سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

—————————————–

عن مظاهرات السوريين العلويين/ راتب شعبو

29 ديسمبر 2024

انتشرت بعد سقوط نظام بشّار الأسد، وفرار المجرم (ليل 7/8 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، أخبار وفيديوهات، مسرحها مناطق سورية يعيش فيها علويون، تعرِض انتهاكات مختلفة تنم عن رغبة بعضهم في الانتقام، ليس من مرتكبي الجرائم بحقّ السوريين فقط، بل أيضاً من بيئتهم الاجتماعية، وهو ما يمكن ردّه إلى سيادة وعي تعبوي خلال السنوات الماضية يختزل نظام الأسد في أنه “نظام علوي”. يظهر ذلك بأشكال عديدة، من الاستضعاف والسخرية ذات البعد الطائفي، إلى الإذلال من موقع من ينظر إلى الآخرين أنهم مهزومون، ويصل بعضها إلى حدّ القتل على الهُويَّة المذهبية بدم بارد.

وصفت هذه الأفعال بأنها فردية لا تعكس سياسة القيادة العامّة الجديدة، ولا إرادتها، ونعتقد أن هذا صحيح. معروفٌ، في ظلّ النظام البائد أن “الأعمال الفردية” كثيراً ما استُخدِمت ستاراً للتهرّب من المسؤولية، ويعرف السوريون أن أبطال هذه الأعمال لا يتعرّضون للمساءلة، بل على العكس، يعلو رصيدهم لدى القيادة، ولكنّ الظرف العامّ الذي تجد نفسها فيه السلطة الجديدة في سورية، يجعل من مصلحتها الحيوية أن لا تحدُث هذه الانتهاكات، ولا سيّما أن التنظيم الأساسي (هيئة تحرير الشام) في هذه السلطة يحتاج إلى مياه كثيرة نظيفة لغسل ما استقرّ عنه في وعي السوريين، وفي سجلّات الدول الغربية، التي لا تزال تصنّفه في قائمة الإرهاب.

شهدنا في 25 ديسمبر/ كانون الأول الجاري ردّ فعل واضحاً وواسعاً من العلويين، وتجلّى في مظاهرات في عدّة مدن، احتجاجاً على حرق مقام ديني، رفعوا فيها هتافات طائفية للمرّة الأولى في تاريخ سورية. لم تكن هتافاتٍ ضدّ الطوائف الأخرى، بل هتافات تؤكّد هُويَّتهم الطائفية الخاصّة. وعلى اعتبار أنه لا تقليد لديهم في ذلك، فقد قلّدوا طريقة الشيعة في الهتاف، مثل “لبيك يا …” و”علوية” على غرار هتاف “شيعة”، مع الفارق المهمّ في السياق والدلالة. لم تُواجَه المظاهرات بالعنف في اللاذقية وطرطوس. فقد، نقلت الأخبار أنه سقط قتيل وبضعة جرحى في حمص بعدما أطلقت قوات الأمن النار لتفريق المتظاهرين. ثمّ صدر قرار بمنع التجمّعات والمظاهرات والوقفات التضامنية، حتى عودة استتباب الأمن في البلاد، وأُلغي بعد ذلك. المظاهرات التي أتينا على ذكرها ليست دينية، وإن اتخذت طابعاً دينياً، فقد سبق أن تعرّضت مقامات علوية للإزالة، في سياق مختلف، من دون أن يسبّب ذلك احتجاجات تذكر. خروج العلويين بهذا الشكل يحرّكه نزعة لتأكيد الذات الجماعية أمام ما يشعرون أنه محاولة لوصمهم وإغراقهم بعقدة الذنب. كما يحرّكه خوف مَرَضي، يتجلّى في نوع من الهروب إلى الأمام، فالاحتجاج على حرق مقام لا يكاد يعرفه العلويون أصلاً، يضمر احتجاجاً على مجمل “الأعمال الفردية” السابقة، وهو نوع من رسالة مفادها، إننا متضامنون وسندافع عن أنفسنا.

قد يبدو هذا القول غريباً لمن لا يستطيع إدراك حقيقة خوف العلويين. يمكن للمرء أن يجد هذا الخوف غير مبرّر وغير مفهوم، ويمكنه أن يسخر منه حتى، ولكن هذا، في كلّ حال، لا يفيد في شيء، وربّما يزيد من المشكلة. في المقابل، يمكن لجهات ذات مصلحة (في هذه الحالة نقصد أساساً إيران بما لها من مرتكزات محلّية، وكان في تصريحات مسؤوليها ما يشير إلى علاقة لها في تخريب الاستقرار الذي تلا سقوط النظام) أن تؤجّج المخاوف، وأن تدفع باتجاهات معينة للحركة، ولكن هذا يبقى غير ممكن ما لم يكن لدى الناس الاستعداد لذلك. يوجد فارق حاسم بين الاحتجاجات التي قام بها العلويون، والعمليات العنيفة التي أقدم عليها علويون من مستفيدي النظام البائد، مثل حادثة إطلاق النار على دورية أمنية في المزيرعة من شبيحة للنظام السابق، وقتل أربعة من عناصرها في 15 ديسمبر، أو استهداف دورية لقوات الأمن العام، في يوم الاحتجاجات نفسه، وهي في طريقها إلى اعتقال ضابط من إحدى قرى طرطوس، يقال إنه مسؤول عن إعدام آلاف السجناء في سجن صيدنايا، العملية التي قتل فيها 14 فرداً من عناصر الأمن، بحسب بيان وزارة الداخلية السورية. العمليتان تهدفان إلى حماية مجرمي النظام، وتستخدمان العنف المسلّح، في حين أن المظاهرات سلمية الطابع، ولا تهدف إلى حماية مجرمين مطلوبين. العمليتان من ترتيب رجال النظام السابق الرسميين وغير الرسميين، الذين يدافعون عن أنفسهم بالعنف وبمحاولة خلق البلابل، ولكنّنا لا نعتقد أن أحداً من رجال النظام السابق ما زال يمتلك من القوة المعنوية ما يجعله قادراً على إخراج عشرة أشخاص. اعتبار المظاهرات صناعة “الفلول” هو استسهال بعيد من الواقع.

ما يراهن عليه مجرمو النظام السابق هو تأجيج صراع طائفي، كي يحتموا به وتختلط فيه الأوراق، وعندئذ لا ينجون من العقاب فقط، بل يطمحون إلى أن يتحولوا زعماء في طائفة هذه المرّة، بعد أن كانوا زعماء في دولة. فعلى هذا، إن كلّ سلوك ذي بعد طائفي من أيّ جانب كان، لا يخدم في النهاية سوى هؤلاء المجرمين… يفتح سلوك السلطة الجديدة، حتى اللحظة، باباً للتفاؤل، ففيه قدر مهم من المسؤولية الوطنية والابتعاد عن الاستفزاز الطائفي مع السعي إلى تطمين الأهالي. كما أن للمبادرات الأهلية التطمينية أهمية في هذه المرحلة الانتقالية، إذ يكون للنسيج الأهلي دور أكثر أهمية في ملء نقص الدولة، وطمأنة الناس، وتخفيف الصدامات الممكنة.

من المفيد، في السياق السوري الراهن، التنبه إلى أمرَين متكاملَين: الأول أن ما يبدر من العلويين من ردّات فعل شعبية احتجاجية، قد تشكّل (وهذا يعتمد على التطوّر اللاحق للأحداث) بدايةً مشؤومةً لتحوّلهم كياناً له قدر من الوعي الذاتي الجماعي، ما يمهّد لدخولهم (مع غيرهم) في نموذج دولة طائفية التكوين على النموذج العراقي أو اللبناني. والثاني أن ما يدفع أكثر باتجاه هذا التحوّل أنه ينسجم مع طبيعة تكوين السلطة السورية الحالية، التي يقوم تنظيمها الأساس على كيانية طائفية، ويزيد في المخاوف ما قاله زعيمها في أحد لقاءاته عن النيّة في تنظيم علاقة المكوّنات السورية المختلفة بالدولة، ما يشي برغبة في التعامل مع الطوائف المختلفة بوصفها كيانات ذات بعد سياسي. في رأينا أن السير في هذا الطريق لا ينتج إلا دولة ذات فشل مستدام.

العربي الجديد

——————————–

لكنّها الطائفيّة… أليس كذلك؟/ حازم صاغية

29 ديسمبر 2024 م

لم يُسء إلى فهمنا أحوال المشرق وأحوالنا فيه كما أساءت بضع نظريّات متعاقبة، اختلفت في مصادرها الفكريّة واتّفقت في مؤدّاها العمليّ، فيما كانت الطائفيّة (والإثنيّة) ضحيّة تلك النظريّات الأولى. وإنّما بفعل موقع تلك الطائفيّة من حياتنا وعلاقاتنا، أدّى التجهيل بها إلى تعقيد المعالجة وجعل المعاناة معها أخطر وأشدّ تهديداً.

ففي عقود سابقة سادت نظريّةٌ عمّمها الحكّام، وأغلبهم عسكريّون نشأوا على القوميّة العربيّة، من أنّ الطائفيّة شرٌّ أوجده الاستعمار. أمّا نحن فأبناء «شعب واحد» ينتظر لحظة انبلاج وعيه بهويّته القوميّة. ولم يكن المثقّفون القوميّون أشدّ رأفة بالإثنيّة، فنسّب ميشيل عفلق أمازيغ المغرب العربيّ إلى العرب، وكلّما كان الكرد يذكرون كرديّتهم، كان يذكّرهم قوميّ عربيّ بـ»عروبة» جدّهم صلاح الدين، حتّى كادوا يلفّون رُفات جدّهم بورق ملوّن ويُهدونه إلى القوميّين العرب.

لاحقاً، وعلى أيدي مثقّفين أغلبهم يساريّون، تفوّقَ الفشل في فهم الواقع على الفشل في تغييره. هكذا استُصغر الكلام عن الطائفيّة التي ما هي سوى «تمظهُر» لصراعات طبقيّة، أو نتيجة من نتائج دخول مجتمعاتنا السوقَ الرأسماليّة العالميّة، أو خديعة تمارسها البورجوازيّة لتفتيت الجماهير الكادحة. وبجهد مشترك قوميّ – إسلاميّ – يساريّ، شاعت خرافة أخرى تفيد أنّ الطائفيّة افتئات علينا انكبّ المستشرقون على اختراعه.

وبدورهم، كان هناك دائماً «تحديثيّون» يعوّلون على زمن حياديّ ساذج، معتبرين أنّ العلم وتعاقب الأجيال يبدّدان هذه الآفة «البغيضة» ويضعاننا في صدارة عالم «متمدّن» ينتظر قدومنا إليه.

وها نحن اليوم نرى في الطائفيّة شيئاً أكثر وأكبر من كلّ ما أعلنته تلك الترّهات. وهذا ليس لأنّنا طائفيّون «بطبيعتنا»، لكنّ ما جعلنا كذلك أمواجٌ متلاحقة أمسك القديم منها بتلابيب الحديث. وكان آخر الموجات نمطٌ من الأنظمة التي صادرت الفضاء العامّ كلّيّاً، وتأدّى عن فئويّتها الممزوجة بالقهر استنقاعُ الولاءات وتكلّس الأفكار الاجتماعيّة والتصوّراتِ الدينيّة، وفي الآن نفسه ما يشبه المأسَسَة للولاءات تلك. وقد غرف هذا النمط، الذي جعل كلّ سيّء أسوأ، من بحر سابق عليه في الانقسام العصبيّ لم يمهّد لأيّ مجتمع سياسيّ. لكنّنا، مع ذلك، آثرنا أن ننسى أنّ كتب تاريخنا تكاد لا تقدّمنا إلاّ كعرب وعجم ومَوالٍ وأهل ذمّة، وكحارات يهود ونصارى، وجبال علويّين ودروز. ولئن لم تتعرّض تلك الروابط العصبيّة لما يصدّعها، على النحو الذي عرفه النسق الغربيّ، وسّعت الأنظمة الأمنيّة المذكورة أعلاه الفوارق القديمة وكرّستها بدل تضييقها من ضمن مشروع لبناء جماعات وطنيّة.

بلغة أخرى، ليست الطائفيّة قدراً حتميّاً، لكنّها جُعلت شيئاً قريباً من هذا، وآخرُ التجلّيات ما نراه راهناً في سوريّا. فالنظام المتسبِّب بتعظيمها سُوّي بالأرض، إلاّ أنّه تركها قادرة على إنتاج أنظمة ووقائع تبعاً لعديد العلاقات التي أقامها، ولكنْ أيضاً لعديد الضغائن والأحقاد التي أثارها.

والحال أنّ أبناء الثورة السوريّة وبناتها يعبّرون اليوم، مَدفوعين بوطنيّة أخلاقيّة رفيعة وعادلة، عن انتقاداتهم للوضع الجديد وسلطاته. وهؤلاء، كما هو شديد الوضوح، متجرّدون من ولائهم لجماعة طائفيّة أو عرقيّة، منحازون لقيم يُفترض أن تُبنى الدول على قاعدتها. لكنّ أمر الفعاليّة في مواجهة الواقع المنقسم على أساس طائفيّ يبقى مسألة مشكوكاً فيها، سيّما وقد صحّر النظام الساقط الحياة السياسيّة، فيما وجدت نفسَها النُوى الحديثة والتقدّميّة ضعيفة التنظيم، لا تملك الموقع التفاوضيّ القويّ في مواجهة قوى الطوائف. ويُخشى أن تؤول الأوضاع إلى صدام بين حساسيّتين جائرتين ومُحتقنتين، يصعب أن يزحزحهما ويحدّ من ميلهما العدوانيّ أيّ شيء:

حساسيّة أكثريّة المصدر، «تطمئن» الأقلّيّات، وتهجس بسلطان «عادل»، كما تستأثر بالسلطة بذريعة أنّها الطرف الذي أسقط النظام، ثمّ تمضي في بناء نظام «جديد» قوامه الاستبداد والتغلّب. وهي تفعل هذا استناداً إلى مراجع في الحكم لا يُقرّ سواها بشرعيّتها، فيُصار إلى حصر نطاق السلطة في مُوالين يؤمنون بتلك المراجع نفسها، مندفعين، في ولائهم ليقينهم، إلى ممارسة التعذيب والإذلال بحقّ المختلفين، ناهيك عن الخصوم.

وحساسيّة أخرى أقلّية المصدر، أنانيّة وغير معنيّة بأنّ إباديّة النظام الساقط استهدفت الأكثريّة وحدها، وأنّ عليها بالتالي أن تفعل اليوم ما امتنعت عنه بالأمس، فتتضامن مع ضحايا الإبادة وتحضّ على إرساء عدالة غير انتقاميّة وبيئة وطنيّة أشدّ صحّيّة ونقاء، وهذا فضلاً عن رفع الإبادة إلى ركن من أركان البناء الذي تنهض فوقه سوريّا الجديدة.

صحيح أنّ إيران وتركيّا وغيرهما من الدول تملك مخطّطات ومشاريع تتعارض مع سوريّا المستقرّة البديل، لكنّ التركيز على المسألة الطائفيّة والإثنيّة هو مدخل التعاطي مع التحدّيات، بما فيها المخطّطات والمشاريع. ولربّما أمكن، حرصاً على وحدة الوطن وتنظيماً للتعدّد وضبطاً له في قنوات سلميّة، استلهام ما فعله الانتداب الفرنسيّ خلال 1922 – 1924 حين حوّل سوريّا دولة فيدراليّة. فهنا أيضاً لم يخطىء الانتداب كثيراً، أو أنّه، على الأقلّ، أخطأ أقلّ ممّا فعل مقاوموه.

الشرق الأوسط

—————————-

الحوار الوطني والبداية المخيبة/ عبسي سميسم

29 ديسمبر 2024

بدأت أمس السبت أولى خطوات الحوار الوطني الجامع للسوريين بكل مكوناتهم الذي أعلنت الإدارة الجديدة لسورية أنها بصدد عقده، وتمثّلت الخطوة الأولى بمؤتمر سُمي المؤتمر التمهيدي للحوار الوطني، الذي عُقد بفندق قيصر بالاس في دمشق، وجمع شخصيات في غالبيتها من العشائر وبعض ممثلي الطائفة الدرزية ومن القومية الشركسية، ومن التركمان، ومن القومية الكردية، ومن بعض المكونات الأخرى.

وعلى الرغم من أن رئاسة جلسة هذا الحوار قد أوكلت إلى سيدة، فإنّ عدد الممثلين من النساء لم يتجاوز ثلاث سيدات في كل قاعة المؤتمر التي زاد الحضور فيها على مائة شخص. أما آلية تنظيم المؤتمر، ومعايير اختيار ممثليه وأهدافه، فقد بدا من عدد ممن التقتهم “العربي الجديد”، سواء من منظمين لهذا المؤتمر أو مدعوين إليه، بصفة ممثلين عن فئة معينة، عدم المعرفة بأي آليات ستُتبع من أجل الوصول إلى الحوار الوطني المنشود. فبعضهم يعتقد أن هذا المؤتمر هو مؤتمر عشائري من أجل انتقاء ممثلين عن العشائر لمؤتمر الحوار الوطني، فيما يرى البعض الآخر أنه مؤتمر تمهيدي يضم مكونات الشعب السوري تمهيداً للحوار الوطني العام، فيما كان يردد البعض الآخر شعارات من قبيل الاصطفاف خلف القيادة “الحكيمة” الحالية. أما منظمو المؤتمر، فأكدوا أن المؤتمر يضم السوريين من كل المكونات السورية الثورية، من مختلف الطوائف، وأن اختيارهم جاء بناءً على ترشيحات المنظمين أنفسهم.

وخلا المؤتمر من ممثلين عن أي حزب أو تيار سياسي، الأمر الذي فسره أحد المنظمين بأن المؤتمر مؤتمر شعبي اجتماعي، ولا يحمل صبغة سياسية، لذلك لم تُدعَ أي جهة سياسية، بل اقتصرت الدعوات على وجاهات ورؤساء عشائر ممثلين لمجتمعاتهم فيه. كذلك تُليَ بيان ختامي، عبارة عن كلام إنشائي يؤكد وحدة الأراضي السورية، وضرورة تكاتف الجهود من أجل بناء سورية المستقبل، فيما خلا من أي إدانة للتوغل الإسرائيلي داخل الأراضي السورية.

تنذر هذه الخطوة التي سُميت مؤتمراً تمهيدياً للحوار الوطني، بنتائج كارثية في ما لو جرى السير بالآليات نفسها التي ستوصل إلى مؤتمر الحوار الوطني، الذي يجب أن يعتمد على معايير واضحة وعلنية في اختيار ممثلين عن كل السوريين، بكل مكوناتهم، من دون إقصاء أي مكون، وأن تكون تلك الآليات معلنة للجميع، للبدء بأولى الخطوات على الطريق الصحيح والطويل للوصول إلى سورية التي ينشدها كل السوريين. وقد يكون مبرراً عدم الثقة التي تبديها الإدارة الجديدة خلال مرحلة حكومة تسيير الأعمال بالاعتماد على عناصرها فقط في إدارة شؤون البلاد خلال هذه المرحلة، إلا أن آليات اختيار ممثلي المؤتمر الوطني يجب أن تتمتع بالشفافية القصوى والانفتاح على الجميع، وعدم اتّباع الأساليب السابقة في تشكيل عمليات تمثيل مزيفة من خلال وضع شخصيات من مكونات مختلفة تدين بالولاء لجهة معينة وفرضها على السوريين، الأمر الذي لن يقبله السوريون بعد الفرصة التاريخية التي أتيحت لهم لإنجاز دولة مواطنة وقانون تحتوي الجميع.

العربي الجديد

——————————–

من الثورة إلى الدولة يا أحمد الشرع!/ عمار ديوب

29 ديسمبر 2024

هي أيام على هروب بشّار الأسد. يُلقي أحمد الشرع تصريحات يومية، تغطّي كل القضايا التي تخصّ الانتقال من الثورة إلى الدولة. المرحلة معقّدة للغاية، والشرع وحيداً في مواجهة أزمات الداخل، بما فيها تعدّد قوى “الهيئة”، وبدأ الخارج يضغط بشدّةٍ، وقد زاره موفد الأمم المتحدة، غير بيدرسون، وتباحث معه في كيفية تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، والوفود الدولية تتقاطر يومياً. طبعاً هناك دول داعمة للشرع.

من أبرز التعقيدات (الآن) تقدّم جيش الدولة الصهيونية إلى أبواب دمشق، وهو يبعد عدّة كيلومترات عن مقرّ الشرع (هناك معلومات عن تراجعها واحتفاظها بجبل الشيخ)، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شرق سورية، وفصائل الجيش الوطني وجيش سورية الحرّة، وحتى قوات أحمد العودة في درعا، وقيادات النظام الأمنية والعسكرية وكبار الشبيحة لم تُعتقَل بعد، والمعارضة المكرّسة تناور وتستعين بالدول لتستوزر فقط، والأمن ما زال في غاية الهشاشة، بينما تضغط قوى هيئة تحرير الشام لتكون المهيمنة على مفاصل الدولة في العاصمة بشكل خاص، وفي بقيّة المدن، ورجالها مصدر ثقة لدى الشرع. وراحت أطر “الهيئة” تملأ المناصب الأساسية، ليس في الحكومة المؤقّتة فقط، بل أيضاً في القضاء والإعلام والهيئات الاقتصادية والمحافظين. والشرع يقدّم نفسه زعيماً لسورية، وينوي الترشّح “إن طُلِب منه”، يكرّر إن علينا أن نغادر عقلية المعارضة إلى الدولة، ولكنّ تعييناته تنطلق من الشخصيات التي جاءت من إدلب، أي لا تزال عقليته مُحتجَزة في مرحلة المعارضة.

نعم، دخلت سورية مرحلةً جديدةً، وسيكون التجريب كثيراً فيها، ولكنّ ابتعاد الشرع عن الحوار والنقاش مع الشخصيات الوطنية في داخل سورية يقيّده ضمن أطر وعقلية وفِكَر وسياسات “الهيئة”، وهذا مطبٌّ كبير، وتفكير ما قبل الدولة. والدولة تحتاج عقليات وسياسات وطنية وجامعة، تحتاج عقلية تتجاوز مفهوم الطوائف وتتبنّى مفهوم الشعب والمواطنين. يؤكّد الشرع أن العقد الاجتماعي /السياسي المقبل سيكون بين الطوائف، ولن “تكون محاصصة ولا خصوصية ولا انفصال”. طبعاً، أكّدت كل بيانات “الهيئة” (ومنذ معركة حلب) مفهوم المكوّنات، وإن لناحية تطمينها. ليس الانطلاق من هذه الزاوية في الفهم سليماً، ويؤسّس مستقبلاً لنوع من الطائفية السياسية، فعدم المحاصصة يعني عدم المساواة بين الطوائف، ومن ثم، هيمنة الأغلبية السنّية. اللحظة الراهنة مكبّلة بالأزمات والضغوط الخارجية، وعلى القوة المهيمنة في دمشق أن تتذكّر أن قرار مجلس الأمن 2254، ينصّ على ألّا تكون الدولة طائفية. يتوجّه الضغط الدولي، مباشرة، إلى هيئة تحرير الشام، وإلى أحمد الشرع. شُطِبت المكافأة الأميركية المخصّصة لاعتقال الشرع حين زاره الوفد الأميركي في دمشق، ولكنّ “الهيئة” ما تزال مصنّفةً إرهابيةً، وهذا بالون اختبار لشروطٍ تضعها عليها الإدارة الأميركية والاتحاد الأوربي، ولا سيّما بخصوص الموقف من دولة الاحتلال وقضية احتلال الجولان. هناك حالياً تجديد للضغط وللشروط عبر القرار 2254 أخيراً في اجتماع مجلس الأمن. بدأت الضغوط الخارجية تُفعّل، ولا يستطيع الشرع مواجهتها بالقول إن القرار يجب أن يتغيّر، فقد أصبح هذا القرار بسقوط النظام ميتاً بصيغته القديمة، ولكن هناك دول قوية تصرُّ على إحيائه… الآن، إلى أين سيهرب الشرع، فهو الشخصية الأولى في “الهيئة” والعالم يتربّص به، وعليه أن يتّخذ القرارات الصعبة لينجو وتنجو سورية.

تكلم الشرع على دعوةٍ إلى عقد مؤتمر حوار وطني، وهناك مسوّدة إعلان دستوري لتنظيم المرحلة الانتقالية، وهذا توجّه صحيح، ولكن ليس من الصواب تشكيل لجنة لتدارس موضوع الدستور كما صرّح. إن تأسيس الدولة يتطلّب التفكير في المؤسّسات والقوانين العامّة، وهي فكرة يؤكّدها الشرع كثيراً، ولكنّ ذلك يمرّ عبر إشراك مختلف الفعّاليات الاقتصادية والسياسية والثقافية، وإيقاف تعيينات كوادر “الهيئة” في المناصب الرئيسة، والاستعانة بشخصيات نزيهة لمرحلة مؤقّتة، كانت مُستبعدة من النظام السابق. تكون مواجهة الضغوط بالالتفات إلى الداخل، والاستعانة بالشعب ونخبه، وهو ما رفضه النظام القديم، وأتى بالإيرانيين والروس، وكانت النتيجة ما آل إليه الوضع منذ 2011. اللحظة الراهنة هي لحظة الاختيار بين تنفيذ متطلّبات الخارج والالتفات إلى الداخل. ونضيف، ضبط الخلافات مع تنويعات “الهيئة” وتفكيكها، وتأسيس جيش وطني بديل من “إدارة العمليات العسكرية”. بوضوح شديد، فشلت (وأُفشِلت) تجارب إسلامية في الحكم في مصر وتونس بعد 2011، وهناك دول كثيرة رافضة لإعادة التجربة في سورية، وعملت (وستعمل) لتحطيمها وتحطيم سورية. وعكس ذلك، هناك رضىً سوري عامّ على توجّهات “الهيئة”، ولكن الانتقادات بدأت تتصاعد، والحذر بدأ يقوى ويشتدّ، ويطالب بالتشاركية السياسية، ولم تُعلِن بعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تظاهراتها.

أمّا مسوّدة الإعلان الدستوري المتداولة فتقع في تناقضٍ، إذ تجمع موادَّ تستند إلى المرجعية الإسلامية، وأخرى تنطلق من المواطنة وحقوق الانسان. أيضاً، هناك ضرورة لتوسيع النقاشات، وعدم الاكتفاء بشخصيات وكيانات مقرّبة من أحمد الشرع بغية تشكيل هيئة حكم موسّعة من المعارضين الثقات، أو الشخصيات الوطنية، واستناداً إلى روح القرار 2254، والإصرار على تعديله، وهو ما نتّفق فيه مع الشرع، لجهة إلغاء أيّ نصوص تتعلّق بالنظام السابق، وسيساهم هذا في تخفيف الضغوط الخارجية، ويُبرّد الحذر ويُنقذ “الهيئة” من الضغوط، ولكن يجب تفكيكيها، وربّما هذا سيضع حدّاً للشروط الخارجية أو يرفع العقوبات، ومن ثم، تخفيف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وليست “الهيئة” وحدها معنية بتغيير ذاتها، بل كذلك مختلف الفعّاليات السورية. الإكثار من التجريب والفِكَر العشوائية في لحظة الأزمات والانتقال يعني غياب النقاشات الجادّة، ويعني عدم الاعتماد على سياسات واضحة وخطوات دقيقة للنهوض بالدولة، وربّما يتضمّن الركون إلى الوعود الخارجية. إن الوضع، ومجمل الأزمات والضغوط، تقتضي الانتقال إلى تلك السياسات، فهل تبدأ النقاشات الموسّعة من أجل إقرار السياسات؟

—————————————-

أبرزها الأموال المهربة.. 5 ملفات اقتصادية كبرى على طاولة الإدارة الجديدة في سوريا

ميدان – الليرة السورية مقابل الدولار

29/12/2024

بعد أكثر من عقد من الصراع المدمر، وسقوط بشار الأسد، أصبحت سوريا أمام تحديات كبيرة فيما يخص بنيتها التحتية التي دمرتها الحرب، حيث تعاني من تدهور في قطاعاتها الرئيسية مثل الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والطاقة، ومن المتوقع أن تستغرق إعادة بنائها أكثر من 10 سنوات، بحسب الخبراء.

ونسلط بهذا التقرير الضوء على 5 ملفات اقتصادية رئيسية تواجه الحكم الجديد في سوريا، أبرزها الأموال المنهوبة وتلك التي أخذها الأسد معه، ومصير العملة المحلية، والديون المتراكمة على البلاد، وتكلفة إعادة الإعمار، وتأثير العقوبات التي خلفها النظام المخلوع على كاهل السوريين.

    الأموال المهربة

تتضارب الأرقام بشأن حجم الثروة التي أخذها الأسد معه قبل هروبه إلى روسيا، بين مئات الملايين ومليارات الدولارات، فبحسب تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية فإن المركزي السوري في عهد بشار نقل نحو 250 مليون دولار نقدا إلى موسكو خلال عامين عندما كان آنذاك مدينا للكرملين مقابل الدعم العسكري وكان أقاربه يشترون أصولا في روسيا سرا.

وكشفت الصحيفة عن سجلات تُظهر أن نظام الأسد نقل أوراقا نقدية جوا تزن ما يقرب من طنين من فئة 100 دولار و500 يورو إلى مطار فنوكوفو في موسكو لإيداعها في البنوك الروسية الخاضعة للعقوبات بين عامي 2018 و2019.

كما ذكرت الصحيفة أن عائلة الأسد تمتلك ما لا يقل عن 18 شقة فاخرة في موسكو، وأشارت إلى أن أفراد العائلة الممتدة كانوا يشترون الكثير من الأصول في روسيا بين عامي 2018 و2019.

ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي وبنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، بلغت احتياطات سوريا من الدولار عام 2010 قبل اندلاع الثورة نحو 18.5 مليار دولار، كما ذكر مجلس الذهب العالمي أن سوريا كانت تمتلك نحو 25 طنًا من المعدن النفيس في يونيو/حزيران 2011.

ويقول الإعلامي والمحلل السوري عدنان عبد الرزاق إن الأسد نقل -الأيام العشر الأخيرة قبل هروبه- كميات طائلة من الذهب والدولارات، ويضيف للجزيرة نت أن عائلة الأسد تمتلك ثروات كبيرة، سواء في المصارف السويسرية أو حول العالم، والآن بدأت تكشف حجم العقارات وحجم الأموال المنهوبة.

    قيمة العملة

وعن وضع العملة السورية وآفاقها المستقبلية، يقول عبد الرزاق إنها ترتبط بعوامل اقتصادية ونفسية وسياسية، أبرزها الاطمئنان للاستقرار السياسي، مشيرا إلى أن الليرة السورية تحسنت بشكل مباشر ليلة سقوط الأسد.

وأضاف أن ثبات سعر الصرف يتوقف على عوامل كثيرة أهمها حجم الصادرات، وبالتالي الإنتاج، مما يعود على البلاد بالعملة الصعبة، ويعني توازن المعروض بين العمل المحلية والعملات الأجنبية.

وكان وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال باسل عبد الحنان قد تحدث للجزيرة نت -في وقت سابق- عن خطة إنقاذ الليرة من الانهيار، وقال إن الهدف الرئيسي أولا تثبيت سعر الصرف من أجل استقرار الأسواق وتحريك عجلة التبادل التجاري.

وأضاف أنه في المستقبل، ومع تحرك عجلة الإنتاج والبدء بالتصدير، سيكون ثمة خطوات ترفع من قيمة الليرة، لكن الواقع الحالي يحتاج إلى جهود كبيرة بالإضافة إلى تضافر جميع الجهود.

وأوضح أن العامل الأهم لتقوية الليرة هو الإنتاج والتصدير لإدخال عملة صعبة وزيادة الاحتياط النقدي منها، وبالتالي ازدياد قوة العملة، فضلًا عن تحقيق استقرار في سعر الصرف لاستقرار حركة التداول التجاري والنقدي.

أما أستاذ الإدارة المالية بجامعة باشاك شهير التركية فراس شعبو فيتوقع أن يأخذ ملف تعافي الليرة بعض الوقت، وقال في تصريحات للجزيرة نت إن “العملة هي مرآة للاقتصاد” وقيمة الليرة متردية بشكل كبير وقد تتعرض للانخفاض مستقبلا.

ولكن شعبو متفائل بنهوض العملة السورية ويربطه بالقدرة على تنشيط الاقتصاد وإعادة الثقة بمؤسسات الدولة والنهوض بالناتج المحلي الإجمالي الذي كان يبلغ 61.3 مليار دولار عام 2010 وتراجع إلى 7.4 مليارات عام 2023.

وقال للجزيرة نت “على حكومة تصريف الأعمال في سوريا إعادة الثقة بالاقتصاد عبر تحقيق استقرار نقدي وسياسي، وإعطاء حرية للقطاع الخاص وإيجاد قوانين تضمن حقوقه”.

بدوره، يتوقع الباحث الاقتصادي في مركز أبعاد للدراسات خالد التركاوي ألا تكون هناك تعديلات كبيرة على سعر الليرة، ما لم تكن هناك تغيرات كبيرة في القضايا السياسية والأمنية.

ويعتقد التركاوي أن سوريا مقبلة على مرحلة من الاستقرار، وبالتالي ستتبع الليرة هذا الاستقرار، مؤكدا أن القوة تكمن في الاستقرار وليس ارتفاع أو انخفاض العملة.

    الديون

يقول الباحث فايز أبو عيد إن الرئيس المخلوع ترك سوريا ممزقة، ومثقلة بالديون وفي حالة انهيار اقتصادي تام، ووفقاً للتقرير السنوي الذي أصدرته مجموعة البنك الدولي عام 2022، فإن حجم الديون الخارجية المترتبة على سوريا بلغت 5 مليارات دولار نهاية 2021 ارتفاعاً من 4.8 مليارات عام 2020.

أما شعبو فيشير إلى أن ديون سوريا تشمل أيضا مليارات الدولارات المستحقة لكل من روسيا وإيران، والتي تضاربت الأرقام بشأنها إلى حد 100 مليار دولار، لافتا بهذا الصدد إلى “الديون الكريهة” وهو مصطلح اقتصادي يستخدم عند قيام الدولة بأخذ قروض واستخدامها في قتل شعبها وفي ممارسات غير شرعية.

    إعادة الإعمار

تحتاج سوريا للكثير بعد الدمار الذي تعرضت له في العقود الماضية، فوفقا للمصرف المركزي انكمش الاقتصاد بنسبة 85% منذ بداية الحرب عام 2011.

وبحسب  الوزير عبد الحنان فإن العديد من المنظمات المحلية والدولية أرسلت مندوبين لها إلى سوريا لوضع خطط وتقييم احتياجات وأولويات من أجل إعادة الإعمار، وأن هناك تواصلا مع الجهات الدولية المعنية من أجل تسريع هذا الأمر وتنظيمه بشكل صحيح، مؤكدا أنه لا يمكن توقع زمن محدد لإعادة الإعمار قبل تقييم الاحتياجات.

وفيما يتعلق بتكلفة إعادة الإعمار، تراوحت التقديرات ما بين 200 و400 مليار دولار، وعنها يقول الباحث الاقتصادي تركاوي إن الأمر يتطلب تحديد الهدف الأساسي، سواء كان ترتيب البنية التحتية أو إعادة بناء المدن المدمرة بالكامل، فقد يستغرق ذلك حوالي 10 سنوات.

وأضاف للجزيرة نت أن الهدف يشمل إعادة بناء المدن التي تعرضت للدمار الكامل، مثل مدينة حمص القديمة التي تضررت بنسبة 70% بين عامي 2011 و2014، وينطبق الأمر على مناطق أخرى مثل شرق حلب، ريف دمشق، ودرعا.

أما الإعلامي عبد الرزاق فيشدد على ضرورة تحديد حجم الدمار أولا، ومن ثم البحث في تكاليف إعادة الاعمار، مشيرا إلى أن التقديرات الدولية تتحدث عن 400 مليار دولار.

    العقوبات

مع اندلاع الثورة عام 2011 وتصاعد المواجهة بين المحتجين ونظام الأسد واستخدام القمع، بدأت الولايات المتحدة وجهات أوروبية وعربية بإصدار عقوبات على النظام.

وتوسعت العقوبات وتعددت أشكالها ونطاق عملها على مر الأعوام، وكان من أبرزها “قانون قيصر” الذي سنته الولايات المتحدة وبدأ العمل به عام 2020، و”قانون مكافحة الكبتاغون” 1 و2.

وكان الهدف من العقوبات الغربية المختلفة ضد نظام البعث هو وقف عنف النظام في البلاد والتحول إلى عملية الإصلاح، خاصة في ضوء الحرب الأهلية، والعنف ضد المدنيين، وانتهاكات حقوق الإنسان، وجرائم الحرب، ودعم المنظمات الإرهابية.

ولكن هذه العقوبات -التي سعت لإضعاف نظام عائلة الأسد ومعاقبته- خلفت أيضا عبئا كبيرا على الشعب السوري، لذلك فمن المتوقع أن يعجل رفعها بعد سقوط النظام عملية الانتعاش الاقتصادي ويساعد على تنميتها.

وتحرص الإدارة السورية الجديدة على إقناع العالم برفع العقوبات المفروضة، لتمكين الجهات الراغبة في الاستثمار بالبلاد والتي تحتاج مبالغ طائلة لإعادة إعمارها وتوفير حاجيات كثيرة يفتقدها السكان.

ويقول وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال إن تأثير العقوبات المفروضة على بلاده كبير، خاصة على إعادة الإعمار لأنها تتطلب استثمارات في البنى التحتية بقطاع توليد الكهرباء والمياه والصناعات المتقدمة، مضيفا أن هذه القطاعات تحتاج دخول شركات قوية في حين أن العقوبات تعيق دخول هذه الشركات من أجل إعادة الإعمار.

وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد طالبت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى رفع العقوبات الاقتصادية بعد إسقاط نظام الأسد، لتمكين السوريين من النهوض ببلادهم، مع الإبقاء على العقوبات الفردية التي تستهدف الأفراد المرتبطين بانتهاكات لحقوق الإنسان.

المصدر : الجزيرة

—————————————–

الإدارة السورية الجديدة ومواجهة ضغوط الخارج/ عمر كوش

29/12/2024

لقاء جمع القائد أحمد الشرع مع الفصائل العسكرية نوقش فيه شكل المؤسسة العسكرية في سوريا الجديدة – ادارة العمليات العسكرية عبر تلغرام

لقاء جمع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع مع الفصائل العسكرية نوقش فيه شكل المؤسسة العسكرية في سوريا الجديدة – إدارة العمليات العسكرية عبر تلغرام (مواقع التواصل الإجتماعي)

شهدت الأيام القليلة الماضية زيادة في زخم الحراك السياسي الإقليمي والدولي بشأن الوضع في سوريا، وذلك بعد هروب بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وسقوط النظام الأسدي، حيث وصلت عدة وفود دولية إلى دمشق من أجل نسج علاقات مع الإدارة الجديدة للبلاد، والبحث في العديد من الملفات المتعلقة بشكل الحكم وتركيبته، والعلاقة مع دول الجوار، ومع باقي دول العالم، وكيفية تحقيق الأمن والاستقرار وسوى ذلك.

الموقف التركي

كانت تركيا أولى الدول التي تواصلت بشكل مباشر مع السلطات الجديدة، فأرسلت إلى العاصمة دمشق وفدًا يضم كلًا من وزير الخارجية هاكان فيدان ورئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن، والتقيا بالقائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، الذي قاد سيارة برفقة كالن إلى الجامع الأموي.

وسبق أن وعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سبتمبر/ أيلول من عام 2012 بالصلاة في هذا الجامع، وأن يقرأ سورة الفاتحة فوق قبر صلاح الدين الأيوبي. ويمكن القول إن الطريق بات ممهدًا له كي يحقق وعده في أحد الأيام المقبلة.

ليس خافيًا أن الوضع في سوريا تعتبره الطبقة السياسية في تركيا مسألة وطنية، بالنظر إلى تشارك الدولتين بحوالي 950 كيلومترًا من الحدود بينهما، إلى جانب العلاقات التاريخية والثقافية بين البلدين الجارين، والقلق التركي من إمكانية قيام كيان انفصالي في مناطق شرقي نهر الفرات التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ومخرجاته المدنية ممثلة بمجلس سوريا الديمقراطي (مسد)، والعسكرية ممثلة بوحدات حماية الشعب الكردية التي تشكل عماد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، حيث تعتبر تركيا أن هذه المكونات هي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني الذي تخوض ضده حربًا منذ ثمانينيات القرن العشرين الماضي.

تتمحور مواقف تركيا وأولوياتها، في علاقتها مع السلطات السورية الجديدة، حول مطالبتها بتشكيل حكومة جامعة، بما يعني عدم استبعاد الهيئات السياسية المقربة منها، وفصائل ما يسمى “الجيش الوطني” المدعومة من طرفها، ومكافحة الإرهاب، والمقصود به عدم السماح باستمرار سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته على مناطق في شرقي الفرات، إضافة إلى استعداد أنقرة للمساهمة في إعادة إعمار ما تهدم في سوريا خلال السنوات السابقة.

وقد وعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمساعدة الشعب السوري في تحقيق الاستقرار، واعتبر أن بلاده تتطلع بصدق إلى بناء سوريا خالية من الإرهاب، يعيش فيها جميع الأديان والمذاهب والإثنيات بسلام جنبًا إلى جنب.

الحراك الإقليمي والدولي

سارعت لجنة الاتصال الوزارية العربية، التي تضم الأردن، والسعودية، والعراق، ولبنان، ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، إلى عقد اجتماعات في مدينة العقبة الأردنية في 14 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وبحضور وزراء خارجية قطر، والإمارات، والبحرين، وتركيا، وشارك فيها ممثلون عن ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون.

وأصدرت اللجنة بيانًا شددت فيه على الحاجة إلى انتقالٍ سياسي جامع وموثوق بقيادة السوريين، ويقرره السوريون، ومبنيٍّ على المبادئ الواردة في قرار مجلس الأمن رقم 2254.

المؤسف أن ما جاء في بيان العقبة هو أقرب إلى الاشتراطات على السلطة الجديدة، مع تشكيك ضمني حيالها، في حين أن المطلوب من الدول العربية على وجه الخصوص الالتفات إلى ما عاناه السوريون خلال أكثر من 13 عامًا خلت من نظام الأسد، وفتح المجال سريعًا لإيصال المعونات الإنسانية للسوريين، ومساعدتهم في تحقيق انتقال سلس للسلطة، وإعادة إعمار ما هدمه نظام الأسد، إضافة إلى أن البيان لم يقل كلمة واحدة عن محاسبة الذين ارتكبوا المجازر والجرائم بحق السوريين، وضرورة تسليمهم للعدالة.

من جهتهم، ركز معظم قادة الدول الغربية، منذ الأيام الأولى لفرار بشار الأسد، على ضرورة إجراء عملية انتقالية سياسية جامعة، وتمثل جميع المكونات، إضافة لحماية الأقليات وضمان حقوق المرأة، ومكافحة الإرهاب.

وهناك إجماع لدى معظم ساسة الدول الغربية، وأيضًا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، على أن علاقات الغرب مع سوريا بعد سقوط نظام الأسد تحددها مجموعة عوامل.

وأسهم سقوط هذا النظام في إنهاء مرحلة ساد فيها ستاتيكو، نهض على إضعاف النظام وعزله وفرض عقوبات عليه، كي يذعن للانخراط في حل سياسي. وساهم إسقاط النظام في تلقي إيران وحلفائها في المنطقة ضربة قوية تضاف إلى الضربات الكبيرة الأخرى، حيث أفضى إلى تغيير توازن القوى وقواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب خارطتها بما يتناسب من زيادة نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، وتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية فيها.

ومع ذلك فإن المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط لن تكون سلسة وطيّعة، لذلك لجأت الإدارة الأميركية إلى إجراء اتصالات مباشرة مع “هيئة تحرير الشام”، على الرغم من أنها ما تزال تصنفها منظمة إرهابية، وهو أمر تحتاجه هيئة تحرير الشام بالنظر إلى سعيها للحصول على اعتراف دولي، يمنحها شرعية خارجية لحكم سوريا في المرحلة المقبلة.

أما الحراك الأوروبي، فلم يتأخر بدوره، إذ أرسلت كل من فرنسا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي، وفودًا إلى دمشق، وتم رفع العلم الفرنسي على السفارة الفرنسية بدمشق للمرة الأولى منذ 12 عامًا.

الضغوط والاشتراطات

ركّز المسؤولون الغربيون على مطالب، أو بالأحرى شروط، تتمحور حول ضرورة إشراك كل مكونات المجتمع السوري في مفاصل الحكم، الذي يتوجب عليه ألا يستثني أحدًا، مع احترام حقوق الأقليات، وضمان عدم تحول سوريا إلى ساحة للتنظيمات الإرهابية، وجرى ربط الرفع التدريجي للعقوبات الغربية المفروضة على سوريا، ورفع اسم هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية، بمدى التقدم الفعلي في تحقيق هذه الشروط.

كما رُبط ذلك أيضًا بمساهمة الدول الغربية بإعادة الإعمار. لكن الحضور الأميركي اللافت والتواصل المباشر، يعكس حرص الولايات المتحدة على عدم إضاعة الفرصة، التي تمكنها من حصد المكاسب والمنافع مما تحقق في سوريا، ورسم خارطة جديدة لمستقبل علاقات الولايات المتحدة مع سوريا بعد انتهاء مرحلة النفوذ الروسي.

يبقى أن مشهد علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع سوريا تشوبه علاقتها مع القوى المسيطرة على مناطق شرقي الفرات، التي تتداخل مع عدم رغبتها في تسليم كل الملف السوري إلى تركيا، وميلها إلى تخفيف حدة الاندفاعة التركية، الساعية إلى تعزيز نفوذها في سوريا.

ولعل مستقبل علاقات الولايات المتحدة وسوريا الجديدة، مرتبط بمدى الرغبة الأميركية الحقيقية برؤية لوحدة التراب السوري وسيادة الدولة الجديدة، خاصة أن الإدارات السابقة لم تكترث بذلك، بل ساهمت في تفتيت سوريا، وفي الحفاظ على حالة التقسيم الفعلي إلى مناطق نفوذ لقوى أمر الواقع الداخلية المدعومة من قوى خارجية مختلفة.

تطلّع السوريين

يتطلع السوريون بعد خلاصهم من نظام الأسد إلى الخلاص أيضًا من قوى الوصاية الخارجية، كي يتمكنوا من بناء جمهورية جديدة، لا يكونون فيها خارج المعادلات السياسية، ولا تتحكم بهم القوى الإقليمية والدولية التي لا تنظر إلا إلى حساباتها ومصالحها.

وعلى السلطة الجديدة إدراك أنها باتت تسير في حقول إلغام، لذلك يتوجب عليها الحذر الشديد، والموازنة بين الاعتماد على الداخل بغية تقوية نفسها بالاستناد إلى بيتها الداخلي؛ لمواجهة اشتراطات الخارج ومطامع قواه، وذلك عبر تلبية كل ما له علاقة بإشراك المجتمع السوري واحترام حقوق ناسه.

المشكلة في الضغوط الغربية أنها تطالب السلطات الجديدة بما عجزت عن تحقيقه دول الغرب مع نظام الأسد طوال عقود عديدة، إضافة إلى أن اشتراطاتها تخفي تركيزها على أمن إسرائيل، وتأمين مصالحها على حساب الأرض السورية والسوريين.

فضلًا عن أنه لم يتحدث أحد من المسؤولين الغربيين عن المواطنة ودولة المواطنة والمساواة في سوريا، مقابل تركيزهم الفج على الأقليات وحقوقها، والتعامل مع سوريا وكأنها دولة أقليات، الأمر يكشف عن عقلية خاصة لديهم لا تفترق عن عقلية استعمارية لها تاريخ طويل، يمتد إلى المسألة الشرقية.

يتعامى المسؤولون الغربيون عن تطلعات السوريين حين يطرحون اشتراطاتهم، ولا يعيرون أي اهتمام إلى حالة سوريا المنهكة والمدمرة، وحاجتها إلى مدّ يد العون والمساعدة في بناء ما تهدم، وإلى بذل جهود كبيرة للعمل على تمتين النسيج الاجتماعي الداخلي المتهتك، وتوفير الأمن والخدمات للناس، والعمل على تطوير الاقتصاد.

ويعي السوريون أنهم بحاجة إلى كسب مزيد من الداعمين لبلادهم في العالم وفي منطقتهم، لذلك فالمطلوب من القادة الجدد ممارسة السياسة بدقة وحصافة، وإتاحة المجال أمام جميع القوى الحية في المجتمع السوري من أجل بناء الدولة، وفتح الفضاء العام أمامهم للنقاش وتدارس أوضاعهم؛ بغية التعاون لإيجاد الحلول المطلوبة.

———————————-

تركيا وسوريا الجديدة/ محمود سمير الرنتيسي

2024.12.29

اتفقت كثير من التقديرات أن تركيا هي أحد أكبر الأطراف الخارجية الرابحة بعد انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، وقد ظهرت مؤشرات ذلك من تصريحات القادة الأتراك والسوريين في الإدارة الجديدة كما أن زيارات مسؤولين كبار في الدولة التركية مثل رئيس المخابرات إبراهيم كالن ووزير الخارجية هاكان فيدان لدمشق، ولقاءاتهم الدافئة مع أحمد الشرع قائد الإدارة الجديدة أعطت كثيرا من الرسائل التي تؤكد حضور تركيا الكبير والمتقدم على كثير من الأطراف الأخرى في سوريا الجديدة.

دعم بناء الدولة

ما من شك أن سوريا تحتوي على طاقات كبيرة ومؤهلة ستسهم في عملية إعادة بناء الدولة السورية وإعادة الإعمار بعد حرب خلفت دمارا كبيرا وهنا تقدم تركيا نفسها داعما كبيرا في جميع المجالات ومن الواضح أن هناك تعليمات لجميع الوزارات في تركيا لتقديم خطط التعاون في المرحلة القادمة ويجدر الإشارة أن تركيا قدمت الدعم لعدة دول قبل ذلك وأسهمت في إصلاح قطاع الأمن في ليبيا وساعدت الصومال في إعادة بناء دولته في الوقت التي تخلت عنه معظم دول العالم.

وقد نشرت تقارير كثيرة عن وزارات تركية من التعليم إلى الدفاع إلى الصحة تفيد باستعدادها للتعاون وعلى سبيل المثال قالت وزارة الدفاع التركية أنها ستدعم بشكل كامل تأسيس جيش سوري موحد وأكدت على أهمية التعاون الدفاعي بين الطرفين واستعدادها لتقديم خبراتها في مجال الصناعات الدفاعية ومن المتوقع أن تسهم تركيا هنا في بناء هيكل أمني وعسكري مستقر في سوريا.

المجتمع المدني السوري

استقبلت تركيا عددا كبيرا من اللاجئين السوريين ومع أن العملية لم تكن وردية ودخلت في عملية الاستقطاب الحزبي قبيل كل انتخابات منذ 2014 وتصاعدت إلى ذروتها في 2023، إلا أن اللاجئين السوريين في تركيا اندمجوا في المجتمع التركي واستفادوا بالتأكيد من تجارب كثيرة وعلى رأسها تجربة المجتمع المدني التي تعد تركيا صاحب تجربة كبيرة فيها منذ الدولة العثمانية ومن المرجح أن ينقل السوريون الذين عاشوا في تركيا وفي غيرها كثيرا من التجارب الإيجابية إلى المجتمع السوري الذي عانى من التضييق على مدار عقود طويلة وهو الأمر الذي سيسمح للمجتمع المدني للعمل بشكل قوي جنبا إلى جنب مع الإدارة الحكومية الرسمية.

عودة اللاجئين

كانت قضية اللاجئين السوريين ملفا حاضرا في الشأن التركي الداخلي بقوة وسيكون لمعالجة هذه القضية بطريقة متوافق عليها من الطرفين السوري والتركي مصلحة للطرفين إذ تعتبر الحكومة التركية الآن أن موقفها السياسي باستقبال اللاجئين وصولا إلى سقوط النظام أضاف إلى رصيد إنجازاتها وأفقد المعارضة ورقة لطالما لوحت بها ضد الحكومة في مشهد استقطابي قبيل كل انتخابات ومن المرجح أن تقوم تركيا بتسهيل عودة اللاجئين فقد تم الإعلان عن تخصيص معابر حدودية وإجراءات مرنة.

الأمن

كان أكبر هاجس أمني لتركيا هو إمكانية دعم دول كبرى لمشروع “دولة كردية” على حدودها وإن وجود حليف لتركيا في دمشق يعني تخفيف مخاوف أنقرة الأمنية بشكل كبير وتقوية يدها وهذا يجعلها أكثر شجاعة في تحدي الضغوط الدولية وخاصة من الغرب عليها في قضايا عديدة وعدم استخدام هذا الملف للي ذراع أنقرة في المستقبل.

التاريخ

إذا نظرنا إلى جيران تركيا سنجد عاملا مشتركا من التهديدات والعداءات والحروب والتنافس ويبرز في هذا السياق كل من اليونان وإيران أرمينيا ومن ثم العراق و سوريا وإن كان بدرجة أقل. وبعبارة أخرى لم يكن هناك أصدقاء لتركيا من بين جيرانها، ولهذا فإن وجود سوريا صديقة لأنقرة سيخلق راحة كبيرة لتركيا خاصة مع حدود طويلة بين سوريا وتركيا.

ستسعى تركيا لدعم الدولة الجديدة في سوريا بشكل كبير وهي تحاول فعل ذلك من دون استفزاز لدول أخرى ولكن مع ذلك لايمكن استبعاد التحديات التي ستواجه هذه العلاقة التعاونية الجديدة في منطقة لطالما احتوت على كثير من الأزمات بين جيرانها أسهمت أطراف خارجية عديدة في إذكائها. وفي لحظة من التاريخ خرجت هذه العلاقة بطريقة مختلفة معاكسة لتصميم قديم وبالتأكيد سيكون هناك تضييق لمنع سوريا من استعادة دورها القيادي في المنطقة ولكن يبدو أن الزخم التاريخي والحضاري برغم كل التبعات سيكون أقوى من أي تضييقات.

تلفزيون سوريا

——————————–

تركيا: عام التحولات الكبيرة في الملفات الداخلية والخارجية/ بادية حسن

تحديث 29 كانون الأول 2024

شهد عام 2024 تحولات كبيرة في السياسة الداخلية والخارجية التركية، لعب فيها الرئيس التركي دورا محوريا لقلب أحداث إقليمية كبيرة لصالح البلاد التي تئن تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة باتت تهدد استقرار واستمرار الحزب الحاكم الذي يقود البلاد منذ أكثر من عقدين.

فبينما واجهت تركيا تغييبا متعمدا في لعب دور أساسي في حل أزمات المنطقة، نظرا لموقف الرئيس التركي من حرب غزة، ورفضه إدانة هجمات السابع من اكتوبر ووصف حماس بالمنظمة الإرهابية واصراره على وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمجرم حرب، ما دفع واشنطن إلى استثناء تركيا من أي تحرك دولي يهدف إلى إنهاء الحرب في غزة أو التوسط في أي صفقة تقود إلى الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين في غزة، بل وتعمد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن استثناء تركيا من زيارته التي قام بها إلى المنطقة منذ اندلاع حرب غزة.

وقال الباحث والمحلل السياسي طه عودة أوغلو لـ«القدس العربي» إن الموقف التركي منذ السابع من أكتوبر وحتى اللحظة موقف داعم ومساند للشعب والقضية الفلسطينية. شهد الموقف في بداية المطاف نوعا من الضبابية نظرا للرفض الإسرائيلي لأي مساع تركية بالوساطة والحوار، وتأثير ملف الانتخابات الداخلية المحلية التركية، ولكن فور انتهاء الانتخابات أختلف المشهد وطبيعة المواقف التركية الحاسمة تجاه غزة وفلسطين.

ونجح اردوغان في قلب المعادلة، بلعب دور أساسي في التحركات التي قادت إلى إسقاط نظام بشار الأسد من خلال تحرك المعارضة السورية الموالية لتركيا، واستقبال قيادات حماس التي طلب منها مغادرة قطر ليعيد تركيا إلى دور الوساطة والتأثير المباشر وتجبر وزير الخارجية الأمريكي على زيارة العاصمة التركية أنقرة ولقاء الرئيس اردوغان لتنسيق المواقف والتحرك وفقا لأجندة الحلفاء.

وأوضح الباحث والمحلل السياسي طه عودة أوغلو لـ «القدس العربي» بأن العلاقات التركية الأمريكية لطالما شهدت حالات من الشد والجذب وصفحات مختلفة بين ملفات انضمام السويد إلى الناتو وملف F16 والوساطة في الملف الفلسطيني، ولكن نحن أمام صفحة جديدة من العلاقات بين أنقرة وواشنطن خاصة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض وهناك عناوين عريضة بانتظار الطرفين على رأسها غزة وسوريا وملف النفوذ الإيراني في المنطقة.

أما المحلل السياسي فراس رضوان أوغلو فأكد لـ«القدس العربي» على أن الدور التركي في الملفات الإقليمية دور حاضر وبارز ولا يمكن أخفاءه وهي الأقوى عسكريا وسياسيا، دور تركيا فاعل مع الولايات المتحدة ومع أوروبا.

انتخابات البلديات

داخليا فشل الحزب الحاكم في الفوز في انتخابات البلديات، ليخسر كبريات المدن لصالح حزب المعارضة الرئيسي (حزب الشعب الجمهوري)، لكن تحولا في الأحداث بدء يتسلل إلى أروقة المؤسسة الحاكمة يتعلق بامكانية فتح صفحة جديدة مع المعارضة الكردية التي تخوض حربا دموية مع السلطة منذ اكثر من أربعة عقود، بعد اقتراح قدمه حليف اردوغان في الحكم دولت بهجلي زعيم الحركة القومية بإطلاق سراح عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعارض والمعتقل في السجون التركية منذ عام 1999 مقابل إلقاء التنظيم لسلاحه.

وواصل المحلل السياسي فراس رضوان أوغلو لـ«القدس العربي» قوله إن هذا العام حمل العديد من التناقضات لتركيا، وأن الهجوم على أحد أهم شركات الصناعات الدفاعية في أنقرة هو خرق أمني هز الحكومة بشكل كبير، ولكن النصر الأخير لتركيا ودعم المعارضة السورية وإسقاط نظام الأسد محى وغطى على جميع المشاكل والأزمات الداخلية من أزمات الملف السوري، الاقتصاد، الأمن الداخلي والعديد من الملفات الأخرى.

وعند الحديث حول الصورة الأكبر قال لصحيفة «القدس العربي» الباحث والمحلل السياسي طه عودة أوغلو أن عام 2024 كان عاما داخليا صعبا على تركيا خاصة مع خسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية والتضخم، ولكن استطاع اردوغان بوضع بعض الإجراءات الحاسمة التي حسنت من نظرة الشعب للحزب خاصة مع مساعي الحكومة لوضع خطط في مواجهة الأزمة الاقتصادية.

تحولات كبيرة في المشهد السياسي التركي وتطورات يمكن أن تقود إلى متغير قادر على قلب الأمور لصالح اردوغان، الذي يسعى إلى إصلاح نظامه الاقتصادي المتهالك، في ظل استمرار الخسائر التي تلحق بالعملة الوطنية وارتفاع نسب التضخم، الأمر الذي يهدد بشكل كبير استقرار البلاد.

وفيما يلي قراءة لابرز الأحداث التي عاشتها تركيا داخليا وخارجيا خلال 2024:

شباط/فبراير، اردوغان يزور القاهرة ويلتقي الرئيس السيسي.

نيسان/أبريل، هنية يزور تركيا ويلتقي اردوغان.

ايار/مايو، واشنطن تلغي زيارة اردوغان للبيت الأبيض.

ايار/مايو، في تصعيد جديد تركيا تعلن عن وقف تعاملاتها التجارية مع إسرائيل ووزارة التجارة التركية تعلن أنها أوقفت تعاملات التصدير والاستيراد مع إسرائيل، بما يشمل كافة المنتجات. وأضافت أن «الإجراءات الجديدة سيتم تطبيقها بشكل صارم وحاسم إلى أن تسمح الحكومة الإسرائيلية بتدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة دون انقطاع».

تموز/يوليو، اردوغان يوجّه دعوة لبشار الأسد لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

تموز/يوليو، هبوط جديد في قيمة العملة التركية بأكثر من 11 في المئة أمام الدولار منذ بداية العام.

تموز/يوليو، وزير الدفاع السعودي يزور تركيا لتوقيع مذكرات تفاهم مع شركات الصناعات العسكرية الجوية التركية.

تموز/يوليو، تركيا تغلق حدودها مع سوريا بعد اندلاع أعمال عنف في البلدين.

تموز/يوليو، اردوغان وبوتين يجتمعان على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في العاصمة الكازاخستانية قبيل سفر اردوغان إلى واشنطن لحضور قمة زعماء حلف الناتو.

ايلول/سبتمبر الرئيس المصري السيسي يزور تركيا.

ايلول/سبتمبر اردوغان يدعو الأسد الممنوع من دخول أمريكا إلى لقاء في نيويورك.

تشرين الأول/اكتوبر، عائلة الزعيم الكردي عبدالله أوجلان تزوره في سجنه للمرة الأولى منذ 43 شهرا.

تشرين الأول/اكتوبر، اردوغان يلوح ولأول مرة بامكانية حدوث مواجهة بين تركيا وإسرائيل.

تشرين الأول/اكتوبر، دولت بهجلي، حليف الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وزعيم حزب الحركة القومية اليميني، قال إنه قد يُسمح لزعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، عبد الله أوجلان، بالتحدث أمام البرلمان التركي مع احتمال إطلاق سراحه إذا أعلن تفكيك جماعته المسلحة.

تشرين الثاني/نوفمبر، أنباء عن انتقال قيادات من حركة حماس إلى تركيا بعد ان طلبت قطر منهم مغادرة الدوحة بسبب تعثر مفاوضات إطلاق سراح الرهائن في غزة.

كانون الأول/ديسمبر، وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن يزور تركيا بعد احجامه عن زيارتها منذ اندلاع الحرب في غزة بسبب مواقف تركيا المؤيدة للفلسطينيين والمعادية لإسرائيل.

كانون الأول/ديسمبر، رئيس المخابرات الوطنية التركية إبراهيم كالين يزور دمشق للقاء أحمد الشرع كأول مسؤول أجنبي يزور البلاد بعد سقوط نظام الأسد.

كانون الأول/ديسمبر، اردوغان يشارك في قمة منظمة مجموعة الثمانية في القاهرة حول سوريا ما بعد الأسد.

القدس العربي

————————–

سورية شخصية 2024/ يقظان التقي

29 ديسمبر 2024

كانت سنة 2024 حافلةً بالأحداث المؤثّرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ شهدت تصاعد النزاعات، ومآسي الناس مع استمرار الحرب في غزّة، وتحوّلات جيوسياسية كُبرى. وانتهى العام بسقوط أسطورة الاستقرار الاستبدادي، بإزالة الغموض عن النظام السياسي التاريخي السوري، الذي مارس لخمسين عاماً ونيّف لعبةَ الأقنعة والشعارات، التي شكّلت شرعية السلطة المباشرة على المجتمع، وحرمته من القدرة على التغيير.

قبل أسابيع من نهاية العام، أظهر النظام هالةً من الاستمرارية بدأ العالم بقبولها، وبخروجه من التراكم العادي لمعطيات واقعية، وعوامل من التعفّن الداخلي، وفساد الأجهزة والفراغ المؤسّساتي، لم تصل إلى نقطة استبدالها العام 2011 بواقع مغاير مع العقوبات الاقتصادية، والتدخّلات الخارجية التي كانت عقبةً رئيسةً أمام سقوط النظام وٳزالة الأوهام حول حقيقته.

كان على العالم (مجلة التايم) أن يتذكّر أن الشعب السوري عانى أسوأ جرائم القرن الحادي والعشرين، وبدأت الحقائق تظهر في الأمن والاقتصاد والسياسة. وتحقّق العالم متأخراً ممّا نشر سابقاً، واطّلع على حجم القتل الصناعي الذي رافق النظام في سجونه وفروعه الاستخبارية وغرف التعذيب (نحو 200 ألف معتقل ومختفٍ)، لا سيّما مع اكتشاف عشرات المقابر الجماعية وكشف أعداد المفقودين.

مستوىً واسع النطاق من أعتى ديكتاتوريات العالم، التي كانت تعتبر وقتاً طويلاً شرّاً ضرورياً، وٳرثاً استبدادياً، يخلط بين الحقائق الاجتماعية والسياسية للحفاظ على الحكم بمادّة وحيدة، القتل والاغتيالات بٳسم تحرير فلسطين ومواجهة ٳسرائيل والأميركيين، من دون ٳنجازات تنموية أو ٳدارية. 13 عاماً قضاها بشّار الأسد في محاولة قصوى لقصف شعبه، انتهى من الخدمة لاجئاً عند الرئيس الروسي بوتين، مضافاً إلى الأوكراني فكتور بانوكوفيتش، والقرغيزي عسكر أكاييف، والصربي ماريو ميلوسوفيتش، في استعارة روسية لما قاله الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، عن دكتاتور نيكارغوا سوموزا. لم يدرك بشّار الأسد أن عملية ٳعادة تشكيل الشرق الأوسط جعلته بلا جدوى، وأنه نفسه لم يعد ذا فائدة، بل أصبح عبئاً على أكثر من صانع قرار كبير. 11 يوماً فقط كانت كافيةً لطيّ صفحة من الطغيان الدموي، وما كان ليواجه بالسفسطائيات، ولا بالتعويذات الدينية، ٳنّما فقط بالرجوع إلى الغضب العفوي ورفض الظلم. كان النظام ضعيفاً جدّاً بفعل العقوبات الغربية. وبالتالي، كان يواجه أزمةً وجوديةً. لم يكن الركود الوحشي يعتمد على المجتمع المحلّي الحقيقي، بل على الأسلحة الروسية والدعم الٳيراني. وبعد استسلام الأسد لحليفَيه، ٳلى جانب مصالح المافيا الداخلية، أعيد ٳلى الساحة، وأعادت دول عبر العالم تطبيع علاقاتها معه.

ٳن الدروس المستفادة من زوال حكمه هي دروس مؤلمة، ٳذ تأتي في الوقت الذي كانت فيه الحكومات العربية (باستثناء قطر والكويت) تتحرّك نحو تطبيع العلاقات معه، وتقنع أميركا بمراجعة داخلية لسياسة سورية، وترسل في العام 2024 سفراءها ٳلى دمشق توجيهاً لرسائل تطمينية لتعزيز رؤيتها لسورية. واختارت دول أوروبية التحرّك في اتجاه ٳحداث تغيير مماثل في مرحلة من الركود والاستسلام واليأس. أدركت أنقرة أنها لن تتمكّن من ٳقناع دمشق بالانضمام ٳلى مفاوضات بشأن حلّ سياسي، ولذلك قرّرت ٳعطاء الضوء الأخضر للثوار السوريين في هيئة تحرير الشام، الذين كانوا ينتظرون هذه الفرصة، للتقدّم مع ضعف ٳيران وانشغال حزب الله في لبنان، من دون أن يتهموا بالتعاون مع أحد.

ظهرت ازدواجية المعايير بوضوح لدى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وبعدم الارتياح ٳزاء الفوضى الحتمية التي تصاحب التغيير الديمقراطي. كان هذا السبب وراء تقويض حركات الاحتجاج العربي المؤيّدة للتحوّل الديمقراطي في العام 2011. لكن الاستبداد كان سببأً آخر لتمزقّات وانقسامات كبيرة في الظرف الٳنساني والاجتماعي في الشكل الأكثر نفياً لقيم الحياة والحرّية، وكان مثال التـأثير السلبي في استقرار دول أخرى. نأى العالم عن جحيم الأوضاع. لا شيئ يكسر الروح الٳنسانية أكثر من الاطلاع على ما تعرّض له السوريون في سجون المزّة وصيدنايا وتدمر وعدرا… دخلت سورية في الطور الخامس (ابن خلدون) من اصطناع النظام إخوان السوء والبطانة والفساد وتجارة الكبتاغون (5 مليارات دولار)، فيما الناس في سجونهم، وأنّى لهم الملجأ. مارس الغرب في النظام الليبرالي العالمي ادّعاءات متعلّقة بالسيادة والحرّية، غالباً ما كانت غير متوافقة، أو غير قابلة للمقارنة أخلاقياً بالحقوق المدنية.

دفع السوريون، مثلهم مثل العراقيين واليمنيين والسودانيين والليبيين والتونسيين ثمن الاختيار المتّصل بوهم الاستقرار الاستبدادي، وتفضيله على الشكوك المحيطة بالتغيير الديمقراطي، فقد كانت واضحة المساعي لتعزيز الديمقراطية في كلّ مكان بعد سقوط جدار برلين (1989)، باستثناء الشرق الأوسط. من عميق المفارقات، أنه كلما طال أمد بقاء هذه الأنظمة، زادت احتمالات سقوطها. يمكن للأنظمة أن تصمد وعلى الدعم الأجنبي أن يفعل ذلك، ويستمرّ هذا النمط في تكرار نفسه، لأن صنّاع القرار السياسي يبدون غير قادرين على تصور بديل للشرق الأوسط. وينتهي الأمر عند المستبدّين بٳقناع العالم بأنه لا غنى عنهم. لكنّ الحقائق التي تبدو ثابتة لم تعد كذلك. لا يستطيع العالم أن يتظاهر بعد الآن بأن قصتة مع تلك الأنظمة مرّت من دون مناقشة حول أزمة الديمقراطية والليبرالية والقواعد القانونية في استخدام أدوات السلطة، وما يتعلّق بمستقبل الناس.

الخوف والأمل يلّونان المشهد في سورية في الوقت نفسه، بعد السقوط المذهل لبشّار الأسد، تتركّز الأنظار نحو الترتيبات الجديدة التي تتشكّل في دمشق، وعلى موقف القوى الاقليمية المؤثّرة، التي قد تلعب دوراً فيها، وقد أُعلِن فعلاً عن الفائزين والخاسرين في الساحة الجيوسياسية. وحسناً فعلت دول الخليج، حين أعلنت، في موقف متقدّم جدّاً، استبعاد أيّ خلاف، أو صراع، أو تنافس في سورية، ومواجهة أشكال التفكّك في المنطقة (صلح وستفاليا عربي)، وفق بيان مشترك، أكّد التنسيق والتضامن والتفاهم بين دول الاجتماع الوزاري الاستثنائي المنعقد حول الشأن السوري، في لحظة خليجية مهمّة من التاريخ العربي المعاصر. والسوريون بانتظار أن تعلن هيئة تحرير الشام تصميمها رؤىً وفِكَراً عن طبيعة الحلّ السياسي، وٳعادة عمل مؤسّسات الدولة، بما فيها الجيش والأمن، بالتوازي مع المصالحة الوطنية، والبحث عن المشاركة السياسية التعدّدية، لتجنّب الصراع الداخلي. العسكرة ما عادت خياراً مع وجود فصائل أجنبية، ومن المهم تأكيد الطابع السلمي وغير العنفي في استبدال قيم النظام السابق، وولادة نظام جديد مع حلفاء أقوياء من الفاعلين في المجال المدني أو السياسي الداخلي (المعارضة السورية منقسمة في الخارج بين الأهداف والآراء).

ٳن اعتبار مدركات الآخر الثقافية والدينية والديمقراطية شرط الضرورة في تنقية العلاقات مع المجتمع الدولي، وليست شرط كفاية من دون عدالة انتقالية وتنمية اقتصادية واجتماعية وزيادة الإنتاج وعدالة التوزيع. هذا يتطلّب توعيةَ السوريين بعدم المبالغة في توقّعاتهم، مع الضغوط السياسية والاقتصادية كلّها، ومع ما تتمناه ٳسرائيل كلّه، في عدوانيتها التوسّعية (التوسع الطبيعي) في تقسيم سورية، وغيرها، ٳلى جيوب طائفية صغيرة يسهل السيطرة عليها.

العربي الجديد

——————————

بوتين يبحث عن موطئ قدم بديل/ فاطمة ياسين

29 ديسمبر 2024

كانت خسارة إيران بسقوط بشّار الأسد فادحةً، فقد قُطِعت ذراعها التي شكّلت شريان حياة لحزب الله في لبنان، وانعكست خسارتها في محاولات الاتصال بالقادة الجدد، بعد أن تلقّت ما يبدو أنه صدّ قاطع منهم، فتغيّرت تصريحاتها، وبدأت مفاعيل فشلها تظهر بوضوح. خسرت روسيا أيضاً، رغم أنها كانت تتوقّع هذا السقوط، وحاولت الخروج بماء الوجه من خلال الحديث مع تركيا، وسارعت إلى لملمة قواتها المبعثرة في التراب السوري، وجمعها في قاعدتيها الكبيرتَين في حميميم وطرطوس استعداداً لهجرة تبدو واسعةً، تتطلّب نقل كمّية المعدات والذخائر المكدّسة، مع وجود عدد كبير من الطائرات في حميميم، القاعدة التي استوطنتها روسيا في العام 2015. حينها، بنت على عجل مدرّجاً آخر يُستخدَم لطائرات الإمداد الضخمة، عملت مورّداً للعتاد بشكل رئيس بين موسكو واللاذقية، الأمر الذي جعل الأسد يبقى في كرسيّه نحو عشرة أعوام أخرى. ولم تقتصر مساعدات روسيا على تمويل جهاز عسكري ضخم أبقى سير المعركة لصالح النظام، ولكنّها جنّدت جيشاً دبلوماسياً نجح في إعادة استيعاب النظام إقليمياً بشكل كبير. وفي ليلة السقوط، أتى استسلام روسيا أسرع من استسلام بشّار، فوقفت متفرّجةً حين كانت بقايا النظام تتراجع من مدينة إلى أخرى. وبعد أن وصلت طلائع الثوّار إلى دمشق، انكمشت روسيا في قاعدتيها.

كان أداء روسيا واضحاً في الميدان السوري، ولكن فلاديمير بوتين انتظر عشرة أيّام حتى مؤتمره الصحافي السنوي، الذي قال فيه إن روسيا “لم تخسر” (!)، وعلى طريقة الأنظمة التي تجيد هندسة خسارتها، قال إنه فاز في الحرب هناك، وإنه كان موجوداً في الأصل لمحاربة الإرهاب، والسلطة الجديدة غير إرهابية، وبالتالي فقد انتصر. بغض النظر عن طرافة هذا التبرير، فشلت روسيا في إبقاء نظام الأسد، ورغم توسّلات بشّار الأسد، الذي كان في روسيا عندما كانت معارك حلب في بدايتها، لم يحظَ بمقابلة بوتين، أو أنه التقاه وقتاً قصيراً، وعندما طلب العون من وزير الخارجية سيرغي لافروف، ردّ الأخير بأنهم مشغولون في أوكرانيا. تدلّ هذه النتيجة على الخواء العسكري لروسيا، بفشلها في الاستمرار بالدفاع عن النظام، وعدم قدرتها على الاستمرار في جبهتَين في الوقت نفسه، ففضّلت الانسحاب من أحداهما، وكان لافتاً قول بوتين إن عدد المهاجمين لم يتعدَّ 400 مقاتل، في معرض انتقاده جيش الأسد. ولكنّ هذا الانتقاد يمكن أن يوجّه له شخصياً، فقد عجز طيرانه عن مواجهة العدد القليل الذي ذكره.

ذهبت جهود جميع المشاركين الروس في هذه الحرب أدراج الرياح، وتقدّر بعض المصادر أن عددهم تجاوز مليون مشارك، ناهيك عن مليارات الروبلات الروسية التي سُفحِت لينتهي الأمر بهذا الشكل المُخزي، وتتعدّى الخسارة روسيا لتصل إلى شخص بوتين نفسه الذي كان يقف وراء الحرب في سورية، وظهر مرّات عديدة إلى جانب الأسد داعماً ومشجّعاً، وذهب بعيداً بظهوره في قاعدة حميميم مع جنود الأسد وضبّاطه، ومع طياريه في القاعدة الجوية. يمكن أن تؤثّر هذه النهاية في صورة الزعيم التي يجتهد الإعلام الرسمي الروسي في رسمها لتكون زاهيةً، لكنّها في الوقع، ستبدو باهتةً بعد هذه الهزيمة الواضحة.

من الممكن أن يؤثّر موقف بوتين، الذي اتخذه خلال العقد الماضي، على العلاقات الروسية طويلة الأمد مع سورية، رغم مجاملات دبلوماسية تابعناها بين المسؤولين الروس والسوريين الجدد، وتجد روسيا نفسها اليوم مهدّدةً بخروج نهائي من شرق المتوسّط من دون أن يفقد بوتين الأمل بالوجود عند شاطئ هذا البحر، ويعقد عزماً على التوجّه إلى ليبيا، وهي بلد ممزّق طحنتها حرب السنوات الماضية، وهذه البيئة التي يُحبّ بوتين أن يعيش فيها، وقد اكتسب خبرةً من وجوده في سورية، التي استدعاه حاكمها عندما دبّت الفوضى فيها، وحين هرب بشّار الأسد لفظته سورية، وبدأت بمحاولات العودة إلى حالة الدولة الحقيقية.

العربي الجديد

————————————

سوريا والصراع على الإسلام/ عبدالله بن بجاد العتيبي

29 ديسمبر 2024 م

الواقع السوري الجديد هو حديث الساعة دولياً وإقليمياً، وكما هو نتيجة تراكمات الماضي المعقدة فهو في الوقت نفسه ينسج خيوط المستقبل المتشابكة، ولئن كان نظام الأسد قد نجح في شيء فقد نجح في ضمان أن يبقى مستقبل سوريا من دونه مفتوحاً على خياراتٍ ليست بالضرورة جيدةً.

ما يجري في سوريا اليوم يعبّر عن منطق التاريخ بسقوط نظام «البعث» الطائفي البائد، ولكنه لا يتجاوز ذلك إلى الحاضر فضلاً عن المستقبل، فهذا شأن الشعب السوري الذي لم يزل مغلوباً على أمره، فالمسلحون حين ينتصرون لا يفكرون كثيراً في المدنيين، وهذا حكم «العسكر»، فإذا كانت الآيديولوجيا قائدهم ورائدهم، فهذا حكم «الأصولية»، والحكم «العسكري الأصولي» له نموذج صارخٌ جرى في السودان على مدى ثلاثة عقودٍ، ومن يتابع شأن السودان اليوم يمكنه التنبؤ بمستقبل سوريا إذا تمكن منها الحكم «العسكري الأصولي».

ما الذي يمكن أن يمنع من هذا الحكم «العسكري الأصولي»؟ في الواقع اليوم هو الدولة الإقليمية غير العربية «تركيا» الراعية لهؤلاء العسكر الأصوليين منذ سنواتٍ، وهذا «استعمار» جديدٌ لا يختلف عن الاستعمار البريطاني والفرنسي قديماً، ولا عن تغوّل «الميليشيات الإيرانية» قبل سقوط نظام الأسد، وعرض الحقائق الجيوسياسية كما هي أفضل بما لا يقارن من الصمت والانتظار فضلاً عن التفكير الرغبوي البحت الذي يرسم صوراً ورديةً لسجف الليل القاتم.

السياسيون والدبلوماسيون، والكتَّاب والباحثون، المهتمون بالشأن السوري سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، لن يستطيعوا فهم ما يجري فهماً عميقاً دون اطلاعٍ واضحٍ على «الخطاب الأصولي» المعاصر، آيديولوجيا ومفاهيم، طرائق تفكير وأساليب عمل، جماعاتٍ وتنظيماتٍ، لأنهم دون هذا سيخبطون خبط عشواء في التعامل مع الحدث الضخم.

ليست المشكلة في «الجولاني» أو «أحمد الشرع» الذي أظهر براغماتية عاليةً لا تتناسب مع تاريخه وخطابه، وإنما المشكلة هي في الخطاب السائد لدى أتباعه وشركائه وحلفائه، فهم يردون على «الخرافة» فرادى، ويصدرون عنها شتى، ولهم فيها مشارب متعددة.أحد فروع الخرافات الأصولية هو «أحاديث الفتن والملاحم» أو «أحاديث آخر الزمان»، وهي مزلة أقدامٍ وتيه عقولٍ وضلالة مستحكمة، وفي التاريخ الإسلامي أسقطت دولاً وأقامت أخرى، ونشرت فتناً عمياء وشروراً لا تحصى، ويكفي قراءة تاريخ من ادعوا أنهم «المهدي المنتظر» في شرق العالم الإسلامي وغربه لمعرفة قوة الخرافة حين تستحكم.

تحدث أسامة بن لادن عن «الفسطاطين»، وروّج «تنظيم القاعدة» لأن «الرايات السود» هي حركة «طالبان»، ومن قبل ادعى «جهيمان» أن من معه كان «المهدي المنتظر»، والشواهد كثيرةٌ، واليوم يدور جدلٌ بين الأصوليين حول «الجولاني»، وهل هو «السفياني» الذي سيخرج في آخر الزمان، أو هو «الهاشمي» الذي سيقاتله، و«السفياني» سيخرج في دمشق، و«القحطاني» سيسوق الناس بعصاه، و«المهدي» سيملأ الدنيا، وتأثير الخرافة الملتبسة بالدين شديد الخطورة.

الأصوليون يحتشدون في دمشق، و«الإخوان المسلمون» يبشرون بالعودة بعد عقودٍ من الهروب، والقاعديون ينثرون آيديولوجيتهم من فوق منبر الجامع الأموي، والسلفيون الجهاديون ينازعون الجميع، وغلالة التسامح التي يلبسون رقيقةٌ تشفّ عما تحتها من كل ما يناقض التسامح.

مثل الخوارج قديماً سيتنازع الأصوليون، وستخرج الصقور الأصولية لتفترس الحمائم، ولن يستطيع المحور الإقليمي المنتصر في سوريا ضبط إيقاع الأصوليين مع سيمفونية الزمن، وسيكتفي بضمان ترسيخ مصالحه في الشمال السوري، ويترك الأصوليين يتقاتلون بعيداً عن حدوده.

أما «المناضلون من منازلهم» و«مجاهدو الكيبورد» فقد أخذوا يتوافدون على دمشق زرافاتٍ ووحداناً، ومثل «ميدان التحرير» في مصر قبل عقدٍ ونصف العقد الذي حبب لبعض الصحافيين الصحويين اعتباره محجاً نضالياً يحرمون له بالكوفية الفلسطينية على الأكتاف أصبح «الجامع الأموي» وساحات الشام محجاً لكل ساخطٍ على الدول العربية.

المحلل السياسي يمكنه فهم «الصفقة الكبرى» التي جرت في سوريا، ويمكنه تحليلها بأدواته وتفسير كيف سقط النظام سريعاً في بضعة أيامٍ، ولكن المسلحين الذين صنعوا الحدث وأنصارهم حول العالم لهم رأي آخر يتحدث عن «السفياني» الذي كل «من شاهد رايته انهزم»، وهذان تفسيران لحدثٍ معاصرٍ واحدٍ، فأيهما سيكون الأكثر تأثيراً في قابل الأيام؟

الاحتشاد الأصولي في سوريا مؤشرٌ ذو دلالتين: الأولى، أن الأصوليين مجتمعون لحظة النصر، ولكنهم سيفترقون بعدها، فما الذي يجمع «الإخوان» بـ«السلفيين»، وما الذي يؤلف بين «حزب التحرير» و«تنظيم القاعدة»، والثانية، أن هذا الاجتماع مؤذنٌ بصراعٍ جديدٍ على الإسلام، تمثيلاً وتأويلاً، والإسلام هو «السُّنَّة»، فالصراع سيحتدم على من يمثل «السُّنَّة».

أخيراً، فالبسطاء لا يعرفون قوة الأفكار الهائلة؛ ولذا لا يعنيهم مثل هذا الجدل، ولكن قَدَر الأمم أن تقودها النخب التي تعي هذه القوة، وتحسن التعامل معها.

الشرق الأزسط

———————————

صيدنايا مكان توقّف الغزال/ حسن مدن

29 ديسمبر 2024

لا تُنسى أبداً الحكاية التي أوردها المُعارض السوري (اليساري) ميشيل كيلو (1940 – 2021) عن فترة اعتقاله، حين اقتاده أحد حرّاس السجن، بعد أن عرف أنّه كاتب، إلى زنزانة تضمّ امرأة وطفلاً، هو ابنها. طلب الحارس من كيلو أن يحكي للطفل حكايةً كالتي تُحكى للأطفال. تعاطفاً مع الطفل، بدأ كيلو حكايته بالقول: “كان هناك عصفور”، فسأل الطفل: “ما هو العصفور؟”. رّد كيلو: “الطائر الذي يطير فوق الشجرة”، ومرةً أخرى سأل الطفل: “ما الشجرة؟”.

حكاية موجعة عن طفل ولدته أمه في الزنزانة، وفيها كبر، لم يرَ من الدنيا سوى جدران الزنزانة، لا السماء ولا الشمس ولا الطيور ولا الأشجار. حكاية فيها من الدلالات الكثير عن معاناة من قادتهم الأقدار إلى زنازين سجن صيدنايا، الذي يكفي ذكر اسمه لإثارة الرعب في النفوس، كالمرأة التي ولدت الطفل فيه، ولم يكن سبب اعتقالها سوى الضغط على والدها المعارض الذي فرّ إلى الأردن.

لحظة سقوط نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، استولى محتجّون على السجن، وبدأوا في إطلاق سراح السجناء السياسيين. حين قيل لهؤلاء السجناء أنّهم باتوا أحراراً وبوسعهم الذهاب إلى بيوتهم لأن نظام بشّار الأسد قد سقط، ساد في صفوفهم مزيج من الشعور بالفرحة والارتباك وعدم التصديق، فبعض السجناء الذين مضت عقود على سجنهم لا يعلمون أنّ والد بشّار الأسد (حافظ) قد مات قبل 24 عاماً، وكانوا يعتقدون أنّه لا يزال في السلطة، ولا علم لهم أنّ ابنه أصبح هو الرئيس.

أفادت معلومات بأنه كان في السجن، لحظة سقوط نظام الأسد، ما يقدّر بنحو 14 ألف سجين. حسب تقرير لمنظّمة العفو الدولية (في العام 2017)، فإنّ ما بين خمسة آلاف و13 ألف شخص أُعدموا خارج نطاق القضاء في صيدنايا، بين سبتمبر/ أيلول 2011 وديسمبر 2015، وفي التقرير نفسه، قالت المنظمة: “إنّ سجن صيدنايا مسلخ بشري. حيث تنقل جثث ضحاياه بالشاحنات. ويُشنق العديد منهم سراً في منتصف الليل، ويموت آخرون نتيجةً للتعذيب، ويُقتل العديد ببطء من خلال الحرمان الممنهج من الطعام والماء والدواء والرعاية الطبية”. فيما قدّر المرصد السوري لحقوق الإنسان (يناير/ كانون الثاني 2021) أنّ 30 ألف معتقل قُتلوا في صيدنايا بسبب التعذيب وسوء المعاملة والإعدامات الجماعية، منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية.

تحدّثت تقارير مرعبة عن وجود ما توصف بـ”غرف الملح” في صيدنايا، وهي غرف مغطاة بطبقة من الملح تُستخدَم عادةً لإزالة الجليد من الطرق، جرى استخدامها مشرحات لحفظ الجثث في غياب المشرحة المُبرِّدة. وعندما يموت أحد المعتقلين في السجن، تُترك جثّته داخل زنزانة مع نزلاء آخرين بين يومين وخمسة أيام، قبل نقلها إلى غرفة الملح. وتحدّثت تقارير دولية أخرى عن تشغيل محرقة في السجن للتخلّص من الجثث، ورغم أنّ بعض من سجنوا في صيدنايا نفوا وجود مثل هذه المحرقة، لكن تبقى الفظائع التي ارتكبت في السجن مخيفةً، بدءاً من الضرب المستمرّ والاعتداءات الجنسية وقطع الرؤوس والاغتصاب والحرق، واستخدام الألواح المفصلية المعروفة باسم “السجّاد الطائر”. وبين من سجنوا في صدنايا (وفي بقية السجون السورية) خلال الحرب الأهلية (بين مارس/ آذار 2011 وديسمبر 2024)، 3 آلاف و698 طفلاً و8 آلاف و504 نساء. فيما تقول تقارير أخرى إنّ 75% من الذين يدخلون سجن صيدنايا لا يخرجون منه أحياء.

لدى أنظمة الاستبداد قدرة فائقة على صنع ذاكرة وحشية، تُغيّب (أو تكاد) ذاكرةً مضيئةً سابقةً لها بقرون. فحين يرد اسم صيدنايا، يأتي على البال مباشرةً السجن الذي بدأ إنشاؤه في 1978، بعد مصادرة الأراضي من أصحابها المحلّيين، فباتت الأبدان تقشعرّ بمُجرَّد ذكره، ولا يخطر على البال أنّ صيدنايا هي في الأصل موطن دير أرثوذكسي يوناني يُعتقد أن مؤسّسه هو الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول، إذ يقدّس المسيحيون والمسلمون أيقونة شهيرة للسيدة العذراء مريم. وحسب الاعتقادات المحلّية، تعني صيدنايا “مكان توقّف الغزال”، ما يعني ببساطة أنّها مكان صيد، ففي العصور القديمة، كان هناك معبد لصيدون، إله الصيد الفينيقي، وفي اللغة العربية، فإن صيدنايا تعني “سيّدتنا” و”مكان الصيد”.

في محلّ جمال الأسطورة والحكاية أحلّ الطغاة ذاكرة الموت والبشاعة.

العربي الجديد

————————————

هل تفكّك “الهلال الإيراني”؟/ محمد أبو رمان

29 ديسمبر 2024

تعكس التصريحات الإيرانية أخيراً، سواء من المرشد الأعلى للثورة علي خاميني، أو حتى من وزير الخارجية عباس عرقجي، تجاه الوضع الجديد في سورية، حجم الأزمة التي تشعر بها طهران إقليمياً، بعد انهيار نظام بشّار الأسد، الذي جاء غداة موافقة حزب الله على قرار مجلس الأمن 1701، وتقييد أيادي الحزب في المنطقة، فضلاً عمّا تقوم به إسرائيل من عدوان في غزّة، وما يُطرح من مخطّطات لمستقبل القطاع خارج نطاق السيطرة السياسية والعسكرية لحركة حماس، ليس فقط إسرائيلياً، بل حتى دولياً وإقليمياً، وبقبول نسبي كبير من الحركة، التي أصبحت تدرك تماماً أنّها لن تتمكّن من حكم القطاع لاحقاً، لأسبابٍ عديدة.

لم يقتصر انهيار النظام السوري على فقدان حليفٍ لإيران فقط، بل بروز نظام سياسي جديد ليست لديه علاقة إيجابية بطهران، التي ساعدت النظام السابق وأعانته على قمع المعارضة المسلّحة، وهو ما كان واضحاً في تبادل التصريحات بين وزير الخارجية الإيراني ونظيره السوري الجديد، أسعد الشيباني. بل فوق هذا وذاك، بدا أنّ رئيس الوزراء العراقي، محمد شيّاع السوداني، هو الآخر يحاول أن يأخذ مسافةً من النفوذ الإيراني. وبالرغم من استقالة مستشاره السياسي، إبراهيم الصميدعي، بعد تصريحاته اللافتة عن نزع سلاح المليشيات، إلا أنّ التصريحات كانت تكشف الأحاديث الخفية في الدوائر المغلقة عن نزع سلاح الحشد الشعبي والمليشيات الأخرى، وخشية الحكومة العراقية من مخطّط إسرائيلي لاستهداف هذه القوى، وهو ما يقلق بغداد كثيراً، ويبدو أنّ هنالك ضغوطاً أميركية ودولية على رئيس الوزراء للقيام باستدارة ناعمة أو سلمية لتحجيم النفوذ الإيراني في العراق، كما تؤكّد تقارير دبلوماسية دولية وإقليمية عديدة.

بعد عقدَين (منذ احتلال العراق 2003)، عملت فيهما طهران بطريقة هادئة براغماتية طويلة المدى على بناء حلف إقليمي كبير، وكانت تحلم بطريق طهران بيروت، وتضع شروطها على الطاولة في أيّ صفقة إقليمية، وتسعى إلى الاعتراف بها قوةً إقليميةً رئيسيةً… بعدهما، بدت وكأنّها فقدت أعمدتها الرئيسية بدرجة كبيرة، وخسارة النظام السوري، بل “الجيوبوليتيك” السوري هي خسارةٌ استراتيجيةٌ قاسيةٌ جدّاً على طهران، لأنّه يقطع الطريق استراتيجياً واقتصادياً وعسكرياً على النفوذ الإقليمي الإيراني، فضلاً عن تفكيك العديد من شبكات الظلّ، الاقتصادية والعسكرية، التي كانت تعمل في الخفاء للتحايل على العقوبات الاقتصادية، ولتمويل النفوذ العسكري الإقليمي المُكْلِف لخزينة دولة منهكة أصلاً بالعقوبات.

أكثر من ذلك، بالرغم من أنّ العراق ما يزال ضمن “الشبكة الإقليمية”، إلا أنّ هنالك ضغوطاً عليه، وتململاً من قيادات سياسية، حتى من تلك المقربة تقليدياً من طهران، التي لا تشعر بالارتياح لنمط العلاقة بين الدولتَين، القائم على التبعية والهيمنة السياسية والعسكرية الإيرانية. فوق هذا وذاك، فإنّ هنالك تحليلات وتكهّنات في أوساط نخبوية أميركية تتحدّث عن ردّ الاعتبار لاستراتيجية محاولة إسقاط النظام الإيراني من الداخل، في استثمار الأوضاع الاقتصادية والانقسامات الثقافية والعرقية والاجتماعية والجغرافية الهائلة في إيران.

بالرغم من حجم هذه الضربات القاسية والفاعلة التي تلقّاها النفوذ الإقليمي الإيراني، فمن الصعوبة بمكان القول بانتهائه بالكلّية، أو عدم صعوده في المستقبل، لأسباب عديدة، بعضها متعلّق بالمسألة الطائفية والعرقية والهُويَّات والفاعلين ما دون الدول. بمعنى أنّ هذا النفوذ ارتبط بتهتّك بُنى الدولة الوطنية، لأنّ إيران تبني نفوذها أكثر على المليشيات والقوى ما دون الدولة، بوصفها أكثر صلابةً أيديولوجياً أو طائفياً أو ارتباطاً بها. أما السبب الثاني فيتمثّل في استمرار الفراغ الإقليمي، وعدم وجود بديل إقليمي يتحدّى إسرائيل، التي أصبحت لديها طموحات كبيرة لما أطلق عليه الباحثان والكاتبان الإسرائيليان عاموس يادلين وأفنير جولوف مصطلح “النظام الإسرائيلي في الشرق الأوسط” (“مجلة الشؤون الخارجية”، عدد ديسمبر/كانون الأول 2024).

الرياح في المنطقة سريعة ومتقلّبة، ولا شيء ثابتاً راسخاً إلى هذه اللحظة، والمشروع الأميركي الإسرائيلي الجديد لتدشين نظام إقليمي جديد (السلام الإقليمي)، لن ينجح في جلب الاستقرار تحت وطأت الهيمنة الثقافية الإسرائيلية (التي يحلم بها بنيامين نتنياهو)، ممّا يجعل فرصة عودة طهران أو أيّ خطاب أيديولوجي أو قوى من هنا أو هناك مسألةً ممكنةً في المرحلة المقبلة.

العربي الجديد

——————————-

سورية بلد غني أم فقير؟!/ عدنان عبد الرزاق

29 ديسمبر 2024

الأرجح أن الإجابة المثلى، عن سؤال مفتوح ومحيّر من عيار، هل سورية بلد غني أم فقير؟ يجوز الوجهان. بمعنى أن سورية غنية، بل وغنية جداً، وبالوقت نفسه، انطلاقاً من واقعها الراهن، سورية فقيرة، بل وفقيرة جداً. وليستوي القول حول الشيء ونقيضه، لا بد من رمي الأدلة حول كل ضفة، أي كيف أن سورية غنية وجداً، وبالوقت ذاته، فقيرة وجداً.

نبدأ بمحاولة تأكيد أن سورية غنية من خلال الإجابة عن امتلاكها عوامل أو محددات القوة. ربما رأس المال البشري، هو أهم عوامل القوة وأكثرها فاعلية وإنتاجية ودفعاً للتطوير، وسورية التي تمتلك تراكم خبرات، إن بالصناعة أو التجارة أو الأعمال الحرفية، يعزز، منتجوها وشبابها، قوتها. وإن كان هذا الشرط مربوطاً بعاملين اثنين.

الأول، إعادة بث الحياة والأمل لدى المنتجين بالداخل، وإغراء وجذب عمالتها ورجال أعمالها بالخارج، خاصة الذين فروا من انعدام الأمل خلال حكم الأسدين عموماً، أو أثناء الملاحقة والتضييق والابتزاز، خلال سني الثورة الممتدة منذ مطلع عام 2011. ما يجعل هذه الثروة البشرية المهاجرة والمقدرة بأكثر من 6 ملايين سوري، محط أنظار وأولوية لدى أي حكومة سورية بعد سقوط النظام المخلوع والطارد للكفاءات.

والشباب السوري المهاجر، أكدوا أنهم عامل قوة ومسرّعاً للنمو والتطور وتشغيل الأموال، بل وامتصاص البطالة، حتى ببلدان لجوئهم، ولعل مخاوف ألمانيا اليوم دليل، وعلو صوت أصحاب الأعمال بتركيا بعد بدء عودة السوريين مثال، والنهضة بقطاعات الغذاء والخدمات بمصر مؤشر، وهكذا إلى ما هنالك من دلائل تركها السوريون أنى حلوا وارتحلوا خلال تهجيرهم وملاحقتهم ومخاوفهم من الاعتقال والموت.

ويأتي الدليل الثاني على قوة سورية في ثرواتها الطبيعية، فسورية وبناء على حجمها وعدد سكانها، تعتبر من الدول الأولى المنتجة للفوسفات حول العالم، إذ يقدر حجم احتياطي البلاد من الفوسفات بنحو ملياري طن تقريباً. تنتج سنوياً 2.5 مليون طن، بينما تصدر مليوني طن، ويُستهلك الباقي داخل البلاد.

الغاز السوري الذي لم يزل حتى اليوم، من كلمات سر ثروات سورية، إن لحجم إنتاجه أو احتياطياته أو حتى للمؤمل اكتشافه بالبر والبحر، فالاحتياطيات المؤكدة من الغاز الطبيعي في سورية نحو 9 تريليونات قدم مكعبة، في نهاية عام 2010 تمثل 0.1% من إجمالي الاحتياطيات العالمية. وهذا طبعاً المكتشف أو المعلن، إذ ثمة ملامح لكنوز غاز بالبحر المتوسط، أشارت لها جهات دولية عدة، منها ما جاء من توقعات عن الهيئة الجيولوجية الأميركية بوجود احتياطيات طبيعية أخرى في البحر، لم تُكتشف تقدر بنحو 700 مليار متر مكعب.

وأمام هذه الأرقام الهائلة، لم تستثمر هذه الثروة، حتى بعد اكتشافها بعقود، إذ لم يزد إنتاج سورية من الغاز عن 30 مليون متر مكعب يومياً، حتى مطلع الثورة، قبل أن يتراجع إلى أقل من 10 ملايين متر مكعب ما أعاق حتى توليد الكهرباء واضطرار سورية للاستيراد.

ولأننا نبحث بعوامل القوة والغنى ونتطرق إلى ما هو تحت الأرض، يأتي البترول منافساً بهذا المقام، بل ويعد عامل قوة حقيقياً ومصدر غنى، ساهم حتى عام 2010 بنحو 24% من الناتج الإجمالي لسورية، و25% من عائدات الموازنة، و40% من عائدات التصدير.

لكن هذا العامل، كغيره من نقاط القوة التي حولتها حرب الأسد على سورية والسوريين، قبل أن تنتصر ثورتهم ويهرب الأسد، إلى نقطة ضعف واستنزاف للقطع الأجنبي جراء استيراد نحو 200 ألف برميل يومياً، فبعد إنتاج وصل لنحو 400 ألف برميل يومياً، تصدر سورية نصفه، تراجع إلى أقل من 70 ألف برميل تسيطر “المليشيات الكردية” على أكثر من 55 ألف برميل منه.

وخلال الحديث عن نقاط قوة الاقتصاد السوري، لا يمكن استبعاد الموقع الجغرافي، إذ يشكل الموقع الجغرافي عقدة ربط مهمة لطرق التجارة الدولية بين الشرق والغرب، ونقطة عبور مشروعات محتملة للنفط والغاز من الجنوب إلى أوروبا، مروراً بتركيا، التي تجاورها بشريط حدودي يمتد طوله نحو 900 كيلومتر.

وربما بمقولة، إن استثمرت سورية موقعها الجغرافي والترانزيت وخدماته، فسينام السوريون إلى ما بعد الظهر وتزيد دخولهم عن المواطنين الخليجيين، مؤشراً، وإن كان فيه بعض مبالغة، فأن تكون سورية الممر شبه الإلزامي لتركيا، نحو البلاد العربية وأفريقيا، فذلك وحده، يدر على سورية الأموال، وينشّط قطاعات، ويجعل الجغرافيا ضمن أهم نقاط القوة.

ولا يمكن القفز عن السياحة، خلال التطرق لنقاط القوة، إذ في سورية من تنوع وتعاقب حضارات ولقى وأوابد، ما يجعلها محط أنظار وموقع استقطاب للسياح حول العالم، فعدد زوار البلاد بلغ في عام 2010 نحو 8.5 ملايين سائح، وبلغت عائدات القطاع في العام نفسه نحو 8.4 مليارات دولار، ما يشكل نسبة 14% من الاقتصاد، لكن هذه الثروة وهذا القطاع برمته تحول للحياد إن لم نقل إنه مستنزف، جراء ترميم المواقع، وأجور العاملين فيه، بعد أن استقرت عائدات السياحة عند الصفرية، عدا بعض المتخفين بسياحة دينية، ولسنوات طويلة.

وربما بقطاع الزراعة ووجودها بنحو ثلث مساحة سورية، نقطة قوة أخرى مبددة، كما بالصناعة نقطة قوة إنتاجية وتصديرية وعامل مهم بوفرة السلع وتوازن الأسواق، ولكن قبل التهديم والتهجير وتراجع وإعاقة الإنتاج.

وأما نقاط ضعف الاقتصاد السوري، فربما يتفاجأ القارئ إن أعدنا نقاط القوة ذاتها، مع إضافة أثر التجهيل والتخلف بالتعاطي الاقتصادي والابتعاد عن التكنولوجيا واقتصادات المعرفة، في الإنتاج والتصدير، كماً ونوعاً. فالكادر البشري والقوى العاملة، باتت عامل ضعف، لفترة محددة على الأقل، ريثما يعود أصحاب الخبرات والمال من مهاجرهم ويتم تأهيل وإعادة تدريب من بقي بسورية، أو من عاد من مخيمات اللجوء ودول الجوار.

كما بالقوى العاملة اليوم، بالمنشآت المهدمة، عامل ضعف إضافي جراء سياسة الأسد بتشغيل الموالين، ما أنتج بطالة مقنعة تزيد من تكاليف الإنتاج وتعوق أي تطوير للمؤسسات الخدمية والشركات الإنتاجية.

والنفط بات من أكثر القطاعات ضغطاً، بعد التحول من الوفرة والتصدير إلى الندرة والاستيراد، وكذا الصناعة المهدمة والمحكوم أربابها بزيادة التكاليف وصعوبات التصدير واستيراد المواد الأولية، وذلك يقاس على معظم القطاعات التي حوّلها النظام المخلوع لمواقع استرزاق له ولعصابته، بعد أن هجر جلّ العاملين فيها وشوّه سمعة الصناعة والتجارة السورية العريقة.

قصارى القول: عانى الاقتصاد السوري من استنزاف وسرقات ما حطمه، وتراجعت نسبة النمو إلى 1% وأحياناً لصفرية وسلبية، خلال سنوات الثورة، وتعمّد النظام المخلوع تحطيم سورية بمن وما فيها وعليها.

ومن الدلائل البيّنة على التحطيم، تراجع الناتج المحلي الإجمالي من نحو 62 مليار دولار عام 2010 إلى أقل من 7 مليارات العام الماضي، وليعود الناتج إلى ما كان عليه، وفق نسبة النمو الحالية أو حتى إن ارتفعت قليلاً، فعلى السوريين أن ينتظروا ربما لسبعين سنة. رغم أن الناتج عام 2010 هو أقل من نصف ما يجب أن يكون بسورية، والتي أشرنا لنقاط قوتها وما تملك من ثروات.

ولكن، ليسرّع السوريون بالنمو ورفع حصة الفرد من الناتج ويصلوا حافة التعافي، كما بلدان كثيرة مرت بما عانوه من تهديم البنى والإنسان والهياكل، مثل ألمانيا، لا بد من نسبة نمو لا تقل عن 7% وهي ممكنة ومتاحة نظراً للمتوقع من الإقبال على الإعمار والمساعدات، ولرفع الاستثمارات الخارجية بما لا يقل عن 10% مما كانت عليه قبل عام 2011.

وذلك لن يتحقق دون الأمان وإصدار قانون استثمار جاذب ومناخ عمل اقتصادي يتوازى، إن لم نقل يتفوّق على ما تطرحه دول المنطقة، لأن إغاثة السوريين، فقط لأنهم ظلموا أو لأنهم يستحقون، فذلك قد نسمعه خلال المؤتمرات الصحافية بعد زيارة الوفود أو ربما نقرأه بقصيدة أو بمقال محاباة.

نهاية القول وعود على بدء، سورية بلد فقير جداً اليوم، نسبة فقر ساكنيه تزيد عن 90% ودخلهم الأدنى بالعالم، ديونها تزيد نحو 20 ضعف ناتجها الإجمالي، وجميع نقاط قوة الاقتصاد، مشلولة أو مهدمة.

ولكن، فقر السوريين ليس قدراً، بل على العكس، هو اختبار للعودة ثانية للغنى والإعمار ولعب الدور الذي تستحقه سورية بالمنطقة، بيد أن ذلك لن يأتي عبر الأماني ورهن مقدرات سورية أو حتى الانطلاقة من القروض الدولية، بل من البدء، من التعليم والصحة وحرية الرأي وفتح باب المساهمة والعمل والاستثمار، لكل من يحقق أهداف الدولة… أجل الأهداف التي لا بد أن تكون بوصلة ودفع ووقاية ووفق ما تقتضيه المرحلة ويتناسب مع المحيط والعالم.

العربي الجديد

————————————–

الأسد في المنفى: فرصة أم تحد للعدالة؟/ صبا مدور

الأحد 2024/12/29

ما زال السوريون تحت وقع اللحظة التاريخية لسقوط نظام الأسد، وهي لحظة يرجح أنها ستظل حاضرة  بوهجها ووطأتها لفترة طويلة، تماما كما هي سنوات حكمه القمعية الطويلة التي ستبقى في ذاكرة البلاد لعقود مقبلة.

وبينما ينشغل السوريون بأفراح الانعتاق والتحرر واستعادة بلادهم ومعتقليهم، تبرز أسئلة العدالة التي تسيطر على النقاشات العامة متجاوزة القضايا الأخرى، التي ترتبط بمعالم الدولة الجديدة وشكل اليوم التالي والدستور وطبيعة النظام الاقتصادي. الحديث عن العدالة في سوريا لم يعد مجرد شعار ثوري يرفع في المظاهرات أو على اللافتات، بل تحول هاجساً جماعياً وثأراً شخصياً يُربك الجميع، من الناجين الذين فقدوا أحبائهم تحت التعذيب، إلى السياسيين الجدد الذين يواجهون مسؤولية بناء دولة على أنقاض نظام دمر البلاد. ورغم مركزية هذا الملف في وجدان السوريين، إلا أن العالم يبدو وكأنه يتجنبه، أو على الأقل يترك سوريا لتواجهه بمفردها.

التصريحات الدبلوماسية الدولية حتى الآن، تمتلئ بالإدانة الصارخة لجرائم النظام السوري البائد، وتفيض بالثناء على الخطوات الأولى للمرحلة الجديدة في سوريا، وتنهمك في المشاريع المقبلة للتنمية وإعادة إعمار البلاد. لكن وسط كل هذا الزخم، يغيب الحديث عن المحاسبة، وبالأخص محاسبة الأسد شخصياً على الجرائم التي ارتكبها خلال سنوات حكمه. لم نشهد حتى الآن زعيماً أو مسؤولاً دولياً يرفع صوته، ليؤكد على ضرورة هذه المحاسبة كركن أساسي في العدالة الانتقالية والمرحلة الحالية والمقبلة. وكأن هذا الملف الشائك قد تم تصنيفه ضمن الشؤون الداخلية لسوريا، بعكس كل محاولات التدخل الجارية، أو ربما وُضع على رف الانتظار في حسابات السياسة الدولية، باعتبار أن موعده لم يأتِ بعد.

بطبيعة الحال، تجاهل أو تأجيل المطالبة بالأسد من قبل الهيئات الدولية لا يلغي ضرورة مباشرة المسار القانوني اللازم من قبل الحقوقيين السوريين والدوليين. فقد خلق الأسد قدراً من العذابات لضحاياه يجعلهم يبحثون عنه أينما لجأ واختبأ. ورغم أن فرار الأسد إلى روسيا قد يبدو وكأنه يمنحه الحصانة من المحاكمة، إلا أن هذا ليس دقيقا قانونياً، لاسيما بالنظر إلى طبيعة اللجوء الممنوح على أساس إنساني لا لجوء سياسي، وهذا التفصيل يفتح الباب للتفاوض مع روسيا بشأن مصير الأسد. وهو ما قصده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من طبيعة اللجوء الممنوح، بالإضافة إلى أن ما صدر عن الرئيس بوتين الأسبوع الماضي من تصريحات بلغة تصالحية وانفتاحية مع قادة المرحلة الجديدة في سوريا، يشير إلى أن ورقة الأسد قد تكون قابلة للمساومة مقابل ترتيبات العلاقة الروسية السورية المستقبلية. هذه المساومة قد تشمل ضمان بقاء القواعد الروسية في طرطوس، ما يجعل من مصيره ورقة ضغط سياسية بيد الحكومة السورية.

في صفحات التاريخ، نادراً ما صبر مضيفو أسلاف الأسد من الطغاة على وجودهم لفترات طويلة، مثال ذلك مجرم الحرب الليبيري تشارلز تايلور، الذي تنحى عن السلطة ولجأ إلى نيجيريا، حيث حصل على ضمانات بسلامته وحمايته، لكن الضغوط الدولية أجبرت الحكومة النيجيرية لاحقاً على تسليمه للمحاكمة. السيناريو ذاته قد ينطبق على الأسد إذا مورست الضغوط السورية المطلوبة وكذلك الدولية.

أو ربما في سيناريو آخر، إذا شهدت روسيا تحولات سياسية داخلية في السنوات المقبلة، خصوصاً أن عمر الأسد الحالي 59 عاماً، ما يضعه في موقع يتيح له سنوات الطويلة من القلق على مصيره مع كل تغير. وتجربة الديكتاتور التشادي حسين حبري تقدم مثالاً آخر، فبالرغم من فراره بعد الإطاحة به، تغيرت السنغال سياسيًا ودخلت في عهد جديد، سمح بتوجيه اتهامات لحبري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ومحاكمته. هذا السيناريو، وإن بدا مستبعدًا في اللحظة الراهنة، يظل احتمالًا قائمًا في المستقبل القريب أو البعيد، معتمدًا على ديناميكيات السياسة الدولية والتغيرات الداخلية في روسيا. وحتى إذا كانت روسيا قوية بما يكفي لمقاومة الضغوط الدولية الرامية إلى تسليم الأسد، ومستقرة كدولة بما يكفي لتجنب تغييرات سياسية جذرية، فهذا لا يجعلها قادرة على حماية الأسد إلى الأبد. هنا يبرز من التاريخ مصير الجنرال النيكاراغوي أناستاسيو سوموزا إمكانية الوصول إلى الأسد محتملة. فبعد الإطاحة بسوموزا، وصلت إليه يد ضحاياه في نيكارغوا وأمطروه بوابل من الرصاص، ليُقتل في قلب العاصمة التي كان من المفترض أن تضمن أمنه وسلامته.

ومهما كانت شواهد التاريخ القريب تمنح بصيص أمل، فإن الحاضر الراهن يضيف معطيات تعزز إمكانية تحقيق العدالة المنشودة. لجوء الأسد إلى روسيا، رغم ما يبدو أنه ملاذ آمن، يفتح فرصة لتحقيق العدالة الانتقالية بأسلوب مختلف قد يضمن محاكمة تاريخية، تتجاوز السيناريوهات السابقة. وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن مسارين رئيسيين لمحاسبته. الأول سياسي، يعتمد على ممارسة الحكومة السورية المؤقتة أو المقبلة أقصى درجات الضغط على الأطراف الإقليمية والدولية، بما في ذلك روسيا، لدفعها إلى تسليم الأسد كجزء من ترتيبات سياسية أو اتفاقيات دولية. أما المسار الثاني، فهو قانوني، من خلال المحكمة الجنائية الدولية، وبالرغم أن سوريا ليست عضوًا في نظامها الأساسي، إلا أن توقيع الأسد عام 2000 يعني قبولًا ضمنيًا بالولاية القضائية للمحكمة. كما أن مبدأ النزوح القسري في نظامها يتيح توسيع اختصاصها، مستندًا إلى الآثار العابرة للحدود للجرائم المرتكبة، وهو ما سبق تطبيقه في قضية الروهينجا في ميانمار. هذا المزيج من المعطيات التاريخية والحالية يضع العدالة في متناول اليد، إن توفرت الإرادة السياسية والدعم الدولي الكافي لتحقيقها.

دولياً، تُعيد ضرورة محاكمة الأسد إلى الواجهة نقاشًا ضرورياً طالما هُجِر بسبب اليأس من إمكانية محاسبة الديكتاتوريين والطغاة على جرائمهم. إن بقاء الأسد من دون عقاب لا يمثل مجرد خذلان للضحايا، بل يُعد علامة دامغة على الفشل المزدوج للمجتمع الدولي والهيئات القانونية الدولية. فشلها الأول تمثل في عجزها عن وقف جرائمه أثناء فترة حكمه، وخشية من فشل ثان في عدم قدرتها على إصدار مذكرة توقيف بحقه، أو ملاحقته، أو القبض عليه.

سورياً، يستلزم التفكير بسبل العدالة والبحث عن مساراتها الواقعية والصعبة أن يتوازى ذلك مع إعادة بناء المؤسسات القضائية، وإعادة تدريب القضاة والمحامين وضمان امتثالهم للمعايير الدولية لحقوق الانسان، بعد سنوات طويلة من ربط السياسة بالقضاء. كذلك إنشاء نظام عدالة مؤقت من خلال تشكيل لجان الحقيقة والمصالحة، تعنى بتوثيق الجرائم والانتهاكات وشهادات الضحايا والجناة. هذه اللجان توفر فرصة لضحايا النظام لتقديم شهاداتهم، حتى لو تطلب إنشاء آلية العفو المشروط، التي تتيح عفواً محدداً للأفراد الذين يعترفون بجرائمهم والتخفيف من العقاب بشرط التعاون مع العدالة لكشف الحقيقة. وهذا سيخفف العبء الثقيل على النظام القضائي المستقبلي في سوريا.

إن البدء بإجراءات ملاحقة الأسد قد يتطلب صبراً مريراً، لكنه يمثل خطوة ضرورية وتعبيراً مكثفاً عن العدالة التي يستحقها السوريون بعد عقود من القمع، والمجازر الجماعية، والسجون ممتدة على خريطة البلاد، وتهجير الملايين، وغرق الآلاف في رحلة الهرب من الموت، ومشاهد إجرامية أخرى، خلقت واقعاً سريالياً يفوق التصور. هذه الجريمة الشاملة قد تستدعي إعادة صياغة للقوانين الدولية وابتكار مسارات جديدة في تحقيق العدالة، كما فعلت ألمانيا مؤخراً من خلال المحاكم الوطنية، للاعتراف بحجم المأساة السورية وطي صفحة الإفلات من العقاب.

يبقى الحلم الأكبر بتحقيق دولة سورية مستقرة مزدهرة حرة ديمقراطية، دولة مواطنة والقانون، هو أفضل رد للانتقام من نظام الأسد وأعوانه وعلى عقود من الاستبداد، لتكتمل الحالة التاريخية التي تفردت بها سوريا الملهمة.

المدن

—————————–

الأفراح السورية في الغربة/ سلوى زكزك

28 ديسمبر 2024

يعيشُ مازن في ألمانيا، وهو شاب سوري ترك سورية منذ ثلاثة عشر عامًا هربًا من الخدمة الإلزامية التي ستجعل منه قاتلًا أو مقتولًا. تعلّم اللغة الألمانية بسرعة ومهارة، وأنهى عامه الدراسي الجامعي الأخير، ثم بدأ عمله في ألمانيا. هو اليوم يعيش في ظلّ ظروف يمكن وصفها نسبيًا بالجيّدة، على الأقل لأنها آمنة وكريمة. لكنه يعيش وحيدًا وبعيدًا عن بلده وأهله، إذ لم يتمكن من استقدام أهله أو تأمين زيارة له ولهم في بلد مجاور لأسباب اقتصادية أولًا، ولأسباب تتعلّق بتأشيراتِ الدخول الممنوعة على السوريين بقرارٍ دولي، لأنّ السوريين باتوا جميعًا مشاريع لاجئين لا أكثر.

ظروفٌ كثيرة حوّلت لقاء مازن مع أهله إلى حلمٍ مستحيل غير قابل للتحقّق، فأصيب وكذلك أهله بنوباتٍ شديدة من الكآبة، ممزوجة بحرقة في الوجدان جرّاء الغياب الطويل وتعذّر أيّ لقاء.

فجأة سقط نظام الطاغية في دمشق، خبر صاعق رغم انتظاره بحرقة ولهفة. ساعتان تفصل بين التوقيت في سورية والتوقيت في ألمانيا. جاءه الخبر مع أصواتِ الزغاريد، حيّةً وصاخبة في دمشق. ضاقت جدران غرفته عليه. كيف سينزل إلى الشارع والناس ما زالوا نيامًا؟ معظمهم لم يسمع الخبر السعيد حتى الآن. من دون وعي لبس ملابسه، شرب فنجانًا من القهوة ليهدّئ من فورة مشاعره المستعرة بفرح لم يكن يتوقّعه. جسده يرتعش، تَردّدٌ وعباراتٌ مخنوقة منعاه من الاتصال بأصدقائه، وخصوصًا السوريين. شرب قهوته بسرعة ثم ارتدى سترته الشتوية وخرج إلى الشارع. وفور ملامسة الهواء لوجهه انهمر في بكاءٍ طويل، أجهش عاليًا في نشيجٍ مفرحٍ وغزير. اليوم، فقط اليوم، صدّق أنّ الفرح الكبير يحمل معه أنهارًا من الدموع. ما زال غير مصدّق أن طاغية مثل بشار الأسد يمكن أن يزول، أن ينتهي ويرحل بعيدًا عن سورية الوطن الذي تحوّلت زيارته إلى حلم كبير. في كلّ لحظة كان يفتح جواله ليتأكد أنّ الصخور الكبيرة الراسية كجبل على صدور أبناء سورية قابلة لتتزحزح وتشيل معها كلّ القهر والظلم والجور والحرمان من تنفّس هواء الوطن والعيش فيه وبين أهله.

وكأنّ النهار قرّر عدم الظهور. طالت الساعات ومازن وحيد في الشارع، يبحث عن شريكٍ واحد ليشاركه فرحته بسقوط نظام الطاغية. وسقوط النظام لا يعني فقط رحيل شخص متجبّر ومتحكّم وغير ديمقراطي، تورّط في إراقةِ دم شعبه وهدر حياة أبنائه وسرقة موارده، بل إنه يعني لقاءً قريبًا وحتميًا لمازن مع أهله، مثله مثل الملايين الذين حُرموا اللقاء بأهاليهم وعائلاتهم.

وصل مازن إلى المحل السوري في مدينته. تفاجأ بأنه مفتوح مع أنّ اليوم هو الأحد! لكن يبدو أنّ صاحب المحل أصابه ما أصاب مازن تمامًا. فما كان منه إلا أن غادر بيته نحو محلّه ليبدّد وحشة الاحتفال بهذا الخبر العظيم وحيدًا. دخل مازن إلى المحل، قال: “مبروك”، بصوتٍ عالٍ لكنه مضطرب، وطلب شراء بعض الحلويات لتقديمها إلى الأصدقاء وزملاء العمل مباركةً بسقوط النظام المجرم. وعندما منح مازن ثمن الحلويات لصاحب المحل لاحظ أنّ يد الشاب تهتز بشدّة، فما كان منه إلا أن خاطبة قائلًا: “وإنت كمان عم ترجف متلي؟”.

عندها غادر صاحب المحل مكانه خلف صندوق المحاسبة وخرج بلهفةٍ عارمةٍ ومضطربة أيضًا، ليعانق مازن بشدّة. بكيا معا بصوتٍ عال ومشاعر منتفضة وأصواتهما تقول: معقول خلصنا؟ معقول راح وانقلع؟

دقّق مازن في ساعته. ما زال الوقت مبكّرًا على موعد استيقاظ أصدقائه. طلب من صاحب المحل، وبرجاء المُحتاج إلى سند: ما بدي ضل لحالي، معليش ضل هون معك؟

العربي الجديد

————————

إشكالية المنهج في السياسة السورية/ مصطفى سركس

28 ديسمبر 2024

إنّ جوهر الأزمة السياسية في سورية يكمن في المقارباتِ غير المنهجية التي تتبناها النخب والمجتمعات عند معالجة القضايا العامة. إذ يغلب على التفكير السياسي طابع العاطفة والاعتبارات الأخلاقية أو الدينية، مما يعوق القدرة على الوصول إلى قراراتٍ تستند إلى أسس علمية ومنهجية. هذه المقاربات التقليدية، رغم وجاهتها في مجالاتٍ أخرى، تفتقر إلى الفعالية المطلوبة لإحداث تغيير حقيقي في المجال السياسي الذي يتطلّب دقةً وصرامة أشبه بما يُميّز العلوم الرياضية والفيزيائية.

السياسة، بطبيعتها، شأن مادي يتطلّب تحليلاً عقلانياً وموضوعياً، أيّ قضية تمسّ الشأن العام وتؤثّر على مصالح الدولة والمواطنين، إيجاباً أو سلباً، وينبغي أن تُدرّس وفق منهجية علمية مُحكمة. تبدأ هذه المنهجية بجمع البيانات وتحليلها، ثم وضعها في نماذج علمية دقيقة تُتيح تقييم الخيارات المتاحة، واستخلاص النتائج المترتبة على كلّ خيار. الهدف هنا هو الوصول إلى استراتيجياتٍ وخطط تحقّق المصلحة الوطنية العليا بأعلى قدر من الكفاءة، دون الالتفات إلى العواطف أو القيم الأخلاقية أو الدينية التي قد تعارض تلك القرارات.

لكن، وهنا يكمن العمق الفلسفي، لا يعني ذلك تجاهل الأخلاق والعواطف والدين. بل ينبغي النظر إليها كعوامل مؤثّرة وعناصر وظيفية تخدم الأهداف الاستراتيجية للدولة. فالأخلاق ليست غاية بذاتها في السياسة، بل وسيلة تُطوَّع لتأمين التنفيذ الأمثل للقرارات المُتخذة. الدين، كذلك، ليس عقبة أمام صنع القرار السياسي، بل مورد يمكن تحليله وإعادة صياغته في الخطاب العام ليدعم توجّهات الدولة. بهذا المعنى، تصبح الأخلاق والدين والعاطفة أدوات براغماتية، يجري توظيفها بوعي منهجي لتعظيم المصالح الوطنية.

السياسة بين القوانين الطبيعية والعقلانية المطلقة

السياسة ليست ساحة للأفكار المثالية المجرّدة، بل هي مختبر علمي تُختبر فيه القرارات والنظريات وفق نتائجها العملية. ففي عالمٍ تحكمه قوانين مادية صارمة، يصبح البقاء مرهوناً بقدرة الدول على استيعاب هذه القوانين وتطبيقها بفعالية. لذا، لا مكان للارتجال أو الشعارات العاطفية، بل يجب أن تُبنى القرارات على بياناتٍ دقيقة وتحليلاتٍ منهجية.

إنّ هذا المنهج يستند إلى فرضيةٍ أساسية: البقاء ليس للأقوى أو الأصلح وفق المعايير التقليدية، بل للأصح علمياً والأكثر قدرة على التكيّف. النجاح في السياسة مرهون بقدرة الدول على استخدام القوانين الطبيعية والعلمية لصالحها وإعادة تعريف الواقع بما ينسجم مع مصلحة الدولة. هذا يعني أنّ القرارات السياسية يجب أن تستند إلى الحقائق المادية القابلة للقياس والتقييم، مع مراعاة القدرة على تسخير كلّ العوامل المؤثرة في البيئة السياسية والاجتماعية.

إعادة تشكيل الفكر السياسي السوري

إعادة تعريف السياسة كعلم منهجي يتطلّب ثورة فكرية في العقل السياسي السوري، إذ ينبغي تجاوز الأطر التقليدية التي تُقيّد السياسة بالقيم الأخلاقية أو الدينية، وإعادة توجيه هذه القيم لخدمة المشروع الوطني. الدين، مثلاً، يمكن أن يكون أداة توحيد وتعزيز للهوية الوطنية، بدل أن يُستخدم كسبب للانقسام. كذلك، يمكن للعواطف الجماعية، مثل مشاعر الكرامة أو العدالة، أن تصبح قوّة دافعة للتغيير إذا أُديرت بعقلانية علمية.

إنّ العقلانية المطلقة تتطلّب دراسة دقيقة للعوامل المؤثّرة، بما في ذلك القيم المجتمعية، الدين والعواطف، ثم إعادة توجيهها لتصب في مصلحة المشروع الوطني. بهذا، يمكن تجاوز الفوضى السياسية وإعادة بناء الدولة على أسس عقلانية تضمن استقرارها واستمراريتها.

السياسة كأداة لإعادة تعريف المصلحة الوطنية

السياسة، بهذا المنهج الجديد، ليست مجرّد وسيلة للبقاء، بل هي أداة لإعادة تشكيل الواقع بما ينسجم مع المصالح الوطنية العليا. إنّ اعتماد منهجية علمية وعقلانية في اتخاذ القرار هو السبيل الوحيد لتجاوز الفوضى وتحقيق التفوّق في عالمٍ لا يعترف إلا بالنتائج. سورية بحاجة إلى رؤية سياسية جديدة تستند إلى الحقائق المادية والمنهجية العلمية لتحقيق الاستقرار والازدهار.

بهذا الفهم، يمكن للسياسة السورية أن تتحوّل من حالة الفوضى والتجاذب إلى نموذج في الإدارة العقلانية والمنهجية، بما يعيد تعريف المصلحة الوطنية بعيداً عن قيود العاطفة والمثالية. السياسة ليست مجرّد وسيلة للبقاء، بل هي أداة لصنع واقع جديد يُبنى على أسس منطقية وعلمية، تضمن بقاء الدولة وتفوقها في عالم لا يعترف إلا بالنتائج.

العربي الجديد

————————————-

سورية بعد الأسد: تحديات بناء المؤسسات/ وسيم فؤاد الأدهمي

28 ديسمبر 2024

ما جرى في سورية مؤخراً، لا سيما بعد سقوط نظام الأسد، يفرض علينا قراءة موضوعية لما آل إليه الوضع في البلاد. فالمرحلة تتطلّب تأملاً عميقاً في تعقيدات المشهد السوري، وفهماً دقيقاً للتحديات التي تواجه عملية بناء الدولة والمؤسسات، لضمان عدم تكرار أخطاء الماضي التي أدّت إلى الانهيار. 

لقد شهد الوطن العربي تحوّلات سياسية عميقة مع نشوء الدول الوطنية، لكن هذه التحوّلات جاءت مشوبةً بنماذج حكم شمولية ألغت الخطّ الفاصل بين الدولة والحزب الحاكم. ففي العراق وسورية، مثّل حكم حزب البعث ذروة التماهي بين الحزب والدولة، حيث تحوّلت مؤسسات الدولة، وخاصة العسكرية والأمنية، إلى أدواتٍ حزبية خالصة. 

في العراق، أُغلّقت أبواب الكليات العسكرية والأمنية أمام غير البعثيين، وأُقرّت قوانين تُعاقب بالإعدام على أيّ نشاط سياسي خارج إطار الحزب. هذا التداخل لم يكن فقط سياسياً بل امتدّ ليشمل البنى المذهبية والعشائرية، حيث سيطر البعث السني في العراق على المؤسسات الأمنية والعسكرية، في حين تركزت السلطة في سورية ضمن الطائفة العلوية وعائلة الأسد. 

عقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، جاءت قرارات سلطة الائتلاف المؤقّتة لتعميق أزمة الدولة العراقية. وكان أبرزها قرار حلّ الكيانات العسكرية والأمنية، مما أدى إلى تفريغ المؤسسات من الكفاءات وترك فراغ أمني خطير ساهم في بروز حركاتِ المقاومة المسلحة. لاحقاً، أدّت عملية دمج المليشيات ضمن القوات المسلحة إلى خلق بنى عسكرية وأمنية غير مهنية، ما زاد تعقيد المشهد، وأنتج مؤسسات خاضعة لولاءاتٍ حزبية وطائفية بدلاً من الدولة.

وفي سورية، الوضع لا يبدو أقلّ تعقيداً، حيث تواجه الإدارة السورية الجديدة معضلات تتعلّق بمستقبل المؤسّسة العسكرية والأمنية، التي تشكّلت خلال عقود من حكم البعث، بما تحمل من بنى طائفية وحزبية. ومع وجود المليشيات التي تشكلت خلال الثورة السورية، باتت المشكلة أكثر تعقيداً. والتصريحات بشأن حلّ هذه المليشيات ودمجها في مؤسسات الدولة لا تزال غامضة، ولا توجد خطط واضحة للتعامل مع هذا الإرث الثقيل. 

إنّ تجاهل هذه القضايا أو محاولة حلّها بقراراتٍ سطحية، مثل حلّ المؤسسات العسكرية أو الاعتماد على المليشيات في تشكيل جيش جديد، قد يؤدي إلى مزيد من التدهور. ففي العراق، كانت نتائج مثل هذه القرارات كارثية، حيث تحوّلت المليشيات إلى قوى مهيمنة ضمن الدولة، مستغلة أدواتها لتحقيق مصالحها الخاصة. هذه التجربة تقدّم درساً واضحاً للسوريين حول مخاطر تجاهل تعقيدات الوضع الراهن. 

يقول الباحث فرانسيس فوكوياما: “الدولة القوية هي التي تتمتّع بمؤسسات مستقلة وقادرة على تطبيق القانون بعيداً عن التدخلات الحزبية أو الشخصية. عندما تتحول المؤسسات إلى أدوات بيد الأحزاب، فإنها تفقد وظيفتها الأساسية وتصبح عوامل تفكيك بدل بناء”. هذه المقولة تلخص بدقة المعضلة التي واجهها العراق وسورية تحت حكم البعث. 

التجربة العراقية تقدّم دروساً بالغة الأهمية للسوريين، ولكن تنفيذها يتطلب وعياً بخصوصية الحالة السورية. والحلول يجب أن تكون مبنية على فهمٍ عميق لبنية المجتمع السوري وتحدياته، مع الابتعاد عن تكرار أخطاء الماضي.

إنّ إعادة بناء مؤسسات الدولة في سورية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى هيكلةٍ شاملة وعادلة تضمن استقلالية المؤسسة العسكرية والأمنية عن أيّ ولاءاتٍ حزبية أو طائفية. 

ختامًا، نذكّر بما قاله الصحافي البريطاني روبرت فيسك: “في الشرق الأوسط، تُبنى الجيوش ليس للدفاع عن الأوطان، بل للدفاع عن الأنظمة الحاكمة”. هذه العبارة تجسّد التحدي الأكبر أمام السوريين في المرحلة المقبلة، أي بناء جيش ومؤسسات أمنية للدولة، وليس لأفراد أو أحزاب أو طوائف. وتحقيق هذا الهدف لن يكون سهلاً، لكنه السبيل الوحيد نحو دولةٍ مستقرّةٍ ومستدامة. 

العربي الجديد

——————————–

عن لحظة الخروج السوري من النفق البعثي/ أكرم قطريب

29 ديسمبر 2024

ما فعله البعث وحافظ الأسد وحاشيته هو تدمير منهجيٍّ لأيّة إمكانية أن تكون هذه القطعة من الجغرافيا حضارية ومنارةً تطلُّ على البحر الأبيض المتوسّط. فقد جرت إدارة سورية بعقلية أمنيّة لا تعرف الرحمة، تستند بشكلٍ قطعيٍّ إلى المؤامرة وسياسة الانتقام والملاحقة والاقتصاص من أيّة وجهة نظر تتعارض مع سياسة النظام، وإلى رفع شعارات مُستهلكة ولا عقلانية عفا عليها الزمن، عاش معها السوريون ليل نهار في الشوارع والإذاعة والتلفزيون والمدارس والجامعات وكلّ مناحي الحياة، وتحوّلوا عبرها إلى رعية لا حول لها ولا قوّة بمواجهة عسف المخابرات، يريدون الستر وكفاف يومهم. ومن استطاع النجاة ذهب إمّا إلى السجن أو جهات الأرض الواسعة. فكانت حفنة التراب والخبز والضوء عطايا ومكرمة من المكرمات.

انحشرت الحياة السورية كلّها في النفق البعثي، وأرْخت العتمة سدولها على كلّ شيء، وتجمّد الزمن هناك من اللحظة التي جرى فيها ركوب صهوة المدن والقرى، آخذاً إيّاها إلى اليباب والقحط وخطابات سمجة طويلة، على الشعب أن يحفظها ويردّدها في المنامات والكوابيس واليقظة، ومن ثمّ يلوّنها على الجدران والأبنية الحكومية مثل تعويذة وقدر لا فكاك منه.

لبسَ السوريّون البدلة العسكرية طيلة هذه السنين، متسمّرين أمام شاشة التلفزيون صاغرين للملاحم البطولية التي تحدث على سطح كوكب المرّيخ، بينما غبارها اللفظي يُعكّر سهرات المساء الكئيبة، ومقدّرات البلاد الهائلة ستذهب إلى حسابات العائلة المصرفية في أوروبا وآسيا وأميركا، من دون أن يجرؤ أيّ كان على مناقشة هذا الأمر.

كانت سورية نفقاً حقيقياً لا نهاية له، خارج التاريخ وخارج الزمان والمكان. مع الإحساس العدمي بألّا طوق نجاة ولا أمل أو حتّى بصيص ضوء يأتي ولو من خرم إبرة.

عانى السوريون من الظلم ما يفوق الخيال، من الأساليب الوحشية وماكينات القمع متقنة الصنع، إلى الأسلوب الهوسي والمَرَضي لفنّ العقاب الجماعي. ما بقي في الذاكرة لا يمكن أن يُمحى: فترة الثمانينيات ومذبحة مدينة حماه، مذبحة سجن تدمر، والمسلخ البشري سجن صيدنايا، بفرعيه الأبيض والأحمر، فرع فلسطين، فرع المنطقة، فرع الخطيب… إلى آخر السلسلة التي لا تنتهي من منظومة هذه العائلة التي أطبقت على الأنفاس.

رافق السجن النهارات والليالي هناك، والمقابر العشوائية الجماعية جاهزة وتحت الطلب أينما ذهب السوريون. لم تفارقهم متلازمة الخوف، حتى وهُم بعيدون آلاف الأميال عن حجارة بيوتهم وأهلهم وذويهم.

رافق اسم مدينة تدمر التاريخية سجنها الصحراوي الشهير، أسوأ سجن في العالم. كان مجرّد لفظ الكلمة كفيلاً بأن يرتبك الكائن مرتجفاً ومذعوراً، فبين تلك الأعمدة والصروح دُفن الكثيرون، وهُم على قيد الحياة، من دون أدنى رأفة. كان بإمكان رجُلٍ واحد أن يُحوّل شعباً إلى جالية مرمية في أصقاع العالم.

سقطت الأنظمة في تونس ومصر واليمن وليبيا في المرحلة الأولى بين 2011 و2013. في المرحلة الثانية بين عامي 2019 و2020 سقط نظاما الجزائر والسودان، مع وجود تحدّيات كبيرة للنظام في كلٍّ من العراق ولبنان.

في لبنان، الدولة في حالة سقوط اقتصادي وسياسي حرٍّ على مدى السنوات الخمس الماضية. والسرعة الخاطفة لسقوط نظام الأسد لم تكن أقلّ من مذهلة، ولم يكن أحد يعلم أنّ هذ النظام الذي بناه الأب كان في الواقع حطاماً هائلاً. هذا السقوط أثار أيضاً مشهداً من الذكريات، وسيعني حتماً انقراض الجمهورية الاشتراكية التي تحوّلت إلى نظام حكم الفرد أو الأسرة الواحدة على شكل زُمر إجرامية مع شهية كبيرة للقتل والتعذيب والاغتصاب والتجويع والإرهاب والسرقة ظلّت قوية وماثلة.

تحتاج سورية إلى تشكيل مؤسّسات جديدة كجزء من عملية الانتقال وضمان أن تكون هذه المؤسّسات شاملة وتستوعب أطياف وطاقات المجتمع، وإلى كميات هائلة من المساعدات الإنسانية العاجلة. وفي هذا كلّه يواجه السوريون الآن مستقبلاً مليئاً بالتحدّيات منها: الحاجة إلى سيادة القانون، وضرورة تحقيق تحوّل سياسي يشارك فيه السوريون كافّة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم.

الاستقرار كذلك مهمٌّ بشكل حاسم للحكومات الأوروبية في ظلّ الضغوط الانتخابية. إذ بدأت في تشكيل خطّة أو عملية سريعة لإعادة اللاجئين السوريّين، ووتيرة هذه العودة ستتشكّل وفقاً للذي يمكن أن يتحقّق الآن. كما أعلنت هذه الحكومات أنّها لن تقبلهم كطالبي لجوء بعد رحيل الأسد. نعرف أنّ أزمة الهجرة هي المحرّك الأكثر أهمية لعدم الاستقرار في السياسة الداخلية الأوروبية. المحرّك الثاني هو أزمة الطاقة، وهذه الصناعة مدفوعة بارتفاعات هائلة في الأسعار منذ بداية حرب أوكرانيا، مع تطلّع أوروبا إلى طلاق طويل الأمد مع الطاقة الروسية.

تزداد أيضاً جاذبية تطوير خطوط الأنابيب من الخليج إلى تركيا، لكن مثل هذه المشاريع يعتمد حتماً على الاستقرار. وهناك بالفعل تقارير تفيد بأنَّ بعض اللاجئين يحاولون العودة، ووفقاً لوكالة الأمم المتّحدة، فإنه قد يعود أكثر من مليون لاجئ سوري في الأشهر الستّة الأولى من سنة 2025.

نهاية نظام الطاغية رمزٌ لانهيار النظام القديم الذي نال دعماً متوازياً من روسيا وإيران، ومن معانيه أيضاً نهاية النفوذ الروسي في سورية، على غرار سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية سنة 1989. بسقوط جدار برلين السوري سيتمّ بالتأكيد إعادة تعريف ديناميكيات القوّة في “الشرق الأوسط”.

وكثير من المناقشات تدور اليوم بين متفائل ومتشائم، حول ما إذا كانت سورية ستظلّ دولة واحدة أو أنّها ستنقسم إلى دويلات تكون مصدراً لعدم الاستقرار الإقليمي.

مرّت أيضاً دول الخليج وشمال أفريقيا بسنوات عصيبة. والآن مع سيادة الاحتياجات الاقتصادية قد تشارك في برنامج إعادة الإعمار والتواصل الإقليمي، وجعل بلاد الشام جزءاً من طريق تجاري متعدّد الوسائط وموازٍ للطرق البحرية عبر البحر الأحمر وأفريقيا نفسها، ومن آسيا أيضاً عبر الخليج إلى أوروبا.

نحن على أعتاب تحوّل كبير في المشهد الجيوسياسي منذ الثورة الإيرانية سنة 1979. إنّه لمشهد مذهل أن ترى السوريّين وقد بدأوا في معالجة ما يعنيه الخروج من تحت نير دكتاتورية وحشية لأكثر من خمسين عاماً.

تعامَل النظام بشكل لا يقبل الشكّ على أنّ المجتمع السوري هو عدوّ محتمل ودائمٌ للدولة، فورثت الثقافة المجتمعية السورية حملاً لم يكن ثقيلاً فحسب، بل على درجة من الألم والقهر لا يمكن تصوّرها طيلة حُكم الأب والابن. ولم يكفِ الحذر أن يتلبّس كلَّ مناحي الحياة فقط، بل الهلع وفقدان الثقة اللذين كانا يسكنان تحت اللحم والعظم.

في ساحة الأمويّين تلاشت الصدمة الجماعية لشكل الحياة السابقة، وأصبح للملامح السورية الآن لون مختلف من البهجة والأمل والتعبير لم نألف أن نراه فيما مضى.

* كاتب سوري مقيم في الولايات المتّحدة

العربي الجديد

———————————

لبنان فضيحةً سوريّة/ عباس بيضون

29 ديسمبر 2024

لم ينتظر أحدٌ الحدث السوري، بدا وكأنّه من خارج الزمن، كأنّه فقط لعبة مكان. لم ينتظره أحدٌ أو أنّ الجميع انتظروه بلا جدوى، طال ذلك حتى أُنسي ولم يعُد في الحساب. لم تكن لديه مقدّمات، أو أنّ تراكُم المقدّمات، من دون أن تفعل، جعلها غير قائمة وكأن لم تكن. لم يعُد أحد يلتفت إلى بوادر، صارت لفرط تتابُعها كأن لم تحصل.

يمكننا القول إنّ الأمر كان كذلك، لا في سورية وحدها، ولكن بالدرجة نفسها في لبنان أيضاً. صلة سورية بلبنان بقيت أيضاً من خفايا الوضع. منذ خرجت سورية من لبنان، صارت موجودة فيه على نحو غامض، صارت من مفردات الوضع اللبناني من دون أن يستطيع أحدٌ تقديرها. لقد خرجت من لبنان إثر مقتل الحريري، لكنّها عادت إليه في مقتلات أُخرى، بدا لبنان مفتوحاً أكثر لها. إنّها الآن موجودة فيه كحتف موعود. كان اسمها قائماً على مصارع عدّة، بدت وكأنّها ثأر لهذا الخروج الذي أملته على نفسها. صنعته لنفسها، وهي الآن تعاقِب لبنان عليه. لم تكن لها حرّية القتل فحسب، بل حقّ القتل الذي طالما مارسته، على رئيسَين منتخبين ورجالات من الأركان، واستمرّت فيه. بقيت موجودة بأعتى طريقة وأعنف أسلوب. مع ذلك لم يكن مقدوراً معرفة حدود ذلك، ولا حجمه أو طبيعته.

بدت مطرودة من لبنان، والذهاب مجرّد الذهاب يُعتبر تحدّياً وجرأة عليها. في الوقت الذي كان لبنانيون يحاربون فيه إلى جانب النظام السوري، ويستقبل لبنان ملايين السوريين، وتنعقد على الحدود المفتوحة علاقات اقتصادية وعسكرية وتهريب واسع. كانت سورية موجودةً يومياً في لبنان، ولبنان موجود يومياً في سورية. وواضح أنّ بين البلدين ما يمكن ردّه إلى انهيار الاثنين، وما يتيحه هذا الانهيار من مواضعات شتّى، ومن انتهاكات لكلّ يوم.

سقط الأسد. هذا ما يبدو الآن أكثر من سقوط رئيس، إنّه تقريباً انتهاء قرن كامل، أو ما يقارب قرناً كاملاً. إنّه انهيار التاريخ السوري كما وصل إلينا، وكما عايشناه وعرفناه. التاريخ هذا كلّه الآن على الأرض، إنّه صيدنايا ومئة ألف مفقود، و12 ملياراً للأُسرة الأسدية، وبطبيعة الحال نظامٌ أمني. لم يكن سوري، أيُّ سوري حرّاً أمام النظام، كان على المجتمع كلّه أن يكون متّهماً ومسؤولاً، وما لم يكن كذلك فهو غير موجود، أي مسحوق لدرجة الاختفاء، لدرجة فقدان الاسم والصفة والحضور نكرةً. بطبيعة الحال حاول النظام السوري أن يُحيل لبنان كذلك، بالتأكيد كانت سنوات الاستيلاء السوري محاولة لجعل لبنان بالوضع ذاته، إمحاء المجتمع وتحويله إلى اختفاء وإلى نكرات، بدون وجود أو حضور أو أسماء.

الآن، بعد سقوط الأسد وانكشاف فضيحة نظامه، لم يعُد أحد يسأل عن سياسة النظام ولا عن مواقفه، ولا عن سياسات خصومه أو هوياتهم. لقد توقّف الزمن عند رعب الفصام الأسدي وفظائعه. كنّا هكذا أمام جريمة موصوفة، جريمة ليس إلّا، ولم تعُد تعنينا بعد مواقف النظام من الشرق والغرب، من “إسرائيل” أو أميركا. لم تعُد تعنينا سياساته ومبادئه، فقد بدا أنّ القتل وحده هو هوية هذا النظام، وأنّه بلا سياسات أو مواقف، فهو ليس إلّا قاتلاً، وأياً كانت مبادئه فهي ليست سوى جزء من جرائمه، سوى اسم آخر لها.

يقول الشيخ نعيم قاسم، أمين عام “حزب الله”، الذي لا يفاجئنا أنّه لم يدافع عن نظام قام بخدمته عسكرياً عدداً من السنين. كان هكذا مثل الجميع الذين، أيّاً كانت صلاتهم بالنظام الأسدي، لم يجرؤوا عن الدفاع عنه. يقول الشيخ إنّ حزبه فقد هكذا طريق الإمداد العسكري. لا نعرف ماذا فقد غيره من أصدقاء النظام، لم يقولوا لكن الشيخ سمّى بدقة ما فقده، طريق إمداد عسكري، والأرجح أنّه طريق إمداد أوسع من ذلك، إنّه طريق إمداد إقليمي ودولي، عسكري وغير عسكري. لقد فقد “حزب الله” ما كانته سورية في لبنان، وهذا جزء منه، جزء من “حزب الله” أيضاً.

لقد صار النظام الأسدي اليوم فضيحة لبنانية أيضاً، ويمكن أن ننتظر في الأيام القادمة أن يتكشّف ذلك، وأن تظهر أصابع النظام الأسدي الدامية في لبنان. لم تكن سورية في لبنان أقلّ منها في سورية نفسها، فبالروح الذي أخفى فيها النظام الأسدي مجتمعه، لا شكَّ أنّه ما كان سيفعل شيئاً آخر لمجتمع وبلد، طالما اعتبرهما تحت ولايته، وطالما سلّط عليهما استبداده، وأخضعهما لازدراء كامل، اتجاه من يستتبعهما، ولا يشقّ عليه أن يعاملهما بالدونية التي يعامل بها شعبه.

يختفي الأسد ومعه يختفي حلم هيمنة على الجار الأقلّ بداوة، والأقلّ فروسية، والأقلّ إمكاناً. لبنان السوري المختفي سيظهر أيضاً فضيحةً كبرى، موقعَ نهب وقتل وانتهاك. انتظروا الأيام المقبلة.

* شاعر وروائي من لبنان

———————————

مرحبا يا سورية وليكن لقاء لا فراق بعده/ راسم المدهون

29 ديسمبر 2024

في صباحٍ دمشقيٍّ باردٍ من أواخر كانون الثاني/ يناير 1994 كنت وصديقي نعبر الشارع من أمام “مكتبة النوري” في اتجاه “السوق الحرة”، قال صديقي فجأةً: سأريك شيئًا يختصر حياتنا ببلاغة، وقادني لنعبر أمتارًا قليلة لنصل إلى المسافة بين مبنى “البريد المركزي” ووزارة الزراعة، وطلب مني أن أقرأ ما تقوله يافطة طويلة تجمع المبنيين، والتي حين نظرت إليها رأيت صورة باسل الأسد يرفع يده اليمنى عاليًا ويخاطب الشعب السوري من عالم الموت الذي رحل إليه قبل أيام قائلًا حرفيًا: شعبي العزيز، كنت أتمنى أن أخدمكم أكثر ولكن الموت لم يمهلني!

في تلك اللحظة لم أجد أبلغ من الصمت، ولكننا بعد أن دخلنا السوق الحرة وخرجنا منها انفجرنا فجأةً في نوبة ضحك هستيري لم نستطع أن نخرج منها إلا بعد وقت، وأتذكر أن ما قلته يومها هو أن السلطة دخلت مرحلة الجنون الشامل.

إنها سورية، وهي في البال حضارة موغلة في التاريخ، وهي أيضًا دولة بني أمية وعاصمة التاريخ، مثلما أنها في التاريخ الحديث بلاد حققت استقلالها فذهبت تحث خطاها نحو دولة عصرية يحكمها رجال آمنوا بشعبهم وناسهم، فتداولوا السلطة وشجعوا قيام صناعة وطنية سرعان ما ازدهرت قبل أن تقبض على رقاب القائمين عليها قبضات العسكر وتنجح في إيقاف التاريخ، ثم في إعادته إلى الوراء في مرحلة لاحقة، حتى إذا انفض سامر الانقلابات جاءها الديكتاتور.

منذ أوائل السبعينيات ارتبطت صورة سورية في ذهني بحالة الوقوف بين نقيضين لدودين: شكري القوتلي ومعه خالد العظم وفارس الخوري ورفاقهم، وحافظ الأسد ووراءه طابور من رجال الأمن بأدوات قمعهم وبرطانة خطاباته الإنشائية وجموح سلطته وضباطه الزاحف نحو النهب المبرمج والشامل والذي لم يحقق سوى إفقار البلاد وإفساد أكبر عدد ممكن من البشر حتى انتشرت في البلاد مصطلحات تزكم الروح من نوع أن الموظف الشريف هو مجرد “مغفل” والموظف اللص هو بارع وذكي ويعرف كيف “يدبر حاله” في غابة الظلم التي يقودها ملك الغابة المظلمة الأسد.

في أيلول/ سبتمبر 1973 تم اعتقالي مع مجموعة العاملين في “إذاعة الثورة الفلسطينية” التي كانت تبث من مدينة درعا في جنوب سورية وتم إيداعنا في زنازين انفرادية لمدة 28 يومًا ولم نخرج إلا بعد أن عاد الرئيس أبو عمار من زيارات إلى بلدان أفريقية والتقى “ملك الغابة” ونجح في إقناعه بالإفراج عنا: حين وقفت في ساحة سجن المزة في جبل قاسيون، كنت أحدق من هناك في اتجاه الشام وكان الوقت بين المغرب والعشاء، وأتذكر أن من قام بالإفراج عنا هو عميد كان رئيسًا للأمن العسكري، قال لي وأنا أرى الشام: إنها مدينة جميلة، فقلت: طبعًا ولكنها تبدو أجمل وأنا أراها من طاقة سجن ضيقة.

في آذار/ مارس 2011 زارني صديق من أوائل من ثاروا على سلطة الأسد الابن وقال لي وهو لم يزل منفعلًا وغاضبًا: أنا آتٍ من المظاهرة الأولى ضد النظام، وأضاف: لقد أطلقوا الرصاص، فهتفت بسرعة: هل قتلوا أحدًا، قال: اثنين. بعد أيام كان “سيادته” يخطب في “مجلس الشعب” ويتحدث عن “مطالب مشروعة” اختطفها متآمرون وهدّد بلغة صريحة لا لبس فيها: إن أردتم الحرب فنحن لها، وأتذكر أنني قلت لزوجتي ونحن نشاهد “الخطاب”: “لو أنه قتل منكم مليون ثم سقط فأنتم الرابحون”، وأشهد أنه فعل ثم سقط.

على مدار تلك السنوات كلها عشت أهوال الحرب بقذائفها وبراميلها المتفجرة وحملات اعتقالها وتدمير المدن وتهجير أهلها، ومع ذلك ظل في أعماقي سؤال مرعب: منذ اليوم الأول لحملات القمع والتفتيش كان يشغلني ذلك السؤال ويضعني في حالة ذهول، وهو سؤال عن العلاقة بين رجال الأمن في سلطة الأسد والشعب السوري.

منذ اليوم الأول للقمع وحملات المداهمة كنت أرى بأم عيني أن رجال أمن الأسد لا ينتمون للشعب السوري ولا تربطهم به أية أواصر من قريب أو بعيد، ولاحظت ومنذ اليوم الأول أنهم يرون في الشعب السوري عدوًا يجب إزالته بكل الطرق والوسائل، بل إنني لم أنس ولا أظنني أنسى، أن رجل أمن كان يقول لزميله أمامي: لقد دمرنا لك حمص، فكان الأغرب جواب الآخر الحمصي إذ قال بلا اكتراث: فليدمروها وليلعنوا أبوها!

بين الخطاب الإعلامي لسلطة المخلوع والواقع مسافة شاسعة من الفوضى والتناقض وكاريكاتورية الشعارات، الكاريكاتورية المغمسة بالدم: أحد أغبياء تلك السلطة كان يتحدث بسعادة بالغة عن مؤسسات الدولة التي كانت تشرف على دوام الموظفين فيها المخابرات فتقوم بتفقد من حضر منهم للدوام ومن غاب، والمضحك أن ذلك التافه كان يروي حكايات عن ذلك باعتباره تأكيدًا على أن سلطة المخلوع هي “دولة مؤسسات” معتقدًا أن المقصود بالمؤسسات هي مؤسسات الخدمات مثل مؤسسة المياه ومؤسسة الكهرباء ومؤسسة الصرف الصحي وليس كما يعرف العالم ولا يعرف هو أن المقصود هي مؤسسات الحكم، وهو بالتأكيد أغبى من أن يفهم أن الحكم الرشيد يعني مؤسسات الحكم ويشدد على الفصل بينها.

بين حافظ الأسد وابنه قواسم مشتركة كثيرة لكن أبرزها وأهمها هو انتماؤهما معًا لعالم “الأمن” ولفكرة قدرة الأجهزة الأمنية على تطويع المجتمع وإعادة تشكيله كمجتمع لا حول له ولا قوة بل لا خيار أمام أفراده سوى الخضوع الشامل والتام: أحد وزراء الإعلام السابقين زار كوريا كيم إيل سونغ وعاد منها بفكرة عبر عنها بقوله للمحيطين به “نحن مقصرون في حق القائد”، وحين سأله “القائد” ماذا يقترح أن يفعل قال: هناك في كوريا الشمالية منظمة تهتم بتربية الأطفال بصورة ثورية، وهكذا التقط الأسد الأب الفكرة وتم تأسيس “طلائع البعث” لتكون “منظمة تربوية” تقوم على تلقين الأطفال من تلاميذ المرحلة الابتدائية مزايا الأب – القائد وعطاياه لهم ولأهلهم، أسوة بـ”رعاية” القائد لمن هم أكبر منهم سنًا أي تلاميذ المرحلتين الإعدادية والثانوية الذين “يتمتعون” برعاية مماثلة من “اتحاد شبيبة الثورة” والذين سيرعاهم بعد ذلك “الاتحاد الوطني لطلبة سورية” والذي أتذكر أن أول مهمة تم تكليفه بها هي قمع المتظاهرين في بدايات الثورة السورية وبالذات في كليات جامعة دمشق والمدينة الجامعية.

في قلب كل هذا تحتل درعا مكانة خاصة: “جنّ” أطفال درعا الذين “لم تثمر فيهم” تربية “منظمة طلائع البعث” فكتبوا على الجدران في “درعا البلد” عبارتهم الخالدة والتي كانت “شرارة” اندلاع الثورة “أجاك الدور يا دكتور” فزج بهم مسؤول “الأمن السياسي” عاطف نجيب (ابن خالة بشار الأسد) في السجن وعذبهم وحين جاء آباؤهم لمقابلته مطالبين بالإفراج عن أبنائهم قال لهم عاطف نجيب: أولادكم تنقصهم التربية، أحضروا نساءكم لننجب منهن أولادًا محترمين.

تلك الحادثة بالغة الرمزية لم تكن سبب اشتعال الثورة السورية التي كانت تملك آلاف الأسباب ولكنها وضعت حدًا واقعيًا وبالغ الوضوح بين سلطة القمع الهمجي وبين نبل الناس البسطاء والعاديين، ودرعا التي ظن بشار الأسد يومًا ما أنها يمكن إخضاعها شهد التاريخ بعد ذلك أن أبناءها هم من زحفوا ليلة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر وكانوا أول من وصل قلب عاصمة الأمويين معلنين نهاية الطاغية وعرشه.

سورية قلب العروبة النابض، لم تخضع لطاغية، ويظل في البال أن قائد الروم قال بحسرة بعد هزيمته في معركة اليرموك جملته الخالدة: وداعًا يا سورية الجميلة… وداعًا لا لقاء بعده، فوصلتنا على لسان ياقوت الحموي. وهي ذاتها سورية التي كانت دائمًا مفتوحة الأبواب إلى كل العرب ممن تضيق بهم أوطانهم والتي لا أجد ما أقوله اليوم سوى جملة تهتف بما هو عكس ما قال قائد الروم المهزوم: مرحبًا يا سورية الجميلة والعظيمة… وليكن لقاء لا فراق بعده.

ضفة ثالثة

——————————–

سوريا: تغيير النظام السياسي أم تغيير النظام الاجتماعي/ منصف الوهايبي

تحديث 29 كانون الأول 2024

ليس من مقاصدي في هذا المقال أن أناقش موقف أدونيس أو غيره من السوريّين على اختلافهم، من سقوط النظام السوري؛ وإنّما أحاول طرح هذه المسألة «تغيير المجتمع أم تغيير النظام» من وجهة نظر تتّسع في تقديري لأنظمة عربيّة أخرى لم توفّق في «استثمار» الغضب الشعبي أو «انتفاضات» شعوبنا أو «ثوراتها» خلال العقد الماضي. وقد أفضى ذلك إلى ما نلاحظه من لامبالاة عامّة الناس بالشأن السياسي، كما هو الأمر عندنا في تونس حيث شهدنا وعشنا «تعدّديّة» سياسيّة في خضمّ «الثورة» لها وعليها، وليس «ديمقراطيّة» على النمط الحديث المعروف. ولذلك أسباب ومسوّغات شتّى، لعلّ من أبرزها فقدان الثقة في السياسي؛ وجميعنا على ما أرجّح يعرف أنّ أساس العمل السياسي هو الثقة: ثقة المواطن في المترشّح وفي برنامجه ووسائل تنفيذ وعوده. والثقة رهان وليست إيمانا أو اعتقادا «دينيّا» ساذجا في السياسي، كما حدث عندنا إبّان «الثورة» أو أثناء حكم «الإسلاميّين» وشركائهم؛ حيث كانت «المرجعيّة أو الخلفيّة الدينيّة» هي مناط ثقة عدد كبير من المواطنين في «الترويكا» التي انهارت سريعا، بـ«اعتصام الرحيل» وما تلاه. والمؤمن كما يقول الحديث «يُطْبَع على كلِّ خُلُقٍ إلاّ الخِيانَةَ والكَذِب». والحقّ أنّ الشعور بالخيانة أو بالإحباط هو الذي ساد في تونس عند كثيرين؛ وقد تبيّن لهم أنّهم خُدعوا، وأنّ الوعود وتسنّم السلطة شيء آخر، وأدرك جلّهم أنّ الذين «بشّروهم» بـ«جنّة تونسيّة» كانت لهم «خائنةُ الأَعْيُن» إذ أضمروا في أنفسهم غيرَ ما أظهروه في وعودهم.

وهو الدرس الذي يفترض أن يضعه حكّام سوريا الجدد نصب أعينهم، حيث إعلان «إرادة التغيير» لا تكفي لإقناع المواطن الذي قاسى ما قاسى طوال نصف قرن من الاستبداد الشنيع والفساد والتسلّط. والزمن اليوم غير الزمن، فهو يتسارع ويضغط على نحو عجيب أو غير مألوف حيث تنشب الحروب هنا وهناك، وتندلع الثورات والتحوّلات في فترات قصيرة عندنا وعندهم في الغرب؛ تحت وطأة العولمة والتكنولوجيا الرقميّة المشتركة والذكاء الاصطناعي والروبوتات، وما يسمّى بالثورة الصناعيّة أو الاقتصاديّة الثالثة التي بدأت منذ منتصف القرن الماضي، وغيرها والعالم اليوم غير عالم القرن التاسع عشر «عالم الامبراطوريّات العظمى» وغير عالم القرن العشرين «عالم القوميّات» وإنّما هو «عالم الثقافات»، حتّى ليصحّ ما يقوله المؤرّخ الفرنسي جول ميشليىه في قراءته لتاريخ القرن التاسع عشر، من أنّ «وتيرة الزمن تغيّرت تماما بعد كومونة باريس، إذ ضاعف سرعته على نحو غريب. فقد قامت ثورتان عظيمتان، كان من الممكن أن تفصل بينهما ألفا عام».

والقضيّة في هذا الزمن السريع، ليست في «ما ينبغي فعله» وإنّما في «كيفيّة فعله» من حيث الأدوات أو الوسائل، في مجتمع متعدّد غنيّ بتاريخه ومعتقداته وثقافاته، مثل المجتمع السوري؛ يفترض أن تكون تعدّديّته عامل تغيير باتّجاه ديمقراطيّة أساسها المواطنة لا المحاصصة كما هو الشأن في لبنان أو العراق أو عندنا في تونس أثناء حكم الترويكا ونداء تونس. وتغيير النظام أشبه بجبل الجليد، حيث لا نرى إلاّ القمّة أو ما هو على السطح، في حين أنّ تغيير النظام الاجتماعي يتطلّب دراية  بالجذور والرموز غير المرئية، وليس إصدار قرار أو مرسوم؛ إذ أنّ هناك ثقافة متأصّلة في مجتمعاتنا عامّة على ضرورة تنسيب الحكم، معادية لأيّ تغيير يراه الفرد بسبب من نزعته المحافظة، مخلاّ باستقراره وبعاداته أو مكانته أو امتيازاته ومزاياه؛ وقد يلمّ بما قد يخسره؛ والإلمام بالشيء هو عدم التعمّق فيه، وقد لا يعرف ماذا سيكسب أو بماذا سيفوز؛ فيما التغيير عمل جماعيّ مداره على أهداف مشتركة.

ولا أحد غير السوريّين يعرف ما إذا كان عامّة المواطنين جاهزين للتغيير الديمقراطي المنشود؛ وهم الذين لم يعرفوا على اختلاف أعمارهم سوى نظام شموليّ متسلّط علّمهم أو تعلّموا منه أن يعوّلوا في كل شيء على الدولة «الراعية» وعلى حمايتها. وما يحدث اليوم في سوريا لا يزال مصدر قلق أو حذر، لا للسوريّين وحدهم، فيما نقرأ ونشاهد، وإنّما لجيرانهم وللعالم أيضا؛ فقد انهار النظام فيما يشبه زلزال فالديفيا في تشيلي عام 1960 الذي بلغ 9.5 على مقياس ريختر؛ وهو الأعلى. يقول بول فاليري: «إنّ الثورة محصّلة شعور ببطء التطوّر. أمّا إذا تغيّرت الأمور بالسرعة المطلوبة، فلن تكون هناك ثورة» والثورة السوريّة المنشودة لم تبدأ بعد. ولا أحد منّا من المنتصرين لإرادة الشعب، يحبّ أن يردّد عبارة ريمون آرون المأثورة التي قالها للجنرال ديغول «إنّ الشعب الفرنسي يقوم بثورة بين الفينة والأخرى، لكنّه لا يقوم أبدًا بإصلاحات تذكر». وقد يكون مآل «الثورة التونسيّة» خير مثال على هذا.

هل تغيّر النظام في سوريا حقّا؟ أقدّر أنّ السوريّين لا يزالون ينتظرون، إذ يفترض في تغيير النظام أن يفضي إلى تفكيك كافّة أشكال القمع والفساد، وإلى إقامة العدل والمساواة بين الجنسين… ويعرف جميعنا تلك الإجابات الجاهزة مثل «المجتمع غير متهيّئ بعد» أو «هناك قوّة الدولة العميقة» وما إلى ذلك من مبرّرات مردّها إلى شعور خفيّ بنوع من التفوّق الفكري عند أكثر السياسيّين الذين يتهيّبون الإصلاح الجذري. وهو غالبًا ما يكون سلوكًا نخبويًا يمهّد الأرض لبقاء الأقوى؛ إذ يعتقد أصحابه أنّهم يمتلكون الحقيقة؛ ومثل هذا الادّعاء هو الذي يصمّ الآذان ويفقد القدرة على الإصغاء للآخرين، ويحول دون تغيير النظام الاجتماعي أي بناء المؤسّسات التي تبني التعدّديّة وتحميها.

على أنّ المسألة لا تختزل في الفصل بين الاجتماعي والسياسي، على نحو ما يقول به بعض رجالات السياسة من أنّ التنظيم الذاتي الاجتماعي له مجاله الخاصّ المقبول، وأنّ السياسة القائمة «الحقيقيّة» مجالها عالم الدولة؛ وإنّما في عقد الصلة بينهما، بالرغم من أنّ السلطة في المجتمعات الحديثة اخترقت الاجتماعي أو هي صاغته على صورتها ومثالها، كما يقول أهل الفلسفة؛ فقد وسمتنا علاقات السوق والطبقات الاجتماعيّة بميسمها، حتى صرنا نعيد بوعي أو دونه إنتاج علاقات «القوّة الرأسمالية». وهذا يعني أنّ السلطة لا تتحكّم فينا من خارج فحسب، وإنّما هي تتسلّل إلى داخل حياتنا الاجتماعيّة أيضا، وتسيطر عليها. وصحيح ما يلاحظه علماء الاجتماع من ظواهر تكاد تكون عالميّة، وهي أنّ البشر هم اليوم أكثر تشتتًا حيث الشعور بـ«الفردانيّة» هو الذي يهيمن عليهم؛ إذ يشغل الفرد المكانة المركزية، على طرف النقيض من الرأي القائل بـ،»التماميّة» Holisme أو «الكلّيّة»حيث نظام معقّد بكامله كخليّة أو عضويّة، هو أعظم من مجموع أجزائه من منظور وظيفيّ. وفي سوريا قد تتعزّز «الفردانيّة» عند «الأقلّيات» فيها، ما لم تؤخذ بالاعتبار تلك الثنائيّات التي تتحكم فينا، مثل الثنائيّة القانونيّة، حيث المواطن هو مشرّع وموضوع تشريع، والثنائيّة السياسيّة حيث المواطنة تكون في الآن ذاته مبدأ وممارسات، والثنائيّة التاريخيّة حيث المواطنة مؤسّسة وصيرورة، والثنائيّة الجيوـ مؤسّساتيّة حيث المواطنة تتطوّر على الصعيدين المحلّي والكوني، والثنائيّة المؤسّسة أو المنشئة لفكرة المواطنة.

ولذا ننتظر من سوريا «الجديدة» أن يسود فيها منطق العدل والقانون، لا الضغينة والانتقام فـ»النار لا تطفئ النار» كما يقول المثل الإغريقي القديم. وهذه أمور جديرة كلّها أن تؤخذ بالاعتبار، من أجل تغيير النظام الاجتماعي. فالمواطن هو من جهة شخص «مجرّد» أي هو يتولّى تجريد خصوصيّاته التاريخيّة والإثنيّة والاجتماعيّة والجنسيّة من أجل المساهمة في إنتاج قانون، أو اتخاذ قرار يلبّي المصلحة العامّة أو «الكونيّة»، والمواطن صاحب سلطة، لأنّه يرتقي إلى مستوى مصلحة الشأن العام. ومن منظور آخر فإنّ هذه الممارسة تجري ضمن شروط مخصوصة، وفي صيرورات تاريخيّة. وهذه الثنائيّة المتعلّقة بالكوني والخصوصي غير قابلة للاختزال؛ فهي تميّز المواطنة من حيث هي فعل استئصال من الخصوصيّات، ومن حيث هي مجهود يتوق إلى الكوني. ولعلّ رهاننا جميعا، إنّما يتعلّق بإعادة صياغة هذه «المواطنة» الجديدة.

وهذا يقتضي وضع حدود واضحة بين حقوق الجماعة أو الأغلبيّة، من جهة، وحقوق الأفراد والأقليات، من جهة أخرى. على أنّ هناك حقيقة لا تخفى، هي «توتّر» ما بين إرادة الفرد وحاجاته، وإرادة الجماعة وحاجاتها؛ وقد لا يكون قابلا للحلّ، وإنّما لحسن إدارته. ولعلّ خير ما أختتم به، مع الاعتذار لأبي تمّام الطائي، أو الشامي كما يحسن بنا أن نسمّيه، قوله في وصف الربيع «رقّتْ حواشي الدهرِ فهي تَمرْمرُ»؛ وأنا أستبدل فيها «الشام» بـ«الأرض». و«الشام» تُذكّر وتؤنّث، وإن غلبت تسمية المؤنّث. وهي تشمل قبل سايس بيكو، سوريا وفلسطين ولبنان والأردن؛ لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض، فشبّهت بالشامات التي تظهر على الجلد:

أَوَ لا ترى الأشياءَ إنْ هي غُيّرتْ/ سَمُجتْ، وحُسنُ «الشامِ» حين تَغَيَّرُ

*كاتب من تونس

القدس العربي

————————————-

مقتضيات تحويل الأزمات في المشرق العربي إلى فرص مستجدة/ فؤاد السنيورة

الأحد 2024/12/29

في ضوء التحولات والمتغيرات الهائلة التي طرأت مؤخراً على مشهد المشرق العربي، وأعني بالتحديد دول العراق وسوريا ولبنان، يبدو أنَّ ما جرى حتى الآن هو واعدٌ ومبشّر، لكنه يحتاج للمزيد من العمل وتضافُر جهود أخرى أساسية، وتحديداً عربية، تكون داعمة لذلك، لاسيما وأنّ هذه المنطقة لا تزال تحت وطأة:

1- استمرارِ حدّةِ حروب الإبادة الجماعية المتوحشة والمدمرة التي تشنّها إسرائيل على غزة والضفة الغربية وعلى لبنان، وحيث تُشهرُ إسرائيل فيها سلاح تَفَوُّقِها العسكري والتكنولوجي والاستخباراتي، وكذلك نفوذها السياسي الدولي.

2- استمرارِ النفوذ الإيراني، وذلك بالرغم مما طرأ عليه اخيراً من تراجع، في التمسّك ببسط سلطتهِ وتسلُّطِه على عدد من دول المشرقِ العربي، معتمداً على أذرعه وعلى سرديته اللفظية في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ومتابعاً نهجه في إلهاب التطرف والتشدّد، واعتماد النعرات الطائفية والمذهبية، التي كانت ولا تزال تسهم في شرذمة القوى والطاقات العربية، وتحولُ دون استعادة القرار الحر للدولة الوطنية العربية، وتنفيذ سياساتها المستقلة في بلدانها.

3- استمرار أزمة الدولة الوطنية العربية في بلدان المشرق العربي بسبب السردية والممارسات التي تضع المواطنين في هذه الدول أسرى اختيار صعب: إما القبول بالحكم الديكتاتوري، أو القبول بسيطرة الأصوليات الدينية التي تستقي شرعيتها واستمرارها، في العادة، من المظلوميات التي تتسبب بها الأنظمة الشمولية لشعوبها، ومن التدخلات الخارجية. ولذلك، فقد عجزت تلك الدول العربية عن تلبية متطلبات إقامة الدولة الوطنية الحديثة التي يتحقق فيها التلاؤم مع مبادئ وقواعد المواطنة والحكم الديمقراطي الرشيد الحاضن لجميع المكونات الوطنية، والذي يُفْترضُ به أن يعزّز جهود النهوض الوطني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي في تلك الدول.

4- استمرار حدّة الصراعات الداخلية المباشرة، والأخرى بالوكالة في هذه البلدان، وذلك مترافقاً مع تفاقم سوء الإدارة وعدم كفاءتها، وتفاقمِ الأوضاع السياسية والأمنية، وتدهور وتراجع معدلات النمو الاقتصادي والتنمية المناطقية، مع ازدياد حدّة التزاوج ما بين الانفجار السكاني، والانتقال الكثيف من الريف إلى المدينة، ومع تقلّص فرص العمل الجديدة، وذلك كله بالتلازم مع ارتفاع مستويات الديون السيادية لدى هذه الدول وازدياد أعبائها. وقد أدّى ذلك بمجموعه إلى ارتفاع معدلات الفقر وازدياد حدَّة التفاوت الشديد في المداخيل والثروات بين الأغنياء والفقراء في تلك الدول، بما يعنيه ذلك من تراجعٍ في مفاهيم ومعايير العدالة الاجتماعية.

5- ازدياد أعداد ومجاميع النازحين والمهجَّرين قسراً عن ديارهم في هذه الدول بصورةٍ غير مسبوقة.

في خضم تلك الصدماتِ والتحدياتِ المحلية والإقليمية والعالمية التي باتت تعاني منها دول المشرق العربي، لا يَعرفُ أحدٌ على وجه اليقين متى يصير الأمر إلى شيءٍ من الهدوء، يتيح لهذه الدول إمكانية أن تتقدّم نحو تحقّق السلام العادل والشامل، والقائمِ على حلّ الدولتين وحق الشعب الفلسطيني في التحرُّرِ من الاحتلال الإسرائيلي، وحقه في أن يكون له وطنه ودولته السيّدة والحرّة والمستقلة. ومتى يُمكن أن تتمكّن هذه البلدان بالتالي من تحقيق تقدّم مستدام على مسارات النهوض المنشود والمسْتَحَق لها وللإنسان العربي فيها.

في هذا الخضم، تُطرحُ أسئلة كثيرة لماذا حصل كل هذا؟

هنا تجدر الإجابة على سؤال مركزي مُلح، وهو لماذا فشلت تلك الأنظمة العربية في إقامة دول على أساس فكرة المواطَنة، والتي في غيابها غابت الديموقراطية والمشاركة الصحيحة، وطغت فيها الاعتبارات القبليّة والطائفيّة والجِهويّة والمصلحية التي تحميها سلطات قمعيّة اعتمدتها القيادات المتحكمة، والتي همها الأساس، وفي الغالب، تأبيد سيطرتها على مواطنيها، وغالباً بدعمٍ وتدخلٍ من الجهات الخارجية.

في هذا الشأن، تتعدّد التّفسيرات والتّأويلات لما حصل. والحقيقة أنّه كان بنتيجة تفاعلِ مجموعاتٍ من العوامل والأسباب الداخلية والخارجية التي أوصلت تلك البلدان إلى هذه الأحوال البائسة.

فعلى الصعيد الداخلي، يظهر واضحاً أنّه قد عصفت بتلك البلدان صدمات خطيرة أدّت إلى تدهور كبير في مستويات الحريات العامة، وغيابِ الممارسات الديموقراطيّة الصحيحة، المتمثلة بالانقلابات العسكرية، وإملاءات فائض القوة، وعدم الالتزام بحكم الحق والقانون، وعدم احترام حقوق الإنسان وما يصاحب ذلك من إقصاء سياسي وتهميش اجتماعي، وغياب ثقافة التّسامح والاعتدال وغلبة أفكار الغُلوِّ والتطرّف، وذلك في ظل قصور وتقصير في المؤسسات التّعليمية والتّربوية عن تأدية دورها في غرس ثقافة المواطَنة، وقيم المُشاركة السياسية والاجتماعيّة.

كذلك، وفي المقابل، تبرز العوامل الخارجيّة والتدخّلات الأجنبيّة والحروب التي شُنَّتْ وعصفت في تلك البلدان، والتي كان من نتيجتها إبقاء حالات الانقسام والصراع والتخلّف الداخلي، وفي المحصلة التسبّب بالدمار الهائل للبنى التحتية والعليا والمرافق العامة في تلك البلدان، ومن ثمّ التضييع الكبير للفرص العديدة التي كانت متاحة. وفي المحصلة سيطرة التراجع والتخلّف في هذه البلدان عن ركب النهوض العالمي.

نتيجةً لكل ذلك، يسود شعور عربي عامّ بالإحباط، تفاقِمُهُ محدوديةُ قدراتِ تلك الدول على مواجهة التحديات المتكاثرة عليها، ومنها تلك التي تفرضها إسرائيل ويفرضها قصور تلك الدول عن إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات والأزْمات التي تعصف بها. ذلك ما أدّى إلى ازدياد سلطة وضغوط ونفوذ القوى الخارجية وأمراء الحرب الداخليين، وهو ما قد أفضى إلى تعميق انفصال هذه الدول عن مجتمعاتها، وإلى تآكل شرعيّتها، وازدياد اعتمادها على التّأييد والدعم الأجنبي.

لقد أصبح واضحاً، أنّه وفي ظلّ الإرغامات التي تفرضها هذه الأزمات والتحديات المتكاثرة، لم يعد بالإمكان الاستمرار في هذا المنحى. هناك إذن ضرورة ماسة للعمل على إحداث التغيير بالطرق السلمية من أجل استيلاد الحلول الصحيحة للحؤول دون السقوط في لجَّة الانهيار الشامل الذي لا تجدي بعده أية حلول.

في اعتقادي، انّ السبيل الحقيقي يكمن في إعادة الاعتبار لمفاهيم الدّولة الوطنية المدنية الديمقراطية الحديثة والعادلة والقادرة. كذلك في العمل على تعزيز استعادة الاعتبار لمفاهيم التّضامن والتّكامل والعمل العربي المشترك. فهذه الدول العربية باتت تُعشش في دواخلها الأمراض التي يخشى أن تصبح مستعصية. ولكن من طريق الدولة يكون الدواء أيضاً، وبالتالي يتحقق العلاج.

إنّ طريق الحلّ إذن يبدأ بإصلاح مؤسّسات الحكم في هذه الدّول العربيّة، والعمل على استعادة قرارها الحر وسلطتها الواحدة والموحَّدة على كل أراضيها ومرافقها وتعزيز هيبتها، كما والمبادرة إلى توسيع قاعدتها الشّعبيّة، وتعزيز تعبيرها عن المصلحة العامة التي تتجاوز الانحيازات الإثنيّة والطائفيّة، ورفع كفاءة مؤسّساتها، وزيادة قدرتها على تبنّي سياسات عامّة رشيدة تستجيب لاحتياجات مواطنيها.

إنّ التقدُّم المنشود على صعيد إنقاذ هذه الدول العربية الثلاث ينبغي أن يَلْحظَ أُموراً متوازيةً ومتساوقة:

أولاً: العمل المثابر من أجل بناء حكم صالح ورشيد يتحقق من خلال النمو والازدهار الوطني المتوازن، والعمل على تنمية المجتمع واقتصاده عبر تعزيز دور الدولة الوطنية العادلة والقادرة في إدارتها للقضايا الوطنية، والسياسية والداخلية والتنموية. هذا فضلاً عن التمسُّك بنهج الإصلاح الحقيقي، فعلاً وليس قولاً فقط، حيث إنّ عَوامِلَ الوهْن والتصدُّع الذي أصاب الدولة الوطنية العربية في هذه البلدان ليست خارجية فحسب، بل هي في جزء ليس بالقليل منها ناجمةٌ عن استعصاءٍ مزمن على الإصلاح لدى دول المشرق العربي.

الإصلاح الذي يكون من أولوياته تعزيز مفهوم العدالة، ولاسيما العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والذي هو الطريق الصحيح الوحيد الواجب سلوكه لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي وإحلال السلام الداخلي في هذه الدول.

ثانياً: العمل على تعزيز الالتزام بقواعد الحوكمة وإعادة الاعتبار لمعايير الكفاءة والجدارة والمحاسبة المؤسساتية على أساس الأداء، وفي إطار وممارساتٍ ديمقراطيةٍ حقيقية.

ثالثاً: العمل على تعزيز العلاقات الاقتصادية العربية البينية القائمة على التكامل الاقتصادي، والتنسيق الحيوي فيما بينها، ومع الدول العربية الأخرى لرفع نسب النمو وتعزيز التنمية المناطقية.

رابعاً: الإدراك أنّ المشروع الإسرائيلي يقوم على افتعال واستدامة التجزئة والتقسيم في المنطقة العربية، والإمعان في إدخال المجتمعات العربية في صراعات بينية، كما والاستمرار في مشاريعه التوسعية في غزة والضفة الغربية.

هذا ما يقتضي، وكمرحلة أولى، المسارعة العربية إلى الضغط لوقف التوغل الإسرائيلي في سوريا، وإجبار حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، على التراجع فوراً إلى ما بعد حدود اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا، والضغط على إسرائيل للانسحاب الفوري من لبنان والوقف الفوري لارتكاب المجازر في غزة والضفة الغربية في فلسطين، وذلك تمهيداً للعودة إلى اعتماد المبادرة العربية للسلام التي أقرت في قمة بيروت العربية في العام 2002.

خامساً: العمل على استعادة السَّكينة في العمل والسلوك الديني وفي التديُّن الإسلامي في دول المشرق العربي. ذلك أنّ التطرُّف، من هنا وهناك وهنالك، قد بلغَ أزْمتَه الكبرى.. وأَزَّمَنا في الوقت ذاته! ولذلك فإنّ الحاجة قد باتت ملحةً، وإلى حدٍّ كبير، من أجل الولوج الشجاع والرصين نحو الإصلاح الديني من طريق النهوض الفكري والحيلولة دون نشوء أجيال جديدة على التطرفِ ونشر العنفِ في العالم. وهذا ما يتطلب تعزيز المؤسسات الدينية المستنيرة والمنفتحة، والعاملة على تجديد الخطاب الديني الذي يحضُّ على العلم والتعلم المستمر، ويؤكّد على ثقافة العمل والإنتاج، والعيش معاً بسلام، متنوّعين ومتساوين، ويشجع على التفكير النقدي في مجتمعاتنا العربية من أجل تغيير الرؤية إلى العالم لدى أجيالنا القادمة.

سادساً: بناءُ العلاقات الصحيَّة والطبيعيَّة بين دولنا العربية ومع العالم من حولنا. ذلك أنَّ السلامَ والاستقرارَ والتنمية هي أمور لا يمكِن أن تتمَّ داخل أسوارٍ مغلقة في عالمٍ مُعَوْلم، ولا يمكن أن تقوم على الخوف لدينا من العالم ولا على تخويف العالم منا. نحن جزءٌ من حركة العالم والعصر، وبالطبع نريد التأثير فيه إيجاباً للاستجابة لمصالحنا، لكنّ التأثير يكون بالمشاركة الفعالة وليس بالانعزال او التفرد أو المجابهة، إذْ يجب أن لا نخافَ من العالم ولا نعملَ على إخافته.

بهذا، تستطيع الدولة المدنية العربية في المشرق العربي أن تتصالح مع مجتمعاتها، وأن تتقدّم على مسارات التكامل الاقتصادي في ما بينها، ومع باقي الدول العربية، فتزداد قوّتها على مواجهة التّحديات المرتبطة بالتحوّلات العالميّة الكبرى، لأنّ الدّولة القويّة لا بُد أن تستند إلى مجتمع قوي متآلف مع حركة ودينامية العصر.

أما في ما خصّ الوضع السوري تحديداً، فإنّ ما حصل في سوريا مؤخراً، وهي البلد العربي، الذي يُشكّلُ صلة الوصل البرية الوحيدة بين لبنان والدول العربية والعالم، وهو الذي يمثل حجر الزاوية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم العربي، لهو أمر مهم لسوريا وللعالم العربي، حيث إنّه ما أن تتداعى على سوريا الأزْمات حتى تؤدي إلى أن تستشري الآثار السلبية في كل اتجاه في العالم العربي. كذلك، فإنّ نهوض سوريا وازدهارها يكون له إشعاعه الإيجابي أيضاً في كل اتجاه عربي. ولذلك، فإنّ ما طرأ من سقوطٍ لحكم آل الأسد، شكَّل أمراً في منتهى الأهمية لما ألحقه هذا النظام البائد من أضرار قاتلة وعميقة ليس في سوريا فقط، بل وبالمنطقة العربية وبالعرب أجمعين.

إنَّ هذا التغيير يمكن أن يشكِّل فرصةً تاريخيةً وغير مسبوقة من أجل إعادة بناء مشروع الدولة العربية السورية الجديدة التي تحترم قواعد المواطنة، والتي تضم وتحتضن جميع مكوناتها وتحترم التعدّد والتنوع، وتعزز المشاركة الوطنية، والتي هي عناصرَ وطنية ينبغي أن تشكّل مصدر غنىً لها.

لذلك، فإنّ هناك حاجةً ماسةً إلى مبادرة عربية سريعة لاحتضان سوريا والسوريين، وحماية المشروع السوري العربي الجديد، بعيداً عن محاولات الاختطاف الأيديولوجي. وهذا يعني أنّه ينبغي على الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية ودول الخليج العربي والأردن، المبادرة بشكلٍ ثنائي أو متعدِّد مباشر، وكذلك في إطار جامعة الدول العربية التواصل مع المسؤولين في سوريا الجديدة، ورسم قواعد التعامل الجديد معها، وتقديم المساعدة الصحيحة والسريعة لإقدارها على سلوك الطريق التي تؤدي إلى اعتماد أسلوب الدولة المدنية السورية الحديثة، الحريصة على احتضان ومشاركة جميع مكوناتها الوطنية، وبما يمكنها من استعادة دورها القوي والفاعل في محيطها العربي. وأيضاً لمساعدتها وبالتعاون مع المجتمع الدولي من أجل إيقاف العدوان الإجرامي والاحتلالي الذي ترتكبه إسرائيل ضد سوريا، والسعي من أجل رفع العقوبات المفروضة عليها وفق صيغ قانونية نظامية تضمن عدم تكرار ما حدث. وكذلك في العمل على إعادة بناء وتعزيز علاقات سوريا العربية، لتتمكن من استعادة دورها الفاعل والمتكامل مع الأشقاء العرب في علاقات قائمة على الاحترام المتبادل، وفي تعزيز علاقات سوريا مع المجتمع الدولي.

أعرفُ أنَّ هذه المسارات ليس بالأمر السَّهل سلوكُها أو التقدّم على مسالكها، ولكنَّها ممكنة ان أردنا ذلك حقاً.

هناك من يقول أنه لا رياح مؤاتية لمن لا أشرعة له. والحقيقة أنّ هناك فرصاً حقيقيةً تلوح، ولا شكّ في ذلك. فهل سنحرص على أن تتوفر لدينا الأشرعة اللازمة!

التردُّدَ أو الفشل في ذلك إمعانٌ في تغييب الدور العربي المطلوبِ حضورُهُ الآنَ الآنَ في هذه الفرصة المتاحة وليس غداً؛ وكما يقول الشاعر:

“إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة   فإنّ فساد الرأي أن تترددا”.

المدن

————————————-

السوريون يسقطون الأسد في 2024: بات للفظائع صورة توثقها!/ مصطفى الدباس

الأحد 2024/12/29

لم يكن سقوط النظام السوري مجرد نهاية لحكم ديكتاتوري استمر 54 عاماً، بل كان دليلاً على هشاشته الحقيقية التي ظل يخفيها تحت طبقات من القمع والدعاية والتحكم بالإعلام. وأعاد مشهد انهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية للنظام في غضون سبعة أيام فقط المفهوم العالمي عن الاستبداد، ليؤكد أن الأنظمة المبنية على الخوف والولاء الزائف مصيرها السقوط مهما طال أمدها.

وفي 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، استيقظ العالم على سقوط نظام الأسد الذي حكم البلاد لعقود بقبضة من حديد، وكان رمزاً للاستبداد والوحشية التي لا يوازيها ربما سوى نظام كوريا الشمالية. وغيرت تلك اللحظة الاستثنائية مسار التاريخ السوري الذي كان يعيش في حالة تشبه الموت السريري  بسبب  الجمود السياسي التي ساد المنطقة لسنوات ومحاولات إعادة الأسد عربياً ودولياً رغم كل الانتهاكات التي ارتكبها ليس فقط منذ العام 2011 بل منذ العام 1970 عند استيلاء حافظ الأسد على السلطة بانقلاب عسكري، ما ظهر بشكل فيضان من الصور والفيديوهات التي كشفت لمن لا يعرف معنى الحياة في سوريا الأسد.

وطوال أيام، تدفقت الصور والفيديوهات من داخل مراكز النظام الأمنية التي لطالما كتبت عنها التقارير الحقوقية والإعلامية في الصحافة المستقلة خصوصاً في العالم الغربي، لتكشف عن حجم الوحشية التي تعرض لها السوريون لعقود. كان أبرزها ما خرج من “سجن صيدنايا العسكري” المعروف بـ”المسلخ البشري”، حيث تحولت الجدران الملطخة بالدماء، والمقابر الجماعية المحيطة به، إلى شهادة على عقيدة النظام المبنية ليس فقط على إلغاء الإنسان تماماً، بل التعامل معه على أنه كائن أدنى لا يستحق العيش في “مزرعة الأسد”، وإن سمح له بالعيش بعدها، يجب عليه أن يشكر العائلة المجرمة بقية حياته على تلك المكرمة المتمثلة في البقاء على قيد الحياة.

هذه المشاهد أثارت صرخة عالمية ضد تقاعس المجتمع الدولي في محاسبة نظام استباح حياة البشر لعقود، وحتى في الدول الغربية كان هنالك مواطنون عاديون لا يصدقون أن دولاً تتحدث عن حقوق الإنسان ومنظمات مثل الأمم المتحدة، سمحت باستمرار مثل ذلك النظام طوال عقود، لأن كمية الإجرام التي خرجت كانت أكثر من صادمة، خصوصاً أنها لم تكن حالة فردية مثلاً بل نظاماً منهجياً كان الجميع يعرف بوجوده ويصمت لاعتبارات سياسية مختلفة.

وفي صيدنايا، كانت الغرف تُستخدم ليس فقط للتعذيب بل لإبادة منهجية، حيث تم توثيق وجود مكابس لطحن الجثث وغرف ملح للحفاظ على بقايا الضحايا، وغرف للمشانق وأخرى للإعدامات الجماعية، فيما كانت الأوراق الرسمية الخاصة بالسجن عرضة لانتهاكات من نوع آخر، على صعيد الاستهتار الإعلامي بأهمية التوثيق في هذه المرحلة التي تتطلب السعي وراء العدالة والمساءلة، بدلاً من الشهرة في مواقع التواصل الاجتماعي فقط.

والمقابر الجماعية التي انتشرت في أنحاء البلاد وظهرت صورها على الصفحات الأولى لوسائل إعلام عالمية، أكدت أن هذه الجرائم لم تكن استثناءً، بل نهجاً تبناه النظام. ومع اكتشاف الوثائق التي تحتوي على أسماء المعتقلين وأوامر الإعدام، باتت الصورة أكثر وضوحاً. لكن الفوضى التي رافقت انهيار النظام أدت إلى إهدار الكثير من هذه الوثائق، حيث أُحرقت بعضها للتدفئة من قبل الأهالي الذين كانوا يبحثون عن خيط يوصلهم لأحبائهم المفقودين، أو تُركت للإهمال، أو حتى لتعفيش قوات النظام البائد أنفسهم ممن عادوا إلى السجون وتظاهروا بأنهم معتقلون سابقون، وتم إثبات هوياتهم لاحقاً، ما يمثل خسارة كبيرة للعدالة على المدى الطويل.

والحال أن سرعة انهيار نظام الأسد صدمت للكثيرين، ولم يصدق أحد أن ماجرى كان حقيقاً حتى لحظة  خروج البيان الأول من “التلفزيون الرسمي” وحتى حينها، ظن البعض أن عملية قرصنة قد حصلت، لأن شعار الأسد للأبد كان حتى بالنسبة للمعارضين ثقيلاً وحاضراً لدرجة أن إمكانية سقوط النظام كانت حلماً بعيد التحقق خصوصاً بعد تحول الثورة إلى حرب أهلية وبقاء النظام في الحكم بسبب دعم حلفائه الروس والإيرانيين.

وكان الإعلان الأخير عن أن حقبة مظلمة من تاريخ سوريا انتهت، وأن زعيم المافيا الأسدية بشار الأسد،  فر إلى روسيا عبر قاعدة حميميم، كفيلاً بتغير شكل المنشورات في منصات التواصل، وكأن البلاد عادت لألوانها الطبيعية، بعد امتصاص دمها على مر 5 عقود كاملة، ورغم ذلك التورد كان واضحاً مدى تهالك مؤسسات الدولة والجروح التي يعاني منها المجتمع والقصص المأساوية لملايين السوريين.

والتشكيك اللحظي بسقوط النظام خصوصاً من قبل الموالين له، يعود جزئياً إلى الدعاية الرسمية التي رسمت صورة منتصرة للنظام منذ انتهاء معركة حلب العام 2016 وهدوء جبهات المعارك في البلاد، وصولاً للحظات الأخيرة من عمر النظام الذي رفضت وسائل إعلامه حتى آخر ثانية تصديق هروبه واستمرت في تقديم ضخ كاذب بشكل ذكر بشعار الثورة السورية القديم في المظاهرات السلمية: “الإعلام السوري كاذب”، وهو نفس الإعلام الذي بنى صورة فوق واقعية لسوريا كدولة رغم أنها كانت كومة من الخراب التي تحكمها عصابة تمارس الترهيب والتعذيب وتجارة المخدرات وغيرها من المشاكل المثيرة للقلق في المحيط العربي ككل.

وعداء النظام السوري للإعلام المستقل منذ عقود، كان سبباً في الفوضى الإعلامية اللاحقة عند سقوطه، حيث كانت طريقة الكشف عن الانتهاكات خصوصاً في المعتقلات سيئة السمعة، كارثية أحياناً، بسبب غياب الصحافة المحترفة داخل سوريا، حيث تولى الناشطون والمواطنون الصحافيون تلك المهمة. وانتشرت الصور الملتقطة بالهواتف الذكية من داخل السجون والمعتقلات والمقابر الجماعية، لتنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، لتصبح الشاهد الأول على انهيار النظام.

وفي عصر يهيمن فيه الإعلام المرئي على تشكيل الرأي العام، أثبتت الصور أنها أقوى من الكلمات والخطابات. مشاهد سقوط النظام كانت أكثر من مجرد وثائق، بل كانت أداة لإعادة تشكيل الرأي العام العالمي حول سوريا. لكنها في الوقت ذاته أظهرت تحديات جديدة، مثل انتشار الأخبار المضللة وصعوبة التحقق من صحة المعلومات في غياب المؤسسات الإعلامية المستقلة.

هذا النموذج المتعلق بصحافة المواطن والتسريبات التي تخرج هنا وهناك ومصورة بطرق بسيطة، لم يعد ناجحاً بعد سقوط النظام، مثلما كان الحال في بدايات الربيع العربي عندما كان الأفراد يتحدون دكتاتوريات راسخة خوفاً من القمع والاعتقال، متخفين وراء أسماء وهمية وملتقطين صوراً وفيديوهات وفرت نافذة على عالم من الانتهاكات التي يتم التعتيم عليها. والحالة الجديدة اليوم تتطلب عملاً مؤسساتياً منظماً، لتفادي الوقوع في فخ الاخبار الكاذبة أو المحرفة، التي لم تنجو منها حتى أكبر وسائل الإعلام العالمية التي حاولت تغطية الحدث الفوضوي، مثل مراسلة “سي إن إن” كلاريسا وارد التي التقت معتقلاً منسياً في زنزانة أسدية، ليتبين لاحقاً انه ضابط في السجن نفسه.

وربما يعطي ذلك لمحة عن أهمية إعادة بناء علاقة السوريين مع الإعلام ككل في الدولة الجديدة مهما كان شكلها، لأن إقصاء الإعلام لعقود وتحويله إلى مجرد بوق للسلطة وناطق باسمها كان كارثياً وقد تلاحظ تبعاته لعقود قادمة، وفيما كان جهود الناشطين الإعلاميين عنصراً أساسياً في الثورة، فإن الوقت حان كي يمارس الصحافيون المحترفون والمدربون عملهم بحرية، مع ضرورة استخدام الإعلام كأداة للمساءلة والتغيير.

وهنا، يحتاج الإعلام السوري إلى تحول جذري، فبناء إعلام حر ومستقل، قادر على تقديم صورة دقيقة للمجتمع ومساءلة السلطة، هو ضرورة لا غنى عنها لضمان استقرار سوريا، لان  النظام نجح تماماً في تشويه سمعة الإعلام والصحافيين بوصفهم مخبرين ومتواطئين مع السلطة. وهذا التحول لن يبدأ إلا ضمن بيئة توفر الأمان للراغبين في دخول هذا المجال، وتدريبهم بشكل احترافي، مع التأكيد على أن تكون المؤسسات الإعلامية منفصلة تماماً عن سطوة الدولة أو مؤسساتها الأخرى ومحمية بموجب الدستور، لكي تلعب دورها المفصلي بأن تكون الرقيب على ممارسات الدولة ونقل الحقيقة وليس الدعاية  أحادية الجانب التي مارسها الأسد منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو أمر اعتاد عليه السوريون المعارضون ممن عاشوا في المنافي الغربية أو حتى في مناطق المعارضة التي شهدت ازدهاراً لوسائل الإعلام فيما عرف بتجربة “الإعلام السوري البديل”.

استعادة السوريين لفضائهم العام وصوتهم المغيب بدأت بالفعل، حيث باشر فنانون وكتاب وصحافيون ومحررون من المعتقلات، برواية تجاربهم مع النظام ونجاتهم منه، وعاد كثير منهم إلى سوريا بعد اغتراب في المنافي لمدة تزيد عن 10 سنوات، وبعضهم خرج للإعلام للمرة الأولى ليحكي ما كان يحدث وراء الكواليس وكان من المحرمات ذكره، ليس فقط لأنفسهم وداخل منازلهم وغرفه نومهم، بل وحتى في أحلامهم. هذه القصص ليست مجرد تعبير عن الألم، بل أدوات لتوحيد السوريين وبناء وطن جديد يحتفي بجميع أبنائه.

المدن

———————————–

داخل أقبية فروع الأمن في سوريا: مقتطفات من الخوف والألم!/ هلا نهاد نصرالدين

29.12.2024

الوثائق التي عثرنا عليها في أقبية فروع الأمن التابعة لنظام الأسد كانت حديثة العهد، تعود إلى ما قبل يومين فقط من سقوط نظام بشار الأسد. الزنازين كانت موحشة ومخيفة، والملفات المحروقة أثارت تساؤلات حول ما قد تحتويه من معلومات قد تخفف آلام أهالي المعتقلين المفقودين، أو تُدين مجرمي النظام.

في أول زيارة لفريق “درج” إلى دمشق منذ تأسيس المنصة عام 2017، وبعد سنوات من تحقيقاتنا حول فساد النظام السوري ورجال الأعمال المرتبطين به وانتهاكاته، بالتعاون مع الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية (سراج) زرنا عدداً من الفروع الأمنية التي كانت شاهدة على ممارسات النظام السابق. كان الهدف توثيق جرائم النظام بالصورة والبحث في الوثائق المتناثرة، بعضها محروق أو ممزق، التي توثق الجرائم والانتهاكات، بما في ذلك الجرائم المالية.

حصلنا على تصريح من وزارة الإعلام في الحكومة الإنقاذية الجديدة لدخول هذه الفروع. داخل “فرع فلسطين”، وجدنا أنفسنا أمام كم هائل من الوثائق والسجلات التي كشفت عن الطبيعة البوليسية للنظام السابق. تنقلنا بين المباني داخل الفرع، حيث كانت صور الأسدين الأب والابن مرمية على الأرض إلى جانب الأعلام والبدلات العسكرية التي تخلّى عنها مرتدوها. كما وجدنا جوازات سفر مبعثرة من جنسيات مختلفة، بينها عدد كبير من الجوازات السعودية.

بعض الوثائق التي عثرنا عليها كانت حديثة العهد، تعود إلى ما قبل يومين فقط من سقوط نظام بشار الأسد. الزنازين كانت موحشة ومخيفة، والملفات المحروقة أثارت تساؤلات حول ما قد تحتويه من معلومات قد تخفف آلام أهالي المعتقلين المفقودين، أو تُدين مجرمي النظام.

أثناء البحث، سمعنا صوتاً ينادي “حسن”، تلاه إطلاق نار كثيف على مدخل أحد مباني الفرع. هرعنا للخروج لنكتشف أن مسلحي “هيئة تحرير الشام” أطلقوا النار في الهواء لإيقاف لص حاول التسلل إلى الفرع. غادرنا بسرعة من دون استكمال العمل.

عدنا في اليوم التالي لنجد روائح حرق جديدة في المكان، يبدو أن هناك محاولات مستمرة لحرق المزيد من الوثائق أو سرقتها، وفق ما فهمناه من مسلحي الهيئة.

وجدنا ملفات لأشخاص من جنسيات مختلفة: لبنانية، سعودية، إيرانية، روسية، أوزبكية وغيرها. بعض غرف الفرع التي تضمّ الوثائق كانت محروقة بالكامل، والكثير من الوثائق مرمية على الأرض داخل المباني وخارجها، بعضها مبلل وقد فقد أحباره.

في الطابق السفلي، السجون كانت متاهات لا نعلم كيف دخلناها ولا كيف خرجنا منها. الروائح كانت خانقة إلى درجة لا تُحتمل، وأثرها لم يفارق أجسادنا حتى اليوم؛ فزميلي وأنا، ما زال أنفانا ينزفان بعد 10 أيام من مغادرتنا الفرع. فماذا عن الضحايا والمعتقلين؟ كيف تحملوا هذه الظروف؟ يخبرنا أحد المعتقلين السابقين في مقابلة مع “درج” أنه في الفترة الأخيرة من اعتقاله كانوا يضعون 7- 8 أشخاص في الزنزانة الانفرادية الواحدة في “فرع فلسطين”، وبدأت حالات الوفاة نتيجة الاختناق. عندما شممنا الروائح هناك، استطعنا تخيّل هول الأمر؛ فلم نمكث أكثر من ساعة وما زالت الحساسية تلاحقنا إلى اليوم. فكيف بمن قضى سنوات في هذه الظروف اللاإنسانية؟

أثناء توجهنا إلى السجون تحت الأرض، نبّهنا أحدهم إلى خطر الضياع في الداخل؛ فمن الواضح أن كثيرين قبلنا ضاعوا في متاهات أقبية “فرع فلسطين” خلال الأسابيع الماضية أي بعد سقوط النظام. كل زنزانة تحمل قصصاً لا تُحصى: كتابات على الحائط تعدّ الأيام، وآيات قرآنية، وأسماء لأهل وأحباء كُتبت بيد معتقلين. البعض رسم لوحات فنية بسيطة، لكن الأغلب كان يدعو للفرج.

كان فرع الخطيب تجربة مختلفة وأكثر سريالية. دخلنا إلى الطابق السفلي المظلم حيث الزنازين الانفرادية. رافقنا أحد مسلحي “هيئة تحرير الشام” طوال فترة وجودنا التي استمرت ساعتين ونصف الساعة، كان يحمل سلاحه بصمت ولم يفارقنا للحظة.

بسبب انعدام الكهرباء، اضطررنا لاستخدام هواتفنا للإضاءة أثناء تصوير الوثائق. ساعدنا عنصر الهيئة بإضاءة هاتفه لتسهيل المهمة. تحت الأرض وفي ظلام دامس، كان المشهد غريباً، مسلح يساعدني بلطف على توثيق جزء من تاريخ انتهاكات النظام السابق في هذا الفرع!

تبقى الوثائق الموجودة في الفروع الأمنية، ذات أهمية بالغة كأدلة حاسمة، يمكن أن تُسهم بشكل كبير في تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين، خاصة بعد السقوط المفاجئ والسريع للنظام.

درج

—————————

 صيدنايا “المسلخ البشري”: “تفاهة الشر” أم “امتثال اجتماعي”؟/ الحاج محمد الناسك

كشف سقوط نظام عائلة الأسد عن جانب من الفظاعات التي كانت تقترف في السجون والمعتقلات المنتشرة في سوريا ضد الشعب السوري خلال نصف قرن. ويعد سجن صيدنايا أو ما يسمى ”المسلخ البشري“، وأحدا من أبشع السجون. فقد ذكّر العالم بجرائم النازية وغيرها من الأنظمة الاستبدادية التي لا تقيم وزنا للإنسان.

26 ديسمبر 2024

مقدمة

تمكنت قوات المعارضة السورية، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، من اقتحام سجن صيدنايا سيء الصيت، والذي سمَّته منظمة العفو الدولية المسلخ البشري، في تقرير أعدته في 7 شباط/فبراير 2017، وتحرير كافة المعتقلين منه وذلك بعد دخولها العاصمة السورية، دمشق، وهروب الرئيس السوري، بشار الأسد. وقد نقلت وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي صورًا مروعة من السجن ذكرتنا بمقولة الفيلسوفة الألمانية اليهودية، حنا آرنت (Hannah Arendt) “تفاهة الشر”(the banality of evil).

لو قُدِّر للفيلسوف الفرنسي الشهير، ميشال فوكو (Michel Foucault) ، معاينة سجون النظام السوري البائد، وهندستها وما تحويه من زنازين تحت الأرض لراجع ما كتبه عن السجون وعن “البانوبتيكون” (Panopticon)(1)، وهو تصميم لسجن وضعه، في 1791، أحد أشهر فلاسفة عصر الأنوار الفيلسوف البريطاني جيرمي بينثام (Jeremy Bentham).

كل هذا يجعل المرء يتساءل: ما الذي دفع أناسًا إلى اقتراف تلك الجرائم، هل هم مجرد “أناس عاديين” ينفذون الأوامر، أم مجرمين تحركهم نوازع أيديولوجية وطائفية؟

سجن صيدنايا وهندسته

يقع السجن قرب دير صيدنايا على بعد 30 كيلومترًا شمال العاصمة دمشق، افتُتح سنة 1987 لاحتجاز آلاف السجناء من المدنيين أو المعارضين للحكومة أو السجناء السياسيين. ويُشار إليه بأنه أكثر السجون سريةً وقسوةً، وهو رمزٌ للتعذيب والاعتداء الجنسي والإعدامات الجماعية. يتميز سجن صيدنايا بتصميم فريد يجعله أحد أشد السجون العسكرية تحصينًا. يتكون كل مبنى من 3 طوابق لكل منها جناحان، ويحتوي الجناح الواحد على 20 مهجعًا جماعيًّا بقياس 8 أمتار طولًا و6 أمتار عرضًا، تتراص في صف واحد بعيدة عن النوافذ، لكن تشترك كل 4 منها في نقطة تهوية واحدة. نقطة المسدس هي منطقة تلاقي المباني الثلاثة، وهي النقطة الأكثر تحصينًا في السجن، توجد فيها الغرف الأرضية والسجون الانفرادية. وفيها كذلك حراسات على مدار الساعة لمراقبة المساجين ومنعهم من مشاهدة أي ملمح من ملامح بناء السجن أو وجوه السجَّانين. إن تصميم سجن صيدنايا يذكرنا بسجن بنثام المومأ إليه، وهو نوع من أبنية السجون عبارة عن “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسطها برج مراقبة”. تكون هذه الزنازين متاحة لمراقبة الحارس القابع في البرج ولكن لا يمكن للسجين معرفة فيما إذا كان الحارس يراقبهم في ذات اللحظة. إن هذه النظرة المحدقة الخارجية، من البرج، للسجين الغارق في الضوء تجعله يبدو موضوعًا خاضعًا للرقابة أي إنه يتم تشيئة الإنسان واختزاله إلى غرض مراقَب.

يقوم السجناء باستبطان هذه النظرة المحدقة الخارجية، من طرف الحارس في البرج، إلى نظرة محدقة داخلية، ويتحولون من مجرد مراقَبين إلى مراقِبين لأنفسهم. وهكذا حتى لو لم يكن الحارس في البرج وزالت العين المحدقة الخارجية فإن هذه العين المحدقة الداخلية ستظل تراقبهم، وسترافقهم حتى لو خرجوا من سجن “البانوبتيكون”.

إن الهندسة، وفقًا لميشال فوكو، ليست علمًا رياضيًّا خالصًا ولا فنًّا مجردًا، ولكنها هي هذه المعارف والإبداعات الموظفة في خدمة مفاهيم الانضباط(2). ويقول فوكو: إن الدولة الحديثة، العاقلة المستنيرة، قد شكَّلت مجتمعها على هيئة “بانوبتيكون” ضخم. هذه الدولة العاقلة المستنيرة، فما بالك بدولة عائلة الأسد!

لقد أوضح فوكو جوهر العقاب الحديث من خلال وصف تصميم بنثام، ففي نظره فإن “البانوبتيكية” (نسبة إلى “البانوبتيكون”، وهي مصطلح آخر جديد) كناية عن جميع أشكال السلطة الحديثة في أكثر صورها خبثًا: في نهاية المطاف، سوف يستوعب السجناء في “البانوبتيكون” مراقبة الحارس المستمرة ويصبحون حراسًا على أرواحهم.

إن نظام سجون الأسد فريد في نوعه تجاوز “البانوبتيكية” بشكل لا يخطر على بال ويفوق الخيال. وبما أن سجن صيدنايا يشكل أبشع نموذج لهذا النظام، فيمكن أن ننسج على منوال فوكو ونسميه “الصيدناتكية”؛ لأن السجان لا يملك سلطة مراقبة السجناء، والحصول على الإتاوات من ذويهم فحسب، إنما كذلك صلاحية مطلقة لتعذيبهم أبشع أنواع العذاب وقتلهم دون رقيب أو حسيب.

صيدنايا: “تفاهة الشر” أم “امتثال اجتماعي”؟

إن الجرائم التي اقترفها نظام الأسد في حق الشعب السوري في سجن صيدنايا وفي غيره من السجون روعت العالم كما روعته من قبل قيام أمة أوروبية “حديثة” و”متحضرة”، ألمانيا، بتنفيذ إبادة جماعية منهجية للملايين شكَّلت موضوعًا خصبًا لدراسات من تخصصات شتى. ومن الأمثلة المثيرة للعواطف التي تحيط بالتفسيرات المتضاربة في هذا المجال ما حدث في تسعينات القرن العشرين مع نشر كتابين رفيعي المستوى، وهما: كتاب كريستوفر براونينج، “كتيبة الشرطة الاحتياطية 101 والحل النهائي في بولندا” (Christopher Browning, Ordinary Men: Reserve Police Battalion 101 and the Final Solution in Poland)، الذي صدر في 1992، وكتاب “جلادو هتلر الراغبون في التنفيذ: الألمان العاديون والمحرقة” (Daniel Jonah Goldhagen, “Hitler’s Willing Executioners: Ordinary Germans and the Holocaust)، الصادر في 1996. وقد كُتب هذا الكتاب الأخير في جزء كبير منه رد فعل على براونينج. تصارع كلا الباحثين مع القضية التي تناولتها الفيلسوفة حنا أرندت في عبارتها التي لا تُنسى “تفاهة الشر”: ما الذي جعل “أشخاصًا مثلنا” من المواطنين الملتزمين بالقانون، ورواد الكنيسة الأتقياء، وأفراد الأسرة المخلصين، يتغاضون أو يتعاونون بنشاط في القتل الجماعي لأشخاص لم يُلحقوا بهم أي أذى؟

تستند دراسة براونينج على مجموعة من السجلات، وهي عبارة عن استجوابات قضائية في ستينات القرن العشرين لـ125 عضوًا من كتيبة الشرطة الاحتياطية 101، وهي سرية من جنود الاحتياط الألمان الذين نفذوا أوامر بإطلاق النار وقتل حوالي ثمانية وثلاثين ألف يهودي بولندي في عشرات المواقع المختلفة بين عامي 1942 و1943. كان أبطال براونينج “عاديين” بالفعل: رجال في منتصف العمر من ذوي المكانة المتواضعة من مدينة هامبورج الألمانية، وكان معظمهم يشغلون وظائف من ذوي الياقات الزرقاء في الحياة المدنية. وكان ربعهم فقط ينتمون إلى الحزب النازي عند قيامهم بأول عملية لهم، في 13 يوليو/تموز 1942، في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم أبلغهم قائدهم بالمهمة غير السارة التي كانت تنتظرهم: كان عليهم إطلاق النار على حوالي 1500 يهودي. وأخبرهم وهو مستاء بشكل واضح أن أيًّا من الرجال الأكبر سنًّا من بينهم يمكنه الانسحاب من المهمة إذا شعر بعدم قدرته على تنفيذها. من أصل كتيبة قوامها حوالي خمسمئة فرد، رفض عشرات فقط في البداية المشاركة؛ وخلال اليوم، طلب حوالي 10 إلى 20% آخرين إعفاءهم من المهمة التي وجدوها مرهقة عاطفيًّا. وساد النمط نفسه مع تنفيذ الوحدة المزيد من المجازر حتى نوفمبر/تشرين الثاني من 1943: لم تطلب سوى أقلية صغيرة فحسب إعفاءها من المشاركة، على الرغم من أنه لا يوجد دليل على أن أيًّا من المجندين كان سيواجه أي عواقب سلبية لاختياره عدم المشاركة، باستثناء شعوره بالخجل من التهرب من “واجبه”.

حدد “براونينج” في النهاية العامل الحاسم في ديناميكيات الكتيبة؛ فقد اختار 80 إلى 90 بالمئة من الرجال الذين نفذوا عملية القتل، على الرغم من نفورهم من المهمة وامتلاكهم خيار الرفض، القيام بذلك بدافع احترامهم للسلطة وخوفهم من أن يتم رفضهم من قبل إخوانهم إذا رفضوا تحمل نصيبهم من الواجب غير السار. لم يرغبوا بشكل خاص في إطلاق النار على الضحايا، ولكنهم لم يرغبوا بشكل خاص في أن يتجنبهم الرفاق والرؤساء الذين كانوا يشكلون في هذه المرحلة عالمهم بأكمله. وبالتالي، فإن استنتاجات براونينج لا تتعلق بـ”تفاهة الشر” بقدر ما تتعلق بالآثار المروعة للامتثال الجماعي.

أثار قرار “براونينج” بعدم إبراز الدوافع المعادية للسامية حفيظة عالم سياسي شاب من جامعة هارفارد، وهو دانيال جوناه جولدهاجن، الذي نشر مراجعة لاذعة لكتاب “Ordinary Men … ” في الصحافة الشعبية، واشتكى من أن “براونينج” يأخذ تصريحات أعضاء الكتيبة على ظاهرها، وبالتالي “يقلل من معاداة الألمان الفريدة والعميقة الجذور للسامية إلى أكثر من مجرد مظهر واحد من مظاهر ظاهرة نفسية اجتماعية مشتركة”، وكتب أن هؤلاء لم يكونوا “رجالًا عاديين” بشكل عام، بل “أعضاء عاديين في ثقافة سياسية غير عادية”. وبعد أربع سنوات نشر “جولدهاجن”، الذي يرى معاداة السامية القاتلة بحماسة على أنها مكوِّن أساسي في الثقافة الألمانية منذ قرون، كتابه المومأ إليه.

إن أطروحة كتاب “جولدهاجن” صريحة وواضحة: “كانت معتقدات الألمان المعادية للسامية تجاه اليهود هي العامل الرئيسي في جرائمهم ضدهم. والاستنتاج الذي توصل إليه هذا الكتاب هو أن معاداة السامية حرَّكت عدة آلاف من “الألمان العاديين” وكانت ستحرك ملايين آخرين لو كانوا في وضع مناسب لذبح اليهود”. يحدد الكتاب مصدر هذا الدافع المشترك على نطاق واسع للإبادة الجماعية فيما يصفه المؤلف بأنه تقليد ألماني لم ينقطع منذ العصور الوسطى يعتقد أن التأثير اليهودي كان سامًّا وأنه يجب إزالة اليهود من المجتمع الألماني. ويجادل بأن الباحثين يخطئون الهدف عندما يتساءلون بشدة عن سبب وجود كثير من أعضاء ثقافة يفترض أنها عقلانية ومستنيرة قادرين على فعل ما فعلوه. ويؤكد أن الألمان لم يكونوا “طبيعيين”، ولم يكونوا “أناسًا مثلنا”؛ فقد تسممت ثقافتهم بمعاداة السامية.

يتوصل “جولدهاجن” إلى استنتاج معاكس، وهو أن السواد الأعظم من أفراد الكتيبة 101 التابعة للشرطة الذين شاركوا في القتل لم يكن دافعهم ضغط الأقران أو الطاعة أو النزعة المهنية، بل الرغبة النشطة في ذبح اليهود(3).

بناء على ما سبق وجوابًا عن سؤال هذا التعليق، هل تنطبق عبارة “تفاهة الشر” لحنا آرنت، في وصفها لأفعال المجرم النازي، كارل أدولف إيخمان (Karl Adolf Eichman)، على جلادي “المسلخ البشري”، صيدنايا بعد أن عمل نظام الأسد الشمولي على مسخ الإنسان السوري كما فعل النظام النازي الألماني، الذي درسته الفيلسوفة آرنت، بالإنسان الألماني، وحوله من فاعل إلى كادح، وجعله محصورًا بما يحتاجه لقوته دونما ما يجب أن يفعله باعتباره حرًّا؛ لذلك أطلقت آرنت عبارة “تفاهة الشر”، وصفًا لما قام به إيخمان من إبادة بصورة لا تتضمن شرًّا متجذرًا في ذاته بل لتفاهته؛ لأن السلطة التوليتارية (الشمولية) تجعل مرتكبي الجريمة بإيعازها لا يشعرون بفظاعتها ومأساويتها، وإنما بأنها أمر عادي، وما القائم بهذه الجرائم إلا أداة لها لا يعي مسؤوليته تجاه الإنسانية بل تنفيذه قرارات إدارية وبطاعة عمياء لا غير(4)  أم أن ما اقترفه مجرمو صيدنايا في حق الشعب السوري من جرائم مروعة كان، بدافع احترامهم للسلطة وخوفهم من أن يرفضهم إخوانهم إذا رفضوا تحمل نصيبهم من الواجب، كما ذهب إلى ذلك براونينج. ولم يرغبوا بشكل خاص في اقتراف ما اقترفوه، ولكنهم لم يرغبوا بشكل خاص في أن يتجنبهم الرفاق والرؤساء الذين كانوا يشكلون في هذه المرحلة عالمهم بأكمله؟

يبدو أن جلادي صيدنايا لم تكن لهم حرية الاختيار، التي كانت لمجرمي النازية، وفقًا لبراونينج، لكن يمكن أن نزيد على ما سماه براونينج “الامتثال الجماعي”، “الامتثال الطائفي”؛ فالأقلية التي كانت تحكم سوريا كانت تحركها نوازع طائفية تجاه الأغلبية؛ لأنها كانت تراها تشكل خطرًا وجوديًّا عليها. أم أنهم كانوا يفعلون ذلك بدافع الرغبة النشطة في تعذيب وقتل السجناء، كما كان يفعل النازيون، وفقًا لاستنتاج جولدهاجن؟

إن ما اقترفه مجرمو نظام الأسد طوال نصف قرن من الجرائم يحتاج إلى دراسة معمقة لمعرفة دوافعهم الحقيقية، اعتمادًا على شهاداتهم وشهادات الضحايا والوثائق المتاحة، حتى يتسنى الوصول إلى نتائج موثوقة. فبراونينج وجولدهاجن فحصا الأدلة نفسها، وسألا الأسئلة نفسها، لكنهما توصلا إلى استنتاجات مختلفة تمامًا. فالمؤرخون البارزون الذين درسوا الإبادة النازية يتفقون، كما تقول المؤرخة سارة مازا (Sara Maza)، على أن الطريق إلى الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون كان طريقًا ملتويًا ينطوي على العديد من الحالات الطارئة، وليس خطًّا مستقيمًا من كراهية اليهود إلى الإبادة.

نبذة عن الكاتب

الحاج محمد الناسك

باحث في مركز الجزيرة للدراسات. حاصل على الدكتوراه فــي التاريــخ المعاصر. له أبحاث منشــورة في مجلات محكمة منها مجلة “تبين” للدراســات الفكرية والثقافية التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراســة السياســات، ومجلة “هيسبريس تمودا” التي تصدرها جامعة محمد الخامس بالرباط. من أعماله كتاب “ذكريات أحمد الريسوني: من رعي الغنم إلى رئاسة اتحاد العلماء”، وشارك بفصول في عدد من الكتب، منها: “الجزيرة تروي قصتها: دراسات في العمق”، و”تاريخ المغرب المعاصر: الماضي والزمن الراهن”، وأنتج عددًا من البرامج والأفلام الوثائقية، منها: “الجزيرة نهج فريد”.

مراجع

(1)  شكل معماري لسجن، نشر رسوماته جيرمي بنثام يتألف من هيكل دائري ذي سقف زجاجي يشبه الخزان مع زنازين على طول الجدار الخارجي متجهة نحو مَبْنَى مستدير تعلوه قبَّة؛ وكان بإمكان الحراس المتمركزين في المبنى إبقاء جميع النزلاء في الزنازين المحيطة تحت المراقبة المستمرة. على الرغم من أن فكرة بنثام المبتكرة لم يتم تبنيها بالكامل في خطط المؤسسات العقابية التي تم بناؤها في ذلك الوقت، إلا أن خطته الشعاعية كانت مؤثرة على الفور، وكان لتصميمه تأثير واضح على البناء في وقت لاحق. على سبيل المثال، يتضمن مركز ستيتفيل الإصلاحي، وهو سجن بالقرب من سجن جولييت بولاية إلينوي في الولايات المتحدة، السمات الأساسية لـ”البانوبتيكون”.

“Panopticon penal architecture”, Britannicam. https://www.britannica.com/technology/panopticon

 (2) ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، بيروت، مركز الإنماء العربي، 1990، ص 36 (مقدمة المُراجع).

للاستزادة من هذا الموضوع، انظر الصفحة 138 وما بعدها من كتاب،

(3) Sarah Maza, Thinking about History, The University of Chicago Press, Chicago and London. 2017.

(4) لتراجع الترجمة العربية لكتاب حنا آرنت بعنوان، “إيخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر” ص 17-19.

———————————

كيف خسرت إيران سوريا/ حميد رضا عزيزي

لماذا يعتبر إشراك إيران ضرورياً لضمان استقرار سوريا بعد الأسد؟

الأحد 29 ديسمبر 2024

بعد 13 عاماً من بدء الانتفاضة في سوريا، أدى انهيار نظام الأسد المفاجئ إلى تحديات كبيرة لإيران وفقدان النفوذ لتنكشف معها نقاط ضعفها الاستراتيجية وما سيترتب على ذلك من آثار على إعادة إحياء حزب الله في لبنان

بعد 13 عاماً من بدء الانتفاضة السورية، أدى السقوط السريع والمفاجئ لبشار الأسد إلى نسف التصور السائد بأن الوضع القائم، على رغم أنه مصحوب بأساليب قمعية، يتسم بالاستقرار. فعلى مدى جزء كبير من العقد الماضي، عمل نظام الأسد، بدعم ثابت من إيران وروسيا، على قمع المعارضة بوحشية. وما بدأ كانتفاضة عام 2011 تطور إلى حرب أهلية مدمرة انتهت بحال من الجمود المربك. وعلى رغم التحديات المستمرة، بدا أن قبضة الأسد على السلطة آمنة. ومع ذلك، انهار نظامه في غضون أيام من بدء هجوم منسق شنه المتمردون.  

وكان من بين الخسائر الأخرى، النفوذ الإيراني في سوريا الذي بُني بشق الأنفس من خلال أعوام من التدخل المكلف والدعم الثابت. كانت طهران الحليف الأكثر ثباتاً للأسد طوال الصراع. وعلى مر السنين، استثمرت إيران موارد هائلة ومساعدات عسكرية لضمان بقائه. لكن ومع تفكك الجيش السوري بسرعة، كانت إيران غائبة بصورة ملحوظة. في أعقاب ذلك، دان المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي سقوط الأسد ووصفه بأنه مؤامرة مدبرة من الخارج، وهو تصوير يُظهر جهود طهران للحفاظ على صورتها كقوة إقليمية صامدة. ولكن داخل إيران، يبدو المسؤولون والمراقبون منقسمين. فالوتيرة السريعة للأحداث واستنزاف الموارد العسكرية والسياسية الإيرانية خلال العام الماضي، وسط تصاعد المواجهات العسكرية المباشرة وغير المباشرة مع إسرائيل، تركت القيادة الإيرانية تكافح من أجل صياغة استجابة متماسكة.

تشكل الانتكاسة الاستراتيجية لإيران فرصة فريدة للولايات المتحدة للحد من احتمالات اندلاع صراع جديد وإرساء الأساس للاستقرار الدائم في سوريا. ومن خلال مواصلة دعم القوات الكردية السورية وتعزيز الحوار بين الأطراف السورية الرئيسة وتشجيع إسرائيل على ضبط نفسها في سوريا، يمكن لواشنطن أن تساعد في تشكيل واقع ما بعد الأسد بما يحقق السلام والأمن على المدى الطويل. لكن استقرار المنطقة قد يتطلب أيضاً مشاركة إيران في المحادثات حول مستقبل سوريا. وإذا فشلت واشنطن وطهران في التعاون مع بعضهما بعضاً، فستستمر معاناة سوريا.

إرهاق مكشوف وواضح

لقد كان التدخل الإيراني الواسع النطاق في الحرب الأهلية السورية ضرورياً لبقاء نظام الأسد. فمنذ عام 2011، أنفقت طهران ما بين 30 و50 مليار دولار على المساعدات العسكرية والنفطية والدعم اللوجستي لسوريا. ونسق فيلق القدس، الجناح النخبوي للحرس الثوري الإيراني، العمليات في وقت مبكر من خلال تدريب الميليشيات المحلية لدعم الجيش السوري وتعبئة مجموعة واسعة من المقاتلين الشيعة الأجانب، بمن في ذلك عناصر من “حزب الله” اللبناني والميليشيات العراقية والجماعات الأفغانية والباكستانية.

وبعد أن هدأ القتال الواسع النطاق عام 2018، بدأت طهران بالتركيز على تعزيز نفوذها في جنوب سوريا وجنوب شرقها، وتأمين السيطرة على الأراضي ودمج الميليشيات في القوات المسلحة السورية. لكن تبين أن هذه الجهود لم تكُن كافية لمنع انهيار الأسد السريع في أوائل ديسمبر (كانون الأول) الجاري. ويبدو أن إيران خُدعت بمظهر زائف بدت فيه الحكومة قادرة ومستقرة في دمشق، على رغم أن طهران نفسها ساعدت الأسد في بناء هذا الوهم. لكن الحكومة الإيرانية ظلت غير مستعدة لانهيار الجيش السوري السريع، مع سقوط الخطوط الدفاعية وإثبات الجنود عدم جاهزيتهم أو عدم قدرتهم على القتال. وفي غضون أيام قليلة، استولى المتمردون على ثاني أكبر مدن سوريا، حلب، وتقدموا جنوباً، من دون أن يتركوا لإيران الوقت الكافي للرد بفاعلية. وكما اعترف قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، فإن إيران “لم تكُن قادرة على القتال نيابة عن الجيش السوري… بينما كان الأخير يجلس متفرجاً ومكتوف الأيدي”.

أدى إضعاف “حزب الله” إلى تفاقم التحديات التي تواجه إيران. كان “حزب الله” محور استراتيجية إيران في سوريا، مع نشر الآلاف من مقاتليه لدعم نظام الأسد على مدى العقد الماضي. بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني عام 2020، أصبح “حزب الله” المنسق الرئيس للميليشيات المدعومة من إيران في سوريا. لكن الضربات الإسرائيلية ضد أفراد الحزب وبنيته التحتية على مدى العام الماضي قضت على قياداته وحالت دون تقديم أي دعم عسكري أو لوجستي إضافي للأسد.

إضافة إلى ذلك، كثفت إسرائيل استهدافها للأصول الإيرانية في سوريا. في البداية، كانت هذه الاستراتيجية تهدف إلى كبح نقل الأسلحة الإيرانية إلى “حزب الله” عبر سوريا، لتصبح جزءاً من المواجهة الأوسع لإسرائيل مع “حزب الله” و”محور المقاومة” المدعوم من إيران. وبحلول أواخر عام 2023 تصاعدت إلى حصار بري وجوي بحكم الأمر الواقع، مما أدى فعلياً إلى قطع تحركات القوات الإيرانية والإمدادات اللوجستية إلى سوريا، بخاصة عبر العراق. حتى إن خامنئي اعترف في خطاب ألقاه في أوائل ديسمبر الجاري بأن إيران لم تتمكن من تقديم الدعم للأسد لأن جميع نقاط الوصول كانت مغلقة فعلياً.

وفي غضون ذلك، بحلول وقت بدء هجوم المتمردين في سوريا في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أصبحت الميليشيات الشيعية العراقية التي قامت بدور كبير في المراحل الأولى من الحرب الأهلية السورية، غير راغبة في العودة للصراع، مشغولة بالأولويات الداخلية ومتوجسة من كلف التدخل الخارجي المتصاعدة. وأدى هذا النقص في الدعم الموثوق من الحلفاء إلى تقييد قدرة إيران على الرد بصورة فاعلة.

واستطراداً، أثرت العوامل الداخلية في قرارات طهران بعدم التدخل. فكشفت جولتان من الهجمات المتبادلة مع إسرائيل، بخاصة سلسلة من الضربات الإسرائيلية على المواقع العسكرية والدفاعات الجوية الإيرانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عن نقاط ضعف الجمهورية الإسلامية. وفي الحقيقة، أصبح الاقتصاد الإيراني اليوم أقل قوة بكثير مما كان عليه عندما تدخلت طهران للمرة الأولى في سوريا عام 2011، مما حد من قدرتها على تحمل القيام بتدخل خارجي مكلف آخر. وفي مواجهة احتمال تزايد التصعيد، أعطت طهران الأولوية لتعزيز دفاعاتها، لا إلى تحويل الموارد إلى صراعات أجنبية.

محور متصدع

إن سقوط الأسد لا يسلط الضوء على نقاط ضعف إيران فحسب، بل يفرض أيضاً تحديات جديدة كبيرة على طهران، مما يهدد نفوذها الإقليمي واستقرار النظام. وأبرز هذه التحديات هو الصعوبة في إعادة إحياء القدرات العملياتية لـ”حزب الله”. فقد كانت سوريا لفترة طويلة تمثل مركزاً لوجستياً حيوياً في “الممر البري” الذي يربط إيران بالبحر الأبيض المتوسط ويسمح بنقل الأسلحة المتطورة والدعم اللوجستي إلى “حزب الله”. ومع انهيار نظام الأسد، انقطع خط الإمداد هذا، مما أدى إلى عزل “حزب الله” وقطع الترابط الجغرافي الذي يتمتع به محور المقاومة. وبعد أن أضعفته الحرب التي استمرت 14 شهراً مع إسرائيل، سيواجه “حزب الله” الآن مهمة شاقة تتمثل في التعافي مع دعم لوجستي أقل بكثير من إيران.

علاوة على ذلك، كشف سقوط الأسد عن انقسامات أيديولوجية وطائفية بين حلفاء إيران ربما تزيد من تصدع تماسك المحور. فقد اعتبرت إيران و”حزب الله” والميليشيات العراقية والحوثيون هذا الحدث انتكاسة كبرى. لكن “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطيني، وهما مجموعتان سنيتان تدعمهما إيران، هنأتا المتمردين السوريين التابعين لـ”هيئة تحرير الشام” (HTS)، وهي جماعة إسلامية سنية، على انتصارهم على الأسد.

في ما يتعلق بالمحور، قد يؤدي فقدان سوريا أيضاً إلى تقويض مصداقية إيران مع شركائها الإقليميين في العراق واليمن. فإخفاق إيران في التدخل بصورة حاسمة من أجل حماية الأسد من المرجح أن يثير الشكوك حول التزامها وقدرتها. وأعرب رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي حافظ على علاقات وثيقة مع إيران، عن دهشته إزاء تقاعس طهران في سوريا خلال مقابلة تلفزيونية بعد سقوط الأسد مباشرة. وقال المالكي: “لقد فوجئت. . . بموقف الدول التي كانت تقف إلى جانب سوريا. . . روسيا وإيران. كيف غيرتا موقفهما؟ وما هي عواقب هذا التغيير؟”. وفي المستقبل، فإن الجماعات التي اعتمدت على دعم طهران ربما تشكك في مدى موثوقية هذا الدعم.

يُذكر أن فقدان الحليف السوري سيضعف إيران أيضاً في تنافسها مع تركيا. فالدعم القوي الذي قدمته أنقرة إلى المتمردين السوريين عطّل توازن القوى الإقليمي. في ظل حكم الأسد، سمح الوجود الإيراني الواسع في سوريا لطهران بموازنة طموحات تركيا الإقليمية. ولكن منذ سقوط الأسد، تحولت أنقرة التي باتت الراعي الرئيس الآن للمتمردين السوريين بخاصة “هيئة تحرير الشام”، إلى القوة الخارجية المهيمنة في سوريا وحلت مكان طهران وموسكو، مما أدى إلى توسيع نطاق نفوذ تركيا في حين حدّ من نفوذ إيران. وهناك مخاوف متزايدة في إيران من أن تركيا التي استفادت من ضعف طهران، قد تسعى الآن إلى زيادة نفوذها على حساب إيران في العراق ولبنان والقوقاز الجنوبي.

ففي العراق ولبنان، من المحتمل أن تعزز تركيا دعمها للفصائل السنية ضد الجماعات الشيعية الموالية لإيران. وفي القوقاز الجنوبي، فإن سعي تركيا إلى إنشاء ما يسمى “ممر زنغزور”، وهو طريق عبور استراتيجي يربط تركيا بأذربيجان عبر الأراضي الأرمينية، يمثل تهديداً بقطع الوصول البري الإيراني إلى أرمينيا، الشريك الاستراتيجي المهم للحفاظ على نفوذ طهران الإقليمي ومساراتها التجارية في القوقاز، مما يعزلها اقتصادياً وجيوسياسياً.

أخيراً، أدى سقوط الأسد إلى تأجيج السخط الداخلي بين الموالين للنظام في طهران، إذ وصف بعضهم هذه الخسارة بأنها خطأ استراتيجي ووجهوا انتقادات علنية للحكومة على شاشات التلفزيون الرسمي. وبالنسبة إلى نظام يعتمد بصورة كبيرة على المؤيدين المتحمسين، فإن مثل هذا الاستياء يشكل تحدياً خطراً. علاوة على ذلك، هناك مخاوف من أن الجماعات السنية المتطرفة في المناطق الجنوبية المضطربة في إيران، مثل المناطق التي يقطنها العرب والبلوش، قد تتشجع بانتصار الجماعات ذات التفكير المماثل في سوريا، مما يزيد من خطر الاضطرابات في وقت أصبحت الحكومة في طهران أضعف.

نحو المرحلة التالية

على رغم التحديات المتعددة التي تواجه طهران، فإن إيران تعمل على تعديل استراتيجيتها للحفاظ على نفوذها في سوريا وبلاد الشام من خلال إجراء تغييرات تكتيكية. وأظهرت إيران اهتماماً بالتواصل مع الجماعات الكردية السورية التي على رغم عدم تحديها المباشر للأسد، كانت من الأطراف الرئيسة خلال الحرب، خصوصاً في المعركة ضد الجماعات السنية المتطرفة التي لا تزال تسيطر على أجزاء كبيرة من شمال شرقي سوريا. وفي الفترة التي سبقت الإطاحة بالأسد، انسحبت القوات المدعومة من إيران من مواقع رئيسة في شرق سوريا، بخاصة في محافظة دير الزور قرب الحدود العراقية، ونقلت السيطرة إلى “قوات سوريا الديمقراطية” التي يتألف عناصرها وهيكلها القيادي بصورة أساسية من الأكراد. وأشارت هذه الخطوة إلى جهود إيران لوضع نفسها كشريك محتمل للأكراد السوريين، بخاصة في ظل قلق الأكراد من أن الدعم الأميركي لـ”قوات سوريا الديمقراطية” قد يتراجع بمجرد عودة دونالد ترمب للبيت الأبيض. (يتوقع كثيرون أن يقلل ترمب من التدخل الأميركي في سوريا وأن يسعى إلى إقامة علاقات أقوى مع تركيا التي تعتبر “قوات سوريا الديمقراطية” جماعة إرهابية).

ومن المحتمل أن تدرس إيران أيضاً إمكان التواصل مع “هيئة تحرير الشام”، مستغلة المشاعر المعادية لإسرائيل والمؤيدة للفلسطينيين بين صفوف المتمردين. وعلى رغم أن قيادة “هيئة تحرير الشام” أعربت عن عدم رغبتها في بدء صراع مع إسرائيل، فإن الضربات الإسرائيلية المستمرة والتقدمات الإقليمية لاكتساب مزيد من الأراضي في سوريا قد تشجعها على تغيير موقفها. وربما تعرض طهران تقديم دعمها لــ”هيئة تحرير الشام” مقابل تنازلات استراتيجية، مثل استعادة الوصول إلى قوات “حزب الله” في لبنان.

في منحى مقابل، يمكن أن تتجه إيران إلى إقامة علاقات جديدة مع الأقليات الشيعية والعلوية في غرب سوريا التي تخشى التعرض للتمييز والقمع على يد المتطرفين السنة. ومن خلال التحالف مع هذه المجموعات، قد تتمكن إيران من بناء شبكة من القوات الموالية والوكلاء للحفاظ على نفوذها في سوريا حتى في غياب نظام حاكم متعاون. ومن الممكن أن تسعى إيران أيضاً إلى إعادة تنظيم مئات الجنود من نظام الأسد الذين فروا إلى العراق، لتشكيل قوة مضادة للثورة، مما يمكنها ربما من استعادة موطئ قدم لها في سوريا.

ملء الفراغ

إن سقوط الأسد وتآكل نفوذ إيران في سوريا يمثلان فرصة نادرة للتجديد، ولكنه يفرض في الوقت نفسه تحديات هائلة، سيتطلب حلها مشاركة فاعلة من الولايات المتحدة. أولاً، يُعدّ الدعم الأميركي المستمر للأكراد السوريين أمراً بالغ الأهمية. وكانت “قوات سوريا الديمقراطية” التي يقودها الأكراد حليفاً رئيساً في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، الجماعة الإرهابية الجهادية المعروفة أيضاً باسم “داعش”، وقوة لتحقيق الاستقرار في شمال شرقي سوريا. لكن الاشتباكات الأخيرة مع الجماعات المتمردة المدعومة من تركيا أجبرت “قوات سوريا الديمقراطية” على تعليق عملياتها ضد “داعش”. واستمرار الدعم الأميركي، بما في ذلك المساعدات المالية والسياسية والدبلوماسية، سيعزز موقف الأكراد ضد مثل هذه التهديدات مع ردع إيران عن استغلال الفراغات الناشئة في السلطة.

وفي الوقت ذاته، يجب على واشنطن أن تشجع إسرائيل على ضبط النفس وتخفيض حدة تصعيد عملياتها في جنوب غربي سوريا. ففي أعقاب سقوط الأسد، وسعت إسرائيل وجودها إلى ما هو أبعد من مرتفعات الجولان، حيث احتلت مناطق أعمق داخل سوريا مبررة ذلك بمخاوف أمنية. ولكن أي احتلال إسرائيلي طويل الأمد يخاطر بتنفير السوريين ومنح إيران ذريعة لإعادة تفعيل أجندتها المعادية لإسرائيل في سوريا.

ويتعين على الولايات المتحدة أيضاً أن تتعاون مع حلفائها في الشرق الأوسط وأوروبا لتعزيز حوار سياسي شامل بين جميع الفصائل السورية. فالفراغ في السلطة الذي خلفه رحيل الأسد يهدد بتكثيف المنافسة بين الفصائل المختلفة وبين الأقليات العرقية والدينية المتعددة في البلاد. ودعم الحوار الشامل قد يساعد في إنشاء حكومة تمثيلية تحافظ على وحدة أراضي سوريا وتحمي حقوق الأقليات، مع تقليل احتمالية استغلال إيران أو جهات خارجية أخرى للأقليات في سبيل تحقيق النفوذ.

ومع ذلك، فإن ضمان الأمن في سوريا يستلزم أيضاً اتخاذ خطوات دبلوماسية للحيلولة دون تفاقم الأوضاع في إيران، ذلك أن الشعور المتزايد بانعدام الأمن في طهران بعد سقوط الأسد قد يدفع قيادة البلاد إلى تصعيد الأنشطة التي تزعزع استقرار المنطقة، مثل الجهود الرامية إلى تعزيز الميليشيات الحليفة في العراق واليمن أو تأجيج التوترات الطائفية في سوريا. في الواقع، يتعين على الولايات المتحدة أن تعرض على إيران مقعداً على طاولة المحادثات الإقليمية في شأن مستقبل سوريا، ومعالجة المخاوف الأمنية لدى طهران، ودعوة قيادتها إلى خفض التصعيد على جبهات أخرى. ويمكن لهذه الاستراتيجية أن تحد من النفوذ التخريبي الإيراني في سوريا والشرق الأوسط الأوسع، وربما تفتح الباب أمام محادثات دبلوماسية أكثر شمولاً بين واشنطن وطهران.

مترجم عن “فورين أفيرز” 23 ديسمبر (كانون الأول)، 2024

حميد رضا عزيزي هو زميل زائر في “المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية” وباحث غير مقيم في “مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية”.

———————————-

ما لا نعرفه عن الاستخبارات السورية وما مصيرها؟/ طارق علي

عشرات الأفرع الأمنية في ليلة واحدة بعد استبداد دام خمسة عقود

الأحد 29 ديسمبر 2024

بشار الأسد لم يغير من سياسة أبيه، بل اتبع نهجاً أكثر راديكالية في تعميم مفاهيم الأمن وتغلغلها في الحياة الاجتماعية، حتى بات يقال مقابل كل مواطن سوري هناك مخبر أمني، وهذا المخبر كان يحدد، عبر السلطة، لمواطنيها واجباتهم بمعزل عن حقوقهم وتطلعاتهم.

منذ وصول حافظ الأسد إلى حكم سوريا بشكل غير مباشر عبر اللجنة العسكرية لـ”حزب البعث العربي الاشتراكي” عام 1963 عقب الانفصال عن مصر، وكجزء من تلك اللجنة بدأ يبني سياسته الخاصة وفق مفاهيمه الأمنية المتشددة التي لن تسمح لاحقاً بخروقات أمنية تهدد مصير الضابط الحالم، الذي سرعان ما أقصى رفاق دربه في اللجنة بين المنافي والسجون.

ممارسات أمنية شكلت وجه سوريا الوليدة

قبل ذلك تمكن الأسد من استغلال رفاق لجنته العسكرية، سبعة أعوام كاملة، ومن بينهم الضابط عبدالكريم الجندي، الرئيس العام لأجهزة الأمن، رئيس مكتب الأمن القومي التابع لـ”حزب البعث”، إذ تولى الجندي خطف وتعذيب وإخفاء وتغييب معارضي الحزب والسلطة الوليدة، وظلت الحال هكذا حتى انقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 الذي نفذه حافظ الأسد وصولاً إلى تسلمه مقاليد السلطة في مارس (آذار) عام 1971، مستخدماً قبضة أمنية من حديد، حكمت وتحكمت في مصير سوريا وشعبها أمنياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً وهيكلياً، حتى تعدت مفاهيم إنشائها لتتدخل في العلاقات الأسرية والسلطوية وتتجاوز المهام التي أنشئت لأجلها، في مشهد يعكس صورة البلد الذي يحكمه ديكتاتور بأذرع أمنية متصلة، منفصلة، تشكل مع بعضها بعضاً مشهد الولاء التام للقائد.

أكثر راديكالية

بشار الأسد لم يغير من سياسة أبيه، بل اتبع نهجاً أكثر راديكالية في تعميم مفاهيم الأمن وتغلغلها في الحياة الاجتماعية، حتى بات يقال مقابل كل مواطن سوري هناك مخبر أمني، وهذا المخبر كان يحدد، عبر السلطة، لمواطنيها واجباتهم بمعزل عن حقوقهم وتطلعاتهم.

وقد كانت المؤسسات الاستخباراتية تلك إضافة إلى وزارتي الداخلية والدفاع خطوط الدفاع والتماسك في وجه أي عاصفة قد تهب في وجه النظام، بافتراض حصول عاصفة كانت مستبعدة حتى ثورة عام 2011 التي عرت الأمن وأوضحت ملامح الخلل والفساد داخل بنيته التكوينية.

صراع الأخوين

كانت المؤسسة الأمنية تقوم على عاملين لا ثالث لهما، الولاء الأعمى والمطلق لشخص الرئيس، والتعيينات الطائفية التي تضمن بدورها ولاءً إضافياً لا يمكن زعزعته، كما كان يعتقد.

وبالعودة قليلاً إلى الوراء وتحديداً إلى ثمانينيات القرن الماضي اتضح دور تلك المؤسسة في خلاف الشقيقين، حافظ ورفعت، على تفتيت البلد والصراع الدامي الذي قام بينهما، إذ كان رفعت على شفا حفرة من إطاحة أخيه، قبل أن يستنهض الأخير قواته ويتمكن من شقيقه معيداً هيكلة مؤسستي الجيش والأمن وضبط موازين القوى فيهما ضماناً لوقف أي تحرك مستقبلي من أي جهة كانت، متوقعة أو غير متوقعة.

سطوة استخباراتية وصرف نفوذ

وسمح إعلان قانون الطوارئ الذي اتفق عليه في ثورة الثامن من مارس 1963، وتعديلات الدستور العام عام 1973 في عهد حافظ، لأجهزة الأمن السورية بتخطي صلاحيتها نحو أضعاف ما كان منصوصاً عليه، مستفيدة من قانوني الطوارئ والأحكام العرفية اللذين ظلا سائدين حتى الثورة السورية، وكانت تدعم كل ذلك مراسيم وقرارات وتوجيهات شفهية.

تلك التوجيهات والدعم المغذي للأمن أطلقت يده في الشارع السوري تعذيباً وتنكيلاً وقمعاً وتقييداً للحريات ومصادرة الرأي العام الشعبي، وفي وسائل الإعلام المقيدة أساساً بالخطاب الخشبي السلطوي، مما تسبب، مع تتالي السنين، بانتكاسات وردود فعل عنيفة ناتجة من الرفض المستميت في السحق لمصلحة أجهزة الاستخبارات في مقابل شعب أعزل كان يكفي تقرير كيدي واحد ليقوده نحو غياهب السجون، ولينجو منها إن حالفه الحظ بعد أعوام، أو يموت بين جدرانها ويصير مأواه مقابر جماعية تكشفت العشرات منها بعد سقوط النظام خلال الشهر الجاري.

وهي العوامل ذاتها التي قادت الغضب في الشارع السوري نحو ثورة مارس 2011، بعد أن ضاق الناس ذرعاً بالممارسات الأمنية التي كانت تتدخل في أبسط شؤون حياتهم الإدارية والخدمية والمعيشية، بل والتي كانت تتحكم في عدد أنفاسهم، حتى بالكاد يمكن أن يوجد سوري لم يعان، ذات مرة، خلافاً أمنياً أو سطوة استخباراتية أو صرف نفوذ واستغلال سلطة طُبق ضده.

المهام والهيكلية

تتألف أجهزة الاستخبارات والأمن السورية من خمس إدارات، وهي: إدارة الاستخبارات العامة (أمن الدولة) وشعبة الاستخبارات العسكرية وإدارة الاستخبارات الجوية وشعبة الأمن السياسي وإدارة الأمن الجنائي، والأخيرة هي الأقل نفوذاً وتخضع لرقابة صارمة من جهاز الأمن السياسي الذي يتبع والأمن الجنائي وزارة الداخلية، ومهمته حفظ الأمن الداخلي ومتابعة أرباب السوابق ومكافحة الجريمة.

إدارة الأمن الجنائي هي جهة مدنية تتمتع بالحقوق المدنية الكاملة، وتجري محاكمة أفرادها وضباطها أمام القضاء المدني العادي خلاف بقية الإدارات والشعب التي تصدر القرارات المتعلقة بها من القضاء العسكري.

وتتبع مختلف الجهات الأمنية في سوريا مكتب الأمن الوطني المركزي، الذي كان يديره حتى العام الماضي اللواء علي مملوك، الذي صار في ما بعد مستشاراً للرئيس الأسد لشؤون الأمن الوطني، وليحل بديلاً عنه اللواء كفاح ملحم، الذي كان رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية، ويتولى مكتب الأمن الوطني بروتوكول التنسيق بين الجهات والإدارات الأمنية، إلا في حالات قليلة يجري فيها التواصل مباشرة من قبل الإدارات من رئيس النظام السابق أو المقربين منه في الدوائر المغلقة، كشخص مدير مكتب القائد العام الذي كان يشغله اللواء طلال مخلوف، قائد الحرس الجمهوري سابقاً، الذي انتشرت مقاطع مصورة له خلال الأيام الماضية وهو يجري تسوية أمنية لمصلحة قيادة العمليات الجديدة في سوريا.

إدارة الاستخبارات العامة

وكانت تسمى في السابق إدارة أمن الدولة، وترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية من دون تبعية لأي وزارة أو جهة أخرى، وقد أنشئت عبر المرسوم 14 عام 1969، وعُدل شكل وجودها بالقانون 495 عام 1971 إبان سيطرة الأسد على الحكم، ويطلق عليها عموماً في الأوساط الأمنية المتخصصة لقب الوحدة 1114.

وتضم الإدارة 12 فرعاً أمنياً مركزياً وأفرعاً في عموم المحافظات، وتضم أيضاً المعهد العالي للإدارة الأمنية الذي استحدث عام 2007، والهدف منه إخضاع أفراد أمن السفارات الموفدين للخارج لدورات أمنية مكثفة في شؤون عملهم. وما يميز هذه الإدارة كثافة المدنيين المتعاقدين معها، الذين يرأسون أقساماً مختلفة كقسمي الأحزاب والطلبة وسجلات المخبرين والتعاملات الخارجية وغيرها، أما ضباطها وعناصرها النظاميون فيُنتدبون إليها عبر وزارتي الداخلية والدفاع ليشكلوا نواتها الأمنية.

وفي سياق استحداث هذه الإدارة نص مرسوم تشكيلها على أن تكون إدارة مدنية إلا أنها سرعان ما تحولت إلى إدارة عسكرية بضباطها وجنودها ومهامها، ويتبع أفرادها شكلياً ومالياً الجهة التي انتُدبوا منها، أما المدنيون فيخضعون لقوانين الموظفين العامين في الدولة.

وفي قانون النسبة والتناسب فإن هذه الإدارة تمثلها ألوان طائفية متعددة من المجتمع السوري، وآخر من قادها قبل سقوط النظام اللواء حسام لوقا، وهو سني من القومية الشركسية ينحدر من بلدة خناصر في ريف حلب، وقد جاء خلفاً للواء ديب زيتون على رأس واحدة من أهم الإدارات الأمنية، كما اضطلع لوقا بملفات دولية حساسة إبان فترة وجوده، ومنها مفاوضات مع الأجهزة الأمنية العربية والغربية وتمثيل سوريا في كثير من المحافل الدولية في الآونة الأخيرة، وما زال مصيره مجهولاً بعد سقوط النظام.

بنية أمن الدولة

ويجري تعيين رئيس الجهاز من قبل رئيس الجمهورية بصورة مباشرة، يليه أكثر من نائب ومعاون يُعينون أيضاً بمراسيم جمهورية، وكان أشهرهم خلال الحرب اللواء محمد خلوف واللواء زهير حمد.

-فرع مكافحة الإرهاب 295: ويعرف أيضاً باسم فرع “نجها” نسبة إلى منطقة في ريف دمشق حيث يوجد مقرها الرئيس، ومن ضمن اختصاصات هذا الفرع تدريب عناصر الإدارة العسكريين ومكافحة الإرهاب والمداهمة والاختطاف وتنفيذ عمليات الاغتيال، وكان من أول الأفرع التي تحركت لتقمع تظاهرات درعا وبانياس عام 2011.

-فرع مكافحة التجسس 300: ويعنى هذا الفرع، وفق مهامه، بمتابعة الشخصيات الأجنبية على الأراضي السورية والتعامل مع من يظنهم مشبوهين في الأجندة والتوجه، كما يراقب المؤسسات الحكومية والخاصة التي يقتضي تعاملها وجود علاقات خارجية إضافة إلى مراقبة الشخصيات السياسية العامة بالتنسيق مع شركات الاتصالات.

-فرع المعلومات 255: مهمة فرع المعلومات هي مراقبة القطاعات الدينية والحزبية والإعلامية، والحصول على المعلومات السياسية، ويعد خزاناً للمعلومات الواردة من بقية الأفرع كلها في الإدارة ذاتها بما فيها أفرع المحافظات.

-فرع التحقيق 285 والفرع 279: مهمتهما متابعة التحقيق بالمعلومات الواردة من الأفرع الأمنية أو المخبرين، ويتولى فرع التحقيق مهمة توقيف المعتقلين والتحقيق معهم، أما الفرع الخارجي فمهمته إدارة السفارات الخارجية والقنصليات والوفود والبعثات ومراقبة وزارة الخارجية وأداء عملها ومراقبة السوريين المغتربين ونشاطاتهم.

-الفرع الفني 280: وهو جهاز أمني مهمته تختص بعمليات التنصت والتشويش والمراقبة الفنية، إضافة إلى دعم الأفرع بالمستلزمات الفنية والتقنية كافة.

-الفرع الداخلي 251: يعد أخطر أفرع الإدارة، وهو مسؤول عن مراقبة العمل الأمني داخلياً وخارجياً، وله صلاحيات كاملة في اختيار المسؤولين المدنيين والعسكريين وصولاً إلى وزراء في الحكومة، ويوجد داخل الفرع الذي كان يديره اللواء أحمد ديب قبل سقوط النظام قسم يسمى “قسم الأربعين”، وكان الأكثر توحشاً وعدوانية، ويديره العقيد حافظ مخلوف شقيق رجل الأعمال رامي مخلوف.

ويعرف الفرع أيضاً باسم “فرع الخطيب”، وخلال أعوام الأزمة كان مسؤولاً عن الجباية والدولار واعتقال التجار وفرض الإتاوات.

كذلك هناك أفرع أخرى لكل منها مسؤوليات محددة كفرع التدريب 290 الذي يعمل على رفع سوية العناصر، والفرع الاقتصادي 260 المعني بالشأن الاقتصادي العام، والفرع 111 وهو مكتب متخصص بمدير الإدارة العامة ويعمل بمثابة ديوان شخصي، كذلك في كل محافظة سورية هناك فرع أمني يتبع للإدارة وفيه أقسام تتشابه مع الإدارات المركزية.

شعبة الاستخبارات العسكرية

تتبع شكلياً لناحية التسليح والمالية والأمور الإدارية لوزارة الدفاع لكنها عملياً لا تتلقى أوامرها من الوزير، بل هي التي تُعينه مع رئيس الأركان وقادة الجيش. وقد أنشئت لتكون مسؤولة عن أمن القطاعات العسكرية والحدود وأمن العناصر والضباط وأمن المنشآت العسكرية.

بنية الشعبة

-الفرع 293: هو فرع شؤون الضباط يقوم بمهام الشبكة الأمنية، وليس كفرع يتبع للإدارة. ويحتوي الفرع على ملفات تقييم ومراقبة ومتابعة لضباط الجيش وتحركاتهم وعلاقاتهم وتوجهاتهم وأسرهم، وله دور أساس في ترقية أو إبعاد أو نقل ضباط الجيش أو تعيينهم في مراكزهم، ويملك رئيس هذا الفرع إمكانية الاتصال مباشرة برئيس الجمهورية ورفع تقاريره له، بحسب ما هو معروف عنه، ولهذا الفرع أن يعتقل الضباط ويحقق معهم ويسجنهم أو يجردهم من رتبهم أو يحيلهم على التقاعد.

-الفرع 291: هو لقب الفرع الإداري ويسمى أيضاً فرع المقر، ويعد بمثابة فرع الديوان، ويُراقب أداء بقية الأجهزة الأمنية داخل الشعبة نفسها، وهو المسؤول عن منح وتجديد البطاقات العسكرية.

-الفرع 294: فرع أمن القوات، وهو المعني بمراقبة تحركات قطع وإدارات الجيش والقوات المسلحة.

-الفرع 235/ فرع فلسطين: وهو من أهم أفرع هذا الجهاز وأقدمها وأخطرها وأكثرها نفوذاً وانتشاراً وقدرة على كيل التهم وتنفيذ الاعتقالات، وله سجون يروي عنها الناجون مرارة الاعتقال فيها، ولشدة أهميته يكاد يعادل عمل الشعبة بأكملها، ويمتلك نشاطين داخلياً وخارجياً، وكذلك يراقب الأجانب والفلسطينيين وكذلك السوريون، ويعادل حجم المهام الموكلة له حجم إدارة استخباراتية كاملة.

-فرع المعلومات: ويشمل أقساماً متعددة من بينها الأحزاب والأديان، ويجمع ويجلب المعلومات الكاملة المتعلقة بعمل بقية الأفرع الأمنية، ويراقب نشاط وسائل الإعلام بمختلف مناحيها.

-الفرع 211: يسمى فرع الإشارة، وهو مسؤول عن مراقبة الإشارات اللاسلكية للجيش والأمن وتشفيرها، إضافة إلى عمليات المسح الفني والراشدات. وفرع الاتصالات 225 الذي ينفذ كل مشاريع الاتصالات في القطر السوري.

-أما الفرع 248، فرع التحقيق العسكري: فيعد ثاني أقوى فرع سطوة ونفوذاً واعتقالات بعد فرع فلسطين، وكذلك فرع السرية أو المداهمة أو 215، ويعمل على تنفيذ العمليات التي تستعصي على بقية الأفرع، وقد اتخذ بعداً إضافياً في سجن التجار وابتزازهم مالياً. ويقدر تعداد عناصره بـ3 آلاف عنصر.

وكذلك هناك فرع الدوريات وفرع الجبهة “سعسع” الذي يراقب الأمور في الجولان المحتل ويراقب قوات الـ”يوندوف” الدولية العاملة هناك.

إدارة الاستخبارات الجوية

تشكلت مع بداية تولي الأسد الأب السلطة، وظلت واحدة من أقوى الأجهزة الأمنية في سوريا حتى سقوط النظام، وتعد الأكثر ولاءً للنظام السابق، وتتبع، كما شعبة الاستخبارات العسكرية، لوزارة الدفاع، لكنها بالتشارك معها وعلى رغم تبعيتها بالسلاح والمال للوزارة، فإنها تتدخل في تعيين وزير الدفاع وتقييمه.

الاستخبارات الجوية

تتكون الاستخبارات الجوية من كثير من الأفرع المركزية والثانوية، وتمتلك سبعة أفرع في العاصمة بينها فرع التحقيق، وستة أفرع في المحافظات السورية، إذ إن فرع المنطقة في دمشق، مسؤول عن دمشق وريفها، وفرع المنطقة الجنوبية مسؤول عن درعا والسويداء والقنيطرة، وفرع الوسطى مسؤول عن حمص وحماة ومقره في حمص، والفرع الشمالي مسؤول عن حماة وحلب ومقره في حلب، وفرع المنطقة الشرقية ويغطي دير الزور والحسكة والقامشلي ومقره دير الزور، وفرع المنطقة الساحلية المسؤول عن طرطوس واللاذقية ومقره اللاذقية.

ومن أهم أفرعه المركزية: فرع الإدارة وفرع المعلومات وفرع التحقيق وفرع المطار وفرع العمليات وفرع العمليات الخاصة، ويوجد فرع المطار في مطار المزة العسكري ويعد مسؤولاً عن أمن الطيران الرئاسي وأمن الطائرة الرئاسية والأمن الشخصي للرئيس في الخارج، وفرع العمليات ينسق مع فرع المطار في تنقلات الرئيس لضمان أمنه، أما فرع العمليات الخاصة فهو فرع مقاتل يستعين بمن يراه مناسباً لإتمام العمليات القتالية، بينما فرع التحقيق يعد واحداً من الأسوأ صيتاً في عمليات التعذيب.

شعبة الأمن السياسي

تتبع مباشرة وزارة الداخلية في الشؤون المالية والإدارية والتعيينية والتنفيذية، لكنها في الوقت عينه منفصلة عنها تماماً، إذ تمارس دور الرقيب عليها وعلى وزيرها وضباطه وعناصره، وتعد الشعبة الأكثر تداخلاً وتغلغلاً في المجتمع السوري، ويكون جميع ضباطها من ملاك وزارة الداخلية باستثناء رئيسها الذي يُعين بمرسوم جمهوري، وكان آخر من رأسها قبل سقوط النظام اللواء غيث فياض المتواري عن الأنظار.

ومن أبرز من شغل مناصب إدارتها اللواء غازي كنعان واللواء رستم غزالي، ولهذه الشعبة دور استخباري محض أكثر منه ميداني، وهي الوحيدة التي لا تمتلك أفرعها أرقاماً ثلاثية، إذ تسمى أفرعها بأسماء المدن التي تتبع لها، كفرع الأمن السياسي في ريف دمشق مثلاً.

هيكلية الأمن السياسي

يتكون الأمن السياسي من 12 فرعاً مركزياً وهي: فرع المركبات وفرع الإشارة وفرع الشؤون الإدارية وفرع نظم المعلومات وفرع الديوان وفرع الشؤون العربية والأجنبية وفرع الأحزاب والهيئات وفرع الأمن الاقتصادي وفرع المراقبة وفرع التحقيق وفرع المعلومات وفرع أمن الشرطة، وكل فرع في هذه الإدارة يشرح اسمه طبيعة العمليات الموكلة إليه، لا سيما أنه الأقرب إلى المدنيين لكون جميع ضباطه تخرجوا في الكليات الحقوقية وتتلمذوا في مدرسة الشرطة، وتجري عليهم الأحكام والقوانين المدنية مما أتاح لهم بيئة خصبة للاحتكاك بالمدنيين.

وتمتلك شعبة الأمن السياسي 13 فرعاً في المحافظات عدا القنيطرة، إذ هناك قسم في فرع ريف دمشق اسمه القنيطرة، وهو المسؤول عن متابعتها أمنياً، ولا يعد هذا الجهاز من أشد الأجهزة ولاء للسلطة خلاف الاستخبارات العسكرية والجوية إذ إنه يضم مزيجاً عرقياً وطائفياً شديد التفاوت.

الجميع تحت المراقبة

المشترك بين جميع الأجهزة الأمنية السورية هو أمران، امتلاكها أفرع تحقيق، وقدرتها على التنصت على المكالمات الهاتفية، وحقيقة كادت تضع الشعب السوري كله تحت المراقبة الهاتفية، فكان يكفي ذكر كلمات معينة، وقد تكون بسيطة، مثل دولار للقبض على قائلها، لذا راح الناس يستخدمون أسماء أخرى للدولار في معاملاتهم الهاتفية.

ماجد شاب من حمص قضى عاماً ونصف العام في فرع الخطيب بأمن الدولة لأنه كان يجري مكالمة يتفق فيها مع الموزع على ثمن بضائع الدخان بالدولار، ثم خرج بفدية ناهزت 50 ألف دولار، ويقول “لم يكن الهدف المكالمة نفسها، بل ابتزازي لأدفع، وهناك التقيت كثيراً من التجار وأصحاب رؤوس الأموال، كنا نُفرز إلى طبقتين، المكتنزون وحدهم ونحن وحدنا، وكل فترة بعد تعذيب مرير نُبلغ بطريقة أو بأخرى بأن علينا الدفع لنخرج من هذا المأزق ولتنتهي حفلات التعذيب”، ويضيف “أنا لو كنت متبصراً منذ البداية لدفعت وانتهى الأمر، لكن المضحك في القصة أن الفاتورة التي ألقي القبض عليَّ في شأنها لم تكن تتجاوز 1000 دولار”.

افتراءان وفديتان ورد فعل

وكحال ماجد حال الشاب مثنى معيوف الذي ألقي القبض عليه من قبل سرية المداهمة (الفرع 215) في الأمن العسكري لأنه كان يمتلك هاتفاً للبيع ويعرضه على واجهة متجره، لكن ساء حظاً أن ذلك الجهاز لا يحمل شعار الشركة الوحيدة المخولة ببيع الأجهزة التي كانت تبعيتها لأسماء الأسد، فجرت مداهمة محله واعتقاله.

وظل مثنى يتعرض للتعذيب من أجل ذنب صغير لأكثر من ثلاثة أشهر في السرية، حتى تمكن ذووه من دفع فدية مالية تعادل 20 ألف دولار لإخراجه من جحيم المعتقل. لكن القصة لم تنته هنا، إذ اعتقد مثنى أن اعتقاله مر وأبعدت العيون عنه، وعاد كما غيره ليتاجر بصورة خفيفة بتلك الأجهزة غير باهظة الثمن لأنها لا تتبع للشركة الحصرية للبيع، وهذه المرة ألقي القبض عليه إثر تتبع اتصالاته واتفاقه مع تاجر آخر ليشتري منه ثلاثة أجهزة، وهذه المرة كلفته القصة ليخرج 40 ألف دولار، ومن بعدها أغلق متجره وترك مهنته، وأول ما فعله مع سقوط النظام، كما يروي، أنه مزق كل شعارات الشركة في لوحات العرض بالطرقات.

—————————————-

شبهات بتزوير جوازات سفر… ماذا يحصل داخل سفارة سوريا لدى لبنان؟/ طوني بولس

بيروت تتعاون مع إدارة العمليات العسكرية السورية لملاحقة المطلوبين وإعادتهم، مع تأكيد الرقابة على الحدود

الأحد 29 ديسمبر 2024

ملخص

مع سقوط نظام بشار الأسد وسيطرة المعارضة السورية على الحكم تتزايد الجهود لملاحقة رموز النظام السابق، إذ طلب الإنتربول من لبنان توقيف شخصيات بارزة، مثل اللواء جميل الحسن وعلي مملوك، المتهمين بارتكاب جرائم جسيمة. تشير تقارير إلى وجود شخصيات نافذة كعائلة مخلوف وأولاد محمد حمشو في لبنان، دخلت عبر المعابر غير الشرعية بتسهيلات مشبوهة.

مع سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الجاري وسيطرة المعارضة على الحكم، دخلت سوريا ولبنان في مرحلة جديدة من التحولات السياسية والأمنية، وهما البلدان الملاصقان جغرافياً اللذان يشتركان في حدود برية تتخطى الـ370 كيلومتراً.

وبين محاولات المعارضة السورية لتقديم رموز النظام السابق للمحاكمة وضغوط الشرطة الدولية (الإنتربول) على لبنان لتوقيف المتهمين، تتكثف الجهود لملاحقة شخصيات بارزة ارتبطت بالنظام السابق، إذ يعتقد أن الآلاف من السوريين دخلوا لبنان بصورة غير قانونية ليلة سقوط النظام وفي الأيام التي تلته.

وهنا تتقاطع غالبية المعلومات والتقارير على أن عديداً من ضباط النظام السابق قرروا إما الاختباء داخل سوريا وإما الفرار إلى دول مجاورة، ومن بينهم شخصيات بارزة متهمة بارتكاب جرائم جسيمة ضد المدنيين.

كانت الإدارة السورية الجديدة أعلنت عزمها على ملاحقة هؤلاء وتقديمهم للمحاكمة، ومن بين أبرز الأسماء المطلوبة، مدير الاستخبارات الجوية السورية اللواء جميل الحسن، الذي يعد من أبرز الشخصيات المتهمة بارتكاب جرائم ضد المدنيين، وكان الإنتربول قد طلب من لبنان تسليمه إلى الولايات المتحدة لمحاكمته، فيما لم يتأكد وجوده داخل الأراضي اللبنانية بعد، وكذلك مدير مكتب الأمن القومي السوري علي مملوك، الذي تطالب المعارضة بمحاسبته على أدواره في قمع الشعب السوري، كما أنه مطلوب قضائياً في لبنان بعد إدانته بالتورط بتفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس.

وفي السياق تكشف مصادر قضائية لـ”اندبندنت عربية” عن أن الحكومة اللبنانية تلقت اتصالات من مسؤولين أميركيين وأوروبيين تدعوها إلى التحرك ضد الشخصيات المرتبطة بالنظام السوري السابق، منهم والد زوجة بشار الأسد فواز الأخرس، المتهم بتقديم دعم مالي للنظام السوري والمساهمة في تهربه من العقوبات، سبق أن فرضت عقوبات عليه عام 2020.

وعلى رغم أن الأخرس وبحسب التقارير موجود اليوم مع ابنته أسماء في روسيا، فإن معلومات أمنية تطرح فرضية أنه غادر سوريا إلى لبنان قبل أن يتوجه إلى موسكو حيث التحق بعائلة الأسد.

النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار نفى من جانبه تسلم لبنان لائحة بالمطلوبين السوريين سواء من “الإنتربول”، أو من السلطات السورية الجديدة، مشدداً على أنه حتى الآن لم يثبت بصورة رسمية وجود مسؤولين سوريين سابقين في لبنان، وأكد أن قيود الأمن العام على كل الحدود اللبنانية السورية لم تسجل دخول علي المملوك، ولا أي من القادة الأمنيين السوريين، في حين لم ينف إمكانية دخول عدد من هؤلاء خلسة عبر معابر غير شرعية.

ملاحقة “الفلول”

بالعودة إلى الأيام والساعات القليلة التي سبقت سقوط نظام الأسد، يكشف مصدر عسكري في الأمن العام اللبناني لـ”اندبندنت عربية” أنه مع تقدم المعارضة السورية نحو حمص ودمشق وتزايد التقديرات حول إمكانية سقوط النظام، اتخذت إجراءات أمنية مشددة على جميع المنافذ الحدودية ولا سيما البرية مع سوريا لتنظيم حركة العبور التي كانت متوقعة بكثافة نحو لبنان، فيما هناك تحقيقات تجري في حق أحد الضباط يشتبه في أنه أسهم في تسهيل عبور شخصيات من النظام ليُكشفوا ويلاحقوا.

كذلك يكشف عن أن هناك شخصيات سياسية سورية عبرت إلى لبنان وهي ليست مطلوبة للقضاء اللبناني ولم تطلب السلطات السورية الجديدة توقيفها، ومعظمهم غادروا بصورة قانونية إلى دول ثالثة بموجب حق اللجوء الإنساني، ولفت إلى أن لبنان لا يستطيع منع عبور السوريين الذين يمتلكون إقامات شرعية وتأشيرات دخول سارية، إلا إذا كانوا مطلوبين في لبنان، أو بموجب مذكرات من الإنتربول، أو بطلب “معلل” من سلطات بلادهم.

أما في ما يتعلق بعناصر “حزب الله” التي كانت موجودة في سوريا، فتقول المصادر الأمنية نفسها إن العشرات من عناصر الحزب المنسحبين من سوريا وصلوا إلى المعابر ولم يدخلوا إلا بعد تجريدهم من السلاح والعتاد العسكري الذي بات بعهدة الأمن العام اللبناني.

تسليم 70 سورياً

يُلاحق في لبنان راهناً مئات الشخصيات العسكرية والسياسية السورية التي دخلت خلسة إلى البلاد، إذ أُوقف نحو 150 شخصاً، بينهم أعضاء في الاستخبارات السورية والفرقة الرابعة التي كان يترأسها ماهر الأسد، وسط تنسيق أمني مع إدارة العمليات العسكرية في سوريا حول المطلوبين المشتبه في دخولهم إلى لبنان، حيث سيُسلم جميع المطلوبين ويُطلق سراح من يمكن تصحيح أوضاعهم القانونية.

وفي السياق سلم الأمن العام اللبناني 70 سورياً أمس السبت، من بينهم ضباط برتب مختلفة في قوات النظام السوري السابق، وذلك بحضور وفد أمني لبناني عبر معبر العريضة الواقع بين لبنان وسوريا في ريف طرطوس، إذ دخلت ثلاث حافلات تابعة للأمن العام اللبناني تقل الموقوفين، برفقة سيارات لوفد من استخبارات الجيش والأمن العام اللبناني، وتسلمتهم إدارة العمليات العسكرية ونقلتهم إلى الجانب السوري.

معابر التهريب نشطة

يؤكد الصحافي السوري قتيبة ياسين وجود شخصيات سورية بارزة ترتبط بالنظام السابق على الأراضي اللبنانية، وبعضها مطلوب دولياً وأخرى متورطة بجرائم فساد، لافتاً إلى أن “المعابر غير الشرعية بين لبنان وسوريا ما زالت نشطة بصورة مقلقة، وتستخدم لتهريب الأشخاص والبضائع تحت حماية جماعات مسلحة، كاشفاً عن أن تاجر ’كبتاغون‘ كبيراً دخل أخيراً لبنان ودفع 56 ألف دولار مقابل تهريبه، وهذا يعكس حجم الفساد والتواطؤ”، متهماً “حزب الله” وشخصيات نافذة بتوفير حماية لهذه الشخصيات.

وأكد أن إدارة العمليات العسكرية السورية لديها معلومات عن عشرات الشخصيات التي فرت إلى لبنان، كاشفاً عن أن قائد كتائب “البعث” في سوريا مجاهد إسماعيل، يقيم حالياً في فندق “فينيسيا” في العاصمة بيروت.

وأشار إلى أن رئيس جهاز الأمن الوطني السوري السابق علي مملوك وابنه نزهت من الشخصيات النافذة في النظام، دخلا إلى بيروت لفترة وجيزة قبل مغادرتهما إلى العراق، وعلى رغم مذكرات التوقيف الدولية في حقه، فإن السلطات اللبنانية لم تتحرك.

في ما يتعلق بعائلة مخلوف، أقارب الأسد، يكشف الصحافي السوري أن إيهاب مخلوف “دخل لبنان لكنه قتل أثناء توجهه عبر معبر المصنع الحدودي بعد تعرض سيارته لهجوم من الثوار السوريين بسبب رفضه التوقف عند حاجز عسكري وقد دفن في لبنان”، مشيراً إلى أن شقيقه إياد مخلوف وهو أحد أفراد العائلة المقربة من النظام يعتقد أنه في لبنان.

وأشار إلى أن أولاد محمد حمشو، وهو تاجر “كبتاغون” شهير وشريك ماهر الأسد، شوهدوا في مقاهي بيروت برفقة حراسة مشددة، على رغم تورط والدهم في تجارة غير مشروعة.

جوازات مزورة

وقبل ساعات علقت وزارة الخارجية السورية العمل القنصلي في سفارة سوريا لدى بيروت بصورة مفاجئة، قبل أن يتضح أن السبب متصل بتزوير جوازات سفر لشخصيات من النظام.

وهنا يكشف الصحافي إبراهيم ريحان أن القرار قد يكون مرتبطاً بالتحقيق في مصدر هذه الجوازات، بخاصة مع ورود إشاعات عن احتمالية تورط موظفين داخل السفارة السورية أو شبكات تزوير ناشطة في لبنان في تزوير هذه الجوازات.

في أحداث متصلة، كشف مسؤولون قضائيون وأمنيون لبنانيون الـ27 من ديسمبر عن اعتقال زوجة وابنة أحد أبناء عم بشار الأسد في مطار بيروت، بعدما حاولتا السفر باستخدام جوازي سفر مزورين. وكان تم تهريب رشا خزيم، وهي زوجة دريد الأسد نجل رفعت الأسد وابنتهما شمس، بصورة غير قانونية إلى لبنان.

يؤكد ريحان أن عملية تسليم موقوفين من ضباط النظام السابق للسلطات الجديدة في سوريا، ليس لها طابع سياسي، بل تتعلق بمخالفة قانونية ارتكبها هؤلاء، واضعاً هذا الملف في إطار التعاون الأمني بين السلطات اللبنانية ونظيرتها السورية في الفترة الأخيرة.

كما شدد ريحان على ضرورة تكثيف الرقابة الأمنية على الحدود والمطارات اللبنانية، مع الأخذ في الاعتبار المزاعم التي تتحدث عن تورط بعض الأطراف، بما في ذلك “حزب الله”، في تسهيل عمليات التزوير وتهريب مسؤولين سابقين مرتبطين بالنظام السوري.

قائمة المطلوبين

نشرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أسماء وصور 18 شخصاً من أبرز المتورطين بما تصفه بالجرائم التي ارتكبها النظام السوري السابق، وضمت القائم إضافة إلى الرئيس السابق بشار الأسد، وزير الدفاع السابق علي عبدالله أيوب وعدداً من القادة الأمنيين والعسكريين، بينهم جميل حسن وسهيل الحسن وأديب نمر سلامة.

وقالت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إن لديها قائمة بأكثر من 16 ألف شخص في النظام السابق تورطوا في جرائم في حق السوريين، مضيفة أن المجموعة الأولى من هؤلاء المتورطين تضم 6724 فرداً من القوات الرسمية، التي تشمل الجيش وأجهزة الأمن، والثانية تضم 9476 فرداً من القوات الرديفة، التي تضم ميليشيات ومجموعات مساندة قاتلت إلى جانب القوات الرسمية.

كما قالت إن لديها قوائم أخرى تشمل أفراداً آخرين من داعمي وممولي النظام الذين أسهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة في دعم انتهاكاته.

وعقب سقوط النظام في سوريا، وضع محققون تابعون للأمم المتحدة قوائم سرية تضم 4 آلاف من مرتكبي الجرائم الخطرة في سوريا، آملين في ضمان المحاسبة على أعلى المستويات في هذا البلد مع سقوط نظام الأسد.

———————————-

بين “سقوط الأسد” و”مئة عام من العزلة”: نقاط تقاطع وافتراق/ سامر أبوهواش

مشاهدة ملحمة ماركيز في زمن التحولات السورية

آخر تحديث 28 ديسمبر 2024

في نهاية الحلقة الثامنة، من الجزء الأول من السلسلة التلفزيونية “مئة عام من العزلة”، تكتشف أورسولا، رفيقة خوسيه أركاديو بوينديا في الوصول إلى ماكوندو وبنائها، أن ما كانت تخشاه منذ البداية، بأن تنجب طفلا “له ذيل خنزير”، بحسب نذير أمها لها، قد تحقّق. تخاطب روح زوجها الراحل “لقد أنجبنا وحشا”. وهذا الوحش هو ابنها الثاني أوريليانو بوينديا الذي سيخوض حروبا دموية طاحنة، تحت شعارات رنّانة، تنتهي بأن ينقضّ بقواته على ماكوندو نفسها لكي “يحرّرها” من المحافظين ومن “الليبيراليين” الخونة على السواء.

الحرب بوصفها غاية

حين يقرّر “الجنرال”، مثلما يسمّي نفسه، المضيّ في رحلته هذه، فإنه يعلن ببساطة أنه ذاهب إلى الحرب. تلك التي تصبح في حدّ ذاتها غاية وأسلوب حياة، لا تعود أرواح قومه نفسها، الذين انبرى مدافعا عنهم في البداية، مهمّة. فحربه “المقدّسة” تلك هي في حدّ ذاتها الهدف والغاية.

وإذ نشاهد رواية ماركيز اليوم، وقد انتقلت من صفحات الرواية الأشهر في القرن العشرين، إلى حيّز الصورة، على وقع ما تشهده منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما سوريا التي تحرّرت أخيرا من نظام الأسد، فإن شعورا قاهرا يفرض نفسه علينا: أن ما نشاهده ليس محض تخييل أدبي، وأن الظواهر الخارقة التي يشهدها عالم ماكوندو السحريّ، هي أكثر واقعية وأقلّ سحريّة مما كنا نظن. فكيف لا نقارن، مثلا، بين بشار الأسد الهارب، ودون أبولينار موسكوتي، حاكم ماكوندو المختبئ في الخزانة وهو يردّد مرتعشا: “لا تقتلني… لا تقتلني”، وكيف لا نرى بشار الأسد، في صورة بوينديا الحفيد، وهو يعلن نفسه جنرالا ويلقي مرتديا البزة العسكرية خطابا يضحك في البداية سكان ماكوندو، قبل أن يبكيهم.

وكيف لا نرى في مصائر جميع أبناء بوينديا السوداء، مصائر أبناء عائلة الأسد، وقد فتكت بأرواحهم لعنة خفيّة سرعان ما تمدّدت إلى كلّ من حولهم.

الكثير من التناظرات يمكن العثور عليها بين رواية ماركيز، والمسلسل المقتبس عنها، وبين عالم “سوريا الأسد”، كما كانت تُسمّى، سوريا التي أصابها طوال 61 عاما من حكم “حزب البعث” ما أصاب سكان ماكوندو في زمن “وباء الأرق”، حين فقد جميع السكان ذاكرتهم، بعدما جافاهم النوم أياما طويلة. وإذا كان هؤلاء السكان قد شفوا من هذا المرض، بفعل ترياق الغجري الحكيم ملكيادس، فإنّ سوريا، قبل سقوط النظام أخيرا، كانت تبدو في سبات “أبديّ”، لا أمل في الاستيقاظ منه، لتأتي لحظة الإطاحة بالأسد ونظامه، تلك اللحظة التي لا يزال لا يصدّقها كثير من السوريين، كأنها مشاهد نسي ماركيز أن يكتبها في روايته، وإذا كان لا بدّ من المقارنة، فإن تلك اللحظة السحرية، لحظة سقوط الأسد، تشبه إلى حدّ كبير لحظة اكتشاف خوسيه أن البحر الذي لطالما بحث عنه، كان على مقربة منه، لكنه لم يكن قادرا على رؤيته. فكلّ جبروت النظام السابق بدا في غضون ساعات محض جبروت كرتونيّ، ومثله كلّ الرطانة الفارغة التي لطالما شكّلت خطاب البعث وآل الأسد، حول الحرية والعدالة والعروبة وفلسطين ومواجهة “قوى الاستكبار والاستعمار”.

الإثنين الأبديّ

حين توفي حافظ الأسد في العاشر من يونيو/ حزيران 2000، شعر السوريون، والعرب والعالم، بأن معجزة إلهية حصلت. كان الرجل قد نجح، بقسماته الجليدية الباردة، التي باتت تشبه تماثيله المنتشرة في طول البلاد وعرضها، في أن يبدو “أبديا”. كثر أملوا بأن سوريا سوف تمضي أخيرا في طريق التغيير، وإن كان وصول ابنه بشار إلى سدّة الحكم، وارث المصادفة التاريخية بعد وفاة شقيقه باسل بحادث سير، لا يوحي من حيث المبدأ بالتفاؤل. غير أن حداثة سنّ الديكتاتور الوارث، الطبيب الذي تلقّى علومه في الغرب، أشاع أوهاما عريضة بأن حقبته ستكون مختلفة عن حقبة والده، على الأقلّ في ما يتعلق بحرية التعبير. وبالفعل رأى السوريون ملامح بسيطة، شكليّة، من هذا التغيير الموهوم، وسرعان ما جاءت ثورة 2011، والعنف الهائل الذي واجههم به النظام، ليعيداهم إلى المربّع الأول.

الزمن الدائريّ في رواية ماركيز، سرعان ما صار قدر السوريين الذين بذلوا من التضحيات ما لم يبذله أيّ من شعوب “الربيع العربي” الأخرى. ورغم ملايين القتلى والجرحى والمشردين، على امتداد 13 عاما منذ انطلاق الثورة ضدّ حكم الأسد، فإن هذا كله لم ينجح في إزاحته هو أو حزبه أو نظامه. شيء من القدرية بدأ يتسلّل، ليس إلى قلوب السوريين وعقولهم فحسب، بل إلى العالم بأسره. بدا الأسد الابن بالفعل تجسيدا للقضاء والقدر في آن واحد. بدا أنه نسخة أخرى عن أبيه “الأبدي”. وحين بدأ العالم يطبّع العلاقات مع حاكم دمشق “الأبدي” الجديد هذا، واستقرّت سوريا على حال من المراوحة وتقسيم المناطق والنفوذ، ساد شعور حاسم بهزيمة الثورة هزيمة ساحقة ونهائية. بدا أن الفرصة فاتت وأن التغيير لم يعد متاحا لأجيال أخرى مقبلة على الأقل. لم ينس السوريون أنه بعد مذابح حماة في مطلع ثمانينات القرن الماضي، الأضخم في تاريخ البلاد والمنطقة، استقرّ الأمر للأب الديكتاتور، وتمكن من الإمساك بزمام الحكم حتى موته ميتة “طبيعية”. كل هذا جعل من يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، يوم هروب الأسد من دمشق إلى روسيا، يوما لا يمكن تخيّله. يوم “الإثنين الأبديّ” الذي عاشه السوريون طوال عقود، يبدو أنه انتقل أخيرا، بمعجزة لا يزال كثر لا يستوعبونها، إلى الثلاثاء، الزمن عاد إلى سيرورته الطبيعية، وعقارب الساعات عادت تتحرّك من جديد.

كان غبريال غاثيا ماركيز قد بنى ملحمته الروائية، بالتوازي مع تاريخ بلده كولومبيا، ذلك البلد الذي حكمه لأجيال تحالف شيطاني بين العسكر ورجال الأعمال الفاسدين، والذي يبدو أهله مساقين دوما إلى مصائرهم السوداء بين أعقاب البنادق وألاعيب السياسيين وأطماع الأجانب الاستعماريين، مسكونين بإرث هائل من الخرافات والأساطير، وأيضا من عزيمة الحياة والأحلام والوعود. لم يكن ماركيز يعرف حين نشر روايته في 5 مايو/ أيار 1967، أن أحداثها العجيبة وعوالمها السحرية، لا تتوازى فقط مع تاريخ بلده وقارته فحسب، بل مع بلدان وقارات أخرى. في الشرق الأوسط، كان خليط مشابه من النفوذ الأجنبي، والطموحات التحررية، والتخلف الاجتماعي، والفساد السياسي، والانقلابات العسكرية، يحكم قبضته أيضا على شعوب المنطقة، على الأقلّ منذ خمسينات القرن الماضي. سوريا في 2011 كانت لحظة حلم قصوى بإمكان وقف هذه الحلقة المفرغة من الأحداث المكرّرة، والانطلاق منها إلى المستقبل، وبالتالي حمل سقوط ذلك الحلم، بأثمان لم يكن يتخيّلها أحد، أشكالا أخرى من السقوط. بدت سوريا قابعة “إلى الأبد” في منطقة كابوسية لا خلاص منها. “مدينة المرايا” التي حلم بها مؤسس ماكوندو، أصبحت في سوريا “مدينة التماثيل”، ولذلك لم يكن مستغربا أن أول ما فعله السوريون، بعد سقوط النظام، هو تحطيم تلك التماثيل، وجرّها في الشوارع وإهانتها والسخرية منها، إذ أن وظيفتها الوحيدة كانت تذكيرهم بأن الأسد هو مرآتهم الوحيدة وقدرهم الدائم، وهو ما جسّده شعار النظام “الأسد أو نحرق البلد” صانعا الموازاة المطلقة بين مصير السوريين ومصير “قائدهم الأبدي”.

يوتوبيا ماكوندو و”باب الحارة”

بدأت ماكوندو كمدينة يوتوبية مثالية، حيث لا أحزاب ولا حكام وحيث الناس يعيشون حريتهم الكاملة دون حسيب ولا رقيب. في تلك المدينة نشهد ما يشبه قصة الخلق، حيث البراءة المطلقة، وحيث يعيش الناس دون التفكير في الماضي أو المستقبل. حين يجلب الحكيم الغجري مالكيادس العالم الخارجي إلى ماكوندو، فإنه يجلب معه الحداثة، ممثلة في العلم: المغناطيس، والبوصلة، وبعدها بزمن كاميرا التصوير الفوتوغرافي. نرى ماكوندو وهي تتحول من مكان بدائي بسيط إلى مدينة من البيوت الحجرية والشوارع والمتاجر إلخ، ومع هذا كله تأتي السياسة، وأول قرار يصدره الحاكم الأول للمدينة، المعيّن من قبل السلطات الكولومبية العليا، هو أن على الجميع طلاء منازلهم باللون الأزرق نفسه، لون حزب المحافظين الحاكم. تنتهي البراءة ويبدأ عصر جديد، ومعه الأجيال المتلاحقة من عائلة الأب المؤسس بوينديا، ويدخل العالم إلى ماكوندو.

في “سوريا الأسد”، قبل ثورة 2011 وخلالها، ومع صعود الدراما السورية، بدأنا نشهد ما عرف بمسلسلات “البيئة”، ولعلّ أبرز وأشهر أمثلتها مسلسل “باب الحارة” الذي صار بأجزائه التي بدت لا نهائية، شبيها بمصير السوريين مع آل الأسد. في ذلك المسلسل، الحكاية نفسها تتكرر، الحارة الواقعة في قلب العالم، وليس في قلب سوريا فحسب، هي مرآة لقيم التضحية والشهامة والوفاء ومقاومة المستعمر، وأيضا مقاومة ما تحمله معها الحداثة من شرور ومفاسد. في نهاية كلّ جزء كانت قيم الخير تنتصر، وتتخلص الحارة من “الشرير” و”الأجنبي” و”الخائن” و”الجاسوس” الذي نشر الفتنة في ربوعها وقهر الطيبين من أهلها.

تبدأ بذور الثورة في ماكوندو ماركيز، بالدفاع عن حقّ أن يطلي كلّ من ساكنيها بيته باللون الذي يريده، لا باللون الموحّد الذي يريده الحكام الجدد. يولد أوريليانو بوينديا بوصفه بطلا لا يشق له غبار. فهو لا ينطلق في حربه ضدّ السلطات من طموحات شخصية، بل يبدو الدافع الرئيس له هو الظلم الذي يراه بأم العين يقع بحقّ أبناء مدينته. ثورته هذه التي امتدت أكثر من ثلاثين عاما، كانت كفيلة بمنحه طابع البطل الأسطوري، المتفاني من أجل قضيته، المستعد للتضحية بحياته. لعلّ هذه الصورة التي ترسمها الرواية، ثم المسلسل، أقرب ما يكون إلى ما عايشته شعوب كثيرة، بما فيها الشعب السوري، من صعود الديكتاتوريات وهيمنتها على حياتهم. البداية دائما مع البطل المخلّص، الآتي من صفوف الشعب، الذي سرعان ما يصبح حاكما مطلقا، متحكما بمقدرات البلاد ومصائر أهلها.

بين بشار الأسد وأورليانو بوينديا

مع هذه التشابهات، فليس في بشار الأسد ما يشبه أوريليانو خوسيه بوينديا، فهذا الأخير مقاتل حقيقي على الأقلّ، وهو قليل الكلام أيضا، إذ أنه هو نفسه يبدو عاجزا عن تفسير دوافعه. أما بشار الأسد فلم يكن لديه غير الكلام. يتذكر السوريون خطاباته القائمة على فذلكات كلامية، ومحاججات تشبه محاججات طفل نزق لا يزال يتعلم النطق، وقد أصبحت مدعاة للسخرية الدائمة، حرمته ربما حتى من هذه الأداة. وإذا كان خوسيه أركاديو بوينديا، المربوط بعد جنونه إلى شجرة الكستناء في باحة منزله، بات يهذي باللاتينية، فإن هذيانات بشار الأسد بالعربية، لم تكن بعيدة تماما عن ذلك. وإذا كنا في المجمل نتعاطف مع شخصيات “مئة عام من العزلة” وإن كنا نرى الخراب الذي تحدثه في حيواتها وحيوات كلّ من حولها، وذلك لأنها تظلّ تكتسي طابعا إنسانيا قابلا للتصديق، فإن شخصيات عائلة الأسد برمتها، فقدت هذا الطابع منذ زمن بعيد جدا. حتى مرض أسماء الأسد، الذي حاولت العائلة/ النظام توظيفه، لم يفلح في جلب أقلّ قدر من التعاطف. عائلة بوينديا هي عائلة تنجرف وراء مشاعرها وشغف أفرادها ومخاوفهم وخرافاتهم، أما عائلة الأسد، شأن معظم العائلات الديكتاتورية، فإنها أشبه بلوح الجليد الحارق في رواية ماركيز.

علينا أن ننتظر الجزء الثاني من المسلسل لنرى مصائر بقية الأجيال الستة من عائلة بوينديا، ومعهم مصير ماكوندو نفسها، إلا أننا نعرف من الرواية هذا المصير، ونعرف أن ماكوندو تتحول في النهاية إلى أرض خراب. هذا مشهد سوريا قبل سقوط الأسد. داخل البيت الكبير الذي شيّدته أورسولا ليليق بمؤسس ماكوندو، نجد الدسائس والغيرة والأنانية، والأهم أننا نجد الجنون. داخل عائلة الأسد نجد على الأرجح ملامح مناسبة. في النهاية جميع أفراد هذه العائلة، بما في ذلك “عائلة الحزب” الموسّعة، ومن كان يدور في فلكها، أكل بعضهم بعضا، حتى قبل سقوط النظام. رأينا وسمعنا عن انشقاقات ومؤامرات وتصفيات لطالما رافقت مسيرة هذه العائلة، وقد تجلّت جميعها بصورة كاريكاتورية بعد السقوط، ولعلّ أبرزها ما تردّد عن طلب أسماء الأسد الطلاق والعودة إلى “مسقط رأسها” بريطانيا.

تحرّر الشعب السوري أخيرا من نظام الأسد. مشهد استيلاء “هيئة تحرير الشام” الفائق السرعة على السلطة، دفع كثر إلى طرح التساؤلات حول كيفية حدوث هذه المعجزة. استحضر كثر مراحل حياة وتحولات قائد هذه الهيئة، أبو محمد الجولاني، الذي تحوّل إلى أحمد الشرع، وانتقل من البزة العسكرية إلى البدلة المدنية، بما يشبه ظهور الشخصيات الحلمية والأسطورية في رواية ماركيز. الرداء الأسطوري كان جاهزا بالفعل، أيا يكن من يقود ذلك الحراك، إذ بدا أن سقوط الأسد في حدّ ذاته غاية عليا سامية، على نحو ما الحرب في حدّ ذاتها غاية سامية بالنسبة إلى جنرال “مئة عام من العزلة”. أما النقاشات التالية حول “العدالة الانتقالية” و”العقد الاجتماعي” الجديد والمجتمع المدني والعلمانية إلخ، كل هذه النقاشات لا نستطيع مقاومة مقارنتها كذلك، بمناقشات سكان ماكوندو، التي يعكسها المسلسل جيدا، حول الكنيسة ودور الدين في حياتهم، ولا ننسى أن الديكتاتور الجديد، بعد الحاكم، يولد من رحم الدفاع عن “الليبيرالية” وعن حرية الناس في العيش والتفكير.

يبقى الرجاء بألا يكون الفصل الجديد في سوريا، شبيها في أيّ حال من الأحوال، بالجزء الثاني المرتقب من “مئة عام من العزلة”.

المجلة

———————————

من دمشق… سقط المشروع الإيراني/ عالية منصور

صار واضحا أن إيران لن ترضى بخسارتها بروح “رياضية”

آخر تحديث 29 ديسمبر 2024

أن أكتب مقالي هذا من دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في العالم، فلا بد من أن أذكر أن مئات آلاف السوريين دفعوا حياتهم ثمنا لهذه الأمر، لحريتنا جميعا، لحرية أن نفكر ونكتب دون خوف.

فتحية لأرواح من ماتوا، وعُذبوا وشُردوا كي نحيا وكي تعود سوريا إلى أبنائها وإلى محيطها العربي.

في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2023، سقط “الأبد” في سوريا وهرب بشار الأسد. في الثامن من ديسمبر 2023 سقط مشروع إيران التوسعي في المنطقة بعد ما يقارب 45 عاما من إعلان طهران عن مشروع تصدير ثورتها، والذي لم يكن سوى مشروع احتلال للمنطقة بأوجه عديدة.

كانت سوريا حجر أساس في مشروع إيران وكانت نقطة الوصل الأهم بين طهران والمتوسط، كانت ممرا للسلاح ومصنعا للكبتاغون، ومنطلقا لتهديد دول الجوار والمنطقة.

وصار واضحا أن إيران لن ترضى بخسارتها بروح “رياضية”. خسرت هيمنتها على لبنان بسبب الحرب التي اندلعت بين “حزب الله” وإسرائيل، وخسرت أي فرصة لإحياء “حزب الله” ذراعها الأقوى والأقدم في العالم العربي والذي طالما استعمل ضد المصالح العربية، كقوة عسكرية تهدد لبنان والعالم العربي، فسوريا لم تعد ممرا للسلاح، ولا منطلقا لتجارة المخدرات لتمويل الإرهاب وعمليات إيران وأذرعها. وبات سلاح إيران لترد على خسائرها هو التهديد بالفتنة والحروب الأهلية.

جاء التهديد الأبرز على لسان المرشد الإيراني علي خامنئي الذي قال خلال مشاركته في احتفالية دينية في طهران: “أتوقع أن يشهد المستقبل ظهور مجموعة شريفة وقوية في سوريا أيضا”، داعيا من سماهم “شباب سوريا الشجعان” لإسقاط الحكومة المؤقتة في سوريا، فحسب وصفه “ليس لدى الشاب السوري ما يخسره. جامعته، مدرسته، منزله وحياته كلها غير آمنة، فماذا يفعل؟ يجب عليه أن يقف بإرادة قوية أمام أولئك الذين خططوا ونفذوا لهذه الحالة من انعدام الأمن، وسيتغلب عليهم إن شاء الله”.

وسبق كلام خامنئي تحذير وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للمحتفلين بالنصر في سوريا “بالتريث في الحكم على الأحداث، فالتطورات المستقبلية كثيرة”. بينما أعلن محسن رضائي، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني القوي، أن “المقاومة السورية ستُبعث من جديد في أقل من عام”. ولم يكد حبر هذه التصاريح يجف حتى ظهرت فيديوهات وبيانات لمجموعات وشخصية من النظام الساقط تتحدث باسم الطائفة العلوية. خطابات فتنوية وتحريضية تهدد بحرب أهلية وتطالب بالعفو العام عمن ارتكب المجازر والفظائع في سوريا خلال الأعوام الثلاثة عشر الأخيرة وما سبق.

عفو عام بينما كانت أمهات المفقودين في السجون تبحث في قصاصات ورق مبعثرة في صيدنايا وغيرها عن خبر ما يدلهم كيف ومتى قُتل أبناؤهم، وأين هي جثامينهم؟

هذا التحريض وما رافقه من أعمال مخلة بالأمن لحقته فورا حملة أمنية من القيادة المؤقتة، لاجتثاث من كان طليقا حتى اللحظة من المجرمين الذين شاركوا بالإبادة، ولوقف أي خطاب تحريضي ينذر بحرب أهلية لا أحد يريدها سوى إيران.

تخللت الحملة الأمنية انتهاكات، مستنكرة ومدانة ويجب أن تتنبه القيادة العسكرية لها وتمنع تكرارها، ولكن كي لا يدع أحد المثالية فقد كان العالم أجمع يتوقع عمليات انتقام واسعة يقوم بها سوريون عانوا ما عانوه على يد شركائهم في الوطن، قتل وتجويع وتعذيب واغتصاب وإذلال ونهب، وهو ما لم يحصل كما كان العالم يتوقع رغم بعض الحوادث. ولذلك قلنا إن العدالة والمحاسبة هي الطريق الأمثل للحفاظ على السلم الأهلي، فلا ينزلق المجتمع نحو الثأر والانتقام، ويعطي فرصة للمتربصين وهم كثر وعلى رأسهم إيران الولي الفقيه، من زرع فتنة مذهبية توقف العملية الانتقالية قبل أن تبدأ لتعود طهران وتساوم على السلم مقابل مكاسب لها في سوريا ما بعد حقبة الأسدين.

خسارة إيران في سوريا أكبر من خسارة الأسد نفسه، فالأسد كان يرى في سوريا مزرعة ومكسبا يريد منها المال والسلطة ولو اضطره الأمر لقتل مليون شخص وتشريد نصف الشعب، وهو ما فعله، بينما ترى طهران أن خسارتها استراتيجية، وخسارة مشروعها الذي عملت له منذ عام 1979.

أما اليوم فالأمن هو حجر الأساس في بناء الدولة السورية، وجمع السلاح وإلقاء القبض على المرتكبين لأي طائفة انتموا، فمن دون أمن لا إمكانية لأي انتقال سياسي ولا لبناء دولة ديمقراطية. دولة لجميع السوريين، دفع الكثيرون على مدى عقود ثمنا للوصول إليها، وعمل لها واستشهد من أجلها مئات آلاف السوريين على مدى 13 عاما هو عمر الثورة السورية التي أسقطت بشار الأسد وحررت سوريا من الاحتلال الإيراني.

المجلة

————————-

التغيير الديموغرافي في سوريا… إرث النظام السابق وخطورته على النسيج الاجتماعي/ إياد أحمد شمسي

آثاره لا تزال حاضرة بقوة وتشكل تحديا كبيرا لجهود إعادة البناء

آخر تحديث 28 ديسمبر 2024

على مدى عقود، انتهج النظام السوري سياسات ديموغرافية تستهدف تغيير التركيبة السكانية للمدن الكبرى مثل دمشق وحمص، بهدف تفكيك النسيج الاجتماعي وإضعاف الهوية الوطنية. هذه السياسات، التي تم تنفيذها تحت ستار مشاريع عمرانية، كانت جزءًا من خطة لإحكام السيطرة الأمنية والسياسية. ومع سقوط النظام، أصبحت آثار هذه السياسات تشكل تحديًا طويل الأمد يجب معالجته بحكمة للحفاظ على وحدة المجتمع السوري.

أحياء جديدة بأهداف سياسية

ركز النظام على إنشاء أحياء جديدة في المدن الكبرى لتغيير التركيبة السكانية بما يخدم مصالحه السياسية والأمنية. هذه الأحياء لم تكن مجرد مشاريع إسكان، بل أدوات لتغيير ديموغرافيا المناطق ذات الطبيعة المعارضة.

دمشق: تفكيك الطابع العريق

بدأت عمليات التغيير الجغرافي في دمشق، العاصمة التي كانت تُعتبر رمزًا للتنوع الثقافي والاجتماعي في سوريا، منذ تولي حافظ الأسد للسلطة.

حي مزة 86

تم إنشاء هذا الحي بجوار حي المزة الدمشقي الراقي، الذي كان يتميز بتجانسه الاجتماعي. وقد استهدف النظام المنطقة بتوطين سكان موالين له، مما أدى إلى تغيير تركيبة الحي وتحويله إلى نقطة نفوذ أمني وسياسي.

تنظيم كفرسوسة

تم إنشاؤه بجوار حي الميدان الدمشقي، وهو أحد الأحياء العريقة ذات التاريخ الاجتماعي المتماسك. الهدف كان تفكيك هذا التماسك الاجتماعي وإضعاف الطابع المعارض للحي.

عش الورور

يقع الحي العشوائي بالقرب من أحياء معروفة بمواقفها المعارضة مثل برزة والقابون. واستُخدم الحي لتوطين مجموعات موالية للنظام، مما جعله حاجزًا ديموغرافيًا وأمنيًا يهدف إلى تقليص تأثير المعارضة.

السومرية

أُقيم هذا الحي على أطراف دمشق بالقرب من قدسيا، وتم تصميمه ليكون مركزًا لتوطين فئات موالية للنظام بهدف تعزيز السيطرة على المداخل الغربية للعاصمة.

حمص: نموذج لاستهداف التنوع

كانت حمص ضحية لسياسات ممنهجة تهدف إلى تغيير هويتها وتقويض بنيتها الاجتماعية. هذه السياسات أدت إلى تحولات دراماتيكية في التركيبة السكانية للمدينة عبر إنشاء أحياء جديدة واستهداف للأحياء العريقة، مما ترك آثارًا عميقة على حياة الناس والمجتمع ككل.

مشروع “حلم حمص”

طرح النظام مشروع “حلم حمص” لهدم أجزاء من المدينة القديمة مثل باب هود والحميدية، بزعم التحديث العمراني. أثار هذا المشروع غضب أبناء مدينة حمص الذين أدركوا أنه محاولة لطمس هوية مدينتهم، لذا خرجوا في مظاهرات كبيرة رددوا خلالها شعارات تعكس رفضهم: “يا بو حافظ غير المحافظ”، “نعم لبشار الأسد، لا لمحافظ حمص”. وأكدت هذه الشعارات وعي السكان بخطورة المشروع، ودفاعهم عن تاريخ مدينتهم ونسيجها الاجتماعي.

أحياء الزهراء والنزهة وشارع الحضارة

أنشأ النظام هذه الأحياء لتوطين مجموعات موالية له. كانت هذه المناطق ذات طبيعة أمنية مغلقة، تهدف إلى تغيير الطابع الاجتماعي للمدينة.

التزوير والتلاعب بالوثائق

في ظل الأحداث التي شهدتها مدينة حمص، في عام 2013 تعرضت السجلات العقارية في مبنى البلدية لضرر كبير جراء القصف، مما أدى إلى احتراق قسم كبير من السجلات. ورغم نقل بعض الوثائق إلى مكان آمن، فإن الفوضى التي عمت المدينة وغياب الرقابة شجعا على عمليات تزوير وتلاعب بالوثائق العقارية. وقد سهل المرسوم التشريعي رقم 12 لعام 2016، والذي سمح باستخدام النسخ الرقمية للسجلات، من هذه العمليات، مما أدى إلى تهديد حقوق الملكية وخلق مشاكل قانونية معقدة في المستقبل.

أ.ف.ب أ.ف.ب

سوريون مسيحيون يرفعون الصلبان وأعلام الاستقلال أثناء تجمعهم في منطقة الدويلة بدمشق في 24 ديسمبر 2024، للاحتجاج على حرق شجرة عيد الميلاد بالقرب من حماة في وسط سوريا

أهداف التغيير الديموغرافي

لم تكن هذه السياسات عشوائية، بل استهدفت تحقيق أهداف سياسية وأمنية طويلة الأمد:

1-    إحكام السيطرة الأمنية:

من خلال توطين مجموعات موالية في مناطق استراتيجية، ضمن النظام لنفسه قاعدة دعم محلية قريبة من مراكز المعارضة.

2-    تفكيك المجتمعات المتماسكة:

استهدفت الأحياء ذات الطابع الاجتماعي القوي، مثل الميدان وحمص القديمة، لضرب الروابط الاجتماعية التي كانت تشكل بيئة حاضنة للحراك المدني والسياسي.

3-    طمس الهوية الوطنية:

محاولة محو الطابع الثقافي والتاريخي للأحياء العريقة، وإعادة تشكيلها بما يتماشى مع أهداف النظام.

رسالة طمأنينة للمجتمع السوري

رغم ما خلّفه النظام من سياسات تهدف إلى التفريق بين مكونات المجتمع، فإن السوريين أثبتوا على مدى تاريخهم قدرتهم على التعايش والتغلب على الأزمات. الهوية السورية القائمة على التنوع والاحترام المتبادل لا تزال صامدة، ويمكن البناء عليها لاستعادة الوحدة الوطنية.

التنوع قوة لا تهديد

يدرك السوريون بمختلف انتماءاتهم أن التنوع الاجتماعي والثقافي هو مصدر قوة لا ضعف. استعادة التعايش يمكن أن يكون أساسًا لإعادة بناء المجتمع.

العودة للوحدة الوطنية 

مكونات المجتمع السوري لديها مصلحة مشتركة في تجاوز إرث النظام السابق، والعمل معًا لإعادة بناء مجتمع عادل ومتساوٍ.

تحذير من استمرار إرث النظام

رغم سقوط النظام، لا تزال آثار سياساته الديموغرافية قائمة وتشكل تهديدًا للمستقبل.

المناطق المغلقة

تمثل أحياء مثل “مزة 86″ و”عش الورور” و”السومرية” و”الزهراء” تحديًا لوحدة المجتمع، إذ يجب العمل على إعادة دمجها اجتماعيًا وثقافيًا في الإطار الوطني.

التهجير القسري وآثاره

إعادة المهجرين إلى أحيائهم ضرورة لإعادة التوازن السكاني والاجتماعي الذي دمرته سياسات النظام.

    التغيير الديموغرافي الذي فرضه النظام السابق لم يكن مجرد إجراء عابر، بل استراتيجية تهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وإضعاف الهوية الوطنية

خارطة طريق لمواجهة التبعات

لمعالجة آثار هذه السياسات، يجب تبني رؤية وطنية شاملة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي:

1-    إعادة المهجرين:

ضمان حق السكان الأصليين في العودة إلى أحيائهم، وتأمين بيئة آمنة ومستقرة لهم.

2-    تنمية متوازنة:

إعادة إعمار الأحياء والمدن يجب أن تراعي العدالة الاجتماعية وتوفر فرصًا متساوية لجميع السكان.

3-    تعزيز الحوار الوطني:

إطلاق مبادرات تهدف إلى تعزيز الثقة بين مكونات المجتمع، وتجاوز الانقسامات التي زرعها النظام.

4-    الحفاظ على التراث الثقافي:

حماية الأحياء التاريخية وإعادة إحيائها كجزء من الهوية الوطنية السورية.

في الخلاصة فإنّ التغيير الديموغرافي الذي فرضه النظام السابق لم يكن مجرد إجراء عابر، بل استراتيجية تهدف إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وإضعاف الهوية الوطنية. ومع ذلك، يبقى الأمل في قدرة السوريين على تجاوز هذا الإرث الثقيل، وإعادة بناء مجتمعهم على أسس العدالة والوحدة والتنوع. تقع المسؤولية اليوم على عاتق جميع الأطراف للعمل معًا لتجاوز آثار الماضي، وحماية مستقبل سوريا كوطن لجميع أبنائها، بعيدًا عن سياسات التفرقة التي انتهجها النظام السابق.

* عضو الهيئة العليا للمفاوضات سابقا

المجلة

———————————————————

 عشر رسائل سوريّة إلى السيّد أحمد الشرع

أحمد جاسم الحسين

2024.12.29 | 17:31 دمشق

الشرع

+A

حجم الخط

-A

أصحاب تلك الحكايات، لم يجدوا إلى لقائك سبيلاً، مع أنهم حاولوا مرات ومرات، كما يقولون، وقد شرحت لهم أنك اليوم تحمل آمال بلدهم سوريا الكريم المنتصر، وتتجشم حمل أعباء حسرات الأمهات وآمال الرجال وأحلام الشباب وطموحات فتياتنا. ولن يكون لديك الوقت لتستمع إلى حكايات 24 مليوناً سورياً لأن كل سوري لديه حكاية يريد أن يخبرك بها، أو مظلومية، ويبدو أنني بين شهر وآخر سأكتب لك عن تفاصيل جديدة ينتظرها السوريون منك.

    الحكاية الأولى:

 هي حكاية شاب وشابة سورية، أتحفظ على أسمائهم، قالا لي نريد أن نجد بيتاً صغيراً يليق بأحلامنا، وعملاً يؤمن لنا قوت يومنا، ونرغب أن نقيم عرساً بسيطاً دون أن نأخذ موافقة المخابرات، وأن نمشي في الشارع وقد أمسك كل منا بيد الآخر دون أن نخاف ممن ينهرنا، نفتح شباك الشقة فيطير حمام مستقبلنا من غرفتنا ليدور في الشام ثم يعود إلينا سالماً، لا مانع أن يكونوا موجودين في كل مكان من أجل أمننا، لكن لا نريد أن نشعر بوجودهم، أو أن يتدخلوا بتفاصيلنا.

    الحكاية الثانية:

حكاية أمٌّ؛ وجدتها في ساحة المرجة تبحث عن صورة ابنها في الصور المعلقة هناك. هي لم تسألني، أنا من بادرتها: ماذا لو أطل عليك السيد أحمد الشرع الآن؟ ماذا تقولين له؟ قالت: سأقول له: يا بنيي، قلبي يغص كل يوم ألف غصة وأنا أنتظر! إن لم تكن تستطيع أن تعيد لي ابني، فلا تحرمني من محاكمة قاتليه، وأنا مستعدة للقيام بادعاء قضائي حين تخصص محاكم لآلام الأمهات، أتعرفون آلام الأمهات، أنا لست سياسية لأفهم بالصفقات، أنا صاحبة حق، ولن يخفف من ألمي سوى محاكمة قاتلي ولدي؟

    الحكاية الثالثة:

حكاية طفل، استوقفته على أحد الأرصفة، وكان يحمل علب محارم صغيرة ليبيعها، قلت له: يا بني! نسيت نظارتي في الفندق، وأنا رجل طاعن في السن، فهل يمكن أن تقرأ لي هذه الورقة؟ فقال لي: كيف يمكنني أن أقرأ هذه الورقة، أنا الذي لم أذهب إلى المدرسة، أنا لا أعرف القراءة والكتابة! هالني ما سمعت، سألته: كم عمرك يا بني؟ قال لي 14 عاماً؟ وحين وجدني متألماً على حالته قال لي: لا تقلق يا عمو، كل شباب قريتنا ومن أعرفهم لم يتعلموا القراءة والكتابة!

كيف سنحلها مع هؤلاء الأطفال؟ جيلٌ سوري كامل لا يعرف القراءة، كيف سيقرأ تعليمات القائد وقرارات الحكومة المتتالية وبيانات الناشطين والباحثين عن الدولة العلمانية، وقد كتبوا كتاباً “كيف تؤسس دولة علمانية في أسبوع”؟

    الحكاية الرابعة:

كانت حكاية مثقف في عصر موته، وبصراحة قبل أن يبدأ سألته عن عدد متابعيه على التيكتوك والفيسبوك فقال لي: بالمئات؟ ابتسمت: قلت له لو كان عندك متابعون بمئات الآلاف لنظرت في أمرك، أو ربما لتوسطت لك، كما تعلم يا سيادة القائد، هؤلاء المثقفون يشعرون أنهم منبوذون وأن الزمن يمشي عكسهم، وهم يبحثون عن دور في عصر موتهم، وكيف لميت أن يأخذ دوراً وفقا لأفكار علي حرب، وعلي حرب هذا شخص لا أنصحك أن تحبه، لأنه شخص لا يحبنا. سألني عن عدد متابعي على وسائل التواصل الاجتماعي، قلت له “التم المتعوس على خايب الرجا” فهم الحكاية واحتفظ بحكايته مثلما احتفظ النظام البائد بحق الرد عشرات السنوات، ختمت الحديث بالقول: الدول في مراحل التحول تعطي المفكرين والمخططين إجازة ليعدوا خططاً طويلة الأجل، فهل أنا مخطئ في مثل هذا التصور؟

    الحكاية الخامسة:

بصراحة هذه ليست حكاية شخص بل حكاية أشخاص عديدين، رأيتهم في المقاهي وردهات الفنادق، يحملون “سيرهم الذاتية” ويبحثون عن المركز الوطني لجمع المعلومات، يدّعون أنهم تكنوقراط ويمكنهم أن يعملوا كمتطوعين في الهيئات الحكومية، ولأن سوريا خارج نظام ال جي بي إس حالياً نتيجة العقوبات نصحتهم أن يؤجلوا تسليم سيرهم الذاتية، لأننا في مرحلة “شرعية ثورية”، غير أن كثيراً منهم لم يستوعبوا هذا المصطلح مما اضطرني إلى شرحه لهم، وأكدت لهم أن الثورات في المراحل الفصائلية تحتاج إلى “الولائية” أكثر من “الكفائية” لأن السيد القائد ليس لديه الوقت ليضع خلف كل مكلف مراقباً، وسألوني عن الفترة الزمنية المتوقعة قلت لهم: أكثر من 3 أشهر وأقل خمس سنوات، أرجو التصحيح في حال أخطأت في التواريخ!

    الحكاية السادسة:

حكاية امرأة سورية لا تتردّد أن تتذمر من مشهد سيطرة الذكور على الصور، وتقول: المشهد السوري مشهد ذكوري، أين النساء السوريات؟ حاولت أن أشرح لها أن الحرب لم تضع أوزارها، لم تقتنع، بحثت عن أرقام: موسى العمر وهادي العبد الله وجميل الحسن لأقول لهم: يا أحبة، نوعوا في الصور، ارصدوا المشهد من مختلف جوانبه، أليس السيد أحمد الشرع قائدنا حالياً، قد انتبه إلى هذا الموضوع ووازن في موضوع الصور بين الرجال والنساء؟ غير أنني وأنا في خضم البحث رأيت يمان نجار، فشكرته على أن التقط صورة على كرسي الرئاسة، وأن هذا سيزيد من عدد متابعينا حول العالم الذين لن يترددوا في زيارة بلدهم الام، هز رأسه قائلاً: كثيرون يعتقدون أن هدفي زيادة عدد المتابعين، أكدت له أنني لست من أولئك “الكثيرون” الذين تحدث عنه، التقطت معه صورة وذكرته أنه مهما حدث أبقى أنا وإياه مواطنين هولنديين من جذور سورية!

    الحكاية السابعة:

ليست حكاية شخص بل حكاية مجموعة من الشباب، التقيتهم في مقهى الروضة، بالقرب من البناء الذي قيل فيه يوماً: “قليل عليك يا سيادة الرئيس أن تحكم سوريا، عليك أن تحكم العالم”  وكان كل منهم يحمل مشروعاً، سعدت بهم، وقلت لهم سأعمل قدر استطاعتي على نقل رسالتكم  إلى السيد القائد، الذي سيكون سعيداً بأنه ليس الوحيد الذي قلبه على البلد، بل يوجد شباب سوريون كثيرون يحبون بلدهم، بلدنا يريد أن تسند جدرانه المتعبة قلوبنا.

آمن الشباب بمسعاي وباتوا يتحدثون عن مشاريعهم: هذا يدعو إلى أحداث الهيئة العليا للمتاحف وآخر الهيئة العليا للتطوع، وكذلك الهيئة العليا لاستقبال المشاريع الإبداعية في مجال الخدمات. ولأنني تعلمت الكثير في أوروبا، فقد قلت لهم: تعلمون أن كل مشروع ناجح يحتاج إلى ميزانية كافية وخطة تطبيقية ودراسة جدوى، وليس لدى الحكومة الانتقالية وقتاً لتلك الأفكار الجميلة، لكنهم فاجؤوني بالقول: لدينا الخطة الكاملة، ولا نريد من الحكومة سوى أن تتفهم مطالبنا وتعطينا الموافقة ونحن سنتولى البحث عن التمويل عبر شراكات مع رعاة دوليين، فرحتُ بهم وقلت: احمدوا ربكم أنكم جئتم في مرحلة الاقتصاد التنافسي الذي تحدث عنه السيد القائد، ولم تأتوا في مرحلة الحفاظ على القرار الوطني المستقل لتذهب كل الصفقات إلى عائلة الديكتاتور السابق.

    الحكاية الثامنة:

من جامعة دمشق، من إحدى الطالبات اللاتي يعتقدن، بما أنني أستاذ جامعي، فصله النظام السابق، أنني الأقدر على تفهم وضعها ونقل ألمها، ملخص شكواها تقول فيه: إلى متى؟

نصحتها أن تصبر قليلاً، فلا يليق بها أن تكون متذمرة، إذ لا يمكن أن تصلح أي حكومة في العالم إرث نظما ديكتاتوري عمره 55 عاماً في عشرين يوماً!

غير أنها حين أجهشت بالبكاء، قلت لها: قولي يا ابنتي! قالت: هل يقبل السيد أحمد الشرع ولي أمرنا حالياً، أن تُسَاوم بناته في الجامعات السورية على أجسادهن وهن في مرحلة التعلم؟

آلمني ما سمعت لأنني عددت ما سمعت إساءة لي كذلك، لأن مثل تلك السلوكات فيها إساءة للشرف الجامعي، ولولا أننا في مرحلة سيادة القانون ونريد أن نقدم صورة تليق ببلدنا وتاريخه، ربما لقلت لها: دلني على هذا النوع من الأساتذة لنضع له حداً، لكنها أدهشتني بأن قالت: نحن عشرات الطلاب مستعدون لتقديم الأدلة والشهادة في المحاكم ضد هؤلاء الذين خانوا الشرف الجامعي سنوات طويلة!

    الحكاية التاسعة:

هي حكاية رجل مسن، أمسكني من يدي وقال لي: هل تعرف أين يقع مقر السيد الشرع؟ أشرت إلى جبل بعييييييد وقلت له: هنااااك! نظر إليَّ لائماً: هذا مكان بعيد وأنا رجل مسن! قلت له: لا عليك، قل لي ما رسالتك وأنا سأكتب إلى السيد الشرع! قال: أريد أن أقول له شكراً؟ ابتسمت: معظم السوريين يقولون له شكراً أن تعاضد حلمنا مع حلمك في التخلص من الديكتاتور وعسى أن تبقى آمالنا متعاضدة في تصوراتنا عن مستقبل سوريا، التقينا في لحظة الحاضر، وسعدنا بالرفقة الطيبة ولا نريد أن نفترق!

قال لي: شكري أنا له سببٌ مختلف! شكري له لأنني سأموت مطمئناً على أولادي وأحفادي، وأنهم لن يعيشوا في ظل ديكتاتورية جديدة بعد أن تخلصنا من تلك الديكتاتورية البائسة، هل ترى يا سيادة القائد : كم أن أحلامنا بسيطة ومشروعة ونبيلة؟

    الحكاية العاشرة:

هي حكاية امرأة تحب الإصغاء، وقد قالت لي: أريد أن أسمع السيد القائد في خطاب مباشر أو مسجل عن رؤيته للدولة السورية، أحلامه، مشاريعه، أفكاره، رؤاه، سورياه.

الصمتُ يخيفني، وعدم الوضوح يجرحني، أنا امرأة نادرة؛ كوني أحب الإصغاء، قليلة الكلام، لكنني أخاف من عدم الوضوح.

أجبتها: من خبرتي بالتحليل والإدارة، أحسب أن الرؤى والاستراتيجيات لا تنجز في يوم وليلة وتتدخل فيها عوامل محلية وإقليمية ودولية، ونحن حالياً في مرحلة تأمين الأمان للمواطنين، وتحرير ما تبقى من الأرض السورية، وتأمين الحدود، وتحسين الخدمات، والتواصل مع محيطنا العالمي وهذا يحتاج إلى وقت.

قلت لها: مشكلتنا كسوريين أننا اعتدنا على القائد الذي يَعِد ويقول ويلقي الخطابات.

لكن السيد الشرع هو القائد الذي يفعل، أكثر مما يقول، ألم يعدنا بالنصر والتخلص من النظام البائد وفعل في أقصر مدة ممكنة!

ختاماً: أنا كنت من فئة الذين يريدون أن يقابلوك، لكنني تغيرت بسرعة، كما تغيرتَ أنت وتغيرت سوريا، وغدوت من فئة الذين سيرسلون لك الرسائل بين فترة وأخرى، محملة بأسئلة أهلك، أهلي: السوريين والسوريات.

—————————–

الواقع العسكري في سورية بعد الأسد: تحديات وإستراتيجيات المستقبل

29 كانون الأول/ديسمبر ,2024

عاشت سورية تطورات دراماتيكية في الأسابيع الماضية، انتهت بسقوط نظام الأسد يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وسادت سورية احتفالات كبيرة بهذا الحدث، لكنّ ما عكّر صفو تلك الاحتفالات هو استمرار سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على جزءٍ كبير من سورية، وكذلك بعض الأحداث الأمنية التي عاشتها بعض المناطق، والتي حرّكها بعض فلول النظام السابق، بتحريض علني من إيران.

ولا شك أن مسألة الاستقرار الأمني هي من أهم الأولويات التي تهتم بها حكومة دمشق، وفي هذه المسألة هناك مجموعة من التحديات التي تواجه سورية في المرحلة القادمة، نعدّ منها:

– مسألة مصير سيطرة (قسد) على أجزاء واسعة من البلاد.

– كيفية التعامل مع فلول النظام السابق خصوصًا ما يتعلق بمؤسسات الجيش والأمن التي ارتبطت بانتهاكات ضد الشعب السوري.

– إعادة بناء الجيش الوطني وسط انقسامات عسكرية واسعة النطاق، وغياب العقيدة العسكرية الوطنية الجامعة.

– مسألة جمع سلاح الفصائل وحلّها.

– تهديدات إقليمية ودولية، أبرزها الاحتلال الإسرائيلي، الذي يستغلّ الفوضى الداخلية لتوسيع سيطرته.

نحاول في تقدير الموقف هذا تقديم عرضٍ للواقع العسكري الحالي في سورية بعد سقوط نظام الأسد، وخطوط الجبهة الحالية بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وغرفة عمليات فجر الحرية وردع العدوان، حيث إن المعارك هناك ما زالت مستمرة بين الفينة والأخرى، وتقديم عرضٍ لأهمّ التحديات الأمنية والعسكرية التي تواجه الإدارة الجديدة في سورية.

    الواقع العسكري الحالي في سورية:

الواقع العسكري الحالي هو على الشكل التالي:

    غرفة عمليات ردع العدوان (قوات الحكومة الجديدة): تسيطر على أكثر من نصف الأراضي السورية، ولكن بدرجات متفاوتة من السيطرة، ففي بعض المناطق، تقتصر السيطرة على التنسيق مع التشكيلات المحلية، وهناك اعتراف مباشر من القوات المحلية بسلطتها، ومن بين هذه المناطق، الجبهات الجنوبية في سورية، وتبلغ مساحتها الإجمالية 10,205 كيلومترات مربعة، أي حوالى 5.51%  من مساحة سورية، وتشمل التشكيلات المحلية في السويداء، وخاصة فصائل رجال الكرامة، وهم من الموحدين الدروز، وتسلمت مواقع الجيش في المحافظة بعد سقوط نظام الأسد، والفصائل الجنوبية في محافظتي درعا والقنيطرة، ولا سيما قوات أحمد العودة،

    قوات سوريا الديمقراطية (قسد): تسيطر على مساحة تبلغ 52,864 كيلومترًا مربعًا في شمال شرق سورية، إضافة إلى 21 كيلومترًا مربعًا في مدينة حلب، ما يشكل نحو 28.56 % من إجمالي مساحة سورية، من ضمنها مناطق غنية بالنفط والغاز والزراعة.

    مناطق سيطرة الجيش الوطني في شمال غرب سورية، حيث لا توجد قوات ردع العدوان بشكل مباشر، ولكن هناك تنسيق عملياتي يتمثل في غرفة “فجر الحرية”، ويُسهّل الاتصال الجغرافي السابق مع هذه المناطق ومكوناتها عمليةَ بسط النفوذ لصالح غرفة عمليات الردع، إذا كان هناك موافقة أو تنسيق مع تركيا، وقوات الجيش الوطني هي فصائل غير متجانسة، وبعضها مشترك بغرفة عمليات ردع العدوان أيضًا.

    “جيش سورية الحرّة” في التنف: يسيطر على المنطقة الواقعة على الحدود السورية-العراقية، وهي حالة خاصة، بسبب وجود قاعدتين أميركيتين في المنطقة، وتبلغ مساحة هذه المنطقة نحو 7,654 كيلومترًا مربعًا، أي ما يعادل 4.13%  من إجمالي مساحة سورية.

    إسرائيل: وسعت حدود المنطقة المنزوعة السلاح، وفقًا لقرار عام 1974، بمسافة إضافية بلغت 310 كيلومترات مربعة، مما يرفع المساحة التي تحتلها إسرائيل في سورية إلى 1,452 كيلومترًا مربعًا، أي نحو 0.78%  من إجمالي مساحة سورية.

    القواعد الأجنبية في سورية: حيث ما زالت روسيا تسيطر على قاعدتين عسكريتين في حميميم وطرطوس، وهناك وجود أميركي في مناطق الجزيرة السورية، وهناك نقاط مراقبة تركية في إدلب ومناطق نبع السلام وغصن الزيتون ودرع الفرات.

    التحديات التي تواجه سورية الجديدة:

    بناء جيش وطني جديد:

شهدت سورية خلال العقود الماضية تحولًا جذريًا في بنية مؤسساتها العسكرية والأمنية، حيث أصبحت هذه المؤسسات أداة بيد السلطة لتعزيز السيطرة والاستبداد، بدلًا من أن تكون حامية للوطن والشعب، لذلك تواجه مسألة إصلاح الجيش السابق عقبات عديدة متجذرة في تاريخه، إضافة إلى حالة التشتت بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث أدى تفكك وانهيار الجيش إلى خلق فراغ أمني، بعدما هرب المجندون والضباط من مواقعهم، وعادوا إلى منازلهم، في حين هرب بعض كبار الضباط إلى العراق أو لبنان أو وروسيا…، أو ما زالوا مختبئين في أماكن مختلفة في سورية.

 فالجيش السابق افتقر إلى عقيدة عسكرية واضحة، حيث كان يعمل كأداة لبقاء النظام، بدلًا من كونه قوة للدفاع الوطني، ومن ثم هناك تحدٍّ كبير بخصوص كيفية التعامل مع ضباط النظام السابق، ومع إمكانية دمجهم في مستويات أقلّ، من دون تمكينهم من صنع القرار، هذا التحدي يشبه تجارب أخرى في مرحلة ما بعد الصراع، وخاصة العراق، حيث يجب تحقيق توازن دقيق بين الثقة والكفاءة.

أما بناء جيش سوري جديد بعد سقوط النظام، فهذا يتطلب رؤية وطنية شاملة وتجاوز الانقسامات الطائفية والسياسي، حيث إنه يجب أن يكون الجيش مؤسسة وطنية تمثل جميع المكونات السورية دون انحياز، مع تطهيره من التأثيرات الأيديولوجية، وتبدأ العملية بحل الميليشيات والفصائل، ودمج المقاتلين الراغبين، وتقديم برامج تأهيل لهم، مع ضمان إشراف مدني على الجيش لضمان استقلاليته عن السياسة، ويتطلب ذلك موارد مالية كبيرة، ودعمًا دوليًا للتدريب والتأهيل، مع تحديث الأكاديميات العسكرية لتعمل وفق قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

فالتحديات كبيرة، وهي تشمل معالجة انعدام الثقة بين الشعب والمؤسسة العسكرية، وتعدّد الفصائل المسلحة، والتدخلات الخارجية، ويمكن الاستفادة من تجارب دولية مثل العراق وجنوب أفريقيا، مع التركيز على تفادي الأخطاء السابقة، فتأسيس جيش وطني جديد يمكن أن يكون أساسًا لاستقرار سورية وإعادة الإعمار، بشرط وجود قيادة واعية ودعم دولي لتجاوز المصاعب السياسية والاقتصادية، ودمج المجموعات المختلفة ضمن إطار عسكري موحّد، يجب أن تعكس عقيدة الجيش الجديد تحولًا جذريًا بعيدًا عن السيطرة الاستبدادية نحو عقيدة تركّز على الدفاع الوطني، واحترام الرقابة المدنية، والالتزام بالمبادئ الديمقراطية، كما يجب أن تأخذ هذه العقلية بعين الاعتبار التوازن بين التحديات الأمنية الإقليمية والاستقرار الداخلي، لضمان عدم تحول الجيش إلى أداة للتفرقة أو النفوذ الأجنبي.

    التهديدات العسكرية والأمنية:

    تهديد (قسد):

تشكل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تهديدًا محوريًا للأمن القومي السوري، حيث تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي السورية في شمال شرق البلاد، وتتمتع بدعم عسكري وسياسي مباشر من قوى دولية، أبرزها الولايات المتحدة، وقد أسهم هذا الدعم في تعزيز قوتها العسكرية، ومكّنها من فرض نفوذها على تلك المناطق، وإقامة إدارة شبه مستقلة. ويتمثل التهديد الأساسي لـ (قسد) في قدرتها على زعزعة الاستقرار الداخلي، من خلال تكريس الانقسام الجغرافي والسياسي، وإعاقة جهود الحكومة المركزية في إعادة توحيد البلاد، وتشكّل هيمنتها على مناطق غنية بالموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، ضغطًا اقتصاديًا كبيرًا على سورية الجديدة. وإضافة إلى ذلك، تسود مخاوف من استخدام (قسد) كورقة ضغط من قبل الدول الداعمة، لتحقيق أجندات إقليمية ودولية تتعارض مع المصالح الوطنية السورية.

    التهديد الإسرائيلي:

برز الخطر الإسرائيلي بشكل واضح وفوري بعد قيام القوات الإسرائيلية باحتلال مناطق جديدة في جنوب سورية، بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، لذلك، ينبغي أن تراعي أي بنية عسكرية سورية جديدة هذا التهديد المستمر، مما يتطلب التركيز على تطوير أنظمة دفاع جوي متقدمة، وقدرات مراقبة عالية التقنية، واستراتيجية ردع تجمع بين الأساليب التقليدية وغير التقليدية.

    فلول النظام السابق:

يشكّل فلول النظام السوري السابق تهديدًا خطيرًا على الاستقرار بعد سقوط النظام، إذا لم يتم التعامل معهم بطريقة إستراتيجية، ويمكن أن يظهر هذا التهديد عسكريًا، من خلال تشكيل خلايا نائمة تنفذ هجمات تخريبية، أو يكون التهديد سياسيًا عبر إعادة تنظيم أنفسهم لاستعادة النفوذ داخل مؤسسات الدولة، وقد يكون اجتماعيًا، من خلال استغلال الانقسامات الطائفية والعرقية لإثارة الفوضى وإضعاف جهود المصالحة الوطنية، وقد يتحالفون مع قوى إقليمية أو دولية كانت تدعم النظام، مما يزيد من تعقيد المشهد. ومن الناحية الاقتصادية قد يستخدمون ثرواتهم غير المشروعة أو شبكات التهريب لتمويل أنشطتهم التخريبية، وللتعامل مع هذا التهديد، من الضروري تطبيق العدالة الانتقالية بحزم، وتفكيك شبكات النظام الأمنية، ومحاكمة المتورطين بالجرائم، مع إمكانية استيعاب المؤهلين منهم غير المتورطين في الجرائم، لبناء دولة مستقرة ومتنوعة.

فالتهديدات الداخلية يجب التعامل بشكل تقني وحرفي، مع نشاط مجموعات ما دون الدولة بكل أشكالها وتعقيداتها، ومن ضمنها بقايا الجماعات المتطرفة والميليشيات الموالية لقوى أجنبية، وهذا يتطلب بناء مؤسسة عسكرية مجهزة جيدًا، وتمتلك مرونة وقدرة على الانتشار السريع، ومدربة على تكتيكات الحرب غير التقليدية. وإضافة إلى ذلك، ستفرض تهديدات الحرب السيبرانية والتحديات التقنية الحاجة إلى دمج التكنولوجيا المتقدمة وقدرات الدفاع السيبراني ضمن الإطار العملياتي للمؤسسة العسكرية، وتُبرز هذه التهديدات ضرورة وجود عقيدة عسكرية متماسكة، تعطي الأولوية للتكيّف مع المتغيرات، والتطور التكنولوجي، والتوافق الواضح مع أهداف الأمن الوطني. ويجب أن تتطوّر العقلية العسكرية لتعكس توازنًا بين استراتيجيات الدفاع التقليدية والنهج الحديثة والمبتكرة، للتصدّي لطيف واسع من التهديدات المتنوعة.

ج- إصلاح القطاع الأمني:

يمثل إصلاح القطاع الأمني في سورية عقب سقوط نظام الأسد تحديًا معقّدًا ومتعدد الأبعاد، بالنظر إلى الطبيعة العميقة والمتجذرة للجهاز الأمني خلال مرحلتي حكم نظام الأسد، حيث كانت أجهزة الاستخبارات والأمن أدوات رئيسية للسيطرة على الدولة، ولم يقتصر دورها على نشر الخوف وتعزيز الانقسام بين شرائح المجتمع المختلفة، بل عزّزت أيضًا ثقافة الإفلات من العقاب والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، ويتطلب إصلاح هذا النظام الأمني توازنًا دقيقًا بين تفكيك الآليات القمعية، ومنع حدوث فراغ أمني قد يزعزع استقرار الدولة. وتتمثل الخطوة الأولى في إصلاح القطاع الأمني في تحديد العاملين ضمن الأجهزة السابقة للنظام، بين مرتكبين لجرائم وغير متورطين، ثم يجب إعادة تأهيل وإدماج الأفراد ذوي الرتب الدنيا، الذين شاركوا غالبًا تحت الإكراه أو بدوافع اقتصادية، في الحياة المدنية، من خلال برامج توفر التدريب المهني، والدعم النفسي، وسبل الاندماج المجتمعي. من شأن هذا النهج تقليل أخطار تحوّل هؤلاء الأفراد نحو أنشطة إجرامية أو مزعزعة للاستقرار. في المقابل، يجب محاسبة المسؤولين الكبار والضالعين مباشرة في أعمال التعذيب والقتل خارج إطار القانون وغيرها من الانتهاكات، من خلال محاكمات عادلة، ويضمن هذا النهج المزدوج تحقيق العدالة، مع تجنب نفور شامل لمن كانوا مرتبطين سابقًا بالقطاع الأمني.

ويتطلب بناء هيكل أمني جديد تضمين مبادئ المساءلة، والشفافية، واحترام حقوق الإنسان، حيث يجب أن تتحوّل هذه المؤسسات من أدواتٍ لبقاء النظام إلى حُماةٍ للشعب والدولة، ويستلزم هذا التحوّل إجراء إصلاحات هيكلية وعملياتية، ويجب أن تشكل برامج التدريب التي تركز على حقوق الإنسان، والحساسية تجاه النزاعات، وممارسات الشرطة الحديثة الأساس لهذه الجهود.

ويجب أن تستند هذه الإصلاحات إلى إطار سياسي شامل، يحدد دور المؤسسات الأمنية ضمن الدولة الديمقراطية، وينبغي أن يشمل هذا الإطار الرقابة المدنية، وسلاسل قيادة واضحة، وآليات لمنع عودة الاستبداد، وسيكون الدعم الدولي، على شكل خبرات تقنية وتمويل ورقابة، ضروريًا لتجاوز هذه العملية الحساسة والمعقدة، من خلال معالجة القضايا المترابطة للإصلاح الأمني وبناء الهوية الوطنية.

د. نزع سلاح الفصائل المختلفة ودمجها:

نزع سلاح الفصائل ودمجها في الجيش السوري الجديد هو خطوة محورية لتحقيق الاستقرار، وبناء جيش وطني يمثل جميع السوريين، ويتطلب ذلك استراتيجية شاملة تبدأ بحصر الأسلحة تحت إشراف لجنة مستقلة محلية ودولية، مع ضمان الشفافية في تنفيذ العملية، وينبغي أن تُصاحب هذه الخطوة برامج تأهيل متكاملة لإعادة دمج المقاتلين، تشمل التدريب العسكري والمهني، لضمان تحولهم إلى عناصر بناءة داخل الجيش أو المجتمع ، ويجب أن تُبنى عملية الدمج على معايير وطنية صارمة، تشمل الكفاءة والالتزام بالقانون، مع استبعاد أي متورطين في الانتهاكات، لضمان التوازن الوطني، ويجب أن يعكس الجيش الجديد تنوع المجتمع السوري، مع تبني قيم الولاء للوطن والاحترافية العسكرية واحترام حقوق الإنسان، وإن دعم هذه الخطوة بموارد مالية ودعم دولي وإقليمي سيكون حاسمًا، لضمان انتقال سلس ومستدام يعزز الوحدة الوطنية ويضع حدًا لسياسات الفصائلية والتفرقة.

    خاتمة

إن بناء مستقبل مستقرّ لسورية بعد سقوط نظام الأسد يتطلب معالجة جذرية لتحديات الواقع العسكري والأمني، مع رؤية استراتيجية تتجاوز الحلول المؤقتة نحو بناء مؤسسات قوية ومستدامة. وإن إصلاح الجيش الوطني ليكون مؤسسة جامعة لجميع السوريين، وإعادة هيكلة القطاع الأمني لتكون أدواته حامية للشعب، يشكلان الأساس لبناء دولة قوية ذات سيادة.

وتتطلب المرحلة المقبلة تضافر الجهود المحلية والدولية، واستثمار الدعم الدولي في إعادة بناء مؤسسات تلتزم بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومع وجود تحديات كبرى مثل الانقسامات الداخلية، التهديدات الخارجية، والتدخلات الإقليمية، فإن النجاح يعتمد على توفر قيادة واعية قادرة على تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والعلاقات الدولية، وبين العدالة والمصالحة.

في المحصلة، فإن تحقيق الأمن والاستقرار في سورية لا يعتمد فقط على قوة السلاح أو عدد القوات، بل على تأسيس نظام سياسي شفاف وعادل، يعيد ثقة الشعب بمؤسسات الدولة، ويوفر الأساس لإعادة الإعمار وبناء مستقبل يعكس تطلعات جميع السوريين.

مركزحرمون

————————————–

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى