زيارة المبعوث الأممي غير بيدرسون:

زار المبعوث الأممي غير بيدرسون دمشق، يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وناقش مع الإدارة الجديدة مستقبل العملية السياسية. ويحاول المبعوث الأممي لعب دور أكبر في مستقبل سورية، مع تأكيده دعم جهود بيان العقبة، ويسعى للإشراف على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بعد تعديل نصوصه، أي أن تكون العملية برقابة أممية، مما يعزز دور الأمم المتحدة في رسم مستقبل سورية. ويمكن أن نشير هنا إلى تغيّر جذري قد حصل، وهو زوال النظام كطرف مقابل، وعلى الرغم من ذلك، يمكن الانتفاع بالقرار 2254 كخارطة طريق لانتقال السياسي في سورية، بما يسهل الاعتراف الدولي بالسلطات الجديدة، ورفع العقوبات عن سورية، لكن من دون أن يتحكم المبعوث الأممي في مساره، ولا سيما بعد الفشل السابق بكل المسارات الأممية.

    فرنسا:

زار وفد فرنسي برئاسة المبعوث الفرنسي لسورية جان فرانسوا غيوم دمشق، وأكّد استعداد فرنسا لدعم الشعب السوري. وهدفت الزيارة إلى إقامة اتصالات مع الإدارة الجديدة، وتأكيد الانتقال السياسي، وتم خلالها رفع العلم الفرنسي على مبنى السفارة الفرنسية في دمشق.

    ألمانيا:

زار دبلوماسيون ألمان، في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2024، دمشق، والتقوا القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، وهدفت الزيارة إلى إعادة العلاقات بين البلدين، وتقييم الوضع في سورية وفرص إعادة الإعمار.

    الولايات المتحدة الأميركية:

زار دمشق وفدٌ أميركي، يوم 20 كانون الأول/ ديسمبر 2024، برئاسة مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، وركّزت مباحثات الوفد على مسألة الانتقال الديمقراطي، ومكافحة تنظيم (داعش)، ومصير المواطنين الأميركيين المختطفين في سورية. والتقى الوفد بالمجتمع المدني السوري ونشطاء وأعضاء مجموعات مختلفة، وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن -في حديث إلى موقع بلومبيرغ- إنه يريد أن يوضح لهيئة تحرير الشام وجميع السلطات الناشئة أن الاعتراف والدعم الذي يسعون إليه تقابله توقعات معينة من قبل المجتمع الدولي. كانت هذه الزيارة مهمة، إذ إن العديد من الدول العربية والإقليمية كانت بانتظار موقف أميركي واضح من الإدارة الجديدة كي تتصرف بموجبه، ومن ثم كانت تلك الزيارة بوابة لزيارات متعددة لدمشق.

    تركيا:

زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان العاصمة السورية دمشق، في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2024، والتقى خلالها مسؤولي الإدارة السورية، وهذه أرفع زيارة لمسؤول تركي منذ سقوط نظام الأسد، ويبدو أن هدف الزيارة كان بالأساس إيصال رسالة إلى الخارج بأن تركيا تقف خلف الإدارة السياسية الجديدة، وتم التباحث خلال الزيارة حول أسس التعاون التركي السوري على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها، ولا سيما مسألة التصدي لميليشيات (قسد) في الجزيرة السورية، ومسألة إعادة إعمار سورية، وخارطة الطريق المستقبلية.

 لكن هناك ملفات عديدة ربّما تحدد مسار مستقبل العلاقات بين تركيا والإدارة السياسية في دمشق، ومنها مسألة فصائل “الجيش الوطني” المدعومة من تركيا، وكذلك مؤسسات المعارضة الموجودة في تركيا، وخاصة الحكومة المؤقتة التي ما زالت تمارس أعمالها، على الرغم من الاعتراف التركي بحكومة دمشق، وكانت تركيا قد رفعت رواتب عناصر “الجيش الوطني” وموظفي الحكومة المؤقتة في الأيام الماضية، وربما يقلق هذا الأمر حكومة دمشق الراغبة في حل تلك الفصائل لتكون جميعها ضمن جيش سورية الجديد المزمع إنشاؤه.

    المملكة العربية السعودية:

زار وفد سعودي برئاسة مستشار في الديوان الملكي السعودي دمشق، بتاريخ 22 كانون الأول/ ديسمبر والتقى أحمد الشرع، وبحث سبل تعزيز العلاقات بين الطرفين، وفتح مجالات للتعاون الاقتصادي، وضبط تهريب المخدرات، وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، ومن المتوقع، في حال حصول تفاهم بين الطرفين، أن تتعزز سبل التعاون وتُفتح آفاق جديدة لدعم سعودي كبير لسورية.

    الأردن:

زار وفد أردني برئاسة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وشؤون المغتربين، أيمن الصفدي، دمشق،في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2024، والتقى أحمد الشرع. وكان الأردن من أبرز الدول التي سعت لإعادة تعويم نظام الأسد، وهي جزء من مجموعة التواصل العربية، ونقلت الزيارة رسائل من المجموعة إلى الإدارة السياسية في دمشق، حول تقديم دعم مشروط لها، وبحثت سبل التعاون في المجالات الاقتصادية ودعم استقرار المنطقة. ومن المتوقع أن يزداد التنسيق بين الطرفين، مما يساهم في ضبط الحدود وتقليل تهريب المخدرات والمخاطر الأمنية. مع ذلك، تبقى هناك معضلة رئيسية تتعلق بكيفية التعامل مع فصائل الجنوب المنتشرة في درعا، وعلى رأسها قوات أحمد العودة، ومسألة استجابة الإدارة السياسية في دمشق لمطالب الانتقال السياسي.

    دولة قطر:

زار وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري دمشق، الاثنين 23 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وهي أول زيارة رسمية لمسؤول قطري منذ سنوات. وتمثل هذه الزيارة نقطة تحول في العلاقات بين الطرفين، ولا سيما أن قطر أبدت استعدادها لدعم الشعب السوري، خصوصًا في مشاريع إعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية، مثل مطار دمشق الدولي. وكانت قطر الدولة الوحيدة التي رفضت التطبيع مع نظام الأسد، واستمرت في دعم الشعب السوري حتى آخر لحظة. وأكدت الزيارة حضور قطر كلاعب أساسي في دعم الاستقرار في سورية، حيث من المتوقع أن تلعب دورًا كبيرًا في إعادة إعمار سورية ودعم الإدارة السياسية في دمشق.

تشير مجمل هذه الزيارات، إلى عدة أمور:

    جرى خلال أغلب الزيارات التأكيد على أهمية انتقال سياسي يشمل جميع السوريين، مع تعزيز الدور الأممي لضمان ذلك.

    بدايات اعتراف دولي وإقليمي متزايد بالإدارة السورية الجديدة، مع إيصال رسائل من دول عديدة للقيادة السورية بشأن موقفها من التطورات الإقليمية.

    رغبة الدول في استقصاء الوضع في سورية، والتعرف على رؤية الإدارة الجديدة لمستقبل البلاد، ومن بعض القضايا، وخاصة الانتقال السياسي السلمي، وأوضاع شرق الفرات، وتوحيد الأراضي السورية وقضايا الأقليات.

    بروز آفاق لدور جديد لسورية في المعادلات الإقليمية والدولية، مما يتطلب صياغة رؤية شاملة للتعاون الإقليمي لضمان استقرار المنطقة.

الفرص التي تتيحها هذه الزيارات للسلطة الجديدة في دمشق:

في حال سير الأوضاع الداخلية في سورية سيرًا هادئًا نحو الاستقرار، فستكون هذه الزيارات مؤشرًا على:

    تعزيز الشرعية الدولية والإقليمية للسلطة الجديدة، حيث تعكس الزيارات رفيعة المستوى اعترافًا دوليًا وإقليميًا بقيادة أحمد الشرع، وتعزز موقعه السياسي لإدارة المرحلة الانتقالية.

    إشارات الدعم من دول مثل تركيا، قطر، والسعودية قد تضيف مصداقية للإدارة الجديدة، مما يعكس وجود توجّه إقليمي ودولي لدعم مستقبل سورية.

    تعهدات بتقديم دعم اقتصادي، حيث هناك تعهدات بدعم مشاريع إعادة الإعمار، وتأهيل البنية التحتية، والمساعدة في تحسين الأوضاع المعيشية للسكان، مما يعزز شرعية السلطة الجديدة داخليًا.

    توسيع مجال المناورة السياسية، وتعزيز العلاقات مع جهات دولية وأممية، يتيحان للسلطة الجديدة هامشًا أوسع لإدارة التوازنات بين الأطراف المحلية والدولية.

    تحقيق الأمن والاستقرار، فالتعاون مع دول مثل الأردن والسعودية وتركيا في مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات يُسهم في استعادة السيطرة الأمنية، ويحسّن صورة الحكومة أمام المجتمع الدولي.

في حال تحقيق انتقال سياسي هادئ للسلطة، وتحقيق الاستقرار الداخلي من خلال خلق رضى وقبول واسع للسلطة الجديدة، وتحديدًا عبر توسيع المشاركة في السلطة، وبناء نظام سياسي حديث يستجيب لمتطلبات العصر، فإن هذا سيعزز الدور السوري في المنطقة، ويعيد سورية إلى واجهة المشهد الإقليمي، ويتيح لها لعب دور محوري في المبادرات العربية والدولية.

التحديات:

تقف أمام السلطة الجديدة في سورية مجموعة كبيرة من التحديات الصعبة، في مختلف المجالات، إضافة إلى تحديات إعادة الإعمار المادي والمجتمعي والإداري والقانوني والعسكري والأمني. وفي طليعة هذه التحديات، التحديات السياسية التي يتوقف على شكل معالجتها وطبيعته، شكل حلّ بقية التحديات. وهذه مجموعة من التحديات السياسية:

    تحقيق الاستقرار، من خلال تحقيق قبول شعبي سوري واسع لن يأتي إلا من خلال الانفتاح والمشاركة الواسعة في السلطة.

    تحدي المواقف الدولية والإقليمية، وهي حتى الآن داعمة، لكنها في حال عدم استجابة الإدارة الجديدة لمطالب تلك الدول، في رسم خارطة طريق للانتقال السياسي وعدم احتكار السلطة من طرف بعينه، قد تغيّر موقفها.

    تحدي معالجة موضوع سيطرة قوات (قسد) على شرق الفرات، وهو موضوع تلعب كلّ من تركيا وأميركا دورًا مهمًا فيه، بغية الوصول إلى اتفاق عادل يعيد وحدة الأراضي السورية.

    يشكّل الاعتداء الإسرائيلي على مزيدٍ من الأراضي السورية بعد سقوط الأسد، والاستمرار في قصف مواقع داخل سورية، تحديًا قاسيًا أمام الإدارة الجديدة، التي تقف مشلولة اليد والإرادة أمام هذه الاعتداءات.

    تحدّي التزام النظام السياسي الجديد في سورية بالحريات العامة في التنظيم والتعبير وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية في سورية الجديدة، لكونها قد تؤثر في موقف الدول الغربية من الإدارة الجديدة، في حال عدم الالتزام بها.

    تحدّي معالجة الفصائل العسكرية المختلفة وتحديد مصيرها، لأن شعور بعضها بالتهميش قد يلعب دورًا في تأجيج الوضع الداخلي، مما قد يؤثر في أوضاع سورية الداخلية وعلاقاتها الخارجية.

    تحدي صياغة العلاقة مع كل من إيران وروسيا، فإيران أكّدت من خلال تصريحاتها الرسمية دعمها لسيادة سورية واستقلالها، لكنها لم تنخرط في اتصالات مباشرة مع الإدارة الجديدة، وهي تسعى للحفاظ على مصالحها في سورية، وأبدت روسيا موقفًا حذرًا، داعية إلى انتقال سياسي يشمل جميع الأطراف السورية، وهي تهدف إلى الحفاظ على نفوذها الجيوسياسي في سورية، من خلال دعم الاستقرار دون التخلي عن مكاسبها الاستراتيجية، لكن في حال عدم صياغة تفاهم مع كل من روسيا وإيران، يخشى أن يلعب البلدان دورًا سلبيًا تجاه إعادة الاستقرار الى سورية، وخاصة في حال عدم نجاح السلطة الجديدة في خلق قبول سوري واسع، من خلال المشاركة الواسعة في السلطة، والتمثيل الواسع لمختلف مكونات ومناطق سورية.

    خاتمة:

التحولات الدبلوماسية التي تشهدها دمشق تعكس لحظة فارقة في تاريخ سورية الحديث، إذ إن هذه الزيارات لا تقتصر على كونها مجاملات دبلوماسية، بل تمثل خطوات استراتيجية نحو إعادة تموضع سورية في الخارطة الإقليمية والدولية، ويكشف الزخم الدبلوماسي عن إدراك عالمي لأهمية استقرار سورية كعامل حاسم لاستقرار المنطقة بأكملها.

مع ذلك، فإن هذه اللحظة التاريخية تحمل في طياتها تحديات معقدة بقدر ما تقدّم فرصًا واعدة، وعلى الإدارة السياسية الجديدة في دمشق أن تتحرك بذكاء وحذر، مستفيدة من الدعم الدولي والإقليمي، لتأسيس نموذج سياسي جامع لكل الأطياف السورية، بما يضمن الانتقال الديمقراطي والتنمية المستدامة.

ولا يقتصر النجاح على قبول المجتمع الدولي أو دعم الدول الكبرى، بل يعتمد بالدرجة الأولى على قدرة القيادة الجديدة على بناء عقد اجتماعي جديد يُعيد الثقة بين الحكومة والشعب، ويعزز سيادة القانون، وتتطلب إعادة بناء سورية مقاربة شاملة توازنُ بين التنمية الاقتصادية والمصالحة الوطنية.

في النهاية، يعتمد مستقبل سورية الجديد على قدرة الإدارة السورية الجديدة على تحويل هذا الانفتاح الدبلوماسي إلى شراكات استراتيجية مستدامة، والعمل على تجاوز الحسابات الإقليمية والدولية المعقدة، واستثمار اللحظة الراهنة لبناء دولة قوية تعكس تطلعات شعبها، وتعود لاعبًا محوريًا في استقرار الشرق الأوسط.

مركز حرمون

——————————–

الميثاق الملي، والنزعة العثمانية الجديدة: مزيج الإسلامية والقومية يقود السياسة الإقليمية لتركيا/ بكر صدقي

25-12-2024

        كتبتُ هذه المقالة بعد تحرير حلب، وأثناء تقدُّم فصائل عملية ردع العدوان باتجاه حماة، وتأخّر نشرها لأسباب تحريرية

         *****

        «حين يُذكَر اسم حلب، لن تجدوا أحداً من أبناء الوطن (التركي) لا يرتعش قلبه، لأنَّ حلب تركية ومسلمة حتى نقي عظامها».

        هذا الكلام هو جزءٌ مما قاله دولت بهجلي في خطابه أمام المجموعة البرلمانية لحزبه (الحركة القومية) في الثالث من شهر كانون الأول (ديسمبر) الجاري، أي بعد سيطرة غرفة عمليات ردع العدوان على مدينة حلب السورية. وأضاف بهجلي في السياق ذاته: «نتمنى أن تحصل سوريا على الأمان والاستقرار والسلام في أقرب وقت ممكن، ولكن تَرْك حلب لمصيرها في الخارطة السورية المتشظية لأيدٍ غريبة لن يكون إلا من ثمرات الخيال. وحين تأتي لحظة مماثلة سوف يكرر التاريخ نفسه سطراً سطراً، وصفحة صفحة. سوف ينتهي الفاصل بين الإعلانات وعرض المناظر (في السينما) لتعود الجغرافيا إلى أصلها»!

        بهذا الكلام يضعُ شريك أردوغان في السلطة نوعاً من خريطة طريق، غير معلنة رسمياً، للسياسة التركية في سوريا وإن بدت شديدة الطوباوية للوهلة الأولى. فالمئة عام التي تفصلنا عن نهاية الحرب العالمية الأولى، حين تفككت الإمبراطورية العثمانية، ما هي إلا «فاصل إعلاني» تعود بعده الأمور إلى نصابها.

        طوباوية الزعيم القومي المتشدد في هذا «الحلم» ليست بعيدة عن تصريحات كثيرة سبق للرئيس أردوغان نفسه أن أدلى بها في مناسبات مختلفة، وإن لم يعلنها سياسة رسمية للدولة. قال مثلاً في كلمة له خاطب فيها اجتماع مخاتير القرى وأحياء المدن في العام 2018: «لقد فشلنا في الحفاظ على ‘الميثاق الملي’ الذي أعلناه مع انطلاق حرب التحرير الوطنية. حين يتعلق الأمر بتطورات في سوريا والعراق أُعبّر، من حين إلى آخر، عن أننا مرغمون على التمسُّك مجدداً بميثاقنا الملي. إذا كنا نتعرض لهجمات من داخل حدود تلك البلدان فنحن لا نملك رفاهية السماح لهم بذلك. بل سنقوم بما يلزم بالطريقة المطلوبة. هذا ما نقوم به في إدلب وفي عفرين».

        وفي مقدمة كَتَبها لملف مجلة تركيا الجديدة حول الميثاق الملي، قال أردوغان إن «الحرب العالمية الأولى لم تنته بعد» وإن ثمة «قوس لم يتم إغلاقه بعد» وإن مفتاح ذلك هو الميثاق الملي.

        معروف أن قادة حرب التحرير الوطنية قد رسموا خارطة أسموها «الميثاق الملي»، وأعلنوا أنه لا يجوز التخلي عن الحدود التي رسمها، وهي تشمل الولايات الشمالية الملاصقة لحدود تركيا الحالية لكل من العراق وسوريا.

        بوجود النظام الدولي القائم، ومواثيق الأمم المتحدة وموازين القوى الإقليمية والدولية، لا يمكن لتركيا أن تطالب علناً بتحريك حدودها الجنوبية إلى حدود الميثاق الملي المذكورة. فإذا لم تكن التصريحات المشار إليها لكل من شريكي الحكم، أردوغان وبهجلي، مجرد بلاغة لفظية لا أكثر، فهي تنطوي على أحلام توسُّعية تعيد جزءاً من أمجاد الإمبراطورية العثمانية، قد ترى القيادة التركية في التفكك العملي الذي أصاب كلاً من سوريا والعراق فرصةً للتقدم باتجاه تحقيقها باستخدام القوة. وهذا لا يتطلب شنَّ حروب ضمٍّ ضد بلدين مستقلين، بل التدخل في صراعاتهما الداخلية المحتدمة لتحقيق مكاسب على الأرض، قد يمكن تحويلها إلى مكاسب سياسية عبر صفقات مع الدول الأخرى المتدخلة في تلك الصراعات، ثم محاولة فرضها على النظام الدولي الذي يوشك على التداعي.

        هذا الحلم، الذي يسمى في الأدبيات السياسية بـ«النزعة العثمانية الجديدة»، بات الغذاء الإيديولوجي للتحالف الإسلامي القومي الحاكم في تركيا، بديلاً عن هالة النجاحات الاقتصادية التي توصف عادةً بالمذهلة في العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية، فقد انحسر أثر هذه الهالة بعدما انقلبت المؤشرات الاقتصادية وآثارها الاجتماعية الكبيرة إلى الاتجاه السالب في العقد والنصف التاليين، وتراجعت أحلام الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي التي شكلت رائزاً لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في السنوات الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية، ودفعته إلى افتتاح مسار التفاوض مع حزب العمال الكردستاني والحركة السياسية الكردية، ثم انتكس ذلك المسار خلال فترة قصيرة ليعود التشدد مع كرد البلاد واستئناف الصراع المسلح مع «العمال الكردستاني»، ومع ذراعه السورية «وحدات حماية الشعب» التي تشكلت على هامش الثورة في سوريا.

        بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، في 15 تموز (يوليو) 2016، انتقل حزب الحركة القومية بقيادة بهجلي من صفوف المعارضة إلى التحالف مع الحكم تحالفاً صمد أمام جميع تقلبات المشهد السياسي في تركيا ودول الجوار، وقامت ركيزته الإيديولوجية على التهويل من أخطار تهدد «مصير الوطن» والتبشير بـ«تركيا القوية» بقيادة قوية تمثلت في الرئيس أردوغان، الذي تم تعديل الدستور لكي يحتكر كل السلطة في يده.

        استغلَّ التحالف الحاكم فشل المحاولة الانقلابية لشن حملة أمنية، قضائية وإعلامية، لم تقتصر على المشاركين فيها، ولا حتى على جماعة فتح غولن التي اتهمتها الحكومة بالضلوع فيها، بل على كل البيئات المعارضة السياسية والمدنية والإعلامية، وبخاصة ضد البيئة الكردية السياسية والمدنية، بدعوى «مساندة الإرهاب» أو الترويج له أو «الالتصاق» به.

        يمكن الحديث إذن عن مستويين أو وجهين متكاملين، داخلي وخارجي، لفلسفة الحكم في تركيا التي يقودها ثنائي إسلامي وقومي، مع العلم أن البرنامج القومي بات، مع التراجع المتفاقم لشعبية حزب العدالة والتنمية، هو المهيمن على البرنامج الإسلامي، رغم بقاء الحزب القومي خارج البنية الحكومية واكتفائه بالتمدد في المفاصل الإدارية لمؤسسات الدولة، وحصته الضئيلة في مقاعد البرلمان. ويتحدّث محللون أتراك عن إحلال كوادر وأنصار الحزب القومي محل أنصار جماعة فتح الله غولن في أجهزة وزارة الداخلية والقضاء وغيرها من المؤسسات الإدارية، باعتبارها مكاسب ثابتة غير خاضعة لتقلبات الناخبين في صناديق الاقتراع. ويبدو الرئيس في هذه المعادلة وقد استبدل تحالفه القديم مع جماعة غولن الإسلامية بتحالفه الجديد مع التيار القومي، وذلك لتأمين بقائه في السلطة لأطول فترة ممكنة. مرّت فترات ظهرت فيها بوادر فتور بين الحليفين، لكن التحالف بينهما صمد أمام جميع الاختبارات الانتخابية والتحديات الداخلية والخارجية طوال السنوات الثماني الماضية.

        في الأول من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أثناء افتتاح الدورة التشريعية الجديدة في البرلمان، فجّر بهجلي مفاجأة كبيرة حين توجه، رفقة بعض أركان حزبه، إلى مقاعد حزب المساواة والديمقراطية (الكردي) وصافح نوابه، وقدم تعازيه للرئيس المشترك للحزب تونجر باكرهان بوفاة أمه قبل بضعة أيام. وقد حدث ذلك في اليوم نفسه الذي ألقى فيه أردوغان كلمة أمام نواب حزبه، كرر فيها تحذيره من المخاطر الخارجية التي تهدد تركيا، وأكد على وجوب رص صفوف الشعب في الداخل لمواجهة تلك الأخطار بوحدة وطنية صلبة.

        كانت حركة بهجلي إشارة أولى إلى تفكير جديد في السياسة التركية، تبعتها إشارات إضافية أكثر قوة في الأسابيع التالية. وفي إطار تقليد سياسي راسخ في الحياة السياسية التركية، يخاطب قادة الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان كلٌ منهم نوابه كل أسبوع، يوم الثلاثاء غالباً، يحددون فيها توجهات الحزب ورؤيته إلى تطورات الأسبوع أو بعض توجهاتهم المستقبلية. وهكذا بات الرأي العام في تركيا ينتظر ما سيقوله بهجلي كل يوم ثلاثاء في إطار توجهه الجديد في التعامل مع الحركة السياسية الكردية. ولم يخيّب الزعيم القومي تلك التوقعات، فأصبح يتطرّق إلى الموضوع بإدخال عناصر ومبادرات جديدة كل أسبوع، مع بقاء كلامه غامضاً قابلاً لتفسيرات مختلفة وحتى متعارضة. وانتعش أمل حذر في الرأي العام بخصوص احتمال عملية سياسية جديدة تهدف إلى حل المسألة الكردية، بعد عقد على محاولة أولى فاشلة، وعلى الأقل عادت تلك المسألة المزمنة إلى دائرة النقاش في الرأي العام بعد سنوات من كم الأفواه وسد السبل في وجهها. كانت ذروة تصريحات بهجلي المفاجئة، والصادمة في بيئة التيار القومي بصورة خاصة، في النداء الذي وجهه لأوجلان بأن يأتي إلى البرلمان ويخاطب نواب حزب المساواة والديمقراطية ليطالب حزب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح. ويضيف أن مبادرةً كهذه يمكن أن تفتح له باب «الحق في الأمل»، وهو يعني خروجه من السجن بعدما أمضى فيه 25 عاماً.

        كان الغريب أن أردوغان لم يعلق على هذه المبادرة بصورة مباشرة، لا سلباً ولا إيجاباً، بل يمكن القول إنه أطلق حملة قضائية بدت وكأنها مصممة لنسفها. فقد تم اعتقال رئيس بلدية «أسنيورت» في اسطنبول أحمد أوزر، وهو أكاديمي كردي ينتمي لحزب الشعب الجمهوري المعارض، وعزله عن منصبه وتعيين «وصي» بدلاً منه. ووجّهت لأوزر تهمة العلاقة العضوية في حزب العمال الكردستاني. تلا ذلك عزل ثلاثة رؤساء بلديات من حزب المساواة والديمقراطية في مدن جنوب شرق الأناضول، بينهم السياسي الكردي المخضرم رئيس بلدية ماردين أحمد ترك. هذه الإجراءات أثارت حفيظة بهجلي نفسه، بعدما كان طوال السنوات السابقة يدعو لحظر حزب المساواة والديمقراطية ومنع كوادره من ممارسة السياسة.

        في توقيت متقارب، تبنّى حزب العمال الكردستاني هجوماً انتحارياً استهدف مصنعاً عسكرياً تابعاً لوزارة الدفاع في العاصمة أنقرة، فيما بدا أنه الرد الرسمي لقيادة الحزب في قنديل على مبادرة بهجلي، وعلى مفاوضات سرية قيل إنها جرت منذ شهور بين أجهزة الدولة وعبد الله أوجلان في سجن إيمرالي. أما أوجلان نفسه، فقد سمحت وزارة العدل لابن أخيه المنتمي إلى حزب المساواة والديمقراطية بزيارة عمه، بعد سنوات من الحرمان من أي زيارة، لينقُل عنه تصريحاً مقتضباً قال فيه إنه «إذا تم توفير الشروط المناسبة، فهو يملك القدرة على مطالبة العمال الكردستاني بإلقاء السلاح وجلبه إلى عملية سياسية وحقوقية».

        لم يُثنِ الهجوم الإرهابي المشار إليه في أنقرة دولت بهجلي عن الإصرار على مبادرته، مخاطراً بمصيره السياسي ومصير حزبه داخل التيار القومي المتشدد، فكررها بصيغ مختلفة في الأسابيع التالية.

        بدا أن ما دفع بهجلي لإطلاق تلك المبادرة الجريئة هو هواجس خارجية أساساً قادمة من جهة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، الأمر الذي عبّر عنه أردوغان في تصريحات متتالية بالتزامن مع انهيار حزب الله في لبنان واغتيال أبرز قادته.

        بحصيلة شهرين من التصريحات الإيجابية لبهجلي والإجراءات الحكومية الخاصة بالتضييق على الحركة السياسية الكردية، مترافقاً مع ازدياد وتيرة القصف على مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، يمكن فهم مشروع الثنائي الحاكم على النحو التالي: لا مفاوضات مع حزب العمال الكردستاني أو «قسد» أو حزب المساواة والديمقراطية بشأن حل سياسي للمسألة الكردية، بل زيادة الضغط عليهم عسكرياً وقضائياً، بالتوازي مع التفاوض مع أوجلان ليساهم في إنهاء الوجود المسلح للحزب سواء في قنديل أو في سوريا. المقابل هو وعدٌ بإطلاق سراح أوجلان وفتح الباب أمام مساهمة الكرد في الحياة السياسية في تركيا بلا عقبات وضغوط. الدولة هي التي تضع التفاصيل، وليس عبر التفاوض مع الحركة السياسية الكردية. وكل ذلك ليس في إطار «حل سياسي للمسألة الكردية»، فهذه غير موجودة وفقاً لكل من بهجلي وأردوغان، بل في إطار «إنهاء الإرهاب» و«تمتين الوحدة الوطنية» القائمة على «أخوّة عمرها ألف عام» بين الأتراك والكرد وفقاً لتعبير بهجلي.

        أما الحافز لهذا «المشروع» فهو التطورات المتسارعة على جبهة الحرب الإسرائيلية المزدوجة على غزة وجنوب لبنان كما سبق القول. ذلك أن «الهدف التالي لإسرائيل هو الأناضول!»، كما قال أردوغان. اجتهد محللون في تفسير هذا الكلام على أنه خشية من تحالف إسرائيلي – كردي يهدف إلى قيام كيان كردي في شمال شرق سوريا قد يمتد ليشمل جنوب شرق الأناضول!

        يرى المحلل السياسي إتيين محجوبيان أن الدول الطامحة إلى توسيع نفوذها، تقيّم المخاطر لا من حيث استهداف أمنها القومي وحسب، وإنما من زاوية قطع الطريق أمام طموحاتها التوسعية. ثمة فراغ قوة بدأ يتشكّل في الشرق الأوسط بإضعاف إيران في لبنان وسوريا وغزة، والقوة الإقليمية المرشحة لملء هذا الفراغ، من زاوية نظر الثنائي الحاكم القومي – الإسلامي، هي تركيا. بهذا المعنى يبدو أن الدولة التركية الممثلة في الثنائي المذكور، تسعى من خلال مشروع سلام داخلي مع الكرد ودفع حزب العمال الكردستاني لإلقاء سلاحه، إلى تحويل الخطر إلى فرصة لتوسيع النفوذ.

        هذا التحليل قد يساعدنا على فهم الدور التركي في الهجوم المباغت لهيئة تحرير الشام المدعومة ببعض فصائل «الجيش الوطني» على شرق إدلب وغرب حلب. عليّ أن أقول أولاً أن قرار «الهيئة» هو قرار سوري يتعلق بشروط الصراع السوري قبل كل شيء. ومعروف أن مشروعاً لتحرير حلب من سيطرة النظام قد طُرح قبل أشهر، واستجلب موجة من القصف على إدلب وأريافها من قبل النظام وروسيا منذ شهر أيلول (سبتمبر). لكن تركيا رأت في هذا المشروع فرصةً مؤاتية لتحقيق أجندتها الخاصة وفي مركزها إضعاف قسد وإبعاده عن الحدود التركية إن أمكن، والضغط على نظام دمشق لإرغامه على التجاوب للمبادرات التركية للتطبيع معه. كانت هذه هي الحدود التكتيكية لغض النظر التركي عن حملة أبو محمد الجولاني. وأمام التقدم السريع لقوات «ردع العدوان» زجَّت تركيا بـ«الجيش الوطني» في معركة جانبية استهدفت مناطق سيطرة قسد في غرب نهر الفرات، فيما أدى الانهيار المتسارع لقوات النظام وحلفائه إلى خروج هذه الحملة عن السيطرة التركية، واندفاعها بقوى الدفع الذاتي نحو دمشق بهدف إسقاط النظام.

        النتائج إلى الآن مفيدة جداً للطموحات التركية في توسيع النفوذ على حساب النفوذ الإقليمي المتراجع لإيران. يبقى الجانب السياسي لهذه المكاسب الميدانية، وهو حصول تركيا على موافقة أميركية على تمددها الإقليمي، وهذا رهن بما قد تجري من تغييرات في سياسة واشنطن تجاه الصراع في سوريا بعد تنصيب دونالد ترامب. أما الإدارة القائمة فيمكن القول إن موقفها الآني في سوريا قد تمثّل في تشجيع قسد على السيطرة على القرى السبع شرق نهر الفرات التي كانت تحت سيطرة قوات الأسد والميليشيات التابعة لإيران، ما عنى إغلاق أهم منفذ حدودي لإيران عبر الحدود العراقية – السورية. إضافة إلى كامل مدينة دير الزور ومطارها العسكري التي سلمتها قوات الأسد لقوات قسد بالتراضي. هذا التطور الميداني الموازي لتقدم «ردع العدوان» جنوباً باتجاه دمشق، يمكن اعتباره موازناً أميركياً لاتساع محتمل لرقعة النفوذ التركي.

        لا يمكن التكهُّن منذ الآن بنتائج هذا الصراع المتعدد على الأرض السورية. سقوط الأسد سيخلق ديناميات جديدة خارج كل الحسابات الإقليمية، ولا نعرف إن كان ترامب سيسعى للتوفيق بين سلطات الأمر الواقع الجديدة في دمشق وبين قسد وقطع الطريق أمام أحلام تركيا في استعادة الميثاق الملي عبر بوابة حلب.

        نقطة أخيرة لا بد من إضافتها، وهي أنه لا يمكن فصل الطموحات التركية لتوسيع النفوذ عن الحسابات الشخصية والحزبية لأردوغان، وتتعلق أساساً بالبحث عن وسائل أو مخارج سياسية – تشريعية تتيح لأردوغان الترشُّح لمنصب الرئاسة لفترة إضافية بعد انتهاء ولايته الحالية في 2028. التعارض الظاهر الذي أشرنا إليه بين مبادرة بهجلي تجاه الكرد وأوجلان، والتضييق المتزايد على الحركة السياسية الكردية من خلال انتزاع البلديات من يدها، دفع بهجلي إلى بق البحصة في هذا الموضوع، فقال في إحدى تصريحاته إنه لا مانع لدى حزبه من ترشيح أردوغان للرئاسة لولاية إضافية «فهو الرجل المناسب للمرحلة القادمة» على حد تعبيره، وذلك رداً على تفسيرات شائعة لمبادرته بأنه يريد منها فقط الحصول على موافقة حزب المساواة والديمقراطية على تعديل الدستور في هذا الاتجاه.

موقع الجمهورية

—————————————-

الثقافة السياسية والتوجهات الديمقراطية لدى السوريين: استطلاع ميداني على عيّنة من السوريين/ طلال المصطفى، منير شحود

24 كانون الأول/ديسمبر ,2024

الملخص التنفيذي

يهدف التقرير إلى تحليل مواقف السوريين من الديمقراطية ومؤسساتها وشروط تحققها وأهمّ موضوعاتها الرئيسية، ولمعرفة ذلك لا بدّ من الأخذ في الاعتبار العديد من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية التي أثرت في موقف السوريين من الديمقراطية، أوّلها نظام الحكم البعثي الاستبدادي الشمولي طوال عقود من السنوات، ولا بد من الإشارة إلى سنوات الحرب التي تلت الثورة السورية 2011، التي انطلقت بمطالب الحرية والكرامة والدعوة إلى نظام ديمقراطي، ولكنها لم تؤدّ إلى التحولات الديمقراطية المنشودة، وبدلًا من ذلك شهد المجتمع السوري مزيدًا من الابتعاد عن جوهر مطالب الثورة السورية باتجاهات ضدية، حيث اعتقد البعض منهم أن الديمقراطية تؤدي في بعض الأحيان إلى الفوضى والصراعات الطائفية والسياسية العنفية.

اعتمد التقرير على المنهج الوصفي التحليلي، والاستمارة الإلكترونية كأداة جمع البيانات الرئيسية في هذا التقرير، وقد اعتمد على العيّنة غير الاحتمالية (العشوائية)، التي بلغ حجمها (1176) سوريًا/ة، وحاولنا اختيار عينة التنوع الأقصى من خلال التنويع في خصائصهم التصنيفية (الجنس، العمر، مكان الإقامة الحالي والأصلي، المستوى التعليمي، الأديان والطوائف، الانتماءات السياسية والمدنية)، بأقصى قدر ممكن، وذلك رغبة في الاقتراب من خصائص المجتمع السوري الأصلي.

أظهر أفراد هذه العينة من السوريين، على اختلاف شرائحهم الاجتماعية والسياسية، درجات متفاوتة من تمثل قيم الديمقراطية، وبينما دفعت الثورة في 2011 العديد من السوريين إلى تبني هذه القيم، فإن الحرب التي تلتها وقوى الأمر الواقع في المناطق السورية كافة، والانقسامات الطائفية والسياسية والتدخلات الخارجية، قد عرقلت التوجهات الديمقراطية لدى بعض السوريين، وفي الوقت نفسه، كان للجوء السوري دور في نشر ثقافة الديمقراطية بين السوريين، ولوحظ أن هناك استعدادًا لتقبّل نتائج الانتخابات بدرجات متفاوتة.

وتبيّن أن الثقافة السياسية الديمقراطية بعد 2011 قد شهدت تحوّلات كبيرة، حيث زادت الرغبة في الديمقراطية والمشاركة السياسية، ولكنها تأثّرت بشدة بالصراعات المسلحة والتدخلات الخارجية وتجارب الحوكمة غير الديمقراطية في المناطق الخارجة عن النظام. وكان التوجّه العام، في ما يتعلق بحقوق الأقليات غير العربية، يتجه نحو تفضيل دولة المواطنة، ولو بضمانات دستورية تحول دون تراجع الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات عن هذه الحقوق.

واتضح وجود تباين في مستويات المشاركة السياسية لدى السوريين، وظهر هذا التباين أيضًا في مستويات المشاركة التطوعية، وما زال الحذر حاضرًا عند محاولة التعبير عن الآراء السياسية. ولم ينتم معظم أفراد العينة إلى تيارات سياسية ومنظمات مجتمع مدني حاليًا، ربما بسبب الإحباط السياسي والخوف من التداعيات الأمنية، وعدم الثقة في الأحزاب السياسية الحالية السياسية السورية، مع استثناءات قليلة.

وتبين أن أهم المتطلبات التي يرغب فيها أفراد العينة هي التوجّه نحو تحقيق الأمن والاستقرار، واستعادة السلام، إذ عدّوه الخطوة الأولى نحو تحقيق الديمقراطية. ويأتي تحسين الاقتصاد وضمان الحريات وحقوق الإنسان في المرتبة الثانية. وأظهرت النتائج أن غالبية أفراد العينة لديهم استعداد لتقبّل نتائج الانتخابات، بالرغم من وجود بعض التردد والحذر. ومن حيث طبيعة الحكم الديمقراطي، فإن معظم المستجوبين فضّلوا النظام البرلماني أو النظام الرئاسي مع آليات الرقابة.

يمكنكم قراءة التقرير كاملًا من خلال الضغط على علامة التحميل أدناه:

الثقافة السياسية والتوجهات الديمقراطية لدى السوريين: استطلاع ميداني على عيّنة من السوريين

مركز حرمون

—————————————

تعثر حوار السوريين بين غياب الأرض وغياب الأفق

جلال نوفل

جلال نوفل

نشر في 24 كانون الأول/ديسمبر ,2024

  تحميل الموضوع

مشاركة

مشاركة

تنويه:

كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “تعزيز ثقافة الحوار”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.

رئيس التحرير

كثيراً ما نسمع من بعض النخب السورية عدم التوصل لاتفاقات/ توافقات تنجم عن حوارات النخب السورية (تجمعات أو أفراداً)، ما يشعر البعض بالإحباط أو تعميم مقولة “شعب كلو زعماء- ما حدا بيحطها واطية لحدا – بحياتنا ما منتفق”.

سأحاول التفكير فيما يعيق الفعالية/الجدوى السياسية /أساساً/ من حوارات السياسيين السوريين في سياق سوريا الحالية التي رسم حدودها موظفا الاستعمارين الفرنسي والبريطاني سايكس وبيكو (إذ لم يكن تشكيل وحدود الدولة السورية تلبية لمسارات وسياقات حركات وتعاقدات مجتمعية واجتماعية بل لتجريب جهاز إدارة أنجع للانتداب ومقتضيات “التحديث” الذي ينشده) وباعتبارها كذلك جُعِلت وعاء خارجياً يحتوي النزاعات والمصالح المتضاربة يديرها و/أو يديمها صانعوا هذا الوعاء أو القابعين فيه دون اتفاقهم وتوافقهم ولا تعاقدهم. بالإضافة للتدمير العنيف والعميق الذي يقوم به نظام السفاح بشار الأسد الذي هشم شبكات تواصل السوريين الاجتماعية الواقعية؛ سواء للنازحين ضمن سوريا أو للاجئين في أصقاع الأرض.

السياق السوري قبل ثورة 2011

في سوريا تتركز السلطة بيد قائد /فئة ليس مسؤولاً أمام الشعب دستورياً، يستعين بآليات الدولة الشمولية totalitarian state في تدمير المجتمع المدني أو سحقه. ففي ظل سلطة حزب البعث صارت كل المجالس المحلية والنقابات جزءاً من جهاز الدولة بل إن الكثير من ” النقابات ” أنشئت بقرارات من الحزب أو دولته ” اتحاد الطلبة، اتحاد الشبيبة، الاتحاد النسائي، اتحاد الفلاحين، اتحاد الصحفيين” أو ألحقت بالحزب والدولة بقوانين ومراسيم لاحقاً. كما فكك الحزب والسلطة في 1980 كثيرًا من الجمعيات والنقابات التي كانت مشكلة في سوريا أو ألحقها بأجهزته فقضى على استقلاليتها كجزء من سحقه للمجتمع.

تُذرر تلك السلطة الناسَ وتمنع ترابطهم إلا عبر الحزب ودولته، وتمنع الاجتماع مع الآخرين دون موافقة أجهزة المخابرات بموجب أحكام الطوارئ وترهيب واعتقال وتعذيب كل من يتدخل بأداء القائد أو يهتم بالسياسة/الشأن العام أو ينتقد خارج الخطوط الحمراء، ما حطم استقلالية الفرد وانتمائه الاجتماعي. كما ألغت أصلاً استقلالية الميادين الاجتماعية بين العائلة والدولة، بإيهامها الناس أن الدولة هي العائلة الواسعة يديرها “الأب القائد” الذي يراقبهم عبر أجهزته، كما عبر أصنامه وصوره (حيث يفترض احتواء أي بيت أو ساحة على صنم أو صورة له).

فإن أضيفت ممارسة الطائفية السياسية لسلطة البعث ثم تعمقها في زمن سلطة الأسد يتضح مدى تهشيم الدولة التسلطية للمجال العام* وتواطؤها مع قوى الكراهية وتجارها أو تحريضها عليها عبر أدواتها ووسائلها. ما عزز أشكال كراهية وطائفية من قوى إسلامية متطرفة احتضنتها لاحقاً جماعة الإخوان المسلمين عند قيام الانتفاضة السورية ضد نظام الأسد 1980. فبطشت سلطة الأسد بالسوريين بذريعة القضاء على جماعة الإخوان المسلمين -الذين ساهموا بدورهم بحرف الانتفاضة عن مسارها وتطييف وحرف الصراع من ثورة على سلطة مستبدة طائفية لتحقيق تغيير وطني ديموقراطي إلى تقاتل على سلطة ونقلها من طائفة لطائفة.

رغم هذا السياق المانع للتلاقي والحوار المجتمعي “تلاقت عدد من التنظيمات والعناصر الوطنية والديمقراطية عام 1979 “وأنتج حوارها: وثيقة التجمع الوطني الديمقراطي… تعبيراً عن تحالفها ووحدة إرادتها… في برنامج مستمد من حاجات المرحلة وضروراتها …للإمساك بزمام المبادرة للنضال في سبيل التغيير…”**

وأصدر التجمع وقتها نشرة “الحوار الديمقراطي” لم يصدر منها الكثير بسبب قمع معظم قوى التجمع وملاحقتهم الشرسة خلال ثمانينات القرن العشرين. لكنها أعادت الاعتبار لمقولة الحوار الديمقراطي بين القوى المتحالفة بنشرة مشتركة وعدم الاكتفاء بإعلان التحالف والاتفاق على برنامج كما جرت العادة ويصدر كل طرف نشرته الخاصة.

لم تستطع هذه المحاولات، على أهمية مبادرتها وصدق من قام بها، أن تؤسس لثقافة الحوار لغياب شروط وأخلاق الحوار السياسي/الاجتماعي ومنها:

– التكافؤ في حقوق النقاش بين الفاعلين (بدء موضوع- الدفاع عنه- تحدي التفسيرات الأخرى) بعيداً عن اختلاف مدى القوة والسلطة.

– الاحترام (اشباع حاجة وجودنا وتوازننا للآخر والاهتمام به والعيش معه على مسافة آمنة) فاحترام الآخر يكبح العدوانية والكراهية

 – عدم الهرمية والتراتبية

بعد موت حافظ الأسد، عادت مفردة الحوار ومحاولة ممارسة الحوار (منتديات الحوار الوطني والديمقراطي عام 2000 ومنتديات حوارية أخرى لم تحمل مفردة الحوار بالضرورة) التي لم يستطع نظام الأسد احتمالها أكثر من بضعة شهور؛ ليشن حملة اعتقالات وإغلاقات لهذه النشاطات لتبينه خطرها المستقبلي على نظامه الاستبدادي/ الاستعبادي. ليعود الناس للانكفاء بعيداً عن التحاور في الشأن العام/ السياسة.

ومع خروج قوات الاحتلال السوري من لبنان 2005 تحاور بعض السياسيين والمثقفين وأعلنوا إعلان دمشق ليعيد التأكيد على توسع قاعدة وطيف المتحاورين وتوافقهم على:

إقامة نظام وطني ديمقراطي- بناء دولة حديثة- نبذ الفكر الشمولي- اعتماد الديمقراطية- إطلاق الحريات العامة – ضمان حق العمل السياسي لجميع مكونات الشعب السوري- ضمان حرية الأفراد والجماعات والأقليات القومية- رفض ادعاء أي حزب بدور استثنائي- الإسلام دين الأكثرية مع احترام عقائد الآخرين- الالتزام بسلامة المتحد الوطني السوري الراهن وأمنه ووحدته- إلغاء كل أشكال الاستثناء من الحياة العامة- تعزيز قوة الجيش الوطني والحفاظ على روحه المهنية- الالتزام بجميع المعاهدات والمواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان.

 فقام النظام بقمعهم بشراسة ليؤكد عداءه البنيوي لتلاقي السوريين واجتماعهم وتحاورهم مهما كان عدد وحجم المتحاورين.

وستنتظر سوريا حتى الثورة 2011 لتفرض تلاقي السوريين وتحاورهم وتعاضدهم في ساحات العمل العلني شعباً يطالب بالحرية والكرامة وتغيير نظام الاستبداد/الاستعباد وفرض مجال عام في ميادين الساحات

مع انطلاق الثورة السورية 2011 انفتح أفق لتغيير النظام السوري وربما لتغيير السياق الاجتماعي العام؛ ما يسمح بتحقيق دولة مدنية ديمقراطية تصون الحريات العامة للمواطنين ويتطور فيها مجال عام ومجتمع مدني ينقل البلد لآليات تعاقد وحكم حديثة تكون حصيلة تفاعل وحوار عام للنخب الفكرية والسياسية لتحديد شكل سوريا الدولة/ الجمهورية الجديدة.

في سياق الثورة تشكلت تجمعات وحركات يجمعها إما ميدان العمل في شكل تنسيقيات متعددة التوجهات الفكرية أو السياسية، أو تحالفات سياسية قدمت برامج للتغيير السياسي/الاجتماعي في سوريا (انشغلت أحياناً بمحاربة بعضها وادعاء تمثيلها للثوار والثورة دون أي آليات تمثيل معروفة). وتموج مسار الثورة ومسارات حوارات ونزاعات السوريين داخل وخارج البلد، وصولاً إلى انحدار مسار الثورة ثم هزيمتها كثورة حرية وكرامة وعدالة. وقد تعاضدت على هزيمة الثورة وتمزيق نسيج المجتمع السوري عدة عوامل، ربما أهمها:

 -همجية النظام وقواه الطائفية في مواجهة الثورة مستعيناً بعصابات متطرفة إسلامية شيعية (أبرزها حزب الله وفصائل شيعية عراقية) يديرها احتلال إيراني، مع احتلال روسي يحمي النظام عسكرياً وسياسياً، وتوظيف التحشيد الطائفي العلوي.

– همجية عصابات وقوى مسلحة طائفية متطرفة إسلامية سنية (أبرزها داعش والنصرة) يديرها مال وأجهزة المخابرات الأجنبية والأجندات الخليجية.

– بالإضافة لمسلحيPKK الانفصالي بدعم قوى الاحتلال الأمريكي (باسم مواجهة داعش)

– كما عزز التهجير القسري للسوريين تشتيت السوريين في العالم وفي سوريا؛ وتدمير مخزونٍ بشريٍ هو لحم ودم الثورة الواقعية.

سياق الأزمة السورية المستمر في سورية:

مع هزيمة الثورة السورية وتشقق النسيج المجتمعي وتصدع رأس المال الاجتماعي السوري واقتلاع السوريين من أرضهم وتشتتهم وزعزعة شبكات دعمهم النفسي/الاجتماعي صار السوريون في سياق/ سياقات/ يسودها التعصب والتطرف في التعامل والتواصل، ويبدو فيها أي حوارٍ منذرٍ بإعادة مراجعة وجهة النظر الفكرية/السياسية اًمراً مهدداً للهوية؛ فتنمو ذهنية مانعة لحوارٍ ونقاشٍ مجدٍ؛ فيغيب النقاش العام والتسامح وتقبل الآخر وتغيب الثقة بين الناس وتتعطل أو تتفاقم صعوبة التوافقات على رؤى مشتركة فتغيب رؤية النسيج المجتمعي المشترك ليحل محلها ذهنية التصدع والانتقام/الانتصار.

بما أن الأزمات والاضطرابات الكبرى تضعف قوة المجال العام وتغيبه أو تلغيه، فلن نستغرب تحكم قوى أمر واقع /أمراء حرب -تقوم على “ذهنية التغلب” ضيقة الأفق- بمصائر سوريا والسوريين؛ ليصير ما يفترض أن يكون نقاشاً في الشأن العام تنازعاً وخطاباً تعبوياً للإخضاع في سياق حرب عامة وتنافساً في التقرب من قوى الأمر الواقع وأجندتها لنيل حصة إضافية من هباتها وخلق أو تعزيز هويات عصبوية دون أو فوق وطنية على حساب التعاقد الاجتماعي. وكلما طالت فترة العنف وتدهورت مؤسسات المجتمع ونظم الرعاية والمؤسسات العامة تزداد فرص تآكل الانسجام الاجتماعي/التصدع الاجتماعي فيغيب الشعور بالأمان وتغيب الحريات العامة والتعبير الحروبالتالي حوار الناس.

ومع طول افتقاد الأمان الاجتماعي والشخصي طوال العقد الماضي من عمر السوريين، متراكباً على سحق الاستبداد لتوازن الناس وروابطها وبالتالي لثقتها بنفسها ومحيطها عبر النظام الأمني/الاستعبادي؛ عاش معظم السوريين شعور الانسان المهدور الذي يعاني من انعدام أمان داخلي، فطور آليات دفاع نفسية تشعره بتوازن نفسي في ظل هذا القلق الوجودي، تبدت بعض مظاهره بآليات دفاع كالتمركز حول الرأي/الاقتناع واعتبار من يخالفه الرأي مهدداً فينبذه، متجنباً له أو متهجما عليه؛ وكأن إبعاد أو هزيمة رأي المختلف إثباتاً لذاته المهدورة.

اما في مخيمات النزوح داخل سوريا ومخيمات اللجوء في لبنان والأردن وتركيا فقد عاش السوريون في ظل ظروف اقتصادية وسياسية قاسية تدهورت فيها الحدود الدنيا للشروط الإنسانية مع غياب لليقين والأمل بالمستقبل وحرمان شبه مطلق من الفعالية الاجتماعية والسياسية وبالتالي للحوار والنقاش في الشأن العام 

كل ذلك شكل ويشكل عوائق حوار بين سوريين يعيشون ظروفاً قاسية ومهينة لكنهم يكرهون ويعادون من يخضعون لأمراء حرب آخرين ويتجنبون أو يُمنعون من التواصل معهم بينما يسعى أمراء الحرب لتوسيع حصة زبائنهم ومجالات قوتهم ومنع تشكل المواطن والمجال العام بتغليب ذهنية الزبون/المكافأة عبر تقريبه من السلطة. ويؤسسون لمحاصصة مع القوى الغاشمة الأخرى وكلاء قوى أجنبية قادرة.

 رغم ما توضح لكل عين ترى في العراق أن المحاصصة مانعة للديمقراطية كما الطائفية السياسية مفتتة للكل الوطني ومعيقة لتشكيل دولة المواطنين المدنية الحديثة، يصطف أبواق سلطات الأمر الواقع/ قوى التفتيت في خنادق المحاصصة مدعين أنهم يمثلون ثورة أو قومية أو دين أو طائفة؛ لتشكل ادعاءات التمثيل/الأبواق تلك عائقاً إضافياً لحوار منتج ومجدٍ، يفضي لحلول لسوريا التي قامت الثورة لاستعادتها من بيت الأسد وقلاعه الأمنية لصالح شعب سوري واحد.

سياقات عيش اللجوء الهجرة في العالم

لم يعد للسوريين/ات المتذررين/ات في أرجاء العالم سيطرة على حياتهم/ن السياسية وهذا يمنع أن تتحقق غاية نشاطات السياسة أو الفكر (على كثرتها ومنها الحوارات الفكرية والسياسية)؛ لغياب شرط الفاعلية الأساسي: علاقة فعلية وتشاركية مع مجموعات ذات شبكة روابط اجتماعية ونفسية واقعية. (يبدو أن غيابها الواقعي فعّل وكاثر شبكات العالم الافتراضي التي يتصور بعض ناشطيها أن كثرة الشبكات الافتراضية يعوض غياب الروابط الواقعية، فيستغربون عدم تحقق نتيجة واقعية لنشاطاتهم وتفرق من كان يفترض أنهم متشابهون).

لا أنتقص من قيمة بعض محاولات ناجحة لحوار وتعاون مجدٍ كما في حالة الجالية السورية في الولايات المتحدة الأمريكية ولا من أهميتها في فضح نظام الأسد؛ لكن الصورة العامة هي حوارات قليلة الفعالية أو الجدوى إلا عندما تستدعيها القوى الإقليمية والدولية للترويج أو لتنفيذ أجنداتها.

ختامًا

إن استعداد النخب للتعاون والحوار فحسب لا يحقق التغيير الديمقراطي فهذا يتطلب أيضًا القدرة على حل المشكلات السياسية في بلدانهم.

إن افتقادنا لقوى التغيير الديمقراطي الواقعية وحواملها الاجتماعية على الأرض السورية هو عائق أساسي لفعالية النشاط الفكري/السياسي ولجدوى الحوار بين النخب السورية المشتتة؛ فعمليات التغيير ونواميسها لا يغيرها نشوء وتطور العالم الافتراضي

إن نجاح المتحاورين في العالم الافتراضي يحسن أخلاق وضوابط حوار بعض النخب السورية أو يعزز انفصالهم عن الواقع، وربما يجعل مشاركات بعضهم الافتراضية مكثفةً تعويضاً عن غيابهم عن ساحة الفعل الواقعي.

الآن، وبعد سقوط الطاغية، وانفتاح الباب على مصراعيه أمام عودة السوريين إلى ديارهم، وأمام عودة الحياة السياسية وحرية الرأي والتعبير والنقاش إلى المجال العام، والتي نأمل أن تكون دائمة.. أصبح من الممكن والضروري الانخراط في حوار فعال وبنّاء مع حراك على مستوى سورية نوظف فيه أفضل ما تراكم من حواراتنا لننخرط في الحراك باتجاه حل للمشكلات السورية، ويمهد لتعاقد اجتماعي يؤسس جمهورية سورية مدنية ديمقراطية

*المجال العام يتأسس على فكرة وجود مصالح متعارضة وطرق متعددة للتعبير عن المصالح والآراء والتبادل السلمي لها- مع استعداد كل فرد للتعلم من نقاش الآخر ورغبة في فهم الآخر ما يساهم في الوصول لرأي عام وتوازن مصالح، في هذا المجال تتشكل المواطنة بما هي مشاركة بالحياة العامة تُمارس فيها العضوية السياسية.

**مقتطف من “وثيقة التجمع الوطني الديمقراطي”

***مقتطف من العدد صفر من “حوارات”

تحميل الموضوع

تعثر حوار السوريين بين غياب الأرض وغياب الأفق

مركز حرمون

———————————————-

كسوريين يجب أن نتصارح ونصارح العلويين أولاً/ غسان المفلح

في كل مدينة وقرية في سورية. أفرع أمن ضباطها من الطائفة العلوية، ويتعاملون مع تلك المناطق بوصفهم مندوبين ساميين لسلطة احتلال

العربي القديم

23 ديسمبر، 2024

نظام العصابة الأسدية على مدار خمسة عقود ونصف استباح سورية بطريقة لم تعرفها الدول المعاصرة. مزق نسيجها الاجتماعي شر تمزيق. لم يكن هذا النسيج قبل الأسدية وقبل حزب بعثها على ما يرام، لكنه كان يتطور ويسير نحو مزيدا من التماسك. حاله كحال أي مجتمع ضمته دولة حديثة العهد. لكنه حفر فيه عميقا من تطييف وتمييز على كافة المستويات. استطاع أن يحول طائفة كاملة الى عسكر يخصّونه وحده، ولا يخصون دولة أو وطنا أو مجتمعاً سورياً.

الديكتاتور يهرب.. الجيش يهرب معه لماذا؟

 الجيش الذي يبلغ تعداد محترفيه أكثر من 250 ألف متطوع أغلبهم إن لم نقل 80% منهم من الطائفة العلوية. هل هذا الجيش هرب لأنه خائف من الجولاني كما يشاع؟ ام لأنه خائف من انتقام الشعب السوري؟ أم لأنه بالمحصلة الجمعية يعرف ماذا ارتكب بحق الشعب السوري من جرائم؟

 هذه أسئلة تحتاج لأجوبة. سنسأل كثيرا إنها ستة عقود من حكم البعث والأسد، لا تزال ملفا سريا في الواقع. ملف أسود يحتاج لتبييض بأن يتم الكشف عن كل تفاصيله للشعب السوري، كي ندخل صفحة جديدة على بياض كما يقال. من المهم أن نعرف كي لا تتكرر الكارثة، كي لا يتكرر هذا الهولوكوست الأسدي.

-عشرات المقابر الجماعية ومئات الاف الجثث، سجون لا تعد ولا تحصى. قتل بجيشه شباب سورية بطريقة انتقامية تعبر عن حقد شخصي وطائفي إجرامي. كانت سورية تحت الأرض جثثا ومقابر وفوق الأرض سجونا منتشرة في كل بقاعها. كان لديه أفرع مخابرات ومفارز في كل مدينة وقرية في سورية. أفرع ضباطها من الطائفة العلوية، ويتعاملون مع تلك المناطق بوصفهم مندوبين ساميين لسلطة احتلال. يحكمون السوريين بالحديد والنار وينهبونهم بشكل واضح وفاضح. البحث بثروة كل ضابط أمن في تاريخ الأسدية، نستطيع أن نعرف حجم هذه السرقة الكبرى لهذا البلد.

كتلة صلدة طائفية

كل هذا لا ينفي أن هنالك من شاركهم من المكونات الأخرى. لكننا نتحدث عن كتلة صلدة طائفية على كل الصعد. يتفننون في قتل السوري، يقتلونه ليس بدم بارد فقط، بل أيضا وهم يطلقون النكات. هذا ملف اسود يحتاج لفتحه من اجل عدالة انتقالية، كي تعبر سورية هذا النفق.

– الفساد الذي بدأ برأس الاسدية حافظ الأسد، عندما استولى على ميزانية النفط بشكل كامل يتصرف بها كما يشاء دون ان تدخل في ميزانية الدولة. منذ عام 1970 وحتى عام 1998. من يشاهد فيديو منزل ماهر الأسد شقيق بشار وكم صرف فيه، يعرف حجم الأموال التي نهبتها هذه العائلة وضباطها وبعض عسكرها من هذا البلد. هنا لابد من التنويه إلى أصوات الناشطين المنحدرين من أصول علوية في العمل من اجل السلم الاهلي المستدام، وهم كثر وبدأوا فعلا، مهمتهم العسيرة.

هذه المسائل وغيرها يمكن الآن اعتبارها تركة سوداء وسيتحملها الشعب السوري برمته. كيف الخروج منها وتنظيف نتائجها؟

معضلة قسد والعمال الكردستاني

 الفصائل التي وجدت نفسها تحت الوصاية التركية وبات جل همها محاربة قسد. بناء على أهداف تركية. هذه يجب أن تسلم أسلحتها لسلطة مركزية. لم يعد لسلاحها ضرورة وعناصرها يمكن لهم الالتحاق بوزارة الدفاع أو الداخلية كشرطة. الخوف هنا هو خلاف مع السلطة الجديدة، يمكن أن يثير إشكالات. تماما كفصيل أحمد العودة في حوران وبعض فصائل تركيا. فصيل احمد العودة يتلقى الدعم والغطاء من قبل روسيا والإمارات حتى اللحظة.

– قسد لم تستطع مأسسة وجودها في شرق الجزيرة، ولا حتى في المناطق الكردية. بل بقيت جهاز عسكري يفرض سلطته بقوة السلاح. الآن قسد محكومة بالموقف الأمريكي. من الواضح ان الامريكان يريدون حلا وتسوية بين قسد والسلطة الجديدة. لسحب البساط من تحت الطرف التركي. ثمة مطلوب من قسد قطع علاقتها بحزب العمال الكردستاني في تركيا. لتصير فقط وفقط جزء من اللوحة السورية. هل تمتلك قسد هذه القدرة؟ اعتقد بمساعدة أمريكية وتنسيق مع السلطة الجديدة يمكنها ذلك. هذا من شأنه أيضا سحب ذريعة تركية أخرى.

خطأ فادح يرتكبه الصوت الديمقراطي

 الصوت الديمقراطي صوت مشتت وغائب، وحتى اللحظة غير مصدق أن أمريكا نفسها تقود المرحلة في سورية. أمريكا تقود هذا التحولات من الخلف سواء على المستوى الداخلي او الخارجي. الصوت الديمقراطي الآن يريد تدخلا دوليا وأمريكيا لفرضه كقوة على الساحة. هذا خطأ فادح يرتكبه هذا الصوت. غير مصدق أن أمريكا تميل بشكل شبه مؤكد إلى تمثيل الأقليات تمثيلا أقرب لما حدث في العراق أو في لبنان. إسرائيل ليست بعيدة عن هذا الخيار مطلقا. إسرائيل غيرت موقفها جذريا من نظام الأسد وهذا أحد أسباب سقوطه، شعرت أنه لم يعد مهما لها، وتغييره أفضل لها. لأنه بات جثة هامدة لا تملك قرار سورية أمام إيران وروسيا. كذلك الحال بالنسبة للروس، لكن حتى اللحظة لا نعرف تفاصيل الصفقة ولماذا الروس رفضوا مساعدة النظام عسكريا. الملف السوري الآن كما ازعم هو ملفا أمريكيا بشكل شبه كامل. وأي تغير نوعي يمكن أن يؤدي إلى فوضى في سورية ستكون مسؤولة عنه أمريكا. بالطبع لا أرجح ذلك. أمريكا تريد اغلاق هذا الملف أمريكيا. وليست كثيرة معنية بالصوت الديمقراطي! معنية بحماية الأقليات وتمثيلها بطريقة طائفية كما فعلت في العراق. بالطبع ليتني أكون مخطئا في هذه القراءة. لهذا الصوت الديمقراطي مطلوب منه النضال سياسيا ضد ما يمنع صوته دستوريا وحقوقيا وسياسيا فقط. ويبدأ ببناء نفسه، وأنا اراهن على الشباب.

الإسلاموفوبيا الديمقراطية

– لايزال أكثرية هذا الصوت الديمقراطي يتعامل مع السلطة الجديدة وفقا لنموذج الاسلاموفوبيا. لم يعي بعد أن ما حدث في سورية خلال الأسابيع الثلاثة يشكل نقلة نوعية أمريكية وغربية في التعامل مع هذا الملف. لايزال يعتمد مقولات تجذر عدائه أكثر فأكثر للإسلام، وليس للإسلام السياسي كخصم سياسي. سمعت من أحد الأصوات الديمقراطية المهمة يقول” أن السنة في سورية احتمال كبير أن ينقسموا بين داعش والنصرة” وأن من مصلحة هذا التيار” الديمقراطي ذلك لكي يضعف الطرفين! هذا صوت لا يمكن أن يجد نفسه إلا في ضعف مستمر.

– ما اريد قوله أيضا أن عشرات الاف المقاتلين في الهيئة الذين حرروا سورية، مشغول عليهم أمريكيا بشكل ممتاز على كافة الصعد. وشكرا أمريكا بالطبع. هذا ما اعتقده حتى اللحظة، وما أراه أقرب للحقيقة.

– على الصوت الديمقراطي أن يرمي كل نماذجه النظرية في سلة المهملات، ويتعامل بشكل جديد كليا مع هذا التحول الكبير سوريا وإقليميا ودوليا. على فرض أن السلطة الجديدة لن تتخلص من عقيدتها الإسلامية، فهل تستطيع سياسيا تطبيق ذلك حرفيا كما يشيع بعض أصوات الديمقراطيين؟ بالنسبة لي لا أظن ذلك. لأن للفعاليات الدينية والتجارية داخل الطوائف والأديان أكثر حضورا من الصوت الديمقراطي، وامريكا تتعامل مع قوى على الأرض ولا تتعامل مع حفنة من المنظرين.

– الخوف على سورية لا يزال موجودا وسيبقى حتى نرى دستورا جديدا وانتخابات دستورية ترسم نتائجها مستقبل سورية. الخوف الرئيسي بالنسبة لي يكمن بشكل رئيسي من تغير في الموقف الأمريكي كما قلت. الخوف أيضا من بقايا النظام البائد على افتعال حمام دم.

– الخوف الآخر هو من الإسلام السياسي الريفي الذي تشبع خلال السنوات الماضية بإسلام متشدد. يجب على السلطة الجديدة ان تبدأ ببرنامج فعلي من أجل انهاء هذا الفصام بيت المستوى السياسي وبين هذا التشدد وتحديد موقف واضح.

– الخوف الأخير حتى لو اقر دستور ديمقراطي وتبني لشرعة حقوق الانسان يبقى الخوف من ديكتاتورية فردية في المستقبل القادم من قبل السيد احمد الشرع.

مسائل للحوار والنقاش..

العربي القديم23

————————

سوريّا المسالمة ولبنان المحارب!/ حازم صاغية

تحديث 25 كانون الأول 2024

بغضّ النظر عن الموقف من أحمد الشرع، قائد هيئة «تحرير الشام»، يصعب عدم التوقّف عند ما قاله عن الحرب والسلام. فهو أعلن بصراحة أنّه لا يريد لسوريّا قتال إسرائيل، والتورّط في نزاعات، لأنّ مهمّة بنائها، هي المدمَّرة والمستنزَفة والمفلسة، تعلو كلّ مهمّة. وهو أرفق هذا الموقف بآخر مفاده أنّ التجنيد الإلزاميّ في سوريّا الجديدة لن يكون بعد اليوم إلزاميّاً. وضدّاً على ترّهات أشاعتها حركات «التحرّر الوطنيّ» عن «الثورة» و»المقاومة» كطريقة حياة ومادّة تقديس، رأيناه يعلن أنّ الثورة انتهت بمجرّد إسقاط الطاغية، وأنّها لن تكون مرجعاً يُحتكم إليه في إدارة البلد. فالثورة مجرّد حدث تُضطرّ إليه المجتمعات اضطراراً لتصويب واقع جائر، ثمّ تعود الحياة بعد ذاك إلى مجاريها.

وكلام كهذا كان ليكون عاديّاً لو قيل عن بلد آخر. أمّا في سوريّا، ذات المجتمع المُعسكَر حتّى الأسنان، فيُحتمل أن يكون الكلام إيذاناً بتحوّل ضخم. فحكّام سوريّا، منذ 1949، عسكريّون، وباستثناء سنوات قليلة كان الحكم فيها لسياسيّين كشكري القوتلي وناظم القدسي، ظلّ العسكريّون لهم بالمرصاد، يبقى الجيش صانع سوريّا الحديثة، ومُدمّرها أيضاً. وقد اقتصر آباء البلد المؤسّسون، وفق الرواية الرسميّة التي صارت شعبيّة، على قادة مقاتلين كيوسف العظمة وابراهيم هنانو وسلطان الأطرش وصالح العلي ممّن قاوموا الانتداب الفرنسيّ. لكنّ المجتمع السوريّ لا يُختصر بهم، كما أنّ تاريخه لا يُختصر بالمقاومة. وهذا فضلاً عن أنّ تنوّعهم الطائفيّ والإثنيّ بات يُستخدم شهادة لصالح المعركة «القوميّة» الجامعة التي يُقاس عليها التعدّد بدل أن تُقاس هي عليه. وإنّما بسبب تشبّع بالعسكر والنزعة العسكريّة كهذا، لُفّ «الدكتور» بشّار الأسد، حين قُرّر توريثه، ببزّة عسكريّة لا يجوز لحاكم سوريّا أن لا يلبسها.

وبالطبع كانت فلسطين أكبر الذرائع المستخدمة في تفسير هذه الحاجة إلى حاكم عسكريّ يتربّع فوق مجتمع ودولة عسكريّين. ونعلم أنّ الانقلاب الأوّل في تاريخ سوريّا الحديثة، أي انقلاب حسني الزعيم، تأخّر عاماً واحداً فقط عن نكبة فلسطين في 1948. ومذّاك، وخصوصاً منذ انقلاب البعث في 1963، صار البلد وظيفة قتاليّة، إذ «يصمد» و»يتصدّى» و»يُحبط مؤامرات» و»تتكسّر على صخرته الخيانات»، أكثر كثيراً منه مسرحاً لسعي البشر وإنتاجهم وتبادلهم وتعليمهم وصحّتهم… هكذا جاز القول إنّ تاريخ سوريّا العسكريّ ابتلع تاريخها المدنيّ ابتلاع وظيفتها الحربيّة باقي معانيها وأبعادها.

إلاّ أنّ ما كان أشدّ إدهاشاً ممّا أعلنه الشرع انعدام الاعتراض عليه. ذاك أنّ السوريّين لم يعد يُغريهم أن يكونوا «قلب العروبة النابض» الذي يهدّد بتحرير فلسطين وتوحيد العرب. وأشدّ من ذلك إثارة للدهشة أنّ تلك الأقوال قيلت فيما إسرائيل تواصل احتلال أراض سوريّة وارتكاب أعمال عدوانيّة، فكأنّما الشرع يُحيل إلى السياسة والعلاقات الديبلوماسيّة حلّ مشكلة ثبت للمرّة المليون أنّها لا تُحلّ بالقوّة.

ولربّما جاز التكهّن، كواحد من الاحتمالات، بنهاية تلك السوريّا العسكريّة التي، باسم فلسطين والعروبة، قتلت فلسطينيّين ولبنانيّين وأردنيّين وعراقيّين، فضلاً عن السوريّين، وملأت المنطقة سلاحاً وميليشيات، كما اغتالت وهدّدت بالاغتيال وبالسيّارات المفخّخة في شوارع مدن عدّة. ولربّما بِتنا، وأيضاً كواحد من الاحتمالات، عشيّة ولادة سوريّا جديدة، مسالمة ومُنكبّة على بناء داخلها الوطنيّ وترميم التصدّعات العميقة التي أحدثها العهد الآفل.

فإذا صحّ هذا الافتراض، وهي «إذا» كبرى، كنّا أمام تبنٍّ سوريّ للطريقة اللبنانيّة التقليديّة، حيث السلطة العسكريّة تخضع للسلطة المدنيّة، والجيش مؤسّسةٌ يغلب الرمزيّ فيها على الفعليّ، فيما القوّة تُجتَنَب ولا تُعبَد، أمّا النزاعات الخارجيّة فتُحَلّ بالسياسة والديبلوماسيّة. وهو نهج تولّى النظام السوريّ البائد والميليشيات المسلّحة، مرّةً بعد مرّة، منع لبنان من اتّباعه.

والمُفارق اليوم، ومع إصرار تمسّك البعض بعدم نزع سلاح «حزب الله»، أنّنا نستورد النظريّة السوريّة فيما تستورد سوريّا النظريّة اللبنانيّة. وكان الاستيراد الأوّل قد نما بمحاذاة نشأة الحزب المذكور وتعاظم قوّته على حساب قوّة الدولة والمجتمع اللبنانيّين. وفي المسار الكارثيّ هذا كان العام 2013 منعطفاً بالغ الأهميّة، إذ عامذاك بدأ تدخّل الحزب العسكريّ في سوريّا والذي ما لبث أن صار فعلاً احتلاليّاً وإحلاليّاً. ومع التدخّل طرأ تبادل في الأدوار فانتقلت إلى لبنانيّي «حزب الله» مهمّة التعذيب العسكريّ للمجتمع السوريّ، بعدما كانت الدولة العسكريّة السوريّة تتولّى مهمّة تعذيب المجتمع اللبنانيّ.

لكنْ يُرجّح، إذا نجحت التجربة السوريّة الجديدة، أن يتوقّف هذا الاستيراد لأنّ مصدر التصدير الأصليّ يكون قد كفّ عن الاشتغال. فكيف وأنّ المنطقة كلّها أبدت وتبدي عزوفاً عن حرب لم يعد المقتنعون بها كثيرين، وإلاّ لكان في وسع حدث كـ»طوفان الأقصى» أن يمهّد لطوفانات عنف في العالم العربيّ يعجز أيّ نظام «عميل» عن التصدّي لها.

إنّ ما يراد للبنان اليوم هو أن يبقى «غابة بنادق» فيما تعلن سوريّا إتلاف غابات بنادقها المؤسِّسة، وهذا في أغلب الظنّ صعب إن لم يكن مستحيلاً.

الشرق الأوسط

——————————-

ليسوا من الهيئة”… من يخوّف العلويين في اللاذقية؟/ نوار جبور

24.12.2024

يواجه العلويون تبريرات متكررة من الهيئة، بأن الانتهاكات التي يتعرضون لها هي “حالات فردية وعناصر منفلتة”، لكن هذه التبريرات تبقى غير فعالة لحل مشلكة المخاوف، وقد تعيد إلى الأذهان ممارسات النظام السابقة، التي كرست ثقافة الخوف والنهب والكراهية عبر الحواجز الأمنية، ومن السيارات المسلحة التي تُقل عناصر مجهولة الانتماء.

عشرة أيام مرت وأكثر على هروب الأسد، وسرعان ما ظهرت مشكلات عميقة طالت المكون العلوي في سوريا، حيث تصاعدت حدة التوترات مع انتشار فيديوات تحولت إلى “ترند”، تُظهر إهانات علنية للعلويين، تتراوح بين الشتائم والتعنيف الرمزي وبين استهداف مناطقهم، ما أدى إلى صدمة في الأوساط السورية، خاصة عبر “السوشل ميديا”.

وبرغم البيانات الصادرة عن القيادة العسكرية الحاكمة، التي تُشدد على البُعد الوطني ومحاربة الطائفية، وبرغم الوعود باتخاذ إجراءات عسكرية صارمة ضد أي أزمة طائفية، لكن التوترات استمرت في التصاعد.

ويواجه العلويون تبريرات متكررة من الهيئة، بأن الانتهاكات التي يتعرضون لها هي “حالات فردية وعناصر منفلتة”،  لكن هذه التبريرات تبقى غير فعالة لحل مشلكة المخاوف، وقد تعيد إلى الأذهان ممارسات النظام السابقة، التي كرست ثقافة الخوف والنهب والكراهية عبر الحواجز الأمنية، ومن السيارات المسلحة التي تُقل عناصر مجهولة الانتماء.

يُلاحظ اليوم، أنه يُعاد إنتاج هذا النموذج، ضد العلويين بشكل خاص، لكن عبر الإهانة اللفظية فقط، من دون القيام بأي عملية سرقة أو نهب على الهوية؛ باستثناء ممارسات بعض حاملي السلاح المجهولي الهوية أو مدعي الانتماء إلى الهيئة العسكرية.

وبرغم تجاوب الهيئة مع كل تصرف ومحاولة إيقاف التجاوزات، إلا أن هذا المشهد يتكرر بشكل يومي، فيستحضر بُعداً عميقاً من ذاكرتنا، عن الإذلال المؤسسي والأسئلة المهينة التي كان يوجهها حملة السلاح آنذاك  إلى الناس العاديين بسبب عقيدتهم ودينهم، ويعكس سياسة الكراهية والوصم المجتمعي.

 تكرار حوادث إهانة العلويين كل يوم في اللاذقية وطرطوس، ولو كانت عبارة عن أخطاء متفرقة، أثار غضباً لدى العلويين، واستجابة جيدة حتى اليوم من المجتمع الأهلي وإدارة الهيئة، وذلك لإيقاف هذه التصرفات.

لكن تكرار الأخطاء الفردية؛ حسب زعم الهيئة، يكشف عن هشاشة إدارية  ونقص هائل في القدرات لديها، ويُظهر أنها منشغلة بالمناصب السيادية على حساب الضرورات الأمنية التي لا بد منها، مثل إعادة تفعيل الشرطة وأقسام التحقيق الجنائي، أو إنشاء بنية مجتمعية أمنية تُحد من انتشار ثقافة الانفلات والرغبة في الانتقام، وفي هذا الوقت، تتحول المناطق العلوية، بخاصة القرداحة؛ مدينة آل الأسد، إلى مزار للمقاتلين الذين لا يتاونون عن إهانة الأهالي وشتمهم، مما شكل جرحاً كبيراً لدى العلويين الذين يتبادلون الفيديوات وينتشر رعب رمزي هائل بينهم، ولا شك في أن هذا الإهمال سيؤدي إلى فراغ مؤسسي، ويعمق الهشاشة الأمنية ويُعيق تأسيس استقرار حقيقي.

أن تخاف من صور أولادك القتلى

ارتعب العلويون من الزيارات المسلحة ل”أبطال التحرير”، وصعودهم بمواكب كثيرة إلى القرى والمدن الساحلية، مما دفعهم إلى الدخول في مرحلة جديدة من الخوف والتوجس، بدأت بحرق صور أبنائهم الشهداء ونزعها عن واجهات بيوتهم، في محاولة لتجنب أي استهداف أو انتقام محتمل.

فما إن وصلت الهيئة العسكرية إلى الساحل، حتى أقدم العلويون على نزع صور أبنائهم الشهداء من بيوتهم، كابحين بذلك مشاعرهم الجماعية التي جمعت بين الفخر والألم، وأقدم الكثير منهم على حرق الصور أو إخفائها من واجهات منازلهم، في تحول مؤلم يعكس “العار الثقافي” الذي أُضيف إلى مجتمعهم.

 هذه الصور، التي كانت سابقاً مصدر فخر واعتزاز، باتت تُذكّرهم بخسارة مزدوجة: خسارة أبنائهم كرمى لوطن استحوذت عليه عائلة الأسد، وخسارة رمزية مرتبطة باضطرارهم للتخلي عما كان يمثل بلاء ومعنى في آنٍ واحد.

قبل تحرير سوريا، عانى العلويون من التكيف القسري مع قيم وطنية، فرضت عليهم تقبّل استشهاد أبنائهم كجزء من تضحية كبرى للوطن. ومع التحرير، وجدوا أنفسهم أمام شكل جديد من التكيف القسري، قائم على الخوف ونكران الفخر بأولادهم الشهداء، خشية الوصم أو الانتقام. هذا الوضع يطرح تساؤلات عميقة حول غياب إجراءات واضحة وفعالة لتحقيق العدالة الانتقالية، وتعريف الضحايا بإنصاف، ضمن إطار يعيد بناء الثقة والكرامة، ويعالج الانقسامات النفسية والمجتمعية التي باتت تهيمن على المشهد.

الخوف من الطرقات

في مقابلات  أجريناها مع عائلات من صلنفة، وريف جبلة، وريف اللاذقية، أكد العديد من الأهالي وجود استقرار نسبي، إلا أنهم يعيشون حالة خوف يومي من سيارات الليل المسلحة، التي تجوب الطرق من دون لوحات تعريفية أو شعارات، وتنصب حواجز مفاجئة.

 تُستخدم هذه الحواجز أحياناً للإساءة إلى العلويين، سواء بالاعتداء اللفظي، أو عبر تصوير الإهانة باستخدام كاميرات الهواتف المحمولة، مما يحول الموقف إلى مشهد مسرحي مفتعل يهدف إلى إذلالهم.

تحدثت معنا فتاة من صلنفة أن الاعتداءات تختلط بحالات سرقة أحياناً، حيث توقفت عدة سيارات تحوي عناصر مسلحة في شارع في مدينة صلنفة، وبدأت بكيل الشتائم بحق العلويين وحاولت سرقة سيارة، وحينما تم التهديد بالاتصال بالهيئة، أُطلقوا النار على السيارة ولاذوا بالفرار.

ومنذ يومين، أُجبر باص (سرفيس) قادم من ريف اللاذقية باتجاه المدينة، على التوقف عند أحد الحواجز، وتم شتم الفتيات غير المحجبات فيه، ولم يرد السائق سوى: “أمركم يلي بدكم يا بصير”. وقالت لنا الفتاة التي تعرضت للموقف، إنها مع الثورة ولكنها خائفة، ولن تنزل إلى المدينة إلى أن يعم  الاستقرار، لئلا يتكرر معها هذا الموقف.

وبرغم تأكيد الهيئة للأهالي أن هذه المجموعات ليست تابعة لها، وبرغم سعيها للتدخل عبر إرسال قوات لضبط الأوضاع، لكن حالة الحذر ما زالت مسيطرة، وما زال الأهالي متخوفين من إرسال أبنائهم، خاصة الفتيات، إلى المدينة، وما زالت الأرياف في مناطق العلويين مثل طرطوس، واللاذقية، وجبلة تشهد أجواء من التوتر والخوف، بسبب حواجز الطرقات، مما يدفع الكثيرون للامتناع من النزول إلى مراكز المدن، ويعزز الشعور بعدم الأمان وتفاقم الهشاشة الأمنية.

البحث عن الجناة

يتم أحياناً اختراق بعض المسلحين لعدد من الأحياء بحثاً عن مطلوب أو ما يُسمى “شبيح”، أو تحدث عمليات تفتيش مرعبة، تنفذها عناصر مسلحة منظمة أحياناً، وغير منظمة أحياناً أخرى، وأكثر ما يُزعج العلويين ويخيفهم، هو عمليات الاعتقال أو التفتيش التي يسودها فراغ بالمعنى القانوني أو التنظيمي، فهي تثير بلبلة وخوفاً خاصة لدى الأسر التي يوجد فيها عسكريون أو موظفون في حزب “البعث” أو في الفروع الأمنية.

 آلاف أسر الموظفين العسكريين والأمنيين في طرطوس واللاذقية، تعيش حالة خوف من اعتقال أبنائها بطريقة تعسفية وتعرضهم للضرب أو العنف في الشارع، ويبقى العلويون خارج أي إطار قانوني في مواجهة السلطة الجديدة، بسبب انخراط أبناء الطائفة بالفروع الأمنية وقوى الأمن الداخلي والجيش.

 بعض الكتائب المقاتلة حاولت تنفيذ انتقامات ميدانية وسريعة، تمت معالجتها من الهيئة على الفور، وظهرت مقاطع تبرز فيها إهانة العسكري أو من يُسمى “الشبيح” في طائفته، مما أشعل المخاوف بشكل كبير على مسار العدالة الانتقالية.

في قرية البهلولية في ريف اللاذقية، تعرضت فتاة من القرية وأختها لمضايقة من أحد العسكريين، مما أدى إلى انفجار غضب الأهالي، فتجمع مشايخ القرية في الساحة للاحتجاج على الحادثة، مطالبين بمحاسبة الفاعلين وضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات.

استجابت الهيئة سريعاً لهذه الاحتجاجات، فأرسلت وفوداً للتفاوض مع الأهالي، وقدمت تعهدات واضحة بتعيين أمنيين متخصصين لضمان حماية الأهالي، ومعاقبة العناصر المتورطة في الحادثة. هذه الخطوة جاءت في محاولة لتهدئة التوتر، وإعادة بناء الثقة بين السكان والسلطة العسكرية.

قضى النظام السوري على العلاقات الاجتماعية التي تربط بين مكونات المجتمع السوري، مما أدى إلى تفكك الروابط المحلية وانعدام الصلة بين الأفراد والجماعات، وأصبح من الصعب للغاية تنظيم هيئات مدنية واجتماعية تعزز التفاعل الاجتماعي والسياسي، وهي ضرورة لإقامة نظم أهلية قادرة على ضبط العلاقات المجتمعية وتوحيد الصفوف، ضمن إطار متطلبات محددة تُسهم في تنظيم السياق الاجتماعي.

هذا الواقع يعكس حالة من التشظي المجتمعي، حيث تفتقر المكونات الاجتماعية إلى إطار موحد يجمعها، مما يزيد من صعوبة بناء علاقات متماسكة أو تحقيق أهداف مشتركة، كما يُظهر الهشاشة المجتمعية الناتجة عن غياب المبادرات التي تعزز الثقة والتواصل بين أفراد المجتمع وبين النظم والهيئة الحاكمة، ويُبرز العجز المؤسسي الكبير لدى الهيئة في دعم بنية مدنية فعالة، يمكنها مواجهة التحديات الراهنة وإعادة بناء النسيج الاجتماعي على أسس أكثر متانة.

فوضى مشايخ العلوية

تتصاعد من كل صوب بيانات صادرة عن مشايخ علويين وتجمعات قروية بالتنسيق مع مشيخات دينية، تُصور وتُبث عبر الإنترنت، إلى جانب لقاءات اجتماعية تجمع العلويين مع قادة من الهيئة. تتكرر هذه المشاهد بشكل دائم، ولكن بطريقة تتسم بـ الفوضى الاتصالية وغياب الهيكل التنظيمي، مما يجعلها تبدو غير مُنظمة أو مواكبة لمتطلبات العمل الإداري أو المواطني.

هذه الفوضى تُظهر الهيئة في صورة ضعيفة، حيث تبدو عاجزة عن ضبط الخطاب العام، أو تقديم رؤية متماسكة تعبّر عن أهدافها، وبالتوازي، تسود اللقاءات والبيانات العشوائية، مما يعكس انفصال الهيئات عن القاعدة المجتمعية، التي يُفترض أن تمثلها وتعمل على توجيهها. هذا الانفصال يزيد من التشويش على المشهد العام، ويُضعف الثقة في قدرة الهيئة على قيادة مرحلة الاستقرار أو معالجة التوترات المجتمعية بفعالية.

يسود حظر تجوال في العديد من المناطق في سوريا، بخاصة في الساحل، حيث يُمضي معظم السوريين وقتهم على صفحات التواصل الاجتماعي لمتابعة الأحداث بشكل يومي.

يعكس هذا الوضع عودة المجتمع إلى سياسة الخوف الوجداني والوجودي، مما يعيق المبادرات الفردية والجماعية في هذا السياق، وتسعى الهيئة وأقطاب داعمة لها إلى عدم الاهتمام بالبُعد الاجتماعي والمدني المطلوب لتعزيز التواصل والعمل المشترك، مع التركيز بدلاً من ذلك على الترويج لصفحات تدعم أشكالاً متطرفة من الولاء للهيئة.

 هذه الصفحات لا تكتفي بالترويج للهيئة فحسب، بل تشارك أيضاً في مهاجمة العلويين واستذكار مشاهد سابقة للتعذيب، تظهر فيها شخصيات علوية بشكل واضح، تقوم بإدارة التعذيب والتلفظ بكلمات دينية عدائية، مما يعمق الانقسامات ويكرس ثقافة الإقصاء والتطرف. ويظهر في هذا المشهد الغوغائية الرقمية، حيث تسود فوضى المعلومات والآراء المتطرفة عبر منصات التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى تضخيم المشاعر السلبية بين الأطراف المختلفة، كما تساهم هذه الصفحات في التعزيز السلبي الرقمي، عبر تشجيع التفاعل مع المحتوى العدائي والمثير للانقسامات، مما يعمق الاستقطاب والتوتر النفسي داخل المجتمع.

في الوقت نفسه، تتكاثر البيانات والخطابات على الصفحات الخاصة التي تدعو للدفاع عن العلويين وتطالب بتأمين الأمن والأمان لهم، سواء من خلال مشايخ، أو أفراد من المجتمع الأهلي، أو جهات أخرى. يعكس هذا المشهد تشرذم الساحل إلى مناطق يغيب عنها النظام وتعدد فيها الروايات، من دون تدخل مباشر أو فعّال من الهيئة لتنظيم الأمور.

درج

—————————————–

مهمَّات ملحّة في سورية قبل المرحلة الانتقالية/ رانيا مصطفى

25 ديسمبر 2024

يتطلَّع السوريون اليوم إلى أن تشرف القيادة الجديدة المسيطرة في دمشق على المرحلة الانتقالية، وهم يعطونها شرعية “ثورية” لأداء هذا الدور، خاصّة في غياب أي قوى سورية أخرى تستطيع ملء فراغ السلطة بشقّيه السياسي والأمني، مع مخاوف مشروعة بعودة الديكتاتورية بوجه إسلامي. هناك توجّه ملحوظ لدى القيادة الجديدة لإعادة بناء الدولة السورية، مع أن الكيفيّة غير واضحة تماماً، فهناك شكوك حول نيّة من استلموا زمام الأمور قبول مشاركة فاعلين آخرين في عملية البناء هذه، ويرى بعضهم أن الحالة الحرجة في سورية تتطلّب أن ينفردوا بالحكم في المرحلة المقبلة؛ فهم أوّلاً القوة العسكرية المسيطرة بلا منافس، مع غياب دورٍ فاعل لأي قوى سياسية. وثانياً هناك رغبة دولية وإقليمية بالتعامل مع هذه القوّة، لكن بشرط تحقيق مطالب الأطراف المتدخّلة بالشأن السوري، وقد أبدى قائد غرفة العمليات العسكرية، أحمد الشرع، الرغبة والاستعداد لتلبية الاحتياجات الدولية والإقليمية.

أمام القيادة الجديدة تحدّيات داخلية وخارجية صعبة قبل الانتقال إلى المرحلة الانتقالية، فعلى الصعيد الداخلي هناك مسألة ضبط الأمن أولاً، والقبض على المتورّطين في ارتكاب الجرائم ضدّ السوريين، وتسيير مؤسّسات الدولة، وعودة المهجّرين إلى بيوتهم، وتدبّر الحالة المعيشيّة المتردية لغالبية السوريين. وهنا نشير إلى قرارات متسرّعة وخطيرة لحكومة تسيير الأعمال، مثل رفع الدّعم الحكومي عن السلع الأساسية مثل الخبز والغاز والمازوت والبنزين وأجور النقل، مع غياب الموارد لدى الغالبية الساحقة من السوريين، يضاف إليها الخطط التي تتحدّث عنها الحكومة حول تقليص عدد موظفي القطاع العام لعلاج مشكلة الترهل والفساد، وهذا يعني فقدان عدد كبير من السوريين فرص عملهم، ويضاعف من نسبة الفقر، التي بالأصل تزيد عن 65%. وبالتالي، هي سياسات مستعجلة وغير مدروسة، وتسبق سياسات النظام الهارب في التفقير، وهذا بالضرورة سينعكس على الحالة الأمنية، التي تعجز الحكومة حتى الآن عن ضبطها.

تعاني القيادة الجديدة من مشكلة قلَّة الثقة في غير أطرها، العسكريون في معظمهم، ومن فصائل متنوّعة، وهناك انتهاكات من عناصر بعضِ الفصائل، وهناك مجرمون جنائيون في الشوارع نتيجة إفراغ السجون، وهناك أشخاص مرتبطون بالنظام السابق ومطلوبون، ومن مصلحتهم الفوضى الأمنية. وهنا نتساءل لماذا لا تعيد وزارة الداخلية عمل جهاز الشرطة، وهو جهاز مدرّب، ومن مؤسّسات الدولة، ويمكنه المساعدة في ضبط الأمن؟ وبالمثل، يجري التعامل مع مؤسّسات الدولة الخدمية وغيرها، إذ عيّنت وزارات الحكومة أوصياء من مقربيها على تلك المؤسّسات، بما يشبه النيّة في السيطرة عليها، ويتناقض مع مهمّة الحكومة في تسيير الأعمال، حتى يتم التوافق على حكومة انتقالية. عيّنت حكومة تصريف الأعمال وزارة دفاع، وأوكلت إليها مهمّة تشكيل جيش وطني للبلاد، وحلّ الفصائل، ودعوة فصائل الجنوب (درعا والسويداء) وفصائل الجيش الوطني التابعة لتركيا، إضافة إلى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، إلى الانضمام تحت راية الجيش الجديد، وهنا أيضاً يحضر التساؤل حول إمكانية دعوة الضبّاط المنّشقين عن النظام السابق، وعددهم ليس قليلاً، وحتى الاستعانة بضبّاطٍ من الرتب الأصغر والقطع العسكرية التي رفضت القتال في معارك الطريق إلى دمشق الأخيرة، وساهمت في حفظ الأرواح. الخيار الأخير مهمّ، لأن بناء جيشٍ وطني يحتاج إلى خبراتٍ عسكرية تختلف عن خبرات الحالة الفصائلية، ومهمته سيادية هي الدفاع عن الوطن من الاعتداء الخارجي، وتنفيذ الاتفاقيات الدولية، وهي مهمة حسّاسة في ظلّ الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة على الأراضي السورية كلّها.

تبدو مهمّة إكمال السيطرة على منطقة شرق الفرات، والتحاور مع قوات سوريا الديمقراطية، ودمجها في الجيش الوطني، من المهمّات الصعبة، وهنا يحضر الدور الأميركي، الذي لا يزال يعتمد على تلك القوات المحلّية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إضافة إلى التصعيد بين الفصائل المدعومة من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، واشتراط الأتراك طرد الأخيرة العناصر غير السورية من حزب العمّال الكردستاني من صفوفها. إن ضمَّ مناطق شرق الفرات أيضاً مرهونٌ بقدرة السلطات الحاكمة في دمشق على ضبط الأمن في مناطق سيطرتها وحسن إدارتها، وإقناع واشنطن بقدرتها على تولّي محاربة فلول “داعش”، وتحقيق شروط أميركية متعلّقة خاصّة بالابتعاد عن إيران، وألا تشكّل سورية تهديداً لدول الجوار، وتحديداً إسرائيل، وربّما تحقيق شروط أخرى تقيّد حجم النفوذ التركي في سورية.

تتوافد الوفود الغربية والإقليمية والعربية للقاء الشرع في دمشق، ولكلّ طرفٍ شروطه لدعم الحكم الجديد وإعطائه الشرعية، وطرح المبعوث الأممي إلى سورية، مستنداً إلى بيان العقبة في 14 الشهر الجاري العودة إلى تنفيذ البيان الأممي 2254، وتشكيل هيئة حكم انتقالي من النظام والمعارضة، رغم غياب النظام، أي هم يضغطون من أجل وصاية دولية على سورية، تشرف على العملية الانتقالية. إن الأداء الرديء للأمم المتحدة تجاه سورية، وتمريرها مجازر نظام الأسد، وعجزها عن تطبيق القرار الأممي المقرّر في 2015، يقود السوريين إلى رفض الوصاية الدولية تلك. وحتى يتحقّق ذلك يبدو أن الطريق إلى ملء الفراغ الدستوري في حكومة دمشق يجب أن يمرّ عبر الشعب، أي عبر مراهنة الشرع ومن معه على الحفاظ على التأييد الشعبي الذي حظي به مع دخوله دمشق. هذا يعني أن عليه تقديم برنامج أكثر وضوحاً عن المرحلة الانتقالية، وعن إشراك جميع السوريين فيها، بعيداً عن تمثيلاتٍ طائفية وعشائرية كان يعتمدُها نظام الأسد، وليست في صالح السوريين، كما أن على حكومة تسيير الأعمال التراجع عن القرارات الاعتباطية حول رفع الدعم، ونيّتها تسريح الموظفين، واعتماد الخصخصة وحرّية السوق، والتي يعتمدها نظام بشار الأسد بشكل موسّع منذ استلامه الحكم، وكانت من مسبّبات زيادة إفقار السوريين؛ إن أي قرارات من هذا النوع يجب أن تستند إلى دراسات يُعدُّها مختصّون بالشراكة مع مراكز الأبحاث الأممية، والتي بالضرورة تأخذ بعين الاعتبار ألا يجري المساس بحاجات المواطنين الأساسية.

إن نجاح القيادة الجديدة في مهماتها الداخلية قبل البدء بالمرحلة الانتقالية هو خطوة أساسية في طريق بناء دولة قوية وذات سيادة، ويعطيها حصانة ضدّ الإملاءات الخارجية، في حين أن الفشل سيعني العودة إلى الفوضى، وإلى اقتتال أهلي لا تُحسب عُقباه، في ظلِّ استمرار الحالة الفصائلية من جهة، وتفاقم نسبة الفقر من جهة أخرى.

العربي الجديد

————————

فقر مخيّلة عربية حيال سورية/ أرنست خوري

25 ديسمبر 2024

يتردّد المرء قبل أن يتمنى رؤية دور عربي في سورية، نظراً إلى ما يعرفه عن محدودية آفاق معظم المسؤولين العرب ممن كانوا يتسابقون إلى احتضان نظام بشار الأسد حتى الأيام الأخيرة التي سبقت سقوطه الحرّ. وإن كان صحيحاً أن الدول تعمل وفق ما تمليه عليها مصالحها، في المعنى الواسع للمصلحة، لا تلك التجارية النفعية الأنانية المباشرة في عالم جعلته العولمة شديد التأثر أمنياً واقتصادياً وبيئياً بكل ما يحصل في أرجائه، يكون صحيحاً أيضاً أن مصلحة البلدان العربية في هذه المرحلة تكمن في رؤية سورية نقيضة لما كانت عليه أيام الأسد الأب والابن، مدرسة في استغلال القضايا وتحريك الخلايا المسلحة والمتاجرة فيها، ونبعاً للاضطرابات وللأفكار السامة وللكبتاغون. ليست مصلحتها بالضرورة أن تكون سورية ديمقراطية، إنما على الأقل دولة مستقرّة وموحّدة، بلداً “طبيعياً” لا يصدّر إلا صناعاته وزراعته وفنونه، لا أيديولوجيات ولا خلايا إرهابية ولا وصفات للتعذيب ولا خرائط هندسية لأكثر المعتقلات دموية ولا مكابس للجثث وملّاحات لتذويبها. لو كان في البلدان العربية عقول تنظر إلى أبعد من أنفها كما يُقال، لكان الدبلوماسيون العرب سبقوا نظراءهم الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين والأتراك والألمان إلى دمشق ومعهم مسؤولون عن تقديم الدعم الاقتصادي (لا القروض) مثلما فعلت قطر عندما قررت حكومتها أن يصطحب وزير الدولة في وزارة الخارجية محمد الخليفي في زيارته دمشق يوم الاثنين فريقاً من “صندوق قطر للتنمية” لدراسة تقديم مساعدات خصوصاً في مجالات الطاقة والنقل الجوي بهدف إعادة تشغيل المطارات السورية. هي قطر التي من حقها أن تذكّر العالم أنها ظلّت البلد الوحيد تقريباً الرافض مدّ يد العون لنظام بشار الأسد في زمن السعي إلى تعويمه واحتضانه عربياً وتركياً وغربياً.

لو كان في مراكز صنع القرار لمعظم العواصم العربية من يفكر لأبعد من الغد، لأيقن حكامها أنّ ترك السوريين غارقين في المأساة التي أورثهم إياها الأسد والروس والإيرانيون وحزب الله والمليشيات الأفغانية والعراقية، سيكون تكراراً للتخلي عن العراق بعد إسقاط الأميركيين نظام صدام حسين، وقد أفسحوا المجال حينذاك لإيران كي تملأ الفراغ، بما أن الطبيعة تكره الفراغ كما هو معروف. في سورية لن تملأ إيران شيئاً لا اليوم ولا غداً، فنفوذها هناك انتهى لحسن الحظ. ليس مطلوباً بأي شكل أن يملأ أيّ كان، لا عربي ولا تركي ولا غربي أيّ شيء في سورية، بل المطلوب أن يُعامَل هذا البلد لمرّة بحسن نية من القريبين منه والبعيدين، بمنظور استراتيجي لا تكتيكي، بدعم اقتصادي من دون مقابل حتى يتوفر استقرار اجتماعي ــ اقتصادي يتيح تفكيراً بأي سورية يريد السوريون وبأي توافقات يمكنهم اجتراحها حول شكل بلدهم ونظامهم السياسي بما أن لا نقاش يمكن إتمامه عن مرحلة انتقالية سورية أو مركزية أو فيدرالية أو علمانية أو تعددية أو تشدد ديني أو نظام برلماني يحكمها أو رئاسي، حين تعيش غالبية السكان في عوز وتفتقد بنية تحتية ومؤسسات دولة تستحق اسمها.

فرضُ الوصاية العربية أو التركية أو الغربية على السوريين هي وصفة لتمديد دور “الساحة” الذي رسمته كل من طهران وتل أبيب في هذا البلد. وحده الدعم الاقتصادي السخي اليوم لسورية، غير المرتبط بأي أجندات سياسية أو طموحات، هو ما يوفر استقراراً نسبياً ضرورياً في مرحلة مؤقتة ستكون حاسمة في مكافأة السوريين على تضحياتهم الهائلة أو التفريط فيها. الدعم العربي الاقتصادي اليوم يمكن أن يكفّر قليلاً عن ذنوب عرب كافؤوا نظام الأسد على جرائمه وتعنته بإعادته إلى جامعة الدول العربية وإلى ذلك “الحضن العربي” بمبادرة خطوة مقابل خطوة الأردنية. فقر مخيلة معظم الحكام العرب تجعلهم يشاهدون إسرائيل تحتل أراضي سورية فيصمتون ظناً منهم أن علاقاتهم مع الأميركيين ومع تل أبيب نفسها من شأنها أن تنجّيهم من الجنون الإسرائيلي غداً أو بعد غد. وهل من مخيلة أفقر من تلك؟

العربي الجديد

—————————————–

يُنصح بها عام 2027: الانتخابات القادمة في سوريا متى وكيف وبأي ترتيب؟/ عمرو نجار

2024.12.24

من دمشق، وفي خضم الحديث المستمر عن المرحلة الانتقالية، دعا المبعوث الأممي غير بيدرسون إلى أهمية إقامة الانتخابات في سوريا بعد المرحلة الانتقالية. ولا يخرج بيدرسون بذلك عن الوصفات الأممية المعروفة التي ينصح بها مندوبو الأمم المتحدة للدول التي تمر بمراحل انتقالية مشابهة. تأتي التوصيات الأممية دائمًا لتؤكد ضرورة تنظيم الانتخابات خلال فترة سريعة في بداية المرحلة الانتقالية، بحيث أصبحت هذه النصيحة بإجراء الانتخابات المبكرة جزءًا أساسيًا من “صندوق العدة” المستخدم في الحالات الانتقالية.

لهذا التسرع الأممي عدة أسباب، منها الارتباك القانوني عند التعامل مع السلطات الجديدة القائمة غير المنتخبة، ومنها أيضًا رغبة الأمم المتحدة والرعاة الدوليين في تحديد آلية خروج سريعة لإنهاء التزاماتهم تجاه البلد الذي يعاني من أزمات داخلية اقتصادية وسياسية عميقة ومكلفة. وليست أطقم الأمم المتحدة الطرف الوحيد الذي يصاب بهذا التسرع نحو الانتخابات؛ فعادةً ما تدفع أطراف داخلية أخرى بهذا الاتجاه أيضًا، مثل القوى السياسية المحلية التي تفضل خوض انتخابات سريعة لتتاح لها فرصة المشاركة في الحكومة المنبثقة عنها، أو حتى الناخبون والناس العاديون، الذين يرون في الانتخابات السريعة وسيلة لتحقيق الاستقرار وبدء العمل بإعادة الإعمار.

نتيجة لهذه الضغوط، أصبحت الانتخابات السابقة لأوانها قاعدة شائعة. ووفقًا للإحصاءات البحثية، انخفضت الفترة الزمنية بين سقوط النظام أو بداية الفترة الانتقالية وإجراء الانتخابات إلى النصف منذ نهاية الحرب الباردة. قبل عام 1989، كان متوسط الوقت الذي يمر قبل إجراء الانتخابات يبلغ حوالي 5.6 سنوات، بينما انخفض هذا المتوسط إلى 2.7 سنوات منذ عام 1989. وخلال “طفرة الانتخابات” في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أُجريت معظم هذه الانتخابات في دول لديها خبرة ديمقراطية قليلة أو معدومة، مما أدى إلى نشاط سياسي كبير، ولكن بثمار دائمة محدودة.

الإرث الثقيل للانتخابات المتسرعة

غالبًا ما تؤدي الانتخابات السابقة لأوانها إلى مشكلات متكررة، منها عدم توفر الوقت الكافي لنشوء قوى حزبية أو ديمقراطية، مما يتيح سيطرة الانقسامات العرقية أو الطائفية بدلًا من التركيز على السياسات الضرورية خلال إعادة الإعمار أو على القضايا طويلة الأمد المتعلقة بالاستقرار وإدارة البلاد بشكل جديد. كما أن التسرع في اختيار القوانين والأنظمة الانتخابية قد يقوض فرص المساءلة والشفافية. بذلك، تتحول الانتخابات في كثير من الأحيان إلى مناسبة لإعادة إنتاج الصراع الذي طبع البلد خلال فترة الثورة.

وقد شهدت حالات كثيرة مثل هذه التعقيدات. ففي كمبوديا، نظمت الأمم المتحدة عام 1993 انتخابات تاريخية تحت إشراف بعثة UNTAC، التي كانت آنذاك أكبر مهمة لحفظ السلام والديمقراطية. نجحت الانتخابات تقنيًا بشكل شبه كامل، حيث كانت عملية التنظيم فعالة وشهدت نسبة مشاركة مرتفعة. ولكن، بعد الانتخابات، ظهرت المشاكل على الأرض، حيث حصل حزب رئيس الوزراء “هون سين” على 51 مقعدًا مقابل 58 مقعدًا للمعارضة في الجمعية الوطنية المكونة من 120 مقعدًا، مما ترك البلاد دون أغلبية حاكمة. وسط تهديدات بالانزلاق نحو الحرب الأهلية، تحولت الديمقراطية الوليدة إلى اتفاق سريع لتقاسم السلطة بين الحزبين، حيث تم تعيين “رئيسي وزراء مشتركين”. ومع ذلك، أثبت هذا الترتيب أنه غير مستقر، وانهار تمامًا في عام 1997 عندما تمكن هون سين من هزيمة خصومه والسيطرة على السلطة بمفرده.

أما في البوسنة عام 1996، فقد نظمت الانتخابات ضمن إطار اتفاقية دايتون، لكنها عززت الانقسامات العرقية من خلال هيكل لتقاسم السلطة بين البوشناق والكروات والصرب. وسرعان ما تحولت الانتخابات إلى ساحة تنافس بين الأطراف المتحاربة سابقًا، مما أدى إلى إعادة انتخاب المتشددين العرقيين، وخاصة الصرب منهم، بشكل دائم.

وأخيرًا، في العراق، استعجلت سلطة الحكم الأميركية المؤقتة في تنظيم الانتخابات عام 2005، وسط حالة من انعدام الأمن وضغوط دولية كبيرة ومقاطعة سنية واسعة. هذا التسرع عمّق التوترات الطائفية وأسفر عن نظام سياسي هش ومليء بالاستقطابات الطائفية.

ولتعميم هذه النتائج الأولية، أجرى الباحثان “فلوريس ونور الدين” تحليلًا إحصائيًا كمّيًا موسعًا لفهم الأثر العام للانتخابات خلال الفترة الانتقالية. شملت دراسة الباحثين مقارنة 119 حالة من حالات الانتقال السياسي في بلدان مختلفة من العالم، وضمت بلدانًا عاشت أكثر من مرحلة انتقالية في ظروف مختلفة. خلصت النتائج الإحصائية إلى أن إجراء الانتخابات في السنة الأولى بعد قلب النظام أو بعد الوصول إلى حل سياسي تفاوضي لا يؤدي إلى نتائج إيجابية، سواء في الدول ذات الديمقراطيات الراسخة أو التي كانت مستقرة قبل النزاع. ولا تظهر الثمار المفيدة للانتخابات إلا عند إجرائها في السنة الثانية.

أما في حالة الدول التي عانت لفترات طويلة من أنظمة تسلطية، فإن إجراء الانتخابات في السنة الأولى أو الثانية من الفترة الانتقالية يُعد أمرًا محفوفًا بالمخاطر، إذ يحمل معه إمكانية انفجار الصراع المسلح في البلاد أو على الأقل تأخرًا كبيرًا في عملية إعادة الإعمار. ولا يبدأ الأثر الإيجابي للانتخابات بالظهور في هذا النوع من الدول إلا عند تنظيم الانتخابات الانتقالية بدءًا من السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.

الشكل أدناه يوضح نتائج هذه الدراسة، ويبدو فيه الفرق جليًا بين الدول التي عرفت تقاليدًا غير بعيدة عن الديمقراطية والتعددية السياسية (باللون الأخضر على اليمين)، وبين تلك الدول التي لم تعرف هذه التعددية مسبقًا أو عرفتها وتوقفت عنها منذ ماضٍ غابر (باللون البرتقالي). ويمثل معامل الارتباط الموجب ارتباطًا إحصائيًا إيجابيًا بين إجراء الانتخابات والاستقرار السياسي ونجاح التعافي الاقتصادي، بينما يكون معامل الارتباط السلبي (أقل من الصفر) مؤشرًا على ارتباط قوي بين إجراء الانتخابات وفقدان الاستقرار السياسي أو عودة أعمال العنف وضعف النمو الاقتصادي خلال الفترة الانتقالية. ويؤكد هذا المنحى طول أو قصر الفترة المتوقعة لتحقيق الاستقرار السياسي، وهي الأرقام الحمراء المتوضعة على كل عمود.

وبذلك، توصي نتائج هذا البحث الإحصائي بتأخير الانتخابات لمدة سنة واحدة على الأقل من عمر الفترة الانتقالية في حالة الديمقراطيات الراسخة، ولمدة سنتين على الأقل في حالة الدول الجديدة على الديمقراطية.

وتعود الأفضلية التي تتمتع بها الدول ذات الماضي الديمقراطي القريب إلى عوامل عدة، أهمها وجود نظام حزبي متجذر في البلاد، أو الأعراف المعمول بها التي تفرض القيود والضوابط على السلطة التنفيذية، ووجود سلطة قضائية متطورة تستطيع التحكيم في حالة الخلافات الناشئة بين الأحزاب أو بين النخب. أخيرًا، يكون المجتمع المدني في هذه الدول معتادًا على تنظيم الهيئات المراقبة للعملية الانتخابية.

أما في حالة الدول ذات الماضي التسلطي، فتكون كل هذه المكونات متأخرة أو حتى منعدمة الوجود في البلاد بسبب النظام السابق الذي منع قيامها وتطورها لعقود.

في حالة الانتخابات السابقة لأوانها، تفتقر هذه البلدان إلى أجهزة إدارية وسياسية قادرة على إدارة العملية الانتخابية، وإلى أحزاب تتنافس على برامج سياسية، وإلى أجهزة أمنية وشرطية قادرة على ضبط هذه العملية الحساسة. ولذلك تصبح هذه البلاد، بسبب الانتخابات، عرضة لمشاكل عديدة.

أخيرًا، في الديمقراطيات الراسخة، يُعتبر عدم اليقين بشأن نتائج الانتخابات سمة رئيسية للعملية الديمقراطية. أما في المجتمعات الخارجة من النزاعات، يمكن لهذا الغموض أن يزعزع استقرار الأنظمة الهشة، خصوصًا عند وجود منافسات انتخابية حادة.

المشاورات وليس الانتخابات: خارطة طريق تصل بسوريا الجديدة إلى انتخاباتها الأولى

لم تشهد سوريا انتخابات تعددية حقيقية منذ عام 1962، أي قبل عام من سيطرة البعث على السلطة. وهذا يعني أن من شارك في تلك الانتخابات وبقي على قيد الحياة اليوم، لا يقل عمره عن ثمانين عامًا. لذلك من الطبيعي أن يطغى الحماس على السوريين اليوم، خاصة بعد عقود من القمع والرصاص، التي كانت الطريقة الوحيدة التي قارب بها نظام الأسد الأب والابن المشهد السياسي في البلاد.

لذلك، يشعر الكثير من السوريين بضرورة الانتقال أخيرًا من لغة الرصاص التي فرضها النظام عليهم إلى صناديق الاقتراع، أو From Bullets to Ballots كما تقول العبارة الإنجليزية المقفاة بشكل جميل. ولكن، وبسبب ماضي التسلط المتغول في سوريا، وغياب الانتخابات التعددية منذ عقود، لا يمكن أن ينتقل السوريون من المسدس إلى الصندوق بهذه السرعة. فسوريا تنتمي إلى مجموعة البلدان التي تثبت التجارب فيها ضرورة تأخير الانتخابات إلى عامين على الأقل.

التركيز قصير الأمد على إجراء الانتخابات بسرعة يؤدي غالبًا إلى مشاكل متكررة، منها عدم توفر الوقت الكافي لنشوء قوى ديمقراطية حقيقية، مما يفسح المجال لهيمنة الأحزاب القومية أو الإثنية أو الطائفية، بدلاً من الأحزاب التي تعتمد على السياسات. وغالبًا ما تتحول مثل هذه الانتخابات إلى منافسة فعلية بين فصائل عسكرية أو فلول النظام السابق متنكرة في شكل أحزاب سياسية، مما يعرقل السياسة في المجتمعات المنقسمة بعمق.

على سبيل المثال، أظهرت حالة البوسنة أن إعادة انتخاب القادة المتشددين عرقيًا ضمن تقاسم السلطة الإثني الناتج عن اتفاقية دايتون قد سمح للأحزاب القومية ليس فقط بالنمو، بل باستغلال العملية الديمقراطية لتعزيز أجندات طائفية.

قانون الانتخاب وترتيب العملية الانتخابية: بنود على طاولة الحوار الوطني السوري

رغم كل ما قيل أعلاه، فإن غياب الانتخابات في المرحلة الانتقالية يؤدي إلى مشكلتين:

    مشكلة تأسيسية: إذ توفر الانتخابات آلية لإنشاء مؤسسات أساسية، مثل الجمعيات التأسيسية التي تُكلَّف بصياغة دساتير جديدة. وبذلك تُساهم هذه العمليات في وضع الأسس اللازمة لإرساء قواعد وإطارات الحكم والاستقرار على المدى الطويل.

    دور رمزي: تلعب الانتخابات دورًا رمزيًا مهمًا، فهي تُرسل إشارة إلى الجمهور المحلي والدولي بأن الشرعية قد أُعيدت، مما يمثل خطوة جوهرية في عملية إعادة بناء الدولة.

لذلك، تبقى مسألة تحقيق هذا التوازن بين الشرعية والاستقرار مسألة حساسة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي إجراء الانتخابات قبل صياغة الدستور، كما حدث في نيبال عام 2008 خلال انتقالها من الملكية إلى الجمهورية، إلى إضفاء الشرعية على عملية صياغة الدستور.

في المقابل، تأجيل الانتخابات إلى ما بعد وضع القواعد الدستورية قد يساعد في منع نتائج مزعزعة للاستقرار أو تقويض الانتقال الديمقراطي. هذه الأمثلة تعكس التعقيدات التي ستواجه المؤتمر السوري العام المزمع عقده للتشاور حول صياغة مستقبل سوريا.

الانتخابات المحلية أولاً؟

طُرحت فكرة تنظيم الانتخابات المحلية والبلدية قبل الانتخابات العامة عدة مرات في حالات مماثلة. وقد اختارت العديد من التجارب المشابهة أن تبدأ بإجراء انتخابات بلدية قبل الانتخابات الوطنية، حيث يتم استخدام الانتخابات المحلية كتجربة أولية تدفع الناخب إلى التركيز على القضايا اليومية الأساسية والخدمية بدلاً من التورط في نزاعات معقدة حول التاريخ أو الهوية.

وبذلك، يمكن أن توفر الانتخابات المحلية تدريبًا جيدًا لمسؤولي الانتخابات، حيث تكون أقل حساسية من الانتخابات الرئاسية، التي تكون المخاطر فيها أكبر، والانتباه الإعلامي أوسع، والأخطاء قد تتحول بسرعة إلى أزمات.

ومع ذلك، لدينا أيضًا حالات معاكسة. على سبيل المثال، لم يكن للانتخابات المحلية التي أُجريت في جمهورية الكونغو الديمقراطية عام 2010 تأثير إيجابي يُذكر على الانتخابات الرئاسية المعيبة التي أُجريت في العام التالي.

والأهم من ذلك، أن البعد المحلي والمناطقي الطاغي في الانتخابات المحلية قد يعزز الأحزاب الانفصالية ذات القواعد الإقليمية، كما حدث قبل تفكك يوغوسلافيا. بينما تسهل الانتخابات العامة على المستوى الوطني نشوء أحزاب سياسية ذات برامج وطنية بعيدة عن التحزبات المحلية والطائفية والعرقية.

لذلك، لابد أن تتم مناقشة هذا الموضوع بشكل مفصل، ولابد أن يعرف طريقه إلى جدول أعمال مؤتمر الحوار الوطني.

ولكن بأي قانون انتخاب؟

بغض النظر عن تسلسل العملية الانتقالية، لا بد لمشاورات الحوار الوطني أن تبت بموضوع قانون الانتخاب. اختيار النظام الانتخابي هو بلا شك أحد أهم القرارات المؤسسية التي يجب أن تتخذها أي ديمقراطية في مرحلة البناء. فالنظم والقوانين الانتخابية تعد أساسية لعمل وترسيخ الحوكمة الديمقراطية، حيث يكون لها تأثير مباشر على العديد من القضايا، مثل طبيعة تشكل الأحزاب السياسية الناشئة، ودور الأشخاص مقابل دور المؤسسات، وتسييس أو تقليل أهمية الانقسامات الطائفية والإثنية في خطاب الأحزاب السياسية. هذه العوامل لها تأثيرات طويلة الأمد على عمل وترسيخ الحوكمة الديمقراطية.

خلال عقد التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثانية، دار جدل أكاديمي حامي الوطيس حول النظم الانتخابية الأكثر ملاءمة لتعزيز الاستقرار السياسي في المجتمعات المنقسمة. وقد ظهرت مدرستان رئيسيتان في هذا السياق.

    المدرسة التقليدية:

    ترى أن استخدام التمثيل النسبي (PR) ضروري لاستمرار الديمقراطية في مواجهة التحديات الناتجة عن الانقسامات العميقة. ويرى مؤيدو هذا النهج أن التمثيل النسبي يشجع على ظهور أنظمة متعددة الأحزاب، مما يتيح تمثيل فئات واسعة من السكان، بما في ذلك الأقليات والنساء، وهو أمر أساسي لتعزيز سياسات توافقية في مرحلة ما بعد النزاعات.

    المدرسة الأخرى:

    تدعو إلى اعتماد أنظمة انتخابية تهدف إلى تقليل أهمية الانقسامات الاجتماعية بدلًا من تعزيز تمثيلها. تُعد أنظمة الأكثرية (Majority Systems) أبرز الأمثلة عن هذا النوع. وهناك أيضًا نوع آخر يشترط على المترشحين أن يحصلوا على دعم جغرافي واسع للفوز. يركز هذا النهج، المعروف بالنهج “المركزي” (Centripetal)، على تعزيز التعاون بين مختلف المجموعات العرقية ودعم الأحزاب الجامعة، مما يساعد على تجنب إعادة إنتاج الانقسامات الاجتماعية في العملية السياسية ويفتح المجال لتطوير انقسامات سياسية جديدة وأكثر إنتاجية.

ماذا عن اللاجئين والنازحين؟

إشراك اللاجئين والنازحين السوريين في العملية الانتخابية يشكل تحديًا آخر يجب التعامل معه قبل تنظيم أي عملية انتخابية. يشكل هذا الأمر مشكلة خاصة خلال تنظيم العملية، لأن الانتخابات تعتمد على بيانات ولوائح سكانية قد تكون غير متوفرة بسرعة. كما يزيد توزع اللاجئين حول العالم في بلدان مختلفة من تعقيد العملية لوجستيًا.

ولذلك، كثيرًا ما يتم اختيار نظام الانتخاب النسبي لهذا السبب على وجه التحديد، بحيث يُعتبر البلد دائرة انتخابية واحدة، لا حاجة فيها للوائح انتخابية بحسب مكان السكن أو قيد النفوس.

لذلك، لا بد لهيئة الحوار الوطني خلال الفترة الانتقالية أن تدرس وتتدارس هذا الأمر باستفاضة لما له من تأثير هام على مستقبل العملية السياسية في سوريا.

تشكيل هيئة خاصة بالانتخابات؟

يتطلب تنظيم الانتخابات جهودًا لوجستية هائلة تستهلك الكثير من الموارد. فهي تحتاج إلى استثمارات كبيرة في الوقت والموارد البشرية والمالية لتأسيس إطار قانوني، وبناء هياكل إدارية، وتوفير التوعية الانتخابية للناخبين، وضمان الأمن. هذه التحديات تُشكل عبئًا على موارد الدولة المنهكة. كما يُناط بجهاز الدولة ضمان حقوق التعبير والتجمع، وسيادة القانون، وتوفير البنية التحتية والأمن الكافيين لتمكين جميع المواطنين البالغين من المشاركة. ولكن كل هذه الشروط الضرورية غالبًا ما تكون غائبة في الدول الخارجة من أزمات طويلة، كما هي حالة سوريا (أحيانًا قد توفر الجهات الدولية، كالأمم المتحدة، مساعدات هامة في هذا المضمار).

نتيجة لذلك، تتطلب الانتخابات في السياق السوري نماذج مختلفة لإدارة الانتخابات عن تلك المستخدمة في الديمقراطيات المتطورة. إذ سيكون من الضروري تشكيل هيئة انتخابية مستقلة عن الحكومة. وقد أظهرت الدراسات المقارنة والحالات السابقة أن هذه الهيئات الانتخابية المستقلة والدائمة تُعد أفضل ما يمكن القيام به لإدارة الانتخابات، إذ يعزز حياد هذه الهيئات عن التدخل السياسي مصداقية ونزاهة العملية الانتخابية.

ومع ذلك، فإن قضايا التوقيت وترتيب الأولويات تلعب دورًا هنا أيضًا. فالانتخابات التي تُعقد تحت ضغوط زمنية غالبًا ما تُدار بواسطة هيئات مؤقتة أو غير دائمة تفتقر إلى الموارد اللازمة، بدلاً من هيئة دائمة تتمتع بالخبرة والتمويل الكافي. ولذلك، لا بد من التفكير في إنشاء هيئة انتخابية مستقلة، ويجب أن تكون هذه إحدى الخطوات الأولى في الجدول الزمني الانتقالي للانتخابات.

ختامًا

ليست هذه التوصيات المستخلصة من تجارب ومن أبحاث الانتقال السياسي المقارن سوى نقاط للنقاش خلال فترة الحوار الوطني. فمثلًا، كل ما سبق لا يعني أن تأخير الانتخابات هو قرار تلقائي، بل هو سؤال سياسي لا بد من الإجابة عليه على طاولة الحوار الوطني خلال الفترة الانتقالية التي ستحدد مسار وتسلسل الأحداث وتفصله على مقاس الحالة السورية بشكل خاص.

المصادر:

    The Effect of Elections on Postconflict Peace and Reconstruction on JSTOR

    Rushing to the Polls: The Causes of Premature Postconflict Elections – Dawn Brancati and Jack L. Snyder

    Time to Kill: The Impact of Election Timing on Postconflict Stability – Dawn Brancati and Jack L. Snyder

    Timing and Sequencing in Post-Conflict Elections – Reilly, B.

تلفزيون سوريا

——————————————-

الأكثرية التي تحتاجها سورية/ سوسن جميل حسن

24 ديسمبر 2024

لم يسقط النظام السوري، نظام الأسد، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، بل سقط في الواقع منذ عقود. أمّا لحظة انهياره المدوّية فكانت في ذلك اليوم. نظام كان يحمل بذور سقوطه منذ تأسيسه، باحتكار السلطة لصالح حزب وحيد، اعتلاه فرد مارس سلطته بالقمع والقوة والقبضة الأمنية، وقامت على الفساد والمحسوبيات وانتهاك دعائم الدولة الحديثة التي كان يدّعي أنه يديرها ويحميها، وبإقصاء الشعب عن المشاركة في القرار وفي صنع السياسات الداخلية والخارجية، وزجّ المجتمع في حالة استنقاع مديدة صدّرها إلى الرأي العام المحلّي والخارجي حالةً من الاستقرار. وعندما وصل مرحلة الانهيار، لجأ من أجل بقائه في السلطة وحماية نفسه وملكيته إلى البطش بأعنف أشكاله، وإلى استدعاء الخارج لحماية عرشه، وسقط القناع الأخير ليظهر أنه لم يكن إلّا عدوّاً للشعب.

سورية، بعد سقوط الاستبداد المديد، منهكة. لقد خلّف النظام وراءه دولةً منهارةً ومجتمعاً متهتكاً، بعدما دقّ خلال العقود الخمسة الماضية أسافين بين مكونات الشعب من أجل أن تبقى يده مبسوطةً فوق الجميع، فإذا بالمجتمع يُقسّم بين فئات، وتترسخ مفاهيم لا يمكن أن تلائم مفهوم الدولة الحديثة، ولا المجتمع المدني، وصار ينظر إلى الشعب السوري أقلياتٍ وأكثريةً، وحُجّم في هذه الدائرة الضيقة، مع أن هذه المكونات كلّها هي أصيلة في النسيج السوري التاريخي، بل تسرّب هذا الفهم للمجتمع إلى نفوس شريحة كبيرة فأصبحت غير قادرة على رؤية الحياة مع شركاء الوطن إلّا من خلال هذه الزاوية.

لم يعد مفهوم الحقوق الإنسانية التي تكفلها دساتير الدول الحديثة يقوم على المساواة، كما يفترض في دولة المواطنة، بل أصبحت الحقوق شرائحَ ومستوياتٍ ما دام أن هناك أقلّيات وأكثرية وفق تصنيف ديني أو قومي، وطالما كان منتهى مطالب الشعب إضفاء الشرعية الكاملة على الأقلّيات كي تنال حقوقها، وترتفع إلى مستوى الأكثرية. بينما تعني المواطنة أن كلّ فرد عضو في المجتمع، له حقوق وعليه واجبات، يتساوى فيها مع جميع المواطنين، وليس على أساس هُويَّة دينية أو قومية أو عرقية أو جندرية أو مالية أوغيرها.

كان النظام المارق يمارس طغيانه واعتداءه على الشعب كلّه، فكان الشعب يتشكّل من أكثرية مسلوبة الحقوق والكرامة، وأقلّية مستفيدة من فساده، ربطت مصالحها به. كان ينتهك المواطن في الأساس، وأول انتهاك للمواطن والمواطنة كان ترسيخ تفصيل المجتمع على أساس جماعات دينية وطائفية وإثنية وقومية، ما أدّى مع الوقت واستمرار معاناة الشعب وتفاقمها إلى تراجع المجتمع (في قسم كبير منه) إلى مرحلة ما قبل الدولة، والتمسّك بجسد الجماعة التي ينتمي إليها الفرد كي تحميه من الآخر، الذي هو شريكه في الوطن والتاريخ.

الأكثرية المنتجة التي يمكن أن يبنى على أساسها وطن معافى، ودولة قوية، ومجتمع حيّ، هي الأكثرية التمثيلية التي تأتي بانتخابات حرّة نزيهة يمارس فيها كلّ مواطن حقّه وواجبه الانتخابي، هذه هي الأكثرية التي تعبّر عن حيوية المجتمع وقدرته على الحياة والتطوّر ومواكبة العصر. الدولة الحديثة، التي أظهرت أنها الأكثر قدرة على الديمومة والاستقرار، تقوم على دعائم أساسية تحقّق المساواة لجميع المواطنين من حيث الحقوق والواجبات، فيخضعون بالتساوي إلى القوانين، لا تمنح رجال الدين أو العسكريين أيّ سلطة على المجتمع، أو تميّزهم من باقي المواطنين، وتفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.

سورية اليوم ليست في أحسن حالاتها، بل هي خارجة من معاناة مديدة وقاسية، لديها جبال من المشكلات المتجذّرة، لن تكون مهمّة مواجهتها سهلةً أمام أيّ حكومة تدير البلاد حالياً، ليست مشكلات محلّية فحسب، بل تحدّيات خارجية بوجود أطراف دولية وإقليمية كانت تدير الأزمة منذ سنوات. وسورية اليوم أمام تحدّ وجودي كبير، ما جعل القلق والخوف يسيطران على نفوس الشعب المنهك، الخوف من المستقبل الغامض إلى هذه اللحظة. أكثر ما يحتاج إليه الشعب حالياً هو طمأنته بالنسبة إلى المستقبل، هذا لا يتحقّق إلّا بأفعال تترجم في الواقع.

ما أظهره أحمد الشرع (إلى كتابة هذه السطور)، في خطبه ومقابلاته، أنه براغماتي يعرف كيف يحاور ويرسل الرسائل المطمئنة إلى الغرب تحديداً، في سعي إلى انتزاع الاعتراف بحكومته المنتظرة، ما يترتّب عليه فتح أبواب تنقل سورية إلى مرحلة التعافي، لكن هناك غموضاً في قضايا معيّنة تُبقي على القلق والترقّب حاضرين في نفوس السوريين، خاصّة إذا ما توقّفوا عند التشكيلات الحكومية الحالية التي استأثرت بها مجموعة هيئة تحرير الشام، والخطاب الذي يتوجّه به بعض ممثليها إلى الرأي العام، كقضايا المرأة والحرّيات وشكل الدولة المنتظرة، وهي خطابات، إن لم تكن صريحةً، فهي مواربة، لكنّها تشفّ عن توجّه يقيّد الحرّيات ويُقصي المرأة من الأدوار القيادية في الدولة والمجتمع.

ما تحتاجه سورية من أجل بث الطمأنينة قبل كل شيء، وضمان إقبال السوريين على تقديم رؤاهم ومشاركاتهم في العتبات الأساسية لبناء سورية الجديدة (الدستور)، هو مؤتمر وطني تدعو إليه الحكومة من أجل طرح الرؤى والوصول إلى التأسيس لهذه العتبة. لا يكفي أن تكون مهمّة صياغة دستور للبلاد بين أيدي الخبراء والمتخصّصين فحسب، بل يتعلّق الأمر بماهية الجهة التي تشكّل اللجنة، فهذا الأمر التأسيسي يحتاج إلى مشاركة الشعب في اختيار هذه المجموعة من الخبراء والمتخصّصين، لتترجم تصوره عن دولته المستقبلية.

عندما تساهم مكونات الشعب كلّها في صياغة الدستور، ويطرح للاستفتاء، وينال الأغلبية، عندها يكتسب الشرعية، ويصير ملزماً للحكومات المتعاقبة، التي تأتي بانتخابات حرّة نزيهة، وعندها يصير هناك تداول للسلطة التي تخضع لمراقبة ومحاسبة مجلس الشعب المُنتخَب بحرّية ونزاهة أيضاً، يتمثل فيه الشعب من طريق ممثّليه، يُطرح فيه كلّ مشروع للتصويت، فإن حظي بتأييد الأكثرية أصبح قانوناً، من دون أن نهمل دور المعارضة وأهميتها في البرلمانات المنتخبة في الدول الحديثة، الديمقراطية منها على وجه الخصوص، التي يكمن دورها في مراقبة أداء الحكومة الحالية ومنع الخطأ أو الجنوح.

هذه هي الأكثرية والأقلية التي يحتاجها الشعب السوري كي يحمي نفسه من أزمات إضافية تعوقه في طريق التعافي والنهوض من أجل بناء دولته من جديد، هذا لن يتحقّق من دون دولة مواطنة تكون على مسافة واحدة من جميع مكوّنات الشعب، لا تتدخّل في الأديان، ولا تفسح مجالاً لها في صناعة السياسات، وتعزّز مفهوم المساواة فلا تجعل من المعتقدات الدينية أداةً للتمييز بين المواطنين.

ليس من الحكمة تقويم نظام الحكم المنتظر في سورية في هذه اللحظة، لكن مراقبة الأداء والخطاب ضروري، فالمطالب الشعبية بدأت تعبّر عن نفسها بمظاهرات انطلقت في دمشق وبعض المدن الأخرى، غالبيتها من شرائح عمرية شابّة، تطالب بدولة علمانية، وعلى الإدارة الحالية أن تراقب الشارع وتلمس نبضه وتطلّعاته، وتضع مفهوم الأكثرية والأقلّية في مكانه الصحيح؛ تمثيل رغبات الشعب وطموحاته.

العربي الجديد

————————–

ملاحظات/ سمير سليمان

بدأ الشيطان يطل بقرنيه في الساحل السوري ضد التغييرات الثورية الجارية.

تخلصنا من الأسد, ولكننا لم نتخلص بعد من الأسدية.

النظام الأسدي البائد تكسرت أضلعه وتحطم عموده الفقري. ولكن الأسدية في العمق الإجتماعي, وتحديداً في القطاع الأوسع من البيئة العلوية, وخصوصاً تلك الفئات التي تجمع بين ريفيتها الثقافية وارتباطها المعيشي بنظام الأسد البائد وتأقلمها المكتمل مع أسلوب الفساد والإستبداد, لاتزال تحيا, مثل وحش مذعور ولكنه لايزال يقاوم .

هذه بيئة أصلح ماتكون للتحشيد الطائفي ولصناعة طوق نجاة للقتلة والمجرمين المختبئين في صفوف هذه البيئة الإجتماعية المتوترة .

ولقطع الطريق على احتمالات تفشي العنف المسلح وانتشار الفوضى التي يحلم بها بقايا النظام الأسدي البائد, ينبغي على الحكومة المؤقتة الإنتقالية العمل بسرعة على حل مشكلتين قائمتين وتشكلان التربة الخصبة لنشاط الفلول الأسدية في البيئة العلوية:

المشكلة الأولى هي انتشار الجريمة, غير المنظمة بعد, وخصوصاً السرقة ونهب الأموال والملكيات الخاصة والعامة, وباستعمال السلاح في أحيان كثيرة, مما أفقد الأهالي الشعور بالأمن والأمان, وربط هذه الحالة بغياب النظام الأسدي وقدوم ” الإرهابيين ” بحسب وعيهم المحطم طائفياً, وبموجب خطاب طائفي تحشيدي بدأ يطل برأسه من قبل مسؤولين سابقين ومجرمين فارين ومذعورين من إمكانية محاكمات عادلة تطالهم. حالة الذعر هذه, والقائمة على فوبيا وأوهام مرضية ومزمنة, تنتشر باطراد مع انتشار الفوضى وجرائم السرقة والتشليح وبقاء فلول الشبيحة منتشرة وتنشط دون رادع.

المشكلة الثانية هي الحالة الإقتصادية والمعيشية المزرية التي يعيشها معظم الناس هناك. هذه حالة تغذي انتشار الجريمة, وتزيد من قلق الناس, وتباعد أكثر بينهم وبين السلطة الجديدة, وتمنح أرضية مادية صلبة لدعاة الرفض والتحشيد الطائفي.

هاتان المشكلتان, الأمن المتعلق بالملكيات الشخصية وبالحياة الشخصية, والأمن المعيشي المتعلق بتوفير متطلبات العيش واستمرار الحياة الطبيعية, هما قرنا الشيطان الذي قلت أنه بدأ يطل في مجتمع العلويين في مدن وأرياف الساحل السوري.

الفيس بوك

—————————-

الأساسيات: ما يجب البدء به أولًا/ رشا عمران

2024.12.24

“كما لو أنه انفجار بركاني، وكما لو أن البشر خرجوا من فوهة البركان”، كان هذا هو الوصف الذي أطلقته على السوريين صديقتي السورية التي عادت إلى دمشق في اليوم التالي لفرار المجرم الوضيع، لتغطي لوكالة الأنباء التي تعمل بها تفاصيل اليوميات السورية بعد السقوط. تقول صديقتي: كيفما التفتِ ستجدين مظاهرات واعتصامات، وأينما ذهبتِ ستقابلين مجموعات تستعد لإطلاق مبادرة أو حزب أو تجمع، وتتساقط عليكِ البيانات من كل حدب وصوب. الجميع يتحدثون بالسياسة ويناقشون مستقبل البلد، والجميع يحلمون بشكل الدولة التي يريدونها ويحاولون الدفاع عن وجهة نظرهم وأحلامهم ورؤيتهم. الجميع يتنفسون الصعداء رغم القلق والخوف، كما لو أن صخرة صماء قد انزاحت عن صدورهم.

وفي الحقيقة، هذا ما نشعر به نحن أيضًا، الذين لم تتح لنا الظروف عودة سريعة إلى بلادنا. هذا ما نفعله جميعًا نحن في الخارج حين نلتقي وجهًا لوجه أو حين نتواصل افتراضيًا. لا يوجد حديث يخرج عن دائرة سوريا حاليًا بين السوريين. ما من سوري يستخدم وسائل التواصل هذه الأيام إلا ليكتب وجهة نظره عما يحدث وعما يجب أن يحدث، أو ليقرأ ما يُكتب عن سوريا أو يتابع آخر التقارير الصحفية ونشرات الأخبار. فجأة، عادت سوريا لتكون حديث العالم، والأهم أنها عادت لتكون وطن السوريين الذين، لأول مرة منذ ما يقارب القرن من الزمن، يشعرون أنهم أبناء وطن ينتظر منهم كل ما يمكنهم أن يقدموه له، لا مجرد رعايا ومرابعين في مزرعة تمتلكها عائلة ما وتعاملهم كالعبيد.

الحرية مسؤولية. تكاد تسمع هذه الجملة على ألسنة الجميع، وتكاد تقرأها في كل ما يكتبه السوريون. إذ إن الثمن الذي دفعه الشعب السوري مقابل هذا اليوم كان ثمناً باهظًا جدًا، باهظًا إلى حد لا يمكن نسيانه أو القبول بأنصاف حلول للمستقبل السوري، أو فقدانه نتيجة استهتار بالحرية التي امتلكها أخيرًا، أو التصرف بها بوصفها استحقاقًا فرديًا لا جمعيًا ووطنياً. وهذا ربما أيضًا ما يجعل الجميع في حالة تأهب تجاه كل خطأ يحدث، خشية فقدان هذه اللحظة أو استعادة المنظومة الماضية التي كادت أن تفتك تمامًا بالوجدان السوري، لولا أن جاءت الظروف والمصالح والتقاطعات الدولية لأول مرة في صالح هذا الشعب.

لو قضينا سنوات نحتفل، نحن السوريين، بهذا الخلاص لما اكتفينا. فما تَبدّى من إجرام النظام وفساده وعمالته وخيانته يكاد يفوق الوصف حقًا. والحقيقة أن ذلك فاق توقعات حتى أشد معارضيه جذرية وأكثرهم معرفة بمدى إجرامه. إذ لا وصف لماهيته ومنظومته الإجرامية. لا كلام قادر على شرح أو التعبير عن هذا الفجر في الإجرام، ولا خيال يمكنه أن يصل إلى خيال جلادي النظام وتفننهم في تعذيب ضحاياهم.

وهذه ربما أولى التحديات في سوريا الجديدة التي سوف تواجه السوريين: كيف سيتم احتواء غضب أهالي ضحايا التعذيب والمختفين والمغيبين؟ وكيف سيتم الاعتناء بالمفرج عنهم من المعتقلات والسجون السورية، وكلهم خرجوا وهم في حالات نفسية وصحية بالغة السوء، وتحتاج إلى فرق عمل طبية من كل الاختصاصات لتتمكن من إعادة تأهيلهم واستعادة حياتهم الطبيعية؟ هذا تحدٍ كبير يوازي تحدي ملف العدالة الانتقالية، وهو أكثر ما يثير الجدل بين السوريين حاليًا، حيث يطالب البعض بعفو عام يتمكن من خلاله من تبقى من المجرمين من النجاة، وهو ما يبدو مناسبًا لما يريده المجتمع الدولي.

لكننا نعرف، نحن السوريين، أنه بلا عدالة انتقالية ومحاسبات قانونية للمرتكبين والمجرمين المتورطين في تعذيب السوريين والتفنن بطرق قتلهم وامتهان كراماتهم، فإن سوريا سوف تعيش على قنبلة ضخمة من الغضب والحقد، لا أحد يعرف متى ستنفجر. ثمة تجارب دولية سبقتنا في موضوع العدالة الانتقالية، لا يعيب السوريين استعارتها والاستناد إليها لتحقيق العدالة.

وهو ما يجب أن يعيه الجميع، سواء القيادات التي سوف تستلم السلطة أو السوريون الذين سيحاولون حماية المجرمين والمرتكبين من المحاكمة. ذلك أنه ما من شيء يمكنه حفظ وصيانة السلم الأهلي وإعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري سوى كشف كامل لكل ما حدث في المرحلة الماضية، وتقديم المرتكبين للعدالة، والطلب من المجتمع الدولي تسليم كبار المجرمين الذين فروا خارج سوريا يوم فرار الأسد.

ثمة مواضيع خلافية كبيرة بين السوريين عززها استلام هيئة تحرير الشام، ذات التاريخ الجهادي، للسلطة المؤقتة. يشعر كثير من السوريين اليوم بالخوف من فرض نظام إسلامي على الطريقة الإيرانية أو الأفغانية، نظام لا يراعي التنوعات والاختلافات بين السوريين. بينما يعتبر آخرون، وهم أيضًا كثر، أن سوريا بلد إسلامي ذات أغلبية تنتمي لمكون واحد، وهي من انتصرت الآن، وبالتالي من حق المنتصر أن يفرض شروطه.

والحال أن الطرفين محقان فيما يعتقدان، لولا أن تجربتي إيران وأفغانستان قد مضى عليهما زمن طويل جدًا، تغيرت فيه التحالفات الدولية ومنظومات الحكم في العالم. دخلت البشرية في عالم ما بعد الحداثة الذي سوف يفرض على دول مثل إيران وأفغانستان التغير قريبًا، ما يبعد قليلًا شبح هذا السيناريو عن سوريا. كما أن افتراض أن الأكثرية السورية هي كتلة واحدة متجانسة هو افتراض خاطئ جدًا. ذلك أنه بقدر التنوع في مكونات الشعب السوري، فإن التنوع في الأكثرية أشد تركيبًا. ومن الأكثرية نفسها سوف يتم رفض أي مشروع لتحويل سوريا إلى دولة دينية منغلقة.

هذا الخلاف الذي يظهر الآن بين السوريين يمكن تأجيله قليلًا، برأيي الشخصي، طالما أن هناك دستورًا جديدًا سوف يُصاغ بعد حين. يمكن تأجيله لصالح ملفات أكثر ضرورة وإلحاحًا حاليًا. فالفراغ الذي تركه هروب بشار الأسد كان مهولًا، ذلك أنه برحيله اختفت الدولة تمامًا: لا جيش، لا شرطة، لا مؤسسات، لا خدمات، لا دوائر حكومية، لا شيء على الإطلاق.

يضاف إلى ذلك تردي الوضع الخدمي من محروقات وكهرباء وماء، مع عجز الموازنة وفقدان احتياط البنك المركزي من العملة الصعبة، وإغراق السوق بعملة دون رصيد، وتدمير الأراضي الزراعية، وانتقال الصناعيين بمعاملهم ورؤوس أموالهم إلى خارج سوريا، إضافة إلى الدمار الكامل الذي لحق بأحياء وقرى وبلدات ومدن يجب الإسراع في إعادة إعمارها لضمان عودة سكانها إليها، كي يتم إغلاق ملف اللاجئين، وهو أحد أكثر الملفات السورية أهمية.

سوريا بلد مدمر بالكامل. هذه هي الحال باختصار، والسوريون يجدون أنفسهم اليوم أمام واقع شديد التعقيد: البدء من الصفر في كل شيء، بدءًا من الخبز والمياه والكهرباء، وانتهاءً بالتسليح بعد استهداف دولة العدو منظومة السلاح السوري والقضاء عليها بالكامل. وفيما بينهما، هناك أساسيات كالدستور وشكل الدولة، وبناء الثقة بين السوريين للحفاظ على السلم الأهلي، والسياسة الخارجية، والاقتصاد، وإعادة الإعمار، وتأسيس الجيش، وضبط السلاح، وحل الميليشيات، وحسم موضوع الأكراد وإعادة مهجريهم إلى بيوتهم وأراضيهم، وتجنيس “البدون” منهم، والتعامل معهم بوصفهم أحد المكونات السورية المتعددة.

إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، لا سيما القضاء والتعليم والصحة، ولكم أن تضيفوا ما شئتم من أساسيات بناء الدول. كل هذا تقع مسؤوليته على الإدارة السياسية والعسكرية والاقتصادية التي ستحكم سوريا وتحدد علاقاتها مع المجتمع الدولي بما يضمن نهضتها ووحدة أراضيها.

هناك مسؤولية تقع أيضًا على السوريين أنفسهم، تبدأ بمحاولات عودة المغتربين والمنفيين، حسب القدرة على ذلك، والبدء في بناء مؤسسات المجتمع المدني والهيئات السياسية والثقافية والفكرية، وتنشيط العمل السياسي عبر تشكيل الأحزاب، ومحاولة ردم الفجوة بين المثقفين وباقي الشعب لإعادة الاعتبار للنشاط والنضال المدني والحقوقي والفكري.

قد يبدو ما سبق بالغ الصعوبة ويحتاج زمنًا طويلًا وجهدًا عظيمًا، لكن السوريين أثبتوا خلال السنوات السابقة قدرتهم على خلق البدايات المثمرة من الصفر، والنجاحات التي حققوها في مجتمعاتهم الجديدة تشهد على ذلك.

تلفزيون سوريا

—————————-

الشرع المقيم بقصر الشعب: تحولات للاحتضان الخارجي وولاءات الداخل/ منير الربيع

الثلاثاء 2024/12/24

في الطريق إلى القصر الجمهوري في دمشق، أي قصر الشعب، الواقع على إحدى التلال المقابلة لجبل قاسيون. ينفتح الاوتستراد الواسع على حركة مرور كثيفة. يقول السائق، “أيام حافظ الأسد، وفي فترات من عهد بشار الأسد، كان هذا الطريق مقفلاً، ويُمنع المرور عليه من قبل المدنيين، هذا أحد أجمل الشوارع في دمشق وكنّا محرومين منه”. لدى الوصول إلى مدخل القصر، يشعر السائق بكثير من الارتباك، إنها المرّة الأولى التي يصل فيها إلى تلك النقطة، يسأل بعض العناصر المولجين بالحماية عن كلمة السرّ واسم الشخص المنسّق معه للدخول. هناك سيارة ذات لوحة عائدة لـ”إدلب” تشق لك الطريق إلى أمام باب القصر، السائق لا يصدّق أنه وصل إلى هذه النقطة، ويقول “كنّا نخاف المرور من هنا”.

أهل الشام

في الداخل سكون عميم. قصر ضخم متفرّع بأجنحة وآفاق واسعة. شبان يتولون مهمة الاستقبال، كما معظم المحيطين بأحمد الشرع، هم بعمر الشباب. في قاعات الاستقبال وفود من مناطق مختلفة، أبرزهم كان وفد من وجهاء دمشق، مثل هؤلاء يحضرون دوماً في القصر، ويحرص الشرع على إبقائهم في محيطه. هو في الأساس، كان قد ربط علاقة قوية بالكثير من “أهل الشام” الذين انتقلوا إلى إدلب بالسنوات الماضية، وهم يرافقونه حالياً في دمشق. بعض وجهاء دمشق يشاركون في الكثير من الاستقبالات. يأتي الشرع إلى دمشق محمّلاً بتجربة يرى فيها نجاحاً من خلال إدارته على مدى السنوات الماضية لمحافظة ادلب، سياسياً، أمنياً، عسكرياً، واقتصادياً.

ففي السياسة، نجح في عقد تحالفات كثيرة لتعقد العصمة له هناك، وصولاً إلى لحظة التوسع من إدلب إلى حلب وحماه، وبعدها حمص ودمشق. أمنياً وعسكرياً، مارس القوة ليتمكن من الحفاظ على قوته وضبط الأمن، وخاض مواجهات كثيرة مع متطرفين كثر من الذين استمروا على فكرهم القاعدي. أما اقتصادياً، فهو راكم على تجارب متعددة، العلاقة مع تجار الشام وحلب الذين انتقلوا إلى ادلب، والاستفادة من الفرص التركية المتاحة، إذ أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في إدلب كانت أفضل من دمشق.

الاحتضان والتأييد

يغصّ القصر الجمهوري في دمشق بوفود كثيرة، وزيارات ديبلوماسية تشير إلى إعادة الحيوية السياسية إلى سوريا، ما يوحي بالكثير من الانفتاح على الإدارة الجديدة، غربياً وعربياً، ليبدو وكأن الرجل يحظى باحتضان، تأييد، وفرصة تعطى له لإدارة سوريا في المرحلة المقبلة.

تأتي الوفود محمّلة بتساؤلات، وملاحظات، حول شكل الحكم، والمرحلة الانتقالية، وآلية إدارتها، وكيفية توفير الضمانات للأقليات ومختلف المكونات، وغيرها من الطروحات. يبدو الشرع كثير الاستماع، وهو في العادة مقلّ في الكلام. يشير المشهد إلى مسارعة إقليمية ودولية للتعامل مع الواقع الجديد، واحتضانه حتى وتوفير سبل الدعم. بالإضافة إلى وجود طموحات استثمارية كثيرة لدول وشركات عالمية، تعتبر أن سوريا سوقاً كان مغلقاً وأصبح الآن مفتوحاً، وهي أرض بمقدار ما هي خصبة، يبقى فيها عطش كبير لأي استثمار خارجي.

بعد انتهائه من الاستماع، يحصر الشرع أفكاره ببضعة جمل، فيقدم الإجابات الوافية. وفي أماكن أخرى يستطرد في الشرح لدى تقديمه رؤية سياسية تتوزع ما بين الوضع السوري الداخلي والخارجي، ليظهر بأنه يمتلك إلماماً واسعاً في الملفات المتشعبة، ويعتبر أن نجاح الثورة السورية جنّب المنطقة والعالم بذور حرب عالمية ثالثة، بنتيجة التداخل والتصارع والتقاطع بين دول وقوى عديدة فوق الأراضي السورية. ينتقل ليقول إن ما يسعى إليه هو تكريس سوريا الموحدة، التي لديها علاقات جيدة مع الجميع، بناء على مشروع وطني سوري، وليس ربطها بمحاور أو قوى إقليمية. يبدو واثقاً من نفسه ومن مشروعه، والذي يرتكز على رفض أن تكون سوريا ساحة، أو مقراً أو ممراً لعمليات أو سياسات تهددها أو تهدد الدول الأخرى.

تركيا وقطر

الرجّل معتد بنفسه، في كل إجاباته لوفود رسمية، أو غير رسمية، يبدو واضحاً في رفض الظهور بأي موقع ضعيف، ويرفض أن يظهر وكأنه “مُهَيمنٌ” عليه. يخرج مجالسه بانطباع أنه قارئ جيد للتطورات الإقليمية والدولية، وأنه عرف كيفية استغلال الظرف الدولي والإقليمي للقيام بخطوته الأخيرة وتوجيه الضربة الكبيرة للنظام السوري والوصول إلى دمشق. ما توحي به الأجواء في دمشق، وبفعل الاندفاعة الدولية والعربية، أن لا أحد يريد لسوريا أن تعود ساحة صراع متفجر تطال شظاياه كل المنطقة. وهذا ما يعرف الرجل كيفية المراكمة عليه.

ومما لا شك فيه أن هناك انطباعاً بالتقدّم التركي الذي أحرز في سوريا، وهو يحرص على العلاقة الممتازة مع أنقرة، وذلك ترسمه ملامح اللقاء والعناق بينه وبين هاكان فيدان. وتتوالد قناعة أخرى أن أنقرة هي الداعم الأساسي سياسياً، وعسكرياً، في مقابل أن قطر ستكون حاضنة ورافعة اقتصادية كبرى لسوريا. في المقابل، ثمة حرص لديه على فتح العلاقات مع كل الدول الأخرى العربية والإقليمية. هو يعرف جيداً حساسية واستراتيجية وأهمية موقع سوريا في المنطقة، وأنها ستكون مقصداً لدول كثيرة، ولا يبدو أنه في وارد إضاعة أي فرصة. وفي هذا السياق تأتي زيارة وفود عربية، من قطر، السعودية، الأردن ومصر.

الوضع الخارجي يبدو جيداً، بينما التحديات الأكبر تبقى داخلية، ولا سيما في آلية إدارة المرحلة الانتقالية، وتشكيل اللجنة التي ستعمل على تشكيل الدستور. وهو قد بدأ بعقد لقاءات مع مكونات مختلفة، لاختيار ممثلين منها لصياغة الدستور الجديد، ولدى السؤال عن الذين ستتشكل منهم اللجنة، يأتي الجواب بأنهم سيكونون من الأكفاء والاختصاصيين ومن اتجاهات مختلفة. في هذا المجال، يرفض الرجل الدخول في التفاصيل، ويفضل إحالة هذه المسائل إلى أهل الاختصاص، كما يقول.

بناء الجيش

ينهمك في كيفية إعادة بناء الجيش، وحلّ الفصائل. وقد أعلن أن هيئة تحرير الشام مستعدة لحلّ نفسها بداية، على طريق البدء بتأسيس جيش وطني جديد، يقول ذلك في محاولة لإقناع كل الفصائل الأخرى، وسط تضارب في الآراء والتوجهات بين معالجة كل المشاكل الأمنية والعسكرية قبل حلّ الجيش، أم بعده. كمثل الجيش الوطني في الشمال والذي يفضل أن يؤجل عملية الاندماج في الجيش الوطني إلى ما بعد حلّ قوات سوريا الديمقراطي لجناحها العسكري. كما هناك آراء تشير إلى أن الجيش السوري والذي كان خاضعاً لإمرة نظام الأسد لا يزال موجوداً ويحتفظ بقدرات، غالبيتها تتركز في البيئة “العلوية”. هنا يبرز رأي بأن لا يتم حل الفصائل قبل الوصول إلى صيغة واضحة لمعالجة مراكز القوى داخل القطع العسكرية المختلفة، وهو ما سيتركز عليه الحوار بينه وبين وجهاء الطائفة العلوية. اذ وجه لهم دعوات لعقد لقاءات معهم. وهم يقدمون الكثير من المطالب، حول حماية وضعهم ووجودهم ودورهم، فيما هو يؤكد أنه يرفض لغة الثأر والانتقام، وأنه يهتم ويركز على مرحلة بناء الدولة، وهذه تقتضي أيضاً من وجهاء الطائفة العلوية المساعدة في سبيل تسليم الكثير من المطلوبين والمتورطين بارتكابات كثيرة، مع تعهد بمحاكمتهم من قبل القضاء. لأن ذلك سيكون المدخل الصحيح لإرساء التوازن ومنع حصول الكثير من الإشكالات أو الصراعات.

يظهر الرجل بأنه حريص على كل المحيطين به، ويعطي الفرصة لجميع من والاه وناصره على مدى السنوات المقبلة. يريد لهذه الأشهر الثلاثة أن تكون كذلك، لكنه في المقابل لا يبدو متسامحاً مع أي خطأ يمكن أن يقدم عليه أحد المسؤولين لديه. وقد اتخذ قرارات كثيرة بهذا الشأن. يتعاطى معه الناس، والديبلوماسيون بأنه الحاكم الفعلي لسوريا، وهو سيكون كذلك كقائد عسكري وصل إلى دمشق وحررها، ويسعى إلى توحيد سوريا. لكنه أيضاً يبدو واضحاً في حاجته إلى ضم الجميع إلى جانبه، وهو ما سيكرّس لاحقاً تغييراً في الكثير من الوجوه المحيطة به.

المدن

———————————–

العودة إلى دمشق: المدينة التي كرهتها وأحببتها دوماً (1)/ يوسف بزي

الأربعاء 2024/12/25

صباح السبت، أتهيأ للانطلاق إلى دمشق. تأتي فيروز مغنيةً “نبي” جبران من مصدر مجهول في الشارع. هذه الصدفة تجعلني أشعر أني وصلت إلى دمشق بغمضة عين. فالعاصمة السورية (أكثر بكثير من بيروت) لا تستيقظ إلا على صوت فيروز. الصباح الدمشقي فيروزيٌ كتقليد متعصّب، راسخ وقديم.

تلك إشارة غامضة، مشجعة على رحلة مؤجلة منذ 20 عاماً إلى المدينة التي وقعت في غرامها وكرهت حالها في آن معاً، منذ زيارتي الأولى عام 1988. آنذاك، كانت المدينة المترامية التي تغلب عليها أناقة الماضي والإلفة والسهولة، تهيمن عليها أيضاً مشاعر قابضة للأنفاس، علامات غامضة على انحباس الزمن، إشارات من الصعب تعيينها تدل على صمت قسري وعلى توتر في التعبيرات العمرانية وهوياتها الهندسية، وانقباض في الأجساد التي تتحرك في الفضاء العام. بدت دمشق دوماً بالنسبة لي، مكان تتصارع فيه تواريخ سياسية متعادية. فالعمران المنتمي هو وسكانه إلى الحقبات العثمانية لا يزال سياسياً مشدوداً إلى ثقافة ووجدان وتقاليد وتعابير متمنّعة تماماً ومنفصلة نسبياً عن الأمكنة “الحديثة” التي تحمل معالم البرجوازية الناشئة في الأربعينات والخمسينات وحتى مطالع الستينات، والتي تحمل أيضاً علامات تبني تقاليد وأساليب عيش وطقوس المجتمع الحديث ومظاهره. وهي بدورها تبدو متنافرة مع العمران والاجتماع الذي نشأ وفق هندسة سياسية بعثية وهجينة، علامتها الأساسية البشاعة والضخامة والتقشف الجمالي. “حداثة” مستلهمة من هندسة سوفياتية منحرفة وشديدة التشوه، تدّعي الاشتراكية والتعريب.. و”الأصالة”.

مع ذلك، كانت دمشق بالغة الرحابة بهذه الفسيفساء الغريبة، ربما لأن سكانها كانوا واسعي الحيلة في حماية جمالها المخبأ في الأحياء القديمة وأمكنتها العريقة، التي تقاوم الزمن وتتجدد بحرص الدمشقيين على صون هويتهم (السياسية-العمرانية)، وإصرارهم الغامض على التواضع في المعيشة والإلفة الاجتماعية، وسهولة الاختلاط الطبقي مقارنة بالمدن الأخرى.

ما كان يغريني في دمشق، وعلى نحو مفارق، بطء الزمن فيها مقارنة ببيروت. فدوام الأشياء إلى أمد طويل، والهدوء، وحضور الماضي والعتق وانسياب الحياة على مهل، كان يشعر زائرها بالدعة ولطف الوقت.

ما كان يخيفني في دمشق، ومنذ اللحظات الأولى لاجتياز الحدود هو هذا الاستنفار العسكري الدائم، وهذا الحضور الهائل للأنصبة والصور واليافطات والشعارات وأصحاب البدلات العسكرية والحواجز وأولئك الذي تزنر خصورهم المسدسات. وبالطبع، وجه الأسد الأب، المتجهم والقليل التعبير، الفقير الإيحاءات، منسوخ ومتكرر في كل مكان، كعقاب بصري بلا توقف.

كانت دمشق هكذا، مدينة بهية و”محروسة” برثاثة عسكرية، وبفضاء مملوء بالتخويف والوعيد، وبصورة واحدة منتشرة كهيستيريا لبورتريه “السيد الرئيس”. إلحاح عدائي بلا كلل على عدم إغفال ولو لدقيقة وجود هذه الهيمنة الشخصية، القلقة والمرتاعة والمصابة ببارانويا أن ينسى أو يتجاهل مطلق إنسان الحضور الثقيل والمخيف لصنمه.

أكثر ما كان يدهشني في دمشق، لطافة المجتمع ورقيه مقابل قساوة السلطة ووضاعتها. حيوية وإبداعية نخبتها الثقافية وشغف السكان بالقراءة والفنون والمسرح والسينما ورغبتهم الجامحة بكل ما هو جديد وغريب، مقابل تفاهة السلطة وركاكتها الفكرية واللغوية، بل أيضاً انحطاط ذوقها وميلها إلى التسفيل والبذاءة الاجتماعية. وعلى الأرجح، مصدر كراهية النظام لدمشق نابع من شعوره بالدونية إزاءها. وهو بالضبط ما مارسه مع اللبنانيين وللسبب عينه.

بعد عشرين عاماً من الغياب القسري، وبعد 12 يوماً على تحريرها، ننطلق من بيروت إليها. هذه المرة سنعاين الرثاثة التي استحكمت بلبنان على نحو مكثف هنا عند معبر المصنع: عائلات وشاحنات باكتظاظ فوضوي ومنشآت ودوائر رسمية وأمنية ضيقة وقذرة ومتهالكة، وإجراءات غير مفهومة، وضجيج وتقافز، هرج ومرج واستهتار. فشل بيروقراطي وفقر حال دولة وتسيّب سلوكي، يجعل تجربة عبور الحدود مدعاة للشعور بالعار والخجل والتأسف على بلد فقد الكثير من مدنيته.

نقطة “المصنع” ومساربها غير واضحة. كأن ثمة غموضاً متعمداً للدخول والخروج من هنا ومن هناك، على جنباته، ما يوحي أن هذه الحدود ما زالت محكومة باعتبارات كثيرة تعلو اعتبار سيادة ونظامية الحدود برمتها. أو كأن تعديلات سياسية وأمنية وجمركية متراكمة ومتشعبة تجعل المعبر يشبه المتاهة.

آلاف العائلات ومئات الشاحنات محشورة هنا، ورغبة عارمة بالعبور إلى سوريا. بشر يتدافعون ليلاً ونهاراً، وبضائع لا حصر لها تتجه نحو بلد متعطش لكل شيء. كأن سداً كان يحجز سوريا وانهار، فتدفق الناس والأشياء نحوها.

وعلى عكس كل الماضي، نتنفس الصعداء أننا خرجنا من لبنان إلى سوريا. مفارقة سياسية تفضح ما آلت إليه أحوال لبنان. وهذه المرة، لا يجهز السائق علب “المارلبورو” ولا ربطات الخبز، ولا كمشة الليرات، ليوزعها على عناصر حواجز المخابرات والجمارك والجيش السوري. ولا نبدأ بالتوجس من الوقوف في جديدة يابوس عندما كانوا يأخذون منا الهويات، ونروح نتوسوس من أن نستدعى إلى غرفة الضابط، أو أن يتعمد عنصر الحاجز إنزال شابة من السيارة إن أعجبته وأراد أن “يتسلى”.

هذه المرة، سيكون المشهد الأول صورة عملاقة ممزقة للأسد الهارب. شابان من “الإدارة العسكرية” بملابس عسكرية مرتبة. يبتسمان: أهلاً وسهلاً، مع السلامة. وبلا أي سؤال.

على جنبات الطريق سيارة محترقة، وقد غطتها ثقوب الرصاص. بقايا معركة سقوط النظام. ثم بسطات متتالية لعبوات وغالونات البنزين “المستورد” من لبنان، يقصدها الكثير من دمشق وريفها بسبب نقص الإمدادات النفطية في سوريا اليوم.

ينكشف أمامنا الريف الشاسع، كبلاد استيقظت للتو تحت نور الشمس الساطع. فيما تبدو مشاريع إسكان الضباط وعائلاتهم، كلطخة بشعة أو كجريمة عمرانية تذكرنا باقترافات النظام حتى ضد الطبيعة. نقرأ أسماء القرى، فتعود لنا أصداء حرب الجيش الأسدي عليها: هنا حاصر وجوّع، هنا الرصاص الحي بوجه تظاهرة، هنا مجزرة بالعائلات، هنا حاجز الفرقة الرابعة المخيف، هنا اجتاح حزب الله وقصف ودمر. هنا أقام ماهر الأسد أوكاره ومصانع الكبتاغون، هنا أنفاق ومستودعات أسلحة.

ريف شاسع بخيراته، كأنه يبتدئ حياة بلا كوابيس.. بلا حواجز ودوريات رعب، مفتوح لنا بترحيب لا تحفّظ فيه، يمنحنا هواء منعشاً كهدية أولى من هذه الـ”سوريا الحرة”.

وكانت دقات القلب تتسارع، كلما اقتربنا من دمشق.   

(يتبع)

المدن

—————————————

عودة الصراع على سورية/ أحمد طه

25 ديسمبر 2024

وصف مراقبون سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، بعد أكثر من نصف قرن، بأنّه زلزال جيواستراتيجي كبير ستكون له العديد من التوابع والارتدادات في المنطقة، وهو أمر من شأنه تغيير موازين القوى الإقليمية، ممّا سيلقي بظلالٍ كثيفةٍ على إعادة صياغة خريطة التحالفات، وتموضع القوى الإقليمية المجاورة لسورية، التي ستكون في مواجهة موجة الزلزال السوري،لا سيّما الجارتَين الإقليميَتن المتنافستَين إيران وتركيا، اللتَين اتخذتا موقفَين مُتناقضَين تجاه سورية منذ العام 2011 وحتى اليوم، فضلاً عن إسرائيل ذات النزعة العدوانية التوسعية، وهو ما بدا واضحاً في مسلسل الانتهاكات الإسرائيليّة المُتزايدة أخيراً للأراضي السوريّة.

في المقدّمة تأتي إيران التي خسرت حليفها الرئيس في المنطقة، الذي لم تدخّر وسعاً لإنقاذه وبقائه، ودافعت عنه باستماتة ضدّ ما وصفته بـ”المؤامرة والإرهاب”، منذ بداية الحراك الشعبي في سورية في العام 2011، الذي واجهه نظام الأسد بالقتل والتدمير، واعتبرت إيران أن المعركة معركة أمن قومي بالنسبة لها، إلى درجة أنها دفعت بأعداد كبيرة من قيادات وعناصر من الحرس الثوري إلى الأراضي السوريّة، واستقدمت عناصر مقاتلة تابعة لذراعها في لبنان (حزب الله)، فضلاً عن إنفاقها مليارات الدولارات لدعم النظام السوري، فقد كان نظام الأسد جزءاً أساسياً من مشروعها الإقليمي، ومثّل الحلف الأسدي/ الإيراني الذي سُمِّي بـ”محور الممانعة” أقوى الأحلاف في المنطقة، بيْد أن سقوط النظام الأسدي في سورية وجّه ضربةً قاضيةً لمحور “الممانعة”، إذا ما أخذنا في الاعتبار نتيجة المواجهة الحربية بين إسرائيل وحزب الله، وهو ما يعني أن إيران فقدت نافذتها على شرق المُتوسّط، والجسر الذي يربطها بالعالم العربي، وهمزة الوصل بينها وبين ذراعها في لبنان، وهي في المجمَل خسائر استراتيجيّة فادحة.

أمّا تركيا التي تشترك مع سورية في أطول حدود بريّة مُشتركة، فقد أعلنت في 2011 دعمها لـ”حراك الشعب السوري نحو الحريّة”، وطالبت في عدّة محافل دولية بوقف “العنف ضدّ السورييّن”. ويبدو واضحاً من المشاهد المتتابعة خلال الأسبوعَين الماضيَين، أن تركيا أصبحت اللاعب الإقليمي الأكبر تأثيراً في سورية، وهي الطرف الإقليمي الرابح الأوّل من سقوط ما سُمّي بمحور “الممانعة” وتحرّر سورية من القبضة الإيرانيّة، عقب سقوط نظام بشّار الأسد، كما يبدو واضحاً أيضاً أن تركيا هي الراعي الرئيس لأحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) ولتنظيمه المعروف بهيئة تحرير الشام، وهي التي أخذت على عاتقها مهمّة تأهيله وتهذيبه و”عَقْلَنَة” خطابه “الجهادي” القديم، وتقديمه في صورة جديدة مُطوَّرَة للمحيط الإقليمي وللمشهد الدولي، بل وتسويقه للقوى الدوليّة الكبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، لدرجة أن الرئيس الأميركي المقبل، المُنتخَب دونالد ترامب قالها صريحة، إنه يعتقد أن تركيا هي الطرف الفائز في سورية.

خلال السنوات الماضية تدخّلت تركيا عسكرياً في سورية أكثر من مرّة. كانت الأولى في أغسطس/آب 2016، عبر “درع الفرات”، دعماً لفصائل المعارضة السوريّة في مواجهة “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، وطرده من مدينة جرابلس في شمال سورية، أمّا الثانية فكانت في أكتوبر/تشرين الأول 2019، عبر عمليّة نبع السلام في شمال سورية، واستهدفت وحدات حماية الشعب الكردي المكوّن الرئيس لـ”قوّات سوريا الديمقراطية” (قسد)، المتمتّعة بحماية أميركية، والتي تتّهمها تركيا بأنها امتداد لحزب العمّال الكردستاني، الذي تصفه أنقرة بأنّه “منظَّمة إرهابية”، وكانت بهدف تأسيس منطقة عازلة مع سورية، أمّا الثالثة فكانت في فبراير/شباط 2020 عبر “درع الربيع”، ضدّ قوّات نظام الأسد والمليشيّات الموالية لها في إدلب، عقب مقتل 33 جنديّاً تركياً إثر غارة شنّتها طائرات حربية تابعة لقوّات الأسد على نقطة عسكرية تركية.

ويبدو جلياً هنا أن تركيا تخشى خصمَين في حدودها مع سورية، وتعتبرهما مَصدري تهديد لأمنها القومي، هما الخطر الكردي المُتمثّل في الطموحات الكردية ذات النزعة الانفصاليّة، التي تراهن على دعم واشنطن. والثاني ذلك التنظيم التكفيري المُتطرّف المسمى “داعش”، الذي ما زالت فلوله مختفية رغم القضاء على جسده الرئيس.

في منتصف القرن الماضي، سكّ الكاتب البريطاني الراحل باتريك سيل مصطلح “الصراع” على سورية، عبر أطروحته الشهيرة التي قال فيها إن سورية مرآة المصالح المُتنافسة على المستوى الدولي، وإن من يقود الشرق الأوسط لا بدّ له من السيطرة على سورية، بيْد أن هذا المصطلح لا يزال صالحا أساساً للتحليل، وهو ما تؤكّده الأحداث الجارية، فالصراع على سورية مُستعر مُحتدم لم يُحسم بعد، إذ كانت سورية طوال العقد الماضي، بفضل إجرام النظام الأسدي، مسرحاً لتجاذبات وصراعات إقليمّية ودوليّة بين فاعلين رسميّين من قوى إقليمية، بل وقوّات من جيوش نظامية، وآخرين غير رسميّين من جماعات وتنظيمات مسلّحة، متعدّدة المشارب، في مشهد صراعي بالغ التشابك والتعقيد، على درجة كبيرة من السيولة، ومن المبكّر محاولة التنبّؤ بمآلاته، لكن من المؤكّد أن ملامح المشهد السوري الجديد ستحدّد القوى الإقليمية الأقوى في المنطقة.

اللافت هنا أن عملية تبادل أدوار تجري من دون قصد أو ترتيب بين إيران وتركيا داخل المشهد السوري، إذ يأتي الانسحاب والانكماش الإيراني مصحوباً بتمدّد وتوسّع تركي لا تُخطئه عين، وإذا ما وسّعنا دائرة النظر والتحليل فإن هذا يجري في أكثر من بقعة ساخنة في الإقليم، وهو ما لا يتّسع المجال لتناوله تفصيلاً، أمّا المؤسف بحقّ، أن ما يجري في المشهد السوري، رغم تعدّد الفاعلين في مسار الأحداث وتفاعلات الصراع، يأتي في ظلّ غياب عربي شبه كامل، فالعرب لا يعرفون ماذا يريدون في سورية، ولا مَن هو الصديق ولا مَن هو العدو. ولا يعرفون مواطن المصالح أو مصادر التهديد، وهو ما يشي بأن النظام الإقليمي العربي فَقَدَ البوصلة، بل وربّما فَقَدَ الإدراك بما يجري في أرضه، أو الإحساس بالزمن من الأصل.

العربي الجديد

—————————–

ملامح الحراك السوري بعد زوال الأسد/ حسن النيفي

2024.12.24

منذ صباح الثامن من الشهر الجاري، ومع أوّل شروق للشمس على سوريا الخالية من الأسد، تشهد العاصمة دمشق حراكاً سياسياً ودبلوماسياً -عربياً وإقليمياً ودولياً- تزداد وتيرته يوماً بعد يوم، وهذا يؤكّد على أن التحوّلات التي تجري في سوريا لن تنحصر تداعياتها على الجغرافيا السورية فحسب، بل ستترك آثارها على الكثير من دول الجوار أو الإقليم.

لقد كانت سوريا قبل أيام فقط مصدر خوف وحذر بالنسبة إلى الكثيرين، بل ربّما احتار بعض الجوار كيف سيتحاشى بمزيد من التقية ليتجنّب مخاطر (الزعرنة الإيرانية والكبتاغون) التي باتت الأرض السورية الميدان الأرحب لهذا الضرب من النشاط المشبوه أخلاقياً وإنسانياً، أمّا اليوم، فعلى الرغم من فداحة التَرِكة الأسدية المتمثلة بالخراب والبؤس وانعدام معظم مقوّمات الحياة الأساسية، إلّا أن الكثيرين يرون أن هذا الخراب يمكن ان يزول وتتعافى البلاد وتزدهر بهمّة السوريين وعزيمتهم، بل ربما اعتقد البعض أن تحرير سوريا من السلطة الأسدية هو الخطوة الأهم في التحوّل من سوريا (المزرعة أو العقار) إلى سوريا ( الدولة).

حيازة الثقة كسبيل لحيازة الشرعية

من جهتها تبدي السلطة الجديدة في دمشق تفاعلاً إيجابياً مع هذا الحراك، خاصة مع جانبه الخارجي، أي في التعاطي مع الوفود الخارجية ومندوبي الدول، والواضح أن من أولويات الفريق الحاكم هو حيازة الثقة من المجتمع الدولي تمهيداً لحيازة الاعتراف الشرعي بالسلطة الجديدة، وفي الوقت الذي كان من المفترض فيه أن يكون هذا المسعى يجري بالتوازي مع تفاعلٍ مماثل حيال الداخل السوري الذي ينتظر الكثير من حكومته الجديدة، إلّا أن واقع الحال يشير إلى قليل من البطء وربما التردّد في الانفتاح على الفعاليات السورية، السياسية منها على وجه الخصوص.

وربما تجلّى ذلك بوضوح بطبيعة التعيينات والتكليفات التي تظهر تباعاً لمسؤولين يمسكون بمفاصل هامة في قيادة الدولة، إذ إن معظم هؤلاء المُكلّفين هم من لون فكري وسياسي واحد، الأمر الذي ربما أثار الكثير من التساؤلات والهواجس، إذ إن هذا المنحى من السلوك لا ينسجم مع الخطاب الذي حاولت القيادة الجديدة تصديره سواء للخارج أو للداخل.

ويبرّر أصحاب تلك المخاوف توجّساتهم بأن هذا الاعتماد على لون أحادي من حيث المشارب الفكرية والسياسية ربما يوفّر ذريعة لمن يتهيأ لوضع العصي في العجلات، ويكون حافزاً لارتفاع المزيد من الأصوات التي لا تهدف سوى للضجيج من أجل التشكيك والتعطيل، ويستشهد أصحاب هذا الرأي بمظاهرة خرجت في العشرين من الشهر الجاري في ساحة الأمويين بدمشق، لمجموعة من الشبان والشابات وهم يرفعون شعارات تتضمن مطالب بإقامة دولة علمانية وتعزيز حرية العقيدة وعدم فرض قيود على نشاط المرأة وسوى ذلك، علماً أن الكثير من خلفيات تلك المظاهرة ودوافعها وطبيعة القائمين عليها تثير المزيد من الشكوك بمصداقية القائمين عليها، بل تنسف مشروعيتها الأخلاقية والوطنية بآن معاً.

من جهة أخرى، ثمة من يرى أن مجمل ما يجري في حكومة (تصريف الأعمال) فضلاً عن مجمل التعيينات الوظيفية في مفاصل الدولة كالوزارات وإدارة المحافظات والمدن، إنما يأتي في سياق ثوري توجبه الظروف الراهنة التي لا تتيح المجال إلى مزيد من استمزاج الرأي أو مساحة واسعة من الاختيار، خاصة أن تلك العملية محدّدة زمنياً بثلاثة أشهر، لذا لا ينبغي أن تكون معياراً ثابتاً أو دائماً.

وربما ذهب البعض إلى أن هيئة تحرير الشام، ككيان عسكري ينحدر من منظومة إيديولوجية إسلامية تكاد تكون جسور الثقة بينها وبين معظم الفعاليات السياسية في البلاد شبه معدومة، وبما أنها هي التي أنجزت مهمّة التحرير التي أفضت إلى زوال نظام الأسد، فمن الطبيعي أن ترى ذاتها صاحبة الأحقية بتسيير دفّة الحكم، على الأقل في الظرف الراهن، وذلك ربما بسبب خشيتها من يكون أي انفتاح على الآخر قد يفضي إلى اختراقات في بنية السلطة التي ينبغي أن تحافظ على تماسكها وصلابتها في هذا الطور الثوري.

وبغض النظر عن نسبة الصواب في هذا الرأي، فإنّ ما يمكن التأكيد عليه هو أن هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل التي شاركت معها في عملية (ردع العدوان)، لا تملك الكادر البشري اللازم والمؤهل لإدارة سائر المناطق السوريّة، ولعل هذا ما يفسّره بعض البطء في عودة الخدمات الأساسية على العديد من المدن والبلدات، ولا يمكن -بالطبع- إغفال ندرة الإمكانيات والنقص الكبير في المقوّمات المادية لتفعيل الجانب الخدمي كالنفط والمياه والكهرباء ومخزون القمح وسوى ذلك.

ولعله من نافل القول إنّه لا يمكن تجاوز الإرث الأسدي من الخراب والنهوض بالواقع الخدمي وتحقيق تحوّل نوعي في هذا السياق من دون دعم عربي أو إقليمي يمكّن الحكومة الجديدة من الوقوف على مهامها بشكل سليم.

استحقاقات ينتظرها السوريون

على الرغم من تعدد آراء السوريين واختلافهم في تقييم المرحلة الراهنة، إلّا أن الجميع ينظر بترقّب إلى حلول شهر آذار، ليكون الجميع أمام ثلاث محطّات، كانت قد وعدت بها قيادة إدارة العمليات العسكرية، ويمكن أن تكون هذه الاستحقاقات بمثابة امتحان أول لمصداقية الخطاب السياسي للحكومة الجديدة:

    تشكيل حكومة تكنوقراط، لا تحكمها سوى معايير الكفاءة والمهنية، ولا تُستبعدُ منها فئة مجتمعية بدافع العرق أو الدين أو المذهب.

    عقد مؤتمر وطني عام، تدعى إليه جميع الفعاليات السياسية والإجتماعية والاقتصادية والقانونية، ومن كلّ المكونات السورية، بهدف الحوار واستمزاج توجّهات السوريين وآرائهم حول طبيعة الدولة التي يتطلعون إليها وما يتفرّع عن ذلك من تفاصيل تستوجب المزيد من استماع كل طرف للآخر، إلّا أن التساؤل الذي ما يزال قائماً: هل تشكلت اللجنة التحضيرية للمؤتمر العام من أكثر من طيف سوري وفقاً لمبدأ المشاركة، أم أن القيادة الجديدة هي من بادرت بتشكيلها؟.

    كتابة دستور جديد للبلاد، أو تعديل الدستور القائم، والذي من المفترض أن يكون هو العقد الاجتماعي الناظم لعلاقة المواطن بالدولة، وفي هذه الخطوة سيتوضح الكثير ممّا يرقبه السوريون حول ملامح دولتهم التي يتطلعون إليها.

وأيّاً كان الشأن، فإن ما يعيشه السوريون من حراك سياسي وحوارات ساخنة تنوس بين التفاؤل والتوجّس، إنما  يجري في سياقه الطبيعي، بل ربما يجسّد الحالة التي كان يحلم السوريون بممارستها، للتعبير عن آرائهم وحقّهم في المساهمة بصياغة مستقبلهم.

ولا ينتقص من هذه الحالة ازدحام المطالب وربما الاستعجال ببعضها، فذلك أمر في غاية المشروعية، مع ضرورة الانتباه دوماً إلى أن اللهفة العارمة نحو الديمقراطية التي حُرمَ منها السوريون والمثابرة على المطالبة بالحقوق، إنما توجب في الوقت ذاته إجماعاً على دعم مؤسسات الدولة ووحدة بنائها وازدياد تماسكها، لأن الدولة المترهّلة لا تملك أن تمنح مواطنيها ما يريدون.

العربي الجديد

—————————

السوريون بين التطلّع الديمقراطي والواقع المعاش/ عبد الباسط سيدا

24 ديسمبر 2024

ليس النظام الديمقراطي النظام المثالي الذي لا تشوبه أيّ شائبة، ومع ذلك يظلّ (مقارنةً بالأنظمة الأخرى) أفضل الأنظمة الممكنة. والنظام الديمقراطي الفعلي، وليس الاسمي الشعاراتي، يتعارض مع وجود قوىً عسكريةٍ أو مسلّحةٍ مؤثّرةٍ في العمل السياسي، تفرض نفسها وسياساتها بالقوة، ولا تقرّ بالقيم والقواعد الديمقراطية، ما عدا قاعدة الأغلبية الانتخابية، التي غالباً ما تكون، في ظلّ هيمنة القوى العسكرية، وغياب الأحزاب السياسية الشعبية المؤثّرة، سهلة التحقّق لمصلحة الجهة أو الجهات المتحكّمة في السلاح والحكم والثروة والإعلام، لأنّها قادرة على توجيه الرأي العام ضمن إطار هذه الطائفة أو تلك، هذه القومية أو تلك بفعل اعتماد الأيديولوجية الدينية أو القومية وسيلةً للتجييش والتعبئة، والتصرّف مع الطائفة أو القومية، وكأنّهما من ممتلكات القوى المعنيّة، لدرجة أن الأمر قد يبلغ درجةَ تكفير أو تخوين الأصوات المطالبة بحرّية النقد، والقطع مع سياسات القمع والاستئثار بالحكم، ورفض الخضوع لأيّ مساءلة أو محاسبة أمام المؤسّسات الشرعية، التي تمثّل الركن الأساس في أي نظام ديمقراطي.

إلى جانب المؤسّسات الأساسية في أيّ نظام ديمقراطي (البرلمان، مجالس المحافظات والبلديات، الحكومة والإدارات، القضاء… وغيرها)، يستوجب النظام الديمقراطي وجود أحزاب سياسية متعدّدة تمتلك حرّية التنظيم والتعبير وطرح البرامج الانتخابية.

كما أن النظام الديمقراطي يظلّ كسيحاً من دون وجود منظّمات مجتمع مدني فاعلة على اتصال مع مختلف الأوساط والشرائح المجتمعية، ويمكّنها في الوقت ذاته من القيام ببعض المهام التي تهملها الحكومة أو لا تركّز فيها، الأمر الذي يخفّف من أعباء هذه الأخيرة بعض الشيء. من جهة أخرى، تستطيع منظّمات المجتمع المدني نقل آراء الناس وطبيعة معاناتهم ومشكلاتهم إلى الحكومة، والتباحث بشأنها مع الجهات المختصة المسؤولة فيها في إمكانية اعتماد أفضل المقاربات والحلول لمعالجة المشكلات المعنيّة. ويمكن اعتبار النقابات والجمعيات المستقلّة الحرّة النواة الأساسية لأيّ مجتمع مدني يكون في موقع المراقب للحكومة، وعوناً لها في تأمين احتياجات الناس وتخفيف معاناتهم في مختلف الميادين، وفي مختلف المستويات. هذا مع ضرورة الإشارة إلى المخاطر الجدّية التي تتعرّض لها اليوم الأنظمة الديمقراطية الناضجة المستقرّة في العالم، خاصّة في الغرب. ومن أهم هذه المخاطر النزعات الشعبوية والعنصرية والانعزالية.

وبناء على ما تقدّم، نرى أن الدعوات المُطالِبة باعتماد النظام الديمقراطي في مجتمعات لا توجد فيها الأحزاب الفاعلة الراسخة، وتفتقر إلى النقابات ومنظّمات المجتمع المدني المستقلّة القادرة على ممارسة نشاطاتها بكلّ حرّية وأريحية، مجتمعات تعاني غياب وجود قضاء عادل… ما نراه في هذا السياق، أن الدعوات المعنية لا تتطابق مع الواقع المعاش، بل تكون أقرب إلى النزعة التبشيرية التي سادت مجتمعاتنا في ما يتّصل بالأيديولوجية القومية، ومن ثمّ الاشتراكية، وذلك في سياق التقليد الذي عادةً ما يعتمده الضعيف أو التابع في محاولة منه للتشبّه بالقوي أو المتبوع أو الغالب، وقد تناول ابن خلدون (بناءً على تجاربه وخبرته ومعارفه) هذا الموضوع ببراعة منهجية ما زالت تستوقف علماء الاجتماع والباحثين في ميادين العلوم الاجتماعية المختلفة.

ما يمكن أن تبلغه مجتمعات منطقتنا، ومنها مجتمعنا السوري على وجه التحديد، باعتباره الأكثر مناقشة هذه الأيام في مناخات التحوّلات الكبيرة التي شهدها، وسيشهدها في المرحلة القريبة المنظورة، وعلى الأرجح في المراحل المستقبلية، لن يتجاوز حدود الدمقرطة إذا صحّ التعبير. وما نعنيه بذلك الانفتاح على إمكانية الأخذ بالنظام الديمقراطي في الحكم، مع أخذ الخصوصية السورية بعين الاعتبار. ومن المفروض أن تأخذ عملية الدمقرطة هذه في حسابها احترام الرأي الآخر المختلف، والإقرار بحقوق سائر المكوّنات، ومراعاة خصوصياتها، بغضّ النظر عن انتماءاتها الدينية والمذهبية والقومية، وحتى المناطقية. هذا بالإضافة إلى احترام حقّ المرأة في التعليم والعمل والمشاركة الفاعلة في الحياة العامّة، ولا سيّما السياسية، وحظر أيّ محاولة أو محاولات تستهدف الحدّ من حرّياتها الشخصية، بما في ذلك حقّها في اختيار لباسها، وحقّها في إبداء الرأي والنقد، سواء ضمن إطار حياتها الأسرية، أو على صعيد الحياة المجتمعية والسياسية العامّة.

ومن أجل الوصول إلى نظام ديمقراطي عادل مستدام، يقطع الطريق أمام احتمالية عودة الاستبداد بمختلف ألوانه وأشكاله، هناك حاجّة ملحّة إلى كتابة دستور عصري متوازن، يكتبه أناس يشهد لهم بالوطنية والخبرة واحترام سائر المكوّنات المجتمعية والسياسية السورية، من دون أيّ تمييز أو استثناء، يُتوافق عليهم ضمن أطر تمنحهم الشرعية. والدستور المطلوب هو الذي يؤكّد ضررورة اعتماد النظام المدني، ويشدّد على أهمية احترام الهُويَّة السورية الواقعية القائمة على التنوع والتعدّد، لا الهُويَّة التي تحاول فرض اللون الواحد في واقع متنوّع بطبيعته. فسورية بطبيعتها المتنوعة على الصعيد السكّاني لا تتحمّل التعصب الديني أو القومي أو الأيديولوجي، بل هي تحتاج إلى طاقات سائر مكوّناتها المجتمعية. وهذا ليس معناه التشكيك في حقيقة أن العرب يمثّلون في سورية الغالبية القومية، والسنّة يمثّلون الغالبية الدينية المذهبية، ولكن لا بد من الإقرار بحقوق جميع المكوّنات مهما كانت أحجامها، حتى يشعر الجميع بأن الوطن وطنهم، والدولة دولتهم، وبذلك يُؤسّس لعقلية وطنية تفتح الآفاق مستقبلاً أمام تشكيل الأحزاب الوطنية، التي تطرح برامج وطنية تهمّ سائر المكوّنات، ويتم بذلك تجاوز الأحزاب القومية أو الدينية التي ترسّخ الرؤية الشاقولية التي تقوم على الحجم العددي المجتمعي، وليس الغالبية السياسية التي تتجاوز عقلية المحاصصة، والتخندقات الدينية أو المذهبية أو القومية، مع الإقرار بضرورة احترام سائر الخصوصيات والاعتراف بالحقوق المترتبة من ذلك، وحينئذ، يمكننا القول إننا قد دخلنا فعلاً مرحلة إمكانية الحديث عن النظام الديمقراطي الذي يتجاوز مختلف العصبيات والولاءات الفرعية لصالح الولاء الوطني العام.

تعيش سورية اليوم مرحلةً انتقاليةً استثنائية بكلّ معنى الكلمة، وما يضفي على هذه المرحلة المزيد من التعقيدات أنها تأتي بعد 54 عاماً من الحكم الاستبدادي، الذي قضى على الحياة السياسية المُعارِضة في سورية، وحاول بشتى السبل سدّ الطريق أمام تشكّل البديل المُعارِض الناضج المؤثّر.

فبعد أن أسقطت هيئةُ تحرير الشام (والفصائلُ المتحالفة معها) نظامَ آل الأسد المستبدّ الفاسد المُفسِد، وهو إنجاز غير مسبوق ما كان له أن يتحقّق لولا شجاعة وتضحيات وصبر السوريين الذين قدّموا إلى مختلف شعوب العالم ودوله دروساً في الشجاعة والنبل لم تتناولها الأساطير بعد، ما كان لهذا النصر أن يتحقّق بهذه السهولة، وبمثل هذا الالتفاف الشعبي، والفرح الغامر، غير المعهودين… بعد هذا النصر، شكّل أحمد الشرع حكومةً مؤقّتةً، وبيّن أنها ستستمرّ حتى إلى الأول من شهر مارس/آذار المقبل. وقد أثارت هذه الخطوة انتقادات عديدة من مختلف قوى المعارضة السورية، وذلك من مواقع مختلفة. ولكن مع ذلك، إذا قارنّا بين إيجابيات وسلبيات تشكيل الحكومة المؤقتة بهذه السرعة، وجدنا أن الإيجابيات ربّما كانت أكثر. فترك الأمور للفراغ في بلد كسورية، خاصّة بعد سنوات طويلة من الحرب وعدم الاستقرار وتوقّف العجلة الاقتصادية، ولا سيّما أنه من المعروف عن السوريين أن توافقهم صعب، يأخذ وقتاً طويلاً. أمّا السلبيات فتتمثّل في عدم شعور مختلف المكوّنات المجتمعية والقوى والشخصيات السياسية السورية، بتوجّهاتها المختلفة، بأنها ممثّلة، أو بأنها قد حصلت على دور عادل في المرحلة المقبلة. هذا مع الأخذ في الحسبان اعتداد السوريين بالنفس، الذي يبلغ أحياناً حدّ نرجسية صعبة الترويض.

أمّا الحديث عن الخيار الديمقراطي الذي يكاد معظم السوريين يُجمِعون عليه فيمثّل الطريق الأمثل للوصول إلى نظام يضمن مستقبلاً أفضلَ لأجيالنا المقبلة. ولكنّه حديث لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع السوري وطبيعته. ولعلّه من الأنسب في هذا المجال استخدام تعبير الدمقطرة، أو التوجّه نحو الديمقراطية. ففي مناخات عدم وجود حركة سياسة فاعلة ومجتمع مدني ناضج، وغياب التربية الديمقراطية في المدارس والجامعات وغيرها من المؤسّسات الثقافية والتربوية، لا بدّ من اللجوء إلى آليات أخرى تنسجم مع طبيعة المجتمع السوري، منها على سبيل المثال الاستعانة بالمجتمع الأهلي الذي أضعفته سلطة آل الأسد، غير أنه ما زال مؤثّراً بهذه الصيغة أو تلك في أوساط شعبية محدّدة. يمكن الوصول إلى صيغة من التوافق حول المقاييس الوطنية المشتركة بينها وبين أنصار الحداثة ضمن أوساط سائر المكوّنات المجتمعية السورية.

هناك من يتحدّث اليوم عن عملية إعادة إعمار سورية، وربّما منذ الآن، هناك كثير من الصفقات التي تُعقَد هنا وهناك من أجل ذلك، ولكن إعادة البناء الحقيقية التي تحتاج إليها سورية، قبل أي أمر آخر، تتمثّل في إعادة ترميم وبناء النسيج المجتمعي السوري الوطني، وذلك يتحقّق باعتماد المحاسبة العادلة لمن ارتكبوا جرائمَ القتل بحقّ السوريين، أو أعطوا أوامرَ القتل. هذا إلى جانب تحقيق المصالحة الاجتماعية، والقطع مع عقلية الانتقام القطيعية التي غالباً من يكون ضحاياها أناساً أبرياء، يدانون لمُجرَّد أنهم ينتمون إلى هذه الطائفة أو تلك، إلى هذه القومية أو تلك.

تحتاج سورية التاريخ والحضارة والمستقبل جهود سائر أبنائها المخلصين، وهي قادرة في الوقت نفسه على أن تحتضن الجميع بصدر رحب، لتكون بالفعل للسوريين كلّهم، من دون أيّ استثناء.

العربي الجديد

————————————

عن عرب صدمهم سقوط الأسد/ عيسى الشعيبي

24 ديسمبر 2024

في غمرة النقاش الذي لا ينتهي بشأن مآلات انتصار الثورة السورية، لا يعدمنّ أحدٌ سبل العثور على سبب واحد من مائة سبب لفهم الإحساس بالصدمة لدى طهران، وحملها على تجرّع ما تبقّى في الكأس من سمّ زعاف، غداة سقوط حجر أساس مشروعها الإمبراطوري في المشرق العربي. ويمكن للمرء أيضاً تفهّم هذه المكابرة كلّها، والشعور الثقيل بالخسارة الفادحة لدى روسيا التي راهنت على حليف لا سلسلة ظهر له، وقاتلت معه ضدّ شعبه، وها هي تكظم الغيظ وتخسر لعبة الروليت الطائشة.

وحدّث ولا حرج عن أكراد دنت لهم إقامة دولة تحت التأسيس في ظلّ حكم عاجز، فإذا بهم يخسرون مجدّداً، بين بكرة وأصيل، حلم الاستقلال القومي عصيَّ المنال، بعد أن كان قاب قوسين وأكثر قليلاً. أمّا عندما نجيل النظر على المشاهد والمواقف المتواترة من العالم العربي، فإن العين المُدقّقة لا تكاد تجد مثيلاً لذاك الإحساس بالذهول السائد في المحيط الأوسع، إلّا عند قلّة قليلة بين ظهرانينا، سبق لها أن ناهضت ثورة الحرية والكرامة، وسلقتها بألسنة حداد، ورمتها بالتهم الذميمة، قبل أن يغمرها الشعور العارم بالزَّهو، وتُخرج لنا اللسان تشفّياً: “ألم نقل لكم”، عندما تمكّنت “القوى الرديفة” من إعادة إيقاف الأسد على قدميه، واسترداد طابو المزرعة الموروثة ابناً عن أب، فلمّا سقط الصنم راحت السكرةُ بدداً، ومعها النشوة طبعاً، وانقضى إلى الأبد زمن “الأسد أو نحرق البلد”.

عندما سقط بشّار عن كرسيّ أبيه، وفرّ بجلده تحت جنح الظلام، لم يُصدّق بعض المغرمين بنموذج حكم المقاوم الممانع القائد الأعلى للجيش والأمين العام للحزب، والكلّ في الكلّ، السيد الرئيس الدكتور الفريق أوّل بشّار حافظ الأسد، ولم يسمعوا صدى السقوط المدوّي في دمشق، بل أنكروا الواقعة، وقال بعضهم إن الصور مفبركةٌ، إلى أن أعلنت موسكو أن بشّار وصل برعاية قاعدة حميميم وحفظ قواتها الجوّية، فأُسقِط في يد القوم، سيّما من توعّد “الإرهابيين” و”التكفيريين” الزاحفين من حلب إلى حماة وحمص، بالويل والثبور عند أبواب العاصمة، وهو ما فاقم الغصّةَ في الحلق لديهم، وضاعف من شدّة الصدمة.

الحديث هنا ليس عن جماهيرَ غفيرةٍ راعها سقوط الأسد، فهبّت إلى الشوارع ساخطةً، وإنّما عن نُخَبٍ سياسيةٍ ثقافيةٍ إعلاميةٍ محدودةٍ، درجت على مناصرة الأسد، ولم تُبدّل تبديلاً، وأحسب أن وقفةً تضامنيةً ضئيلةً مع الرئيس الفارّ لم تحدث سوى في تونس. أمّا في المشرق العربي، حيث عزوة بشّار الكيماوي ومضارب ربعه في العالم الافتراضي، فقد اشتعلت مظاهر حسرة وصدمة والتياع، ثمّ انطفأت بسرعة مثل عود الكبريت، من دون أن يعني ذلك أن قناعات هنا تبدّلت، أو أن هناك استنتاجات جديدة قد حصلت، إذ كلّ ما في الأمر أن السقوط السريع والفرار المهين، وانكشاف بعض أهوال مسلخ صيدنايا البشري، وأقبية التعذيب، كانت مُحرِجةً للغاية، وثقيلةً على الضمير السويّ.

ولعلّ انكفاء عرب صدّهم سقوط الأسد عن خوض المعارك الكلامية الضارية دفاعاً عن جمهورية المقابر الجماعية، يشي بأن وخزةً في الضمير ربّما حدثت أخيراً، أو أن النموذج المتخيّل عن قلعة الصمود والتصدّي صار قولاً نافلاً، سيّما أن أشدّهم طلباً للسجالات العدمية (فلسطينيون وأردنيون ولبنانيون) هم في أكثريتهم بقايا أحزاب قومية ويسارية جفّت ينابيعها، وأصحاب عقائد خشبية، منهم أدباء وكتّاب ونقابيون وسادة متقاعدون، كأنّهم قضاة في محاكم تفتيش، هجوميون انفعاليون متجهّمون يستسهلون رمي خصومهم بالتفريط، يغرّهم الخطاب الساخن، وتغويهم الجملة الثورية، لذلك كانوا يغضّون الطرفَ عن جرائم النظام التسلّطي، حتى وإن استباح مخيّم اليرموك مثلاً، وقبله كان مخيّم تلّ الزعتر، أو ارتكب سلسلةَ اغتيالات طويلةٍ لقادةٍ ونوّابٍ ومثقّفين لبنانيين، الأمر الذي دفع أولياء الدم في بيروت إلى الاحتفال علناً بسقوط الدكتاتور الأحمق.

على الصعيد العربي العام، ووفق ما يلهج به الإعلام شبه الرسمي والخاص، ويتواتر على ألسنة المسؤولين كافّة، لا يبدو أن عاصمةً عربيةً صدمها سقوط جمهورية الكبتاغون، أو أن حزباً أو نقابةً أو اتحاد كتّاب، أو شخصية اعتبارية أو جمعية حقوقية، أو هيئة ذات صفة تمثيلية، تأسّفت على اقتلاع أقدم وأكبر وأعمق مسمار لطهران دُقّ في أرض عربية، مع أن صمت بعض العواصم المغاربية المريب يشير إلى غصّة في الحلق مكتومة.

العربي الجديد

—————————

رفقا بالناجين العائدين/ محمد برو

2024.12.24

في الثامن من كانون الأوّل سقط نظام الأسد بعد أن جرّع السوريين كل السوريين كؤوس المذلة والهوان وأذاقهم صنوف التعذيب والاضطهاد، وسيندر أن تجد بيتا سوريا لم يصبه شرر من تلك الجمرة الخبيثة، حتى مؤيدوه الذين كانوا زبانيته وجلاديه التاثت عقولهم وتهتكت نفوسهم وفقدوا طهر إنسانيتهم وغدوا محض أشواه، سيحملون عار مناصرته وشراكتهم في إجرامه سنوات طويلة.

لكن الحلقة الأشد بؤسا في هذا المشهد القاتم هم المعتقلون الذين خرجوا من ظلام المعتقلات وأهلوهم، أما من قضى نحبه فقد نجا بروحه وجسده من تلك المسالخ البشرية التي يحسد فيها الأحياء أمواتهم وقتلاهم.

خرج الناجون وقد جاوزت أعدادهم ثلاثين ألف ناج، لنشهد فرحا مضرجا بالعذاب والحكايات المؤلمة، وفوجئ السوريون والعالم من ورائهم بالمسالخ البشرية التي كان الأسد وأعوانه يبيدون فيها معارضيه، وبالمقابر الجماعية التي ضمّت واحدة منهن فقط ما يزيد عن مئة ألف جثة، ربعهم من الأطفال وثلثهم من النساء.

وكشف خروجهم عن عشرات الآلاف من الذين أخذوا من بيوتهم تحت جنح الليل، ولم يخرجوا من المعتقلات ولم يكشف عن سر اختفائهم القسري إلى ساعتنا هذه.

حتى الآن هنالك ما يزيد عن مئة وسبعين ألف مفقود موثق على أقل تقدير، والواقع المؤلم أن الرقم الحقيقي يتجاوز ذلك بكثير، جميع هؤلاء لا سبيل لتصورهم إلا ضحايا تلك المسالخ التي تفوقت على جرائم النازية والصهيونية في إجرامها الممنهج والبطيء.

وإذا علمنا أن العدد الوسطي لأقرباء وأصدقاء كل فرد منهم يتجاوز خمسة عشر إنسانا، فهذا يعني تضرر ما يزيد عن مليوني سوري بشكل مباشر، وشطر كبير منهم جرى التحقيق معهم وحرموا من وظائفهم ومنعوا من السفر بسبب صلة القرابة أو الصداقة وحسب.

وسيسكن الخوف لسنوات طويلة في ثنايا حياتهم وساعاتهم، وسيفكرون ألف مرة قبل التقدم بطلب وظيفة أو ترخيص ما من الأجهزة الحكومية، لأنهم سيتعرضون لفتح ملفاتهم وإعادة التدقيق فيها، وقد يتنبه الأمن في كل مرة عن سقطة أو ثغرة أهملها في وقت سابق.

سيخرج شطر كبير وربما الشطر الأكبر من الناجين وهم يحملون اعتلالات نفسية قد تلازمهم ما تبقى لهم من حياة، وكذلك سيخرج لفيف كبير منهم وقد تضررت أعضاؤهم أو أطرافهم، ولن يكونوا مؤهلين للحياة البسيطة الطبيعية.

سيحمل بعضهم عتبا ولوما عميقا على مجتمع خذله ولم يناصره بل تركه نهبة تغول الأجهزة القمعية، وما أن تنجلي ساعات الفرح بالنجاة حتى يصطدم هؤلاء الناجون بواقع مختلف بشكل كلّي عن الواقع الذي غادروه من عشر سنين أو يزيد، وسيدركون أن شطرا من ذويهم ألف غيابهم ولم يعد يقوى على حمل أعباء ذكرياتهم المؤلمة.

وسيكتشف بعضهم أن المساحة القديمة قد أعيد تقسيمها دون أن يؤخذ بالحسبان احتمال عودته، على الصعيد النفسي والفيزيائي والاقتصادي، ناهيك عن عشرات الحالات المغرقة بالعجائبية، حتى ليخال الناظر إليها أنه يشاهد فيلما هندياً مشبعا بالمبالغات الفلكية.

في عام 1992-1993 خرج آلاف المعتقلين من سجون حافظ الأسد المتوحشة، لكنهم لم يعانوا تلك الوحشية المفرطة التي أنتجها صراع الأسد الابن مع من ثاروا عليه، والتي فاقت وحشية الأسد الأب بآماد.

ولم يكن المجتمع السوري حينها قد بلغ هذا الحد من الإنهاك، فاستطاع إلى حد كبير استيعاب آلاف الناجين وباعتلالات لم تظهر إلى العيان إلا لماما، أما اليوم فنحن أمام مشهد من مشاهد يوم القيامة، مدن مهدمة ومدن خاوية، ومئات الآلاف من العوائل النازحة أو المهاجرة، وفقر أسود قد أحاق بالغالبية العظمى من الناس، كيف لهذا أن يستوعب الآلاف الناجية من تلك المذبحة العظيمة، بعضهم فقد ذاكرته وبعضهم قد مسخت روحه وتحطمت حتى بات عاجزا عن النظر إلى المحيطين به نظرة إنسان طبيعي.

تحرّرت سوريا بعد صراع دموي من نظام هو الأشد إجراما في التاريخ المعاصر، لكن أولئك الضحايا الناجون بأجسامهم، سيعانون تحدي النجاة بأرواحهم، وسيكون على المجتمع السوري بدءا من الأسرة وصولا إلى المؤسسات مواجهة تحد كبير وعبئ يصعب حمله، يتمثل بالعناية بأولئك الناجين ومعالجتهم وبذل ما يلزم للتكيف معهم، ومساعدتهم على التكيّف معنا.

سيدفع مئات آلاف السوريين “آباء وأبناء وأمهات وبنات وأشقاء وأصدقاء” ضريبة تلك السنوات الصعبة، ولن يكون التماثل للشفاء ممكنا ما لم تتحقق العدالة وهي في كثير من الحالات أقرب لفعل المستحيل.

سقط النظام المجرم، لكن عقابيل إجرامه ستنخر في بنية المجتمع السوري لسنوات طويلة، وسيبقى نصف مليون طفل يسأل عن مصير أبيه الذي لم يره أصلا أو فارقه وهو طفل صغير، وستستمر أحزان آلاف الزوجات والأمهات تقرع نواقيس الأسى على فقيد لم ولن يعود.

خلاصة القول: إنّنا كسوريين شباب وكهول، جميعنا أمام تحد كبير في حمل هذا العبء والمسؤولية الملقاة على أكتافنا، ولن نخسر هذه المعركة بالرغم من مشقتها، فقد نجحنا في تجاوز ما هو أكبر منها وتخطينا حدود المستحيل، وكل ما سيليه من مشقات جسام هو من الممكنات، فحيَّ على العمل.

تلفزيون سوريا

———————

فرص وتحديات ومخاطر أمام الثورة السورية/ د. محسن محمد صالح

24/12/2024

تتميز الثورة السورية بأنها أوَّل ثورة مكتملة الأركان منذ “الربيع العربي”، وأنها ثورة قادرة على إحداث تغييرات جذرية في بنية النظام، بما يوفر فرصًا حقيقية لحالة صعود نهضوي كبير.

غير أنّ هذه الثورة تواجه تحديات ومخاطر كبيرة، بعضها داخلي، ويزيد من حِدّتها موقع سوريا الإستراتيجي وثرواتها، وكونها دولة مواجهة، وتقاطع المصالح الإقليمية والدولية تجاهها.

عناصر قوة وفرص

تتمثل أبرز عناصر قوة نظام الحكم الجديد في دمشق بامتلاكه “للثلاثي الذهبي”، في قيادة الدولة وبناء نظام جديد، وهي: العدالة الانتقالية، وعناصر القوة الخشنة، وعناصر القوة الناعمة. كما أن هناك فرصًا تدفع باتجاه نجاح الثورة:

أولًا: العدالة الانتقالية

حيث يمكن من خلالها إنشاء محاكم ثورية ونظام قضائي مَعنِي بتفكيك “الدولة العميقة” السابقة، ومعاقبة أو تحييد رموزها، والحيلولة دون تمكّنهم من تعطيل الثورة، أو إفراغها من محتواها، أو تشويهها، أو حرف بوصلتها، أو العودة للبروز تحت روافع ومسميات جديدة.

ويجب أن تكون ثمة معادلة حكيمة وحازمة، تسمح بأجواء من التسامح وطي صفحة الماضي، وتجاوز العصبيات الطائفية والعرقية؛ ولكنها في الوقت نفسه تقتلع “أكابر مجرميها” ورموز فسادها، وكوادر منظومة نفوذها الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والإدارية.

ثانيًا: القوة الخشنة

القوة الخشنة تتمثل في فرص إنشاء جيشٍ وطني مستوعبٍ لجميع المخلصين لسوريا الجديدة، وقائمٍ على حماية الوطن، وحماية عقيدة الأمة وتراثها وقيمها، ومُتشرّبٍ لمعاني الانتماء للأمة والدفاع عن قضاياها. وإنشاء أجهزة أمنية تحمي حرية الإنسان وكرامته وحقوقه، وتُحصّن البلد من الأعداء والخصوم، كما تحمي القيم والأخلاق، وتواجه أشكال الفساد والانحراف الاجتماعي.

ثالثًا: القوة الناعمة

تتمثل في فرص الإمساك بالمفاصل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، بحيث تصبُّ في خدمة الدولة الجديدة، ويحكمها دستورٌ يصون النظام الجديد، ويجعل اللعبة السياسية ضمن شروط وبيئات تُفسح مجالات الإبداع والتطوير والتداول القيادي، ولكنها في الوقت نفسه تحمي الدولة الجديدة من المُتسلِّقين والعناصر الانتهازية، والمال السياسي والتدخل الخارجي وأعداء الثورة.

رابعًا: الإرادة الشعبية

يأتي النظام الجديد تعبيرًا عن إرادة شعبية عارمة، بينما لا يكاد النظام السابق يجد من يأسف عليه؛ وهي فرصة مهمة لإحداث تغييرات جذرية وعاجلة، وحسم عدد من القضايا وعلاجها في فترة قصيرة.

خامسًا: الثروة البشرية

الشعب السوري زاخر بالطاقات والكفاءات المتميزة، وقد استفاد في أثناء معاناته في مواطن اللجوء في بناء مئات الآلاف من القدرات والخبرات في شتى مجالات الحياة؛ حيث إن عودتها واستيعابها، وتوفير بيئات الحرية والإبداع المناسبة، سيوفر قفزات نوعية في مشروع النهوض والارتقاء.

سادسًا: المغتربون

توجد فرص كبيرة في الاستفادة ممن يرغب في البقاء من المغتربين، خصوصًا من تحولهم إلى سفراء ولوبيات ضغط لبلدهم، ومن تحويلاتهم المالية، إذا ما وجدت أنظمة بنكية ومالية شفافة وفعالة، وبيئات استثمار مشجعة.

سابعًا: تملك سوريا ثروات طبيعية، وموقعًا إستراتيجيًا، ومواقع سياحية وأثرية، وموانئ بحرية، تُمكنها من الوقوف على رجليها بسرعة كبيرة إذا ما أحسن التعامل معها.

ثامنًا: لدى القيادة فرصة قوية في اجتثاث الفساد من جذوره، خصوصًا أنه مرتبط بالنظام السابق وأدواته؛ وبالتالي لا يصعب بناء منظومة مؤسساتية وإدارية جديدة نظيفة وفعالة.

تاسعًا: لعل الخبرات التي اكتسبها الثوار في إدارة منطقة إدلب لعدة سنوات كانت “عيِّنة اختبارية” ستدفعهم خطوات للأمام في الانتقال لإدارة الدولة، مقارنة بالثورات التي تنتقل من الثورة إلى الدولة مباشرة، والتي لا يُتاح لعناصرها اكتساب حدٍّ معقول من الشروط الضرورية لإدارة الدولة.

تحديات ومخاطر

تواجه الثورة السورية تحديات ومخاطر كبيرة، يمكن أن تعصف بها إن لم تملك الرؤية الواضحة، والقدرة على المبادرة، والمسارعة لملء الفراغ، والتعامل بالجدية والحزم والحكمة اللازمة معها.

    أولًا: إعادة بناء مؤسسات الدولة المتهالكة والمدَمَّرة التي نخرها الفساد، وتردِّي الخدمات والبنى التحتية، بحيث يحتاج قيامها بالحدّ المعقول من أدوارها زمنًا وجهدًا كبيرين؛ في الوقت الذي سيضغط الناس وبأعداد هائلة لتلبية احتياجاتهم.

بل وسيلجأ أعداء الثورة والانتهازيون تحت هذا الغطاء إلى رفع سقف المطالبات وتحريض المواطنين، وسيضخِّمون الأخطاء؛ وما سكتوا عنه ستين عامًا تحت حكم البعث سيلجؤون للتشنيع على الثورة بسببه إن لم يتحقق في أيام.

    ثانيًا: عودة السّلم الأهلي، ورجوع ملايين المهجرين واللاجئين إلى بيوتهم، واستعادة حقوقهم، وإعمار منازلهم، وهو ملف كبير ومسؤولية ضخمة.

    ثالثًا: حلّ الرواسب الطائفية والعرقية التي غرسها النظام السابق (ومن قبله الاستعمار الفرنسي) في البيئة الاجتماعية والسياسية السورية؛ والتي أضرَّت كثيرًا بالنسيج الوطني، وكرَّست عناصر الشك وعدم الثقة داخل الشعب الواحد.

وسيسعى بعض المنتفعين من الاستقطاب الطائفي والعرقي الداخلي إلى ركوب موجات التحريض العلوي والدرزي والسني والكردي، كما ستسعى قوى خارجية إقليمية ودولية، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني لإذكاء أجواء الفتنة والانشقاق الداخلي، وتفجير الأزمات، بل وحتى افتعال أحداث قتل وتفجيرات واغتيالات، للدفع باتجاه تمزيق البلد من جديد؛ وصناعة “رموز طائفية” في مواجهة رموز الدولة، وتهيئة أجواء الانفصال أو فرض حكم ذاتي بشروط تُضعف الدولة والهوية الوطنية.

    رابعًا: الهوية والبوصلة: يبرز هذا التحدّي كأحد أبرز التحديات في صياغة سوريا المستقبل؛ فصحيح أن الشعب السوري في أغلبيته الساحقة شعب عربي مسلم (ومن لم تجمعه العروبة يجمعه الإسلام، ومن لم يجمعه الإسلام تجمعه العروبة، وكلاهما يجمعهما الوطن الواحد والتاريخ والحضارة واللغة الواحدة).

وصحيح أن الثورة قادتها فصائل إسلامية، غير أن عشرات السنوات من الحكم العلماني الدكتاتوري الطائفي، واللجوء السوري بالملايين في المهجر، قد فتح المجال لرؤية سوريا المستقبل في قوالب مختلفة إسلامية أم علمانية أم في المزج بينهما بدرجة أو بأُخرى، وفي تعريف سوريا لنفسها في بيئتها العربية والإسلامية والدولية، ودورها تجاه قضايا أمتها، وفي درجة انكفائها المحلي القُطري أو انفتاحها الإقليمي؛ خصوصًا أن التحديات المحيطة بها لن تتركها حتى لو أرادت هي نفسها أن تنكفئ على ذاتها.

وستسعى القوى الإقليمية والدولية إلى استخدام كافة وسائل النفوذ التي لديها لتوجيه بوصلة الحكم بما يتوافق مع معاييرها.

وكما لاحظنا فإن هذه القضية كانت من أولى القضايا التي تمت محاولة تحريك الشارع لأجلها، ونزلت أولى المظاهرات بعد أيام من انتصار الثورة تنادي بشعارات علمانية الدولة، وهو مدخل مثالي للقوى المضادة للثورة يجد صدى ودعمًا إقليميًا ودوليًا.

وقد يظن البعض أن إبقاء حالة الغموض فيه مصلحة، غير أن ذلك سيكون أكبر مدخل لإفراغ الثورة من محتواها، وحرف بوصلتها والقفز عليها؛ وسيكون حسم الهوية والبوصلة في إطار حضاري تشاركي استيعابي متسامح، أحسن ألف مرة في حشد وتحفيز الغالبية الساحقة من الشعب، وترسيخ بنية الدولة الجديدة، وتحصين الثورة، وقطع ألسن المرجفين والمشككين.

ولعل الأولى بالنظام الجديد أن يحسم مبكرًا الهوية العربية الإسلامية للدولة، وانسجامها مع دينها وتراثها وحضارتها، وقضايا أمتها وعلى رأسها قضية فلسطين.

    خامسًا: الابتزاز السياسي الإقليمي والدولي: ستعاني القيادة الجديدة من هذا الابتزاز السياسي للحصول على “الشرعية” والاعتراف، والتعامل الطبيعي مع الدولة السورية، وسيسعى عدد من القوى لفرض شروط على شكل الحكم وطبيعته بما في ذلك الدستور، وإدخال وكلاء لها أو متوافقين معها في الحكومة ومفاصل الدولة؛ وهو ما يحتاج الكثير من الحكمة والحزم من القيادة.

    سادسًا: التدخل الخارجي الناعم: مع الاتجاه نحو النظام الديمقراطي والتعددية السياسية وفتح مجال للحريات، هناك أنظمة تخشى من “عدوى” الحرية ومن وتيارات “الإسلام السياسي” على شعوبها وأنظمتها، وستقوم باستخدام المال السياسي، وأشكال الدعم السياسي والتلميع الإعلامي لرموز وقوى معينة وتضخيمها، لركوب الثورة أو القيام بثورة مضادة، وإعادة إخضاع الشعب للمنظومات الفاسدة والمستبدة إياها التي ثار عليها الشعب سابقًا، كما حدث مع عدد من بلدان “الربيع العربي”، وهو ما يصبُّ في المصالح الغربية والإسرائيلية في المنطقة.

    سابعًا: التحدي الصهيوني: والتدخل الإسرائيلي المباشر وغير المباشر عسكريًا وأمنيًا، وبالأدوات الخشنة والناعمة المختلفة كأحد أبرز المخاطر التي تواجه القيادة الجديدة، حيث سيسعى الصهاينة لإضعاف النظام وقصقصة أجنحته، ووضع معايير “إسرائيلية” وأسقف أمنية تسعى لإبعاد أي مخاطر محتملة على الكيان، ومنعه من امتلاك عناصر النهوض والقوة؛ لأن نهضة أي دولة، خصوصًا في البيئة المحيطة بالكيان، هي في معايير الكيان خطر إستراتيجي، حتى لو تجنبت هذه الدولة أي مواجهات مع الكيان.

    ثامنًا: الحفترة: ثمة مخاوف من أن تقوم أنظمة إقليمية ودولية بدعم ظهور “حفتر جديد” في سوريا، وتوفير الدعم اللوجيستي والمالي والعسكري له، بحيث يكون عنصر انقسام وتفجير في الساحة السورية؛ ومن المفترض أن تتعامل الثورة بقوة وحسم وسرعة مع هكذا ظواهر، وتعبئ الوعي الشعبي ضدها، ولا تسمح لها بالنمو تحت أي ذرائع.

    تاسعًا: التواجد الأميركي والروسي على الأرض السورية يمثل تحديًا كبيرًا، والعمل على إزالته وإنهاء مسببات وجوده، يجب أن يكون في الأجندة الرئيسية للنظام الجديد.

    عاشرًا: فلول النظام: ربما أصبحت بقايا النظام، ومجموعاتُ المستفيدين منه والآسفون على ذهابه في وضع ضعيف مهزوز، وهاربين من غضب الجماهير ومن ضحايا النظام؛ ولكنهم مع الوقت سيحاولون لملمة صفوفهم وإعادة تقديم أنفسهم في شكل أحزاب ورموز وهيئات وشبكات مصالح، تحاول اختراق النظام الجديد والقفز عليه.. إذ لا ينبغي أن يغيب عن ذهننا وجود مئات الآلاف من العسكر والأمن وكوادر حزب البعث والمستنفعين من النظام السابق ممن أصبحوا “أيتامًا” بعد سقوط النظام، وممن سيسعون لإعادة تموضعهم، أو ممن سيبحثون عن رعاة جدد.

وأخيرًا، فالشعب السوري قدم تضحيات هائلة، ومن حقه أن يقطف ثمار تضحياته، وثمة تجربة جديدة تستحق التشجيع. وصحيح أن المخاطر كبيرة، لكن الفرص المتاحة غير مسبوقة. والسوريون في كل الأحوال لا يملكون ترف الخيارات السهلة؛ وإن أجواء الدعم والثقة بالله (مع الحذر الواجب) يجب أن تحكم المسيرة، وليس أجواء الإحباط والتثبيط.

—————————-

فورين بوليسي: هل سيشتاق الغرب لسوريا العلمانية؟

ربى خدام الجامع

2024.12.24

بعد سقوط الأسد، كتب الصحفي الأميركي الذي يشغل منصب رئيس تحرير مجلة Catalyst وهو عضو رفيع لدى معهد جورج دبليو بوش، ورئيس تحرير سابق لدى صحيفة فورين بوليسي، ومدير تحرير سابق لمجلة Foreign Affairs، مقالة بعنوان: عدوي عدوكم، هذا نصها:

خلال الأسبوعين الماضيين، وفي أثناء احتفال العالم بإسقاط ديكتاتور سوريا الذي حكمها لفترة طويلة، عدتُ مرات عدة لمضمون الرسالة التي سلمها لي بشار الأسد في عام 2015.

حدث ذلك الحوار بيننا في أثناء لقاء جمعني به في دمشق، عندما كنت أعمل لدى مجلة Foreign Affairs وطلبت مقابلة مع الأسد قبل عامين على ذلك، وبعد مرور أكثر من سنة وثمانية أشهر على الصمت المطبق، وردني اتصال من مكتب الأسد يدعوني لإجراء حوار معه في غضون خمسة أيام، فرتبت أمور السفر مع مديري في التحرير، ووزارة الخارجية، وزوجتي التي كانت حاملاً آنذاك، ثم انطلقت إلى بيروت ومنها براً عبر سهل البقاع إلى الحدود التي توجهنا منها نحو العاصمة السورية دمشق.

كنت أول صحفي أميركي يلتقي بالأسد منذ سنين، فكانت تلك التجربة تجربة سوريالية، إذ في ذلك الوقت كان نظام الأسد يخسر الحرب (حدث ذلك قبل أن ترسل روسيا قواتها الجوية لتنقذ الأسد)، بما أن الثوار قد سيطروا على قرابة 55% من البلد، ولم يكن خط الجبهة يبعد عن قلب دمشق أكثر من 15 كيلومتراً.

في غرفتي بأحد الفنادق كتبت ملاحظة للنزيل حتى يقوم بإسدال الستائر منعاً للإصابة على يد أحد القناصة، وفي كل ليلة بعد حلول الظلام، كانت النوافذ تئز بسبب قصف المدفعية، ولكن في النهار، كانت الأرصفة تمتلئ بأصحاب المحال الذين يرتدون أجمل الثياب، وفتيات المدارس غير المحجبات، أما العائلات فكانت تملأ الحدائق حيث يخرج الجميع للتنزه.

والأغرب من كل ذلك كانت المقابلة نفسها، إذ على الرغم من أن بلده كان يحترق، وجنوده يقتلون المدنيين، رحب بي الأسد وكأن شيئاً لم يكن، وقد علت ابتسامة وجهه، وذلك عند باب مكتبه الخاص، وبعد سؤاله عن أحوال عائلتي، قدم لي فنجاناً من الكابتشينو وأدخلني إلى مكتبه. كان هنالك جهاز ماكنتوش كبير وضع على مكتبه الموجود ضمن غرفة عصرية بطرازها، وعلقت على أحد جدرانها صور لأولاده، مع نموذج خشبي لكنيسة ويستمنستر إلى جانب برج ساعة بيغ بين وضعت على أحد النضد (إذ قبل أن يصبح بشار مجرم حرب، درس طب العيون في المملكة المتحدة).

أجرينا حوارنا هذا في وقت كانت إدارة أوباما تعيد فيه النظر بسياستها حيال سوريا، ولهذا قام سجال حول ضرورة تعامل الولايات المتحدة مع الأسد في محاربة تنظيم الدولة بدلاً من المطالبة بطرده، بما أن تنظيم الدولة كان قد احتل وقتئذ شرقي سوريا مع العراق.

ولهذا خلت بأن أهم شيء بوسعي القيام به في هذه المقابلة هو أن أكتشف ما إذا كان الأسد شخصاً بوسع الغرب التعامل معه أم لا.

استحالة الشراكة مع الأسد

لم تمض سوى دقائق من الاستماع لكذبه وإنكاره وهو يبتسم للفظائع التي ارتكبها نظامه حتى خلصت إلى أن هذا الرجل يعيش في واقع مختلف تماماً، وبأنه إما مضلل لدرجة التغييب، أو كذاب أشر، وفي كلتا الحالتين لا يمكن أن يتحول إلى شريك بوسع الولايات المتحدة أن تثق به.

بيد أن ذلك جعلني أقف أمام سؤال آخر، وهو: لماذا اختارني الأسد (أو حاشيته) لمثل هذه المقابلة؟

بعد نقاشات كثيرة تلت المقابلة أجريتها مع دبلوماسيين ومسؤولين في الاستخبارات وخبراء أميركيين متخصصين بملف الشرق الأوسط، إلى جانب مغتربين سوريين، خرجت بإجماع على الفكرة القائلة بإن الأسد أراد أن يوجه من خلالي رسالة إلى البيت الأبيض، وبما أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك بشكل مباشر بما أن العلاقات مقطوعة بين الولايات المتحدة وسوريا، لذا اختار فورين أفيرز المعروفة بأنها الناطقة بلسان المؤسسة الرئاسية في واشنطن، لتكون أفضل وسيلة بوسعه من خلالها أن يوصل رسالته.

مؤخراً، انشغلت بفحوى رسالة الأسد، وتحديداً منذ أن سيطر الثوار على دمشق في الثامن من الشهر الجاري، وتتلخص زبدة القول فيها بالآتي: أنتم في الغرب وأنا في سوريا لا يجوز لنا أن نبقى على عداوتنا، لأن كلينا علمانيان ينتميان إلى العالم العصري، وكلانا يحارب الأشخاص نفسهم، أي الإرهابيين الإسلاميين، فقد أخبرني بأن فكرة المعارضة المعتدلة ما هي إلا: “وهم” لأنك: “لا يمكنك أن تجعل التطرف معتدلاً” بحسب ما قال.

والمعارضة السورية برأيه ليست أكثر من: “تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة وجبهة النصرة، فهل بوسعك أن تتفاوض مع القاعدة؟” إذن لنوحد الصفوف ضد هؤلاء الثيوقراطيين الملتحين المخيفين بحسب ما ذكر، وذلك لأنهم يهددونكم كما يهددونني.

تفنيد الكذب في مزاعم الأسد

والآن، وبعد سقوط الأسد وسيطرة الثوار على دمشق، أصبحت مصداقية مزاعمه، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة محل دراسة ومساءلة في الوقت الراهن، ولهذا أقدم إليكم ما أدركناه الآن:

بداية: صحيح أن نظام الأسد كان علمانياً فعلاً أي أنه مثلاً منح النساء كثيراً من الحريات، وعلى رأسها حرية العمل وقيادة السيارة وارتداء ما تريده، إلا أنه كان نظاماً مستبداً قمعياً فاسداً تديره الطائفة العلوية التي همشت الأغلبية السنية (برجالها ونسائها) في سوريا، وحبست المعارضين وعذبتهم، وضربتهم بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية.

كما لم يكن نظام الأسد متعاوناً جداً مع الغرب، لأن أكبر داعميه في الخارج هم روسيا وإيران، كما أن السياسة الخارجية السورية التي قام نهجها على الهيمنة على لبنان وزعزعة الاستقرار فيه وشن حروب عدة على إسرائيل، لم تكن منحازة لواشنطن إلا فيما ندر.

أما بالنسبة للثوار، فحتى الآن، قامت هيئة تحرير الشام التي تعتبر الفصيل الرئيس ضمن جماعة الثوار، والتي يترأسها أحمد حسين الشرع بقول ما يجب أن يقال وفعل ما يجب أن يفعل، فقد وعدوا باحترام حقوق مختلف الأقليات العرقية والدينية في سوريا ومنحها استقلاليتها في مناطقها، كما دعا الشرع لحكم القانون، وأمر جنوده بعدم السعي وراء الانتقام، وتعهد بالعفو عن الجنود من أصحاب الرتب الصغيرة في جيش الأسد وكذلك في سلك الشرطة، مع توعده بإقامة العدل بحق أزلام الديكتاتور وأعوانه، وأمر الشرع رجاله بعدم الاحتفال عبر إطلاق النار من بنادقهم في الهواء خشية أن يخيف ذلك المدنيين.

بيد أن الشرع المكنى بأبي محمد الجولاني كان في السابق عضواً في تنظيم القاعدة وسجن في العراق بسبب تعامله مع المعارضة هناك، كما بدأت هيئة تحرير الشام نشاطها كفرع من فروع تنظيم القاعدة، ولهذا بقيت ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية لدى واشنطن، غير أن تاريخها في حكم إدلب بشمالي سوريا فيه الصالح والطالح، إذ وفرت الهيئة هناك الخدمات الأساسية، وحافظت على السلم إلى حد كبير، ويبدو أنها غير فاسدة نسبياً، لكنها أيضاً حرمت الموسيقا والتبغ وسيرت دوريات لشرطة الأخلاق ولو لفترة قصيرة فأخذت تجوب الشوارع وتعاقب كل من يخالف الشريعة الإسلامية.

يزعم الشرع بأنه هو وأتباعه أصلحوا أمورهم منذ ذلك الحين، ولكن، هل حققوا ذلك بالفعل؟ أم أن ذلك مجرد أسلوب لكسب ود معارضيهم ولتخفيف قلق الغرب؟ وهل أصاب قائد الثوار عندما تحدث عن طبيعة الحكام الجدد في سوريا؟ أم أن الأسد هو الذي كان مصيباً؟

لقد أظهر الرئيس السابق لسوريا بأن العلمانية في الحكم لا تضمن الفضيلة، والتدين لا يضمن الوقوع في الرذيلة أو ممارسة القمع أو استعداء الغرب. غير أن أهم أربعة أعداء لواشنطن اليوم هم موسكو وبيكين وبيونغ يانغ وطهران، وثلاثة منهم لا علاقة لهم بالدين على الإطلاق.

وفي الوقت ذاته نجد بأن للولايات المتحدة شركاء مهمين في الشرق الأوسط وعلى رأسهم السعودية والإمارات وإسرائيل ومصر، وجميع تلك الدول تتبنى نسبة معينة من القانون المستمد من الدين كما أدخلت عناصر ثيوقراطية إلى حكوماتها، ما يعني بأن ثنائية العلمانية مقابل التدين التي قدمها الأسد مبسطة لدرجة تمنعها من أن تتحول إلى دليل إرشادي في هذا المضمار، خاصة بعد أن تبين بأنه بوسع المرء في بعض الأحيان أن يجعل التطرف معتدلاً، وفي العالم نماذج لكلا الحالتين، إذ هنالك حكومات ذات عقلية متدينة لكنها تدعم حرية مواطنيها والنظام العالمي القائم على الأحكام والقوانين (وخير مثال على ذلك إندونيسيا)، وهنالك أنظمة علمانية كثيرة تمارس عكس كل ذلك.

ومع ذلك، وعلى الرغم مما أبديه من تفاؤل حذر تجاه تحرير سوريا، أحاول أن أخفف من شدة بهجتي بما حدث عندما أتذكر بأنه لا توجد دولة شهدت الربيع العربي ثم تمكنت من تحقيق انتقال نحو الديمقراطية الليبرالية بكل نجاح، ولهذا ما تزال إدارة بايدن تشك بأمر هيئة تحرير الشام ولذلك أبقتها على قائمة التنظيمات الإرهابية لديها.

لقد سقط طاغية ظالم، ويبدو أن من حلوا محله يتجهون نحو الوجهة الصحيحة، لكن تحديات كبيرة تعترض سبيلهم، ولن نتمكن من التحقق من صحة إصلاحهم لذاتهم قبل أن يشرعوا في التعامل مع تلك العقبات التي تواجههم خلال الأسابيع، أو الشهور، بل السنين المقبلة.

المصدر: The Foreign Policy

تلفزيون سوريا

———————————————-

البرلمان السوري… محطات تشريعية من العراقة إلى التعليقا/ سماعيل درويش

شهد أول انتخابات عام 1877 وتعطل أعواماً عدة بسبب الانقلابات العسكرية والأوضاع السياسية وصولاً إلى سقوط نظام الأسد

الثلاثاء 24 ديسمبر 2024

في الثامن من ديسمبر 2024، استطاعت الثورة السورية إطاحة نظام الأسد، وبعد يومين من سقوط النظام أعلنت السلطات الجديدة تعليق البرلمان والدستور لمدة ثلاثة أشهر، لتنتهي بذلك سيطرة حزب “البعث” على البرلمان لأكثر من ستة عقود.

“الطبل والزمر ضروريان” هذه الجملة ليست مقتبسة من مسلسل كوميدي أو تجمع شبابي للتسلية، بل صدرت رسمياً في مجلس الشعب السوري، على لسان النائب في المجلس محمد قبنض، المعروف بتأييده المطلق لنظام الأسد، وهو أيضاً النائب نفسه الذي انتشر له تسجيل مصور على أبواب غوطة دمشق بعد خمسة أعوام من حصارها، يوزع فيه الماء على الخارجين من الحصار، لكن لا يعطي قارورة ماء إلا لكل من يقول “الله، سوريا، وبشار وبس”.

تقارير إعلامية نقلت الواقعة الحقيقية التي تجلت تحت قبة البرلمان السوري العريق، البرلمان الذي أنشأ منذ أكثر من قرن، وجلس على مقاعده عدد ليس بقليل من قامات سوريا منذ تأسيس الجمهورية في ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى استيلاء حزب “البعث” على السلطة بعد انقلاب 1970.

ولاية سوريا… أول تجربة برلمانية

في الـ20 من فبراير (شباط) 1877 شهدت سوريا أول انتخابات برلمانية في تاريخها، على رغم أنها كانت في ذلك الوقت ولاية تابعة للدولة العثمانية، إذ أسست حينها ما يسمى “مجلس المبعوثين”، وهو البرلمان العثماني، خصص لسوريا سبعة نواب منهم أربعة مسلمين وثلاثة من غير المسلمين، وأشرف والي سوريا حينها ضياء باشا على الانتخابات التي تشمل سوريا ولبنان، ومن بين أهم الأسماء التي فازت أمين الجندي من دمشق، ودرويش الشنبور من طرابلس، ونقولا النقاش من بيروت (عن فئة غير المسلمين)، ونقولا نوفل من طرابلس (أيضاً عن فئة غير المسلمين)، وسعيد مرعشلي ونافع الجابري وحسني باقر زادة من حلب، فكان هؤلاء أول من دخل البرلمان في التاريخ ممثلاً عن سوريا ولبنان.

استمر انتخاب سبعة نواب من سوريا ولبنان في البرلمان العثماني حتى عام 1918، ثم غادرت البعثة العثمانية سوريا، وفي الـ19 من يونيو (حزيران) 1919 انعقدت أول سلطة تشريعية في سوريا، وهي المؤتمر السوري العام المؤلف من 85 عضواً من مختلف المناطق والأعراق والطوائف السورية، واستمر المؤتمر حتى إعلانه استقلال سوريا في الثامن من مارس (آذار) 1920، وتتويج فيصل بن الحسين ملكاً عليها، لكن هذا لم يعجب الحلفاء الذين لم يعترفوا بالاستقلال، وفرضوا الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان.

قيام الدولة السورية

الجنرال هنري غورو، كان أول مندوب سامٍ لفرنسا على سوريا ولبنان، في سبتمبر (أيلول) 1920 أصدر غورو ما يسمى “مراسيم التقسيم”، الذي ينص على إقامة دولة جبل لبنان الكبير، وإقامة دويلات عدة أخرى داخل سوريا مثل دولة حلب ودولة دمشق وغيرهما، هذا التقسيم ينص أيضاً على أن يكون لكل دويلة “مجلس تمثيلي”، يُعين ثلثه من المفوضية الفرنسية، وينتخب الشعب الثلثين، لكن بسبب الرفض الشعبي الواسع للتقسيم إلى دويلات، وتلاه قيام “الثورة السورية الكبرى” عام 1925، وافقت فرنسا على قيام “الدولة السورية”، ثم مُهد الطريق أمام انتخابات جمعية تأسيسية لكتابة دستور لسوريا، تلا ذلك تعيين تاج الدين الحسني أول رئيس للدولة السورية.

وفي الفترة ما بين الـ10 والـ24 من أبريل (نيسان) 1928 جرت انتخابات الجمعية التأسيسية لانتخاب 68 نائباً، وتم الوضع كما هو حتى إقرار دستور 1930 الذي نصت “المادة 30” منه على استحداث سلطة تشريعية تحت اسم “مجلس النواب”، وهي بمثابة أول برلمان سوري بعد قيام “الدولة السورية”.

مجلس النواب الجديد يراوح عدد النواب فيه ما بين 68 و136 نائباً، يُجدد انتخابهم كل خمسة أعوام، لكن في عام 1933 رفض مجلس النواب بغالبية الأصوات الموافقة على “معاهدة الصداقة والتحالف مع فرنسا”، وذلك لأنها “تمس بحقوق الأمة”، نشأ عن ذلك أزمة بين مجلس النواب السوري والمفوضية الفرنسية، انتهت بإصدار المندوب السامي الفرنسي قراراً بتعليق عمل مجلس النواب، واستمر عمل المجلس معلقاً لثلاثة أعوام.

عام 1936 توصلت المفوضية الفرنسية لاتفاق مع “الكتلة الوطنية” السورية، أدى إلى إنهاء تعليق عمل مجلس النواب وإجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية، أسفرت عن انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً لسوريا، وتحسنت العلاقات مع فرنسا حتى توصل الطرفان إلى “معاهدة الاستقلال”، فصوت عليها البرلمان السوري في ديسمبر (كانون الأول) 1936، ولكن عند عرضها على البرلمان الفرنسي رفض المصادقة عليها.

الجلاء الفرنسي

في الانتخابات البرلمانية والرئاسية عام 1943 فازت “الكتلة الوطنية” بغالبية مقاعد مجلس النواب، وفاز شكري القوتلي بالرئاسة، وخلال فترة حكمه شهدت سوريا خطوات ملموسة نحو الاستقلال، مثل عدم ضرورة موافقة المندوب الفرنسي على التشريعات التنفيذية، وعام 1945 انطلقت “انتفاضة الاستقلال”، فرفض حرس البرلمان السوري تأدية تحية العلم الفرنسي، فدهم الجيش الفرنسي البرلمان، وحصلت اشتباكات أدت إلى مقتل 29 جندياً من حرس البرلمان، وانتهت الانتفاضة بالتوصل إلى اتفاق استقلال سوريا وجلاء فرنسا من البلاد وإعلان الاستقلال بصورة رسمية في الـ17 من أبريل 1946، وأصبح يوم عطلة رسمية يحتفل به السوريون كل عام تحت مسمى “عيد الجلاء”.

بالمحصلة كان البرلمان السوري خلال فترة الانتداب الفرنسي يمثل الإرادة الشعبية، وأسهم مجلس النواب السوري بالتعاون مع حكومة شكري القوتلي في استقلال سوريا.

انقلابات بالجملة

بعد عام من الاستقلال السوري عن فرنسا، جرت أول انتخابات برلمانية من دون تدخل فرنسي، وحقق “حزب الشعب” الفوز في غالبية المقاعد، وفي عام 1948 جرى تعديل دستوري وافق عليه البرلمان، يقضي بالسماح لشكري القوتلي بالترشح لولاية رئاسية جديدة، لكن مع حدوث نكبة فلسطين، وهزيمة الجيوش العربية بما فيها الجيش السوري، عقد البرلمان السوري جلسة مغلقة مع قيادة الجيش، ووجه له انتقادات لاذعة، وحمله مسؤولية خسارة الحرب في فلسطين، أسفر ذلك، مع أزمة اقتصادية في سوريا، عن خلق صدع بين البرلمان والمؤسسة العسكرية، فأدى ذلك لاحقاً إلى حدوث أول انقلاب عسكري في تاريخ سوريا الحديث بقيادة حسني الزعيم في الـ30 من مارس 1949، فألغى حسني الزعيم الدستور وحل البرلمان، لكن الزعيم لم يستمتع بالسلطة سوى أشهر معدودة حتى تاريخ الـ13 من أغسطس (آب) 1949 لينفذ سامي الحناوي انقلاباً على حسني الزعيم، ليسجل التاريخ السوري انقلابين عسكريين خلال أقل من ستة أشهر.

الحناوي أدار سوريا من خلال سلطة مدنية أجرت انتخابات لـ”الجمعية التأسيسية الجديدة”، وفاز في الانتخابات “حزب الشعب”، وأراد الحناوي تحقيق تقارب مع العراق بهدف الوحدة بين البلدين، وكان يسعى إلى ما يسمى “سوريا الكبرى”، فأسست علاقات قوية اقتصادية وسياسية، وكان هناك أمل حقيقي بالوحدة العراقية السورية، لكن هذا أيضاً لم يدم سوى أشهر قليلة، ففي الـ19 من ديسمبر 1947 نفذ الضابط أديب الشيشكلي انقلاباً عسكرياً على سامي الحناوي، لكن الشيشكلي لم يحل الجمعية التأسيسية، بل تابعت عملها ووضعت دستور 1950 الذي عزز من صلاحيات البرلمان وقلص صلاحيات رئيس الجمهورية، لكن الجيش بقي يتدخل في شؤون السياسة والسلطة التشريعية، حتى إنه اعتقل النائب في البرلمان منير العجلاني، على رغم أن الدستور ينص على حصانة نواب البرلمان.

هذا الوضع لم يعجب أديب الشيشكلي، ففي الـ29 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1951 نفذ انقلابه الثاني واعتقل الرئيس هاشم الأتاسي، وحل البرلمان وعلق الدستور، وأصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد، وعام 1953 أراد الشيشكلي تغيير شكل نظام الحكم في سوريا لجعله نظاماً جمهورياً رئاسياً بدلاً من البرلماني، واقترح دستوراً جديداً ومجلس نواب جديداً يتكون من 82 نائباً، وجرت الانتخابات النيابية في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 1953، إلا أن غالب السوريين والأحزاب السياسية قاطعت الانتخابات، ولم يشارك بها سوى 16 في المئة من مجموع الناخبين، وعلى رغم ذلك فاز حزب “حركة التحرر العربي” الذي يقوده الشيشكلي بـ72 مقعداً من أصل 82 مقعداً بالبرلمان، ووصفت هذه الانتخابات بأنها أول انتخابات تخلو من الديمقراطية في سوريا منذ قيام الدولة السورية.

ظهور حزب “البعث”

بعد أشهر من هذه الانتخابات، جرى ما سمي “انقلاب حلب”، وهو انقلاب عسكري في الـ25 من فبراير 1954، وهو خامس انقلاب عسكري منذ استقلال سوريا، وسمي “انقلاب حلب” لأن الوحدات العسكرية تحركت من حلب، وبعد إطاحة الشيشكلي تعرض البرلمان السوري مثل عدد من المقار الحكومية لأعمال تخريب ونهب، فيما أسفر الانقلاب عن عودة العمل بدستور 1950، وعودة النظام الجمهوري البرلماني التعددي.

وفي الـ24 من سبتمبر 1954 جرت الانتخابات البرلمانية، حصل فيها “حزب الشعب” على غالبية المقاعد، وشهدت سوريا خلال هذه الفترة ما بين 1954 حتى 1958 فترة سميت “ربيع الديمقراطية” بسبب التعددية الحزبية والحياة الديمقراطية الفريدة التي عاشتها سوريا في تلك الحقبة، على رغم أنها نتجت من انقلاب عسكري، كما شهدت هذه الفترة صعود “حزب البعث العربي الاشتراكي”.

عام 1958 قامت “الجمهورية العربية المتحدة”، بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، وهنا تم دمج البرلمان السوري بالبرلمان المصري ليشكلا “مجلس الأمة”، على أن يكون ثلثه من السوريين وثلثاه من المصريين نظراً إلى الفارق الكبير في عدد السكان، وبعد انهيار الوحدة بين سوريا ومصر عام 1961، عاد مجلس النواب السوري إلى عهده ما قبل الوحدة، وفي العام نفسه جرت انتخابات برلمانية ورئاسية انتهت بفوز ناظم القدسي برئاسة سوريا.

انقلاب البعث

لم يكمل القدسي عامه الثاني في الحكم، ففي الثامن من مارس 1963 قامت فرقة عسكرية تابعة لحزب “البعث” بتنفيذ انقلاب عسكري، وحل البرلمان وتعطيل الدستور، تحت مسمى “ثورة الثامن من آذار”، ليتم بعد هذا الانقلاب تشكيل ما يسمى “مجلس قيادة الثورة”، الذي تولى السلطة التشريعية بدلاً من البرلمان المنتخب، واستمرت الحال كما هي عليه حتى عام 1971، عندها أنشئت مؤسسة برلمانية جديدة حملت اسم “مجلس الشعب”، لكن مجلس الشعب بدورته الأولى عُين نوابه بقرار من السلطات الحاكمة من دون انتخابات، وفي عام 1973 ألغيت التعددية السياسية، وحلت غالب الأحزاب الموجودة في البلاد، وحصرت الحياة السياسية بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” التابعة لحزب البعث، التي فازت في جميع الانتخابات التي جرت بعد ذلك التاريخ حتى دورة يوليو (تموز) 2024.

بعد عام 1973 حُظرت كل أنواع الحياة السياسية في سوريا، وقُيدت صلاحيات مجلس الشعب، وصدر قرار بعدم اشتراط موافقة مجلس الشعب على الحكومة، ولا يطلب منه منحها الثقة، ولا يوافق أو يرفض تعيين الوزراء، بل كان النظام يتهم بأن الانتخابات تجري فقط شكلياً فيما تعرف أسماء الفائزين مسبقاً.

تعديل لا يقبل التنفيذ

في الـ15 من مارس 2011 اندلعت الثورة السورية ضد نظام الأسد، فواجهها بالقمع، وفي المقابل نفذ النظام ما سماها “إصلاحات سياسية”، فأصدر في عام 2012 دستوراً جديداً للبلاد، يعطي صلاحيات إضافية لمجلس الشعب تشمل أنه “يجب على الحكومة التقدم ببرنامجها الوزاري خلال شهر من تاريخ تشكيلها، وكذلك يجب على الحكومة تقديم بيان سنوي عن أعمالها للمجلس، ويمنح الدستور مجلس الشعب الحق في عقد جلسات استماع، أو مناقشة مع الحكومة، ويمنح الحق للأعضاء في توجيه أسئلة خطية أو شفهية للحكومة أو الوزير المختص، ويمنح البرلمان الحق في تشكيل لجان تحقيق نيابية بعلم الوزارة أو أحد الوزراء، وطلبه للاستجواب أمام مجلس الشعب، وحجب الثقة عنه، مما يعني دستورياً استقالة الوزير أو الحكومة بكاملها في حال حجبت الثقة عن رئيس الوزراء”، لكن على أرض الواقع لم يُطبق أي مما ذكر أعلاه، فمنذ إعلان الدستور الجديد وحتى سقوط النظام لم يحجب مجلس الشعب الثقة عن أي حكومة أو أي وزير.

أتراك وأردنيون في مجلس الشعب السوري

من شروط الترشح لعضوية مجلس الشعب السوري عدم امتلاك جنسية ثانية غير الجنسية السورية، وفي الـ15 من يوليو 2024، جرت انتخابات الدورة الأخيرة لمجلس الشعب التابع لنظام الأسد، شهدت هذه الدورة ترشيح وفوز عدد من حملة الجنسيات الأجنبية، ثم أسقط المجلس لاحقاً عضوية عدد من نوابه من حملَة الجنسيات الأجنبية، من بينهم رجلا الأعمال محمد حمشو وشادي دبسي اللذان يحملان الجنسية التركية، ثم أنس محمد الخطيب الذي يحمل الجنسية الأردنية، فيما أكدت تقارير إعلامية مقربة من النظام السابق بأن هناك أعضاء آخرين يحملون جنسيات أجنبية معظمهم يحملون الجنسية التركية.

مجلس الشعب للإنتاج والتوزيع الفني والعسكري

خلال دورات مجلس الشعب التي جرت بعد اندلاع الثورة السورية شهد المجلس مشاركة عدد من الممثلين والمخرجين الموالين للنظام، من بينهم المخرج نجدت أنزور والممثل عارف الطويل ونقيب الفنانين الممثل الراحل زهير رمضان، الذي أصدر قراراً بفصل جميع الفنانين المعارضين للنظام.

من بين الذين تقدموا لعضوية مجلس الشعب السوري بعد الثورة الممثل السوري توفيق إسكندر، وهو الذي انضم إلى “ميليشيات الدفاع الوطني”، وشارك بعمليات عسكرية ضد المعارضة السورية، وكان مشهوراً بـ”القنص”، ونشر صوره للترشح مع شعار “المبدع المقاوم توفيق إسكندر”، وعلى رغم كل هذا لم يفز بالانتخابات، لكن فاز بالانتخابات حسام أحمد قاطرجي، وهو زعيم ميليشيات القاطرجي، ومالك إمبراطورية “القاطرجي” لتجارة النفط، والوساطة لبيع النفط من مناطق سيطرة تنظيم “داعش” إلى مناطق سيطرة النظام، وبعد القضاء على تنظيم “داعش” قاد الوساطة بين “قسد” والنظام.

نهاية البعث

في الثامن من ديسمبر 2024، استطاعت الثورة السورية إطاحة نظام الأسد، وبعد يومين من سقوط النظام أعلنت السلطات الجديدة تعليق البرلمان والدستور لمدة ثلاثة أشهر، لتنتهي بذلك سيطرة حزب “البعث” على البرلمان لأكثر من ستة عقود.

———————————–

مصارع الطغاة وتحرير المستضعفين/ د.خالد حنفي

24/12/2024

إن يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، الذي شهد انتصار الثورة السورية، وزوال النظام الأسدي المجرم الذي قتل وشرّد الملايين من شعبه، لهو آية من آيات الله في مصارع الطغاة والمستبدين وتحرير المستضعفين. والفرح بهذا اليوم واجب إنساني وشرعي وفطري؛ قال تعالى: ﴿فقُطِع ‌دابِرُ القومِ الّذِين ظلمُوا والحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمِين﴾ [الأنعام: 45].

هلاك الطغاة والظالمين يستوجب حمد الله وشكره، والفرح بنعمته وفضله، نفرح لأن الله تعالى منّ على المستضعفين بالحرية والكرامة؛ قال تعالى: ﴿‌ونُرِيدُ أن نمُنّ على الذِين استُضعِفُوا فِي الأرضِ ونجعلهُم أئِمّةً ونجعلهُمُ الوارِثِين﴾ [القصص: 5].

فالحمد لله الذي منّ على المستضعفين بالتحرير، وحكم على الطغاة والظلمة بالصغار والذلة، ولا يصح أبدًا أن يُختلف حول ما يجب الاتفاق عليه، أو التعامل مع الحدث العظيم والفتح المبين بسلبية وتشاؤم، وظن أو تصور أن ما هو قادم على سوريا وأهلها يمكن أن يكون أسوأ مما مضى، فهل هناك ظلم وفساد وإجرام أعظم وأقبح مما رأينا؟

إن مشهدًا واحدًا من مشاهد القتل والتعذيب والظلم كفيل بالثورة الأبدية لإنهائه.. شاهدتُ سجينًا أُفرج عنه، فقد الذاكرة من هول التعذيب، حتى إنهم سألوه عن اسمه فلم يعرفه! إن الإنسان في عُرف هذه الأنظمة لا شيء، تراه نفايات تكبس وتطحن، وتُذاب جثته، لا يستحق التكريم حيًا بالحياة الكريمة، أو ميتًا بالدفن والإقبار في الأرض.. وهل نسينا البراميل المتفجرة؟!

ولا شيء يقشعر له بدني ويسيل معه دمعي كمشاهد وقصص اغتصاب الحرائر العفيفات؛ فهذه امرأة حرة عفيفة دخلت السجن وعمرها 19 سنة، ثم خرجت وعمرها 32 سنة، ومعها ثلاثة أطفال لا تعرف آباءهم، اغتصبها المجرمون القتلة.. وهذه امرأة تُغتصب أمام زوجها فيموت بأزمة قلبية حسرة وكمدًا، وما زالت فصول الإجرام والدموية تتوالى وتُكشف.

لقد أفسدت تلك المواقف والمشاهد الدموية المؤلمة عليّ فرحة الخلاص من الطاغية، وتحرير عاصمة عربية كبرى من الاستبداد والطغيان.. أبعدَ هذه المآسي والجرائم يمكن أن يُختلف على أنّ زوال هذا النظام المجرم هو خير ورحمة للناس أجمعين؟!

وهذه جملة من الرسائل والعبر المهمة من الحدث:

مقاومة الطغيان وتحرير المستضعفين رسالة الأنبياء والمصلحين:

إن أزمة أمتنا اليوم ومصائبها كلها ناتجة عن الاستبداد السياسي.. تخريب الأوطان، وتدمير الإنسان، ونهب الثروات، وخيانة الأمة، والتحالف مع الأعداء، ومأسسة الفساد، كل ذلك أُسُّه ورأسه الاستبداد والطغيان.

ولقد كانت رسالة الأنبياء جميعًا مقاومة الطغيان والاستبداد، وتحرير المستضعفين، خاصة في قصة سيدنا موسى، عليه السلام، أكثر قصة لنبي تكررت في القرآن الكريم على الإطلاق؛ إذ يركز الخطاب القرآني على قضية الطغيان والتحرير؛ قال تعالى: ﴿اذهب إِلى فِرعون إِنّهُ ‌طغى﴾ [النازعات: 17]؛ وقال تعالى: ﴿اذهبا إِلى فِرعون إِنّهُ ‌طغى﴾ [طه: 43].

فالثمن الكبير الذي دفعه الشعب السوري لمقاومة الطاغية وتحرير المستضعفين، هو سير على نهج الأنبياء والمرسلين؛ وعاقبته خير للأمة، في الدنيا تحريرًا وانعتاقًا من ربقة الاستبداد والطغيان، وفي الآخرة جنةً ونعيمًا وملكًا كبيرًا إن شاء الله.

والقرآن الكريم يعتبر نعمة الحرية حياةً، وذل العبودية موتًا؛ قال تعالى: ﴿وما كان لِمُؤمِنٍ أن يقتُل مُؤمِنًا إِلّا ‌خطأً ومن قتل مُؤمِنًا ‌خطأً فتحرِيرُ رقبةٍ مُؤمِنةٍ﴾ [النساء: 92]. والعلاقة بين القتل الخطأ وتحرير الرقبة هنا؛ أن من قتل نفسًا خطأ عليه أن يعوضها بإحياء نفس أخرى بالعتق، فيخرجها من ذل العبودية إلى نعيم الحرية، فالحرية حياة، والعبودية موت.

الدنيا ليست دار جزاء، والعقوبة التامة للطغاة والمجرمين في الآخرة:

لقد سيطر على كثير من المسلمين في السنوات الماضية اليأس والإحباط، وسقط بعض الشباب المسلم في ظلمات الإلحاد والشك في وجود الله وعدله؛ لأن أمد الظلم طال، وتمادى المجرم في إجرامه والطاغية في طغيانه، والحقيقة التي يجب الإيمان بها هي أن الدنيا ليست دار الجزاء والفصل؛ قال ابن تيمية (رحمه الله): “الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة”.

فالله تعالى يُعجِّل ببعض العقوبات الظاهرة للمجرمين في الدنيا لحِكمٍ وعبر حتى يوقن المسلم في موعود الله، ولكن الجزاء التام يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿إِنّ ربّك هُو ‌يفصِلُ ‌بينهُم يوم القِيامةِ فِيما كانُوا فِيهِ يختلِفُون﴾ [السجدة: 25].

وما رأيناه هو تعجيل لقدر ضئيل جدًا من عقوبة الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم: “ما من ذنب أجدر أن يعجِّل اللهُ تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، مثل البغي وقطيعة الرحمِ” [أبو داود بسند صحيح].

سنن الله على الخلق جارية، فثقوا بالله وانصروه ينصركم، ولا تفقدوا الأمل:

جاء انتصار الثورة السورية بعد سنوات من الصبر والتضحية والتهجير، ليعيد الأمل في الإصلاح والتغيير، ويكون التأكيد على أن سنن الله وقوانينه في الكون جارية لا تستثني أحدًا، وصدق الله العظيم القائل: ﴿وفِرعون ذِي الأوتادِ الّذِين طغوا فِي البِلادِ فأكثرُوا فِيها الفساد فصبّ عليهِم ربُّك سوط عذابٍ إِنّ ربّك ‌لبِالمِرصادِ﴾ [الفجر: 10-14].

وليت بقية الطغاة يأخذون العبرة، ويتعظون مما وقع لغيرهم قبل فوات الأوان؛ قال تعالى عن عقوبة فرعون على طغيانه وإجرامه: ﴿فأخذهُ اللّهُ ‌نكال الآخِرةِ والأُولى إِنّ فِي ذلِك لعِبرةً لِمن يخشى﴾ [النازعات: 25-26]، وليت الشعوب التي بدأت مسيرة التحرير والتحرر تتعلم من الشعب السوري الاستمرار في مقاومة الطغيان، وأن عاقبة أمرها أبدًا إلى خير إن شاء الله.

واجب الوقت على أهلنا وإخواننا في سوريا الحبيبة:

يا أهلنا وإخوتنا في سوريا الأبية الفرحة الحبيبة.. هنيئًا لكم ما أنجزتموه، ولكن ما ينتظركم من تحديات ومؤامرات على ثورتكم وتضحياتكم كبير جدًا، يتطلب منكم الاتحاد والتراص والتكتل، وتغليب مصلحة الوطن، وتجاوز الأهواء والحسابات الجزئية؛ قال تعالى: ﴿ولا ‌تنازعُوا فتفشلُوا وتذهب رِيحُكُم ﴾ [الأنفال: 46].

عليكم بالوعي قبل السعي، والوعي مطلوب من الجميع في الداخل والخارج، الوعي بتاريخ الثورات وإجهاضها، والسنن وطبائع الشعوب، وطبائع المراحل الانتقالية، عليكم بالصبر وطول النفس، والتعاون والتناصر والتآخي، وتقديم النموذج الحي لقيمة الحرية والكرامة.

وعلينا جميعًا ألا ننشغل في غمرة الفرح بسوريا ونصرها عن غزة ومحنتها، فجرحنا واحد وهمنا واحد، وكلنا أمل أن يكون تحرير سوريا هو مقدمة التحرير لبيت المقدس وبقية العواصم العربية، وما ذلك على الله بعزيز.

—————————-

سوريا: تكشف حقائق المسلخ البشري/ رياض معسعس

تحديث 25 كانون الأول 2024

الفرحة الأعظم للشعب السوري بزوال نظام بشار الفار إلى موسكو على عجل تحت جنح ليل، وبتكتم شديد حتى على أخيه ماهر تاجر الكبتاغون، لا تساويها فرحة، فرحة أكثر من نصف قرن من البلاء، والرجاء، من الجراح الثخينة، من التعذيب والاختفاء، من الخراب واليباب، من الشجون والسجون.

وللسجون حكايات من الألم الدفين، لم ترها عين، ولم تسمعها أذن، حكايات تعجز على سردها الألسن، ولا يصدقها عقل سليم، أساليب تعذيب ينتصب لها شعر الرؤوس. ولا يمارسها إلا مجرمون متجاوزون حد اللامعقول. عندما فتحت سجون الطاغية التي انتشرت في جميع أنحاء سوريا، وكلها سيئة الصيت كسجن عدرا، وتدمر، والمزة وصيدنايا المكنى بـ»المسلخ البشري» تكشفت عن حقائق لا جدوى من دحضها، أو تكذيبها، فهي ماثلة تروي قصص الرعب التي عانى منها مئات آلاف المعتقلين الذين لم ينج منهم سوى النذر القليل، والباقي قتل تحت التعذيب، أو أعدم شنقا، أو طحنت عظامه بالمكابس الضخمة، أو جوعا، وخوفا، ومرضا في المهاجع الرطبة، المظلمة، المكتظة بالفتيان، والكهول، والشيوخ، والنساء اللاتي منهن اغتصبن وأنجبن في المعتقلات واحتضن اطفالهن الذين كان آباؤهم جلاديهم. في غمرة فرحة الانعتاق مما لا يطاق، والمقابر الجماعية المكتشفة التي تحتوي على مئات آلاف السوريين تشهد على ذلك. يحضرني الكثير من أسماء رجال ونساء ناضلوا عمرا كاملا في مواجهة نظام الإجرام، قضوا قسطا منه في زنازين الطاغية، وقضوا قبل أن تصل سوريا إلى الفرحة الأعظم، وكم أتأسف على هؤلاء الذين لم يشهدوا ثمرة نضالهم، لم يروا ملايين السوريين في الساحات يهتفون حرية، حرية. أذكر هنا حكاية المناضل الكبير ميشيل كيلو ابن اللاذقية، المولود في العام 1940، صحافي، وكاتب، وسياسي شغل منصب رئيس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سوريا، وكان ناشطا في لجان إحياء المجتمع المدني، عضو سابق في الحزب الشيوعي، ورئيس اتحاد الديمقراطيين السوريين، واحد أعضاء مجموعة ربيع دمشق. اعتقل في العام 2006 بتهمة إضعاف الشعور القومي، والنيل من هيبة الدولة، وإثارة النعرات المذهبية.

وقضى في السجن سنوات ثلاث ثم رحل إلى فرنسا وكان عضوا في المجلس الوطني، والائتلاف الوطني اللذين شكلا بعد الثورة. ويروي ميشيل كيلو عن فترة سجنه قبل رحيله في العام 2021 متأثرا بمرض الكورونا في أحد مشافي باريس، وترك رسالة أخيرة مسجلة قبل رحيله يدعو كل السوريين إلى المضي في ثورتهم حتى ينالوا حريتهم، لأن الحرية هي أسمى معايير الإنسانية، له حكاية تعكس حتى في ذاك الوقت قبل أن تنطلق الثورة السورية في العام 2011 ودخول سوريا في النفق المظلم الطويل. يقول من سجنه:» كان في الزنزانة القريبة مني امرأة مع طفلها، وكان الطفل يبكي ويصرخ (لأن المكان كان يضيق عليه ولا أحد حوله ليلعب معه ويسليه) جاءني السجان ذات يوم، وكان الطفل يصرخ، فتح الزنزانة وطلب مني قائلا: أنت رجل مثقف، هل لك أن تذهب إلى زنزانة الطفل وتحكي له قصة عله يهدأ، دخلت الزنزانة فوجدت سيدة بعمر 26 أو 27 سنة، متكورة على ذاتها ربما لأنها شعرت بالخوف عندما رأتني، ومعها كل الحق أن تخاف، لأن تجربتها كانت مريرة مع هؤلاء (الجلادين) فهي حملت بهذا الطفل وهي في الزنزانة (بعد تعرضها للاغتصاب المتكرر) ورأيت أن هناك طفلا يبلغ من العمر 4 أو 5 سنوات جميل بوجه منتفخ شاحب لأنه لم ير الشمس يوما، توجهت بالسلام للأم لكنها لم ترد السلام، قلت لها: يا ابنتي أنت كابنتي، وكانت ابنتي شذى تقاربها العمر، وأنا مطلوب مني أن أحكي قصة لابنك فماذا تريدين أن أحكي له، فتلعثمت، وشعرت بالخجل، وامتنعت عن الكلام، توجهت للطفل وبدأت بسرد حكايتي، قلت له: «كان في عصفور، فسألني:»شو عصفور؟» كنت أحكي قصة لفكرة الطفل المجردة التي تتطابق وعقلية الطفل، كفراشة، والفأر، والشمس، والشجرة، والماء،..هذه هي المفردات التي كنت أرغب أن أوظفها. فسألني مرة أخرى:»شو العصفور؟» لقد حرت جوابا كيف لي أن أشرح له «شو العصفور» قلت:» العصفور على الشجرة» فسألني:»شو الشجرة» شعرت بالورطة، ولم أعد أعرف ماذا أحكي له. قلت في نفسي سأغني له أغنية، فغنيت له أغنية، ماما زمنها جاية وما شابهها، ثم طرقت على باب الزنزانة والدموع تفيض من عيني، والأم تجلس جانبا ولم تزل متوجسة، طلبت من السجان أن يخرجني لأني كدت أن اختنق، سألني ألم تحك له قصة؟ أجبت:» هل هذا الطفل لم يخرج من هذه الزنزانة أبدا؟ أجاب: نعم لم يخرج أبدا. لا يعرف ما هو العصفور، ولا يعرف ماهي الكرة، ولا الشمس، ولا الشجرة، ولا الهواء، لا يعرف شيئا، سألته عن الفتاة فقال لي لقد اعتقلوها كرهينة للضغط على أبيها (المطلوب أمنيا) الذي هرب إلى عمان، وكما ترى فقد أنجبت هذا الطفل هنا في السجن».

هذه قصة من قصص ألف قصة وقصة تحكي حالة صبية بريئة اعتقلت لا ذنب سوى أن والدها كان معارضا، فتعرضت للسجن والاغتصاب والحمل والولادة في السجين ككثير من السجينات اللاتي اعتقلن بعد الثورة، وربما كانت الأقل وطأة ووحشية وسادية. فبعد أكثر من خمس عشرة سنة تقريبا، وعندما تم فتح سجن صيدنايا الرهيب، الذي كني بـ» المسلخ البشري» الذي يفوق الباستيل، وأبو غريب، وأبو سليم، وغوانتنامو، وأوشفيتز، رعبا وهمجية يصعب وصفها، وشاهد العالم أجمع كيف تم تحرير النساء اللواتي لا ذنب لهن سوى أنهن كن من أهالي متظاهرين مطالبين بثورة الحرية والكرامة، في هذا السجن أيضا كان هناك أطفال ولدوا في السجن بعد اغتصاب أمهاتهم، إحداهن قالت إنها أنجبت ثلاثة أطفال لا تعرف من آباؤهم أيضا، لأن مغتصبيها كانوا يعصبون عينيها كي لا تراهم عندما يقومون بفعلتهم الدنيئة، والطفل الذي شوهد في الصور التي تم بثها على شاشات التلفزيون وولد من أم مغتصبة، عندما خرج مع أمه إلى الهواء الطلق، ومشى في الشارع لأول مرة، ويرى الشمس، ويتنشق الهواء، ويرى العالم، قال لها:» ماما خلينا نرجع على البيت هون في هوا كثير». كان السجن بالنسبة له بيته، لم يعرف سواه، لم يخرج من محيط الزنزانة التي وضعت فيها أمه، كذاك الطفل الذي لا يعرف ما هو العصفور، ولا الشجرة، وهذا البيت الذي ولد بين جدرانه العتمة الرطبة ليس فيه هواء، ولا شمس، ولا ماء، ولا شجر، ولا عصفور، ولا فراشة.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————

موجات متجددة للربيع العربي بعد سقوط نظام الطاغية بشار الأسد/ نبيل السهلي

تحديث 25 كانون الأول 2024

ثمة أسئلة تبرز إلى الأمام وبقوة بعد أن  أسقط الشعب السوري أخيراً  نظام الطاغية بشار الأسد؛ وفي مقدمتها هل تشهد ميادين التحرير والتغيير في ساحات غالبية الدول العربية موجة ثانية للربيع العربي وتطيح بالنظم العسكرية الاستبدادية؟ خاصة وأن ظواهر البؤس والحرمان والاستبداد وغياب العدالة والكرامة والمواطنة هي سيدة المشهد حتى اللحظة.

الفساد والإفساد

يلحظ المتابع اشتداد وطأة القبضة الفولاذية للنظم العربية الحاكمة في غالبية الدول العربية منذ عدة عقود خلت، لكن الأخطر أن تلك الدول باتت خلال العقد الأخير تعتمد إلى حد كبير على مليشيات وعصابات طائفية داخلية أو عابرة للحدود بشكل لافت على حساب مؤسسات الدول، ليصبح المواطن العربي أسيرا لمصطلحات عديدة فرضتها تلك النظم، وباتت هي الناظم الوحيد لحركة المجتمعات العربية ونشاطاتها المختلفة، في الوقت الذي تتطلع فيه تلك المجتمعات إلى بناء المؤسسات التي تعبّر عن ديناميكية المجتمع وقدراته وقواه الحقيقية وكفاءاته الكامنة، لتنتشر ظاهرة الفساد والإفساد وتصل إلى أهم سلطة في الدولة المتمثلة بالقضاء، ولتصبح الرشوة سيدة الموقف، وليصبح الحق باطلاً والباطل حقا في غالب الأحيان، لكن الحَكَم والجلاد يبقى في نهاية المطاف سلطة العسكر، العسكر وحدهم، ولتنتشر بعد ذلك ظاهرة الفساد والإفساد والتسلّط في مناحي الحياة كافة في غالبية الدول العربية، مع استمرار تبوؤ تلك النظم ريادة الحياة السياسية والاقتصادية.

تبديد الطاقات

تحكم أقلية من السكان التي تعيش على فتات النظام السياسي القائم بالقسم الأكبر من الدخل القومي لهذه الدولة أو تلك، وكان ذلك مقدمة لتهجير الملايين من الدول العربية باتجاه الغرب وبينهم طاقات علمية وأكاديمية عالية، وبقيت أكثرية المجتمعات العربية عُرضة لتفاقم ظاهرة الفقر المدقع والبطالة والجوع والحرمان،وقد أدى ذلك إلى تحكم أقلية من السكان التي تعيش على فتات النظام السياسي القائم بالقسم الأكبر من الدخل القومي لهذه الدولة أو تلك، وكان ذلك مقدمة لتهجير الملايين من الدول العربية باتجاه الغرب وبينهم طاقات علمية وأكاديمية عالية، وبقيت أكثرية المجتمعات العربية عُرضة لتفاقم ظاهرة الفقر المدقع والبطالة والجوع والحرمان.في مقابل ذلك يتوزع الدخل القومي بشكل أكثر عدالة نسبياً في الدول المتطورة، وبالأرقام ثمة 10 في المائة من سكان الوطن العربي يستحوذون على 90 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي يجعل 90 في المائة من السكان تحت خط الفقر، ويضعف خياراتهم الصحية والتعليمية والترفيهية.

سلطة العسكر

تبوأ العسكر السلطة في غالبية الدول العربية إثر استقلال وهمي قبل أكثر من سبعة عقود خلت، وتبعاً لذلك تمت سطوة العسكر على كافة مقاليد الحياة في غالبية الدول العربية، وتمّ إخضاع المؤسسة العسكرية لتوجهات النظم المستبدة، حيث لم يتم تشكيل الجيوش وصياغة المؤسسة العسكرية بشكل يلبي تطلعات الشعوب العربية وتطورها، ناهيك عن حفظ الأمن والسلم الأهلي، وحماية الأوطان من أي عدو خارجي يتربص بالدول العربية ومقدراتها الوفيرة. وكانت موازنات الجيوش العربية وما زالت عبئاً إضافيا على الشعوب العربية والتنمية المستدامة والتعليم والصحة والرفاه الاقتصادي والاجتماعي. وتشير دراسات إلى أن إجمالي الإنفاق العسكري والأمني التراكمي للبلدان العربية قدِّر بنحو تريليون و(700) مليار دولار خلال فترة ما بين 2002 و2024. ومرد ارتفاع الإنفاق العسكري والأمني لغالبية البلدان العربية ن بغرض دعم عدد أفراد الجيوش والأجهزة الأمنية، وشراء أسلحة ومعدات عسكرية وأمنية، ورفع رواتب العسكريين وأفراد قوات الأمن بمختلف مسمياتها  للحفاظ على العروش في الدرجة الأولى.

وتبعاً لذلك، يفوق حجم ما تنفقه الدول العربية وبلدان أخرى في العالم الثالث على المجال العسكري، ما يتم إنفاقه على التنمية الاقتصادية والمجتمعية والبنية التحتية وخلق فرص عمل والتعليم والصحة والبحث العلمي وغير ذلك، ويترجم ذلك بعدم إخضاع الإنفاق على التسلح والأمن لمعايير تراعي ضرورات أن لا يؤثر على متطلبات تنمية مستدامة ومتوازنة، ومعالجة المعضلات الاقتصادية والفقر والعوز والحرمان في الخدمات العامة والرعاية الاجتماعية.

مستقبل محتوم

من نافلة القول أن  غالبية الشعوب في الدول العربية ترزح تحت سيف التهجير والفقر والحرمان، فضلاً عن اتساع معدلات الأمية وهجرة مزيد من رأس المال البشري العربي ورؤوس الأموال العربية المالية إلى الدول الغربية كأمريكا والدول الأوروبية التي تتمتع باقتصاديات قوية ومتطورة، في وقت وصلت فيه قيمة الديون الخارجية على الدول العربية خلال العام المنصرم 2023 إلى أكثر من تريليون ونصف التريليون دولار، وكافة تلك المؤشرات البائسة إنما هي زلازل من صناعة النظم العربية المستبدة والمتحكمة برقاب الشعوب العربية ، وتبعاً لذلك ستنطلق موجات ربيع عربي جديدة وشاسعة بعد سقوط نظام الطاغية بشار الأسد أخيراً مطالبة بالعدالة والحرية والكرامة وصولاً إلى إسقاط النظم المستبدة وهذا مستقبل محتوم كنظام الطاغية الهارب بشار الأسد. 

كاتب فلسطيني مقيم في هولندا

القدس العربي

——————————

الإسلاميون بين الشريعة والتاريخ/ علي العبدالله

25 ديسمبر 2024

أثار نجاح الفصائل المسلحة، إسلامية التوجّه، في إسقاط النظام السوري أسئلةً كثيرةً، وتوجّسات أكثر، لدى سوريين كثيرين، على خلفية الصورة الذهنية التي تشكّلت عن هذه الفصائل (هيئة تحرير الشام بشكل خاص) في السنوات الماضية، تمثلت بانفرادها بالسلطة في مدينة إدلب وقمعها المخالفين والمعارضين، بقسوة وشراسة، واستئثارها بمعظم خيرات مناطق سيطرتها. وقد جاءت تصريحات قادة ومسؤولين في صفوف سلطة الهيئة لتحوّل التوجسات مخاوف.

قال وزير العدل في الحكومة المؤقتة، شادي الويسي، عند استلامه قصر العدل في حلب: “التوجّه اليوم إلى تطبيق الشريعة الإسلامية”. وقال المتحدّث الرسمي باسم الإدارة السياسية، عبيدة أرناؤوط، “إن بعض الوظائف غير ملائمة للمرأة لأن كينونتها، بطبيعتها البيولوجية والنفسية، لا تتناسب مع الوظائف في الدولة، كوزارة الدفاع مثلاً”، وأضاف: “ما زال مبكّراً الحديث عن عملها في مجال القضاء، وسيُترك للمتخصّصين والقانونيين الدستوريين، الذين يعملون لإعادة النظر في شكل الدولة الجديدة والمحدّدات التي ستوضع لعمل المرأة (عنصراً مهماً ومُكرّماً) وضرورة أن تكون المهام المنوطة بها تناسب طبيعتها البيولوجية”. وقد طلب القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، من النساء في وفد المبعوث الأممي، غير بيدرسون، وضع غطاء للرأس عند التقاط الصور الرسمية.

ينطلق الإسلاميون في تحديد رؤاهم ومواقفهم من فرضية خاطئة تعتبر أن ثمّة تطابقاً بين الشريعة والتاريخ الإسلاميين؛ وتعتبر، في ضوء ذلك، ما حصل في التاريخ الإسلامي جزءاً من الدين الإسلامي. عدا عن إسباغهم هالة من التعظيم والتقديس على أوائل المسلمين، يصفونهم بالسلف الصالح، ويعتبرون تقويمهم أو نقدهم نوعاً من التجديف. وقد تجلّى ذلك في إطلاق حركات ومنظّرين إسلاميين على أنفسهم وصف “سلفي”، أي أنه يقتدي بالسلف.

واقع الحال أن افتراقاً ما حصل بين الشريعة والتاريخ، بدأ مبكّراً ثمّ توسّع وتفاقم ليحرّك التاريخ الإسلامي خارج توجيهات الإسلام وهديه. بدأ الخرق الأول في سقيفة بني ساعدة لحظة إعلان وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام)، إذ بلغ نبأ اجتماع الأنصار في هذه السقيفة لاختيار قائد يحلّ محلّ الرسول الكريم في إدارة الاجتماع الإسلامي، فتوجّه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح إلى السقيفة، ودخل أبو بكر وعمر في نقاش مع الأنصار حول الأحقّية في القيادة، طُرحت خيارات وبدائل من دون أن تحوز اتفاقاً، فطلب عمر من أبو بكر أن يمدّ يده ليبايعه قاطعاً الطريق على استمرار النقاش. قال عن خطوته لاحقاً “إنها فلتة وقانا الله شرّها لن أعود إليها ثانية”.

قطعت البيعة الطريق على محاولات الأنصار تسنّم قيادة المسلمين، لكنّها فتحت خلافاً بين المهاجرين تجسّد في تحفّظ علي بن أبي طالب على خلافة أبو بكر، كان يرى نفسه أحقَّ، لسابقته في الإسلام، ولأنه ابن عمّ الرسول وزوج ابنته، بقي ممتنعاً عن المبايعة قبل أن يعود ويبايع عند انفجار تمرّد القبائل وبدء عملية فرض السيطرة عليها، المعروفة في التاريخ بحروب الردّة. لم تكن ردّة عن الدين، بل رفضاً لسلطة الدولة القائمة في المدينة المنورة والتوقف عن دفع الزكاة والخراج لها.

تعكس هذه الوقائع حصول خروج صريح عن توجيهات الإسلام وهديه، باعتبار الأمر/ السياسة شورى بين المسلمين. وقد تكرّر الخروج في توصية الخليفة أبو بكر بتولية عمر بن الخطاب من بعده. عدّل عمر الموقف نسبياً بتسمية ستّة من الصحابة مهمتهم الاتفاق على مرشّح للخلافة بعده. وبعد مقتل ثلاثة من الخلفاء (عمر وعثمان وعلي)، وقفز معاوية بن أبي سفيان إلى سُدّة الخلافة، وتحويله الحكم وراثةً، يرث الابن أباه من دون اعتداد بالأهلية والعمر، خلال حكم بني أميّة، استمر ذلك في خلافة بني العبّاس، تاركين أهم توجيه في إدارة الحكم؛ الشورى، خلفهم.

لم يكن الخروج عن توجيهات الإسلام وهديه مقصوداً لذاته، بل نتيجة صراعات قبلية، وتوازن قوى بين قبائل الجزيرة العربية، أكّده اشتراط فقهاء السياسة المسلمين القرشية، أيّ أن يكون المُرشّح للخلافة من قبيلة قريش، شرطاً من شروط تولّي الخلافة، ما وضع العرب من غير قريش، والمسلمين من غير العرب، خارج عملية التنافس على القيادة. وهنا يمكن تلمّس عدم دقّة تسمية خلافة الخلفاء الأربعة الأوائل (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) بالخلافة الراشدة، لأنها لم تسر في وتيرة واحدة، ولما شهدته من تباين في الظروف والسياسات المعتمدة، حيث استخدم عمر الشدّة في تطبيق السياسة، وقدّم عثمان أقرباءه من بني أميّة، وسلّمهم مناصبَ مهمّة في الدولة والولايات، وأجزل لهم الأعطيات، وقُتِل في معركتَي صفّين (بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان) والجمل (بين علي وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ومعهما عائشة، زوج الرسول) أكثر من عشرين ألفاً من المسلمين.

لقد أصبحت الوراثة والتغلّب السمة العامّة للحكم في التاريخ الإسلامي مع بقاء أصوات وبؤر مقاومة صغيرة تنادي بالشورى والمساواة بين المسلمين في قيادة الحكم. استبعد الشراة، كما يصفون أنفسهم، والخوارج، كما يصفهم خصومهم، شرط القرشية من شروط الخلافة. هذا وقد اصطبغت الاجتهادات الفقهية والاجتماعية، التي نشأت بالتزامن مع تصاعد الصراع السياسي القبلي في فترة خلافة بني أميّة، وما ترتّب عليه من انقسام مجتمعي على خطوط قبلية، بالمناخ السائد، وعزّزته في الوقت نفسه بانخراطها في تبرير مواقف وسياسات الفريق الذي تنتمي إليه قبلياً وسياسياً ومنافحة الفرق الأخرى، التي تعدّدت وتزايدت وتعمّقت خلافاتها. وكانت الفتوحات التي انطلقت قد أتاحت تغذية الصراع وتكريسه بحجم الأموال، التي بدأت تضخّ إلى خزينة الخلافة، يستخدمها الخليفة في تعزيز المجتمعات التي تتبنّى مواقفَ مواليةً له، وشراء ذمم المخالفين والمحايدين بالأعطيات من الذهب والفضّة والجواري. وقد تكرّست هذه السياسة وتعمّقت خلال فترة حكم بني العباس مع بروز ظاهرة الاعتماد على غير العنصر العربي، ليس من باب تكريس العدالة والمساواة اللتين انطوى عليهما التوجيه والهدي القرآنيان، بل لضمان الولاء والإخلاص على خلفية انعدام الثقة بالقبائل العربية بعد انقسامها وانخراطها في التنافس على السلطة، وهذا قاد إلى انفجار الصراع بين المسلمين العرب وغير العرب، ونشأة ظاهرة الشعوبية، وتجنيد مقاتِلة من غير أهل البلاد، يجلبون أطفالاً من القوقاز وأرض الديلم ويخضعون لتربية وتدريب خاصّين، فيصبحون مقاتلين أكفاء، وتفشّي ظاهرة الجواري والمحظيات والغلمان، وبدء تشكّل مجتمع الحريم والفصل بين الرجال والنساء.

ارتبك المسلمون وشهد اجتماعهم البلبلة والحيرة، إذ ثقل عليهم إدراك خلفيات الصراع والقتل المباشر لبعضهم وهم قريبو عهد بالدين والإيمان، وعجزهما (الدين والإيمان)، عن ردّهم إلى صوابهم والكفّ عن سفك دم بعضهم الذي حرّماه، ما رتّب ظهور تيّار “لاأدري” تمثّل بالمرجئة، وتيّار جبري تمثّل بالجهمية، مع أنهما يتعارضان مع فلسفة الإسلام القائمة على العقل وحرية الإرادة والاختيار. هذا وقد قاد الاحتكاك والتفاعل مع الفكر العلمي والفلسفي لدى الشعوب والمجتمعات القريبة أولاً، والبعيدة بعد توسّع الفتوحات، إلى ظهور فلاسفة ومفكّرين كثر، الكندي والفارابي وابن سينا والمعتزلة، حرّكوا الإبداع والإنتاج الفلسفيين والعلميين. غير أن الصراع على الخلافة بين الأسر القوية وأبناء المجتمعات حديثة الإسلام، وبدء ظاهرة استقلال الولاة وابتزازهم للخلافة وسيطرتهم عليها، والتحكّم بمصير الخلفاء وقتلهم، وظهور تيّارات سياسية ذات نزوع معارض (القرامطة والإسماعيليين والفاطميين)، وبروز تيّار أهل الحديث (الحنابلة والأشاعرة) بعد انقلاب أبو الحسن الأشعري على المعتزلة، وانتصار تيّاره في المواجهة مع الحنابلة، واستحواذه على تسمية “أهل السنّة والجماعة”، الذي كان يشير إلى الحنابلة… ذلك كله حوّل الأشعرية إلى التيّار الغالب، وأصبحت العقيدة الضمنية للمسلمين السنّة، بمن في ذلك التيّارات الحديثة والمعاصرة، التي يعكسها قبول عام بتحديد ساحة فعل حرّية الإرادة البشرية، وربط ما يدور في الكون بالله عزّ وجل، وإلقاء مهام كثيرة عليه لأنه يدير الكون بشكل لحظي، واعتماد الدعاء لتلبية الحاجات على الضدّ من توجيه القرآن الكريم بالدعوة إلى التفكّر واكتشاف الكون المحكوم بسنن ونواميس ثابتة تحكم الطبيعة والبشر، وعلى الإنسان اكتشافها واستخدامها في مواجهة واقعه وتحقيق أهدافه والوصول إلى تأمين حاجاته.

تكمن نقطة ضعف المجتمعات المسلمة في تبنّيها المُعلَن والمُضمَر، الواعي وغير الواعي، للأشعرية فكراً وممارسةً، وتجاهل السنن والنواميس وقانون السببية وعدم التعاطي مع الظروف بتحديد الأسباب والعلل والبحث عن سبل حلّ التعقيدات وتجاوز العقبات، وقد زادت ظاهرة المشيخية الطين بِلَّةً باعتمادها الرواية الشفهية حول الأسلاف وممارساتهم وحجم تفرّغهم للعبادة، واعتبار عدم الاقتداء بهم شرّاً يمكن أن يؤدّي إلى التهلكة يوم الحساب. استمع كاتب هذه السطور وهو في وسيلة نقل عامّة خلال شهر رمضان، إلى حديث ديني لأحد مشايخ الشام، الذي انبرى يقرّع المسلمين الذين يكتفون بقراءة قصار السور في صلاة التراويح، ويضرب أمثلة من الأسلاف كيف كانوا يقرأون “ميايا” (يقصد مئات) السور في كلّ ركعة، متجاهلاً ظروف العصر والجهد الذي يبذله الإنسان لتوفير احتياجات أسرته، والتعب الذي ينال منه طوال النهار، وحاجته إلى الراحة كي يقوم إلى عمله في اليوم التالي سليماً معافى، في مقابل حياة السلف البسيطة في احتياجاتها ووجود مصدر دخل في المتناول يوفّره بيت مال المسلمين، روايات تنطوي على سرد لنماذج شديدة المثالية مرفقة بدعوة للاقتداء، وإلّا فالويل والثبور وعظائم الأمور.

في العودة إلى مقولة “تطبيق الشريعة”، و”تحديد أعمال تتناسب مع طبيعة المرأة البيولوجية والنفسية”، المشار إليهما في صدر المقالة، سوف يكتشف الباحث المدقق أن القضية ليست أكثر من قول نمطي لجماعات الإسلام السياسي، التي إن كانت تجاوزت أشعريتها بانطلاقها العملي، التنظيمي والسياسي والعسكري، من أجل تغيير واقع المسلمين المريض، وفق قولها، إلّا أنها بقيت مقلّدةً ونمطيةً تعتمد النقل لا العقل، متمسّكة بالفقه القديم وتقليد الأسلاف. فقد سلّمت بكل ما حصل في التاريخ الإسلامي من اجتهادات فقهية وممارسات عملية واعتبرتها جزءاً أصيلاً من الدين الإسلامي، مع أنها اجتهادات بشر في ظروف علمية وثقافية واجتماعية محدّدة وأنها لا تُلزم المسلمين خارج زمان ومكان طرحها. ما يستدعي الفصل بين الشريعة والتاريخ أولاً، كي نتحرّر من ثقل التراث، الذي يربض على ظهورنا؛ ونعود إلى الشريعة في القرآن الكريم للتعاطي معها وفق قدرات علمية ومعرفية حديثة، وسنجد عندها أنها في القرآن الكريم وصحيح السنّة النبوية محدّدة ومحدودة، إذا وضعنا العبادات جانباً فالقضاياً التي حدّدها القرآن الكريم قليلة؛ الشورى في مجال إدارة المجتمع؛ المساواة والعدل بين الناس، لم تحدّد أطرها وطرق عملها، بل تركت للمسلمين كي يحددوها، الأحوال الشخصية؛ زواج وطلاق وميراث، اقتصاد؛ كتابة العقود والديّن، الحدود؛ السرقة والحرابة والزنى. وتُرِك تفصيلها وتغطية ما لم يرد والتعامل معها لتقدير المسلمين في الزمان والمكان.

غيّر الشافعي فتاويه في كتاب الأم عندما انتقل من العراق إلى مصر، والفارق سنوات، فكيف ونحن نبعد عن كثير من الفقهاء مئات السنين، وقد تغيّرت الظروف وتطوّرت القدرات الذهنية والعلمية والصناعية للبشر، وزاد عدد المسلمين آلاف مضاعفة؟ وكذلك قضية المرأة، التي دخلت سوق العمل، وشغلت الوظائف في دول العالم كلّها من دون أن يمنعها ما يقوله الإسلاميون “طبيعتها البيولوجية والنفسية”. كان في مكّة عند نزول الرسالة فقط 17 رجلاً يجيدون القراءة والكتابة، بينما لا يخلو (الآن) أيّ مجتمع من ملايين يجيدون القراءة والكتابة والخبرات المنوّعة في مجالات الحياة كلّها. لذا تجب إعادة تأسيس فهمنا للشريعة ومعالجة قضاياها في ضوء شروط العصر، وتجسيدها بأطر اجتماعية واقتصادية بحيث تفيد البشر، لأنها جاءت لخدمتهم.

العربي الجديد

——————————–

هل يفلح الجهاديون بما أخفق فيه “الإخوان”؟/ سامر خير أحمد

25 ديسمبر 2024

لا يمكن لثورة مسلّحة في العالم العربي، تواجه نظاماً فاشياً مسلّحاً وتنتصر عليه، إلّا أن تكون إسلامية متشدّدة، تَعِد كوادرها بالشهادة في سبيل الله، فيطيب لهم أن يحملوا أرواحهم على أكفّهم ويضحّوا بدنياهم كي يكسبوا آخرتهم. بغير ذلك، لا يمكن بناء ثورة ناجحة، كأن تكون قيادتها علمانية أو ملحدة، ولو سمّت نفسها وطنية أو قومية. تلك ثقافة هذه المنطقة من العالم، ومن يتخيّل غير هذا فليس في رأسه عينان.

لذلك، لم تكن إطاحة النظام السوري لتتمّ بغير الطريقة التي جرت؛ أي بأيدي ثوّار إسلاميين متشدّدين. لكن السؤال الآن، وقد شاعت وعود هؤلاء المتشدّدين بأن يصيروا معتدلين، ويقبلوا تعدّد الرأي، وتداول السلطة، وبناء دولة للجميع: هل يمكن لاعتدالهم أن ينجح في شأن الحكم كما نجح تشدّدهم بشأن الثورة؟ بكلمات أخرى، هل يمكن لهم في مرحلة الاعتدال أن يُغروا كوادرهم بالاجتماع حولهم، وقد انقلبوا على خطابهم الأصلي الذي كان يستبعد الجميع؟ أم أن ضمان ولاء كوادرهم وبقاء سيطرتهم على الحكم سيجبرهم على العودة إلى خطابهم المتشدّد الإقصائي؟ وهل يمكن لتلك الكوادر التي جمعتها العاطفة الدينية أن تحيّد تلك العاطفة التي لا تسمح برأي آخر يستند إلى غير الدين، ولا تقبل امرأة غير محجبة، ولا تتقبّل هُويَّة وطنية محلّ الدينية، ما دامت ستساوي بين أتباع الأديان؟ أم أن التشدّد الذي كان ضرورياً في الثورة سيكون ضرورياً في السياسة والحكم، كي لا ينقضّ إسلاميو السلطة على حكمهم من بعد قوة؟

لا تعني تلك التساؤلات بالضرورة التسليم بأن القيادات تغيّرت حقاً، إذ ربّما تتغيّر، وربّما يكون تغيّرها تكتيكياً، لكن كوادرها، في الحالين، ستتساءل عن هذا الخطاب الجديد المُعتدِل، ولن تتفهّمه وتوافق عليه، وستعتبره تفريطاً، خصوصاً أنه جُبِل بالدم والتضحيات في زمن الثورة التي طالت. ربّما ستكون تلك القيادات التي تَغيّر خطابُها نحو الاعتدال بين نارين، إرضاء أنصارها وكوادرها الذين قدّموا معها التضحيات، وأداء متطلّبات الحكم وفنون السياسة التي تستوجب الاعتدال داخلياً وخارجياً. الأمر الوحيد الذي يمكن أن يقنع تلك الكوادر، من دون أن يدفع القيادات التي تجنح نحو الاعتدال إلى الإخلال بالتزاماتها الجديدة، هو انخراط القوّة الإسلامية المتشدّدة، التي أنجزت إسقاط النظام السابق، في عملية سياسية حقيقية تشارك فيها جميع التيّارات والقوى والاتجاهات السورية، لكنّها تُفضي إلى اكتساحها نتائج الانتخابات، فتجمع الحسنيين، أنها بدت ديمقراطية، وأنها فرضت حكماً إسلامياً يُرضي جمهورها.

هل سيحدث هذا؟… تؤيد المؤشّرات ذلك، حتى وإن كان غير ممكن الجزم بمدى حضور كلّ تيّار على المستوى الشعبي، إذ لم تعرف سورية قياساً حقيقياً لمقدار شعبية التيّارات السياسية منذ عقود طويلة، ولم تشهد أي انتخابات حقيقية، ولو على المستوى الطلابي أو البلدي، ناهيك بالطبع عن المستوى البرلماني. وفق تلك المؤشّرات فإن ما سيجري لا يختلف كثيراً عن المراحل الأولى التي أعقبت نجاح الثورات في تونس ومصر؛ توافق وطني على دستور جديد، تتبعه انتخابات ديمقراطية يفوز فيها الإسلاميون. الفارق هنا أن الإسلاميين الذين سيطروا على المشهد السياسي في سورية، ويُتوقّع أن تدفعهم أي انتخابات مقبلة لمواصلة تلك السيطرة، ليسوا من جماعة الإخوان المسلمين، كما كان الحال في تونس ومصر. هم ليسوا أبناء السياسة ولم يتعوّدوا ألاعيبها، كما هو حال “الإخوان”. وهم ليسوا أبناء تنظيم جرى تصميمه لأغراض سياسية في الأصل، كما هو حال “الإخوان”. فهل يمكن أن يساهم ذلك في إنتاج حالة غير تلك الإخوانية التي فشلت في تونس ومصر؟

الأمر منوط بسلوك القيادة الإسلامية في سورية خلال مرحلة ما بعد فوزها بالانتخابات. هناك بالضبط عليها أن تعيد استعمال الخطاب القرآني (الذي يُرضي جمهورها) في وظائف معرفية وثقافية ونفسية تناسب مرحلة بناء الدولة. والقرآن في سياقاته الخطابية واللغوية الموجهة للمسلمين يشترط عليهم التقوى؛ أي العدل. كما يشترط عليهم الإيمان، ما يعني أن قيادة الدولة ببرنامج إسلامي لا يتطلّب تشدّد قاعدتها الشعبية بالضرورة. والأمر ممكن ليس لأن الفكر الإسلامي في الشام معتدل بطبيعته، فالاعتدال لم يشفع في منع ولادة التشدّد والتطرّف سابقاً في سورية، ولكنّه ممكن لأن تلك الجماعات المتطرّفة المخلصة لتطرّفها إنما نبتت في بيئة القمع والإرهاب، ومثّلت ردّة فعل عليه، تستنجد من خلال تشدّدها بتأييد الله لها ضدّ تلك القوة الغاشمة، التي كانت تُسمِّي نفسها نظاماً وطنياً حاكماً. التطرّف الديني ليس أصيلاً إذاً، ولم يكن ليظهر لولا تطرّف العصابة الحاكمة، وهذا يعني أنه سيكون ممكناً للقيادات الإسلامية الجديدة (إن أرادت) أن تغيّر من فِكَر جمهورها المتشدّد، قبل أن يحرقها سياسياً بتشدّده.

وصل “الإخوان المسلمون” الذين سيطروا على ثمار الثورتين في مصر وتونس إلى السلطة بفضل تاريخهم السياسي، من غير أن يكونوا واجهة الثورة، وركنوا إلى خطابهم التقليدي الذي قوامه الاعتدال، لأنهم لم يواجهوا ضغطاً شعبياً من جمهور متشدّد يعتبر نفسه شريكاً في توجيه الحُكم. ورغم أن هذا كلّه لم يكن السبب المباشر في فقدانهم السلطة، فإنه كان كافياً لانكشاف ظهورهم، وتخلّي ناخبيهم عنهم في مواجهة الثورة المضادّة، لأن جمهورهم لم يكن مرتبطاً بهم عضوياً، كما هو حال إسلاميي السلطة الجديدة في سورية.

الحال إذن أن التحدّيات في زمن بناء الدولة لا تقلّ خطورة عن التحدّيات التي كانت في زمن الثورة. لم نسمع في التاريخ المعاصر عن ثورة مؤدلجة نجحت في السيطرة على الحكم ثمّ صارت معتدلة وديمقراطية تقبل التعدّدية وتداول السلطة. لم يحدث ذلك عند الثوار الماركسيين، ومن الممكن ألّا يحصل عند الثوار السلفيين، الذين يؤمنون بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو من الظالمين، إلّا لو كانت سورية ستقدّم نموذجاً مختلفاً، وتجترح تاريخاً جديداً، وتكون حالة مختلفة في بناء دولتها، على أنقاض دولة الفرد السفّاح وابنه الطاغية.

العربي الجديد

————————-

 أتعرفين ما هي السياسة يا صفيّة؟/ عمر قدور

الثلاثاء 2024/12/24

في استقبال وليد جنبلاط يوم الأحد، ظهر أحمد الشرع مرتدياً ربطة عنق، لأول مرة منذ برز اسمه كقائد لجبهة النصرة، مروراً بالتغييرات التي طرأت مع تحولها إلى هيئة تحرير الشام، وصولاً إلى امتلاك مقاليد الحكم في دمشق. وربطة العنق، كما هو معلوم، رسالة سياسية لأن القادة المحسوبين على التنظيمات الإسلامية السنّية يتحاشون ارتداءها، رغم عدم وجود اتفاق على تحريمها أو منعها. في حين فرض الملالي منعها في إيران بعد نجاحهم في استلام السلطة عام 1979، ثم أبدوا تساهلاً إزاءها في عهد الرئيس محمد خاتمي، من دون أن ينسحب ذلك على مسؤولي السلطة الذين لا يرتدونها حتى الآن.

لا يُعرف ما إذا كانت رسائل الشرع موجَّهة إلى الداخل السوري أم إلى الخارج أولاً، إلا أنها بلا شك ترضي ميلاً سوريّاً عاماً إلى الاعتدال، أفضل تعبير عنه هو الميل التصالحي لدى السوريين في مناطق كان يُخشى أن تشهد أعمال ثأر وثأر مضاد. وإذا كان التنويه بهذا الإنجاز مستحقاً للسلطة، فهو مستحق لمتضررين من المرحلة السابقة غلّبوا اعتبارات السلم الأهلي على آلامهم الخاصة؛ هؤلاء مبعث فخر حقيقي، وأفضل تقدير لهم هو الاتفاق على العدالة الانتقالية من حيث المبدأ، في انتظار إمكانية الشروع فيها.

يحاول الشرع طمأنة المتوجّسين، خارجياً وداخلياً، من حكم إسلامي متطرف. وقد نجح إلى حد كبير حتى الآن، من خلال استحقاق السلم الأهلي أساساً، ثم من خلال لفتات شكلية. ومن المؤكد أن ذلك، على ضرورته، لا يرضي إسلاميين على يساره يخشون من تكرار تجربة انفراده بالحكم في إدلب، ولا يرضي إسلاميين على يمينه يرون أنه باعتداله قد يضيّع الفرصة المواتية لإقامة دولة إسلامية. الأخيرون يسجّلون مجمل إسقاط الأسد لهيئة تحرير الشام، متناسين الثورة التي فتحت باب التغيير أولاً، وتضحيات الملايين من أجلها، ومتجاهلين العوامل الخارجية التي منعت سقوط الأسد من قبل، ثم رحّبت به مؤخراً.

وكي لا ننسب التطرف فقط إلى الذين على يمين الشرع، يجدر الانتباه إلى شريحة ممن يحسبون أنفسهم على الثورة، ويفهمون الانتصار بالمعنى الضيّق للتغلّب، والذي يقود إلى تكفير “ثوري” لأولئك الباقين تحت سيطرة الأسد حتى إسقاطه، من دون توقف عند معنى انقسام سوريا بين سلطات أمر واقع، كانت أكبرها من حيث عدد السكان هي سلطة الأسد. أيضاً، بالمقارنة مع هذا المنظور “الثوري” الضيق، ظهر الشرع مدركاً استحقاقات موقعه، فتحدث عن الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة.

لقد سقط الأسد؛ لعل تكرارها ضروري من أجل الذين لم يفكّروا بعد في المغزى الأوسع لسقوطه. إذ يمكن أن يُفهم إسقاطُه على منوال انتصار “ثورات” أيديولوجية سابقة، منها ما هو ديني كثورتي طالبان والملالي في أفغانستان وإيران، ومنها ما هو غير ديني كـ”ثورة” الضباط الأحرار في مصر و”ثورَتي” البعث في سوريا والعراق. هذا طريق مجرَّب للجمع بين السلطة والثورة، وفيه تُستخدم مزاعم الثورة لدعم التسلط والاستفراد في الحكم من قبل فئة، دينية أو غير دينية، غايتها المعلنة تحقيق أهداف كبرى غير واقعية، أو غير قابلة للقياس والمحاسبة تالياً.

ووضعُ الأيديولوجيا أمام السياسة وصفة مجرّبة خارج السلطة أيضاً، ويمكن تفهّمها في عقود خلت بسبب دأب السلطة على منع السياسة وتجريمها، ما أدى إلى محاربة السلطة التي تتلطى وراء الأيديولوجيا بأيديولوجيات أخرى. هذا يُفترض أنه انقضى، على صعيد الوعي، مع انطلاق الثورة عام 2011 بوصفها أولاً ثورة للمطالبة بالحريات السياسية، أي بوصفها ثورة ديموقراطية تهدف إلى إعادة السياسة إلى المجتمع؛ إلى إعادتها إلى مكانها الطبيعي أمام الأيديولوجيات.

اليوم، بعد إسقاط الأسد وانتهاء الانقسامات السابقة أو التقسيمات الإجبارية، يُفترض أن الخبرات التي راكمها السوريون هي ملك الجميع. هذا يصحّ على الثورات عموماً، ويصحّ على السوريين خصوصاً لما فُرض على معظمهم من أثمان باهظة. على ذلك يُفترض أن يكون ميدان السياسة مفتوحاً للجميع، باستثناء مرتكبي الجرائم والمحرِّضين على ارتكابها، فأمثال هؤلاء “في تجارب عالمية للعدالة الانتقالية” جُرِّدوا من الحقوق السياسية لمُدد تتناسب مع الجرائم المنسوبة إليهم.

إن إدراك فكرة انتهاء زمن الثورة والحرب، واستهلال زمن السياسة، يتضمن القبول بأن الملايين سيعبرون خطوط الفصل القديمة، وأن التحالفات المستجدة لن تكون على شاكلة الانقسام القديم. هي أولاً تحالفات يُفترض أن يحكمها الصراع السياسي، لا العنف، وهي تالياً محكومة بأنها ظرفية غير مستدامة، ولا بأس إطلاقاً في أن تكون تحالفات بعقلية المفرَّق لا الجملة. ومن المستحسن أن يؤخذ في الاعتبار ظرف الانتقال الاستثنائي في سوريا، حيث تشهد الظروف الاستثنائية في أعتى الديموقراطيات تحالفات الضرورة بين المتخالفين أيديولوجياً كرمى للسلم الأهلي، أو لمصلحة أخرى تعلو مؤقتاً على المبادئ.

ومن بديهيات السياسة أن الأصل فيها هو دفاع كل فئة اجتماعية عن مصالحها، وهذا لن يحدث سريعاً، لأن المجتمعات السورية تعرضت لتحطيم شديد في السنوات الماضية، والاستقرار الاعتيادي لن يستتب حتى عودة الملايين من مهجّري الداخل إلى أماكنهم، وعودة الملايين من اللاجئين خارج البلاد، أو من يرغب منهم في العودة. ذلك كله يستغرق سنوات، ويحصر الكثير من التوافقات الممكنة ضمن أطر عامة تتعلق بإطلاق عجلة الاقتصاد والحفاظ على السلم الأهلي، والعمل على مدوّنة دستورية تلبي المطالب المتعلقة بالتحول الديموقراطي، ولا تنتقص (على الأقل) من الحريات الفردية المتاحة من قبل، وفق القوانين السورية.

ومن مقتضيات السياسة اليوم البحث عن المشتركات، وتفادي ألغام النزاعات ما أمكن، من دون تفريط بحقوق أساسية. واختيار اللغة قد يساعد على ذلك، إذا صدقت النوايا، والعكس قد يحدث بطبيعة الحال عندما تروَّج خطابات بلغة تتعمد الاستفزاز أصلاً أو إثارة الشقاق. ثمة مثال ساخن، فقبل أيام قليلة كانت هناك مظاهرة في ساحة الأمويين في دمشق، نادى بعض المشاركين فيها بالعلمانية، وكان واضحاً أن هناك بينهم من هتف بالعلمانية على سبيل الاستفزاز، وهناك من هتف عن قناعة غير مدعّمة بمعرفة كافية.

ففي موضوع العلمانية، ثمة حقل دلالي صار مثقلاً بدلالات غير محبَّبة لدى كثير من السوريين، آخرها تقديم بشار الأسد نفسه علمانياً. وكان بعض العلمانويين العرب قد دأب من قبل على وضع العلمانية أمام الخطاب الديموقراطي، ليقدّم خدمة مواربة لأنظمة الاستبداد، ومنها سلطة الأسد، وثمة في التاريخ الغربي نفسه أمثلة على ديكتاتوريات علمانية، فضلاً عن تقديمها أحياناً كأيديولوجيا مضادة للإسلام تحديداً. هذا أمر واقع، يتطلب تعديله تراكماً دلالياً مغايراً يستغرق وقتاً طويلاً، بينما المطالب السياسية تقتضي ديناميكية لا تغرق في جدال لا طائل منه في المدى المنظور والمتوسط.

كان يمكن تجاوز الجدال برفع شعارات تركز على المطالبة بالديموقراطية، وبدستور يتماشى مع حقوق الإنسان، وهي مطالب قد تحظى بتوافق واسع، مع العلم أن الديموقراطيات الغربية العريقة مضت بمعظمها في هذا الطريق، من دون المرور بالجدال حول العلمانية. إلا أن هذا الاقتراح على وسائل التواصل لم يرُق للذين أرادوا أصلاً إثارة الشقاق، ومنهم أسديون صريحون وآخرون ظهر غرامهم بالأسد مع الشروع في إسقاطه. يقابلهم أولئك الذين لم يستوعبوا بعدُ سقوط الأسد، وبادروا إلى “التشبيح” بلا تمييز على المشاركات والمشاركين في المظاهرة، وأقلّهم عنفاً لفظياً هم الذين سخروا منهم لأنهم لم يكونوا يتجرؤون على التظاهر أيام الأسد، وكأن هذه “وصمة” لا تزول عن نصف السوريين بسقوطه!

من المؤكد أن حوالى نصف قرن من منع السياسية، تلاه انقسام على خلفية الثورة ثم الحرب، لا بد أن يتركا أثراً سلبياً سيجعل السوريين يتعثّرون مراراً في ممارسة السياسة. لكن، أيضاً للأسباب ذاتها، يُفترض أن يكون هناك تعطّش سوري لممارسة السياسة، وتعويض الانقطاع عنها منذ انقلاب البعث. ذلك الانقطاع جعل براغماتية الشرع تُبرزه بوصفه السياسي الوحيد، ومن الجيد أنه نجا من تهمة التكويع، ومن السيء أن يبقى منفرداً بهذه الميزة المذمومة وفق التربية البعثية الأسدية.

“المستحيل” يُطلب فقط في الثورات، بعد استنفاذ فرص السياسة، والآن هي فرصة السوريين لتجريب فن الممكن، وتفويتها من أي طرف سيكون مكلفاً جداً له وللجميع. ربما، في حالتنا، تكون السياسة مرادفاً للوطن.

(*) العنوان مستوحى من عبارة غسان كنفاني: أتعرفين ما هو الوطن يا صفية

المدن

——————————

زمن الحقيقة/ فوّاز حداد

24 ديسمبر 2024

هل سنخسر هذه الثورة التي حرّرتنا، بعدما يئسنا وفقدنا الأمل؟ لم نتمكّن طوال سنوات حتّى من أن نحلم بها، وكأنها أُعطية أشبه بـ المعجزة الخارقة. كانت بعد بحر من الدماء والسجون والضحايا والمقابر الجماعية. وهذه التكلفة الهائلة لا تقلّ عن مليون شهيد، وما يقارب نصف الشعب السوري مشرّد في بُلدان العالم.

لماذا لا نُفكّر بمسؤولية تجعلنا نحافظ عليها لا أن نهدرها، ولقاء ماذا؟ مخاوف تُفتعل، لم يظهر بعد ما يؤيّدها، يُروَّج لها على أنّها من “بُعد النظر”، واستباق جميع الأخطار المحتملة والتشكيك بأنّ الثورة تعمل على إقامة دكتاتورية إسلامية، ولا عجب أن يُروَّج هذا القول، لكن ماذا لو كانت دولة إسلامية غير دكتاتورية؟ وأيضاً، لن نستبدل دكتاتوراً مجرماً بآخر، ماذا لو كان دكتاتوراً غير مجرم؟ هذه الاتهامات التنبُّؤية وما يُشابهها من هراء، ومثلها الإجابات أيضاً. كذلك كثرة الكلام حول إمارة إسلامية ستقع سورية في حبائلها، وغيرها، هستيريا من الانتقادات تُحاول تشويه ما حصل. أمّا لماذا هذا الهراء، فلأنّها لم تُوضع على محكّ هذا الواقع المعقّد، فلا نزيده تعقيداً.

السوريون بلغوا سنّ الرُّشد، تحت وطأة اثني عشر عاماً من الموت اليومي.

هذه التنظيرات تأتي بعدما تخلّصت سورية من نظام كان يريد تحويل جمهورية إلى مملكة وراثية، هل يطاولها الغفران إذا كان النظام يدّعي العلمانية، بينما ينهب سورية؟ إذا كان هناك من يحنّ إليها، فهُم قلّة مهما تكاثروا، استثمروا طويلاً في الكارثة السورية. يُستحسن الاعتياد على الحرّية، لا الاستهانة بها، افتقدناها طوال كابوس كاد أن يكون أبدياً، من الذي حقّق هذا الانتصار؟ أولادنا الذين نزحوا وهُجّروا بـ”الباصات الخُضر”، عادوا إلينا وحرّرونا، نحن أهاليهم. 

هذا ليس خطاباً عاطفيّاً، لكن من الذي لا تُعاوده هذه المشاعر دفاعاً عن الحرية. لسنا في وارد المبالغة، ندرك أنّ “هيئة تحرير الشام” اختطفت ظرفاً عالمياً، يشهد عليه الضعف الذي أصاب حزب الله، واضطرار إيران إلى الخروج، وعدم تدخّل روسيا والتمهيد لانسحابها، وانحلال الجيش، وهروب أحقر دكتاتور في العالَم. ولا ريب في أنّ أكبر نجاح للهيئة تجلّى في منعها الانجرار صوب سيناريو الانتقام الطائفي، مع أنّ كثيراً من الجهات كانت تتوقّع حدوثه. لماذا لم يحدث؟ حتى الذين زُعم أنّهم موالون للنظام كانوا مضطرّين للصمت، فكانت الثورة ثورة السوريّين جميعاً.

الانتصار السريع للثورة شجّع على الاستهتار بها، وكأنّها ضربة حظّ، لم تُكلّف شيئاً، حتى أنّ هناك من تكلّم عن أنّ نجاحها كان مؤامرة على السوريّين ليظفر الإسلاميون بالحُكم، أمّا يساريّو أزمنةٍ سلَفت، فاستعادوا صلابتهم اليسارية حسب معايير لم تظفر بها أحزاب الرفاق في أوروبا. لم تقلّ انتقاداتهم عن إصلاح ما يزيد عن نصف قرن من الجرائم والخراب والفساد، بينما الثورة في أيامها الأُولى. متحفّزين لاصطياد الأخطاء والهفوات، وإذا لم يجدوها اختلقوها، طابور من الذين لا يرضيهم إلّا تحقيق ما يطالبون به خلال أيام، إن لم تكن ساعات، هل تُمكن علمنة الدولة فوراً؟

حملةٌ انضمّ إليها رجال ونساء من فلول نظام الأسد. ليْتَهُم أوّلاً يغسلون أيديهم من دمائنا. ربّما تمكّنوا من تفسير إجراءات الهيئة من دون ضغينة، ولا على المحمل الأسوأ، والتشبُّث بالشائعات والعمل على تسويقها. القسم الأكبر منهم، النقد بالنسبة إليهم سخرية وترويح عن النفس، أحوال البلد المقلقة تُشكّل متنفّساً لهم في إثبات ثقافاتهم المختلسة.

هناك حراك سياسي لم يفتر في الداخل، عسى أن يرقى إلى الإيمان بسورية موحّدة، وبالمقابل على وسائل التواصل ثرثرة حول المخاوف من الإسلام، وكأنّ الديمقراطية والعلمانية أديان بديلة، مع أنّهم أنفسهم كانوا يصرّون على أنّ شعبنا قاصر عن الديمقراطية، فما البال بالتنعّم بها؟ ويحوّلون العلمانية إلى وصاية مقيتة على البشر، ومحاكم تفتيش، لا علاقة لها بالفضاء الروحي للإنسان.

إذا كان من جدوى لهؤلاء الذين لا يعترفون بهذا الإنجاز العظيم، فلن يكون أقلّ من مراجعة مفردات أيديولوجياتهم التي تواطأت مع نظام الأسد، والالتفات إلى ما يُساعد على المشاركة في تغيير واقع يُعاني من ثقل تركة نظام فاجر.

ليست سورية في خطر، رغم أنّ الأنظمة العربية غير مطمئنّة إلى الثورة، ولا توفّر حملاتها الإعلامية بالتحريض ضدّها، والميليشيات المذهبية توّاقة إلى العودة، والسبب جاهز: “حماية المراقد المقدَّسة”، مع ناقمين مسلّحين فقدوا امتيازاتهم، وعلى رأسها قدرتهم على القتل بلا مُساءلة. وروسيا تحتجز لديها الطاغية الهارب باعتباره ورقة رابحة، سيصبح أكثر طواعية ممّا كان عليه، بعد الدرس الذي تلقّاه… لن يضيروا الثورة، ولا عودة إلى الوراء، السوريّون تنسّموا عبير الحرّية.

نعم، سورية بحاجة إلى جميع السوريّين، وفي المبادرة إلى تشكيل أحزابهم جزء مهمّ من العمل على التغيير، وفي الاستعداد للانتخابات، ما يؤكّد بجلاء التداول السلمي للسُّلطة.

عاشت سورية زمناً طويلاً من الخداع والكذب والنفاق والرياء، زمن تسلّط فيه المجرمون والأوغاد والأنذال، ارتدّت علينا بالعذاب والموت. اليوم، استعدنا بلدنا، فلنُؤمن بأنّها حقيقة، وليكن هذا الزمن زمن الحقيقة.

* روائي من سورية

العربي الجديد

—————————–

الأدبُ محاكمةٌ عادلة.. كيف نوثّق مدوّنة الرعب السوري؟/ نجم الدين خلف الله

24 ديسمبر 2024

انفتحت سجون الأسد الفظيعة، وانكسرت أقفالُها بعد طول انغلاق. ومع انفتاحها اكتشف العالم – في ذهول مشبوه – ما كان يعرفه سابقاً من فظائع لا إنسانية وأساليب وحشية في الاعتقال والتعذيب والقتل، تجاوزت ما مارسه أبشع الطغاة في القرون الوسطى. سجون وزنزانات منفردة قطعت كلّ صلة لها بالإنسانية، صارت مقصد الآلاف بحثاً عن أمل، ولو ضعيف، في العثور على قريب غُيّبت أخباره طيلة عقود لا لغرض سوى التشفّي وإرهاب شعب أعزل تهديداً لكلّ من يجرؤ على الاحتجاج، ناهيك عن العصيان والتمرّد.

ومع ذلك، فإن اختلاق قصص تعذيب خيالية أو مبالغٍ فيها لا يخدم مبدأ المحاسبة القانونية لهؤلاء المجرمين، من مديري سجون وضبّاط لم تحرّكهم سوى الضغينة. لذلك، لا بدّ من الاكتفاء بما حصل فعلاً، وهو قاطع وكافٍ ألف مرّة في بيان الفظاعة، من أجل توثيقه، حتى تُجرى المحاسبة بناءً عليه. أمّا اختلاق القصص أو الحديث عن آلات تعذيب وهمية (كما شاع عن آلة تمتصّ سوائل الجسد حتى يُفرغ بالكامل، والتي تبيّن أنها آلة لكبس الخشب)، فقد ينقلب تعميةً على الجرائم الحقيقية للنظام ومن لا يزالون يهوّنون من شأن ظروف الاعتقال ويعتبرونها طبيعية.

وعليه، لا بدّ من عملٍ علمي منهجي تشارك فيه الجامعات وطلبة كلّيات القانون والطبّ وحتى الإحصاء، لتوثيق مدوّنة كاملة لأرشيف هذا الرعب، يدعم ما بدأه مشروع “الذاكرة السورية” التي أطلقه “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” عام 2019، خصوصاً ما اندرج ضمن خانة “الشهادات”.

هذا الجهد يمثّل طبقة أُولى كي تلتئم الجراح، فمن دونها تتعرّض سرديات المتظلّمين إلى تشكيك تظهر ملامحه منذ هذه الأيام بإيعاز من أنظمة كانت مهادنة لنظام الأسد، وما أسهل تلك الاتهامات بفبركة الصور وتضخيم الأخبار، في حين أنّ هذه القصص، مهما بلغت تفاصيلها من القسوة، هي نزر يسير في خضمّ الأعمال البربرية التي مارسها السجّانون ومديروهم، في سادية مَرَضية لا تبرير لها بأيّ منطق، لا زجري ولا استبدادي. لقد تجاوزت كلّ مَدَيات الفهم ومدارات الخيال.

لكن لا يوكل طيّ صفحة الفظائع إلى التوثيق وحده، فالسوريون يعيشون اليوم بجراح غائرة في نفوسهم بعد عقود من الطغيان والعنف والتهجير، وكما يعتمد العلاج النفسي للأشخاص على أدوات الحكي والإنصات والتوسّل بالموسيقى، فإن الشعوب تحتاج لعلاج شبيه، وإنّ الجهة المخوّلة بالتعامل مع هذه الفضاءات هي المجتمع الإبداعي؛ ففنون السرد التي تتجلّى في الرواية والسينما والمسرح أكثر الأدوات قدرة على مداواة الجراح السورية، ونحن نعرف قدرة هذا البلد على إنجاب المبدعين، منهم حكّاؤون بارزون مثل حيدر حيدر وحنا مينة في الرواية، وزكريا تامر في القصّة، وممدوح عدوان في الكتابة الدرامية، وسعد الله ونّوس في المسرح، هذا إذا اقتصرنا على العلامات المضيئة في القرن العشرين. ولنا أن نشير إلى حكّائين مبدعين لم تجفّ محبرتهم بعد مثل ممدوح عزّام وفوّاز حداد وسليم بركات وسمر يزبك، وعشرات من الكتّاب الشبان. فإلى هؤلاء يُعهد تضميد الجرح السوري الغائر.

بهذا المعنى، فإن التوثيق ليس عملاً بحثياً صرفاً، هو في أحد وجوهه “تأريخ للروح” بعبارة الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، وكانت قد رصدت سنوات القمع البوليسي التي عاشت على وقعها شعوب وهي بقضبة الدولة السوفييتية في سنوات غطرستها الأخيرة قبل تفكّكها. بعبارة أُخرى لا يمكن الإمساك بفظاعات الأزمنة القمعية إلّا بيدين اثنتين: القانون بما يحتاجه من إثباتات وقرائن، والفنّ بما يوفّره من تخييل وقدرة على بناء الصورة بمفهومها الذهني. بذلك نضمن تخليداً لعذابات الآلاف والمحاسبة القضائية العاجلة، من دون انتقام، لمن انتهكوا كلّ القوانين والأعراف والأخلاق.

من جهة أُخرى، على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتحديداً تخصّصات مثل علم النفس وعلم الإجرام والعلوم السياسية، أن تعكف على دراسة هذه الظواهر حتى “تفهم” المحرّكات الدفينة التي قادت إلى هذا السلوك المَرَضي وكيف ينشأ الاستبداد السياسي: هل هو تراكم تاريخي أم مجرّد نزوة فردية أو فئوية؟ أم نرجسية باتولوجية خضعت لها نفوسُ الطغاة فأذاقوا ضحاياهم الأمرّين؟ يجب أن تتكاثف المنظورات لاستكشاف أسباب هذا الشرّ المطلق الذي يجمد القلم أمام أهواله.

داخل هذه الممارسات يكمن الكثير من الحقائق التي لا يسبر أغوارها إلّا المبدعون المتمرّسون، فبعد شهادات الضحايا تأتي شهادات الشخصيات الأدبية، وهذه لا تركّب اعتباطاً بل يُفترض أن تختزن العشرات من الأنفس الحقيقية وتدمجها في بوتقة واحدة تنطق بشهادة تاريخية أدبية تُخلّد هذه المآسي، ولو أنّها لم تقع لكنّها الأكثر تعبيراً عمّا حدث. رواية تكون من الثقل الرمزي والإنساني بحيث تفرض تسجيلها كذاكرة جماعية، وذلك ما يفعله “الأدب الكبير” وحده، وقد تجلّى في مآسي شكسبير أو روايات تولستوي. يستحقّ أولئك المغيّبون المعذّبون نصوصاً فنّية تتعالى بآلامهم لتطالعها الأجيال القادمة وتستلهم منها العِبر. وليس كاليأس والعذاب مصدر إلهام ومنبعاً للأدب.

غير أنّ هذه الدعوة للتعبير عن آلام المعتقلين في سجون الأسد ينبغي أن ترافقها دعوة أُخرى، بتوخّي الأدباء، شعراء وكتّاباً، الحساسية والحذر من النزعات التسويقية. وإلى ذلك نحتاج إلى “أدب سجون جديد”؛ فقد استُهلك هذا الفرع من بين أجناس الرواية في الثقافة العربية خصوصاً بعد منعطف “الربيع العربي”، ووقتها انفتحت سجون أنظمة أُخرى، وإن كانت أقلّ قسوة ممّا رأيناه في معتقلات الأسد، لكن تسرّع الكتّاب في تحويل شهادات إلى نصوص أدبية واستسهال الكتابة عن التجربة السجنية ذهب بكثير من عمق هذا النوع الأدبي، فخسر أهمّ ما يمكن أن يميّزه وهو صدقه الفنّي.

كلّ ذلك من بين المسؤوليات الأخلاقية والفنّية التي تُعهد اليوم إلى كتّاب سورية. وفي عصر التواصل الرقمي الذي ربط أنحاء الأرض بعضها ببعض لم تعُد هذه الفظائع ملكاً للسوريّين وحدهم، بل أصبحت منذ الآن تراثاً للإنسانية قاطبة وقد جالت صور “صيدنايا” العالم في نشرات الأخبار وفي المواقع الإلكترونية فتَشارك سكّان المعمورة الكثير من خدوش الألم السوري.

يبقى أنّ الكاتب السوري وحده هو القادر على إعادة بناء الحكاية، كيف تشكّل وحش التعذيب قطعةً قطعةً مثل مسخ فرانكشتاين، وكيف تجمّعت معاناة الضحايا قطرةً قطرةً حتى أودت بالطاغية، وكيف نخرج من كلّ ذلك بمعنى أخير يوجز المأساة السورية في بضعة أعمال متقنة فنّياً قد تكون رواية أو مسلسلاً درامياً أو مسرحية. وهل من محاكمة عادلة أكثر مما يبقى أثراً لا يُمحى في الضمير الإنساني.

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

العربي الجديد

——————————-

 هواجس على هامش حكم أحمد الشرع/ إياد الجعفري

الإثنين 2024/12/23

قتيبة أحمد بدوي، أحد الأسماء التي يجب أن يقف عندها السوريون، مطوّلاً. ففي زحمة الانشغال بالسياسة وتعقيداتها، تتقدّم الدائرة الضيّقة المحيطة بالنسخة السابقة من أحمد الشرع -الجولاني-، لتمسك بمفاصل الاقتصاد، في عموم سوريا. فـ”المغيرة البنشي”، كما كان يُعرف في نُسخة حكم الشرع لإدلب، كان يومها، أحد أبرز مسؤولي الملف الاقتصادي والمعابر الحدودية، في ذلك الجيب المناوئ للنظام المخلوع. وقد أصبح اليوم، مديراً عاماً للجمارك السورية.

كُثرٌ سيُصوّبون بصورة آنية على الكلمات السابقة، بوصفها من ملامح التوطئة لـ”ثورة مضادة”، أو نقداً مُتسرّعاً، يجافيه التوقيت السليم. وسيقول قائل، من هؤلاء الكُثر، إنه من الطبيعي أن يعيّن الشرع المقرّبين منه، من الموثوقين لديه، للإمساك بزمام الأمور، في هذه المرحلة الانتقالية الخطرة، في تاريخ البلاد. فالنظام المخلوع، له أتباعه، في الداخل، وفي دول الجوار. ناهيك عما يُحاك إقليمياً، على الأرجح، من جانب أطراف غير مرتاحة لما حدث في سوريا.

وكان يمكن لنا الاتفاق بنسبة كبيرة مع هؤلاء الكُثر، لولا التعيينات المرتبطة بالولاء، وفي بعض الأحيان، بالقرابة الشخصية. إذ يُعتقد على نطاق واسع، مثلاً، أن قتيبة بدوي، مدير الجمارك الجديد، هو شقيق زوجة الشرع. لكن الأمر لا ينحصر بهذه الحيثية فقط، بل يتعداها إلى تصريحات وإجراءات تدّل على نيّة الحكام الجدد، الاستفراد بالسلطة على المدى البعيد.

فإذا بدأنا بتصريحات الشرع ذاته، تكفي الإشارة إلى حديثه في لقاء موسّع مع الإعلاميين بدمشق، قبل نحو أسبوع، عن أن حكومة تصريف الأعمال، تضع “الخطوط العريضة” لمستقبل السوريين. وهو تصريح يتضارب مع تكليف رئيس الحكومة محمد البشير، بإدارة فترة مؤقتة تنتهي في آذار/مارس المقبل. تحديد الفترة المؤقتة، بثلاثة أشهر، بحد ذاته، ينبئ بعدم جدّية، أو بتسرّع وتخبط، إن أحسنا النوايا. فرسم “الخطوط العريضة” لمستقبل السوريين، يجب أن يكون مهمة هيئة تمثيلية مُنتَخبة من عموم السوريين. لكن هل من المتاح، ضمن الظروف الواقعية القائمة الآن، الوصول إلى هذه الهيئة، في غضون ثلاثة أشهر!

أيضاً، سيصوّب كثيرون على كلامنا الأخير، استناداً إلى تصريحات الشرع لـ”بي. بي. سي”، والتي تحدث فيها عن مؤتمر وطني جامع للسوريين، سيؤسس مجلساً استشارياً يملأ الفراغ البرلماني والدستوري خلال الفترة المؤقتة. مؤكِّداً قبوله بمبدأ حق الناس في اختيار من يحكمهم ومن يمثّلهم. وهي تصريحات مطمئنة جزئياً، لولا الضبابية التي تلفها، على صعيد التفاصيل، والأهم، على صعيد المواعيد. فإشارة الشرع في التصريحات إياها، إلى عدم توافر البنية التحتية المناسبة لإجراء انتخابات في الوقت الراهن، مقلقة.

النقطة الأخيرة، مثال يدل على سمات حكمت تصريحات وإجراءات الحكم الجديد. فهي توحي بالمدى البعيد لنوايا رجالاته، والضبابية في مخططاتهم، والتخبط في تصوراتهم. مثال آخر على ذلك، حديث رئيس الحكومة البشير، عن زيادة الرواتب بنسبة 300%، فيما وعد الشرع بزيادة تصل إلى 400%. وعود لم يتضح إن كانت مبنية على دراسة دقيقة للإمكانات المتاحة في الخزينة السورية المنهوبة. ناهيك عن مخاطر التضخم المرتقب في حال تنفيذها، من دون حساب مدروس بدقة من اختصاصيين.

ونجد في تصريحات المدير الجديد للجمارك السورية، ما يدل على ما خلصنا إليه، أعلاه. فهو أطل عبر “الوطن أون لاين”، بتوصيف للواقع المزري لمؤسسة الجمارك، إدارياً وفنياً. واستبق هذه الإطلالة بقرار حلّ فيه الضابطة الجمركية بكافة تشكيلاتها ومسمياتها، بنيّة إعادة تشكيلها على الشكل الذي يخدم الصالح العام للبلاد، وفق تعبير القرار الصادر عنه، قبل أيام. أما الضابطة الجمركية ذاتها، فهي غير مأسوف عليها، لدى غالبية عظمى من السوريين. فهي كانت مافيا مختصة بابتزاز السوريين، لا لخدمة صالحهم العام. وهذا موضع إجماع. لكن المشكلة تكمن بالإيحاءات والتناقضات التي تفيض بها تصريحات المدير الجديد للجمارك. فهو تحدث عن إلغاء رسوم جمركية عدة، لتخفيف التكاليف عن كاهل المستوردين، والتي كانت تُضاف إلى أسعار المبيع النهائي للمستهلك. كما وتحدث عن تحرير استيراد السلع من جميع القيود، ولجميع المواد غير الممنوعة بحكم طبيعتها “القانونية والشرعية”. موضحاً أن ذلك سيتحقق عبر “قرارات متتابعة”. الإشارة إلى طبيعة “شرعية” للمستوردات، تفيض بإيحاء “الأسلمة الرسمية” المثير للمخاوف من جانب شريحة كبيرة من السوريين. لكن الأخطر من ذلك، التضارب بين الإشارة إلى “تحرير الاستيراد من جميع القيود”، بالتزامن مع الإشارة في التصريحات نفسها إلى النيّة في إصدار تعرفة جمركية تحفظ حقوق التجار والصناعيين والمزارعين من منافسة البضائع الأجنبية، من خلال “تطبيق سياسة الحماية الجمركية للصناعات والمنتجات المحلية”.

فحديث مسؤولي حكومة الشرع، في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من اجتماع، عن اتجاههم نحو “اقتصاد السوق الحرّ”، أثار قبولاً وترحيباً لدى شريحة من مجتمع الأعمال السوري، تحديداً، التجار. لكنه في الوقت نفسه، أثار مخاوف صناعيين واقتصاديين، من أن يعني ذلك، تحوّل سوريا إلى سوق لتصريف السلع الأجنبية، تحديداً، التركية، على حساب الصناعة المحلية والعمالة المرتبطة بها، والتي تحتاج إلى عناية فائقة، جراء سياسات النظام المخلوع، التي أضرّت بها بشدة، في السنوات الأخيرة.

وما بين “تحرير” و”حمائية”، تتفاقم الضبابية والغموض حول رؤية الممسكين بزمام الأمور في سوريا، اليوم. ضبابية وغموض، يمتدان إلى حقل الاقتصاد، آتيان من حقل السياسة ذاتها. فالشرع، الذي أكد في حديثه لـ”بي. بي. سي”، أنه غير مهتم كثيراً بما يقال عنه في الخارج، وأن ما يهمه هو أن يصدقه الشعب السوري، لم يُكلّف نفسه عناء الحديث بصورة مباشرة وفي حديث مستفيض، لهذا “الشعب” ذاته، عبر وسيلة إعلامية يتابعها، ليوضّح اللبس حول الكثير من تصريحاته ومواقفه وإجراءاته. وبدلاً من ذلك، كانت أبرز إطلالتين له، عبر “سي. إن. إن” الأميركية، و”بي. بي. سي” البريطانية. وركّز فيهما، بصورة أساسية، على هواجس الغرب حياله، لا على هواجس السوريين.

تعقبياً على كل ما سبق، لا تتأتى الهواجس من إدارة الشرع ودائرته الضيقة للمشهد السوري، من تصريحاتهم وإجراءاتهم الراهنة فقط، بل تتأتى كذلك من تجربة حكمهم لنحو سبع سنوات في إدلب، قبل وصولهم إلى دمشق. تلك التجربة كانت أقل وطأة في سلبياتها من نظام الأسد، بمرات. هي حقيقة يمكن الإقرار بها. لكن من حيث النوعية، كان نظام حكم الشرع في إدلب، نسخة ملطّفة من نظام حكم الأسد. حتى أن قتيبة بدوي، المدير الحالي للجمارك، اليوم، كان أحد المُتَهمين يومها بالمسؤولية عن حلقات الاحتكار المعقّدة التي أنشأها في اقتصاد إدلب المتواضع.

ولأننا ما زلنا نراهن على نضج سياسي ورُشد إداري، لدى الشرع شخصياً، ما زلنا نأمل أن يُولّي وجهه شطر مخاوف وهواجس السوريين، وأن يخصهم بحديث وإجراءات تطمئنهم، بأن مستقبلهم الذي يرسم اليوم “خطوطه العريضة”، لن يكون نسخة ملطّفة من ماضيهم في ظل آل الأسد. ويكفي لتنفيذ ذلك، تحديد تصور واضح لفترة حكمه المؤقتة، وحدود مسؤولية رجالاته المعينين في مواقع المسؤولية، بوصفها أدواراً مؤقتة. وتقديم تعهد صريح بذلك. مع الإقرار بحقّه مع من معه بامتلاك طموح حكم سوريا، شريطة أن يكون ذلك نتيجة صندوق الاقتراع، وبقيود قانونية ودستورية، لا أن يكون نتيجة الغلَبة بالقوة المسلحة، وبوصفه أمراً واقعاً.

المدن

——————————–

إيران.. التالية على القائمة/ بسام مقداد

الثلاثاء 2024/12/24

أعلن الناطق الرسمي بإسم الخارجية الإيرانية إسماعيل باجي، الإثنين في 23 الجاري، أن روسيا وإيران قد توقعان الشهر المقبل على معاهدة للتعاون الاستراتيجي الشامل بين البلدين، حسب صحيفة الكرملين vz. وكان التوقيع على هذه المعاهدة قد تم تأجيله أكثر من مرة منذ العام 2022، وآخرها كان في تشرين الأول/أكتوبر المنصرم خلال قمة دول بريكس في مدينة قازان الروسية. وإعلان إيران هذه المرة من جانب واحد عن قرب التوقيع على هذه المعاهدة، التي تشمل التعاون العسكري أيضاً، يشير، من بين أمور أخرى، إلى استعجالها في قوننة التعاون العسكري مع روسيا، بعد خسارتها سوريا وطرق إمداد حزب الله بالسلاح في لبنان.

والملفت أن الإعلام الموالي للكرملين يولي إيران في الأيام الأخيرة اهتماماً ملحوظاً، لا يخفي القلق على مصير نظام الملالي فيها، خصوصاً بعد الاستعدادات الإسرائيلية المكشوفة لتوجيه ضربة مؤلمة لبرنامجها النووي. وترافقت هذه الاستعدادات مع إعلان ترامب عن عدم استبعاده نشوب حرب مع إيران، وتوجيه نتنياهو رسالة إلى الشعب الإيراني تحدث فيها عن قرب “تحرره من النظام الذي يضطهده”. كما أن الإعلام الإسرائيلي الناطق بالروسية تتوالى فيه هذه الأيام النصوص التي ترى أن سقوط الأسد في سوريا أتاح لإسرائيل فرصة نادرة لتوجيه ضربة للبرنامج النووي الإيراني.

صحيفة القوميين الروس المتشددين SP نقلت إلى الروسية في 23 الجاري نصاً كانت مجلة American Conservative قد نشرته في 17 الجاري، وعنونه كاتباه Douglas Macgregor و James Carden بالقول “إيران: الحرب المقبلة التي تختار أميركا خوضها”، وأتبعاه بآخر ثانوي “الولايات المتحدة معرضة لخطر الانزلاق إلى حرب دموية لإعادة تنظيم موازين القوى في المنطقة في أعقاب انهيار سوريا”. أما الصحيفة الروسية، فقد عنونت نصها بالقول “ترامب رهينة: سيتعين على أميركا أن تخوض الحرب مع إيران، ومن ثم مع تركيا”.

استهل الكاتبان الأميركيان نصهما بالقول إن السلام في الشرق الأوسط لا يزال بعيداً، ونتنياهو لا يزال، كما في السابق، عازماً على توسيع نطاق عمليات إسرائيل العسكرية. وتقاسم سوريا الفعلي بين إسرائيل وتركيا، هو مقدمة للحرب الكبرى مع إيران. ونقلت عن Times of Israel قولها إن القوات الجوية الإسرائيلية تواصل تعزيز قدراتها القتالية، والتدرب على “ضربات محتملة لإيران”.

وأضاف الكاتبان، أن أولوية نتنياهو هي تدمير إيران قبل انتصار روسيا في الحرب الأوكرانية، وقبل أن تصبح سوريا  ميدان معركة بين الأتراك والإسرائيليين. وهذه ليست مجرد نهاية “النظام العالمي القائم على القواعد” في واشنطن، بل هي بداية الفوضى. فالجيش الإسرائيلي والقوات الموالية لتركيا في سوريا أخذوا ينظرون لبعضهم البعض عبر خط التماس الذي يمتد من الشرق إلى الغرب جنوبي دمشق. وليس لدى نتنياهو أي أوهام بشأن تضارب المصالح بين أهداف أنقرة الاستراتيجية طويلة المدى في المنطقة، وعزم إسرائيل على المطالبة بغنائم الحرب السورية.

ورأى الكاتبان أنه، بالإضافة إلى المشاكل المالية الخطيرة والسخط العام في الداخل، يواجه دونالد ترامب الآن الحاجة الخطيرة إلى صرف انتباهه عن حروب لم يبدأها، ولن تجلب أي فائدة استراتيجية لأميركا وإدارته. إن دعم أميركا لحرب نتنياهو في الشرق الأوسط من شأنه أن يعرض الأمن القومي الأميركي للخطر، ويترك واشنطن وجيشها واقتصادها رهينة لأي اتجاه استراتيجي يختاره نتنياهو. ويقولان إنه كما لا يمكن حل أي مسألة تتعلق بأمن أوروبا الاستراتيجي من دون مشاركة روسيا، كذلك لا يمكن لواشنطن أن تضمن الاستقرار في الشرق الأوسط من خلال دعم طموحات إسرائيل الإقليمية من دون قيد أو شرط.

موقع Vesti-Ynet الإسرائيلي الناطق بالروسية، نقل  في 22 الجاري عن صحيفة يديعوت أحرونوت التابع لها، أن رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي ديفيد بارنيا أوصى القيادة السياسية بتوجيه الضربة لإيران، وليس للحوثيين، رداً على الهجمات الصاروخية على إسرائيل من اليمن. وبرأيه، من الضروري التعامل مع القوة الرائدة الرئيسية، أي إيران. وطرح موقفه هذا في الاجتماعات المعنية بالأمر التي عقدت  في الأيام الماضية.

موقع Detaly الإسرائيلي الناطق بالروسية نقل في 11 الجاري عن موقع Walla الإسرائيلي أيضاً نصاً بقلم البروفسور الإسرائيلي Kobi Michael تحت عنوان “سقوط الأسد: إيران تعرف أنها قد تكون التالية بالسلسلة”.

قال الكاتب بأن التغيرات الزلزالية التي تجري أمام أعيننا نتيجة لسقوط الأسد، هي أحداث تاريخية تبدل قواعد اللعبة، وليست نقطة تحول محلية وإقليمية فقط، بل عالمية. فبالإضافة إلى التغيرات الجذرية في سوريا نفسها، التي ليس من الواضح حتى الآن إن كانت ستبقى دولة موحدة، أم ستنقسم إلى عدة كيانات عرقية دينية، وربما حتى معادية لبعضها البعض، فقد فجّر هذا الحدث موجة متفجرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط و وما بعده. وقد أدى إلى إضعاف كبير للمحور الذي تقوده إيران، ويمثل مشكلة صعبة بالنسبة لإسرائيل. وعلى نطاق أوسع، يمثل تغييرات عالمية يمكن أن تؤثر على الحرب في أوكرانيا، وربما حتى على استقرار النظام في روسيا، الراعي السابق لنظام الأسد في سوريا.

وأشار الكاتب إلى أن أجهزة الاستخبارات في إسرائيل والغرب فشلت هذه المرة في توقع النتائج المترتبة على هذا الحدث والسرعة التي وقع فيها كل شيء. وليست هي المرة الأولى التي تفشل فيها وكالات الاستخبارات ذات الخبرة في تحديد طبيعة وقوة الاتجاهات المشحونة بالتغيير المفاجئ، ولكن يبدو أنه، وكما حدث مع سقوط جدار برلين عام 1989، وقعت الأحداث بسرعة فائقة وتأثير يكاد يكون خيالياً.

ورأى أن الحدث السوري وما أدى إليه من إضعاف لمحور المقاومة، فاق كل توقعات إسرائيل. وقال إن إيران التي بقيت من دون دعم “طوق النار” الذي أقامته ضد إسرائيل، وفي ظل الدعم الروسي الضعيف وسقوط النظام في سوريا، من المحتمل جداً أنها تشعر بنفسها أضعف من أي وقت مضى. فالخوف من اندلاع انتفاضة واسعة النطاق من الإيرانيين، الذين شجعهم نجاح المنتفضين السوريين، قد يدفع إيران لتسريع برنامجها النووي. ويبدو أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات واسعة لإلحاق الضرر بالمنشآت النووية الإيرانية، فضلاً عن البنية التحتية الاقتصادية والعسكرية، من أجل التعجيل بسقوط النظام.

يطرح الكاتب فرضية أن تتمكن إسرائيل من التوصل إلى توافقات مناسبة مع الرئيس الأميركي المنتخب، حتى قبل دخوله إلى البيت البيض. وكبديل، يشير إلى بروز احتمال تاريخي آخر، حيث يمكن للرئيس ترامب أن يعرض على إيران من خلال قنوات سرية لتجنب النقاش العام، إنهاء جهود الحرب النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية وتوفير “بوليصة تأمين” للنظام. ومن شأن مثل هذه الخطوة أن تساعد في تجنب العمل العسكري الإسرائيلي في الوقت الحالي، بشرط أن يكون هناك، إلى جانب دعوة ترامب، تهديد عسكري قوي وذو مصداقية من قبله. ومن المحتمل أن تأخذ إيران، مثل العديد من الدول الأخرى على الساحة الإقليمية والعالمية، مثل هذا الاقتراح والتهديدات على محمل الجد، نظراً للتغيرات التي طرأت منذ انتخاب ترامب وبعض تصريحاته العلنية.

وكان الموقع الإسرائيلي Detaly عينه قد نقل في 15 الجاري عن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت قوله “لقد خلقنا فرصة سانحة للعمل ضد البرنامج النووي الإيراني”.

المدن

———————————–

قيس سعيّد…صديق بشار الذي تنكّر لثورة أوصلته إلى الحكم/ رمزي البشراوي

24.12.2024

قبل 4 أيام فقط من سقوط بشار أدان قيس سعيّد بشدة ما سمّاه “الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا”، معلناً تضامنه مع النظام السوري، داعياً المجموعة الدولية إلى “مساندة هذا البلد الشقيق، حتى يحافظ على سيادته وأمن شعبه واستقراره ووحدة أراضيه”. بيان لم يُصدره أقوى حلفاء بشار الذين تركوه ليهرب ليلاً مخلفاً وراءه تاريخاً من القمع والقهر

بعد أسبوع من الإطاحة به، وهروبه صاغراً تحت جنح الظلام نحو أصدقائه الروس، قال المخلوع بشار الأسد إنه لم يكن يوماً من الأيام من الساعين إلى المناصب على المستوى الشخصي، كيف لا وهو من حكم سوريا 24 سنة وخرج من القصر غصباً؟.

قال أيضاً إنه صاحب مشروع وطني، وبالرجوع إلى فترة حكمه نرى أن هذا المشروع يتمثّل في حماية العدو الصهيوني، وفتح البلاد أمام الاستعمار الأجنبي (روسي وإيراني…) وقتل مئات الآلاف من السوريين بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي.

مشروع بشار الوطني يتمثّل أيضاً في تهجير نصف السكان في الداخل والخارج، وتحويل سوريا إلى سجن ضيق، الخارج منه مولود والداخل إليه مفقود، ضمن هذا المشروع تحولت بلاد الشام إلى سوق للمخدرات والجريمة المنظمة…

لم يكن بشار استثناء في المنطقة العربية، فكل الرؤساء العرب جاءوا إلى السلطة مجبرين، مساكين همّهم الوحيد خدمة شعوبهم ورفاهيتها، رؤساء لهم مشاريع وطنية جعلت من دولنا في أعلى مراتب التقدم والرقي… لا، لا، عفواً، الانحطاط والخراب.

تزامن هروب “الزرافة” كما يحلو للسوريين مناداته، مع ذكرى اندلاع الثورة في تونس، وهو ما جعلنا نسلط الضوء على رئيس مهد الثورات العربية، الذي تنكّر لكل شيء نادى به أو دافع عنه، قبل الوصول إلى حكم قصر قرطاج، حتى الثورة التي ادّعى يوماً أنه جاء ليحميها فتنكّر لها.

ونحن نتحدث عن بشار، دعنا نلقي الضوء على صداقة مدّعي الثورية في تونس مع قاتل شعبه، حيث يعتبر السعيّد من أبرز الرؤساء العرب الداعمين للرئيس السوري المخلوع، برغم المجازر الكبيرة التي ارتكبها في حق شعبه طيلة أكثر من عقدين.

الطيور على أشكالها تقع

قبل 4 أيام فقط من سقوط بشار وتحرير دمشق، عبّر نظام قيس سعيّد عن إدانته الشديدة لما اعتبره ” الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا”، معلناً تضامنه مع النظام السوري، داعياً المجموعة الدولية إلى “مساندة هذا البلد الشقيق، حتى يحافظ على سيادته وأمن شعبه واستقراره ووحدة أراضيه”.

بيان لم يُصدره أقوى حلفاء بشار الذين تركوه في التسلل، لكن جهبذ السياسة التونسية رأى أن يساند المجرم بشار ضد الثوار الراغبين في تحرير بلادهم، من سلطة نظام حكمهم طيلة أكثر من نصف قرن بالحديد والنار.

يدّعي سعيّد الثورية، إلا أنه مدّ يده إلى رأس النظام السوري القمعي، محاولاً إخراجه من عزلته، حيث أعاد السنة الماضية العلاقات الدبلوماسية المقطوعة مع سوريا منذ شباط/ فبراير 2012، وكانت “تونس الثورة” قد قطعت العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، احتجاجاً على قمع نظام بشار الأسد الاحتجاجات المناهضة له.

دائما ما يطلّ السعيّد على التونسيين للحديث عن حق الشعوب في العيش الكريم والتحرر من ديكتاتوريات الفساد والظلم، إلا أنه كالعادة، يفعل ما لا يقول، حيث سارع إلى فتح صدره وضمّ من تلطخت يده بدماء الأبرياء وقمع شعبه.

يعلم رأس النظام التونسي أن نظام بشار الأسد، كان حجر عثرة أمام الثورات العربية، وساهم بقوة في إفشال موجة التحرر العربي التي شهدتها المنطقة أواخر سنة 2010، غير أنه أبى إلا أن يكرمه على ذلك، ويمنحه صفة “الصديق المقرب”، مثله مثل عبد الفتاح السيسي.

انقلاب على السلطة

في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، فاز قيس سعيّد بولاية ثانية بنسبة تفوق 90% من مجموع أصوات الناخبين، ومن النسبة نفهم باقي القصة، لكن ما يُحسب له أنه ترك هامشاً للمعارضة المشاركة في الانتخابات، حتى تحصل على بعض الأصوات، وذلك لزوم المسرحية طبعاً.

تعلّم سعيّد الدرس من أصدقائه قادة العرب، إذ لا يجوز لرئيس أن يحكم بنسبة تقل عن 90%، ومن الدروس الأخرى التي تعلمها سعيد أيضاً، ألا يرضى بالقليل، وأن يضع السلطات جميعها تحت يديه، فكان له ذلك صيف سنة 2021.

انقلب سعيّد في تموز/ يوليو 2021 على دستور بلاده، ونصّب نفسه الرئيس الأوحد للبلاد، كما فعل صديقه بشار سنة 2000، حين نصّب نفسه رئيساً لسوريا ولم يتعدّ عمره 34 سنة، عقب وفاة والده، برغم أن دستور البلاد يشترط ألا يقل عمر الرئيس عن 40 عاماً.

ما إن تمكنا من السلطة حتى كتبا دساتير جديدة يضمنان بها الحكم المطلق، ويقصيان من خلالها باقي أطياف المجتمع، برغم أنهما ليس في حاجة إلى دساتير أو قوانين، فهما الدستور والدولة والنظام والشعب وكل شيء منحصر فيهما.

التجارة بالقضية الفلسطينية

تشابه كبير بين سعيّد وبشار حتى في الانقلاب على السلطة، لكن التشابه لا ينتهي هنا، فكلاهما يدّعي المقاومة والدفاع عن القضية الفلسطينية، ولنا أن نتذكر المقولة الشهيرة التي صعد بها نجم سعيّد قبل وصوله إلى كرسي الحكم “التطبيع خيانة عظمى”.

صمّ سعيّد آذان العرب قبل تقلّده كرسي الرئاسة بالشعارات المناهضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، لكن ما إن وضع ساقه في قرطاج، حتى تيقن الجميع أنها مجرد كلام فقط، إذ لم نرَ خطوات ملموسة لها تنصر الفلسطينيين فعلياً.

حتى مشروع قانون تجريم التطبيع الذي اقترحه بعض نواب البرلمان، ركنه سعيّد إلى الدرج رغبة منه في عدم غلق أبواب التواصل مع إسرائيل مستقبلاً، وحتى لا يكون في حرج أكبر إن قبل التطبيع مع الصهاينة.

وبالعودة إلى صديقه بشار، نرى أنه هو الآخر كان متاجراً كبيراً بالقضية الفلسطينية والمقاومة، إذ نهب شعبه وفقّره، بتعلة شراء أسلحة لمقاومة الإسرائيليين، لكن هذه الخردة وُجّهت نحو صدور السوريين العارية، وما إن انتهت صلاحيتها حتى تم تدميرها بالكامل.

طيلة فترة حكم نظام بشار، كانت إسرائيل آمنة مطمئنة، فـ”بطة” أو بشار الأسد، لم يطلق ولا رصاصة واحدة تجاهها، برغم الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة للسيادة السورية وتواصل احتلال هضبة الجولان، وبقي محافظاً على حق الرد الذي لم يأتِ حتى في أحلامه.

التنكيل بالمعارضين

نقاط التشابه كبيرة بين بشار وقيس، منها مثلاً: التنكيل بالمعارضين، فخلال فترة حكمه الممتدة طيلة ربع قرن، استخدم نظام بشار أبشع الأدوات والأساليب للتنكيل بمعارضيه، وحتى الأهالي الذين اعتزلوا السياسة وصلهم قمعه وبطشه.

مدّعي الحريات والضامن للديمقراطية انتهج النهج نفسه أيضاً، فمنذ انقلابه على دستور بلاده، وهمه الوحيد الزج بمعارضيه في السجون والتنكيل بهم، حتى يضمن السيطرة على الفضاء العام والافتراضي، وهو ما كان له طبعاً.

يخرج سعيّد متبختراً وحوله بعض حاشيته المتملقين له؛ كما كان يفعل بشار تماماً، للحديث عن الحقوق والحريات، وفي الوقت نفسه يُرسل قوات نظامه للتنكيل بالناس رغبة في تأبيد حكمه كأنه خالد في هذه الحياة الفانية.

خلال فترة حكم سعيّد القصيرة، حُكم على رئيس سابق للبلاد المنصف المرزوقي، بالسجن وتهمته الوحيدة سعيه لضمان العيش الكريم لشعبه، كما سُجن رئيس برلمان راشد الغنوشي، لوقوفه ضد الانقلاب على الدستور.

سُجن عشرات السياسيين والحقوقيين والإعلاميين المناهضين لحكم السعيّد، لكن قيس يصرّ على أن سجون نظامه لا يوجد فيها أي سجين رأي، وكلهم خونة ومتآمرون وعملاء للخارج، وهي الصفات نفسها التي يطلقها بشار على معارضيه.

تعرّف التونسيين على قيس سعيّد عبر الإعلام، فقبل تقلده منصب الرئاسة كان لا يفارق المؤسسات الإعلامية، ويقدّم نفسه على أنه خبير في القانون الدستوري، ومع وصوله إلى قرطاج أغلق الباب أمام الصحافة؛ وهي عادة حكام العرب الدكتاتوريين.

وصل سعيّد إلى الحكم بفضل الثورة، فقبلها كان مجرد مساعد أستاذ يُلقي محاضرة في الكلية، ويعود على إثرها مهرولاً إلى مقهى حيّه الفقير، يرتشف قهوته مع سيجارة من الصنف البالي، إلا أنه سرعان ما تخلى عنها، وخان دماء شهدائها الذين سقطوا من أجل الحرية والتحرر من نظام مستبد.

درج

————————–

لحظات مقتطعة من الـ”هايد بارك” السوري/ لينا سنجاب

24.12.2024

على رغم ألم الفقد وتعب سنين الحرب وحرقة أهالي المفقودين بحثاً عن مغيبيهم خلف جدران السجون المظلمة، هناك إجماع واضح لدى السوريين على التفاؤل بغد أفضل، فلن تعود أيام الطاغية، و”مافي للأبد” و”مهما كان القادم، لا شيء أسوأ من أيام الأسدين”.

تشهد سوريا الجديدة انفجار مشاعر مكبوتة لعقود، وكأن البلاد تهيم على سطح الأرض بخفة بعدما زال عن كاهلها وكاهل سكانها ثقل الطاغوت وجرائمه، هناك فرح على وجوه الناس كان غائباً خلف عتمة الخوف والقتل والجوع لسنوات.

رجال ونساء وكهول وأطفال يصلون إلى الساحات للرقص والاحتفال. شيوخ اعتلوا المسارح رقصاً على أنغام أغانٍ شعبية غُيرت كلماتها لتحتفل بالثورة والتحرر، ورجال من “هيئة تحرير الشام” التي أسقطت نظام الأسد، يلتفون حول المحتفلين، يشاركونهم فرحهم، يرقصون تارة، ويشاركون الصغار والكبار صوراً تاريخية تارة أخرى.

في زاوية من زوايا ساحة الأمويين، أخرج أحدهم ورقة وباشر قراءة أبيات شعر كتبها ليتغنى بالحرية.

وعلى رغم ألم الفقد وتعب سنين الحرب وحرقة أهالي المفقودين بحثاً عن مغيبيهم خلف جدران السجون المظلمة، هناك إجماع واضح على التفاؤل بغد أفضل، فلن تعود أيام الطاغية، و”مافي للأبد” و”مهما كان القادم، لا شيء أسوأ من أيام الأسدين”.

وعلى عكس ما يروج له من قلق وتجاوزات وفرض لتطبيقات الشريعة والحجاب من قبل رجال الهيئة، هناك أيضاً ذهول لدى الكثيرين، إزاء الانضباط والتهذيب الذي أظهره رجال الهيئة في الشوارع، وسرعتهم في تلبية نداءات الكثير من المشتكين على تجاوزات بعض الشبان باسم الهيئة، كالدخول إلى مطعم في حي القصاع المسيحي ومنعه من تقديم الكحول، ليقوم صاحب المحل بطلب هوية الشاب الملثم الذي يفرض قانون الشريعة والاستنجاد بـ”أمن الهيئة”، الذي حضر للفور واعتقل الشخص الذي انتحل هويتهم، وتابع زوار المطعم أمسيتهم وشرب كحولهم من دون تدخل.

تم أيضاً تداول خبر عن اعتداء على كنيسة في حماة من قِبل مخربين، وجاء رجال الهيئة كي يوقفوا الفاعلين، كما أرسل “فريق الاستجابة الطارئة” فريقاً لإصلاح الكنيسة، المعالجة السريعة ذاتها حصلت حين وصلت أخبار عن سرقة بيوت ومحال تجارية، إذ  تم إلقاء القبض على مرتكبي السرقات، أمثلة كثيرة هنا وهناك عن حالات اطمئنان لأداء عناصر السلطة الجديدة.

لست هنا بصدد التهليل للفريق الذي قام بإسقاط النظام، فهذا النصر أيضاً حققه آلاف المعتقلين الذين قضوا تعذيباً في سجون الأسد، وأهاليهم الذين انتظروا سنوات، وما زالوا ينتظرون خبراً عن مصير المختفين، وآلاف آخرون ينتظرون تحقيق العدالة للمتظاهرين السلميين الذين اعتُقلوا أو هُجروا، هناك أيضاً عشرات آلاف الأهالي الذين قُصفوا ودُمرت بيوتهم وهُجروا إلى دول الجوار أو ركبوا أمواج البحر ليصلوا إلى بر الأمان في أوروبا، وآلاف الأرواح الأخرى التي ابتلعها البحر بينما تنظر بعين الخوف إلى بر الأمان.

المآسي السورية لا تنتهي، وكل من جاهر بصوته، بموقفه، أو عمل سراً حفاظاً على أمنه أو أمن عائلته، هو جزء لا يتجزأ من هذا النصر.

معالم الحكومة  الانتقالية الجديدة الإسلامية واضحة، وإن كان هناك تحولات سريعة في صورتها، وتواكب العجلة المطلوبة للبقاء في السلطة، فما يصدر عن القيادي الجديد أحمد الشرع، يعطي تطمينات تطالب بها المجتمعات الدولية، لكن الفعل على الأرض لجهة انتقاء رجالات الحكومة؛ ولو كانت انتقالية، من لون إسلامي واحد شأن مقلق.

بالتوازي مع تعيينات الحكومة الانتقالية، تمت الدعوة إلى مؤتمر حوار وطني لإشراك أطياف المجتمع السوري في القرار السياسي، ومستقبل سوريا وصياغة الدستور، لكن هناك مساراً قانونياً يجب اتّباعه للوصول إلى صياغة شكل الدولة، لم يتم تداوله حتى الآن.

التخوّف من الأصوات الإقصائية

أتباع “هيئة تحرير الشام” في الساحات، رددوا عبارات إقصائية لا جدل حولها، عبارات من نوع “من ينتصر يقرر”، وغيرهم هاجم تجمعاً للدفاع عن حقوق المرأة، بعد تعليقات صدرت من المتحدث باسم الحكومة الجديدة عبيدة الأرناؤوط، الذي تم تعيينه بعدها محافظاً لحمص.

تلك الأصوات ناقشتها سيدات في ساحة الأمويين، سيدات سُجِنًّ سابقاً، وعملن بصمت لسنين طويلة، للدفاع عن المظلومين تحت سلطة النظام، سيدات عملن في السر حفاظاً على حيواتهن وبقائهن في بلدهن، ولا يمكن اتّهامهن بالصمت  أو التواطؤ، أو تغييب نضالهن ضد نظام الأسد، من قبل أصوات جاءت تهلل للنصر الجديد.

ما يحصل في الساحات من نقاشات بين أطراف غير متشابهة فكرياً واجتماعياً، يعكس غنى وتنوعاً في مرحلة ولادة الحريات، وما يهم هو انتقال هذا الاختلاف في الآراء إلى مكان تلتقي فيه المصلحة العامة في سبيل دولة مدنية، تضمن حقوق السوريين كافة على اختلاف طوائفهم وخلفياتهم، دولة قانون وحقوق متساوية، وهذا هو التحدي الأكبر.

شهدتُ خلافاً في الآراء تجسد بنقاشات طويلة في ساحة الأمويين، كما تجمع أيضاً عدد آخر من الشباب للمطالبة بدولة علمانية، حاول هؤلاء إسكات رجل ملتحٍ من الهيئة اعتلى المسرح لإبداء وجهة نظر متقاربة مع ما يطلبه العلمانيون إلى حد ما، تحدث عن دولة حريات واحترام للحقوق، لكن “العلمانيين” رفعوا أصواتهم لإسكاته، فرد عليهم “أنتم من تخافون من لحانا ولا تريدون أن تسمعوا صوتنا. حين أتحدث يعلو صوت المتظاهرين لإسكات صوتي، وحين يتحدث الشاب غير الملتحي الكل يصمت”.

قالت لي سيدة وهي من عائلة غير متدينة أن كلمة “علمانية”، كانت خطاب قمع في ذلك اليوم، لأن المنادين بها حاولوا إسكات الطرف الآخر، ناهيك بالحملة الإعلامية التي اشتعلت ضد بعض المشاركين في هذه الوقفة، التي كشفت عن توجه البعض قبل سقوط النظام الذي يصل حد “التشبيح”، واتهام آخرين ظلماً فقط لوجودهم في المكان!.

شبّهت ناشطة أخرى المشهد بزاوية “هايد بارك” الشهيرة في لندن، حيث يعتلي  المتحدث منصة ليطرح أفكاره أمام “الجميع”، أفكار من شتى الاتجاهات والمشارب.

ينشط حراك واسع للمشاركة في حل سياسي، وفي كتابة الدستور وشكل سوريا الجديدة، وذلك ليس حكراً على نشطاء العاصمة دمشق فحسب، فهناك مبادرات ظهرت في مدن عدة، ودعوات للتوقيع على وثيقة عهد وطني، تطالب بدولة قانون وتعددية.

هناك أيضاً حالة افتراق واختلاف، بعض “سوريي الداخل” يرون أن من كان في الخارج منتفع ومُموَل وأتى لفرض وجوده، بعدما دفع “سوريو الداخل” أثماناً باهظة، مقابل البقاء في سوريا تحت وطأة نظام ظالم، لكن “سوريي الخارج” أيضاً في تعطش للعودة والمشاركة.

ضرورة الحوار والمشاركة

هناك فرصة الآن أمام المجتمع السوري للمشاركة في بناء سوريا الغد، الجميع بحاجة إلى الوقت، وإلى مساحة تشاركية لطرح القضايا ونقاشها والبناء على الخبرات المكتسبة عند البعض، عوضاً عن هدر الوقت والبداية من نقطة الصفر.

البلد تآكل خلال حكم الأسد، دُمر معظم مدنه وقراه، وبقي نحو تسعين في المئة من سكانه تحت خط الفقر، والهم مشترك ليكون شكل الدولة يتناسب مع مطالب السوريين كافة.

ما زال هناك الكثير من العمل، من إنعاش الاقتصاد وإعادة إعمار المناطق المنكوبة، إلى محاسبة مجرمي الحرب ومن هلل لهم ودافع عن سفك الدماء. المرحلة المقبلة مهمة  لتشكيل سوريا، وهي أكثر مرحلة تحتاج إلى تضافر الجهود بدلاً من الإبعاد والإقصاء.

درج

—————————

هل يتحقق الانتقال السياسي إلى الدولة المدنية التي ضحّى من أجلها الشعب السوري؟/ صهيب الآغا

24.12.2024

في المرحلة المقبلة في سوريا، يُتوقع حدوث صراع على السلطة، يتزامن مع صراع على المناصب، حيث ستتنافس قوى الأمر الواقع مع باقي قوى المجتمع. هذا الصراع سيتحول إلى شعارات شعبوية عامة، وسيدور حول شخصية أحمد الشرع، في طريق شاق نحو دستور جديد وانتخابات عامة. هل يمكن لقوى الشعب السوري أن تتوصل إلى تفاهم واسع حول مبادئ أساسية، تضيء ضباب المرحلة الانتقالية المقبلة؟

يتطلب الانتقال السياسي وجود مؤسسات سياسية ومدنية، تمثّل شرائح واسعة من المجتمع السوري. إلا أن النظام البائد دمّر المؤسسات المدنية والسياسية والاجتماعية، مما جعلنا أفراداً متفرقين، نفتقر إلى مؤسسات فعالة أو أحزاب سياسية واسعة، وحتى إلى أفكار موحدة.

حالياً، لا توجد سوى ثلاث مؤسسات عسكرية: “هيئة تحرير الشام”، “الجيش الوطني” التابع للائتلاف، و”قوات سوريا الديمقراطية” أو (قسد). أما الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، فلا تزال محلية، متفرقة، ومتنافسة.

في المرحلة المقبلة، يُتوقع حدوث صراع على السلطة، يتزامن مع صراع على المناصب، حيث ستتنافس قوى الأمر الواقع مع باقي قوى المجتمع. هذا الصراع سيتحول إلى شعارات شعبوية عامة، وسيدور حول شخصية أحمد الشرع، في طريق شاق نحو دستور جديد وانتخابات عامة. هل يمكن لقوى الشعب السوري أن تتوصل إلى تفاهم واسع حول مبادئ أساسية، تضيء ضباب المرحلة الانتقالية المقبلة؟

إن إخفاق النخبة السياسية والاجتماعية المعارضة للنظام البائد في التوصل إلى تفاهم حول الأفكار، وإصرارها على التمركز حول أشخاص وشعارات، سلب الدولة المدنية جوهرها ومضمونها. هذا الإصرار على الشخصيات أدى إلى تشرذم المعارضة، وكان من أبرز أسباب استمرار نظام القتل والتهجير لأكثر من ثلاثة عشر عاماً.

التحول إلى دولة مدنية حديثة، يتطلب أولاً وقبل كل شيء “حضارة”. حضارة الحوار، والاختلاف، والتفاوض، وبناء الإجماع. الشعوب المتحضرة تتوحد حول أفكار ومبادئ، بينما الشعوب المغتصبة تتجمع حول أفراد وشعارات.

منذ انطلاق حراك “ربيع دمشق”، بدأت تتبلور رؤى ومبادئ تصف أسس بناء دولة سورية جديدة، حرة ومدنية. من “الميثاق الوطني” في سوريا عام 2004، مروراً بـ”وثيقة العهد الوطني السوري” الصادرة في اجتماع المعارضة بالقاهرة عام 2012، وصولاً إلى رؤية “المجلس الإسلامي السوري” عام 2024.

وفي عام 2022، اقترحت مجموعة من السوريين الأميركيين اختصار هذه الرؤى في عشرة مبادئ كنقطة انطلاق لحوار سوري، على أمل أن تتفق القوى الوطنية على رؤية موحدة وميثاق وطني، يعبر عن القواسم المشتركة بين كافة أطياف الشعب السوري.

للتوصل إلى ميثاق وطني موحد، يجب ترك نقاط الخلاف جانباً، والتوصل إلى تفاهم وطني حول أساسيات الدولة المدنية المنشودة، التي يمكن اختصارها في موضوعين مترابطين: “حرية الإنسان السوري وكرامته” و”ضمانات التبادل السلمي للسلطة”.

على المشاركين في المؤتمر الوطني السوري المرتقب أن يركزوا على الأولويات، وأن يتبنوا هذه المبادئ الأساسية من دون مماطلة أو مساومة.

أهم الأولويات هي ضمان حرية الإنسان السوري وكرامته. الحرية لا تتجزأ؛ الحريات الشخصية والدينية وحرية الرأي والتعبير، يجب أن تكون مصانة، ويجب ألا يخشى الإنسان السوري مجدداً نظاماً يخطفه ليلاً ويُخفيه إلى الأبد.

لن تتحقق حرية الإنسان السوري إلا إذا وُضعت قيود صارمة على السلطة، تمنع ظهور دكتاتورية جديدة. فالسلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. لضمان أن يبقى صندوق الانتخاب وصوت الشعب السوري جوهر السلطة ومصدرها، لا بد من مبادئ دستورية تضمن: “منع حكم العسكر”، و”توزيع السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية”، و”منح المحافظات والمدن صلاحيات لامركزية واسعة”، و”فرض التبادل السلمي للسلطة”.

على الشعب السوري ألا يفقد البوصلة خلال الصراع المقبل بين الإسلام السياسي بأشكاله، والقوى العلمانية بأنواعها، يجب أن تبقى البوصلة متجهة نحو ضمان حرية الإنسان وكرامته، وحتمية التبادل السلمي للسلطة.

الرئيس السابق للمجلس السوري الأميركي- عضو لجنة المتابعة لمجموعة السوريين الأميركان للميثاق الوطني (ميثاق)

درج

——————————

خاسران في سوريا.. لكن لا تعويض لإيران/ خيرالله خيرالله

الأربعاء 2024/12/25

ماذا حلّ بالاستثمار الإيراني في سوريا

أبرز الخاسرين في سوريا إيران وروسيا. من الواضح أنّ “هيئة تحرير الشام” التي يتزعمها أحمد الشرع ترفض أي وجود إيراني في سوريا، لا مباشر ولا غير مباشر، عبر ميليشيات مذهبيّة من نوع “حزب الله” اللبناني أو مجموعات أخرى عراقية أو أفغانيّة. تبدو “الجمهوريّة الإسلاميّة” الخاسر الأكبر في ضوء التغيير السوري الذي يمكن اعتباره حدثا تاريخيا نظرا إلى أن سوريا عادت إلى أهل السنة بعد 54 عاما من الحكم العلوي ذي الطابع العائلي للأسد الأب والأسد الابن.

الخاسر الآخر في سوريا هو روسيا والرئيس فلاديمير بوتين الذي سيترتب عليه إعادة النظر في حساباته بعدما اعتبر أن النظام السوري السابق كان ضمانة له. كان النظام السوري العلوي ضمانة على صعيد بقاء ميناء طرطوس على المتوسط في تصرف البحرية الروسية ومطار حميميم قرب اللاذقيّة في تصرّف سلاح الجوّ الروسي.

على هامش الحدث السوري الذي سيغيّر حتما التوازنات الإقليميّة تماما كما غيّرها تسليم أميركا العراق على صحن من فضة إلى إيران قبل 21 عاما، ترفض  “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران الاعتراف بحجم هزيمتها السورية الناتجة أصلا عن جهل بسوريا وشعبها. في المقابل، يحاول الرئيس فلاديمير بوتين تجميل الهزيمة الروسيّة في سوريا والتظاهر بأن روسيا لم تتأثر بالحدث. يحاول بوتين ذلك عن طريق تأكيد أن بلده “حقق أهدافه” من خلال الدخول طرفا في الحرب التي شنها النظام، الذي كان على رأسه بشّار الأسد، على شعبه منذ العام 2011.

يؤكّد رفض إيران الاعتراف بهزيمتها قول “المرشد الأعلى” علي خامنئي أخيرا “أنتم أيها الصهاينة لستم منتصرين، بل هُزمتم في سوريا حيث لم يكن جندي واحد يواجهكم بالبندقيّة. تمكنتم من التقدّم بضعة كيلومترات. هذا ليس نصرا. بالطبع إن الشباب السوريين الغيورين والشجعان سيطردونكم من هناك من دون شكّ.” يتجاهل خامنئي السيطرة شبه الكاملة على سوريا، بما في ذلك المدن الكبرى، لـ”هيئة تحرير الشام” ويعتبر ذلك بمثابة “تقدّم لبضعة كيلومترات.” من الواضح، أن إيران غير مستعدة، إلى إشعار آخر، للتعاطي مع الواقع. يبدو ذلك طبيعيا بعدما راهنت منذ العام 1979، تاريخ قيام “الجمهوريّة الإسلاميّة”، على أنّ آل الأسد باقون إلى الأبد.

يعطي الكلام الصادر عن المرجعيّة العليا في إيران فكرة عن الأزمة العميقة التي تمرّ بها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في ضوء سقوط النظام العلوي في سوريا. إنّه نظام لم تتردّد طهران يوما، منذ قيام النظام الحالي، في الرهان عليه من أجل اختراق المنطقة العربيّة والوصول إلى البحر المتوسط وجنوب لبنان. ليس سرّا أن الدفعة الأولى من رجال “الحرس الثوري” الإيراني عبرت إلى لبنان من سوريا بتسهيلات قدّمها حافظ الأسد. كان ذلك صيف العام 1982 بعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان. دخلت، وقتذاك، عناصر من “الحرس الثوري” الأراضي اللبنانيّة من سوريا وتمركزت، أول ما تمركزت، في ثكنة الشيخ عبدالله التابعة للجيش اللبناني في بعلبك.

تمرّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” في أزمة عميقة تجعل خامنئي يرفض التساؤل ما الذي حلّ بالاستثمار الإيراني في سوريا والمليارات من الدولارات التي صرفت. صرفت المليارات، التي ذهبت من درب الشعب الإيراني، من أجل بقاء بشّار في دمشق. كذلك، كي تبقى الأراضي السوريّة جسرا لتمرير الأسلحة إلى “حزب الله” في لبنان وتهريب أسلحة إلى الأردن ومخدرات عبر الأردن إلى دول الخليج العربي.

حصدت إيران ما زرعته. يمكن فهم استثمارها السوري من زاوية وحيدة. تتمثل هذه الزاوية في المشروع التوسعي الإيراني الذي يعني، أول ما يعني، تصدير مشاكل إيران إلى خارج حدودها دفاعا عن النظام القائم تحت شعار “تصدير الثورة”.

لدى “الجمهوريّة الإسلامية” تفسير كامل متكامل لسياستها السوريّة ولرفضها أن تكون سوريا تحت حكم الأكثريّة السنّية. ما ليس مفهوما بالكامل الانحياز الروسي الكامل للنظام السوري في حربه على شعبه. مثل هذا الانحياز ظهر بوضوح عندما تدخل سلاح الجو الروسي، ابتداء من نهاية أيلول – سبتمبر 2015 للحؤول دون سقوط النظام السوري. حصل ذلك بناء على طلب إيراني نقله إلى موسكو الراحل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” وقتذاك. كانت المعارضة السورية في طريقها إلى السيطرة على الساحل السوري، لكنّ سلاح الجو السوري الذي تمركز في قاعدة حميميم حال دون ذلك.

كتبت روسيا حياة جديدة للنظام السوري. أرادت أساسا المحافظة على قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجويّة ومنع إقامة خط أنابيب الغاز القطري عبر الأراضي السورية وصولا إلى الساحل التركي. أرادت عمليا تكريس حلم قديم منذ أيّام القياصرة هو حلم الوجود الروسي في المياه الدافئة. تبدو روسيا اليوم في حاجة إلى وجودها في سوريا أكثر من أي وقت. يعود ذلك إلى أن الوجود العسكري الروسي في سوريا مهمّ جدا للمحافظة على نفوذ موسكو في المنطقة ولتوقف طائرات الشحن التي تنقل ذخائر ومعدات وعناصر بشريّة إلى القواعد الروسية في أفريقيا.

يرفض خامنئي الاعتراف بهزيمة إيران في سوريا، كذلك الأمر بالنسبة إلى بوتين. الفارق الوحيد أنّ الرئيس الروسي يمكن أن يجد تعويضاً ما في حاجة ماسة إليه تقدمه له إدارة دونالد ترامب في أوكرانيا. أما “المرشد” الإيراني، فسيكون عليه البحث عمّا ينسيه فقدان سوريا التي كانت “ساحة”، على غرار ما كان عليه لبنان في أيام سيطرة “حزب الله” عليه. من يعوّض إيران عن فقدانها سوريا؟ من الواضح أنّ أميركا ودونالد ترامب يريدان تعويض روسيا بشبه انتصار في أوكرانيا. لكن ليس هناك من يريد تقديم أيّ تعويض أو جائزة ترضية إلى إيران التي يبدو عليها قريبا دفع كامل الفاتورة عن مغامرتها السوريّة التي سمحت بانتصار تركي تتحدد معالمه أكثر يوما بعد يوم.

إعلامي لبناني

العرب

—————————–

إبراهيم حميدي لـ “اندبندنت عربية”: بينما أظهرت معظم الدول دعمها للتغيير في سوريا، ما زالت دول أخرى تتخذ مواقف حذرة أو في مرحلة الترقب.

السوريون يعيشون مرحلة الانتقال من عقلية الثورة إلى الدولة

“اندبندنت عربية”

الأربعاء 25 ديسمبر 2024

بعد سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة انتقالية حاسمة تحمل في طياتها تحولات سياسية وإقليمية غير مسبوقة. وشهدت العاصمة السورية دمشق أخيراً حراكاً دبلوماسياً مكثفاً، تمثل في زيارات متتابعة لمسؤولين عرب وغربيين، في خطوة تعكس اهتمام المجتمع الدولي بمستقبل سوريا واستقرارها. تأتي هذه التحركات ضمن إطار مساعٍ دولية لدعم الإدارة السورية الجديدة، التي تواجه تحديات كبيرة لإعادة بناء مؤسسات الدولة وتوحيد الصفوف عبر تشكيل حكومة شاملة تضم كافة أطياف الشعب، بهدف تحقيق الاستقرار واستعادة الأمن بعد سنوات من الصراع الذي أرهق البلاد.

في حديث خاص لـ “اندبندنت عربية”، تحدث رئيس تحرير مجلة “المجلة”، إبراهيم حميدي، عن “الحراك الدبلوماسي المكثف الذي شهدته دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري. قام العديد من المسؤولين الغربيين والعرب بزيارات هامة، كان من بينهم المستشار في الديوان الملكي السعودي والسفير السعودي المعيّن حديثاً. التقوا جميعاً بأحمد الشرع والهيئة الإدارية الجديدة، في مسعى لدعم الإدارة السورية الجديدة والمساهمة في استعادة الأمن والاستقرار”.

وأوضح حميدي أن الهدف من هذه الزيارات هو دعم جهود إعادة بناء الجيش وأجهزة الأمن لتعزيز السيادة السورية ووحدة أراضيها، إضافة إلى تشكيل حكومة انتقالية شاملة تمثل جميع أطياف المجتمع السوري.

وأضاف الصحافي السوري: “أغلب الدول أظهرت دعمها للتغيير الذي حدث، مع تفاوت في مستوى وحجم هذا الدعم. بينما سارعت بعض الدول إلى تقديم دعم كامل وفوري، اتخذت دول أخرى مواقف حذرة أو ما زالت في مرحلة الترقب والاستكشاف. وتهدف هذه التحركات إلى تعزيز الاستقرار ليس فقط في سوريا، بل في المنطقة بأكملها”.

وأشار إلى سلسلة اجتماعات إقليمية هامة شهدتها الفترة الأخيرة، أبرزها اجتماع في العقبة شارك فيه وزراء خارجية دول عربية رئيسية، تبعه لقاء مشترك مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن. وذكر أن البيان الصادر عن اجتماع العقبة أكد على توافق الدول المشاركة حول نقاط رئيسية، منها دعم التغيير في سوريا، تعزيز الاستقرار، ودعم مسار سياسي بالتعاون مع الأمم المتحدة، إلى جانب تشكيل هيئة حكم أو حكومة جامعة تمثل جميع السوريين.

كما كشف رئيس تحرير مجلة “المجلة” عن اجتماع غير معلن عُقد الخميس الماضي في القاهرة، جمع وزراء خارجية ومسؤولي أجهزة أمن من ست دول عربية إضافة إلى تركيا. كان الهدف من الاجتماع تنسيق الجهود بين هذه الدول، بما في ذلك السعودية ومصر وتركيا، لدعم الإدارة السورية الجديدة وتشجيعها على اتخاذ خطوات عملية تُعزز الاستقرار الداخلي، بما يحقق تطلعات الشعب السوري، ومعالجة قضايا رئيسية مثل مكافحة الإرهاب، وقف التهريب، محاربة تجارة المخدرات، وتوفير الظروف الملائمة لعودة اللاجئين من الدول المجاورة.

واختتم حميدي حديثه بالإشارة إلى تصريحات أحمد الشرع، قائد الإدارة الجديدة، الذي أكد فيها على الانتقال من “عقلية الثورة” إلى “عقلية الدولة”. وأوضح الشرع أن الإدارة الجديدة لا تعتزم تصدير الثورة إلى دول أخرى، وأن الثورة السورية حققت أهدافها بإسقاط النظام السابق، وليس لديها أي طموحات خارج حدود سوريا. هذه التصريحات، بحسب حميدي، تبعث برسائل طمأنة إلى دول الجوار وتفتح آفاقاً لتعزيز العلاقات الثنائية بين سوريا الجديدة والدول الإقليمية، بما فيها الدول العربية ودول الخليج.

——————————-

الرئيس “مجرداً”… لماذا تداول السوريون ألبوم الأسد؟/ حميدة أبو هميلة

متخصصون يرونها تعبيراً رمزياً عن الحرية والتشفي وزوال الحصانة والنفوذ ومواقع التواصل أسهمت في انتشار الصور الخاصة والسخرية من أصحابها

الأربعاء 25 ديسمبر 2024

فتح ألبوم الصور العائلي الضخم للرئيس السوري السابق بشار الأسد، الباب أمام جدال يتعلق بشخصيات القادة والزعماء وكيف يمكن أن تبدو حياتهم العائلية متناقضة مع ما ترسخ حولهم في الأذهان، كذلك يمكن القول إن ثقافة الإنترنت أسهمت في توثيق وتأريخ نوعية هذه اللقطات التي يجري تداولها بقوة وبطريقة فضائحية حينما يتعلق الأمر بزعيم سياسي مخلوع، تم تجريده من نفوذه، إذ إن شراهة المشاركة لا تتوقف متأثرة برغبة قوية في الثأر والانتقام السياسي الرمزي

عض التفاصيل الشخصية في حياة زعماء وقادة العالم بمثابة أسرار يجب تأمينها مثلما يجري تأمين الوثائق المهمة، أو النقاط العسكرية أو حتى أرواح الحكام، لأن في خروج هذه القصص إلى العلن إحراجات ربما تودي بسمعة الشخص، فمهما كان الفعل بسيطاً وغير مؤثر بشكل عام، فإنه يمكن أن يمثل سقطة لا تغفرها الجماهير، لا سيما تلك المتعطشة لانتقام سياسي لا يأتي بالطرق الشرعية.

وتعدّ الصور الخاصة بعضاً من تلك الأسرار، وإن كان المرح والعفوية في الحياة العائلية للسياسيين الكبار أمراً إيجابياً، بل على العكس قد يجعلهم أكثر جاذبية وقرباً لأفراد الشعب، لكن في حال كان هذا الزعيم يجتهد وحاشيته في رسم هالة بعينها حول حياته، فإنه لا يفضّل عادة أن يتداول العامة ما يخص دائرته الأكثر قرباً. لهذا، يكون السقوط المدوي للأنظمة وسيلة للكشف عن هذه اللقطات، التي تتنوّع ما بين عادية وتلقائية وأخرى تثير الاستغراب، بالتالي كان الأفضل لها أن تظل مخفية.

هذا التداول الواسع الذي تحرّكه أولاً مشاعر الفضول الشعبي أو حتى الصدمة، يستمر ربما من باب التسلية أو التشفي وحتى شراهة الرغبة في الثأر، بخاصة أن كثيراً من هذه الصور لم يكن مطروحاً للعلن بأي شكل، وهي تقع تحت بند “الحياة الخاصة” غير المسموح أبداً بالاقتراب منها في حياة ذوي المناصب الرفيعة للغاية وساكني قصور الحكم.

ولهذا، حينما تفقد حصانتها، تجد زبائن كثراً يسعون لاستكشافها وتحليلها وتأويلها، وربما السخرية منها ومحاكمة أصحابها، وهناك أيضاً من يبدون إعجابهم بعد اكتشاف الوجه الآخر الأكثر عادية للزعيم، مهما كان مناقضاً للشخصية التي دأب نظامه على الترويج لها، وقد يكون بشار الأسد، المقيم حالياً بروسيا، أحد أحدث تلك النماذج، إذ بات ألبوم صوره العائلي، إضافة إلى وثائق ومقتنيات غرف القصر، معروضاً بين المنصات، وكأنه وجبة يومية للتسلية، بخاصة في المجتمع العربي، الذي اعتاد صورة نمطية معينة للحكام لا تشوبها شائبة.

عالمياً، كانت هناك قصص وحكايات كثيرة حول التسريبات التي يتورط فيها رؤساء الدول، التي تضمنت صوراً خاصة، وأسراراً بصبغة فضائحية، بينها ما طاول الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في التسعينيات، إذ أنهت علاقته بمونيكا لوينسكي مسيرته السياسية في البيت الأبيض. كذلك حفلت حياة رئيس الوزراء الإيطالي السابق سلفيو بيرلسكوني بفضائح مشابهة، كما لم تخل مسيرة الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن من بعض الأزمات المشابهة، وسرّبت له صور توحي بتصرفاته الغريبة وأسلوب حياته الماجن مدمناً للكحول، إذ كان يسير بملابسه الداخلية في الشوارع.

وتختلف بالطبع طريقة التلقي، فهناك من لا يتمكن من الوقوف بوجه العاصفة، وآخرون يقاومون بكل قوتهم، بينهم، على سبيل المثال، الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، الذي يتجاوز قضايا اتهامه بتجاوز القانون والتحرش الجنسي، ولا يأبه بتسريب أسرار علاقاته النسائية المعتمدة على الابتزاز والاستغلال.

أسرار القصور الرئاسية بلا ثمن

في العالم العربي، كان ملموساً بشدة كيف تتغير مشاعر الناس تجاه الزعيم فور أن تنزع منه سلطاته ويزول نفوذه، ويبدأ الجميع في ممارسة حرية الرأي السياسي، التي لطالما حُرموا منها، فتتوسع دائرة نشر الصور الخاصة التي عُثر عليها بالصدفة دلالة على هذه الحريات، ويتسابق الجميع لنشر اللقطات التي كانت محجوبة ومحمية، ثم أصبحت متاحة بلا ثمن، لتكشف جوانب لم تكن معروفة قبلاً تسهم في إبراز نقاط ضعف الزعيم.

وارتباط هذه النوعية من الأسرار واللقطات مع سقوط الأنظمة وزوال هالة القداسة أمر طبيعي، لأنه خلال فترة وجود الزعيم بالسلطة لا يسمح بأن تنتشر التسريبات الشخصية على نطاق واسع. كما أن سُبل التأمين الفائقة تمنع مصوري الباباراتزي ومروجي اللقطات الثمينة من الوصول إلى مبتغاهم.

وشهد العالم العربي خلال الـ13 عاماً الأخيرة انهيار عديد من الأنظمة ما سمي بالربيع العربي، وفي كل مرة كان هناك خط موازٍ لما يمكن تسميته بالاحتفاء بالعثور على صيد من الصور الشخصية للزعماء تكشف جانباً غير معروف عن حياتهم.

وفي الوقت الذي دأب فيه بشار الأسد على مدى ما يقرب من ربع قرن حكم فيها الدولة السورية على ترسيخ صورة ذهنية محددة تتسم بالجدية والصرامة والجمود، ثم أضيفت إليها رتوش أخرى مثل البطش والتنكيل، وفقاً لما أوردته المعلومات والوثائق والصور، وما كشفته سجلات التعذيب بالسجون عقب سقوط نظامه في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) من هذا العام، فإن عشرات الصور التي وقعت في أيدي العابثين بأوراق قصره الرئاسي كانت مغايرة تماماً، وتبدو محرجة في كثير من الأوقات، والأكثر أنها غير مفهومة الإطار، لا سيما أن ظهوره بوضعيات معينة شبه مجرد من الملابس لم يقتصر على موقف واحد أو مناسبة عابرة، مثل وجوده على الشاطئ مثلاً، فحينها كان سيغدو الأمر عادياً، لكنه يبدو بهذا المظهر في عديد من المناسبات.

الأمر هنا لا يتعلق أبداً بالبساطة أو الكشف عن الوجه المرح المتجرد من الرسميات، فكل هذه أشياء عادية كانت لتحظى بالتقدير ويشترك فيها الجميع، بمن فيهم رؤساء كبار الدول. لكن الأمر مع بشار الأسد يبدو غير مفسّر بالمرة، ليس بسبب التناقض الصارخ بين وجهه الرسمي وحياته الشخصية، لكن بسبب الغرابة وبسبب الحرص الشديد على توثيق مثل هذه اللحظات بالكاميرا وطباعة الصور والاحتفاظ بها، ثم الأكثر إدهاشاً التعامل معها بشكل عادي، وعدم إبعادها عن التناول، حيث تمتلئ مكتبة صور القصر بآلاف الصور لأبويه وأبنائه وأشقائه بصور عائلية معتادة.

يرى أستاذ العلوم السياسية أوس نزار درويش أن أول ما تشير إليه بعض صور بشار وعائلته، أنه ترك القصر بشكل فجائي، ولم يهتم بنقل الصور وتأمينها وحمايتها، ولم يفكّر من الأساس بهذه الأشياء في اللحظة المصيرية. مشدداً على أنه كان في موقف غير اعتيادي بيوم صعب للغاية في دمشق، ولم يهتم سوى بتأمين سلامته الشخصية، ومن ثمّ لم يحافظ على هذا الإرث العائلي، الذي وقع في أيدي الناس بكل سهولة. لافتاً إلى أن بعض هذه الصور قديمة للغاية، وقد تبدو عفوية.

انتقام سياسي رمزي

لكن السبب الكبير في الانتشار على هذا النطاق الواسع للغاية يعود إلى “رغبة قوية في التشفي”، وفق ما يؤكد أستاذ العلوم السياسية، موضحاً، “بالطبع التشفي والاستهزاء والانتقام بالتعليقات الساخرة هي مشاعر أساسية تصاحب الشماتة في الأنظمة الساقطة، بخاصة بعد زوال الحصانة والقبضة الأمنية. فحتى لو كان هذا السلوك لا يقدم ولا يؤخر ولا يفيد، فإنه يشبع شيئاً لدى الجماهير، ويعتبر نوعاً من التنفيس. فهذا التعبير الرمزي عن الانتقام يأتي ممن عانوا بسبب هذا النظام”.

ولم يختلف الباحث قصي عبيدو مع هذا الرأي كثيراً، لا سيما في الشق المتعلق بأولويات الأسد خلال اللحظات الأخيرة في حكمه سوريا، مضيفاً أنه فرّ بطريقة مخزية، مخلفاً وراءه مستنداته وحتى صوره الشخصية. معتقداً أنه كان سيحكم سوريا للأبد، ولم يكن يفكّر في إخفاء هذه الأغراض أو إتلافها لعدم انتشارها في العالم.

وعن سبب هذا التداول الكبير لهذه اللقطات، ولماذا يرتبط عادة بالرؤساء المخلوعين الذين يقترن خروجهم الفجائي من السلطة بالفوضى، يقول عبيدو إن السقوط الفوضوي غير المخطط له من المؤكد أن يعقبه دخول إلى المكاتب والبحث والتفتيش في الأوراق والأغراض الشخصية، لأنه لم يكن هناك وقت لإتلافها أو إخفائها.

وما يسهم في هذا الأمر أيضاً، وفق ما يرى عبيدو، أننا الآن في عصر التطور التكنولوجي الذي له دور من الأساس في التجسس واختراق الحسابات الشخصية والمصرفية، إضافة إلى الاختراق الأمني عبر أجهزة الاستخبارات العالمية، وزرع عناصر منها لإسقاط أنظمة أو التحكم بالحكم عبر وصولهم إلى مناصب متقدمة في الدولة. وأيضاً الانتقام الشخصي من المقربين، وبالطبع ثورة الشعب على الحاكم أو الزعيم أو الرئيس ودخولهم منزله ونشر محتوياته عبر الإعلام.

ويواصل، “مما لا شك فيه أن الأمثلة في عالمنا عن التسريبات كثيرة وعن الثورات لا تُعد، لكن ما يحدث مع بعض الرؤساء هو حالة خاصة سببه معاناة الشعوب من حكمهم، بالتالي يعتقدون أنهم يستحقون فضح أسرارهم الشخصية”.

محاكمات على الإنترنت

المفارقة أنه في عصر السوشيال ميديا، فإن حسابات القادة تستخدم الصور العفوية ضمن الخطة الإعلامية للترويج لصورة الزعيم القريب من الشعب، والحنون البار بعائلته، والمرح الذي يمارس رياضته المفضلة بعفوية، ويقضي وقتاً ممتعاً على الشاطئ.

وحتى في عصور سابقة كانت داووين الهيئات الحاكمة توزع بين حين وآخر مثل هذه الصور، وللهدف نفسه حيث ظهرت لقطات من هذا القبيل لمحمد أنور السادات، وجمال عبد الناصر، وعبد العزيز بوتفليقة، والحبيب بورقيبة. وقد تحدثت رغد، ابنة الرئيس السابق صدام حسين الذي سقط نظامه بعد الغزو الأميركي للعراق في 2003، عن بساطة أبيها ولطفه مع أطفال الأسرة، وكيف كان شخصاً عادياً جداً لا يهتم بالرسميات. وجرى تداول صورة تعزز وجهة النظر هذه، لكنها أيضاً كانت تخدم صورة الرئيس القوي الذي كان يحب الظهور بثبات حتى لو كان مرتدياً ملابس السباحة أو يدلل ويلهو مع طفل صغير.

أما الملك فاروق فقد جرى استخدام الصور الخاصة العابثة، لإبراز مدى فساد حكمه بعد إزاحته عن منصبه إبان ثورة يوليو (تموز) 1952، كذلك فإن صور الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك الذي تنحى في فبراير 2011 إثر ثورة شعبية، فقد كان كثير منها متداولاً قبل السقوط، وانتشرت مجموعة أخرى بعد انهيار النظام، لكنها أيضاً كانت تخدم صورته “العادية” المتواضعة، سواء وهو مع الأحفاد والأبناء والأصدقاء، أو وهو يمارس رياضته المفضلة الإسكواش.

والأمر لم يختلف كثيراً مع الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، حيث كان بعض أفراد عائلته بعد السقوط يحرصون على نشر صور تبرز الجانب الطبيعي البسيط من حياته. لكن الأمر اختلف بعض الشيء مع معمر القذافي، الرئيس الليبي المخلوع كذلك، حيث جرى التركيز على أسرار تصرفاته وأبنائه والبحث عن التجاوزات التي أفسدت الحياة السياسية في البلاد.

كما أن ألبومات الصور الشخصية للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح كانت أيضاً من الأكثر انتشاراً بعد تردي الأوضاع إثر الحراك الشعبي في 2011، وبعض منها كان مع الأسرة وأخرى مع أصدقاء بالزي العسكري الرسمي، وهناك أخرى بالزي التقليدي، حيث كانت الجماهير تحاول أن تستشف دلالات هذه اللقطات، التي تعبر بعضها من وجهة نظرهم عن الاستعلاء الشديد والرفاهية المطلقة، وأخرى عن التواضع والمرح، وبعضها يدل على قوة الشخصية وغيرها.

دلالات الصور المتناقضة

يطالب أستاذ السياسة أوس نزار درويش بضرورة الفصل بين الحياة الشخصية للقادة ومشوارهم السياسي، “هناك قادة ديكتاتوريون وآخرون أكثر مهادنة، والحياة الشخصية لا تكون مرادفة عادة للأداء السياسي. الزعيم في الأغلب يكون عادياً تماماً مع أحبائه وعائلته بالمنزل، بينما متطلبات عالم السياسة مختلفة تماماً. إذ يسعى الرئيس هنا أن يصدر عن طريق وسائل الإعلام الجانب الأمثل لشخصيته والمتسق مع توجهه في إدارة الدولة وفي تعامله مع بقية البلدان. وبالطبع، أي قائد سواء عربياً أو عالمياً، تكون حياته بعيداً من الكاميرات مختلفة. والحقيقة أن الشرق الأوسط معقد جداً، فلا يمكن مقارنة العاملين الشخصي والعام. فقد يكون الزعيم ودوداً للغاية في حقيقته، لكن في سياساته العامة شخص غير أخلاقي أبداً، فكثير من الرؤساء ممن ارتكبوا جرائم هم في حياتهم مثاليون ومرحون”.

ويلفت درويش إلى أن تلقي وسائل الإعلام أيضاً تسريبات الحياة الشخصية حول الزعماء يختلف تماماً من مجتمع إلى آخر، إذ يؤكد أن مرور هذه الأشياء في العالم الغربي لا يستمر طويلاً، بعكس ما يجري عربياً، نظراً إلى أن الثقافة المجتمعية تعوّدت أن تظل صورة الحاكم غير مخدوشة، ولا تحمل أي شبهة. وذلك وفقاً للسمات الخاصة التي بناها هذا الحاكم لنفسه عبر الترويج الإعلامي ضمن آلة الدعاية الرسمية.

ولهذا، من الطبيعي أن تكون ردود الأفعال متتالية، ولا تتوقف حينما تتكشّف أي صورة ذات مغزى تتعلق بهذه الفئة من السياسيين. وتعتبر وسائل التواصل الاجتماعي هي الوسيلة الأولى لتفريغ الشحنات في هذا الصدد. فهذه هي ثقافة الإنترنت التي تغذي الرغبة في التشهير وتصفية الحسابات، فوسائل الإعلام الرصينة لها قواعد ومعايير تجعل التغطية لهذه القصص مغايرة تماماً.

ووفقاً لدراسة بحثية حملت عنوان “العلاقة بين المتغيرات السياسية والإعلام في مرحلة الربيع العربي”، لكل من حميدة سميسم وليلى جرار قُدمت في جامعة الشرق الأوسط بالأردن، جرى التوصل إلى أن السوشيال ميديا بالفعل تقوم بدور التعبئة والتنظيم للشباب عن طريق إتاحة مساحة من الحرية لم تكن متاحة لهم على أرض الواقع، إذ أشارت الباحثتان إلى أن الجماهير استخدمت هذه المنصات، للتعبير عن آرائهم وشحذ الهمم وحتى للتعبير عن الضيق بطريقة عفوية في البداية، لكنها تتحوّل إلى تعبئة مقصودة في ما بعد.ويختم الباحث السياسي والكاتب قصي عبيدو تعليقاته على هذا التوجه، بأنه عبر التاريخ شكّل الجانب الشخصي المتعلق بالملك أو الزعيم أو الرئيس جاذبية خاصة. مشيراً إلى أنه لم يستطع أحد أن يخفي هذا الجانب مهما حاول وأحاط نفسه بهالة من الحراسة والسرية. فهناك تسريبات قد تحدث من المقربين أو من خلال الحراس أنفسهم أو العاملين في مجال الخدمة والتنظيف.

————————————-

تحديات سورية… «الجديدة»/ دانة العنزي

24 ديسمبر ,2024

تشكّل مرحلة ما بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، نقطة تحول تاريخية ستترك أثراً عميقاً على المشهد السوري داخلياً وخارجياً. يُتوقع أن تكون هذه المرحلة شديدة التعقيد، حيث تتداخل التحديات الأمنية مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ما يتطلب إعادة بناء دولة أنهكتها الحرب لأكثر من عقد من الزمان.

بالنسبه للأبعاد الأمنية كالفراغ في السلطة ستواجه سورية خطر فراغ السلطة الذي قد يؤدي إلى تنافس قوى مختلفة لملء هذا الفراغ، بما في ذلك بقايا النظام السابق، الفصائل المعارضة، والتنظيمات المتطرفة. مثل هذه الحالة قد تعيق الاستقرار وتزيد من خطر اندلاع مواجهات داخلية، أيضاً التدخلات الإقليمية والدولية من المرجح أن تستمر القوى الإقليمية والدولية في لعب أدوار مؤثرة في تحديد مستقبل سورية السياسي والأمني. فالدول مثل روسيا، إيران، وتركيا لديها مصالح إستراتيجية داخل الأراضي السورية، ما قد يخلق صراعاً جديداً على النفوذ، إضافة الى ذلك إعادة بناء الأجهزة الأمنية تحتاج سورية إلى إصلاح شامل للأجهزة الأمنية والعسكرية، لتحويلها إلى مؤسسات وطنية تحمي البلاد. هذا الإصلاح يتطلب وقتاً طويلاً وتوافقاً سياسياً داخلياً ودعماً دولياً.

أما عن الأبعاد الاقتصادية فإعادة الإعمار تأتي بالمقدمة فقد تعرّضت البنية التحتية في سورية للدمار شبه الكامل. سيُقدّر إعادة إعمار البلاد بمئات المليارات من الدولارات، ما يتطلب دعماً دولياً واستثمارات ضخمة من الدول المانحة والمؤسسات المالية العالمية، أيضاً التحديات الاقتصادية والمعيشية ربما يواجه الشعب السوري مستويات غير مسبوقة من الفقر والبطالة.

سيكون على الحكومة المقبلة التعامل مع أزمة اقتصادية خانقة وإعادة تشغيل القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة لتأمين الاكتفاء الذاتي وفرص العمل، إضافة الى ذلك إصلاح العملة والنظام المصرفي، فتدهور قيمة الليرة السورية وأزمة القطاع المصرفي سيشكلان عقبة رئيسية أمام التعافي الاقتصادي، ما يستدعي تدخلات إصلاحية هيكلية وإعادة الثقة بالنظام المالي.

الأبعاد الاجتماعية المتمثلة بدرجة كبيرة بعودة ملايين السوريين الذين غادروا البلاد أو نزحوا داخلياً.

عودتهم ستتطلب توفير الأمن والخدمات الأساسية كالمياه، الكهرباء، والتعليم، بالإضافة إلى معالجة قضايا فقدان الملكيات وتهديم المنازل، ايضاً الانقسام المجتمعي فقد خلّفت الحرب انقسامات عميقة بين مكونات المجتمع السوري. تحقيق المصالحة الوطنية سيكون أمراً حاسماً لمنع تجدد الصراعات،

ورعاية ضحايا الحرب ستحتاج سورية إلى برامج ضخمة لرعاية جرحى الحرب والأيتام وأسر الضحايا، إضافة إلى جهود لمعالجة الآثار النفسية والاجتماعية التي خلفها الصراع طويل الأمد.

إنّ سقوط نظام بشار الأسد سيُعيد تشكيل سورية على مستويات عديدة، ما يضع تحديات ضخمة أمام الشعب السوري والحكومة المقبلة. الحلول المستدامة ستتطلب توافقاً وطنياً ودعماً دولياً جاداً لإعادة بناء الدولة وضمان استقرارها.

تحقيق هذه الأهداف سيحدد مستقبل سورية كدولة موحدة، آمنة ومزدهرة أم كساحة لصراعات جديدة لا نهاية لها؟

نقلا عن “الراي”

————————-

زيارة أخرى إلى سوريا!/ عبد المنعم سعيد

24 ديسمبر ,2024

بعد سنوات من زيارتى الأولى إلى مطار دمشق التى أشرت إليها فى مقالى يوم الأحد قبل الماضى؛ وفى منتصف التسعينيات من القرن الماضى ذهبت إلى دمشق مرة أخرى فى مؤتمر عقده مركز دراسات الوحدة العربية بمشاركة سورية جعلت المناسبة قومية. حضرت فى صحبة الأستاذ والمفكر الكبير لطفى الخولى رحمه الله؛ وبينما الجلسات منعقدة طلب منى الخروج إلى خارج القاعة والمبنى لأمر هام. كان الأمر غريبا ومع ذلك وكما هى العادة لبيت رغبة الصديق ووجدت مجموعة من العربات السوداء الضخمة ركبنا واحدة منها فإذا بها تسير بسرعة الريح فى شوارع دمشق حوالى عشرين دقيقة.

سألت وقد ارتجفت أوصالى من السرعة فإذا الإجابة أننا ذاهبون لغذاء عند السيد «رفعت الأسد» الشقيق للرئيس حافظ الأسد وكان ذائعًا عنه القسوة والعنف والتى قيل إنها كانت السبب فى إزاحته من منصبه. لم تكن الإجابة مريحة ولكنها كانت مثيرة للفضول، وبعد الوصول والتقاط الأنفاس فإن الرجل ساعة المقابلة كان ودودا وكريما وبالغ اللطف ومقدما لكثير من الحب لمصر الحبيبة.

كان المنزل قصرا كبيرا يقع فى منتصف مساحة كبيرة من الأرض وتحيط بها أسوار عالية أشبه بأبراج؛ وكان الوصول إليها بالسرعة المشار إليها لحمايتنا، الركاب، من الاغتيال. أصبحنا فيما يشبه ثكنة عسكرية؛ وفهمت أننا انتهينا إلى مكان معارض للسلطة السورية حتى ولو كانت من أخ رئيس الدولة الذى أكد لنا أنه يقع فى موقع المعارضة بسبب تأييده لما قامت به مصر من سلام مع إسرائيل؛ وأنه عندما يذهب إلى صلاة الجمعة فإن الجماهير تتجمع حمله هاتفة ومؤيدة. كان ذلك مفاجئا وعاكسا لحالة من الانقسام السياسى التى ظهرت فيما بعد بخروج رفعت الأسد من سوريا وذهابه للتنقل بين فرنسا وإسبانيا. الصورة ساعتها كانت أن الأحوال حتى داخل العائلة الحاكمة ليست على ما يرام رغم أن الموقف الرسمى للدولة يذهب فى اتجاه توحيد الأمة العربية «ذات الرسالة الخالدة».

مضت الزيارة على خير وغذاء كريم لكن غالبنى طوال الوقت ذكريات زيارة إجبارية حدثت قبل ذلك بعقد تقريبا عندما كنا وفدا للجمعية العربية للعلوم السياسية حاضرا إلى بغداد للمشاركة فى ندوة عن التجارب العربية فى الديمقراطية! كانت هى الزيارة الأولى للعراق وكانت أشبه بتتويج الجمعية التى كانت الندوة نشاطها الأول بعد تأسيسها فى قبرص قبل ذلك بعام؛ وهى التى كانت تضم علماء السياسة العرب من المحيط إلى الخليج. قصة إنشاء الجمعية تحتاج رواية لصعودها واختفائها فى وقت آخر. ولكن الندوة ذاتها مضت مثل الندوات الأخرى، حيث قدم كل مجموعة من بلد عربى تجربة بلاده مع الديمقراطية. لاحظنا، ولم نعلق، أن العراق ذاته كان غائبا عن جلسات الندوة. ما لا حظته وقتها هو أن بغداد يهمن عليها تماما الرئيس صدام حسين فمهما تحرك نظرك شمالا ويمينا، إلى أعلى أو إلى أسفل، سوف تجد صورة أو تمثالا له مرتديا رداء عسكريا، أو آخر مدنيا، ممتطيا جوادا أو مترجلا بجانبه، حاملا سيفا مشهورا أو فى غمده؛ وإذا تغير اتجاهك فسوف يكون حاملا بندقية. الزملاء العراقيون على عكس ما عرفناهم خارج العراق كان صوتهم خافتا، وكلامهم مائعا لا يطرح حجة ولا مقولة أو معلومة، وبعد يوم واحد فإن بوليسية الدولة جعلتنا نتشوق ليوم الرحيل وساعته صباح اليوم التالى. فى الصباح كانت المفاجأة هى خبر هو أن سفرنا تغير حاله إلى ما بعد الظهر، وأننا سوف نقابل «شخصية هامة». ركبنا فى حافلة كبيرة مسدلة الستائر السوداء وانطلقت نحو نصف ساعة حتى وصلنا إلى قصر «الرئاسة» الذى يوجد فيه الرئيس صدام حسين شخصيًا. كان القصر متواضعا، وبعد الوصول جاء صوت يحمل أسماءنا رباعية الواحد بعد الآخر، تماما كما هى فى جوازات السفر. مر جندى علينا وأعطى لكل منا مظروفا أصفر طالبا منا أن نضع فيه كل شىء من خاتم الزواج إلى ما لدينا من حافظات نقود أو نظارات أو مفاتيح. كان ذلك فقط المقدمة التى سوف يأتى بعدها الطلب فى الدخول إلى ممر فيما بعد عرفت أنه يقود إلى غرفة يجرى فيها تفتيش يشمل ما تلبس من حذاء ومعطف وحزام. التقينا بعد ذلك فى غرفة واسعة كان الزملاء فيها من النساء فى حالة بكاء بعد مرورهم فى هذا الاختبار؛ ثم بعد ذلك جاءت اللحظة الحرجة لمصافحة الرئيس ثم الدخول إلى قاعة اجتماعات دائرية. تحدث الرئيس عن أن الديمقراطية فى العراق قائمة وأن سياسته هى أن تجعل «مائة وردة تتفتح». كانت هذه مقولة ماوتسى تونج، وبعدها تحدث لدقائق فى أمور عامة ولكن فجأة جاءه من يسر فى أذنه أمرا بدأ بعدها مهتما بأن يصل اللقاء إلى نهاية. تملكتنا الدهشة وبعد استلام ما أخذ منا ذهبنا إلى المطار، وهناك عرفنا أن جزيرة «الفاو» العراقية قد سقطت فى يد الإيرانيين. بمجرد خروج طائرتنا من الأجواء الإقليمية العراقية ارتجت الطائرة بالتصفيق.

الزيارة السورية والذكريات العراقية حملت معها فترة عصيبة من التاريخ العربى الذى نعايشه اليوم حيث توجد خلطة من الشعارات القومية بينما التفكيك جاريا بين أبناء الوطن العربى الواحد، وما بين الدول العربية وبعضها. العداء فى كل الأحوال قائما لإسرائيل بالطبع والغرب من ورائها؛ وفى الداخل توجد دائما مؤامرة غير منظورة. العراق خاض الحرب العراقية الإيرانية لثمانى سنوات، ثم بعدها قام باحتلال الكويت لكى تنشب حرب تحريرها، وبعد التحرير جاء الغزو الأمريكى لمقر الخلافة العباسية. فى سوريا لم تكن المسيرة البعثية القومية أقل تراجيدية؛ ولم يكن ذلك من المشهد الذى نشاهده الآن وإنما على طول زمن فيه ٥٤ من حكم حافظ الأسد ثم ولده بشار الأسد. العراق الآن يبدو خارجا من عقود صعبة وقاسية يغالب فيها ليس فقط الغزو الأجنبى، وإنما أكثر من ذلك كيف تضع بلدا متعدد الأعراق فى بوتقة سياسية واحدة. الصيغة اللبنانية بدت ملائمة للنصيحة الأمريكية لنخبة منقسمة حيث الرئيس كردى، رئيس الوزراء شيعى، والبرلمان سنى. الدولة تحاول أن تسير على هذا المنوال القلق فى وجود فصل ما بين السلطة السياسية البرلمانية، والسلاح الموحد شكلا تحت راية الجيش العراقى، فى الواقع فإن قوات الحشد الشعبى تتلقى تعليماتها من طهران. سوريا لم تتحمل «الربيع العربى» فخاضت حربا أهلية انقسمت فيها الجغرافيا بقدر ما انقسمت الأعراق والسياسة، ولكن التدخل الإيرانى من طهران ومن بيروت حيث حزب الله والروسى أعطى بشار الأسد مساحة تكفى لتمثيل سوريا واتهام قيادات العرب بأنهم «أنصاف رجال». لم يمض وقت طويل حتى كان هاربا بعد منتصف الليل إلى موسكو بينما كانت عاصمة الخلافة الأموية تسقط فى يد تحالف راديكالى بينما تسقط القذائف الإسرائيلية على معسكرات الجيش العربى السورى، وتبتلع إسرائيل بقية الجولان.

نقلا عن “المصري اليوم”

—————————–

وثائق خاصة لـ”المجلة” تكشف تجسس نظام الأسد على مكالمات السوريين/ فراس كرم

كانت الملاحقات تتم لمجرد التعبير عن السخط أو شراء بضائع بالدولار

25 ديسمبر 2024

في سوريا وعلى مدار أكثر من 5 عقود خلت، لم تكن مهمة مخابرات نظام الأب حافظ الأسد والابن بشار الأسد، تقف عند حدود قمع الحريات ومصادرة حق الرأي أو اعتقال الناشطين وتعذيب المعتقلين حد الموت فحسب، وإنما كانت ثمة مهام أخرى تمارسها وتقوم بها تلك الأجهزة، تتمثل في انتهاك صارخ لحرمة وحياة المواطنين السوريين، من خلال التنصت والتجسس المطلق على مكالماتهم الأرضية والنقالة، بتهمة أو بغير تهمة.

“المجلة” عثرت في أحد الأجهزة الأمنية للنظام (المخلوع) في دمشق، على وثائق خاصة تكشف عمليات التجسس الكبيرة على حياة المواطنين السوريين واتصالاتهم، وقد ذُكر فيها محتوى أي مكالمة جرى التنصت عليها من قبل المخابرات، حتى الخاصة منها ضمن العائلة الواحدة، وأيضاً لمكالمات تخص ضباطا عسكريين، كما شملت عملية التنصت أيضاً مكالمات لعائلات فلسطينية لاجئة إلى سوريا.

عمليات التنصت لمخابرات النظام المخلوع، ساهمت إلى حد كبير في تقويض حياة وحرية السوريين على مدار أكثر من عقد من الزمن، واعتقال أعداد كبيرة منهم ومن ذوي الناشطين، ومقربين من ضباط منشقين، إضافة إلى تجار ورجال أعمال سوريين، وفقاً لشهود تحدثت إليهم “المجلة” وردت أرقامهم في الوثائق.

محمد.ع، مواطن سوري (فضل عدم الكشف عن اسمه الصريح لأسباب شخصية متعلقة به)، ورد رقم هاتفه النقال في واحدة من الوثائق، وقد تواصلت معه “المجلة” فتحدث عن عملية التنصت على جهازه النقال منتصف عام 2016، قائلا إنه لم يكن يعلم أن جهازه النقال كان مراقباً، وأشار إلى أنه اتصل ثلاث مرات بقريبه، أحد الضابط المنشقين عن قوات النظام حينها للاطمئنان عليه، وفي يوم من الأيام ودون إبلاغ وسابق إنذار داهمت قوة أمنية بشكل مرعب محل إقامته في حي المزة بدمشق، واقتادته إلى (فرع فلسطين) وجرى التحقيق معه ومواجهته بمضمون ومحتوى المكالمات بينهما، وتعذيبه بصورة وحشية للغاية لانتزاع اعتراف بالقوة عن مدى التنسيق والتعاون مع قريبه (المنشق)، قبل أن يحكم عليه بالسجن 5 سنوات، بعد رحلة معاناة وتعذيب بين مقرات الأجهزة الأمنية استمرت لأكثر من عام. ثمّ أفرج عنه بعد 6 سنوات، بعد دفع مبلغ 25 ألف دولار أميركي من قبل ذويه لجهات وسيطة ومقربة من المخابرات والقضاء في وقت واحد.

ويضيف أنه منذ ذلك الحين وحتى سقوط النظام المخلوع، لم يتجرأ على الاتصال أو الرد على أي رقم خارج نطاق عائلته المقربة جداً (إخوته ووالده)، خشية اعتقاله مرة أخرى من قبل الأجهزة الأمنية، والتعرض لأبشع أنواع التعذيب أثناء التحقيق.

وثيقة ثانية لعملية تنصت على مواطن سوري آخر، تحمل رقمين على شبكات الهواتف النقالة، عثر عليها في الفرع الأمني نفسه (فرع فلسطين)، ورد فيها محتوى لا يمس الأمن السوري أو “الهواجس” التي كانت تؤرق أجهزة المخابرات بدافع حماية الأمن القومي والسياسي السوري، والتي كانت تدفعهم إلى مراقبة السوريين واتصالاتهم، وكان مضمونها لا يتعدى تبادل السلام والاطمئنان والسؤال عن الحال… إلخ، مما يشير إلى أن كل سوري تعرضت أجهزة اتصالاته الأرضية وعبر الهواتف النقالة للتنصت والاختراق من قبل مخابرات الأسد.

وبحسب ناشطين سوريين فإن “الفرع 255″ المعروف بـ”فرع الاتصالات” ومقره دمشق ويتبع بشكل مباشر لإدارة المخابرات العسكرية، هو الجهة الأمنية الرئيسة التي أوكل لها مراقبة مكالمات السوريين. ويقوم عناصرها بمراقبة الاتصالات الداخلية والخارجية، التي تتم عبر الهاتف الأرضي والفاكس، وشبكة الاتصالات النقالة، ويمتلكون القدرة على التحكم المباشر بجميع الاتصالات داخل سوريا، مثل مراقبة المكالمات والتنصت وحجب الأرقام، والوصول إلى الرسائل النصية.

وكان “الفرع 255″ أو ما يعرف بـ”فرع الاتصالات” ينسق بشكل مباشر، مع “الفرع 235″ (فرع فلسطين)، و”الفرع 251″ أو ما يعرف عند السوريين بـ”فرع الخطيب” التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، لملاحقة المطلوبين الواردة أسماؤهم وأرقامهم في عمليات التنصت وتتبع مكالماتهم، سواء على الهواتف الأرضية أو النقالة، وتوقيفهم في ظروف إنسانية مأساوية حيث فقد المئات منهم حياتهم لعدم امتلاكهم معلومات عن التهم الموجهة لهم.

مجد عرنوس، سوري من دمشق (45 عاما)، قال لـ”المجلة” إنه تعرض للاعتقال منذ عام 2014 إلى 2020، في (فرع الخطيب)، لمجرد أنه تواصل مع شريك له في تجارة الورقيات واتفق معه على شراء كمية منها، ودفع ثمنها بالدولار الأميركي نظراً إلى عدم استقرار أسعار الليرة السورية حينها، وهو لم يكن يدري أن جهازه النقال مراقباً.

مقرب من الأجهزة الأمنية تحدث إلى “المجلة”، عن عمليات التجسس على حياة السوريين والتنصت على مكالماتهم، وأسبابها ودوافعها (خارج إطار القانون)، وعدم احترام حرمة المواطن وخصوصيته، قال: “كانت عمليات التنصت على المكالمات تجري وفق ثلاث طرق وطبعاً دون العودة إلى القضاء لطلب إذن بوضع أي رقم تحت المراقبة، وكانت الطريقة الأولى تعتمد على اعتراف أحد المواطن أثناء التحقيق معه في أحد الأجهزة الأمنية على مواطن آخر بقضية أو تهمة ما، عندها يقوم فرع (الاتصالات) بمراقبة الأخير والتنصت على جميع مكالماته وتدوين محتوى كل مكالمة وكل رقم يبادر إلى الاتصال به، ولاحقاً يندرج الجميع على قوائم المطلوبين للفرع المختص بالتهمة أو القضية، وغالباً ما يصل عدد المطلوبين في القضية الواحدة إلى 20 شخصا وأكثر”.

التجسس المسحي أو المناطقي

المصدر ذاته تحدث أيضاً عن أسلوب آخر لمخابرات النظام المخلوع بالتجسس على مكالمات المواطنين السوريين وهو (التنصت المسحي أو المناطقي). وكان القرار يُتخذ مباشرة من قبل إدارة المخابرات العسكرية بهذا الشأن، عندما كانت تشهد منطقة ما أحداثاً عسكرية أو أمنية، وعندها كانت تخضع كل مكالمات المواطنين ضمن المنطقة الواحدة للمراقبة والتنصت. وقد تسبب ذلك في اعتقال الآلاف من السوريين، بناء على ورود كلمات تشير إلى حالة ازدراء ونقد واقع الحياة، خلال عمليات التجسس.

التنصت التسلسلي

وأشار المصدر أيضاً إلى إخضاع كل الأجهزة النقالة بشكل تسلسلي للأرقام من قبل (فرع الاتصالات) للتنصت، وغالباً ما كان يجري التنصت يومياً على قرابة 4000 مكالمة، ويدون محتوى المكالمات كاملا مرفقا برقم خط الهاتف ومنطقة التغطية، ويطلب الحصول على مالك الرقم، ويرفق كل ذلك ضمن ملف أمني يرسل إلى الفرع المختص لملاحقة المطلوبين. فالتجار والصناعيون الذين يتعاملون بالدولار يحالون إلى فرع الخطيب، أما العسكريون المنشقون أو أقرباؤهم أو أقرباء عناصر الفصائل بما فيهم العائلات الفلسطينية التي كان لديها تواصل مع أبنائها خارج سوريا، فكانت توجه ملفاتهم إلى فرع فلسطين لملاحقتهم وتوقيفهم.

الحقوقي السوري سعد الدين الأحمد، أكد في حديث إلى “المجلة” على حق السوريين بملاحقة النظام المخلوع ومخابراته قضائياً بتهمة التجسس على حياتهم والتنصت على هواتفهم ومكالماتهم، وقال: “القانون الذي كفله الدستور السوري، يمنع أي جهة من التجسس على حياة المواطن الخاصة والتنصت على مكالماته، دون الحصول على إذن قضائي يسمح بمراقبة الاتصالات والتجسس عليها. أما الأجهزة الأمنية المخلوعة فهي تجاوزت القانون وقفزت فوق الإجراءات التي تمنحها الحق في التنصت على المكالمات الهاتفية والتي تبدأ بطلب يقدم إلى النيابة العامة وإقناعها بشكل الجرم المنسوب للشخص وضرورة التنصت على مكالماته، مع تحديد مدة المراقبة بما لا يتجاوز شهرا ولمرة واحدة أو اثنتين”.

المجلة

———————————–

أبعاد إعادة تشكيل النفوذ الإقليمي التركي في الشرق الأوسط/ أمجد فريد الطيب

نفوذ تركيا في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي قديم ومتجذر

25 ديسمبر 2024

شهدت المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط وشرق أفريقيا في الأسابيع الماضية تحولات كبيرة على كافة المستويات، ولعل أبرزها كان التغيير الكبير الذي حدث في سوريا والإطاحة بنظام بشار الأسد، وإنهاء حكم البعث في سوريا بعد أن استمر منذ عام 1963.

وقد لعبت تركيا دورا كبيرا وراء هذا التغيير، ليس فقط عبر الدعم المباشر للمعارضة السورية، بل امتد أيضا إلى إدارة شبكة معقدة من التحالفات والمواقف الدولية والإقليمية وسعت للحد من النفوذ الإيراني والروسي في سوريا للتمهيد لهذا التغيير والقبول السلس به.

ويبدو واضحا أنه بعد هذا النجاح في إنهاء مأساة الحرب السورية، فإن تركيا تتأهب لتقديم نفسها كلاعب أساسي ومؤثر وقوة استقرار إقليمية ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضاً في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي. فقد عملت تركيا بنجاح أيضا على إطفاء التوتر المشتعل والخلافات حول استخدام الموانئ بين الصومال وإثيوبيا والتي كادت أن تشعل حربا إقليمية جديدة في القرن الأفريقي.

واستطاعت تركيا جمع الدولتين للتوقيع على اتفاق أنقرة الموقع في 12 ديسمبر/كانون الأول 2024 والذي ضمن لإثيوبيا وصولا “موثوقا به وآمنا ومستداما تحت السلطة السيادية لجمهورية الصومال الفيدرالية” إلى المياه الدولية بالبحر الأحمر ليعالج أحد أكبر مخاوف ومطالب إثيوبيا، والتي أصبحت منذ عام 1991 بعد استقلال إريتريا عنها، أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان دون منفذ بحري. وقد نجح اتفاق أنقرة في أن يطفئ نيران حرب إقليمية جديدة قبل أن تندلع.

ثم أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 13 ديسمبر الجاري عن تقديم مبادرة جريئة لفتح قنوات التفاوض المباشر بين السودان والإمارات وتهدئة الأوضاع بين البلدين كعامل مباشر يدفع نحو إيقاف الحرب المستعرة في السودان.

الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر

في خضم كل هذه التطورات، يحتل البحر الأحمر موقعاً مركزياً، ينبغي الانتباه له، ليس فقط في قراءة وتحليل وتقييم التحركات التركية، بل في موقعه المركزي وأهميته السياسية والاقتصادية في منطقة تضج بالصراعات.

البحر الأحمر، الذي يقع بين قارتي أفريقيا وآسيا، ظل يشكل محوراً للاضطرابات والمنافسات السياسية في المنطقة. يستوعب هذا الطريق البحري نحو 30 في المئة من حركة الحاويات في العالم ويمر عبره نحو 1.1 إلى 65.1 تريليون دولار من التجارة العالمية سنوياً، يشمل ذلك نحو 12 في المئة إلى 15 في المئة من حجم التجارة العالمية منها نحو 2.6 مليون برميل يومياً من النفط الخام ومنتجات البترول المكرر التي يتم نقلها عبر مضيق باب المندب، في أقصى جنوب البحر الأحمر، بالإضافة إلى قناة السويس وخط أنابيب سوميد، الواقع في مصر ويربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط ​​بسعة 5.2 مليون برميل يومياً. وتشكل صادرات الغاز على طول هذه الطرق نحو 8 في المئة من تجارة الغاز الطبيعي السائل العالمية. وتزداد أهمية الغاز المصدر عبر البحر الأحمر وخط أنابيب سوميد بعد حرب أوكرانيا، حيث تسعى أوروبا لتنويع مصادر استيرادها للغاز الطبيعي، وتقليل الاعتماد على خطوط الأنابيب الروسية وزيادة وارداتها من الغاز الطبيعي السائل من الخليج وشمال أفريقيا.

وقد أدت الصراعات الأخيرة في البحر الأحمر إلى اضطرابات في حركة الشحن والتجارة العالمية. فقد أدت هجمات الحوثيين في البحر الأحمر إلى تأخير الشحن، وارتفاع تكاليف التأمين والنقل، واضطرار بعض السفن إلى الإبحار حول رأس الرجاء الصالح، وبالتالي إطالة أوقات المرور والنفقات بشكل كبير. وقبل اتفاق أنقرة، أدى سعي إثيوبيا الدؤوب إلى منفذ بحري إلى إبرام اتفاقيات مع جمهورية أرض الصومال، وبالتالي تصعيد التوترات العسكرية مع الصومال، كما استأنفت حركة الشباب الصومالية القرصنة من شواطئها، في حين لا يزال ميناء مصوع الإريتري محاصرا في عزلة سياسية دولية لا يبدو أنها ستنتهي قريبا. ويزيد من وطأة الوضع، التنافس السياسي والاقتصادي والعسكري المحتدم بين روسيا والإمارات العربية المتحدة وإيران وتركيا، للسيطرة على ساحل البحر الأحمر السوداني، وزادت عليها المطامع الإسرائيلية.

وساهم هذا التنافس بشكل كبير في اندلاع الحرب السودانية الحالية. وبعد التطورات الأخيرة في سوريا والتي انتهت بالإطاحة بنظام بشار الأسد، وفقدت روسيا قاعدتها البحرية في طرطوس، وهي الوحيدة خارج حدودها الإقليمية، وهو ما سيدفعها بالتأكيد إلى تكثيف جهودها لتأمين وجود بحري في الشرق الأوسط، إما عبر إنشاء قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر في السودان وإما على سواحل البحر الأبيض المتوسط الليبية لضمان خطوط إمداد لوجودها العسكري في الساحل الأفريقي. كل هذه الديناميكيات المعقدة تساهم في تراجع النشاط التجاري البحري، بشكل يؤثر سلباً على عائدات قناة السويس ويلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد المصري.

التحركات التركية في المنطقة ليست بمعزل عن هذه الديناميكيات. فتركيا التي تعيش في علاقة متقلبة مع أوروبا والغرب عموما، هي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 1952، ولديها ثاني أكبر حجم من القوات المشاركة فيه، وتستضيف على أرضها مقر قيادة القوات البرية التابعة لحلف “الناتو”.

وكما ظلت قاعدتا إنجرليك وقونية الجويتين في تركيا هما المنصتان الأساسيتان في الكثير من عمليات “الناتو” العسكرية، من البلقان وصربيا وكوسوفو وحتى العراق وأفغانستان، كذلك تستضيف تركيا منذ عام 2012، محطة رادار كوريسيك التي هي على بعد حوالي 500 كم من إيران، وهي في الخدمة كجزء أساسي من نظام الدفاع الصاروخي التابع لحلف شمال الأطلسي. ولكنها ومع كل ذلك، ومع كونها أحد الأعضاء العشرة المؤسسين لمجلس أوروبا في عام 1949، لم تنجح في نيل العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، وبقي اكتمال عضويتها في الاتحاد الأوروبي ملف مفاوضات شائك منذ 2005 حتى وصل إلى طريق مسدود بحسب تصريح مجلس الشؤون العامة في الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران 2018. ولكن هذا لم يؤثر على التعاون في الشأن الأمني والجيوسياسي في سياقه الاستراتيجي بين تركيا وأوروبا والغرب عموما، بينما بقيت قضية قبرص شوكة حوت في هذه العلاقات تتم إثارتها أو تجاهلها بحسب توازنات المصالح الأخرى.

نفوذ تركيا في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي قديم ومتجذر، ويرجع إلى عهد الدولة العثمانية وقد فتّ في عضده تاريخ الحرب العالمية الثانية وصراعات التحرر الوطني والتنافس على السيطرة على المعابر والمناطق الاستراتيجية حول العالم، ولكنه ظل على الدوام مسنودا بعوامل الدين والثقافة. ولكل هذا فإنه ليس من المستبعد أن تكون تحركات تركيا الأخيرة في المنطقة، هي محاولة لإعادة ترتيب الأوضاع- بدعم غربي، أوروبي على وجه الخصوص- استباقا لتولي دونالد ترمب مقعد الرئاسة الأميركية، وهو المعروف عنه تقاربه مع روسيا، والفرضية الراجحة عن عزمه على إجراء صفقات تفويض للسياسات العالمية للاعبين إقليميين بدلا من لعب دور بوليس العالم بالنيابة عن العالم الغربي.

وفي ظل التقارب المعلن بين ترمب وبوتين، فإن بعض هذه الصفقات قد لا تكون في صالح أوروبا التي تعاني من هزة اقتصادية كبيرة جراء الاضطراب المتزايد في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا والبحر الأحمر. ولعل ذلك ما يدفعها إلى دعم تركيا الحليفة في توطيد مكانتها كلاعب أساسي في هذه المنطقة المضطربة من قارات العالم القديم.

الاهتمام التركي بالسودان

في الشأن السوداني، جاءت المبادرة التركية للمرة الأولى بوضع كافة الكروت على المائدة بوضوح للتفاوض عليها على أساس المصالح وليس المجاملات الدبلوماسية. وتركيا تفعل ذلك، ليس بدافع توطيد موقعها السياسي فحسب، بل إن الشأن السوداني يعيد إحياء طموحاتها القديمة في البحر الأحمر. فقد سعت تركيا- وكما روسيا  أيضا- خلال عهد البشير للحصول على ميناء أو قاعدة بحرية على شواطئ البحر الأحمر السودانية.

بل إن أردوغان وخلال زيارته للبشير في 2017، وهي أول زيارة يقوم بها رئيس تركي للسودان، كان قد أعلن أن تركيا حصلت بصفة مؤقتة على حق استغلال جزء من ميناء سواكن حتى يمكنها إعادة بناء المنطقة كموقع سياحي ونقطة ترانزيت للحجاج المسافرين إلى مكة عن طريق البحر الأحمر، فيما أعلن وزير الخارجية السوداني حينها إبراهيم غندور أن تركيا ستعيد بناء ميناء متهدم يرجع إلى أيام الإمبراطورية العثمانية على الساحل السوداني على البحر الأحمر (ميناء سواكن وهو شبه جزيرة تقع حوالي 60 كلم إلى الجنوب من مدينة بورتسودان عاصمة إقليم البحر الأحمر في السودان والتي تضم الميناء الأساسي للبلاد) وستقوم ببناء حوض بحري لصيانة السفن المدنية والعسكرية.

قد تكون المبادرة التركية مدخلا لتحريك عملية السلام السودانية، ولكن ذلك سيكون مشروطاً بمدى تكاملها مع المبادرات التفاوضية الأخرى وعلى رأسها منبر جدة التفاوضي. فقد تكاثرت المبادرات الإقليمية من المنامة إلى جنيف إلى جيبوتي وموريتانيا للدفع بجهود السلام في السودان ولكنها لم تستطع حتى الآن تجاوز أو استبدال منبر جدة الذي نجح في التوصل إلى اتفاقات مبدئية أصبح التمسك بتنفيذها أحد شروط الحكومة السودانية للانخراط في أي تفاوض. ولعل التنسيق بين الأطراف الدوليين والإقليميين للسعي لتكامل الأدوار بين مبادراتهم المتعددة- وهو ما ظل مفقوداً حتى الآن- سيكون مفتاح النجاح لكسر حلقة الحرب الشريرة التي استطالت في السودان.

المجلة

——————————

سقوط بشار الأسد: استئناف الدومينو العربي؟/ حسام عيتاني

النتائج في موجات الحراكات المذكورة لم تكن باهرة

25 ديسمبر 2024

وُضع سقوط نظام بشار الأسد المفاجئ في إطار تفكك “محور الممانعة” وانهيار أذرعه وأدواته. القراءة السائدة تتحدث عن نهاية الحكم الأسدي في دمشق كمتوالية للحرب على قطاع غزة وتطويق “حزب الله” في لبنان، وأن الحدث المقبل سيكون إما في العراق حيث تتعرض الفصائل الموالية لإيران لضغوط لتغيير طبيعة علاقتها مع السلطة القائمة، وإما في إيران ذاتها حيث ما زال النظام هناك يعاني صدمة ما بعد فشل الاستراتيجية التي عمل عليها منذ تسعينات القرن الماضي، فانهارت في شهور.

لكننا مدعوون هنا إلى توسيع ولو جزئي لمجال الرؤية، والقول إن ما حدث في سوريا بين 27 نوفمبر/تشرين الثاني، و8 ديسمبر/كانون الأول، لا ينحصر في الشأن السياسي السوري وحده وعلاقات القوى وموازينها هناك، بل إن آثاره ستخرج من الحدود السورية في اتجاه الجوارين القريب والبعيد. لبنان الذي توصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بعد حرب مدمرة بين إسرائيل و”حزب الله”، كان أول المتأثرين بالتغيير السوري. ولا زال التأثر هذا قيد التشكل خصوصا أنه جاء بعد نكبة اجتماعية وسياسية أصابت فئة لبنانية وازنة.

توسيع مجال الرؤية يفترض أيضا تذكر أن أحداثا مشابهة مرت على الدول العربية منذ 2011، انتقلت مفاعيلها مثل أحجار الدومينو من دولة إلى أخرى. من عربة خضار محمد البوعزيزي وإحراق نفسه في تونس، وصولا إلى مظاهرات ميدان التحرير في مصر، ثم الثورة على معمر القذافي في ليبيا، أحداث لا يعني التهرب من تذكرها أنها لم تقع ولم تترك آثارا عميقة على التاريخ العربي الحديث. كانت تلك بعض مفاصل الموجة الأولى التي شملت أيضا سوريا ضد حكم بشار الأسد واليمن الذي تحرك لإسقاط علي عبد الله صالح.

لم تهدأ منطقتنا منذ ذلك الحين. وبعد الموجة الأولى التي قيل إنها انحسرت وفشلت لتعود الأمور إلى مجاريها نظرا إلى الكوارث التي جلبتها محاولات “الإخوان المسلمين” بناء نموذجهم السياسي القاصر، تجددت المظاهرات المليونية في السودان والعراق ولبنان والجزائر في 2019.

لعل النتائج في موجات الحراكات المذكورة لم تكن باهرة. بل جاءت النتائج معاكسة للتوقعات وثبت أن البناء الاجتماعي العربي أعمق من أن تهزه مطالب التغيير السياسي حيث تفضل الجماهير العربية الاستقرار المضمون على التغيير المغامر، لأسباب كتب الكثير عنها وعن السمات البطريركية للمجتمعات.

لكن النظرة هذه لا تفسر كل ما يجري في المنطقة العربية. ذاك أن الأدوار التي دُفعت إليها مجتمعات فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، كمنافذ لتصريف السياسات الإيرانية وتوفير الحماية لنظام طهران، ارتكزت إلى انقسامات داخلية محلية، طائفية وجهوية وإثنية، من سنة وشيعة وعرب وكرد وأقليات وأكثريات، إضافة إلى تفتت معنى القضية الفلسطينية عند أصحابها وتعرضها إلى المصادرة من لاعب إقليمي متمرس. فالرهان على أن المجتمعات العربية قد استأنفت نومها العميق، تنقضه حقيقة سقوط بشار الأسد الذي كان– مع داعميه– من أشد أنصار مقولة هزيمة انتفاضة السوريين في مواجهة النظام التسلطي الاستبدادي الذي حكم بين 1970 و2024. فقد بُنيت تصورات وسياسات ومبادرات على “حقيقة” أن السوريين قد رضخوا لحكم بشار الأسد وأن الوضع باق إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا… وهو ما حصل بالفعل وسقط بشار بتضافر عوامل الداخل والخارج.

وهذه تجربة قد لا تكون متاحة في القريب العاجل، لكنها لم تكن مستحيلة أيضا، على الرغم من أن نظرة أحادية، هي غالبا مفضلة عند المراقبين العرب، تنحو إلى حصر كل الاهتمام والتركيز في جانب واحد غالبا ما يتضح شح قدراته على التفسير والإحاطة.

المجلة

—————————-

سوريا الحرة… وخسارات إيران/ بادية فحص

إسقاط المشروع الإيراني

24 ديسمبر 2024

لعب نظام الأسد المخلوع في العقود الأخيرة دورا أساسيا في “محور المقاومة”، ولم تقتصر علاقته مع مكونات المحور (الدول والقوى) على التحالف العسكري فقط، إنما تعدته إلى أبعاد أيديولوجية وسياسية واقتصادية. وباعتباره الحاضنة الأساسية لـ”محور المقاومة”، واعتبار إيران عاصمة المحور، كان نظام الأسد المنفذ المطيع لسياسات إيران الإقليمية وملبي طموحاتها، لذلك يشكل فرار الأسد الذي ترتب عليه خروج سوريا من “محور المقاومة”، خطرا وجوديا على المحور كله، وعلى أمن إيران القومي بالأخص، يبدأ هذا الخطر من ضمور دورها العسكري والأمني، ويمر بالخسارات الاقتصادية، ليصل إلى التغييرات المتوقعة في خارطة الجغرافيا السياسية للمنطقة.

على صعيد أكثر خصوصية، بما أن سوريا شكلت بسبب موقعها الاستراتيجي جسرا جويا وبريا لتهريب الصواريخ الإيرانية والدولارات الأميركية من إيران إلى “حزب الله” اللبناني، فإنه بتدمير جسر التواصل هذا، خسر “حزب الله” طريق إمداده العسكري وممر إسناده المالي، وكنتيجة حتمية لذلك، ستتراجع قدراته العسكرية، وستضعف سيطرته على قرارات الدولة اللبنانية، وسينعزل عن دول المحور وقواه، مما سيضعف نفوذ إيران أيضا.

من ناحية أخرى، من الطبيعي أن إسرائيل سوف تستغل هذه التغييرات في سوريا، وستترجم ذلك، بشن المزيد من الغارات الجوية على قواعد إيران وقواتها الوكيلة على الأراضي السورية، وبمحو المراكز العسكرية ومخازن الأسلحة والصواريخ التابعة لجيش النظام، التي لم تكن قبل فرار الأسد مصدر قلق لها، لكنها كذلك مع النظام الجديد الذي من المبكر التنبؤ بسياساته، ونتيجة لذلك، سيشهد نفوذ إيران الإقليمي خسارات أخرى مدوية، بخاصة أن إيران تمكنت من خلال سيطرتها على الأسد، من تكريس نفسها كصانع أساسي لسياسات المنطقة.

لطالما كان شعار إزالة إسرائيل من الوجود، هو القناع الذي تلطّى خلفه التمدد الإيراني في سوريا وفي المنطقة، لكن الوجه الحقيقي لهذا الشعار كان تدمير ما لا تستطيع إسرائيل أن تدمره، وهو المجتمعات العربية والروابط التاريخية بين الشعوب الجارة (العراق والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا) وزرع الفتن وبث السموم الطائفية، والقضاء على أي فرصة لبناء حكم ديمقراطي، أو إحلال السلام الدائم والعادل، وهذا ما حصل حقيقة، بعد دفعها “حزب الله” إلى التدخل في سوريا وقتل شعبها ووأد ثورته، من ناحية، ومن ناحية ثانية، أدى إلى إضعاف حضور الدول العربية والإسلامية مثل المملكة العربية السعودية ومصر في المنطقة، وصولا إلى تركيا.

وفي الوقت الحالي، تتحضر المعارضة السورية لرسم خارطة سياسية مختلفة لسوريا، ومن الواضح أن الخطوة السياسية الأولى التي ستقوم بها، هي التخلص من إرث التحالفات القديمة التي حوّلت سوريا إلى مستعمرة إيرانية.

في العلاقات السياسية، يبدو أنه سيكون للجارة تركيا رأي مسموع في بناء السلطة الجديدة وإبرام الاتفاقيات وعقد التحالفات، بعد أن أتمت المهمة العسكرية بنجاح، كما ستتاح للمملكة العربية السعودية الفرصة لإنقاذ البلاد والعباد من آثار النفوذ الإيراني على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى الدينية. 

على الضفة الأخرى، سيكون لسقوط نظام الأسد عواقب اقتصادية وخيمة على إيران. خلال الأزمة السورية، أنفقت إيران ميزانيات ضخمة للمحافظة على بقاء الأسد في مكانه، ليس لشخصه، إنما بهدف تعزيز دورها في المنطقة وحماية عمقها الاستراتيجي، ودفعت ميزانيات خيالية ذهبت مع الريح بهروب الأسد. هذا الفشل سيضع على إيران ضغوطا مضاعفة، تُضاف إلى خسارتها الأسواق والاستثمارات التي لا تعد ولا تحصى من شركات الاتصالات ومطابع الكتب والمواد الغذائية وتجارة التهريب وتصنيع الكبتاغون، التي أنشأتها في سوريا لتكسر بها عزلتها الاقتصادية، وتغرق خزينتها بمردودات مالية ضخمة.

كما سيكون لسقوط نظام الأسد آثار سلبية على الروح المعنوية والنفسية لجمهور المحور، وعلى إيمانه بالمشروع الإيراني، فلن تؤدي خسارة سوريا إلى فقدان الجماعات الموالية لإيران ثقتهم في أنفسهم وفي إيران فحسب، بل يمكن أن تؤسس أيضاً لانطلاق موجة من النقد الذاتي والمراجعة لطبيعة تبعيّتهم لإيران وحجمها، وقد بدأت هذه النقاشات تطل برأسها في المجتمع الشيعي في لبنان، يرافقها مراجعة نقدية حول جدوى الحرب الأخيرة (إسناد غزة) وجدوى 14 عاما من التدخل في سوريا، وخسارة آلاف الشبان الشيعة اللبنانيين من أجل حماية هذا النظام.

هذا التحول من الممكن أن يطعن في شرعية سياسات إيران الإقليمية، ويجهز الأرضية لمعارضيها وللمعترضين على مصادرتها القرار الشيعي في المنطقة، للانشقاق تمهيدا للاستقلال، هذا أيضا بدأ يظهر من خلال ارتفاع أصوات تدعو شيعة لبنان إلى الخروج من تحت العباءة الإيرانية، والعودة إلى الحضن العربي المتمثل في مرجعية النجف. 

الخلاصة، أن سقوط نظام الأسد، حرر الشعب السوري وحرر سوريا أولا، وأسقط المشروع الإيراني في المنطقة ثانيا، وعلاوة على ذلك منح شيعة لبنان لأول مرة منذ عقود، فرصة تاريخية لفهم شخصيتهم، ومراجعة أثمان تحالفهم مع إيران، وإعادة قراءة ارتباطاتهم بها عقديا وسياسيا ومذهبيا. 

المجلة

——————-

لنقلب السحر على الساحر.. الديون الإيرانية والروسية على سوريا/ محمد خالد الرهاوي

2024.12.25

اندلعت الثورة السورية 2011 ضد نظام البعث بقيادة بشار أسد الذي ورث الحكم عن أبيه في دولة نظامها جمهوري، فجعلوه جمهلكيا (جمهوري ملكي) وكانت سلمية في مراحلها الأولى رغم قتل النظام للمتظاهرين السلميين العُزَّل، ولم يدخّر وسيلة لقمعها إلا استعملها دون جدوى، واستعان بإيران وروسيا للقضاء عليها، ولم يكن أمام النظام من سبيل بعد إنهاك الاقتصاد والبلاد إلا الاقتراض من روسيا وغيران لتغطية نفقات تلك الحرب الهمجية ضد شعبه، فاقترض خلال سنوات الثورة السورية المباركة مليارات الدولارات ورهن البلاد لهما.

وما إن انتصرت الثورة السورية المباركة في الثامن من ديسمبر 2024 واندحر النظام بجيشه وفروعه الأمنية وإيران وحرسها الثوري وميليشياتها الطائفية تاركا وراءه خزائن مفرغة وأعباء ثقيلة وآثارا مدمرة وديونا كبيرة تباينت التقديرات بشأنها، فثمة تقديرات بأنها تتراوح في حدود عشرين مليار دولار، وثمة تقديرات أخرى بأنها تتراوح بين 16-50 مليار دولار، وحسب تقرير لصحيفة التايمز البريطانية فإن الديون تصل إلى خمسين مليار دولار، حتى أطلت وزارة الخارجية الإيرانية على لسان المتحدث باسمها إسماعيل بقائي بتصريحات رسمية تطالب بسداد الديون المترتبة لها على سوريا، وبانتقال التزاماتها إلى مسؤولية الحكومة السورية الجديدة وفقا لمبدأ خلافة الدول المعتمد في القانون الدولي، دون أن تفصح عن حجم تلك الديون، مكتفية بأن الأرقام المتداولة مبالغ فيها. وإذا كان ملف الديون الإيرانية يلفه الغموض فإن الديون الروسية ليست بأكثر وضوحا منها، وليست هناك أرقام دقيقة حولها، وإنما تقديرات متباينة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل لها الحق في ذلك؟  وكيف يمكن للدولة السورية الجديدة أن تتعامل مع هذه الديون؟ هناك ثلاثة خيارات:

الخيار الأول: أن هذا النوع من الديون يعرف بالدين غير الشرعي أو الدين البغيض (Odious debt)، وهو يستند إلى نظرية قانونية تقول: لا يجوز الوفاء بالدين الذي يُفرض بأسلوب قسري، أو يقترضه نظام دولة ما من أجل أغراض لا تخدم مصالح الشعب، أو يستخدم للاضطهاد والظلم ونشر الكراهية بدلا من تحقيق العدالة والسلام والتعايش، أو يستغل لتحقيق مصالح شخصية سياسية أو مادية على حساب مصالح الشعب، وكل ما سبق ينطبق على نظام الأسد البائد، ويعد هذا الدين دينا شخصيا يتحمله أركان النظام وليس الدولة، وهو يشبه العقود الباطلة الموقعة تحت الإكراه، ومن أمثلته رفض الولايات المتحدة تحمُّل مسؤولية الدين الكوبي الذي اقترضته حكومة الاحتلال الإسباني، وكذلك المكسيك سداد الديون التي اقترضتها حكومة الإمبراطور ماكسيميليان بعد سقوطه.

الخيار الثاني: هو أن لروسيا وإيران أموالا في البنوك الأميركية، وثمة قوانين في الولايات المتحدة سُنّت في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون تسمح للأفراد بمقاضاة الحكومات إذا تضررت بسببها، وإذا كانت الدولة مدرجة على قوائم وزارة الخارجية على أنها من الدول الداعمة للإرهاب، وكلا الشرطين متحقق في الحالة السورية، فعامة الشعب تضرر من تدخل روسيا وإيران في سوريا ووقوفهما إلى جانب نظام الطاغية البائد، وكلا الدولتين أيضا مدرجتان على قوائم وزارة الخارجية الأميركية على أنهما من الدول الداعمة للإرهاب. ومن أمثلة هذه المقاضاة أن أحد المحامين رفع دعوى قضائية ضد إيران موكلا عن عائلة فتاة ماتت بسبب انفجار قنبلة بحافلة كانت تركبها في فلسطين، وما كان من المحامي إلا أن ربط بين الفصيل الذي نفذ التفجير وإيران الداعمة له، وحكمت المحكمة لصالح عائلة الفتاة بمبلغ 400 مليون دولار أُخذت من أموال إيران المجمدة في بنوك أميركا. وكذلك رفع المحامي نفسه دعوى تعويض بقيمة 4.2 مليار دولار لعائلات عناصر المارينز البالغ عددهم (241) عنصرا قتلوا في هجوم نفذه حزب الله بعملية انتحارية في بيروت، إذ ربط المحامي بين حزب الله ودعم الحرس الثوري الإيراني له بالمال والسلاح، وبعد صدور الحكم وطعن إيران فيه رفعت القضية إلى المحكمة العليا التي حكمت بمصادرة (2.2) مليار دولار كانت وديعة إيرانية في بنوك أمريكا لصالح عائلات عناصر المارينز.

الخيار الثالث: هو التجربة العراقية والكويت، عندما غزا العراق الكويت ثم حرر لاحقا، ألزمت لجنة التعويضات بالأمم المتحدة العراق بدفع (52.4) مليار دولار تعويضا للأفراد والشركات والحكومة عن الأضرار التي لحقت بهم. وروسيا قد غزت سوريا ودمرت بطائراتها الحربية المدن والقرى وقتلت مئات الآلاف من الشعب السوري من أجل محافظة بشار أسد على كرسي حكمه، وكذلك أرسلت إيران حرسها الثوري وميليشياتها الطائفية التي وصل عددها إلى (61) ميليشية، وقتلت مئات الآلاف وشردت الملايين ودمرت مئات آلاف المساكن فوق رؤوس أصحابها. وكلاهما كانتا قوات احتلال حاربت الشعب في بلده ووطنه، وألحقت أضرارا فادحة بالأفراد والشركات والدولة، ومن ثم لا بد من رفع دعاوى قانونية تطالبهما بدفع تعويضات عن تلك الأضرار.

إن الديون التي قدمتها إيران وروسيا لم تكن بحال من الأحوال لصالح الشعب السوري، بل زادت في معاناته وقهره، ومن ثَمَّ تحتاج الدولة السورية بقيادتها الجديدة إلى خبراء قانونيين وتكليف محامين لرفع دعاوى في أميركا ومختلف الدول الأوربية لملاحقة إيران وروسيا في قضية الدين وإلزامها بسداد تعويضات عما ارتكبته في سوريا خلال أكثر من عشر سنوات، وأنها وفقا لما سبق ذكره لا يمكنها الالتزام إلا بالديون التي كانت على سوريا قبل اندلاع الثورة، وليست ملزمة بسداد ديون نظام فقد شرعيته مع أول رصاصة أطلقها تجاه شعبه.

تلفزيون سوريا

————————————–

سوريا: من اللا دولة إلى الدولة/ محمد السكري

2024.12.25

عززت البنى الحوكمية السورية التي تشكّلت خلال سنوات الثورة السورية، خاصة في الخمسة أعوام الأخيرة، قدرة السوريين على التعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي بطريقة مختلفة عما كانت عليه سابقًا. تم ذلك بوجود ضوابط حاكمة للحالة السورية وتراجع نفس التمرد على المؤسسات مقارنةً بما بدأت عليه الثورة السورية، التي تدرجت من مطالب الإصلاح إلى إسقاط النظام كمنظومة ودولة، وعودتها للحفاظ على مؤسسات الدولة كطريق أصوب نحو بناء الدولة السورية الجديدة.

برز في هياكل المجتمع السياسي السوري المعارض ضعف أدوات الضبط والالتزام بالمرجعيات القانونية، في ظل ميل الأعضاء إلى التمرد على حساب الاستثمار في الجهود والوقت. وقد أفضت هذه الحالة إلى انقسامات داخل المعارضة والأحزاب السياسية، مما أدى إلى ظهور ظاهرة “عدم قدرة السوريين على العمل الجماعي”. هذا الطرح البحثي لم يُعالَج كما يجب بموضوعية، بل كانت معالجته الوحيدة أقرب إلى صيغة أيديولوجية أفقدت السؤال والنص معناه.

استلهمت تلك القوى حركة التمرد باعتبار أدوات الثورة السورية صالحة لكل البنى والمؤسسات، من دون مراعاة ضرورات السياق والمرحلة. وقدمت بذلك الانتظام على التمرد، والالتزام بالقواعد والأطر القانونية والدستورية على حساب نكثها، طالما أن تلك القواعد نفسها تضمن الانتقال والتغيير، بما في ذلك تغيير القواعد نفسها.

ولعل قوى المعارضة السورية بالغت في تبني الديمقراطية كأداة للنضال خلال مرحلة غياب الدولة، وخاصة في أولى نماذج المعارضة، عندما جعلت الانتخاب يتم على فترات لا تتجاوز الثلاثة أشهر. في حين أن الديمقراطية بحاجة إلى إسناد قانوني ومن أهم أدواته وجود سلطة رادعة تمنع تجاوز القانون وتحافظ عليه. إذ إن فهم الحرية من مدخلات القانون أمر جوهري؛ فقد يكون من الصعب فهم الحريات خارج إطار القانون. كذلك، فإن عدم القدرة على تطبيق القانون يؤدي إلى حالة من الفوضى. وقد كانت كيانات المعارضة أقرب إلى الفوضى منها إلى الانتظام والتنظيم، خاصة تلك التي تشهد انتخابات حرة. بينما أثبتت التجربة أن البنى التي غابت عنها الانتخابات كانت أكثر نجاحًا واستقرارًا.

ومن أكبر التحديات التي واجهت هذه الأجسام السياسية استحضار مبررات وأسباب الثورة إلى داخل بنيتها، بالرغم من أن حالة تشكّلها ووجودها وسلوكها مختلفة جذريًا عن حالة نظام الأسد. فقد كان نظام الأسد يمنع أي حالة انتخاب وقبول ورفض وحريات عامة، كما كانت تغيب عن أجهزته المتطلبات الحوكمية التي تتطلب حدًا أدنى من الديمقراطية. وعلى النقيض، حضرت الديمقراطية في بعض أجسام المعارضة.

لذا، من المهم التفريق بين حالة الانتخابات الصورية التي كانت غالبًا مشهدًا سياسيًا تتبناه أجسام المعارضة السورية التقليدية، وبين تلك الانتخابات المقبولة التي تتوفر بها معايير التوافق والتوازن كما هو الحال في العديد من الأجسام المدنية والنقابية السورية.

في النموذج الشكلي، جعلت المعارضة التقليدية “الديمقراطية” أداة مفرغة من سياقها ومحتواها، قابلة للاستثمار فقط لإرضاء إدارة الرأي العام المتعطش لنموذج ديمقراطي. بينما، وعلى الرغم من تحقيق النموذج المدني لمعايير الانتخابات الحقيقية، إلا أنه لم يكن كافيًا لتحقيق الاستدامة. مما أدى إلى اندثار بعض الأجسام المهمة. وغالبًا ما كانت مؤشرات اندثار الأجسام هي بدء تشكّل أخرى موازية تكون أكثر ضعفًا وتشتتًا وهشاشةً، وتعيد تكرار ذات السيناريو أو حلقة “الفناء الذاتي” في مفاضلة الديمقراطية المتشددة على القانون، أو ما يمكن تسميته “الانقلاب على الصندوق” الذي يعتبر من مفرزات القانون والديمقراطية نفسها.

يشي ذلك بتشكّل سلوك وممارسات يمكن تفسيرها على أنها رفض للسلطة بأي شكل، مع الميل نحو حالة اللا سلطة. وهذا ما يمكن تسميته بـ”عقدة السلطة” أو “عقدة المركز” التي صنعها الأسد في عقول السوريين. جعل ذلك أي سلطة قائمة تبدو وكأنها سلطة الأسد بالضرورة. ومن هنا، جاءت المقارنات المستمرة بالأسد داخل البنى السياسية أو المدنية المختلفة خلال الثورة. وقد تسبب ذلك في عراقيل عديدة أمام تطور التجربة المؤسساتية السورية على حساب مؤسسات الأسد، مما جعل الموازنة بين الديمقراطية والقانون واحدة من أصعب التحديات التي واجهتها المؤسسات السورية خلال فترة الثورة.

كان الميل نحو الديمقراطية المتطرفة (“Radical democracy”)، التي لا تعير اهتمامًا للضوابط والقوانين وتضع الحريات الفردية فوق القانون، على حساب الديمقراطية المسؤولة (“Responsible democracy”)، التي توازن بين القانون والمصلحة العامة والحريات الفردية، من أبرز التحديات.

انطلاقًا من هذا التفكيك التطبيقي والنظري للواقع المؤسساتي السوري خلال الثورة والواقع الجديد بعد انتصار الثورة السورية، تمثّل دعوة “أحمد الشرع”، قائد العمليات العسكرية في سوريا، للانتقال من حالة الثورة إلى حالة الدولة، إدراكًا جيدًا لتموضع المؤسسات خلال الثورة، ومنهجيات عملها، وميلها لعدم الانضباط، وتشكيل أجسام موازية بناءً على الخلافات المتنوعة. كما ترسم هذه الدعوة شكلاً من أشكال التنازل المطلق عن الأدوات القديمة وتبني أدوات جديدة تجعل منهجيات السلطة الضابطة للمشهد والمصلحة العامة هي السائدة على حساب الانقسامات وعدم الالتزام والاحتكام للدولة والسلطة.

يعني ذلك ضرورة صنع سلطة جديدة قادرة على احتكار العنف ومنع الانقسامات المؤسساتية، وعدم السماح بالانقلاب على المؤسسات أو النظام السياسي الجديد، طالما أنه يحقق معايير الديمقراطية المسؤولة ويضمن الحريات العامة. فالسلطة يجب أن تكون مبنية على عقد اجتماعي، أساسه تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم لصالح الدولة والمصلحة العامة، مع منع البلاد من الدخول في نفق الفوضى نتيجة اضطراب علاقة السلطة بالشعب.

مع ذلك، لا يمكن تحقيق هذه السلطة التي تتبنى عقلية الدولة دون تدرج صحيح وسليم في عملية الانتقال السياسي، وصولاً إلى تحول حقيقي يشارك فيه كافة السوريين. فخلق سلطة من دون تدرج صحيح وشفاف سيؤدي إلى نشوء “سلطة أمنية” مشوهة بدلاً من “سلطة سياسية شرعية” بمعنى (“Legitimate Authority”).

بمجرد أن تتشكل السلطة الشرعية بمعناها السيادي والشرعي، أي أنها تحقق التوازن بين سيادة الدولة وشرعية السلطة المستمدة من الشعب السوري، يصبح من الضروري التنازل عن أدوات التمرد السابقة لصالح تعزيز الالتزام والمسؤولية الوطنية، ودعم مؤسسات الدولة الجديدة، والاندماج مع واقع النظام العام، مع احترام سيادة القانون والمؤسسات.

هذا التسليم لا يعني القبول بالأمر الواقع، وإنما دعم التحول السياسي وصولاً إلى تشكّل السلطة السياسية الجديدة بناءً على معايير الانتقال المقبولة لدى الشعب السوري. وبمجرد تحقق هذا الانتقال، تضمن السلطة حرية الناس. فالسلطة التي تضمن الحريات يجب الحفاظ عليها والالتزام بضوابطها، بدلاً من الانقلاب عليها أو إضعافها. لأن نجاحها يعني المضي قدمًا نحو نموذج “الديمقراطية الراسخة” (“Stable Democracy”).

تلفزيون سوريا

—————————-

رسالة عاجلة إلى الثّورة السُّوريّة/ هوشنك أوسي

2024.12.25

عزيزتي الثّورة السّوريّة… تحيّة طيّبة وبعد.

بما لكِ وما عليكِ، أصبحتِ فعلَ ماضٍ، والفعلُ المضارعُ السّوري، المُلحُّ والضّروري والهام جدًّا حاليًا، هو كيفيّةُ ترحيلكِ إلى المتاحف. ذلك أنّ المتحف هو مكانكِ المناسب الذي يليق بكِ، وليسَ استمرارَ التدخّل في صيرورة الدولة والمجتمع والإعلام والدراما والسّينما وتنميط وعي النّاس، على طريقة “ثورة 8 آذار” البعثيّة!

حمايتكِ من الثورجيّة القدامى، والجدد (المكوّعين والمكوّعات)، هي مهمّة وطنيّة ديمقراطيّة وأخلاقيّة عاجلة، لئلا يجري استثماركِ من إمّعات التطفّل والانتهازيّة والتسلّق. لا أريدُ لكِ ذلك الوصف “الثورة تأكل أبناءها”، ولا يليق بكِ “الثورة يركبها أبناؤها وأحفادهم وأبناء عمومتهم وأخوالهم، وأبناء جيرانهم”.

بعد مرور أربعة أيّام على سقوط نظام “الأسد ـ البعث” وتحديدًا في 12 ديسمبر 2024، السّاعة 02:35 كتبتُ منشورًا خاطبتكِ فيه، هذا نصّه:

(كلُّ انقلابٍ ليس ثورة، ولكن كلّ ثورةٍ انقلاب. الثّورة على نظام سياسي فاسد مستبدّ قديم، لا تعني التبرُّؤ من كلّ قيم ومفاهيم وأخلاق وأنماط وأنساق تفكير النظام القديم. ذلك أنَّ الثوّار الجُدد، هم أبناء الثوّار القدامى الذين أسّسوا النظام القديم. التاريخ يعطينا الكثير من الأمثلة عن الثورات التي أنتجت طغمًا وطواغيتَ وقادةً استبداديين دمويين نمروديين متفرعنين آبدين.

انقلاب حزب البعث في العراق سنة 1963 على الزعيم عبد الكريم قاسم والفظائع والمجازر التي رافقت ذلك الانقلاب، جرى وصفه بـ”ثورة 8 شباط”، وانقلاب حزب البعث في سوريا سنة 1963 على الحكومة السوريّة، جرى تسميه بـ”ثورة 8 مارس”، وقبلها انقلاب جمال عبد الناصر على الملك فاروق، جرى تسميته بـ”ثورة يوليو” سنة 1952. لن أحدّثكم عن فظائع وجرائم ومجازر الثورة الروسيّة والصينيّة، والكمبوديّة…الخ. وأمامنا حصاد تلك الثورات في تلك البلدان وغيرها.

جرى تصدير تصورّات ومفاهيم ورديّة رومانسيّة عن الثورات في القصائد وروايات وكُتب اليسار، وأنّ الثوار ملائكة طهرانيون مخلّصون، زُهّاد، نًسّاك، وليسوا طلاّب سلطة. لكن منذ نهاية 2010 وبداية 2011 وحتّى اللّحظة، انكشف لنا كثير من الزّيف الذين ظنناه حقائق لا يدانيها الباطل! انكشف لنا أنّ حبّنا للثورات أعمى أعيننا عن بشاعة كوارثها. كنّا نقرأ “إن الثورات أوّل ما تأكل، تأكل أبناءها”، صدّقنا ذلك، ولم نرَه بأمِّ أعيننا. والآن تأكّدَ لنا الأمر.

توقنا للتحرّر من الاستبداد وشغفنا بالحريّة المسلوبة وحقوقنا المصادرة من قبل أنظمة زعمت الثورة والثوريّة، ساهما في تغذية حبّنا للثورة والأوهام والخرافات الرومانسيّة التي أنتجها ذلك الافتنان والحبّ المجنون للثورات.

معذرة أيّتها الثورة، أنا حُرٌّ قبلكِ وبعدكِ. حتّى لو كان لديك دور في منحي حريّتي، إلاّ أنّني ما عدتُ أحبُّكِ كالسابق. لكن، لا أكرهكِ أيضًا. فقط أنا كائن يحبُّ حريّته ويحترمها، ويحاول حمايتها من أيّ شيء يحاول التقليل منها أو تقويضها أو مسَّها بشذر الضّرر، حتّى ولو كانت ثورة.

معذرة أيّتها الثورة، حين حَللتِ بيننا، رحَّبتُ بكِ وقلت: أهلاً وسهلاً. ولا أريدُ أن تبقي جاثمة على صدورنا، تحصين علينا أنفاسنا، تراقبيننا وتحاسبيننا على هفواتنا، وأخطائنا، ونزواتنا…الخ، لذا، أتمنّى لك مغادرةً لا رجعة بعدها إلينا. أريد أن تكوني ضيفةً خفيفةَ الظلّ، بسيطة الإقامة، وسريعة المغادرة. لكنك لست هكذا، مع الأسف.

صحيح أنّكِ تنجبين أناسًا مخلصين ومضحّين فدائيين نبلاء وأشرافًا، لكنكِ تنجبين أضعاف أضعافهم من الإمّعات، الوصوليين، الانتهازيين، الكتبة الأمنجيّة، الشبّيحة، اللصوص، الفاسدين، القتلة وتُجّار الحروب وفُجَّار الشعارات.

ما عدتُ أحبُّكِ أيّها الثورة، ولا أكرهكِ أيضًا. ربّما تعتبرين ذلك؛ أنانيّة. فليكن. ليس عيبًا أن أحبَّ نفسي وحريّتي وحياتي وخصوصيتي، وأرفضُ أن تستبيحها الثورات والثورجيّة!

ما عدت قادرًا على تصديق شعاراتكِ في السعي نحو تحقيق العدالة والمساواة والحريّة والحياة الكريمة. لقد جرّبتكِ نظريًّا في الكتب والخُطَب والتنظيرات، وجرّبتك في الشوارع والمدن؛ قبل وبعد استلامكِ السلطات. لذا، غادري بسرعة، لئلا تتحوّلي إلى ضيفة بشعة ثقيلة متطفّلة غير مرغوب بها. غادري، قبل تَحوّلكِ إلى طاعون أو كوليرا أو سرطان ينهك أجساد المجتمعات والأوطان، ثمّ يودي بها).

انتهى المنشور، وصار من الماضي. وأنتِ أيضًا، أيّتها الثّورة، صرتِ من الماضي. والدول الفاشلة هي التي يتسلّط ماضيها على حاضرها ويُسمّم مستقبلها، ويفخخه بالخرافات والأساطير والأكاذيب التي تتسرّب إلى سرديّات الثّورة.

قريبًا، سنشهد تدفّق الأموال بهدف إعادة الإعمار، وسنشهد اختلاسات كبرى باسمكِ أيّتها الثّورة. سنشهد تكاثر منظمات المجتمع المدني كالفطر، كالأورام السرطانيّة، معطوفًا عليها، سنشهد ازدحامًا شديدًا على طريق تشكيل الأحزاب والكيانات والتحالفات…، والكلّ سيعلن نفسهُ نطاقًا باسمكِ. وكي تبقين على حياد، وترفضين استثماركِ لتحقيق أغراض شخصيّة أو قوميّة أو دينيّة أو مناطقيّة…، عليكِ الحفاظ على حرمتكِ وكرامتك في المتحف.

هذا ليس بيان نعي، أو شهادة وفاة أو تصريح بالدفن لكِ، بل تحيّة تقدير وشكر واحترام لكِ، وحرص على عدم تلويثكِ بترّهات وسخافات “شهوة السلّطة” ودجل وأكاذيب المتسلّطين.

كنتِ ثورةً وطنيّة، لذا عليكِ أن تكوني أوّل الرافضين لتحويلك إلى ثورة دينيّة، طائفيّة. كنتِ ثورة استرداد وطن ومجتمع من طغمة عصابة غاشمة، وعليكِ رفض أن تكوني منصّة أو مقدّمة لإنتاج نسخ كربونيّة من النظام البائد. سوريا الجميلة، كبيرة بتنوّعها القومي، الديني، المذهبي، الثقافي، الفكري، كانت وستبقى كبيرة على أن يحكمها نسق واحد، بفكر واحد، مِن ملّة واحدة، بعقيدة ضيّقة ترى في التنوّع والاختلاف سببًا ومبررًا لموتها. سوريا لم تكن خارج الإسلام حتّى يصار إلى وصف سقوط دولة الأسد بـ”الفتح”. سوريا لم ترتدّ عن الإسلام حتّى يُصار إلى مقارنتكِ بـ”حروب الرِّدَّة” إبّان الخلافة الراشدة!

وبالتالي، عليكِ عدم السّماح بجرّ سوريا إلى الوراء، بل المساهمة في الدفع بها نحو المستقبل اللائق بها وبالسّوريين. وأوّل خطوة لكِ لتحقيق ذلك، هو تَبوُّء مقعدكِ وركنكِ اللائق في المتحف.

سوريا كانت وستبقى “شرق أوسط” مصغّرًا، بكلّ كنوزِ تنوّعه القومي والديني والمذهبي، ومثلما ضاقت ذرعًا بنظام الحزب الواحد والزعيم الواحد الأوحد والعقليّة الواحديّة… وما رافق ذلك من فيض الخرافات والأوهام والأكاذيب عن العروبة والعلمانيّة والمقاومة…، كذلك ستبقى سوريا ضيّقة جدًّا على جماعة قوميّة أو دينيّة أو طائفيّة معيّنة.

الحديث عن الشرعيّة الثوريّة، القوميّة والدينيّة والمذهبيّة، إذا جرى التمادي في الحديث عنها وتكرارها واجترارها، ستُفقِدُ أصحابها الشّرعيّة الوطنيّة. شرعُ الوطن وشرعُ المواطنة الكاملة في الدولة الكاملة المحايدة التي تقف على مسافة واحدة من مكوّنات الشّعب السّوري، هو أساس أيّ شرع سيحكم سوريا. الشرعيّة الوطنيّة لا يصار إلى فرضها، بل تكتسب بمقدار ما تقدّمه من خدمات للمواطن والوطن والدولة والمجتمع.

أتمنّى لك إقامة دائمة وجميلة في المتحف، عزيزتي الثورة السوريّة.

تلفزيون سوريا

————————–

قسد بين خيارين: التحجيم أو الاندماج/ فراس رضوان أوغلو

2024.12.25

لم يعد الشرق الأوسط كما كان على مدار عقود، فكل الحسابات السياسية تغيّرت، وكل الخطط الاستراتيجية للدول الإقليمية والدولية ستُعدّل. دمشق اليوم ليست كالأمس، وسوريا القادمة بكل تأكيد لن تكون كالعقود السابقة.

رغم التفاؤل الكبير لدى معظم الشرائح المجتمعية في سوريا حول مستقبل البلاد، وخاصة بعد الأداء الجيد والمتوازن لأحمد الشرع، قائد غرفة العمليات العسكرية المشتركة، والحكومة التي شكّلها، إلا أن هناك قلقاً لا يزال قائماً، وهو بشأن قوات سوريا الديمقراطية (قسد). هذه القوات، حتى الآن، تتصرف وكأنها إدارة ذاتية ذات نوايا انفصالية، رغم تصريحات مسؤوليها التي تنفي ذلك. وبالطبع، هذا الوضع لا يتناسب مع دمشق ولا مع الظروف الإقليمية الراهنة.

الظروف السياسية الحالية ليست في صالح قسد، وهي أمام خيارين: إما التحجيم والصدام مع تركيا، أو الاندماج في العملية السياسية الجارية في سوريا. في حال اختارت الاندماج، فهذا يعني أن على قسد التواصل بشكل جاد مع دمشق والقيادة الحالية، والقبول بالانخراط تحت رايتها السياسية والعسكرية. فهي طالما أعلنت أنها جزء من المجتمع السوري وأنها تؤمن بوحدة الأراضي السورية. تحقيق ذلك يتطلب أمرين: أولاً، التخلي عن فكرة الإدارة الذاتية، وثانياً، إخراج المقاتلين غير السوريين من الأراضي السورية ودمج المقاتلين السوريين ضمن وزارة الدفاع الجديدة التي سيتم تأسيسها. كما يشمل ذلك المشاركة في المؤتمر السوري الجامع لكل الأطياف السياسية لتحديد نظام الحكم الجديد ووضع دستور جديد من خلال اللجنة القانونية.

أما إذا أصرت قسد على إبقاء الوضع كما هو عليه، فهي أمام خيار وحيد: الصدام العسكري مع تركيا، يليه الصدام مع الفصائل السورية المسلحة. هذه المرة، الظروف الإقليمية لن تكون في صالحها، فقد انتهت مرحلة الاستفادة من نظام الأسد الذي كان يستخدمها ضد الثورة السورية وتركيا، في ظل الوجود الروسي العسكري على الأراضي السورية. اليوم، المجتمع الدولي، بعد نجاح الثورة السورية، بدأ بالتوجه نحو دمشق، بدءاً من فتح السفارة التركية والقطرية، وصولاً إلى زيارة الوفد الأميركي الذي قابل الشرع.

إضافة إلى ذلك، فإن تصريح وزيرة الخارجية الألمانية الذي طالب بنزع السلاح من الجميع وحصره في المؤسسات الرسمية، مع تفهّم التخوفات الأمنية التركية، يتوافق مع المواقف الأميركية. هذا يدل على تغيّر في قراءة المشهد السوري على الصعيد الدولي، وأنه يجب على قسد إعادة حساباتها السياسية. الحرب لم تعد مقبولة دولياً، وكثير من الدول تستعد لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهو مرتبط بشرط استمرار الاستقرار والأمن وعدم وجود أي صراع عسكري يؤدي إلى نزوح أو لجوء جديد.

سياسة تحجيم قسد قد بدأت بالفعل، مع دخول قوات غرفة العمليات المشتركة إلى دير الزور والرقة، وانسحاب قسد من منبج، واستعداد تركيا عسكرياً لدخول عين العرب (كوباني).

يتبقى لقسد رهان أخير تحاول الاستفادة منه، وهو تعاطف بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي الذين يرفضون التدخل التركي. من بين هذه الجهود، قُدّم مشروع قانون يُسمى “قانون مواجهة العدوان التركي لعام 2024″، بادر به عضوان من الحزبين: الجمهوري والديمقراطي. يهدف هذا المشروع إلى فرض عقوبات على تركيا والجماعات المسلحة المدعومة منها، لمنع مزيد من الهجمات التركية على قوات سوريا الديمقراطية. الحجة المقدمة هي التخوف من عودة تنظيم داعش وتهديده للأمن القومي الأميركي. ومع ذلك، قد يواجه هذا المشروع معارضة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي صرّح سابقًا بعدم اهتمامه بسوريا، مشيرًا إلى ضرورة عدم التدخل فيها، وأن تركيا تملك المفاتيح الآن في سوريا.

يمكن اعتبار هذا الصراع والاختلاف حول الملف السوري نقطة قوة لصالح تركيا على حساب قسد، حيث إن تركيا والمعارضة السورية هما من أسقطا المحور الإيراني السوري في المنطقة.

خلاصة القول، إن الخطاب السياسي والإعلامي لقسد لم يعد يتناسب مع متغيرات المرحلة الحالية. سردية المظلومية الكردية يمكن القول إنها انتهت بسقوط النظام، حيث كان الشعب السوري بأكمله تحت نير النظام الزائل. إذا كانت قسد تمثل المكون الكردي، فعليها ترك المناطق العربية التي لا تمثلها وفق سرديتها. بالإضافة إلى ذلك، تصريح مظلوم عبدي بإمكانية إخراج المقاتلين غير السوريين من صفوف قسد في حال التوصل إلى اتفاق مع تركيا يُعتبر دليلاً على المخاوف الأمنية التركية، ويشير إلى أن قسد لم تكن تمثل السوريين، بل كانت ذات أجندة خاصة بها، مستفيدة من الوضع الإقليمي والدعم الخارجي، مستغلة قضية داعش ومخيم الهول ومسألة الحدود السورية العراقية.

تلفزيون سوريا

—————————-

 لا تسقط نظامًا وتأتي بمثله/ حسان الأسود

2024.12.25

لن يضيف هذا المقال شيئًا إذا ما صوّر الواقع السوري، فالصحفيون والقنوات الإخبارية ووسائل التواصل لم تُبقِ شيئًا إلا ونقلته. لا الشرح ولا التبرير هدفان للكتابة أيضًا، بل فتح كوّة صغيرة في جدار الصمت والأبديّة التي ما زلنا نحاول كسرها سوريين وسوريات منذ آذار 2011. وما ابتهاجنا جميعًا في البيوت والشوارع والساحات، معارضة ورماديين وحتى موالين (سابقين بتوصيف الفئات الثلاث)، إلا لحظة تكثيفٍ وتجسيدٍ لحلمٍ طال انتظاره وطال العمل عليه أيضًا. سقط الأسد، وبات ذكره مقترنًا بالخسّة والجُبن والنذالة والإجرام، وسيأتي يوم نراه جميعًا وراء القضبان ليحظى بمحاكمة نريدها علنيّة وشفافة وعادلة، رغم أنّه ونظامه الشيطاني حرمنا منها عقودًا طوالًا. لكنّ سوريا التي عادت خالصة دون ملحقات توصيفيّةً ما زالت مريضة، وستبقى كذلك مدّة طويلةً إن لم ننهض جميعًا لعلاجها مما حل بها.

يبدأ الحلّ من كل الاتجاهات، من القاعدة الواسعة العريضة التي هبّ أفرادها زرافاتٍ ووحدانًا لتنظيف شوارعها، ويبدأ من القلب عند الأمهات الباحثات عن فلذات أكبادهنّ بين حطامِ البشر المكدّسين في المقابر الجماعية، وفي سعيهنّ لكشف الحقائق ومنع تكرار ما حصل، ويبدأ من عقول المفكرين والأدباء والفنانين والمتخصصين في الإدارة والقانون والاقتصاد… من النخب التي لم تعد ترى ذاتها سطورًا في كتبٍ منضّدة على الرفوف. وقبل ذلك كلّه يبدأ بقوّةٍ من هرم السلطة الراهنة عندما تفتح أبواب الحوار والنقاش على مصراعيه، أو هكذا يجب أن يكون. يبدأ التغيير من لحظة إدراكنا حجمنا وحجم بلدنا الذي خطف أنفاس العالم كلّه منذ أيامٍ عدّةٍ هزّت وجدان البشرية. استحقاقات النصر لا تتوقف عند الحسم العسكري، ولا عند الضبط الأمني، بل يجب أن يتبعها حوار اجتماعي وانفتاح سياسي، ففي البدء كانت الكلمة، وهذه بالذات كانت محظورة منذ عقود في سوريا، لكنّها الآن باتت حاجة مُلحّة ولا تقبل التأجيل.

في السياسة نبدأ، ومنها كلّ شيء يتفرّع وإليها كل شيء ينتهي. وهنا لا يجب أن تحيد عيوننا عن البنية الجديدة التي تشكّلت عقب انهيار نظام الديكتاتور البشع. هنا يجب أن ندقّ أوّل ناقوسٍ للخطر، فرغم معرفتنا بأنه يجب التدرّج في سلّم الأولويات، من ضبط الأمن ونزع السلاح وتشغيل مؤسسات الدولة إلى تأمين أساسيات الحياة من ماء وكهرباء وخبز ومحروقات واتصالات، إلا أنّ ذلك لا يلغي أولويّة التشاركيّة السياسية للوصول إلى التفاهمات النهائية التي ستتجسد في الدستور السوري الجديد. التوافق ضرورة وليس ترفًا، ففي لحظات الانتقال من الحرب إلى السلم تكون النفوس مشحونة والأعصاب مشدودة والتوتّر على أشدّه لدى المنتصرين والمهزومين على حدّ سواء. يجب ألا تُعمي نشوةُ الانتصار بصيرة من يتسلمون مقاليد الأمور، ويجب ألا تخنق رعشات الخوف أنفاس المهزومين. وفي سوريا الآن ثمّة فريقان بلا شكّ، انتصر الأول لأنّه يمثل الحياة والمستقبل، لأنّه حمل التضحيات الجسام على عاتقه، وهذا الفريق لا يشمل الثوّار من مدنيين وعسكريين ومعارضين سياسيين فحسب، بل يشمل كل سوريّ وسوريّة لم يشارك في المذبحة والإجرام حتى ولو كان رماديًا أو حتى مؤيدًا. هذا الفريق لا يشمل بكل تأكيد من ارتكبوا الجرائم والانتهاكات، ولا من مارسوا الفساد، هذا الفريق يشمل فقط كلّ الشرفاء من أهل سوريا. أمّا الفريق الثاني الذي انهزم، فهو كلّ من لا تشمله الفئة المصنّفة سابقًا، بدءًا بالهارب مؤقتًا من يد العدالة بشار الأسد إلى أصغر مجرمٍ أو فاسدٍ داخل البلاد وخارجها.

يجب أن يكون على طاولة التأسيس لسوريا الجديدة ممثلون وممثلات عن كلّ من تشملهم صفة الفريق المنتصر، بكلّ قومياتهم وأديانهم وطوائفهم ومذاهبهم واتجاهاتهم السياسية. ثمّة مسلمون ومسيحيون وغيرهم لا يحبّون تصنيفهم وفق معيار الدين أو الطائفة أو المذهب، وثمّة عرب وكردٌ وتركمان وأرمن وشركس وشيشان لا ينطلقون من قوميتهم، بل من انتمائهم الحزبي. هؤلاء جميعًا يجب أن يشاركوا في وضع قواعد العمل السياسي. يجب أن يتوافق هؤلاء جميعًا على جوهر الديمقراطية لا على أدواتها فحسب، يجب أن تكون القواعد الأساسية مُرضية للجميع وشاملة لهم بحيث تزيل الهواجس وتحفّز الانتماء. إذا كانت أعدادٌ كثيرة من المسلمين السنّة عربًا وكردًا وتركمانًا لا تجد نفسها ممثّلة الآن، فكيف للمسيحيين والدروز والعلويين والإيزيديين أن يطمئنّوا على مستقبلهم؟ وكيف للنساء أن تطمئنّ نفوسهنّ للقادم من الأيام، إذا كانت التجارب السابقة مليئة بالإقصاء والتهميش والتسلّط والتصنيف المُسبق الصنع في خاناتٍ لم يعد يقبلها منطق الحياة والعصر وضروراتها؟

هذا ليس خطاب التمييز بين المواطنين والمواطنات من أهل سوريا للتفريق بينهم، بل هو منطق وضع النقاط على حروف العقد الاجتماعي الذي نسعى لكتابته سويةً. نحن الآن في لحظة نسج خيوط الهُويّة الوطنيّة السورية، والثوب المنشود لا يمكن أن يكون من لونٍ واحد، ولا يمكن أن يكون بلا نقوشٍ أو زخارف. نحن جميعًا على خطّ النار، فإمّا أن ندرك استحقاقات اللحظة وتعقيداتها ونذهب إلى طاولة الحوار لنضع عليها هواجسنا ومخاوفنا ومطالبنا، أو نتمترس خلفها ونعيد الكرّة من جديد في حربٍ لن تبقي ولن تذر هذه المرّة. قال ثوّار كفرنبل يومًا في إحدى لوحاتهم الخالدة ما نحن بحاجة له اليوم وكلّ يوم: “لا تُسقط نظامًا وتأتي بمثله….. عارٌ عليك إن فعلت عظيمُ”.

تلفزيون سوريا

——————————–

 كيف سيرتق السوريون جراحهم؟/ وفاء علوش

2024.12.24

مشهد لم يكن يتخيله أحد، يعيشه السوريون اليوم بعد ثلاثة عشر عامًا من الثورة. سوريا من دون الأسد، سوريا من دون فروع أمن، ومن دون خوف أو رعب.

لكن ذلك المشهد ليس مكتملاً، فالجراح التي فتحتها نهاية حقبة الرعب عميقة وموغلة: معتقلون قضوا تحت التعذيب، مفقودون لم يستدل ذووهم على طريق لمعرفة مصيرهم، ومشاهد مقابر جماعية لأبناء السوريين وبناتهم ممن لقوا حتفهم على يد مجرمي العصر وسفاحيهم.

تقف سوريا اليوم على منعطف طرق هام في تاريخها، ليس فقط بسبب سقوط أحد أعتى الأنظمة المجرمة في العالم، وإنما لأننا أمام استحقاق بناء دولة من نقطة الصفر. لكن ذلك يبقى مرهونًا بحالة وفاق “سورية-سورية” تكون الأساس في بناء الدولة الجديدة.

السؤال الجوهري في هذه المرحلة هو: كيف يمكننا عبور رحلة التعافي السورية بسلام؟ وكيف يمكن أن يكون المجتمع السوري متكاتفًا متجاوزًا الانقسام الذي جذّره نظام الأسد المخلوع؟

تبدو فكرة السلام للسوريين اليوم وكأنها حكاية أسطورية، بعد عقود عانوا فيها شتى أنواع التعذيب. لكن انتصار الثورة فتح نافذة للأمل، فجعل السلام مطلبًا للسوريين، ليجمعنا مع الوقت مشهد خالٍ من الجراح والمآسي. غير أن ذلك لا يبدو ممكنًا قبل ملاحقة المجرمين وتطبيق الجزاء بحقهم، وتحقيق العدالة التي يحتاجها السوريون ويطالبون بها اليوم.

تُعرّف العدالة الانتقالية اصطلاحًا بأنها: “مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي تُنفَّذ في مجتمع ما بعد فترة من النزاع المسلح أو الحكم الاستبدادي، بهدف معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتحقيق المصالحة الوطنية”. وهي تهدف إلى ضمان محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وتعويض الضحايا، وتعزيز سيادة القانون، وبناء مجتمع يسوده السلام والديمقراطية.

ترتكز العدالة الانتقالية على مبدأ المحاسبة وضمان سلامة التحقيق في الجرائم وملاحقة المسؤولين عنها، وإصلاح المؤسسات المتورطة في الانتهاكات وإعادة هيكلتها، وجبر الضرر بتقديم تعويضات مادية أو رمزية للضحايا. كما تحرص على حفظ الذاكرة لضمان عدم نسيان الماضي، بهدف تحقيق المصالحة وتعزيز الحوار والتفاهم بين أفراد المجتمع.

يتطلب تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا خطة شاملة تأخذ في الاعتبار تعقيدات النزاع الطويل الأمد وخصائص الواقع السوري، مع تنوع الأطراف المتورطة والجرائم الجسيمة التي ارتُكبت. لا يمكن بناء دولة جديدة على أنقاض الدولة القديمة مع تجاهل ضحايا الحرب أو تناسي ما ارتكبه مجرمو الحرب في سوريا.

الركائز الأساسية لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا تشمل:

توثيق الجرائم والانتهاكات: إنشاء هيئة مستقلة لتوثيق الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت من جميع الأطراف خلال النزاع، مع الاستفادة من جهود المنظمات المحلية والدولية التي وثّقت الفظائع (مثل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب).

محاسبة المسؤولين: إنشاء محاكم محلية أو اللجوء إلى محاكم دولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة، مع ضمان عدم الإفلات من العقاب، والتركيز على كبار المسؤولين الذين خططوا لهذه الجرائم.

تحقيق المصالحة المجتمعية: تعزيز الحوار الوطني بين مختلف الأطراف والطوائف السورية لتخفيف التوترات وتحقيق التفاهم.

جبر الضرر للضحايا: توفير تعويضات مادية ومعنوية، بما في ذلك تقديم دعم نفسي واجتماعي للناجين، وإنشاء برامج لإعادة تأهيل النازحين واللاجئين وضمان عودتهم بأمان إلى مناطقهم.

بطبيعة الحال، لا يمكن تحقيق ذلك إلا بإعادة بناء المؤسسات الحكومية والعسكرية والقضائية بطريقة تضمن الحياد والنزاهة، مع تطهير المؤسسات من الفساد أو العناصر المتورطة في الانتهاكات، وتعزيز سيادة القانون ومنع تكرار الجرائم.

رغم ثقل عبء المرحلة، علينا أن نحتفظ بذاكرتها من خلال إنشاء متاحف أو نصب تذكارية لإحياء ذكرى الضحايا وضمان عدم نسيان الجرائم. الأهم من ذلك كله هو إشراك السوريين في العملية، لجعل العدالة الانتقالية عملية تشاركية تشمل جميع الأطراف والمجتمعات المتضررة، والاستماع إلى أصوات الضحايا لضمان تلبية تطلعاتهم.

قد تواجه سوريا تحديات كبيرة مع غياب الاستقرار السياسي، وقد يعوق العملية رفض بعض الأطراف للمحاسبة، خاصة تلك التي قد تواجه اتهامات بارتكاب جرائم. الانقسامات الطائفية والإثنية قد تعقّد المصالحة أيضًا.

كما أن الكم الهائل من الجرائم والانتهاكات يجعل من الصعب محاكمة جميع المسؤولين، خاصة في ظل الموارد المحدودة. علاوة على ذلك، الخوف من الانتقام قد يعيق الضحايا والشهود عن المشاركة بسبب غياب الأمان.

لكن النجاح ممكن بوجود دعم دولي وإقليمي للعدالة الانتقالية في سوريا، وإنشاء بيئة آمنة تُشجّع السوريين على الانخراط في العملية دون خوف، واستخدام حلول مرنة تناسب الواقع السوري مع مراعاة العدالة والإنصاف.

لا يخفى على أحد أن فرص تطبيق المحاكمات العادلة في سوريا تعتمد بشكل كبير على الدعم الدولي والإقليمي، سواء من خلال الاستعانة بمحاكم دولية (مثل المحكمة الجنائية الدولية) أو إنشاء محكمة خاصة بسوريا لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم الكبرى.

القضاة والمحامون وإصلاح النظام القضائي يمثلون محورًا أساسيًا في تحقيق العدالة الانتقالية. ومن الضروري إنشاء محاكم مختلطة تضم قضاة محليين ودوليين لضمان النزاهة والاستقلالية، على غرار التجارب الناجحة في سيراليون وكمبوديا. وفي هذا السياق، يبدو إصلاح القضاء المحلي ليصبح مستقلًا وشفافًا أمرًا غاية في الإلحاح.

السؤال الثاني المطروح: هل من الممكن بناء سوريا دون تحقيق العدالة الانتقالية؟

هذا الأمر يواجه تحديات كبيرة تتعلق بالمصالحة الوطنية، واستقرار المجتمع، وتعزيز سيادة القانون. فالعدالة الانتقالية قد لا تكون شرطًا مطلقًا لإعادة بناء الدولة، لكنها تُعد وسيلة فعالة لمعالجة آثار النزاع وضمان سلام مستدام. في حال غيابها، تتطلب البدائل حلولًا شاملة للتغلب على العقبات الناتجة عن غياب المحاسبة والمصالحة، فالعدالة تبقى أساسًا وركيزة واضحة لتحقيق السلام.

من نافل القول أن استخدام العفو كوسيلة لطي صفحة الماضي وبدء مرحلة جديدة يجب أن يكون مقبولًا على نطاق واسع من الشعب، ويتطلب تحقيق العدالة للضحايا كي لا يتحول العفو إلى قنبلة موقوتة تهدد السلم الأهلي.

التحديات الكبرى التي يواجهها السوريون اليوم يمكن تجاوزها من خلال تعزيز هوية وطنية جامعة تشمل الجميع. ويمكن تحقيق ذلك عبر صياغة دستور جديد يعزز المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الطائفة أو العرق أو الجنس، مع ضرورة تفعيل دور الإعلام والتعليم لتعزيز الهوية الوطنية المشتركة بدلًا من التركيز على الانقسامات.

تقف سوريا اليوم أمام لحظة تاريخية تحت ثقل استحقاقات كبيرة. هذه الاستحقاقات، رغم ضرورتها، تتطلب ترتيب الأولويات بعناية. بعد أن ترك النظام السابق البلاد مدمرة وشعبًا مهجرًا، من الضروري الإسراع بإعادة المهجرين وتحسين الخدمات والواقع المعيشي للسوريين، بالتوازي مع بناء المؤسسات التي تُهيئ لبدء عملية العدالة الانتقالية.

ولا بد من الإشارة إلى أن تجاهل العدالة الانتقالية قد يضعف ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة. ورغم أن العفو والتسامح قد يبدوان حلين جميلين، إلا أنهما يظلان منقوصين في حال عدم تعويض أصحاب الحق. ترك الضحايا دون تعويض أو اعتراف بمعاناتهم يعمّق جراح المجتمع، ويزيد من مشاعر الإحباط والرغبة في الانتقام، مما يهدد بتكرار النزاع.

على سبيل المثال، أدى غياب العدالة في لبنان بعد الحرب الأهلية إلى هشاشة السلام واستمرار الانقسامات. في المقابل، تمكنت دول مثل رواندا من تحقيق استقرار نسبي من خلال إيجاد حلول مجتمعية موازية.

لقد ساهمت العدالة الانتقالية في دول مثل رواندا وكولومبيا وسيراليون والبوسنة والهرسك في تحقيق المصالحة وبناء السلم المجتمعي. ورغم التحديات التي واجهتها هذه التجارب، فإن ما ميزها هو الاعتراف بالجرائم ومحاسبة مرتكبيها، مما ساعد في تهدئة الغضب الشعبي وتعزيز الثقة في المستقبل.

————————–

لم يبقَ من قريتي إلا اسمها”… سوريون عادوا ليجدوا بلداتهم وقد سُويّت بالأرض/ بشار الفارس

الاثنين 23 ديسمبر 2024

“كانت صدمة وخيبة أمل كبيرة لم أعشها من قبل، منزلي وقد سُويّ الأرض، ولم يبق منه سوى الركام، خابت كل الآمال بالعودة للديار، إلى أن تَعمر من جديد”. كانت هذه كلمات ريم لدى رؤيتها لمنزلها المدمر بشكل كامل بعد غياب عنه لمدة ستة أعوام.

على مدار 14 عاماً هُجّر كثير من السوريين خارج منازلهم وقراهم، بعضهم إلى المخيمات، وبعضهم خارج البلاد. لكن العام 2019 كان الأكثر بؤساً ومعاناة على من هم في أرياف حماة وإدلب، حين شنّت قوات الأسد بدعم روسي وإيراني حملة قصف عنيفة، رافقها تقدّم برّي على العديد من القرى والمناطق انتهاءً بالسيطرة عليها، ومنها قرى سهل الغاب في ريف حماة الغربي وريفها الشمالي، وريف إدلب الجنوبي والشرقي.

عُدنا لنجد المنزل وقد سُوّي بالأرض

كانت منازل المدنيين من ضمن ضرائب المعارك التي شهدتها المنطقة، بعدما نزح أغلب السكان إلى مخيمات شمال غرب سوريا.

تتحدث ريم شمطان (36عاماً) وهي معلمة مدرسة في قرية الحواش الواقعة في سهل الغاب في ريف حماة، وتعيش في مخيم على الحدود السورية التركية في ريف سلقين غرب إدلب، تقول: “في إحدى ليالي الظلم والقصف الهمجي من الطيران الحربي والقصف المدفعي، هجرنا منازلنا وغدونا في الخيام التي لم نشعر فيها بالدفء، كانت باردة في الشتاء وحارة في الصيف، وقاسية علينا وقت الرياح والعواصف، تحملت كل ذلك أنا وزوجي وأطفالي الأربعة على أمل أن نعيش لنفرح بطعم الحرية والنصر”.

تتابع لرصيف22: “عندما بدأت المعارك مع قوات الأسد بدأت أرسم الآمال حول عودتي إلى منزلي الدافئ، إلى ذكرياتي ورائحة الورد في حديقة منزلي الصغيرة، وأصوات جيراني عند الصباح، وبدأت أتخيل كيف سأستيقظ في الصباح لأعد الفطور لأطفالي ومن ثم أذهب إلى دوامي”.

وتقول إنها لم تستطع النوم في ليلة الإعلان عن تقدم الثوار إلى دمشق من الجنوب، وعن العمل العسكري الذي تزامن مع تحركاتهم في مناطق سهل الغاب، “لم أشعر بالنعاس إلى أن قالوا سقط الأسد وخرجت قواته من سهل الغاب، عندها أسرعت للذهاب إلى المنزل برفقة زوجي لنرى كيف أصبح بعد غياب 6 سنوات عنه، لم أر سهل الغاب حينها إلا سهل الدمار، كانت صدمة وخيبة أمل لم أعش مثلها من قبل، رأيتُ منزلي وقد سويّ بالأرض، وخابت كل الآمال بالعودة للديار، إلى أن تعمر من جديد”.

سياسة الأرض المحروقة

يقول إبراهيم العيدان لرصيف22: “الفرحة بسقوط النظام لا توصف، الشعور لا يمكن التعبير عنه، فمنذ 14 عاماً ونحن نعيش التهجير والتدمير والقتل، وفي لحظة وجدنا أنفسنا في حرية وأمان”.

أما عبد الرزاق العلي (60عاماً) فيقول لرصيف 22: “نحن عاجزون عن وصف السرور والبهجة التي دخلت قلب كل سوري تأذى من قبل النظام المجرم، لكن في داخلنا غصة لأبنائنا المعتقلين الذين لا نعلم عنهم شيئاً حتى الآن”.

يعيش عبد الرزاق العلي في مخيم كفر جالس، بالقرب من مدينة إدلب، وحتى اليوم لا يستطيع العودة إلى منزله نتيجة الدمار الذي حلّ به، يقول: “أهالي قرية الزيارة تشردوا، كل واحد منهم يعيش في منطقة وفي مخيم، ومنهم من غادر إلى تركيا أو ألمانيا. أحاول الآن العودة إلى القرية ولكن لا يوجد شيء هناك، لا بيت جاهز ولا خدمات ولا متطلبات حياة، نتمنى من المنظمات الدولية والدول العربية التي ساندت الشعب السوري أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الدمار وهذا الخراب الناتج من أعمال المجرم بشار الأسد”.

خلال عام 2015 بعد سيطرة فصائل المعارضة على محافظة إدلب جرت معارك عنيفة في قرى سهل الغاب، خاصة في بلدة الزيارة والقرى التي تتبع إدارياً لتلك الناحية، حيث كانت البلدة خط إمداد لقوات الأسد في محافظة إدلب، واستخدم النظام حينها سياسة الأرض المحروقة للسيطرة عليها، وبعد بسط سيطرته سرقت قوات النظام أثاث المنازل في البلدة بشكل كامل، مع سرقة خطوط الكهرباء والمياه والهواتف الأرضية، لتصبح البلدة عبارة عن اسم فقط، بحسب ما يروي أهلها لرصيف22.

يروي إبراهيم العيدان (50عاماً)، وهو موظف سابق في المصرف الزراعي هناك: “قبل أن يخرج الجيش من القرية، رحّل معه كل أثاث المصرف والكمبيوترات والأموال والمستودعات، لذا، فالبناء الآن مثل الجثة الهامدة لا فائدة منه، ويحتاج إلى ترميم وإعادة بنية تحتية كاملة”.ويتابع لرصيف22: “حين عدنا لم نجد من قرانا إلا الأسماء، كلها خالية من جميع مقومات الحياة”.

من نفس البلدة يشرح جاهد المواس (45عاماً) لرصيف22 عن سبب الخراب الذي طال بلدتهم أكثر من سواها، وعدم قدرتهم على العودة إليها رغم خروج قوات النظام منها بعد معارك عام 2015، يقول: “بلدة الزيارة متاخمة لمعسكر جورين العسكري الإرهابي، الذي كان يقصفنا بالصواريخ والراجمات والقذائف المدفعية بالليل والنهار، كانت المنطقة غير قابلة للسكن بسبب جورين، البلدة أغلبها مدمر، والمنزل الذي ليس مدمراً لم يعج صالحاً للسكن بسبب التصدعات”.

ويضيف: “حين أتينا لتفقد الأراضي كي نزرعها، لم نجد شيئاً، القرية لا يوجد بها أي من مقومات الحياة”.

سرقوا كل شيء… حتى حديد الأسقف

محمود أبو راس صحافي سوري من بلدة الهبيط في ريف إدلب، هُجّر منها عام 2019 إلى مخيمات دير حسان شمال غرب سوريا. يقول لرصيف22: “كنا نترقب كل تقدم وإعلان سيطرة جديدة، ومتى يصلون لمناطق قريبة من مناطقنا. كان شعوراً جمعياً لكل الناس في مناطق جغرافية كبيرة جداً، انتظار اللحظة التي يتم فيها التصريح من قبل فصائل العمليات العسكرية بالسيطرة على منطقة معينة”.

ويضيف: “الجميل بأن الناس من المناطق المجاورة كانوا يرسلون لمن تحررت مناطقهم تهنئات من قبيل (إنت رجع بيتك، رجعت ضيعتك)، هذه المشاعر ليس بالسهل وصفها”.

يشرح محمود عن الساعات الأولى للسيطرة على بلدته: “أتذكر حين كانت الفصائل قريبة من بلدتي في ساعات الصباح الأولى، والتساؤلات متى تتم السيطرة على بلدتي؟ متى يتم إعلانها خالية من النظام؟ متى تأتي اللحظة التي نستطيع دخولها دون خوف أو تهديدات على حياتنا؟ ومع منتصف اليوم أعلنت الفصائل السيطرة على بلدتي، أنا وعائلتي عشنا لحظات كنا ننتظرها من سنوات”.

في اليوم التالي منذ الصباح الباكر عاد إلى بلدته، ليشاهد منزله وحارته وكل ذكرياته المرتبطة بها.

“خمسة وعشرون عاماً من حياتي كانت ضمن هذه المكان والجغرافيا، بالنسبة لي كانت هي سوريا، حتى وإن كان المكان الذي تهجرت إليه حياتي جيداً مقارنة بغيري”.

يقول محمود عن لحظة وصوله: “عند وصولي شعرت كأن هذه ليست بلدتي التي أعرفها، فمنذ عام 2011 تعرضت لكثير من القصف الذي لم يخفت ملامحها، ولكن مع آخر سيطرة عليها من قبل النظام عام 2019 كانت ملامح البلدة مخفية كلياً، نسبة الدمار ليست طبيعية، الطرقات مغلقة، الحديد مسروق حتى من أسقف المنازل، لا يوجد شيء، وكأنما الشخص داخل على مدينة أشباح، على مكان لا حياة به”.

ويكمل: “كانت لحظة الوصول إلى منزلي مزيجاً بين الكثير من المشاعر، الفرح بأن اليوم الذي أستطيع به العودة إلى منزلي الذي كبرت وعشت بداخله قد أتى، وفي نفس الوقت كان هناك لحظات قهر بسرقة سنين من عمرنا بعيدين عن هذه المكان، لم يترك أي شيء يجعل الإنسان قادراً أن يعود لمنزله خلال ثلاثة أشهر، اليوم نحن بحاجة لسنين أطول لنعود إلى منازلنا، فالنظام لم يكتف بتهجيرنا لسنوات، بل حرمنا من سنة إضافية للعودة”.

109 قرى مسحت بالكامل

تعاني العديد من المدن والبلدات من دمار واسع للبنية التحتية والمدارس والمستشفيات والمنازل المتهالكة، وانعدام الخدمات الأساسية، ما يشكل عائقاً كبيراً أمام عودة الحياة والناس إلى مناطقهم، خاصة وأن هناك بلدات مُسحت بشكل كامل ولم يعد بها حتى شبكات مياه وصرف صحي وشبكات للكهرباء وطرق مؤهلة.

فريق “منسقو استجابة سوريا” الذي أصدر بياناً صحفياً دعا من خلاله المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى عقد مؤتمر جديد للمانحين خلال الربع الأول من عام 2025؛ كان قد أجرى عملية مسح في محافظات حلب وإدلب وحماة وحمص، ومع استمرار عمليات إحصاء الأضرار في تلك المحافظات وخطة لتوسيع العمل ليشمل محافظات دمشق ودرعا والمناطق الشرقية، بحسب ما جاء في البيان.

وبحسب إحصائية نفس الجهة فهناك 104 قرية مدمرة بالكامل تصل نسبة الدمار فيها إلى 100%، و97 قرية مدمرة بشكل كبير ونسبة الدمار بين 90-80%، و91 قرية مدمرة بشكل جزئي ونسبة الدمار بين 80-40%.

رصيف 22

———————————

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى