سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 01 كانون الثاني 2025

لمتابعة التغطيات السابقة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 30 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 29 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 28 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 27 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 26 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 25 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 23 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 22 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 21 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 20 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 كانون الأول 2024

 
سوريا حرة إلى الأبد: المصاعب والتحديات، مقالات وتحليلات 16 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مهام اليوم التالي، مقالات وتحليلات 15 كانون الأول 2024

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 14 كانون الأول 2024

جمعة النصر الأولى على الطاغية، سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد، مقالات وتحليلات

سوريا حرة إلى الأبد: سقوط الديكتاتور الفار بشار الأسد مقالات وتحليلات

————————————–

هل يبدو الشرع متفائلا في قدرة إدارته على إنجاز العملية السياسية؟/ إبراهيم نوار

تجديث 01 كانون الثاني 2025

يتبنى أحمد الشرع قائد الإدارة الانتقالية في سوريا خطابا سياسيا عاقلا ومتوازنا، جعل المراقبين في الغرب يعتبرونه «براغماتيا» ينتمي إلى جيل جديد من القيادات السياسية الواعدة في العالم العربي. ومع أنه من الخطأ إطلاق أحكام لتقييمه اعتمادا على خطابه السياسي، قبل النجاح في اختبار تجسيد هذا الخطاب وتحويل مفرداته إلى حقائق على الأرض، فإن طول انتظار حدوث التغيير، وفداحة التضحيات التي قدمها السوريون، والسقوط السريع للنظام السابق، جعل السوريين أنفسهم في عجلة من أمرهم شوقا إلى نظام جديد.

وقد بدأت القيادة الانتقالية للثورة السورية في رسم ملامح العملية السياسية. وطبقا للتصريحات الأخيرة التي أعلنها أحمد الشرع قائد الإدارة الانتقالية فإن الانتخابات قد لا تجري قبل عام 2028، لأنها تحتاج إلى إعداد جاد بوضع دستور جديد، وتوفير البنية الأساسية الانتخابية، على التوازي مع إعادة تشكيل الأرضية السياسية والمناخ السياسي الصحي للعملية السياسية بأكملها، بدءا من حل التنظيمات العسكرية ودمجها بالجيش النظامي، وتحويل الجماعات والهيئات القائمة عليها إلى كيانات سياسية، تشارك في صنع المستقبل السياسي لسوريا الجديدة.

الشروط المسبقة لبدء عملية سياسية ناجحة في سوريا تبدو صعبة التحقيق داخل هذا الإطار الزمني، ما لم تتوفر الإرادة السياسية الكافية لدى الأطراف الأخرى، خصوصا «قوات سوريا الديمقراطية» التي تتحكم فيما يقرب من ثلث مساحة البلاد وأهم ثرواتها من النفط والغاز والزراعة. وتدل قراءة رؤية الشرع للعملية السياسية على أنها تنبع من ثلاثة مصادر رئيسية. الأول هو التجربة العراقية في إعادة بناء الدولة بعد الغزو الأمريكي عام 2003، والعمل على تجنب الأخطاء التي وقعت فيها. المصدر الثاني هو تجربة «هيئة تحرير الشام» في إدارة «المنطقة المنخفضة التوتر» في إدلب اعتبارا من عام 2017. المصدر الثالث هو طبيعة أوضاع الشعب السوري نفسه، من حيث أن ما يقرب من نصفه يعيش خارج البلاد أو في مناطق نزوح في داخلها (حوالي 13 مليون شخص حسب تقدير الأمم المتحدة)، الأمر الذي يستوجب إقامة بنية أساسية تنموية كافية لاستيعاب اللاجئين والنازحين، بما يحقق مصداقية للعملية السياسية.

التجربة في العراق

بعد دخول القوات الأمريكية برا إلى العراق في مارس 2003 أصدر الرئيس جورج بوش الإبن أمرا بإخضاع العراق لإدارة مدنية برئاسة بول بريمر (الحاكم المدني للعراق). وقام بريمر من ناحيته بتعيين «مجلس الحكم» يعاونه في تسيير شؤون الإدارة المدنية، على أساس مبدأ المحاصصة الطائفية (الشيعة والسنة والأكراد والمسيحيون والتركمان). ومع أن المجلس نفسه استمر في ممارسة صلاحياته تحت إشراف بريمر لمدة عام تقريبا، كانت له خلالها سلطة النقض على قراراته، إلا أن توزيع المناصب السياسية، استمر على أساس المحاصصة كما جاء في الدستور. ووصل الأمر إلى أن التعيينات في المناصب في الوزارات المختلفة، حتى في أدنى المراتب، كانت وما تزال تخضع لهذه القاعدة. وكان الظلم السياسي والحرمان الاقتصادي والاجتماعي، الذي تعرض له الشيعة العراقيون خلال حكم صدام مبررا قويا لتمسكهم بمبدأ المحاصصة وعدم التفريط فيه. وقد امتدت العملية السياسية في العراق تحت إشراف الأمم المتحدة حتى أواخر عام 2005 (3 سنوات تقريبا)، وكنت وقتها مسؤولا عن الشؤون السياسية في البعثة الأمنية. وتضمنت العملية عقد مؤتمر للحوار الوطني، وتشكيل جمعية وطنية مؤقتة، تضم ممثلين عن الأحزاب السياسية والقبائل والأقاليم، تولت مسؤولية وضع نظام للتمثيل البرلماني في انتخابات حرة تجري تحت إشراف الأمم المتحدة. وعلى التوازي تشكلت مجموعة عمل موسعة تحت إشراف عدد من الخبراء الدستوريين من ذوي التجارب الدولية لوضع الدستور الجديد للعراق (لجنة الدستور). وكان المبدأ الثاني الجديد الذي دخل إلى القاموس السياسي العراقي مع إقرار الدستور الجديد هو مبدأ «فيدرالية الدولة»، وهو المبدأ الذي يسمح لأي محافظة، أو عدد من المحافظات بالاتفاق على إقامة إقليم واحد يتمتع بسلطات واسعة في إدارة الشؤون المحلية والعامة، باستثناء سلطات الدفاع والسياسة الخارجية والمالية. وبذلك فقد أضافت خبرة صياغة الدستور مبدأين جديدين من مبادئ النظام السياسي معا لأول مرة في الدستور العراقي، هما «المحاصصة» و»الفيدرالية». علاوة على ذلك فإن النظام السياسي العراقي منذ الغزو الأمريكي اختلط إلى حد كبير بتداخل البندقية مع التنظيم السياسي، الأمر الذي جعل الولاء للتنظيم المسلح أقوى بكثير من الولاء للدولة. ومن الواضح أن خطاب الشرع السياسي يرفض كلا من المبدأين: المحاصصة والفيدرالية كما يرفض انتشار السلاح خارج أيدي الدولة.

التجربة في إدلب

خلال فترة حكم إدلب (2017 – 2024) نجحت حكومة هيئة تحرير الشام في تقديم صورة إيجابية للجماعة الجهادية، التي نجحت في الانتقال من «الجهادية العالمية» إلى «الجهادية المحلية»، أو «توطين الجهاد محليا»، وممارسة سلطات الدولة بالتعاون مع آخرين على الأرض. وطبقا لتقدير مراقبين للوضع في إدلب؛ فإن تلك الحكومة نجحت في جذب استثمارات أجنبية إلى المحافظة، وصيانة وتشغيل خدمات المياه والكهرباء والتعليم والعلاج. وعلى الرغم من الانتقادات بأن الإدارة كانت تسلطية، فإنها طبقت مواءمات سياسية وأخلاقية ضمنت الاستقرار، وهي تستفيد الآن من تجربتها السابقة في بناء الإدارة الانتقالية، مع علمها بأن ما صلح في إدلب قد لا يكون بالضرورة صالحا لسوريا ككل. وتظهر الأسماء المعلنة للمسؤولين في قيادة الإدارة الانتقالية في المناطق الخاضعة لها، أن القرار بتزكيتهم جاء من مجلس الشورى العام لهيئة تحرير الشام، وأنهم مكلفون بالعمل حتى مارس المقبل، بقرار من قائد الإدارة الانتقالية أحمد الشرع زعيم الهيئة. وقد رد الشرع على الانتقادات الموجهة إلى الإدارة بسبب سيطرة الهيئة عليها، وعدم وجود أسماء من جهات أخرى، بأن هذا الوضع هو مجرد استجابة مؤقتة لطبيعة المرحلة، التي تستلزم أعلى مستوى من التفاهم بين شخصيات الإدارة. الأسباب الأخرى الذي نراها موضوعيا من مبررات هذا الوضع المؤقت، هي أن قوات هيئة تحرير الشام هي التي تولت بالفعل قيادة المرحلة الأولى من التغيير بإسقاط نظام بشار الأسد، وأن الهيئة كانت تدير منطقة متنوعة القوميات والديانات في إدلب، وتعتبر نفسها امتدادا سياسيا للدولة السورية، بلا قيود طائفية أو قومية. وقد ساعدت الخبرات الإدارية التي تم تطويرها هناك على سرعة تعيين قيادات إدارية وسيطة، وتجنب حدوث فراغ إداري في المحافظات الخاضعة للسلطة الانتقالية، في كل المجالات تقريبا مثل، النفط والكهرباء والصحة والتعليم والنقل والخدمات العامة والنظافة.

استيعاب المهاجرين والنازحين

لا توجد إحصاءات دقيقة ومؤكدة عن ملامح الخريطة السكانية في سوريا. ويعتبر نقص وعدم مصداقية الأرقام واحدا من مظاهر فشل الدولة في ممارسة مهامها. ولذلك فإن الحديث عن احتياجات التنمية، أو عن المشاركة السياسية، لا يتمتع بأي مصداقية من دون وجود أرقام دقيقة، سواء لتقدير احتياجات بناء المساكن والمدارس والمستشفيات، أو لتقدير عدد الناخبين ورسم حدود الدوائر الانتخابية. وإذا افترضنا أن الحوار الوطني سيبدأ، أو يبدأ الإعداد له في شهر مارس، فإن الاحتياج الأول لضمان نجاح هذا الحوار هو توفير الإحصائيات السكانية الضرورية. ذلك أن الحوار الوطني يجب ألا يقتصر فقط على العملية السياسية، وإنما من الضروري أن يبحث في الاحتياجات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. بمعنى آخر فإن الحوار الوطني يجب أن يحلق بجناحين، سياسي وتنموي. السياسي يشمل الدستور والمؤسسات التشريعية والانتخابات ومعايير تنظيم المشاركة السياسية للأفراد والمؤسسات السياسية. أما التنموي فيشمل احتياجات استيعاب المهاجرين والنازحين وإصلاح وبناء المرافق الأساسية والخدمات والطاقة والصناعة والزراعة والمؤسسات الاقتصادية، ودور القطاع الخاص والمجتمع المدني، ومعايير ضبط علاقة الدولة بالسوق. المتغير المحوري الآخر في إطلاق عملية التنمية هو «تحدي التمويل» إذا استمرت العقوبات الدولية.

المصادر الثلاثة التي ينبع منها الخطاب السياسي تغذي طابعه المعتدل والعقلاني، ولكنها لا تضمن تحقيقه على الأرض، فهو ينطلق من رفض المحاصصة لأنها تدمر الدولة وتعطل عمل المؤسسات. كما انه يرفض الفيدرالية والتقسيم، وهو ما قد تفضله أطراف أخرى. وهو يريد دولة تعيش في سلام مع نفسها، ومع جيرانها ومع العالم، لا تمثل إزعاجا لغيرها، لكنه لا يقدم ما يفيد بالرد في حال تعرضها للإزعاج من غيرها. هذه الرؤية التي يتبناها الشرع ما تزال ناقصة، فيما يتعلق برد فعل «الدولة» في حال وجود مقاومة داخلية لنزع سلاح الجماعات المسلحة، وفي حال وجود اعتداء خارجي على «الدولة» بهدف إضعافها وتعطيل العملية السياسية والتنموية، أو في حال تمرد مجموعة تنتمي لجبهة تحرير الشام ضد الحل أو نزع السلاح.

كاتب مصري

القدس العربي

———————————

في الطريق نحو الدولة في سورية/ مروان قبلان

01 يناير 2025

بعدما استوعبنا واقعة سقوط الأسد ونظامه، واستنفدنا الفرحة بهذا الإنجاز التاريخي للشعب السوري، بدأ التفكير بتحدّيات المرحلة المقبلة يلحّ بقوة من أجل تأمين انتقال سلس يجنّب البلاد خطر الانزلاق نحو الفوضى أو التقسيم (لا سمح اللهّ!). ورغم أن السوريين اشتغلوا (وكذلك الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية) منذ عام 2012 على خطط للانتقال السياسي، إلّا أن السرعة والطريقة التي انهار فيها النظام وضعت الجميع أمام واقع جديد لم يمتلك أحد إزاءه تصوّراً واضحاً بشأن شكل المرحلة الانتقالية ومخرجاتها، خاصّة أن أكثر الخطط الموجودة كانت تفترض وجود النظام طرفاً في الانتقال، بما فيها قرار مجلس الأمن 2254، الذي تجاوزته الأحداث، وصار يمثّل، لدى جزء معتبر من السوريين، وصفةً للتدخّلات الخارجية.

الخلاف على شكل المرحلة الانتقالية ومخرجاتها أمر طبيعي، لأن الانتقال بالتعريف هو مرحلة تدافع تحاول خلالها مختلف الأطراف حجز مكان لها فيه، وتوجيه مساره بما يخدم مصالحها، ما يفسّر التزاحم الذي نراه اليوم في دمشق. ويتركّز الاهتمام خلال المراحل الانتقالية، بحسب التجارب التي نعرفها، حول سؤال مركزي هو: “من يأخذ ماذا؟”. ويتسبّب التدافع هنا عادةً، في غياب القواعد التي تنظّمه، في صراعات قد تصبح عنيفةً إذا ظلّ السلاح منتشراً بين الناس، أو في أيدي القوى التي اجتمعت على إسقاط النظام القديم. حصل هذا في إيران بعد سقوط الشاه (1979)، وفي أفغانستان بعد سقوط محمّد نجيب (1992)، وفي لبيبا بعد سقوط معمّر القذّافي (2011)، وفي غيرها. حتى نمنع ذلك في سورية، ويجب أن نمنعه، في ظلّ تحفّز الخارج ومراقبته، وبقاء أجزاء كبيرة من سورية في أيدي فصائل مسلّحة ومدعومة (أو تنشد دعماً) من قوىً خارجية لا تبدي ارتياحاً للتغيير في دمشق، يجب أن ينصرف الاهتمام حالاً نحو الاتفاق على شكل الدولة التي يريدها السوريون، ثمّ وضع خريطة طريق للوصول إليها، قبل التفكير في مواقعنا فيها. إذا اختلفنا على “من يأخذ ماذا؟” في دولة غير متّفق عليها، أو على قواعد إدارتها، فهذا يشكّل وصفةً لصراعات قد تؤدّي إلى انهيار الدولة القديمة قبل أن نبني الدولة الجديدة.

الرؤية التي قدمّها أخيراً رئيس الإدارة الجديدة في دمشق أحمد الشرع يمكن أن تشكل منطلقاً لمرحلة انتقالية، بشرط أن تأتي نتيجةً لمشاورات واسعة بين مختلف القوى السياسية، وليس طرحاً يقدّمه طرف لتقوم بقية الأطراف بتنفيذه أو السير فيه. الإحساس بالمشاركة والشعور بالاعتراف يجنّبنا خطر الوقوع في الاستقطاب والانقسام الذي دفعت ثمنه غالياً كلُّ دول الثورات العربية، خاصّة منه الاستقطاب الإسلامي – العلماني، الذي أخذ يذر بقرنه مبكراً في سورية، ويهدد بفشل الانتقال، وقد يستدعي (إذا تفاقم) تدخّلات خارجية مدمّرة، بحجّة حماية الأقليات، أو المرأة، أو حقوق الإنسان، أو غيرها من الذرائع التي تستخدم عادة عندما لا يخدم التغيير في مكان ما مصالح القوى الخارجية.

بعد نحو 13 عاماً من العمل على الخطط الانتقالية، لن يعيد السوريون اختراع العجلة، فأغلب الخطط، بما فيها التي طرحها الشرع، تتحدّث عن حكومة انتقالية تتولّى ضبط الأمن، وتحسين أوضاع الناس المعيشية، والدعوة إلى مؤتمر عامّ تنبثق منه لجنة منتخبة منه، أو من الشعب، لوضع دستور جديد يجري الاستفتاء عليه، فيما يجري العمل بالتوازي على قانون أحزاب وقانون انتخابات تُنظّم على أساسه انتخابات برلمانية أو رئاسية أو الاثنتين معاً، بحسب شكل النظام السياسي الذي يُتفق عليه. لا توجد خطوات أخرى كثيرة خارج هذه المراحل الرئيسة. ويمكن أن نسير بأسوأ الخطط الانتقالية بشرط التوافق عليها والمشاركة في ترتيبها وتنفيذها. هذه هي الخطوات هي التي ستحدّد شكل الدولة وبناءها المستقبلي، ويجب أن يكون لكلٍّ نصيب في وضع لبناتها قبل حجز مكان فيها. ولن يهم أيضاً عدد السنوات التي تستغرقها المرحلة الانتقالية، طالما أن الجميع مشارك فيها. الإقصاء والتهميش هنا هما وصفة ناجحة للفشل. المؤتمر الوطني الذي دعت إليه الإدارة الجديدة في دمشق يمكن أن يمثّل منطلقاً لإرساء توافق وطني على خطوات الانتقال إلى الدولة السورية الجديدة، إذا جرى الإعداد له بشكل جيّد، علماً أن النقاش بمشاركة 1200 شخصية قد لا يكون مجدياً، لكنّ عدم الاستعجال والتحضير الجيّد يبقى الأساس.

العربي الجديد

—————————-

محاولة فهم آليات إنتاج الخوف الجماعي لتعزيز الاستبداد/ سوسن جميل حسن

1 يناير 2025

من المألوف أن سقوط الديكتاتوريات يخلّف وراءه فوضى كبيرة، وإذا كان الخوف هو دافع كبير للفوضى والاضطرابات، فهو أيضًا كان عاملًا رئيسًا في تمكين الناس من الالتفاف والتوحد في الولاء للديكتاتور. هذه ظاهرة مهمة من المفيد أخذها بجدية في دراسة ظاهرة الجماهير وردّات أفعالها وسلوكها في الحالتين.

تعتمد السلطة المستبدة، إن كانت سياسية أم دينية أم اجتماعية، على موضوع الخوف في فرض سيطرتها على المجال العام، تختلق رموزًا لآليات المخاوف الاجتماعية والسياسية وتكرسها كعناوين للتهديدات بانعدام الأمن، أو الخطر الوجودي الذي يتربّص بالجماعة الواقعة تحت سيطرتها. بهذا تعمل الديكتاتورية على المجتمع بتشكيله على أساس فئات ومجموعات تضمر التوجس بعضها تجاه بعض، وتنمّي فكرها وثقافتها التي تتمايز فيها عن غيرها، حتى في المفاهيم المشتركة بين الناس جميعًا، فيصبح حتى الموت والحياة من المفاهيم المختلف عليها وفقًا لسياق ثقافي، ووفقًا لمعتقدات خاصة بكل جماعة.

والخوف هو عاطفة نشعر بها في وجود خطر أو تهديد، حالة فردية في الأساس، ثم تصبح حالة جمعية عندما ترتبط بالمعتقدات والأفكار الجامعة، تعبّر عن نفسها وتترجم سلوكًا على مستويات مختلفة، فهناك الخوف الارتكاسي الذي يظهر كردّة فعل أولى في لحظات التهديد، أو استشعار الخطر، الذي قد لا يكون موجودًا بالفعل، إنما لحظة التغيير هي التي تؤججه، فيشعر الشخص أو الجماعة بخطر داهم يهدّد الوجود، وهناك الخوف الاستباقي، أو الرعب، أو القلق، أو الضيق، والذي يرتبط أكثر بالجزء المعرفي والعمليات الاجتماعية. يمكن أن يتدخل الخوف أيضًا في عملية معرفية لوضع استراتيجيات تقلل من الأخطار، أو لضمان مستوى معين من الأمان في مواجهة التهديد أو الخطر. 

يدرك المستبد أو الطاغية أن الخوف يحتاج إلى تعزيز، وأن آلية المراقبة والقمع لا تعمل إلا بمشاركة المجتمع، هذه المشاركة التي يجب أن تقوم على دافع قوي كي تكون فعالة، فتصبح ردات الفعل ناتجة عن العواطف بعيدًا عن التفكير الذي يعمل المستبد على تعطيله، وقادرة على تعبئة الحركات الاجتماعية المهمة وشلّ النشاط السياسي. ويسعى المستبد إلى اجتراح خطابات معينة تحت عناوين تحمل إشارات إلى تهديد ما، يسعى إلى تعزيزها وجعلها مقبولة على هذا النحو من قبل جمهور اجتماعي كبير، من خلال اللعب على الديناميكيات العاطفية، مما يسمح له بتحويل المشاكل العامة إلى قضايا أمن خارجي، أو داخلي. منها ما هو جامع كالتركيز على عدو ما، يشكل تهديدًا للأمة، مثل العدو الإسرائيلي الذي اتخذته الأنظمة الاستبدادية في سورية عنصرًا جامعًا تنمو عليه الأجيال من دون أن يحقق ما يرفع من قيمة العواطف والقيم الجمعية، كالنصر والكرامة وحماية السيادة الوطنية، على سبيل المثال، أو عناوين مطاطة تجعل المجتمع في حالة تأهب لمواجهة خطر وجودي، كمفهوم الإرهاب على سبيل المثال، وهذا ما استخدمه النظام الساقط لتبرير عنفه ووحشيته ضد الشعب الذي ثار من أجل كرامته، من خلال هذا المفهوم خلق سردية وتاريخًا من انعدام الأمن من أجل إصدار القرارات السياسية التي تلائمه، وتبرير التدابير غير السياسية التي يجريها ويمارس من خلالها سلطته غير المقيدة إلى أقصاها.

“إن الشيء المشترك الأكيد بين هذه الجموع الغفيرة التي ملأت الساحات، وأغرقت صفحات التواصل الاجتماعي، هو فرحها بزوال كابوس جثم على صدورها عقودًا من الزمن، كان فيها محطات دموية”

الخوف من التغيير هو في الواقع الخوف من المجهول. إذ تسمح آلية الدفاع النفسي الطبيعية هذه بالاحتفاظ بما تم اكتسابه، وهو قضية مشكوك فيها ومضلّلة، وتحمي ممّا لا يمكن التنبؤ به أو الخطر المقبل، كما يتهيّأ للخائفين. من هذا المنطلق يمكن فهم موقف بعض من مكونات الشعب السوري من الحراك الشعبي في البداية، والخوف الذي تطور وازداد، مع التقدّم باتجاه العسكرة وتطييف المجتمع باستخدام التجييش الديني والطائفي. هذا ليس لدى الجماعات التي توصف بانها أقلية على أساس طائفي فحسب، بل لدى شرائح واسعة أيضًا تتميز بميلها نحو شكل مدني للدولة السورية.

في لحظة سقوط النظام في سورية، وفرار رأسه بشار الأسد مع كبار ضباطه وأركان نظامه إلى الخارج، اندفعت الجماهير إلى الساحات في حالة من الهياج الجماعي والمشاعر العارمة تعبّر عن فرحها في لحظة لم تكن قبلها تخطر في البال على أنها حلم قريب المنال. في الواقع، إن الشيء المشترك الأكيد بين هذه الجموع الغفيرة التي ملأت الساحات، وأغرقت صفحات التواصل الاجتماعي، هو فرحها بزوال كابوس جثم على صدورها عقودًا من الزمن، كان فيها محطات دموية، أكبرها كان في أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، حقبة المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين وما ميزها من عنف وبطش ودماء، وثانيها هذه السنوات الثلاث عشرة الأخيرة التي فاق فيها إجرام النظام كل خيال. لقد كان الشعب السوري، ما عدا حلقة صغيرة من المستفيدين من فساد النظام ومتكئين إلى قوته الغاشمة ومرتبطين بعجلتها، يعاني.

لكن هذا السلوك الجمعي كان يضمر دوافع أخرى لا يمكن فصلها عمّا اشتغل عليه النظام الديكتاتوري القمعي، وهو الخوف، الارتكاسي أولًا، ثم الخوف المرتبط في الوعي الجمعي لبعض الجماعات، وفي الذاكرة، الذي أطلقنا عليه الخوف الاستباقي، أو الرعب، أو القلق، أو الضيق، والذي يرتبط أكثر بالجزء المعرفي والعمليات الاجتماعية، خاصة لكون الجهة العسكرية التي أنجزت إسقاط النظام هي هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها أو المنضوية تحت قيادتها، وتاريخ الهيئة الذي يشير إلى تأسيسها على فكر القاعدة، وانبثاقها من عباءة دولة الخلافة في العراق والشام “داعش” ثم انفصالها عنها، وممارساتها، خاصة في المرحلة التي كانت تسمى فيها جبهة النصرة، وخطابها الشمولي، والإقصائي، ما زال متوهجًا في الذاكرة، كل هذا أعاد تأجيج الخوف وإنتاجه من جديد، والنظر بعين الريبة إلى الخطاب المختلف الذي تقدمه الإدارة الحالية، على الرغم من تطميناتها ووعودها المستقبلية.

ما الذي تملكه النخب، الثقافية منها تحديدًا، أمام هذه الظاهرة؟ ليس من اليسير تفتيت منظومة معرفية أو ثقافية تأسست على الخوف، وعلى المرتكزات الهوياتية الضيقة، على مدى عقود، إن لم يكن أكثر، ولا يمكن الشروع في تفتيتها مباشرة كحلّ إسعافي، هذا يحتاج إلى مجهودات كبيرة وزمن طويل وشغل مكثف، فالتحديات كبيرة، وأهمها أن هناك “مجتمعات عميقة” و”دولة عميقة”، فوراء كل نظام (ساقط) هناك هيكل من النخب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطورت لعدة عقود يمكن أن يكون لها تأثير كبير، ليس من السهل القضاء عليها. وهذا ما يشكل عوامل خطورة في المجتمع السوري المنهك، الذي زادته سنوات الحرب والدمار والفقر والتهجير والتشريد حساسية تجاه بعضه بعضًا، المجتمع يحتاج إلى “تحرير عميق”، هذا التغيير لا يحصل من دون مطمئنات تترجم في الواقع، وهذه الطمأنة، أو زرع الشعور بالأمان، ما يمكن تسميته “أمننة” المجتمع، تقع مسؤوليتها على عاتق الإدارة الجديدة، وهي، إلى اليوم، في خطاب قائد عملياتها العسكرية أحمد الشرع خطابات مطمئنة، لكن الواقع يقدم كل يوم مؤشرات تدعو إلى القلق لدى شرائح عديدة من المجتمع، باعتماده على فريقه الخاص في تحمل المهام والمسؤوليات الحكومية وإدارتها، هذا ما يثير القلق والتوجس، ليس لدى المكونات المختلفة دينيًا أو طائفيًا، إنما لدى شريحة واسعة من السوريين الطامحين بمجتمع مدني ودولة مدنية، وهذا أمر غاية في الحساسية في مجتمع شديد التعدد والتنوع والتعقيد كالمجتمع السوري. لذلك يمكن فهم ما يحصل، على قاعدة أنه غالبًا ما تتفاجأ حركات المعارضة أو الثورة بالنصر عندما يأتي فجأة. فجأة أصبح الزخم موجودًا، والناس في الشوارع، والضغط يزداد – والنظام سقط. لقد حدثت ثورة! ثم تأتي الصعوبات (مرة أخرى). ما نوع المجتمع الذي يريده الناس وكيف سيتم بناؤه؟ كيف تتشكل تحالفات في السلطة وتدير التوترات والمصالح والتطلعات المتضاربة؟ ما مصير عدد كبير من الذين ورطهم النظام في حربه الرخيصة؟ ما ردة فعل الشريحة التي تتكشف أمامها الحقائق التي تفوق الخيال وترى جثث معتقليها، أو لا تعرف شيئًا عنهم؟

“تحت ضغط مشاعر الخوف “الاستباقي” والقلق والتوتر، من الصعب تحقيق مجتمع مختلف وأكثر عدلًا حقًا بعد سقوط النظام. هذا المجتمع أكثر ما نحتاج إليه، وهذا لن تتكوّن خطوة مؤسسة له من دون القضاء على الخوف الارتكاسي أولًا”

نظام انهزم وفرّ تاركًا خلفه كمًّا من الألغام في مجتمع يغفو على حقل من الجمر المشتعل تحت رماده، من سيكون قادرًا على إقناع الناس بأنهم يجب أن ينظروا إلى الغد وهم في حمأة الخوف؟ وما هو نوع المجتمع الذي يريدونه وأن يطوروا مؤسساته؟ من سيكون قادرًا على تنمية نمط من المقاومة اللاعنفية في سبيل الوصول إلى العدالة الانتقالية وتطبيقها؟

تحت ضغط مشاعر الخوف “الاستباقي” والقلق والتوتر، من الصعب تحقيق مجتمع مختلف وأكثر عدلًا حقًا بعد سقوط النظام. هذا المجتمع أكثر ما نحتاج إليه، وهذا لن تتكوّن خطوة مؤسسة له من دون القضاء على الخوف الارتكاسي أولًا، الخوف الذي يهيمن على الوسط الاجتماعي السوري، ليس منذ لحظة سقوط النظام فحسب، بل منذ قيامه على هذه الدعائم التي تلغي الشعب وتصادر وعيه.

إنها مسألة فهم أنه لا يكفي إسقاط النظام القديم. للنظام قواعده وجذوره وقوته المؤسسية التي لا تختفي بمجرد اغتيال أو سجن أو فرار إلى الخارج. هناك سبب يكمن في الطريقة التي تم بها تشكيل القوى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والسياسية في نظام ما، وألّا يعاد إنتاجها بآلية مشابهة، لكن هذا يحتاج إلى مزيد من الوقت، مثلما هي العدالة الانتقالية التي يمكن عدّها أحد أدوات تفتيت تلك المنظومة المتعددة المبنية على الخوف، وتولّده في الوقت نفسه.

ضفة ثالثة

——————————

سورية ومواجهة تركة جرائم حكم آل الأسد/ معتز الفجيري

01 يناير 2025

تلتقي عادةً أولويات الثوار والساسة مع النشطاء الحقوقيين خلال سنوات النضال ضدّ أنظمة الاستبداد. لكن تجارب سابقة في المنطقة العربية وخارجها تخبرنا بأن هذا الالتقاء عادةً ما يُواجِه اختباراتٍ صعبةً في أعقاب سقوط نظام الحكم، عندما تختلف الأولويات والمهام السياسية والحقوقية. القضية الأصعب التي تثور في الظروف المشابهة لوضع سورية الجديدة حالياً هي الأولويات والتوقيتات المناسبة للتعامل مع ملفّات الماضي من دون أن تطغى على مقتضيات لحظة الانتقال السياسي في الحاضر وتحدّياتها. محصّلة الجرائم الجسيمة التي ارتكبت، لا سيّما خلال 14 عاماً مضت، باهظة. هناك مئات آلاف من حالات الاختفاء القسري، والقتل خارج نطاق القانون، بما فيها وقائع القتل الجماعي والمقابر الجماعية، والاعتقالات التعسفية والانتهاكات المنهجية ضدّ الأقليات تحتاج إلى كشف الحقائق وتحديد مصير الضحايا، فضلاً عن ملفّ التهجير القسري، ومتطلّبات إعادة إدماج ملايين من السوريين في مجتمعاتهم المحلّية، وتعويضهم.

يتطلّب تفكيك تركة الماضي كشف آليات عمل نظام حكم الأسد، وعمل أجهزته الأمنية والاستخباراتية والدعائية، وشبكات الفساد المالي التي ارتبطت به، ودعمت أركان حكمه عقوداً. ستواجه السلطة الجديدة أيضاً مطلب إرساء العدالة والمحاسبة ضدّ مرتكبي هذه الجرائم، وسؤال كيفية التعامل مع أنصار النظام البعثي وإذا ما كان سيُدمج بعضهم أم سيُقصى كلّية عن المشاركة في النظام السياسي الجديد. تركة ثقيلة من مخلّفات الاستبداد وجرائم حقوق الإنسان تركها نظام الأسد في سورية، تتطلّب مواجهتها قدراً عالياً من الحوار المجتمعي والمسؤولية من جانب نخبة نظام الحكم الجديد. التعامل مع هذه التركة يهمّ في المقام الأول ضحايا هذا النظام الغاشم خلال الأربعة عشر عاماً التالية للثورة السورية، أو في عقود أسبق منذ تولّي حزب البعث حكم سورية، لكنّ تفكيك أساطير هذه السلطة، وفهم آليات القمع خلال سنوات حكمها، وكشف ما ارتكبته من جرائم، تهمّ جميع الشعوب العربية التي عاشت أكذوبة أنظمة حكم مشابهه لحكم البعث منذ استقلال دولها عن المستعمر الأجنبي. تسبّبت هذه الأنظمة على مدار عقود في تدمير منظّم للسياسة والاقتصاد في بلدانها، وفي سحق كرامة وشخصية مواطنيها وتعميق انقسامات مجتمعاتها، وفي الاستغلال السياسي لصراعات الشعوب العربية مع المشروع الاستعماري الإسرائيلي لتبرير قبضتها السلطوية، وتجديد استمراريتها.

تنمّ التصريحات الصادرة عن السلطة الانتقالية الجديدة في سورية (حتى الآن) عن وعي عامّ بدقة لحظة الانتقال، وضرورة تأسيسها في إطار واسع من المشاركة والحوار. لكن هناك بعض الضبابية والتناقضات في تصريحات قائد هذه الإدارة الانتقالية، أحمد الشرع، في حواره أخيراً مع قناة العربية، عن مدى قناعة السلطة الحالية بجدوى اتّخاذ خطوات واسعة في فتح ملفّات الماضي في إطار مشروع وطني للعدالة الانتقالية، ومدى الانفتاح في إدماج هيئات حقوق الإنسان، وفصائل من المعارضة المدنية السورية، التي عملت على مدار السنوات السابقة في التحضير لهذا المشروع، خوفاً من الانقسامات السياسية المحتملة. وقد أعلنت السلطة الانتقالية الحالية في سورية نيّتها عقد مؤتمر واسع للحوار الوطني يمهّد لتشكيل حكومة ومؤسّسات تدير المرحلة الانتقالية، تمهيداً لوضع دستور جديد قد يستغرق العمل له ثلاثة أعوام، تعقبها انتخابات عامّة.

ليست واضحة بعد معايير اختيار المشاركين في هذا المؤتمر، وكيفية اتخاذ القرارات، ومدى إلزاميتها لسلطة الأمر الواقع الحالية. الاهتمام بتعقيدات ترتيبات المرحلة الانتقالية لا بدّ من أن يشكّل أولوية اللحظة الراهنة، لأنها الأساس الذي سيضمن لاحقاً إنصاف الضحايا. لكن يمكن في إطار هذا المؤتمر إطلاق مسارٍ موازٍ على شاكلة تأسيس هيئة وطنية مستقلّة للحقيقة والإنصاف، كالتي شهدتها دول مثل تشيلي وجنوب أفريقيا في التسعينيات من القرن العشرين، تتلقّى الملفّات الفردية التي عملت عليها منظّمات حقوق الإنسان السورية، وأيّ بلاغات وشكاوى من أسر الضحايا والمختفين، وتحقّق فيها لكشف الحقائق التي تخصّ الضحايا، وفي رأسها الملفّات المتراكمة لجريمة الاختفاء القسري، التي تفشّت خلال سنوات حكم بشّار الأسد. لقد راكمت منظّمات حقوق الإنسان السورية في المهجر مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمركز السوري لحرّية الإعلام، والمركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية، ومنظّمة اليوم التالي، وغيرها، خلال العقد السابق، خبرات متنوّعة في توثيق (والتحقّق من) الانتهاكات، ولديها قوائم بيانات شاملة حول خريطة الضحايا، وستستطيع هذه المنظمات، طالما توفّرت لها حرّيتَا الحركة والعمل في داخل سورية، أن تساهم في دعم هيئة الحقيقة، والإنصاف بالقدرات، والمعلومات، والملفّات، بالتعاون مع الهيئات الدولية والأمم المتحدة.

على صعيد آخر، هناك مجهود هائل بدأه منذ سنوات المحامون السوريون، وعدد من منظّمات حقوق الإنسان السورية في البلدان الأوروبية، لمحاصرة أعضاء نظام بشّار الأسد بقضايا جنائية، عبر توظيف الاختصاص القضائي العالمي في دول مثل فرنسا وألمانيا وهولندا. لكن تبقى آثار هذا المسار محدودةً من دون وجود مشروع وطني شامل للمحاسبة وجبر الضرر. إلّا أن نقل مسار المحاسبة والعدالة الجنائية إلى المستوى الوطني سيتطلّب تروّياً وحذراً في ظلّ فراغ مؤسّسي، وقبل إرساء آليات وطنية متماسكة لكشف الحقيقة وحصر الضحايا، وخريطة مرتكبي الجرائم، وحدود مسؤولياتهم الجنائية.

يرتهن نجاح التفاوض على العدالة وحقوق الإنسان خلال المراحل الانتقالية بشكل نموذج الانتقال السياسي وتوازن القوى خلال عملية الانتقال، وبمدى انفتاح السلطات الانتقالية على المجتمع المدني وحركة حقوق الإنسان، وبقوة طرح وتنظيم هذه الحركة كي تكون مُمثَّلة بشكل جيد خلال التفاوض على عملية الانتقال السياسي. الأصعب حالياً في الانتقال الجاري في سورية أن الدولة تعيد بناء مؤسّساتها من لا شيء بعد عقود من التدمير المنظّم، الذي اقترفه نظام حكم الأسد. الوضع الإقليمي والدولي لهذا الانتقال يفرض تحدّياً ثقيلاً، ويمهّد لمخاطر تدخلات إقليمية في مسار التحوّل، كما جرى في دول عربية أخرى منذ انطلاق ثورات الربيع العربي. المهمّ هو قدرة النخبة السياسية والمدنية السورية في إعلاء أولوية الحوار فيما بينها، وتحييد التدخّلات الخارجية في مسار الترتيبات الانتقالية قدر الإمكان.

—————————–

فائض القهر في الرقة/ ملكة العائد

1 يناير 2025

“المأخوذ مع ربعو مو مأخوذ”.

هكذا يقول مثل في الرقة لا بد أن له معادلًا في مدن سورية، وبلاد أخرى.

ردّده من يعرفه من أهل الرقة، ومارسه آخرون، ضمنًا، حتى لو لم يسمعوا به. استعانوا به على موت أبنائهم بالقصف، أو القتل، أو القصاص المعلن وغير المعلن. استعانوا به على هدم بيوتهم، ونزوحهم، ولجوئهم، وتجربتهم الفظيعة المضاعفة في الألم والنوعية طوال هذه السنوات الثلاث عشرة من أوديسة السوريين. نصيبهم من ذلك يفيض على طاقة تحملهم، من هدر للكرامة، وللحياة، بكل الأشكال، حتى انقطعوا حرفيًا عن أي صلة لهم بالحياة خارج مدينتهم، التي تحولت إلى سجن كبير معبأ بهواء الخوف والضغط اليومي الذي وصل بهم إلى مستويات أسفل من الحضيض.

سقط النظام فجأة، وسقطت عائلة الأسد، وتتابع التحرير المتسارع للمدن السورية. شدّهم الأمل، وانتظروا دورهم متأهبين. مرّت أيام ولم يحدث شيء غير مناوشات خارج الرقة تدفعهم إلى الأمل، ثم تسلمهم لليأس. بقسوة بحثوا عن مثل آخر يرافقهم، ويحمل معهم هذا الغموض، ليعينهم، لكن يبدو أن جعبة تراثهم فارغة. مع ذلك ظلت عيونهم معلقة بالأخبار بعد أيام من رفع العلم الأخضر، متابعين الاحتفالات في باقي المدن، وفجأة رفع العلم نفسه في ساحة النعيم في الرقة.

لا شيء واضحًا، هل هو قرار متخبط من الإدارة الذاتية لـ قسد؟ هل قرر الناس أن يغامروا ويحتفلوا؟ هل هو مجرد فخ لبدء حملة ترويع واعتقال كل من احتفل؟ لا شيء واضحًا. احتفل الناس لدقائق، وبدأ إطلاق الرصاص في أماكن عدة، منها دوار النعيم، وللصدفة، أو للتدبير، انطلق رشاش أحد المحتفلين. لا نعرف من هو، ولا كيف كان لديه رشاش. هل تصرف بعفوية، أم دفع دفعًا للاحتفال بهذه الطريقة ليبرر ما حدث لاحقًا. هذا الشخص التقطته الكاميرات، وعرض على شاشات، مثل العربية، على أنه من أصاب المحتفلين بالرصاص، مع أن كل الموجودين أكدوا أنه لم يصب أحد وقتها. في أماكن أخرى، جرى إطلاق الرصاص بعيدًا عن الكاميرا، فأُصيب عشرات بجروح وهم يرقصون. شباب مندفع بنشوة الاحتفال يقفزون ويرقصون. تخيل هذا المشهد: رصاصة تخترق جسد شاب فيهدر دم حار مليء بالنشوة، تخترقه رصاصة تحدث ثقبًا يمتص كل هذه النشوة. كل هذه النشوة تسقط في ثقب بالعين لشخص يكاد أن يعبر المراهقة ولا ينجح، شاب هو أحد جيراننا في بيتنا القديم الذي تهدم بطائرات التحالف يعمل أبوه في سوق الخضار المجاور لبيتنا.

في مكان آخر من شارع تل أبيض، يقف ياسر، الابن الوحيد للمرحوم ناصر جارنا الملاصق لبيتنا القديم أيضًا. لم يرث ياسر من أبيه إلا فقره وبساطته وعربة خشبية يبيع عليها الخضار كانت مصدر رزق أبيه الذي توفي مبكرًا، فأصبحت هذه العربة مصدر رزق العائلة. طورها ياسر قليلًا، وبدل البضاعة إلى شيء لا يفسد مثل الخضار، ووضع عليها علبًا تحوي مكسرات بطريقة أنيقة لفتت أنظار الناس، ولفتت جيوب موظفي المنظمات ربما للشراء منه تعاطفًا، وبعض ممن يمتلكون ترف شراء المكسرات. لا أدري إن كان ياسر أحد المحتفلين. أقدر أنه ربما شارك من بعيد بهتاف، أو حركة من يده، فهو لا يستطيع ترك عربته في هذه المعمعة، لكن نصيبه من الرصاص جاءه من بعيد، ففتح طاقة بالرأس لم تمته، لكنها أوصلته إلى المستشفى مع الجرحى المحتفلين، وأرغمته على ترك عربته كارهًا، في اليوم نفسه الذي جرى فيه اعتقال الجرحى من المستشفيات. استطاع أهل ياسر تهريبه من المستشفى، وأخذه إلى البيت، رغم إصابته الخطيرة، فهم أبسط من أن يواجهوا تهمة وجود رصاصة وجرح في الرأس قد تؤكد تهمة مشاركة ابنهم بالاحتفال مثل عشرات الجرحى المتهمين بالرقص.

التزم ياسر منذ تلك الساعة بفراشه، وطبق الحظر المفروض على أهل البلد من السادسة مساء حتى شروق الشمس، فأي شخص يتحرك بعد ساعة الحظر له رصاصة كرصاصة ياسر، رصاصة أميركية موجهة بليزر لا يخطئ.

يسمع أهل البلد أصوات الرصاص، ولا يعرفون ماذا يحصل في الليل، الذي أصبح وقتًا للتشبيح والترويع في شوارعها لعناصر قسد الذين يجوبون الشوارع بسياراتهم ويطلقون الصيحات، ويكتفي الناس بالقهر طوال الليل، قهر سيتركونه في البيوت صباحًا، ليرتدوا وجوهًا جامدة خالية من الانفعالات، وأيد مسبلة لا توحي بالاحتفال، وهو شيء تعلموه في زمن النظام، وفي زمن داعش، ولا يملكون غيره كآلية دفاع للبقاء، مجرد البقاء. استمر معهم هذا الحال مع قسد، التي لم تحاول حتى أن تجد طرقًا أخرى للسيطرة على هذا البلد غير القوة، الشيء الوحيد الذي حرصت عليه طوال هذه الأعوام ليس بالتأكيد العيش المشترك وأخوة الشعوب تحت شعار فج هش لم يستطع أن يكسبهم ود الناس في البلد، البلد التي لطالما روعوا أهلها بحملات مداهمة متكررة على بيوتهم بحجة البحث عن سلاح يعرفون أنه غير موجود، فحدودهم محكمة وتقتصر على دخول وخروج البشر، فكيف بالسلاح!

هذا الأسلوب غير مستغرب، لكن أن يحدث هذا بعد سقوط الأسد، وبعد أن تحرّرت سورية، والناس في الشام مشغولون بشكل الدولة، العلمانية، أو غيرها، فهذا يفيض عن طاقة القهر، وما تبقى من قدرة الفهم.

ضفة ثالثة

—————————

أحمد الشرع في دمشق… وماذا بعد؟/ عبد اللطيف السعدون

01 يناير 2025

لك أن تحبّه أو أن تكرهه، أن تتّفق معه أو أن تختلف. تلك مسألة خاصّة بك، وفي أيّ من الحالَين لن تستطيع أن تحجب عن أنظارك حقيقةَ أن شابّاً أربعينيّاً مطارداً من جهات ودول عديدة، ورأسه مطلوب في أكثر من مكان، ووضعت الولايات المتحدة عشرة ملايين دولار لمن يأتي به أو أن يقدّم معلومات تساعد على القبض عليه، أن هذا الشاب المعروف باسم أبو محمد الجولاني استطاع دخول دمشق في رأس فصيل “جهادي” يتكوّن من بضع مئات من الأفراد، ليقوّض نظاماً ديكتاتورياً وحشياً حكم سورية 54 عاماً فأذاق شعبها مرّ العذاب.

استغرقت رحلة الجولاني إلى دمشق 11 يوماً، منذ انطلاقته من مدينة إدلب، حيث كان يخوض تجربة بناء نواة دولة يريد أن تشمل التراب السوري كلّه، وهذا ما جعله يختلف مع زعماء أصوليين عمل معهم زمناً ثمّ اختار أن يفترق عنهم ليحقّق استقلاليته في التخطيط والقرار، والتنفيذ أيضاً، وقد استطاع بعد ذلك أن يقتنص “اللحظة التاريخية” الفاصلة في لعبة الأمم، التي برزت بعد تداعي “محور الممانعة”، وانكسار أذرع إيران، وهزيمة مشروعها الإمبراطوري، الذي كانت دمشق الأسد تمثّل أكثر معاقله أهميةً، وأخطرها بعد بغداد. وكان أن تدحرجت أمامه المدن السورية كما تتدحرج أحجار الدومينو، حتى وصل إلى دمشق.

وفي القصر الرئاسي، ظهر أحمد حسين الشرع (بعدما استعاد الجولاني اسمه الحقيقي)، وتخلّى عن اللباس الذي عُرِف به “الجهاديون”، ليرتدي “اللباس الإفرنجي”، وبدا حذراً متحفّظاً، ويتحدّث برصانة وهدوء مع محطّات التلفزيون، في محاولة منه لتكريس صورة “رجل الدولة” الذي يتعامل بدبلوماسية ومرونة، مركّزاً في نقاط عامّة من دون أن يلزم نفسه بشيء مُحدَّد وواضح عن صورة وشكل النظام الجديد، وليبتعد عن صورة الحاكم الفرد الذي يطمح لإقامة ديكتاتورية جديدة على أنقاض ما كان، مستغلاً النصر السريع الذي تحقّق له، هذا النصر الذي فتح المجال أمام عديد من متابعين ومحلّلين لأن يروا في الشرع صنيعةً لقوىً دوليةً وإقليميةً لها مطامع ومصالح في المنطقة، وفي سورية بالذات، وذهب بعضهم إلى حدّ رسم خريطة قال إن واشنطن وأنقرة وراءها، وآخرون ضربوا أخماساً بأسداس، وتوصّلوا إلى فرضية اتفاق روسي أميركي على اقتسام السيطرة على مناطق استراتيجية في العالم، وأعطوا روسيا أوكرانيا في مقابل ترك سورية لأميركا… إلى آخر ذلك.

وربّما تكون تلك التقديرات كلّها (أو بعضها) صحيحةً، لكن علينا ألّا ننسى قدرات الشرع الشخصية، واجتهاده، وتربيته الإسلامية العربية، وتجربته في قيادة فصيل معروف بالتزام أعضائه وانضباطهم، وقدرتهم على خوض معاركَ صعبةٍ وصولاً إلى ما يريدون تحقيقه. هذا كلّه سهّل عليه “امتطاء” اللحظة التاريخية، والوصول إلى دمشق من غير خسائر تذكر.

السؤال الآن: إلى أين يمكن أن تفضي رحلة الشرع؟ وماذا ينتظر السوريين في المستقبلين القريب والمتوسّط؟… نحتفظ هنا بتوجّسنا ممّا قد يحدث، إذ إن الاحتمالات كلّها واردة، وربّما يكون البريق الذي ظهر في ما طرحه الشرع خادعاً، خاصّة أن تقلّباته تظلّ موضع نظر، كما أن إشاراته أخيراً إلى أن عملية كتابة الدستور قد تستغرق ثلاث سنوات، وأن إجراء انتخابات قد يحتاج أربعاً، تزيد الشكوك حول نيّاته ومقاصده، وقد تثير ردّات فعل غير محسوبة، يبقى أن مراجعة مجمل الوقائع التي حدثت منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول (2024) توحي بأن دمشق مقبلة على دولة تحاكي “النموذج التركي” الماثل، وبرعاية تركية. لنقل، دولة تقوم على المزج بين الإسلامي والمدني، وأن هذا المزج لن يأتي من فراغ، وإنما هو مطلوب داخلياً لضمان بيئة مستقرّة، ومجتمع يتوق إلى دولة مواطنة وحقوق حُرِم منها على مدى تاريخ طويل، ومطلوب خارجياً أيضاً لخلق معادلةٍ توفّق بين ما يريده اللاعبون الكبار، وأيضاً اللاعبون الإقليميون، الذين يبحث كلٌّ منهم عن مصالحه، وعن أمنه القومي، وهي المعادلة التي تُرضي طموحات الشرع نفسه في المرحلة الحاضرة على الأقلّ، وتبقيه اسماً علماً في سورية، وفي المنطقة، وشاغلاً موقعاً متقدّماً في سورية الجديدة، ربّما لأمد أطول.

تبقى مقالتنا هذه مُجرَّد قراءة من بعيد لا أكثر.

———————–

سورية… القوة والمشروع/ عثمان لحياني

01 يناير 2025

هذه المرة، حملت الثورة معها، في سورية، القوة والمشروع. لم تكرر الثورة أخطاء الثورات في مصر وتونس واليمن وغيرها، حين ارتخت الثورة على الأنظمة الفاسدة واتكأت إلى ذات المؤسسات، حتى فاجأتها الثورات المضادة واستولت على المسار بأكمله.

بدت الثورة في سورية بعد سقوط بشار الأسد، على قدر مقبول من الجاهزية للانتقال إلى مشروع الدولة، وأظهرت الاستعداد الكبير لتحقيق استحقاقات الدولة، ومأسسة هذا الانتقال إلى مرحلة ما بعد النظام البعثي، على أسس سليمة وقواعد صحيحة، وتحمّل عبء إعادة بناء المؤسسات الحيوية والعصب الأساس في الدولة، على أسس وعقيدة جديدة، لا يكون فيها المجتمع هو المستهدف الأول، ذلك أن سورية لم تكن دولة مؤسسات بأي معنى كان، فقد كان البلد حزمة متراصة من المربعات الأمنية، يحكم كلاً منها شخص أو جماعة.

حملت الثورة المنتصرة على نظام “المسالخ البشرية” في سورية معها مشروع الدولة، ما يؤكد ذلك بالأساس، السرعة التي تخلصت فيها الثورة من وهج الانتصار، وقمعها بذاتها كل نوازع الانتقام، وهذه مسألة بالغة الأهمية تشير إلى وجود تحضير وتأهيل مسبقَين لكوادر الثورة السياسية والعسكرية. وما يعزز ذلك، السرعة التي جهزت بها الثورة حكومة انتقالية وإعادة تشغيل المرافق الخدمية على نسق مختلف، وسرعة تشكيل صورة الدولة ومخاطبة العالم الخارجي، والتعامل مع هذا العالم بمصالحه المتناقضة، بأسلوب متزن وخالٍ من التشنج والخطاب الثوري، وتبديد المخاوف التي تشكلت جراء صورة نمطية، وبدء خطوات بناء مؤسسة توافق وطني عبر مؤتمر حوار وطني يؤسس لدستور انتقالي، قبل صياغة دستور جديد.

لكن، وقبل المشروع، كان واضحاً أن ثوار سورية، على قناعة من أن الثورة على الأوضاع وتركيز التغيير بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً في بلد تعددي كسورية، يحتاج إلى إعادة بناء مرتكزات القوة، بمعناها المادي المتعلق بمؤسسات الأمن والجيش، وتغيير عقيدتها تجاه المجتمع المحلي والإنسان السوري (في عهد الأسد كان كل سوري مشروع معتقل)، وتجميع السلاح بيد الدولة وضبط الأمن والسلم الأهلي، أو برسملة القوة المجتمعية، والتوظيف الصحيح للرموز المحلية، وسحب كل فواعل الفتن الطائفية والمناطقية، واستيعاب كافة المكونات ضمن المشروع الوطني الجديد.

صدقاً، من المبكر الحكم على المآلات والتسرع في تقدير المسار ما بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 في سورية، خصوصاً أن سورية لا تحسد في واقعها الحالي على ما لا يحصى من المصاعب والمشكلات المعقدة، والذي لا يُخفى على فاحص المعضلات والعوامل المتداخلة والعناصر المحلية والإقليمية المتدخلة. لكن التقييم الأولي لملامح التجربة الجديدة في هذا البلد، تطرح مؤشرات مطمئنة، وإن بحذر، بوجود وعي كبير وأن هناك نموذجاً وعقلاً مختلفاً وجيلاً جديداً من “الثوار”، مقارنة مع تجارب التغيير السالفة، أكثر احتكاكاً مع تجربة الحكم، (بحكم تجربة إدلب)، وأوسع فهماً لطبيعة الدولة والاستحقاقات المحلية والإقليمية.

العربي الجديد

——————————

سحب الجنسية من عائلة الأسد… العيون على الإعلاميين والفنانين السوريين/ أنور القاسم

تجديث 01 كانون الثاني 2025

شاهد السوريون واللبنانيون والعالم معهم عبر وسائل التواصل، مراسلة تلفزيون “الجديد” اللبناني، تذيع بعض الأخبار السارة، وهي في غاية السعادة من على طاولة استوديوهات التلفزيون السوري  الأعتق عربيا، وحرصت على أن يكون كل من في الاستوديو معها في كادر الفيديو، حتى ضباط الأمن.

هذا المكان الذي حقن السوريين والعالم بكل أصناف السموم والنفاق وتلال الرياء وتأليه الرئيس النافق وابنه المنافق، بعد أن أشبع السوريين والعالم مراجل خُلبية.

طبعا، احتفاء معظم شبكات الإعلام الدولي والعربي بانتصار ثورة السوريين شيء يبعث على السعادة الغامرة. ونقل كل صغيرة وكبيرة مما يحدث في سوريا الجديدة كان حلما وهميا طوال خمسة عقود.

هذا المظهر الحضاري الآسر، الذي نقله لي أصدقائي من معظم شبكات التلفزة العربية والغربية من قلب دمشق، وهم يدخلون أقبية السجون ويقابلون الناس في الشوارع والمقاهي والحدائق، دون رقيب أو حسيب أو غول مخابراتي، كان يخيم على أنفاس السوريين قاطبة، كانت تؤذيه الحقيقة وتسنفر الدولة بمؤسساتها القمعية لمجرد حديث إعلامي عن سعر البصل أو أي مظهر من مظاهر الخلل في الدولة، حتى لو كانت ساطعة سطوع الشمس.

سوريا الآن عروس المتوسط الجديدة، بحاجة ليس لوزارة إعلام، بل لتلفزيون وطني حقيقي، ينقل ذخائرها وكنوزها الحضارية والبشرية، ويكون رديفا لنبض السوريين الصابرين المحتسبين، ليس في الداخل فحسب، بل يجب أن يكون هناك تلفزيون وطني ثان ينقل ابداعات حوالي ثمانية ملايين مهاجر قسرا، أبدعوا في كل قارات العالم، رغم جبال الألم والقمع والقتل الذي تعرضوا له من قبل طغمة المقبورين.

الآن أصبح للكلمة معنى وللمفردات أرواح وللأضواء بعد الظلام إشراق. تابعت مقابلة السيد أحمد الشرع من عين إعلامية، فما وجدت أبسط وأسلس منها، لم تكن هناك أي كلمة عائمة أو مشوشة أو مقعرة، لقد كانت لغته بسيطة ونافذة وسهلة ولأول مرة يسمعها السوريون!

فنحن شعب كنا تعودنا على مصطلحات رئاسية وتلفزيونية خشبية قميئة لا يفهمها أحد، كالديماغوجية، والبراغماتية، والإمبريالية، والجماعات الإرهابية، والمؤامرات الكونية، بالإضافة لشوية مربعات ومثلثات ودوائر ومنعطفات إستراتيجية، وتعريف التفريق بين الثور والثيران في قواعد اللغة العربية والنحو الصرف.

بالإضافة لحديث ديني وقليل من الأحداث التاريخية المزيفة، تتبعها بعض الضحكات والنكات البايخة مع قهقه بصوت عال، وتنتهي المقابلة بعزف النشيد الوطني!

فليس من المنطق والمقبول، بعد أربعة أسابيع على سقوط نظام “إلى الأبد”، أن نسمع تصريحات السادة المسؤولين في حكومة تصريف الأعمال الحالية ومقابلات الشرع فقط عبر القنوات ووسائل الإعلام الأجنبية، خاصة التركية والخليجية فقط!

ورغم استحسان خطوة تعيين متحدث باسم الحكومة يوم الاثنين، لكن ذلك غير كاف. مع التحديث أيضا واستخدام منصة اكس والتلغرام وغيرها باعتبارها وسائل حديثة لنشر أخبار البلاد.

في انتظار فناني سوريا

مثلما ملأ الفنانون السوريون الدنيا ابداعا وفنا ودراما، وتقطعت بهم السبل في بقاع الأرض، هم الآن مدعوون للعودة الى البلاد وإطلاق أعمالهم وتصويرها من ربوع سوريا الكبيرة، فالعالم العربي والمغتربون يتوقون شوقا الى إبداعاتهم.

كم هو عظيم لقاء الفنانة يارا صبري وزوجها الفنان ماهر صليبي بالمواطنين السوريين في دمشق والسويداء، وكم هو عظيم منظر مكسيم خليل وهو يخاطب الجموع في ساحة الأمويين ويساعد في كنس الشوارع في حمص.

نحن في انتظار الفنان البطل عبد الحكيم قطيفان والرائع مازن الناطور والمبدع مهند قطيش ومؤرخ الحدوتة السورية في “ضيعة ضايعة” و”الخربة” التي تحولت الى “الحرية” ممدوح حمادة.

والسوريون في انتظار صاحب “ابتسم أيها الجنرال” للمبدع سامر رضوان، وفارس الحلو وجهاد عبدو ونوار بلبل، وجمال سليمان وسامر المصري وكوكبة من النجوم، الذين أحبهم الجميع.

سحب الجنسية السورية

من عائلة الأسد

هذه دعوة لسحب الجنسية السورية من عائلة الاسد، الوحش سابقا ولاحقا، لما خربته ودمرته ونهبته من مقدرات هذا الشعب، وما فعلته في هذه البلاد، بحيث عجز كل الأعداء تاريخيا عن الحاق جزء يسير مما ألحقته هذه الأسرة بسوريا وشعبها طوال ٥٤ عاما هو العمر السياسي لهؤلاء الدخلاء.

هذا النظام حرم آلاف السوريين الأصلاء من جنسيتهم وحقوقهم المدنية، كما أقصى الملايين عن وظائفهم، وإذا استثنينا بعض أفراد هذه الأسرة  وهم يعدون على أصابع اليد الواحدة فقط، مثل فراس الأسد. ويجب أن يتم سحب الجنسية منهم وفق القانون السوري وآلياته العادلة، وهنا فقط يكون قد تحقق، ولو بعض العدل لملايين الضحايا السوريين وأيضا لأشقائهم من المواطنين العرب.

لماذا نحب سوريا؟

حينما سقط الطاغية، سقطت معه كل الدولة ومؤسساتها وعلى رأسها وزارة الداخلية المسؤولة عن فروع الأمن والشرطة والانضباط، لكن رغم غياب كل هذه المؤسسات وعدم وجود حكومة أو دولة، لم يسرق بنك واحد أو محل ذهب واحد، ولم تحطم أو تنهب أي وزارة أو مؤسسة، هذه أخلاق السوريين ماضيا وحاضرا، غابت الدولة لكن المواطنين بدأوا بالتعمير وتنظيف الشوارع والتكاتف في كل المحافظات، ولم يطلبوا من أحد مساعدات وبدأوا فورا يعمرون بلدهم بأنفسهم ولم يلتهوا بصراصير الطغمة الهاربة، وهمهم مسابقة الزمن لعودة الحياة وبدء إعمار ما دمرته الحرب خلال 14 عاما. لهذا سوريا كانت أوروبا العرب تاريخيا وستعود كذلك تحب أشقاءها ويحبونها دائما، وأستعير هنا رائعة سعيد عقل في وصف عاصمة الأمويين قائلا:

قرأتُ مجدَكِ في قلبي وفي الكُتُـبِ.. شَـآمُ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ

أيّـامَ عاصِمَةُ الدّنيا هُـنَا رَبطَـتْ.. بِـعَزمَتَي أُمَـويٍّ عَزْمَـةَ الحِقَـبِ.

كاتب من أسرة “القدس العربي”

القدس العربسي

——————————–

 سنة الصعود التركي/ خيرالله خيرالله

تجديث 01 كانون الثاني 2025

تصلح عناوين كثيرة لسنة استثنائية مثل سنة 2024. على الصعيد العالمي يبرز عنوان عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والمخاوف الأوروبيّة المشروعة من تلك العودة، خصوصاً في ظلّ استعداد ترامب لعقد صفقة مع روسيا على حساب أوكرانيا. يتجاهل الرئيس الأميركي القديم – الجديد ما يمكن أن تتركه من آثار مثل هذه الصفقة، التي ستكافئ فلاديمير بوتين على حرب شنّها على دولة أوروبيّة مستقلّة، على القارة العجوز وكلّ دولة من دولها. الأهمّ من ذلك كلّه، انعكاسات مثل هذه الصفقة على الأمن الأوروبي وعلى مستقبل العلاقات الأوروبيّة – الأميركيّة، في وقت تمرّ دولتان أوروبيتان أساسيتان، هما ألمانيا وفرنسا في أزمتين داخليتين عميقتين. تكمن أزمة ألمانيا، المقبلة على انتخابات نيابية في شباط (فبراير) المقبل، في صعود اليمين المتطرّف بكلّ ما يمثّله من مخاطر أوروبياً وألمانياً. أمّا أزمة فرنسا، فإنّها في غياب قدرة مؤسسات الجمهوريّة الخامسة التي بناها الجنرال ديغول على التكيّف مع واقع سياسي جديد تسبّب به وجود إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه. تدور فرنسا في حلقة مقفلة، ليس ثمّة ما يشير إلى أنّها ستخرج منها قريباً في غياب تغيير كبير وإصلاحات في العمق على صعيد مؤسسات الجمهوريّة ذات النظام شبه الرئاسي الذي بناه ديغول. على صعيد المنطقة التي نعيش فيها، كانت سنة 2024 سنة التغيير الكبير الذي تسبّب به رجل اسمه يحيى السنوار، كان وراء هجوم “طوفان الأقصى”. لم يعش السنوار ما يكفي لرؤية ما فعله بالمنطقة بدءاً بإزالة غزّة من الوجود وانتهاء بالقضاء على النظام السوري الذي عمّر 54 عاماً، والذي جعل من سوريا دولة تدور في الفلك الإيراني، خصوصاً منذ خلف بشّار الأسد حافظ الأسد في العام 2000. الأكيد أنّ الأسد الأب لم يكن بعيداً عن “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، لكنّه حافظ في كلّ وقت على هامش ضيّق كي يسهل عليه ابتزاز العرب عموماً ودول الخليج العربيّة على وجه الخصوص. قضى “طوفان الأقصى” أيضاً على “حزب الله” بعدما استسهل زعيمه الراحل حسن نصرالله فتح جبهة جنوب لبنان وخوض حرب “إسناد غزّة”. لم يدرك النتائج التي ستترتّب على مثل هذا القرار الذي في أساسه رغبة إيران في التأكيد للولايات المتحدة أنّ مفتاح توسيع حرب غزّة في يدها… وليس في يد إسرائيل وبنيامين نتنياهو وحكومته. ارتدّت الحروب التي خاضتها “الجمهوريّة الإسلاميّة” على إيران نفسها. أثبتت إسرائيل أنّ في استطاعتها خوض حروب عدّة في الوقت ذاته. ذهبت من القضاء على غزّة وتوجيه ضربة قويّة إلى “حزب الله”… إلى رفع الغطاء عن النظام العلوي في سوريا. من الواضح أنّ تركيا دخلت على خطّ الاستفادة إلى أبعد حدود من تراجع المشروع التوسّعي الإيراني. تركيا مكان إيران في سوريا. ذلك هو العنوان الأبرز لأحداث 2024. سيكون ذلك العنوان الأبرز لسنة 2025 أيضاً. ما الذي ستفعله تركيا بالورقة السوريّة؟ كيف سيستغلّ الرئيس رجب طيب إردوغان الفشل الإيراني؟ ليس مستبعداً أن تكون تركيا أكثر تعقلاً من “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي لم تستوعب يوماً أنّه لن يكون في استطاعتها إحداث تغيير ديموغرافي في سوريا عبر القضاء على الأكثريّة السنّية في هذا البلد. ستكون سنة 2025 سنة الصعود التركي في المنطقة. سيعتمد نجاح تركيا ذات الاقتصاد الضعيف على مدى قدرتها على مدّ جسور مع القوى العربيّة الفاعلة أولاً وعلى التخلي عن أيدولوجية “الإخوان المسلمين” ثانياً وأخيراً. هل يمتلك إردوغان ما يكفي من الحكمة بما يسمح له باستيعاب أنّ المشروع الإخواني لا يصلح لبناء دولة عصرية في سوريا تنقل هذا البلد المهمّ إلى مكان آخر بعد سنوات طويلة من القمع والظلم والقتل والمتاجرة بالشعارات الوطنية مارسها حافظ الأسد وورّثها إلى نجله؟

النهار العربي

————–

استقرار سورية هدف إقليمي دولي/ بشير البكر

01 يناير 2025

يعكس الاهتمام الدولي والعربي بالتحوّل الجديد في سورية رغبة في عبور هذا البلد نحو الاستقرار، نظراً إلى الوضع الداخلي الخاص المنهك بسبب أكثر من ستة عقود من حكم الحزب الواحد، وعائلة الأسد، والجماعات المافياوية التي تشكلت في ظلها، وكانت النتيجة أنها دمرت الاقتصاد وبنت السجون وحفرت المقابر الجماعية، وحين وصلت قوات إدارة العمليات العسكرية فرّت مخلّفة وراءها تركة ثقيلة جداً. وتشكو سورية من هشاشة على المستويات كافة، وفي المقدمة يأتي الاقتصاد الذي يعاني من شلل تام بسبب الوضع الاستثنائي الناجم عن الحرب والعقوبات الدولية، ودمار الصناعة وتراجع الزراعة وسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على آبار النفط والغاز. وهذا انعكس سلباً على حياة الناس والقدرة الشرائية، حيث بات أكثر من 80% من السوريين، في ظل النظام، تحت خط الفقر، وعلى مدى أعوام الأزمة تراجعت قيمة الليرة السورية، ولم تعد المرتبات تسد الحاجة، ولا تكفي لتغطية مصروف أسبوع واحد.

وبسبب الانهيار الاقتصادي تردت الخدمات ولم تعد متاحة، وخاصة الكهرباء ومياه الشرب والخبز والمواد الأولية والمحروقات، ولذلك وجدت الإدارة الجديدة نفسها في وضع لا تحسد عليه، وقبل أن تضع أقدامها في مقرات الدولة ارتفعت الأصوات المطالبة بحلول عاجلة للأزمات، التي تفجرت دفعة واحدة. وعلى الرغم من أنها تحاول تأمين حلول إسعافية، فإن طاقتها تبدو محدودة، ولن تتمكن قبل عام من حلحلة الوضع ووضعه على السكة، وهذا ما صرح به رئيس الإدارة الجديدة أحمد الشرع في حديث صحافي أخيراً. ولكن الأمر لا يقف عند هذه الإدارة، التي وجدت سورية بلا مدخرات فعلية، ولذلك يعتمد النهوض بالبلد على تقديم مساعدات دولية وعربية، ورفع للعقوبات التي كانت مفروضة على النظام السابق.

سورية بلد مركزي في الشرق الأوسط، يعيش في جوار ذي خصوصيات كثيرة، من جهة إسرائيل، التي تمارس سياسة التمدد في الضفة الغربية وغزة ولبنان والجولان والقنيطرة وأراضٍ سورية أخرى، وهي تعمل على استغلال اللحظة الراهنة من أجل تحجيم سورية إلى زمن طويل، وتحاول تطبيق المنهج الذي استخدمته مع الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، الذي توصلت معه إلى تفاهمات طويلة الأمد، تقوم على عدم تهديد حكمه مقابل التسليم باحتلال الجولان وإنهاء حالة الحرب. وقد رعى هذا الاتفاق وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق هنري كيسنجر، وتم تقنينه من خلال اتفاقية فصل القوات عام 1974، التي ألغتها إسرائيل بعد دخول قوات عملية ردع العدوان إلى العاصمة السورية وهروب بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كي تبتز الحكم الجديد في دمشق من أجل الحصول على تنازلات وتجبره على قبول تفاهمات جديدة قد تتجاوز سقف تلك التي أملتها على عائلة الأسد.

إسرائيل كانت تفضل بقاء سورية مجزأة

وهناك نقطة مهمة جداً تستدعي الإشارة إليها وهي أن إسرائيل كانت تفضل بقاء سورية مجزأة تحكمها قوى الأمر الواقع، وأن يستمر الأسد في حكم دمشق ضعيفاً معزولاً. وتفيد المؤشرات كافة بأنها فوجئت بسقوطه، وهذا ما يفسر رد فعلها بتدمير أسلحة الجيش السوري الاستراتيجية كي لا تنتقل إلى أيدي العهد الجديد الذي لا تخفي قلقها منه، وتتذرع بأنها لا يمكن أن تأمن جانبه بسبب خلفيته الدينية وماضي قيادته المصنفة على لائحة الإرهاب. ولا يبدو أنها ستغير مقاربتها هذه، رغم أن الولايات المتحدة تواصلت مع الشرع، وعبرت عن انفتاحها عليه، وألغت الجائزة المالية التي كانت قد رصدتها للإدلاء بمعلومات عنه. وقدم الوفد الأميركي الذي زار دمشق برئاسة مساعدة وزير الخارجية باربرا ليف، وعوداً مشروطة باحترام حقوق الأقليات والمرأة وعدم عودة إيران إلى سورية، واتخاذ خطوات تشكل تهديداً لأمن إسرائيل.

وزير الخارجية السوري وأحمد الشرع في دمشق (إكس)

تدرك واشنطن أن الإدارة السورية الجديدة لن تسير في اتجاه يعاكس المزاج الدولي، الذي طوى صفحة الأسد، خاصة في الوقت الذي يصعب فيه الدفاع عن إرثه الثقيل في القمع والقتل والنهب وتدمير العمران وتهجير ملايين السوريين. ويبدو أن القراءة الأميركية للحكم السوري الجديد مستقرة من الناحية المبدئية على أنه ليس في وارد استعادة علاقات دبلوماسية طبيعية مع إيران خلال المدى المنظور، أو التفكير بخطوات تهدد أمن اسرائيل، لأنه غير قادر على ذلك من الناحية العملية، ولا يمتلك الإمكانات اللازمة لأي عمل عسكري خارج حدوده. ولذلك ليس من المستبعد أن تشجعه على تركيز نفسه من خلال خطوات رمزية تتمثل في رفع بعض العقوبات الاقتصادية وتقديم المساعدات. وهناك رأيان حول ذلك، أحدهما يدعو لرفع سريع، وآخر لتركها للإدارة القادمة التي ستدخل البيت الأبيض في 20 من الشهر الحالي.

ترى أوساط إقليمية ودولية أنه ستكون هناك سلسلة من خطوات الانفتاح الأميركية نحو دمشق، بينما تتباين المواقف الأوروبية بين المصالح المشتركة والعمل على إعادة اللاجئين السوريين من أكثر من بلد أوروبي. وحتى تتم العملية بصورة طوعية، لا بد من تأمين قدر من الاستقرار الأمني والاقتصادي، وتطمين سوريي الخارج بأن الوضع لن ينتكس، وهذا يتطلب تقديم مساعدات مالية تساهم في إعادة الإعمار بسرعة، وخاصة للبنية التحتية المدمرة بنسبة تتجاوز 80% في بعض المحافظات.

ورغم أن تركيا بدأت خطوات من أجل تزويد حلب ومن ثم دمشق بالكهرباء، إلا أن أغلبية البيوت في محافظات حلب والرقة ودير الزور وأرياف إدلب وحمص ودمشق وحماة لم تعد صالحة للسكن، وهي تتطلب إعادة إعمار من جديد، ولا يمكن فعل ذلك من دون مشاركة أميركية أوروبية عربية توفر المال والخبرات والأدوات. ومهما بلغت الدولة من قدرة مالية وتقنية، فإنها لا تستطيع النهوض بالمهمة وحدها، وتحتاج العملية إلى جهد دولي وإقليمي جبار وتمويل يصل في حده الأدنى إلى 150 مليار دولار.

دول جوار سورية تنشد الاستقرار

الاستقرار تنشده دول جوار سورية بإلحاح، وذلك لعدة أسباب، منها عودة المهجرين، الأمن الحدودي، وإغلاق ملف تهريب المخدرات نهائياً، وهذا ينطبق أيضاً على الدول البعيدة نسبياً، التي أوفدت مندوبين منها إلى دمشق مثل البحرين وليبيا. وبالنسبة إلى تركيا، وهي أكثر دولة مستقبلة للمهجرين السوريين، فإن الهم الأكبر هو عودة أكبر قدر من هؤلاء، ومن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن عدد العائدين لا يتجاوز بضعة آلاف، وحتى الآن تبدو الأرقام متواضعة جداً قياساً إلى العدد الذي يتجاوز 3 ملايين، وهذا ما يفسر استعجال تركيا لمساعدة سورية على تأهيل البنية التحتية، وخاصة قطاع الكهرباء الذي تعطيه الأولوية. وهناك مؤشر مهم وهو أن أسهم شركات الإسمنت التركية ارتفعت في بورصة إسطنبول بما يتجاوز 10% من قيمتها، بمجرد أن بدأت استعدادات إعادة الإعمار في المناطق الحدودية في ريفي حلب وإدلب، حيث إن غالبية المدن مدمرة جراء حرب عام 2019 في سراقب وخان شيخون ومعرة النعمان.

هواجس كل من الأردن والسعودية تلتقي عند تأمين سورية من الخطر الإيراني. ورغم أن البلدين لم يصرحا بذلك، فإن طرد إيران من سورية يضع حداً للمعاناة الطويلة من التدخلات الإيرانية والمشاريع المزعزعة لأمن المنطقة، وفي مصلحة كل منهما مساعدة الإدارة الجديدة على تثبيت أقدامها كي تتمكن من اجتثاث جذور النفوذ الإيراني من البلد. وهناك قناعة لمستها الإدارة الجديدة بإحساس العرب بالمسؤولية عن تحصين سورية من محاولات التخريب التي لوح بها عدة مسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى.

وتعكس تصريحات المسؤولين الإيرانيين المستمرة حول سورية رفضاً للوضع الراهن والإدارة الجديدة في دمشق، ابتداء من المرشد الإيراني علي خامنئي، ووزير الخارجية عباس عراقجي، والمتحدثة باسم الحكومة فاطمة مهاجراني. وفي أحدث تصريح، قال محسن رضائي، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية: “خلال أقل من عام، سيبعثون المقاومة في سورية بشكل جديد، وسيُحبطون المخططات الخبيثة والمخادعة التي تقودها الولايات المتحدة، والنظام الصهيوني، والدول التي تم استغلالها في المنطقة”.

الموقف العراقي الذي صدر عن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يبدو مدروساً جداً، ويحاول الموازنة بين الموقفين الأميركي والإيراني. وعبرت بغداد عن مخاوف على لسان حميد الشطري، رئيس جهاز المخابرات العراقية، الذي تم تعيينه قبل أسبوع من زيارة دمشق في خطوة لافتة على صلة مباشرة بالتطورات في سورية، خصوصاً أنه مقرب من الحرس الثوري الإيراني. وأبدى الشطري مخاوف من أن يؤثر الوضع الجديد في سورية على العراق، تحت ذريعة وجود جيوب لتنظيم داعش في سورية، وقد بادله الشرع المخاوف نفسها من نفوذ إيران في العراق، وأن العلاقة بين البلدين يجب أن تكون ندية والتعامل بالمثل، وأن يكون الحرص على أمن البلدين مصلحة متبادلة ومشتركة.

هناك تطوران مهمان، الأول هو البيان الذي صدر عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، والإعلان عن زيارة وفد من الجامعة، وهو ما أعلن عنه الأمين العام المساعد السفير حسام زكي، الذي أكد أن الدول العربيّة تسعى لإعادة الملف السوري إلى الواجهة من جديد، بعدما أصبح ملفاً ثانويّاً وروتينيّاً بالنسبة للمجتمع الدولي. التطور الثاني هو زيارة الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم بن محمد البديوي برفقة وزير خارجية الكويت عبد الله اليحيا إلى دمشق في 30 من الشهر الماضي ولقاء الشرع، ونقل رسالتين باسم دول المجلس، الأولى تضامنية، والثانية أكدت على أن استقرار سورية ركيزة أساسية لاستقرار المنطقة.

العربي الجديد

———————————–

 البحث عن الصفة ونسيان الموصوف/ أحمد عيشة

2025.01.01

يكثر الحديث اليوم عن طبيعة الدولة المنشودة بعد الخلاص من حالة السكون التي كانت تعيشها سوريا بكل مفاصلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، حيث حوّلها نظام العائلة الأسدية اللصوصي إلى مزرعة تحكمها الاستثناءات.

هذه الاستثناءات التي فكّكت النسيج السوري إلى حبات رمل متناثرة لا تجد لها غير من يجمعها سوى التمسك بانتماءات، أقلّ ما يقال عنها إنها لا تفيد في بناء الدولة، مثل الطوائف والعشائر والمناطق والعائلات، بينما يتم نسيان الدولة بحد ذاتها ككيان قانوني يحكم وفق قانون معين ضمن نطاق جغرافي محدد وفق علاقة تتسم بالرضا والقبول من الناس تجاهها، تمكن السلطات من تنفيذ القوانين ضمن ذلك الحيز الجغرافي وقبولها من السكان.

لقد خرجت سوريا من نصف قرن من الجمود، الذي يقترب من الموت، حيث تكشف الوقائع التي تظهر يومياً عن أن نظام الأسد قد حول جغرافيتها إلى مقابر حقيقية إلى مئات الآلاف من السوريين وغيرهم، الذين حلموا ذات يوم بحريتهم وببناء دولة لا تقتلهم مع غيرهم، ناهيك عن العذاب الذي ذاقوه في رحلتهم نحو الموت.

فَتَحَ الخروج هذا أو الخلاص من النظام الأسدي الطريق أمام السوريين للتفكير بتصور مستقبل لهم بعد أن كان الأمر مستحيلاً، فالحياة في ظل الأسدية تكرار لمشاهد قتل الحياة في كل تنوعها، لا سياسة ولا اقتصاد ولا اجتماع من دون موافقة وهيمنة الأسديين، ومن يخرج عن القاعدة مصيره معروف، وفي حال كتبت له النجاة فهو يعيش بظروف غير طبيعية لا تمكنه من الاستمرار، وبالنهاية تدفعه نحو الموت.

يعرف المتتبع لتاريخ سوريا في عهد الأسدين مآلات السياسة والأحزاب السياسية وقدراتها، فلا شك أنها حاولت أن تقاوم وترفض شروط العيش الأسدية، فدفعت أثماناً باهظة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الكيان، حيث كان جلَّ نشاطها ينحصر في كيفية التهرب من أجهزة المخابرات، وبالتالي لم يكن بمقدورها ممارسة السياسة كنشاط اجتماعي بشري، وإنما كنشاط دعائي، وهو ما يتجلّى اليوم في ضعف أو غياب قاعدتها الاجتماعية وحضورها، وسط عملية التغيير الكبرى وانحسارها إلى أصوات فردية متناثرة تتعامل مع السياسة كأمنيات يجب على الجميع تلبيتها.

أمّا بالنسبة لما يعرف بالكيانات المندرجة تحت ظل الأسدية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال تسميتها بالأحزاب، فهي ليست أكثر من حلقات تهريج دعائية من جهة، ومن جهة أخرى، إحدى وسائل الأسدية في الهيمنة.

الركن الآخر المهم هو المجتمعات والنشاطات المدنية، التي تتمثل في النقابات والجمعيات والمنظمات والنوادي وغيرها من الكيانات التي تمارس الأنشطة الجماعية، بمعنى التفاعل بين أعضائها وفيما بينها ككيانات، وهي أيضاً لم تنجُ من فظائع الأسدية، على الأقل من فترة الثمانينيات حيث آخر المواقف للنقابات، فحولها حقيقة إلى ما يعرف وفق اللغة الأسدية إلى منظمات “شعبية”، يجري تعيين مجالسها بقرار من الحزب الحاكم وموافقة المخابرات (في فروع الحزب والمخابرات هناك مكاتب وإدارات لكل الفعاليات: النقابات، الطلاب، المعلمين، الأحزاب، وغيرها).

وتحدّد مهامها في مديح الأسدية كحالة غير بشرية، حالة من القطيعية، هذه الأسدية التي تفسح المجال لها لممارسة كل أشكال الفساد والتربح مقابل الولاء أولاً، وأن تكون عيناً لها (مخبرين) بين أعضائها، وحتى ما شهدناه لتجمعات تنسب زوراً لمجتمع مدني وقت الثورة، لم يكن أكثر من شركات خدمات صغيرة تمارس مهمة محددة، لسبب بسيط وهو غياب الإطار القانوني الذي تمثله الدولة، وهي الأب والأم للمجتمع المدني.

أمام هذا الواقع الذي عاشته سوريا لعقود مظلمة، والذي ولّى إلى غير رجعة منذ أيام، تعود السجالات التي تكرس الاختلاف إلى الواجهة، وهي السجالات والاتهامات التي لم تنقطع بين السوريين حتى أيام النظام الأسدي، وتتلخص بطبيعة ومواصفات الدولة المنشودة: دينية، علمانية، مدنية، ديمقراطية.

وتنعكس هذه الصفات على الأشخاص بتصنيفات كثيرة: علماني، سلفي، ديمقراطي، وتتحول إلى مذاهب وعقائد تضيف خنادق جديدة بين السوريين، الذين يتفقون عموماً على غياب السياسة أولاً في عهد الأسديين، وبالتالي غياب النقاش العام بين الناس.

هذا السجال الذي كان يغيب عنه فكرة الدولة ككيان قانوني متوافق عليه لتنظيم العلاقة بين القوى المتصارعة سلمياً، كيان يحتكر وحده قوة تنفيذ القوانين الناظمة في ذلك الكيان، ويوصلنا إلى حالة ابتلاع الصفات للموصوف: العقائد والمذاهب للدولة.

بالتأكيد، هناك تفاعل جدلي بين الصفة والموصوف، بين الدولة ومرجعيتها، بعيداً عن كونها كياناً عقائدياً، جهازاً مرتبطاً بعقيدة معينة أياً كانت: حزبية أو مذهبية، هذا التفاعل تحدده طبيعة القوى المتصارعة وحضورها وتمثيلها أكثر ما تحدده التطلعات والأمنيات، وهو ما يفرض الابتعاد عن التفكير الرغبوي والانتقال إلى الفعل السياسي كتجسيد سلمي لصراع القوى والفعاليات الاجتماعية بعيداً عن الاشتراطات التي تكرس الخندقة، وبالتالي نقل التصارع إلى وسائل غير سلمية.

والأمر الآخر أن تلك المرجعيات مهما كانت هي مرجعيات مؤقتة، بمعنى أنها قابلة للتغير تبعاً لشروط الحياة البشرية من سياسة واقتصاد وفكر، وهو ما يجب التركيز عليه، بمعنى نفي الصفة المؤبدة عن تلك المرجعيات، حتى لو كانت نصوصاً دينية، وهذا هو أول أسس الديمقراطية التي ستكون الوسيلة لبناء الدولة أولاً، فضلاً عن أنها ستكرس القيم العادلة في المجتمع.

كانت سوريا تعيش بحالة من القوانين الاستثنائية، بمعنى تغيير القوانين تبعاً لما تراه الأجهزة المخابراتية -الحاكم الحقيقي للبلاد- هذا الأمر الذي ينفي تماماً وجود الدولة في سوريا، بمعنى مؤسسات ينظم عملها قانون عام، ويجعل منها سلطة جهاز لتحقيق غاية واحدة: إخضاع العباد لمصلحة الحاكم، الذي جعلت منه تلك الأجهزة “إلهاً” لا يجوز ذكره إلا بالتمجيد.

كل هذا يدفعنا إلى العمل المشترك لبناء مؤسسات الدولة الديمقراطية التي تفسح المجال أمام تطورها، وليكن تاريخ تشكل الدول تجربة لنا، فالنموذج الحالي السائد وهو في الغرب عموماً هو نتاج قرون من النضال والصراع والتضحيات، وهذا لا يعني المرور بنفس التجربة وعبر الزمن نفسه، بل إن عملية التشكل تاريخية مستمرة.

تلفزيون سوريا

——————————–

سوريا.. خطوات سريعة إلى دولة مدنية ديمقراطية/ جمال قارصلي

2025.01.01

إن الحديث عن سوريا ما بعد حكم دام أكثر من خمسة عقود تحت طغيان “آل الأسد” وزبانيته يتطلب منا إدراك حجم الدمار الهائل الذي خلفه هذا النظام، بدءاً من الخراب الذي ألحقه بالبنية التحتية، مروراً بالتهجير الواسع للفئات السكانية، وصولاً إلى تمزق المجتمع السوري نتيجة للعداءات والفجوات التي زرعها بين مكوناته.

كذلك أدّى الاستبداد السياسي إلى تصحّر الحياة السياسية والشلل المؤسسي الذي عمّ جميع قطاعات الدولة، حيث حوّل سوريا إلى “مزرعة خاصة” له ولعصابته، وبدأ يدير البلد وفقاً لأهوائه الشخصية الضيقة بعيداً عن مصلحة الشعب السوري.

بعد انهيار النظام، وفي أثناء الهروب المُذل لـ بشار الأسد، يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف يمكن لسوريا أن تتحول إلى دولة مدنية ديمقراطية؟ وما هي الخطوات اللازمة لتحقيق هذا الهدف؟

التحديات أمام التغيير

إن محاولة تغيير هذا الواقع المدمر ليست مهمة سهلة، فإرث النظام يبرز في كل زاوية من زوايا الحياة السورية، من البنية التحتية المدمرة إلى النظام السياسي المختل، وصولًا إلى النزاع الداخلي والاحتلالات الأجنبية التي قسمت البلد إلى مناطق نفوذ.

لكن لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن التغيير قد بدأ بالفعل، وبشكل سريع، وذلك في اليوم الذي انتصرت فيه الثورة السورية بتاريخ 8.12.2024.

التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية يتطلب استراتيجية شاملة تأخذ بعين الاعتبار الواقع الحالي، وتنطلق من أسس قانونية جديدة تقوم على المبادئ الأساسية للعدالة، المساواة، وحقوق الإنسان.

    الخطوات نحو دولة مدنية ديمقراطية

أول خطوة في طريق التحول الديمقراطي هي الدعوة إلى مؤتمر وطني موسّع، يمثل كل مكونات وفئات المجتمع السوري، هذا المؤتمر يقر أولًا بإلغاء دستور النظام، ومن هذا المؤتمر تنبثق حكومة مؤقتة أو يتم انتخاب رئيس حكومة مؤقتة يُوكّل إليه تشكيل حكومة لإدارة شؤون الدولة إلى أن يتم تشكيل حكومة جديدة بناءً على نتائج الانتخابات القادمة.

إلى جانب تعيين الحكومة المؤقتة، يشكل المؤتمر عدداً من اللجان المؤقتة، منها الدستورية (القانونية) التي تقوم بصياغة إعلان دستوري من أجل أن لا يحصل فراغ دستوري, حيث إن المرحلة الانتقالية، والتي من الممكن أن تدوم عدة أعوام، تحتاج إلى آليات دستورية مؤقتة.

الإعلان الدستوري هو عبارة عن دستور مختصر يتضمن مجموعة من القوانين تُدار بوساطتها البلاد بشكل قانوني إلى أن يتم الاتفاق على دستور جديد للبلاد من أغلبية أفراد المجتمع، هذا الإعلان الدستوري يجب أن يتضمن فصل السلطات، تعزيز حقوق الإنسان، وحماية الحريات العامة وأن يعكس التعددية الثقافية والدينية والسياسية في سوريا.

إلى جانب اللجنة الدستورية يشكل المؤتمر الوطني عدداً من اللجان، منها على سبيل المثال القضائية والعسكرية والأمنية والإدارية والاقتصادية والمالية والخارجية، تُوكّل لهذه اللجان مهام استشارية للحكومة المؤقتة.

عدد أعضاء اللجان المؤقتة ليس متساوياً، لأنّ عدد أعضاء كل لجنة له علاقة بأهمية ومهمة هذه اللجنة. على سبيل المثال اللجنة الدستورية يجب أن تكون موسعة لكي يستطيع المشاركة فيها كل أطياف المجتمع السوري.

كتابة الدستور الجديد: التحدي الأكبر

تُعتبر كتابة الدستور الجديد التحدي الأكبر في المرحلة الانتقالية, حيث يجب أن يشارك في صياغته كل مكونات المجتمع السوري، وليس فئة ضيقة أو نخبة معينة، الدستور يجب أن يكون نتيجة توافق وطني واسع، بحيث تكون فيه ضمانات لحماية حقوق الإنسان, وفصل السلطات، ويضع آليات للمحاسبة والشفافية, ويضمن حقوق المرأة والمجتمعات المحلية، مع الحفاظ على التوازن بين حقوق الأفراد والحقوق الجماعية.

من أجل طمأنة مكونات المجتمع السوري أقترح أن تكون السلطة التشريعية مؤلفة من حجرتين على غرار النموذج الأميركي (الكونغرس) المؤلف من مجلس النواب ومجلس الشيوخ، أو كما في ألمانيا هنالك مجلس النواب (البوندستاغ) ومجلس المقاطعات (البوندسرات).

الحجرة الثانية تعطي للمحافظات حق الاعتراض على القوانين التي تمس بمصالحها الخاصة ومصالح مواطنيها، لذلك، يجب أن يكون الدستور مرناً بما يكفي لاستيعاب التغيرات المستقبلية من دون أن يتحول إلى أداة تُرسخ الهيمنة.

بعد صياغة الدستور الجديد، يتم طرحه على الشعب للتصويت، ويجب أن توافق عليه أغلبية الشعب السوري. بناءً على هذا الدستور، تتم الانتخابات التشريعية النظامية.

قانون الأحزاب والانتخابات: الديمقراطية تبدأ من القاع

بجانب كتابة الدستور، من الضروري وضع قوانين تضمن منافسة سياسية حرة ونزيهة، الديمقراطية ليست فقط إجراء الانتخابات، بل تقتضي أيضاً تعددية حزبية ووجود مؤسسات تعكس مختلف وجهات النظر، لذلك، يجب كتابة قانون للأحزاب يضمن تأسيس الأحزاب على أسس قانونية واضحة، بحيث لا يكون هناك أي تهميش أو قمع لأي جهة سياسية.

هذا القانون يجب أن يسهم في فتح المجال للعديد من الأحزاب السياسية لتنافس بشكل عادل، بعيدًا عن أي تدخلات من النظام أو من الأجهزة الأمنية.

إن التصحّر السياسي والمأساة التي خرجت منها سوريا يدعوان إلى التريّث قليلًا وإعطاء الأحزاب الجديدة الفرصة الكافية من أجل تنظيم بيتها الداخلي ومرحلة كافية للنضوج الديمقراطي قبل أن تتم الانتخابات التشريعية، لأن الديمقراطية شيء له علاقة بالتربية، وهي تبدأ من البيت وفي المدرسة، وإن لم يمارسها الفرد والمجتمع فلن يستطيع أن يتعلمها من خلال الكتب أو بوساطة وسائل التواصل الاجتماعي.

إلى جانب قانون الأحزاب الذي ينظم ويكفل حرية تشكيل الأحزاب، يجب أن يكون هناك كذلك قانوناً للانتخابات يضمن رقابة مستقلة شفافة ونزيهة.

الكفاءة في الإدارة: الرجل المناسب في المكان المناسب

في هذه المرحلة الانتقالية، من المهم ضمان أن الأشخاص المؤهلين يتسلمون المناصب العامة، النظام السابق دمر آليات الاستحقاق وحوّل التعيينات إلى محاباة ومحسوبية.

لذلك يجب أن يتم تحديد الكفاءات اللازمة لإدارة الدولة بعيداً عن الخلفيات الحزبية والطائفية، حيث يجب أن تكون هناك آلية لتعيين الأشخاص الأكفاء في المناصب العامة.

إن هذه الخطوة ضرورية لإعادة بناء الثقة بين الحكومة والشعب، ولضمان إدارة فعالة وشفافة تُراعي مصالح الجميع، هذا ما سيفتح الباب ويصبح عاملاً مشجعاً لكثير من المغتربين السوريين الذين لديهم كفاءات وخبرات كبيرة في مجالات كثيرة للعودة إلى وطنهم الأم والانخراط في بناء الوطن مع أبناء الوطن المخلصين، حيث من المعروف بأن أغلى ثروة يملكها الوطن هي الإنسان، ولهذا علينا أن نعمل كل ما بوسعنا لإرجاع الثروات المهاجرة والتي شبهتها في كثير من المواقع بـ”الذهب السوري”.

قضية العدالة الانتقالية: المضي قدمًا مع الاعتراف بالآلام

تحقيق دولة مدنية ديمقراطية في سوريا يتطلب معالجة الجراح التي خلفها النظام الاستبدادي، العدالة الانتقالية هي ضرورة للشفاء والتعايش، وهي تتضمن محاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبها النظام، بالإضافة إلى تعزيز المصالحة الوطنية.

هذه العدالة تتطلب آليات قانونية تكشف الحقيقة حول الانتهاكات التي حدثت طوال حكم الأسد، بالإضافة إلى توفير تعويضات للضحايا.

يتعيّن أن تشمل هذه العملية محاكمات عادلة وشفافة، لكنها لا تقتصر على المعاقبة، بل يجب أن تشمل أيضاً العمل على تعزيز التعايش السلمي من خلال إشراك الضحايا في عملية بناء السلام والمصالحة.

الختام: آمال وتحديات

إن بناء دولة مدنية ديمقراطية في سوريا هو هدف نبيل يتطلب جهوداً جماعية من جميع الأطراف المعنية، المرحلة الانتقالية ستكون مليئة بالتحديات، لكنها الفرصة الوحيدة لبناء سوريا جديدة قائمة على أسس العدالة والمساواة.

يحتاج السوريون إلى العمل معاً لضمان تحقيق هذا الهدف، مع إعطاء الأولوية للشفافية والكفاءة في إدارة شؤون الدولة، يجب أن تكون هذه المرحلة الانتقالية خطوة نحو استعادة الهوية الوطنية، وتوحيد السوريين بعيداً عن الانقسام، وأن تكون بداية لمستقبل مشرق يحقق العدالة لكل المواطنين ويضمن حقوقهم وحرياتهم رغم التحديات الكبيرة

تلفزيون سوريا

——————————–

محمد حداقي: الهامش المُعتم للنضال الإنساني/ نوار جبور

الأربعاء 2025/01/01

من الجيد أن نحمل قصة مميزة عن أحدهم، خصوصاً أن الثورة السورية وسقوط النظام يتفكك في السرد والمخفي، وكأن هاجس الخوف الذي افتقد فجأة لن يكون سوى أداة لانفجار الطاقة السردية والأسرار التي تصلح لتكون مآثر إنسانية. انتهاء النظام السوري هو ولادة للمخفي، وللأخلاقي والجمالي، وكأن هذا الجلل لا ينتهي. ومع هذا التحول، يظهر التوازن الأخلاقي المستعاد، حيث تبدأ قيم أخلاقية جديدة في التشكل، تُعيد ترتيب ذاكرة المجتمع وتفصح عن الكثير من مكبوتاته وصمته. فما كان خفياً سيتجلى، ليضع أثره العميق على المجتمع، كاشفاً عن قصص وأحداث ظلت مكبوتة، لكنها تحمل في طياتها معاني إنسانية جليلة.

كان على محمد حداقي أن يظهر من بعيد، حيث ظهر محمد آل رشي في مقابلة يسرد فيها مخاوفه وقلقه جراء محاولات اعتقاله، وذلك لمشاركته في عزاء ودعم مظاهرات سلمية خرجت في دمشق، والخوف الذي لازمه بينما خرج بسلام من سوريا ذُكر محمد حداقي على لسان آل رشي ما أسماه الملاك الحارس الذي أسكنه في بيته ونقله لاحقاً إلى مكان آمن وبيت جديد لكي لا يعتقل محمد آل رشي وصديقه فارس الحلو. الدرب الخاص بالسوريين يحتاج إلى مُطهر عميق، فحجم العنف والسخرية الذي استُهدف به الفنانون كان ملفتاً بشكل غير مسبوق ما أن سقط النظام. ويتداول السوريون المقاطع للفنانين ويبحثون عن كل هفوة أدت إلى دعم النظام أو الدفاع عنه، الطبقة الفنية التي اعتمد عليها النظام لتلميع صورة البلاد وتأطيرها ضمن إطار يبدو لائقاً، تحولت إلى هدف للسخرية والهجوم، حتى بدا الأمر جنونيا فجاءت قصة محمد حداقي وآل رشي من بعيد لتضفي شيئاً آخر.

تحدث محمد عن مساعدة حداقي له أثناء الهروب، وعن الطرق المخيفة التي اضطر إلى سلوكها للوصول إلى منزل آمن. لم يظهر حداقي بقوة عبر التصريحات الإعلامية، حيث درجت العادة في سوريا على ممارسة الصمت المدروس. هناك آليات للتموضع الرمادي في سوريا، حيث يختفي التعبير عن الوضع السياسي كصمت مدروس لحماية الذات، والامتناع عن الحديث السياسي لتجنب المخاطر المحتملة، والتي تبدأ بمنعه عن العمل، ولا تنتهي بإجراء تحقيقات طويلة ومهينة وقد تنتهي بالاعتقال.

كان آل رشي في ظهوره المتلفز مسرحياً، حيث أدى في الاعتراف بمساعدة الحداقي له بنية أخلاقية تقوم على وجهتين، الصفح والاعتراف. مارس آل رشي اعترافاً تحويلياً لتغيير الإدراك الذاتي والمجتمعي للسوريين، مقدماً مشهد أداء اعترافي يبرز معالم الخوف التي أعيدت لوجهه والدور الذي لعبه صديقه في إنقاذه. مقدار المصداقية التي عبر فيها آل رشي تُظهر أبعاداً شديدة العمق في فهم الحالة السورية وفي تأثير الموقف عليه، كانت الثورة كلها في مطرحٍ ما، وتجربته الشخصية في النجاة مع فارس الحلو بمساعدة الحداقي بمطرحٍ آخر، كأن على السوريين أن يشهدوا هذا الأداء كخطوة نحو الصفح المجتمعي المطلوب لتخفيف الصراع وفهم مكامن الخوف والنطاق التحويلي للعيش داخل سوريا. كان على شيء ذائب في شخصية حداقي أن يظهر عبر صوت صديقه، ووجهه وآلامه التي أعادها وكرّسها على الشاشة. وكان على بنية نفسية لآل رشي أن تستريح ما أن تجاوز سرد القصة، وكأن خروجه من الموت رمزياً وجسدياً تم بمساعدة الحداقي.

خرج آل رشي وهو يرفض كل أشكال القمع المجتمعي والمصطلحات التي تهاجم الفنانين كمحاسبة لأرائهم أو لصمتهم عن جرائم النظام، مُشكلاً فرضية أن الخوف الذي شكله النظام لا يمكن مقاربته أو فهمه بسهولة ونقده لنظرية البطل بوصفها مطلوبة من الجميع.

الهيمنة الخارجية للنظام لا يمكن مواجهتها، ومع ذلك كان حداقي من القلائل الذين قدموا اعتذاراً وأرفقوه بتعليل ذاتي، كانت مقابلة الحداقي منتظرة وذلك لفهم القصة والاستماع إليه كمواطن وإنسان يملك قصة جعلته نجماً جديداً في أعين السوريين، خاصة حينما بدا متواضعاً ومتحدثاً بحكمة، معترفاً بعجزه أمام الاستعلاء الذي فرضه النظام. لم يتخل حداقي عن اعتذاره للشعب، بل أكده بتقدير قوة الشعب ودور الفنانين الآخرين في مقاومة القمع وواصفاً عجزه عن فعل أي شيء بالخوف الذي التبسه. ورغم تكراره لفكرة الاستعلاء الذي يفرضها النظام كشكل من أشكال التفوق الذي أرسم على حداقي شعوراً بالخوف والخجل في التعبير، إلا أن مشاركته في حماية أصدقائه كانت فعلاً جوهرياً في سيرته، ووضعت جزءاً من مواقفه موضع احترام وشهادة على شجاعته الإنسانية.

ينتمي كل من محمد حداقي ومحمد آل رشي إلى جيل تجاوز الخمسين من العمر، جيل عرف الأسد الأب والابن جيداً، وشهد تحولات النظام عبر العقود. كلاهما يعد من المواهب البارزة في السياق السوري. آل رشي، الذي كانت مسرحياته في دمشق تثير جدلاً بسبب عمقها وفنيتها واختلافها، أصبح رمزاً لفنان مسرحي جسور لا يخشى تحدي السائد في مسرح مقيد ومقموع. أما حداقي، فقد استحوذ على كل شخصية أداها، مضيفاً لها بعداً فريداً جعلها تعيش في ذاكرة الجمهور. وفيما يخص فارس الحلو، الضلع الثالث في القصة، فقد كان من أكثر الشخصيات تأثيراً في الدراما السورية والكوميديا، إذ مثّل جوهراً لا يمكن تجاوزه.

في العلاقة الجدلية بين هؤلاء الثلاثة، ينبثق أثر إنساني خاص لا يحمل طابعاً فنياً أو تعاونياً، بل إنسانياً بامتياز. هذه القصة ستتحول إلى مدار فكرة مكررة لكثيرين ممن أخفوا ثواراً، أو خبأوا هويتهم كالكتّاب، أو قدموا المال لدعم أم معتقل. إنها شهادة على شجاعة فردية في بلاد يُجبر فيها النظام الناس على القمع التعاوني الإجباري، حيث يُحول الخوف الجمعي المُسيّر إلى أداة طيّعة لفرض هيمنته على تفاصيل الحياة برمتها. ومع ذلك، يظهر اتساع الهامش الإنساني للمقاومة، من خلال أفعال صغيرة لكنها شجاعة تُعيد تعريف النضال الإنساني، وتبرهن على أن الروح البشرية قادرة على تجاوز القمع مهما بدا قوياً. ما يكون جديراً في القصة أنها فتحت باباً للكثير من السوريين ليكونوا شركاء في حدث كبير، خصوصاً أن بعض لتفاصيل الصغيرة أنقذت حيوات البشر.

المدن

——————————–

المسيحيون في سوريا: عقلية “الملة” أم فضاء الدولة الرحب؟/ الياس طعمه

الأربعاء 2025/01/01

لقد سُمي المسيحيون أيام السلطنة العثمانية بالملة. وتشير الكلمة اصطلاحاً إلى كل “الرعايا” غير المسلمة التي تعيش ضمن الإمبراطورية العثمانية المسلمة. إبان القرن التاسع عشر الميلادي صدر “نظام الملة” ضمن الإمبراطورية العثمانية وهو نظام يلحق كل شخص في المجتمع بديانته وبرئيس ملته الذي يرتبط مباشرة مع “ملة باشا” في القسطنطينية (اسطنبول اليوم).

وقد امتدح كثيرون هذا النظام الإداري، منهم الفيلسوف جو لوك في كتابه “رسالة في التسامح”. طبعاً، لم يكن ليخفى على كثيرين أن باطنة هذا النظام هي سياسيةٌ واقتصاديةٌ بالدرجة الأولى، حيث كانت الكنيسة تجمع “الخوة” من رعاياها الذين تمثلهم طائفياً أمام السلطات مقابل بعض الميزات الخاصة أو “الحقوق” كمقايضة عن غيابهم عن كل مفاصل الحكم القضائية والتشريعية والسياسية.

بعيداً عن الإطالة، ربما كان نظام الملة في زمانه مقبولاً نوعاً ما ولكنه عامرٌ وزاخرٌ بالسلبيات. فهو يرى في المسيحيين، وغيرهم طبعاً، مجرد “رعايا” أو “جاليات” فيما هم سكان البلاد قبل كثيرين. كما أنه يعتمد على تصنيف الناس، على خلفية إسلامية شرعية، إلى نوعين مسلمين (درجة اولى) وغير مسلمين (درجة ثانية)، وأن لهم بعض “الحقوق” التي تمّن عليهم الإمبراطورية بها لأنهم في حمايتها. والمفارقة أنها ليس حتى حماية مجانية بل حماية مدفوعة من خلال الخوات والضرائب وغيرها.

لقد جلب لنا نظام الملة كوارث كثيرة، ربما أشهرها “طوشة النصارى” في دمشق 1860 م. لقد شعر المسيحيون بحجم الظلم الكبير من جراء تطبيق هذا النظام.

إن الأنظمة الإدارية والسياسية في عصرنا الحالي تجاوزت هذا النظام بكثير. يكفي أن تنظر إلى دول قائمة في تأسيسها على المهاجرين، مثل كندا وأميركا واستراليا، لترى كيف أن “نظام المواطنة” هو الأساس لبناء دولة قوية وحضارية تنعم بالرفاه والاستقرار.

لكن المؤسف أن “نظام الملة”، وإن صار من الماضي، إلا أن نظام البعث الفاسد طبق على المسيحيين نسخة معدّلة منه كمن يدس السم في العسل. فكانت الدولة الفاسدة تعطي بعض الميزات الخاصه للمسيحيين (قانون الاحوال الشخصية على سبيل المثال) وتتركه تحت سلطة وإدارة الكنيسة وتقوم باختيار بعض الشخصيات الفاسدة والمحسوبة على البعث لتضعهم في بعض مفاصل الدولة لتقول أنها دولة لا طائفية! وأذكر في هذا السياق حديثاً سمعته من البطريرك الراحل هزيم عندما قال له حافظ الأسد في لقاء خاص، أراد بكلامه هذا أن يشتري ضميره، لقد عيّنا في الحكومة الجديدة أربعة وزراء مسيحيين، فجاوبه البطريرك على عجل: “لولا أن أسماءهم مسيحية لما عرفناهم من الأساس”!

خلاصة القول، إن فكرة “الملّة” ساقطة لاهوتياً ووطنياً واجتماعياً الا أنها ما زالت تعشعش في عقول وأفكار المسيحيين. مازال المسيحيون حتى بعد تحرير سوريا من نظام الأسد الظالم يطالبون بحقوقهم! وكأن لهم حقوقاً خاصة يهمهم تأمينها ومن بعدي الطوفان. والانكى من هذا وذاك، أن تلك المسماة حقوقاً لا تتعدى “قرع أجراس الكنائس وإقامة الشعائر الدينية وأشجار الميلاد…”. عجبي! كيف ينسى المسيحيون من هم؟ عجبي! كيف ينسى المسيحيون السوريون أنهم قدموا لسوريا نخبة المفكرين والسياسيين. إن كان أحد لا يعرف من نحن، فنحن نعرف من نكون! نعرف فرنسيس وماريا المراش وقسطاكي حمصي وميخائيل زريق والسقال وغيرهم ممن كانوا رواد تيار النهضة العربية. نعرف ميشيل كيلو ومي سكاف وغيرهم.

توقفوا أيها المسيحيون عن المطالبة بحقوق خاصة. الحقوق، كل الحقوق، تمنحها لكم الدولة العصرية الجديدة والحرة القائمة على المواطنة.

أيها المسيحيون أنتم في الكنيسة تصلون للمسيح وتعيشون الإنجيل لتخرجوا إلى المجتمع وتنخرطوا فيه وتصنعوا مستقبلكم بأيديكم. انتم لستم بحاجة إلى وكلاء عنكم، ولا انتم خرافاً بحاجة إلى راعٍ. انتم رعاة أنفسكم وقادتها في الحراك السياسي وفي المجتمع، لأنكم أحرار بالمسيح الذي تحملون فكره في عقولكم. إن الكنيسة تنتظر منكم أن تمثلوها وليس العكس. دور الكنيسة أن تساعدكم في وضع كلمات الانجيل على شفاهكم، وأفكاره في عقولكم لكي تستلهموا منه الحق و”الحق يحرركم” لتكون سوريا حرة بكم جميعاً.

المدن

————————-

سنة.. من دون الأسد ونصرالله؟/ وليد بركسية

الثلاثاء 2024/12/31

مع بداية العام 2024، لم يكن أحد ليتخيل أن يحتفل العالم برأس السنة الجديدة مع شرق أوسط جديد من دون رئيس النظام السوري بشار الأسد أو زعيم “حزب الله” حسن نصرالله. كانت هذه الأسماء، التي ترمز إلى القوة والسيطرة، تبدو راسخة وغير قابلة للزعزعة، في نظر أنصارهما على الأقل، وتجسيداً لهياكل سياسية صمدت أمام الحروب والعقبات والثورات الشعبية والعقوبات الدولية، لكن مع اقتراب نهاية العام، رحل كلاهما، وبقيت الدول التي كانت تحت سيطرتهما هياكل هشة بانتظار من يملأ الفراغ، خصوصاً في سوريا التي سيطرت عليها فصائل المعارضة بمشاركة تنظيمات إسلامية متطرفة.

والسقوط المدوي للرجلين يرسم صورة غير مألوفة للشرق الأوسط، كان في الواقع حتمياً وبدأ قبل سنوات بانتظار لحظته التي عاشها العالم بين أيلول/سبتمبر وكانون الأول/ديسمبر. وترجع تلك الحتمية إلى انعدام الشرعية في كلا الحالتين اللتين تشكلان مثالين متمايزين في كيفية إدارة الدولة غير الديموقراطية، بين المركزية الوحشية في دمشق والدولة داخل دولة في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث معقل “حزب الله” الذي وصف دائماً في الأدبيات السياسية على أنه واحد من أقوى الجماعات المسلحة غير الحكومية في العالم.

ورغم الفرح اللحظي بالتغيير الذي غمر وسائل الإعلام حول العالم ومواقع التواصل، إلا أن استمراره يبقى مرهوناً بإمكانية حدوث انفراجات سياسية تنهي عقوداً من الأزمات وعدم الاستقرار، سواء في لبنان أو في سوريا كدولتين ارتبط مصيرهما بشكل معقد بعد الاستقلال عبر تدخلات سياسية وعسكرية وتوترات، خصوصاً في عهد حافظ الأسد الذي كان يفرض نفوذه على الجار الصغير لفترة طويلة من الوجود العسكري والوصاية التي تنظر لها أطراف لبنانية حتى اليوم على أنها احتلال.

بعكس ذلك، كان “حزب الله” الذي أنشأته إيران في ثمانينيات القرن الماضي كذراع لها في المشرق، عراب نظام بشار الأسد منذ مطلع الألفية الجديدة، حين وصل بشار الأسد للسلطة بعد أسابيع من انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، والدفعة التي أخذها الحزب محلياً من ذلك الحدث المؤطر بوصفه انتصاراً، وغادر الأسد السلطة بعد أسابيع من اغتيال إسرائيل للأمين العام للحزب حسن نصرالله وتصفية أبرز قادته العسكريين والسياسيين وتحييد آلاف من مقاتليه في حادثة تفجير أجهزة “البايجر”.

هذا الارتباط الذي حكم الدولتين أعطى زخماً للجانبين، تحديداً للجانب السوري الذي عاش على “إنجازات” الحزب، خصوصاً انه كان متخبطاً في علاقته بلبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ثم الانسحاب من بيروت، والعزلة الدولية التي ساهمت أسماء الأسد في فكها عن نظام الأسد خلال جنازة بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني عندما رفض زعماء العالم الحديث مع بشار الأسد وحتى الوقوف معه لاتهامه بإعطاء الأوامر لعملية الاغتيال. وبعدها تدخل “حزب الله” لجانب النظام السوري عسكرياً ضد الشعب الذي طالب بالحرية والإصلاح السياسي العام 2011، وكان قوة أساسية أطالت عمر النظام الذي تحول بعد الثورة إلى نسخة كارتونية عما كان عليه قبلها، وحكم فقط عبر سياسة الأرض المحروقة متحولاً إلى عصابة مخدرات بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

ومع نهاية 2024 ترك الثنائي السابق فراغاً، لدرجة القول أن محور الممانعة الذي كانت تقوده طهران اهتز لدرجة يمكن فيها أن يتفكك كلياً، وليس واضحاً إن كان تأثير ما حصل سيتمدد نحو دول أخرى كإيران، التي واجهت العام 2022 أكبر انتفاضة شعبية ضدها منذ الثورة الإسلامية التي أوصلت رجال الدين المتشددين للسلطة، بعد مقتل الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق بتهمة عدم الالتزام بقوانين اللباس الصارمة، فيما ردت السلطة هناك بمزيد من القيود على النساء في موضوع الحجاب الإجباري تحديداً.

ومهما كان الجواب، فإن الواضح أن التوتر الحالي في سوريا بالتحديد يأخذ شكل استقطاب بشأن شكل الدولة المستقبلية، ليس فقط على المستوى الشعبي بل أيضاً على صعيد المواقف العربية والعالمية تجاه حكام دمشق الجدد، فيما يبقى مثال دول الربيع العربي التي خلعت دكتاتوريها الراسخين السابقين حاضراً، مع الثورات المضادة التي حصلت فيها لاحقاً وأطاحت بالتجارب الجديدة فيها، وعادت لتقديم نسخ أشد صلابة من الأنظمة التي تمت الإطاحة بها، بدليل تراجع الحريات بشكل مروع في كل من مصر التي يترأسها عبد الفتاح السيسي، وتونس التي يترأسها قيس سعيد.

ومع التأكيد على أن الأفراد قد يسقطون، فإن الأنظمة التي يمثلونها تظل قائمة. فالسياسات الطائفية، والحكم العسكري، والتدخلات الأجنبية ليست مجرد أدوات، بل هي أركان يصعب زعزعتها. وفي الحالة السورية ربما لا يكون هنالك كثير من الأمل لأن التجارب المماثلة التي نجحت في الانتقال الديموقراطي بعد ثورات شعبية وحروب أهلية، تبقى شبه معدومة بعد الحرب العالمية الثانية، في العالم ككل وليس فقط في الشرق الأوسط.

والأمر نفسه ينطبق على لبنان الذي لم ينجح حدث بحجم انفجار مرفأ بيروت العام 2020 الذي كان أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، في تحريك السياسة الراكدة القائمة على التقسيم الطائفي منذ الحرب الأهلية في البلاد منتصف سبعينيات القرن الماضي، لدرجة تجعل بالإمكان القول أن لبنان يشكل مستقبل سوريا، من ناحية عدم قدرته على الوصول إلى الاستقرار بعد كل السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العام 1990، وتحول أمراء الحرب بعدها إلى قادة سياسيين وزعماء محليين، فيما تعزز النخب السياسية سيطرتها بدلاً من إفساح المجال أمام تجديد ديموقراطي حقيقي.

وفي هذا المناخ الذي أفرز فجأة، يجد الأفراد أنفسهم وحيدين، متشبثين بهويات طائفية وأيديولوجية ضيقة، لعدم وجود دول تمثلهم أو سلطات ينتمون إليها، ويزيد ذلك من حدة الاستقطاب لدرجة تجعل من خطاب التخوين شائعاً، حتى بحق الأفراد الذين يتحدثون عن قيم يجب ألا تكون خلافية في مجتمعات صحية كالسلام والتعددية والديموقراطية، أو يطالبون ببديهيات مثل حقوق الإنسان والمساواة والتوقف عن ممارسات مروعة كالتعذيب والاعتقال التعسفي، فيما يبقى الهم الاقتصادي حاضراً وعائقاً ومحركاً للأزمات التي تقابل بالتهميش أمام “القضايا المصيرية” مثل الثورة ضد الطغيان أو المقاومة ضد “العدو الصهيوني”.

وفي هذا الجو، يبدو من الصعب مطالبة أحد ممن يحتفل بعيد رأس السنة، بالتحلي بالأمل أو التخلي عنه، لأن الأمل سواء كان حقيقياً أو مجرد وهم، يبقى مجرد إحساس بعيد عن المنطق ولا يضيف إلى الطاولة شيئاً، خصوصاً في بلدان عرفت عقوداً من التدخلات الخارجية والتهميش للمواطنين الذين قد يعتقدون أنهم أفراد غير مؤثرين، ومن هنا يجب التأكيد على أن التغيير الفعلي لا يتطلب فقط التخلص من الأسماء الراسخة ورموز الأنظمة الشمولية بقدر ما يتطلب إعادة تصور للحكم والمجتمع ومكانة الأفراد فيه، وهو ما يصعب تحقيقه، جزئياً بسبب عقود من الأدلجة.

في الوقت نفسه، فإن تفاقم المعاناة الفردية يخلق بيئة من الإحباط واليأس، حيث يصبح الحديث عن التغيير رفاهية لا يتحملها كثيرون. ويبقى هنالك أفراد يواجهون ذلك المناخ العدائي بإصرار، ويدعون إلى قيم التعددية والديموقراطية رغم كل التحديات، سواء في أوطانهم أو في المنافي، هم الأمل الوحيد للمنطقة مهما تم تخوينهم أو إطلاق صفات العمالة والرومانسية والانفصال عن الواقع عليهم، بسبب إيمانهم بأن الأمل هو القوة التي تدفع الشعوب إلى المقاومة والاستمرار في مواجهة أنظمة تبدو غير قابلة للتغيير. وإذا كان العام 2024 قد أظهر شيئاً، فهو أن التغيير ممكن، لكنه ليس كافياً من دون إرادة جماعية تقرر أنه يجب المضي قدماً في ذلك التغيير إلى الحد الأقصى.

المدن

——————————

استعادة ثورة السوريين عام 1925/ مشاري الذايدي

1 يناير 2025 م

جرت في السنة الراحلة 2024 وقائع كبرى وحوادث عظمى، غيّرت مشهد منطقتنا العربية وغير العربية، وكانت ذروة هذه الوقائع كسر «حزب الله» اللبناني، واغتيال صفوة قادته، وعلى رأسهم حسن نصر الله، وتصفية قادة «حماس» الكبار، كل ذلك حدث على يد إسرائيل.

غير أن السنة لم تغادرنا حتى كانت الواقعة الكبرى، والحادثة العظمى، بإسقاط حكم بشّار الأسد، الذي كان جسراً تعبر عليه الميليشيات إلى ديار العرب.

نهاية نظام الأسد، من الوالد للولد، كانت ثورة ثقافية اجتماعية، قبل أن تكون ثورة سياسية أمنية، بعد إنهاء عهدٍ أسديٍّ كئيبٍ جثم على صدور السوريين، ونثر شروره في المنطقة على مدى زُهاء نصف قرن.

بعد طيّ صفحة العهد الأسدي، ثار السؤال عن الحاضر والمستقبل: ما بعد الأسد؟

هذا هو السؤال الذي جوابه سيكون مفتاحاً للخير أو للشرّ – لا سمح الله – حسب صفاء نيّة الطبقة السياسية السورية الجديدة، ومدى إدراكهم لعظمة سوريا، وثراء ثقافتها وتاريخها وحضارتها وتنوّعها.

نحن الآن ندخل سنة 2025، وهنا ينبغي التذكير بهذا التاريخ السوري، قبل قرنٍ من الزمان، 1925 وهو سنة الثورة السورية الوطنية الرائعة ضد الاحتلال الفرنسي.

ثورة كان رمزها الأشهر سلطان باشا الأطرش، شيخ جبل الدروز أو جبل السويداء أو جبل العرب أو جبل الأحرار، كما وُصف.

من بيان الثورة الذي كتبه سلطان باشا الأطرش حينها، نتذكر هذه الفقرة: «لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارّة بين وطننا الواحد، وقسّمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير وحرية السفر حتى في بلادنا وأقاليمنا».

في العاشر من أبريل (نيسان) 1928، جرت الانتخابات، وفاز الوطنيون السوريون، وتشكّل دستورٌ ينصّ على أن حدود سوريا هي حدود اتفاقية «سايكس بيكو»، وأن نظام الحكم جمهوري، كما أكّد حرّية الأديان.

هل ينبغي على ثوّار اليوم في سوريا أن يتذكروا «روح» الثورة السورية لأجدادهم 1925 ويتنفّسوا عبير هذه الثورة ومعانيها النبيلة في الوحدة الوطنية، والبعد عن الخطاب المنغلق والتقوقع على الذات وتفضيل «الأهل والعشيرة» الآيديولوجية، على الهوية الوطنية الجامعة الرائعة؟!

هذا هو، كما قلنا، التحدّي الأكبر لحكّام سوريا الجدد، وإلا تكون قد ضاعت فرصة العمر لسوريا والسوريين.

عودوا إلى روح الأجداد قبل مائة عام.

الشرق الأوسط

——————————-

 صيدنايا “المسلخ البشري”: “تفاهة الشر” أم “امتثال اجتماعي”؟/ الحاج محمد الناسك

كشف سقوط نظام عائلة الأسد عن جانب من الفظاعات التي كانت تقترف في السجون والمعتقلات المنتشرة في سوريا ضد الشعب السوري خلال نصف قرن. ويعد سجن صيدنايا أو ما يسمى ”المسلخ البشري“، وأحدا من أبشع السجون. فقد ذكّر العالم بجرائم النازية وغيرها من الأنظمة الاستبدادية التي لا تقيم وزنا للإنسان.

26 ديسمبر 2024

مقدمة

تمكنت قوات المعارضة السورية، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، من اقتحام سجن صيدنايا سيء الصيت، والذي سمَّته منظمة العفو الدولية المسلخ البشري، في تقرير أعدته في 7 شباط/فبراير 2017، وتحرير كافة المعتقلين منه وذلك بعد دخولها العاصمة السورية، دمشق، وهروب الرئيس السوري، بشار الأسد. وقد نقلت وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي صورًا مروعة من السجن ذكرتنا بمقولة الفيلسوفة الألمانية اليهودية، حنا آرنت (Hannah Arendt) “تفاهة الشر”(the banality of evil).

لو قُدِّر للفيلسوف الفرنسي الشهير، ميشال فوكو (Michel Foucault) ، معاينة سجون النظام السوري البائد، وهندستها وما تحويه من زنازين تحت الأرض لراجع ما كتبه عن السجون وعن “البانوبتيكون” (Panopticon)(1)، وهو تصميم لسجن وضعه، في 1791، أحد أشهر فلاسفة عصر الأنوار الفيلسوف البريطاني جيرمي بينثام (Jeremy Bentham).

كل هذا يجعل المرء يتساءل: ما الذي دفع أناسًا إلى اقتراف تلك الجرائم، هل هم مجرد “أناس عاديين” ينفذون الأوامر، أم مجرمين تحركهم نوازع أيديولوجية وطائفية؟

سجن صيدنايا وهندسته

يقع السجن قرب دير صيدنايا على بعد 30 كيلومترًا شمال العاصمة دمشق، افتُتح سنة 1987 لاحتجاز آلاف السجناء من المدنيين أو المعارضين للحكومة أو السجناء السياسيين. ويُشار إليه بأنه أكثر السجون سريةً وقسوةً، وهو رمزٌ للتعذيب والاعتداء الجنسي والإعدامات الجماعية. يتميز سجن صيدنايا بتصميم فريد يجعله أحد أشد السجون العسكرية تحصينًا. يتكون كل مبنى من 3 طوابق لكل منها جناحان، ويحتوي الجناح الواحد على 20 مهجعًا جماعيًّا بقياس 8 أمتار طولًا و6 أمتار عرضًا، تتراص في صف واحد بعيدة عن النوافذ، لكن تشترك كل 4 منها في نقطة تهوية واحدة. نقطة المسدس هي منطقة تلاقي المباني الثلاثة، وهي النقطة الأكثر تحصينًا في السجن، توجد فيها الغرف الأرضية والسجون الانفرادية. وفيها كذلك حراسات على مدار الساعة لمراقبة المساجين ومنعهم من مشاهدة أي ملمح من ملامح بناء السجن أو وجوه السجَّانين. إن تصميم سجن صيدنايا يذكرنا بسجن بنثام المومأ إليه، وهو نوع من أبنية السجون عبارة عن “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسطها برج مراقبة”. تكون هذه الزنازين متاحة لمراقبة الحارس القابع في البرج ولكن لا يمكن للسجين معرفة فيما إذا كان الحارس يراقبهم في ذات اللحظة. إن هذه النظرة المحدقة الخارجية، من البرج، للسجين الغارق في الضوء تجعله يبدو موضوعًا خاضعًا للرقابة أي إنه يتم تشيئة الإنسان واختزاله إلى غرض مراقَب.

يقوم السجناء باستبطان هذه النظرة المحدقة الخارجية، من طرف الحارس في البرج، إلى نظرة محدقة داخلية، ويتحولون من مجرد مراقَبين إلى مراقِبين لأنفسهم. وهكذا حتى لو لم يكن الحارس في البرج وزالت العين المحدقة الخارجية فإن هذه العين المحدقة الداخلية ستظل تراقبهم، وسترافقهم حتى لو خرجوا من سجن “البانوبتيكون”.

إن الهندسة، وفقًا لميشال فوكو، ليست علمًا رياضيًّا خالصًا ولا فنًّا مجردًا، ولكنها هي هذه المعارف والإبداعات الموظفة في خدمة مفاهيم الانضباط(2). ويقول فوكو: إن الدولة الحديثة، العاقلة المستنيرة، قد شكَّلت مجتمعها على هيئة “بانوبتيكون” ضخم. هذه الدولة العاقلة المستنيرة، فما بالك بدولة عائلة الأسد!

لقد أوضح فوكو جوهر العقاب الحديث من خلال وصف تصميم بنثام، ففي نظره فإن “البانوبتيكية” (نسبة إلى “البانوبتيكون”، وهي مصطلح آخر جديد) كناية عن جميع أشكال السلطة الحديثة في أكثر صورها خبثًا: في نهاية المطاف، سوف يستوعب السجناء في “البانوبتيكون” مراقبة الحارس المستمرة ويصبحون حراسًا على أرواحهم.

إن نظام سجون الأسد فريد في نوعه تجاوز “البانوبتيكية” بشكل لا يخطر على بال ويفوق الخيال. وبما أن سجن صيدنايا يشكل أبشع نموذج لهذا النظام، فيمكن أن ننسج على منوال فوكو ونسميه “الصيدناتكية”؛ لأن السجان لا يملك سلطة مراقبة السجناء، والحصول على الإتاوات من ذويهم فحسب، إنما كذلك صلاحية مطلقة لتعذيبهم أبشع أنواع العذاب وقتلهم دون رقيب أو حسيب.

صيدنايا: “تفاهة الشر” أم “امتثال اجتماعي”؟

إن الجرائم التي اقترفها نظام الأسد في حق الشعب السوري في سجن صيدنايا وفي غيره من السجون روعت العالم كما روعته من قبل قيام أمة أوروبية “حديثة” و”متحضرة”، ألمانيا، بتنفيذ إبادة جماعية منهجية للملايين شكَّلت موضوعًا خصبًا لدراسات من تخصصات شتى. ومن الأمثلة المثيرة للعواطف التي تحيط بالتفسيرات المتضاربة في هذا المجال ما حدث في تسعينات القرن العشرين مع نشر كتابين رفيعي المستوى، وهما: كتاب كريستوفر براونينج، “كتيبة الشرطة الاحتياطية 101 والحل النهائي في بولندا” (Christopher Browning, Ordinary Men: Reserve Police Battalion 101 and the Final Solution in Poland)، الذي صدر في 1992، وكتاب “جلادو هتلر الراغبون في التنفيذ: الألمان العاديون والمحرقة” (Daniel Jonah Goldhagen, “Hitler’s Willing Executioners: Ordinary Germans and the Holocaust)، الصادر في 1996. وقد كُتب هذا الكتاب الأخير في جزء كبير منه رد فعل على براونينج. تصارع كلا الباحثين مع القضية التي تناولتها الفيلسوفة حنا أرندت في عبارتها التي لا تُنسى “تفاهة الشر”: ما الذي جعل “أشخاصًا مثلنا” من المواطنين الملتزمين بالقانون، ورواد الكنيسة الأتقياء، وأفراد الأسرة المخلصين، يتغاضون أو يتعاونون بنشاط في القتل الجماعي لأشخاص لم يُلحقوا بهم أي أذى؟

تستند دراسة براونينج على مجموعة من السجلات، وهي عبارة عن استجوابات قضائية في ستينات القرن العشرين لـ125 عضوًا من كتيبة الشرطة الاحتياطية 101، وهي سرية من جنود الاحتياط الألمان الذين نفذوا أوامر بإطلاق النار وقتل حوالي ثمانية وثلاثين ألف يهودي بولندي في عشرات المواقع المختلفة بين عامي 1942 و1943. كان أبطال براونينج “عاديين” بالفعل: رجال في منتصف العمر من ذوي المكانة المتواضعة من مدينة هامبورج الألمانية، وكان معظمهم يشغلون وظائف من ذوي الياقات الزرقاء في الحياة المدنية. وكان ربعهم فقط ينتمون إلى الحزب النازي عند قيامهم بأول عملية لهم، في 13 يوليو/تموز 1942، في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم أبلغهم قائدهم بالمهمة غير السارة التي كانت تنتظرهم: كان عليهم إطلاق النار على حوالي 1500 يهودي. وأخبرهم وهو مستاء بشكل واضح أن أيًّا من الرجال الأكبر سنًّا من بينهم يمكنه الانسحاب من المهمة إذا شعر بعدم قدرته على تنفيذها. من أصل كتيبة قوامها حوالي خمسمئة فرد، رفض عشرات فقط في البداية المشاركة؛ وخلال اليوم، طلب حوالي 10 إلى 20% آخرين إعفاءهم من المهمة التي وجدوها مرهقة عاطفيًّا. وساد النمط نفسه مع تنفيذ الوحدة المزيد من المجازر حتى نوفمبر/تشرين الثاني من 1943: لم تطلب سوى أقلية صغيرة فحسب إعفاءها من المشاركة، على الرغم من أنه لا يوجد دليل على أن أيًّا من المجندين كان سيواجه أي عواقب سلبية لاختياره عدم المشاركة، باستثناء شعوره بالخجل من التهرب من “واجبه”.

حدد “براونينج” في النهاية العامل الحاسم في ديناميكيات الكتيبة؛ فقد اختار 80 إلى 90 بالمئة من الرجال الذين نفذوا عملية القتل، على الرغم من نفورهم من المهمة وامتلاكهم خيار الرفض، القيام بذلك بدافع احترامهم للسلطة وخوفهم من أن يتم رفضهم من قبل إخوانهم إذا رفضوا تحمل نصيبهم من الواجب غير السار. لم يرغبوا بشكل خاص في إطلاق النار على الضحايا، ولكنهم لم يرغبوا بشكل خاص في أن يتجنبهم الرفاق والرؤساء الذين كانوا يشكلون في هذه المرحلة عالمهم بأكمله. وبالتالي، فإن استنتاجات براونينج لا تتعلق بـ”تفاهة الشر” بقدر ما تتعلق بالآثار المروعة للامتثال الجماعي.

أثار قرار “براونينج” بعدم إبراز الدوافع المعادية للسامية حفيظة عالم سياسي شاب من جامعة هارفارد، وهو دانيال جوناه جولدهاجن، الذي نشر مراجعة لاذعة لكتاب “Ordinary Men … ” في الصحافة الشعبية، واشتكى من أن “براونينج” يأخذ تصريحات أعضاء الكتيبة على ظاهرها، وبالتالي “يقلل من معاداة الألمان الفريدة والعميقة الجذور للسامية إلى أكثر من مجرد مظهر واحد من مظاهر ظاهرة نفسية اجتماعية مشتركة”، وكتب أن هؤلاء لم يكونوا “رجالًا عاديين” بشكل عام، بل “أعضاء عاديين في ثقافة سياسية غير عادية”. وبعد أربع سنوات نشر “جولدهاجن”، الذي يرى معاداة السامية القاتلة بحماسة على أنها مكوِّن أساسي في الثقافة الألمانية منذ قرون، كتابه المومأ إليه.

إن أطروحة كتاب “جولدهاجن” صريحة وواضحة: “كانت معتقدات الألمان المعادية للسامية تجاه اليهود هي العامل الرئيسي في جرائمهم ضدهم. والاستنتاج الذي توصل إليه هذا الكتاب هو أن معاداة السامية حرَّكت عدة آلاف من “الألمان العاديين” وكانت ستحرك ملايين آخرين لو كانوا في وضع مناسب لذبح اليهود”. يحدد الكتاب مصدر هذا الدافع المشترك على نطاق واسع للإبادة الجماعية فيما يصفه المؤلف بأنه تقليد ألماني لم ينقطع منذ العصور الوسطى يعتقد أن التأثير اليهودي كان سامًّا وأنه يجب إزالة اليهود من المجتمع الألماني. ويجادل بأن الباحثين يخطئون الهدف عندما يتساءلون بشدة عن سبب وجود كثير من أعضاء ثقافة يفترض أنها عقلانية ومستنيرة قادرين على فعل ما فعلوه. ويؤكد أن الألمان لم يكونوا “طبيعيين”، ولم يكونوا “أناسًا مثلنا”؛ فقد تسممت ثقافتهم بمعاداة السامية.

يتوصل “جولدهاجن” إلى استنتاج معاكس، وهو أن السواد الأعظم من أفراد الكتيبة 101 التابعة للشرطة الذين شاركوا في القتل لم يكن دافعهم ضغط الأقران أو الطاعة أو النزعة المهنية، بل الرغبة النشطة في ذبح اليهود(3).

بناء على ما سبق وجوابًا عن سؤال هذا التعليق، هل تنطبق عبارة “تفاهة الشر” لحنا آرنت، في وصفها لأفعال المجرم النازي، كارل أدولف إيخمان (Karl Adolf Eichman)، على جلادي “المسلخ البشري”، صيدنايا بعد أن عمل نظام الأسد الشمولي على مسخ الإنسان السوري كما فعل النظام النازي الألماني، الذي درسته الفيلسوفة آرنت، بالإنسان الألماني، وحوله من فاعل إلى كادح، وجعله محصورًا بما يحتاجه لقوته دونما ما يجب أن يفعله باعتباره حرًّا؛ لذلك أطلقت آرنت عبارة “تفاهة الشر”، وصفًا لما قام به إيخمان من إبادة بصورة لا تتضمن شرًّا متجذرًا في ذاته بل لتفاهته؛ لأن السلطة التوليتارية (الشمولية) تجعل مرتكبي الجريمة بإيعازها لا يشعرون بفظاعتها ومأساويتها، وإنما بأنها أمر عادي، وما القائم بهذه الجرائم إلا أداة لها لا يعي مسؤوليته تجاه الإنسانية بل تنفيذه قرارات إدارية وبطاعة عمياء لا غير(4)  أم أن ما اقترفه مجرمو صيدنايا في حق الشعب السوري من جرائم مروعة كان، بدافع احترامهم للسلطة وخوفهم من أن يرفضهم إخوانهم إذا رفضوا تحمل نصيبهم من الواجب، كما ذهب إلى ذلك براونينج. ولم يرغبوا بشكل خاص في اقتراف ما اقترفوه، ولكنهم لم يرغبوا بشكل خاص في أن يتجنبهم الرفاق والرؤساء الذين كانوا يشكلون في هذه المرحلة عالمهم بأكمله؟

يبدو أن جلادي صيدنايا لم تكن لهم حرية الاختيار، التي كانت لمجرمي النازية، وفقًا لبراونينج، لكن يمكن أن نزيد على ما سماه براونينج “الامتثال الجماعي”، “الامتثال الطائفي”؛ فالأقلية التي كانت تحكم سوريا كانت تحركها نوازع طائفية تجاه الأغلبية؛ لأنها كانت تراها تشكل خطرًا وجوديًّا عليها. أم أنهم كانوا يفعلون ذلك بدافع الرغبة النشطة في تعذيب وقتل السجناء، كما كان يفعل النازيون، وفقًا لاستنتاج جولدهاجن؟

إن ما اقترفه مجرمو نظام الأسد طوال نصف قرن من الجرائم يحتاج إلى دراسة معمقة لمعرفة دوافعهم الحقيقية، اعتمادًا على شهاداتهم وشهادات الضحايا والوثائق المتاحة، حتى يتسنى الوصول إلى نتائج موثوقة. فبراونينج وجولدهاجن فحصا الأدلة نفسها، وسألا الأسئلة نفسها، لكنهما توصلا إلى استنتاجات مختلفة تمامًا. فالمؤرخون البارزون الذين درسوا الإبادة النازية يتفقون، كما تقول المؤرخة سارة مازا (Sara Maza)، على أن الطريق إلى الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون كان طريقًا ملتويًا ينطوي على العديد من الحالات الطارئة، وليس خطًّا مستقيمًا من كراهية اليهود إلى الإبادة.

نبذة عن الكاتب

الحاج محمد الناسك

باحث في مركز الجزيرة للدراسات. حاصل على الدكتوراه فــي التاريــخ المعاصر. له أبحاث منشــورة في مجلات محكمة منها مجلة “تبين” للدراســات الفكرية والثقافية التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراســة السياســات، ومجلة “هيسبريس تمودا” التي تصدرها جامعة محمد الخامس بالرباط. من أعماله كتاب “ذكريات أحمد الريسوني: من رعي الغنم إلى رئاسة اتحاد العلماء”، وشارك بفصول في عدد من الكتب، منها: “الجزيرة تروي قصتها: دراسات في العمق”، و”تاريخ المغرب المعاصر: الماضي والزمن الراهن”، وأنتج عددًا من البرامج والأفلام الوثائقية، منها: “الجزيرة نهج فريد”.

مراجع

(1)  شكل معماري لسجن، نشر رسوماته جيرمي بنثام يتألف من هيكل دائري ذي سقف زجاجي يشبه الخزان مع زنازين على طول الجدار الخارجي متجهة نحو مَبْنَى مستدير تعلوه قبَّة؛ وكان بإمكان الحراس المتمركزين في المبنى إبقاء جميع النزلاء في الزنازين المحيطة تحت المراقبة المستمرة. على الرغم من أن فكرة بنثام المبتكرة لم يتم تبنيها بالكامل في خطط المؤسسات العقابية التي تم بناؤها في ذلك الوقت، إلا أن خطته الشعاعية كانت مؤثرة على الفور، وكان لتصميمه تأثير واضح على البناء في وقت لاحق. على سبيل المثال، يتضمن مركز ستيتفيل الإصلاحي، وهو سجن بالقرب من سجن جولييت بولاية إلينوي في الولايات المتحدة، السمات الأساسية لـ”البانوبتيكون”.

“Panopticon penal architecture”, Britannicam. https://www.britannica.com/technology/panopticon

 (2) ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة ولادة السجن، ترجمة علي مقلد، مراجعة وتقديم مطاع صفدي، بيروت، مركز الإنماء العربي، 1990، ص 36 (مقدمة المُراجع).

للاستزادة من هذا الموضوع، انظر الصفحة 138 وما بعدها من كتاب،

(3) Sarah Maza, Thinking about History, The University of Chicago Press, Chicago and London. 2017.

(4) لتراجع الترجمة العربية لكتاب حنا آرنت بعنوان، “إيخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر” ص 17-19.

————————–

الدولة العميقة في سوريا.. حقيقة أم مبالغة؟/ محمود سلطان

1/1/2025

في مقابلة مع The Hill أُجريت عام 2017 قبل عدة أسابيع من تنصيب ترامب، وصف زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ـ آنذاك ـ تشاك شومر ترامب بأنه “غبيٌ حقًا” لانتقاده المتكرر لوكالة المخابرات المركزية، قائلًا: “اسمح لي أن أخبرك، عندما تهاجم مجتمع الاستخبارات، لديهم ست طرق للانتقام منك”. واعتبر العديد من المعلقين، وكذلك اتحاد الحريات المدنية الأميركية هذا البيان دليلًا على وجود ما يسمّى بـ”دولة عميقة”.

ويعتقد على نطاق واسع، أن مصطلح “الدولة العميقة”، صاغته تجربة الصراعات السياسية على السلطة بتركيا، في تسعينيات القرن العشرين، ولكن بدأ استخدامه للإشارة إلى “الحكومة الموازية” في الخبرة الأميركية، بما في ذلك أثناء تجربة أوباما.

بيد أن تقارير صحفية أميركية تواترت على أنّ لهذا المصطلح سوابق تعود إلى خمسينيات القرن العشرين على الأقل، بما في ذلك مفهوم المجمع الصناعي العسكري الذي يفترض وجود عصابة من الجنرالات ومقاولي الدفاع الذين ينتفخون ثراءً من خلال دفع البلاد إلى حروب لا نهاية لها.

وتشير استطلاعات الرأي التي أجرتها أيه بي سي نيوز عام 2017، وشبكة سي إن إن عام 2018 إلى أن ما يقرب من نصف الأميركيين يؤمنون بوجود دولة عميقة في الولايات المتحدة.

ووَفقًا لنظرية المؤامرة السياسية الأميركية، فإن الدولة العميقة هي شبكة سرية من أعضاء الحكومة الفدرالية (خاصة داخل مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة المخابرات المركزية)، يعملون بالاشتراك مع كيانات وزعماء ماليين وصناعيين رفيعي المستوى، لممارسة السلطة جنبًا إلى جنب مع أو داخل حكومة الولايات المتحدة المنتخبة، وذلك بحسب إفادة الصحفي الأميركي أوسنوس إيفان في النيويوركر.

ويصف الناشط الأميركي في مجال حقوق الإنسان جون إيبنر الدولة العميقة بأنها ” عالم سفلي غامض حيث تعمل عناصر قوية داخل الدولة، وخاصة الأجهزة العسكرية والأمنية، بالاشتراك مع جماعات متطرفة عنيفة.. فضلًا عن العالم السفلي الإجرامي غير السياسي، للقيام بعمليات خاصة غير قانونية لصالح النخبة الحاكمة في البلاد.

وفي منطقة الشرق الأوسط، ولعقود من الزمن، كان مصطلح “الدولة العميقة” يُطلق على تركيا على وجه التحديد، وكان ذلك إشارة إلى الجيش التركي وجهوده لإبطاء انتشار الديمقراطية هناك، كما استخدم لاحقًا في دول الربيع العربي، إذ يُعتقد أن تحالف القوى الأمنية والمؤسسات الخشنة، استعاد السلطة، بعد أن كادت أقرب ما تكون إلى يد المناضلين السياسيين من أجل الديمقراطية.

في السياق، فإن ثمة مخاوف مشروعة تستدعي، تجارب دول الربيع، كلما تطرق الحديث إلى سوريا بعد هروب الأسد، وما إذا كان “العالم السفلي/الدولة العميقة” التي ظلت العائلة الحاكمة، تؤسس لها وتتضخم مثل الورم في كل مفاصل الدولة الأسدية لما يزيد على خمسة عقود ـ وهي مدة “مخيفة” ـ قد تنتهي بمقاربة تستبعد الاستسلام السهل للواقع السوري الجديد.

عندما نقول إن التجربة السورية تختلف، فإن ذلك ليس من قبيل الادعاء الذي يتكئ إلى العواطف وليس إلى الحقائق على الأرض: فلا توجد بين الدول العربية التي انتصرت فيها ما تسمى بـ”الثورات المضادة”، أية تجربة تعدل الخبرة السورية وعمرها النضالي، ففي الأولى لم يتجاوز عمر الانتفاضات بضعة أيام، وفي الثانية “سوريا” تجاوز اثني عشر عامًا أو يزيد، والفارق في الفواتير المسددة عنفًا ودمًا وخبرة، يضع الأخيرة “السورية” في منزلة أعلى من مراتب “الحكمة” من فنون إدارة التناقضات، وإعادة ترتيب ما تخلفه الفوضى المتوقعة من أزمات.

لم يكن مفاجئًا، الانهيار السريع لكل مكونات الدولة العميقة المفترضة في سوريا ـ الجيش والأجهزة الأمنية ـ خلال عشرة أيام فقط، فكل تلك العناصر من مؤسسات خشنة، بكل تاريخها من الوحشية والتفسخ وغياب الانضباط، كانت منهكة وفاسدة، وتحولت إلى قوة كسولة واتكالية، تعتمد على البديل الأجنبي: روسيا وإيران وحزب الله والمليشيات الشيعية التي تدفقت إلى سوريا.

ومع الوقت وبالتراكم باتت محض هياكل شكلية خالية من أي معنى رسالي من معاني الدولة. وليس بوسعها بعد انهيار المؤسسات وتبخرها في ساعات، أن تنتظم كقوة خفية موازية تشاغب السلطة الجديدة المنتصرة في دمشق.

في المقابل، فإنه منذ التجميد النسبي للقتال النشط في عام 2020، كان لدى هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري ـ المرتبط بالحكومة السورية المؤقتة وتركيا ـ والقوات التي يقودها الأكراد في شمال شرق سوريا الوقت الكافي للتعلم وتعزيز صفوفهم.

لقد أمضوا السنوات القليلة الماضية في تدريب وإعداد قواتهم المسلحة، كما طوروا أنظمة حكم معقدة قادرة على تلبية احتياجات الملايين من الناس.

وفي مختلف أنحاء شمال سوريا، أقامت هذه الجماعات المعارضة وأجنحتها السياسية دولة في انتظارها، تضم وزارات للاقتصاد والتجارة والتعليم والشؤون الإنسانية، كما أنشأت الجماعات أنظمة تسجيل مدنية وأراضٍ خاصة بها، وهو الأمر الذي يعتبر عادة من اختصاص الدول المعترف بها فقط.

كان يوجد بحوزة قوى الثورة ـ إذن ـ مشروع دولة جاهز، لملء الفراغ المتوقع في المدن التي حُررت تباعًا، فإذا كانت الحاضنة الأمنية والعسكرية الوحشية للأسد قد انهارت بشكل مذل وفاضح ومخزٍ، فإن “سوريا ـ الدولة” لم تسقط لوجود بديل مكتمل وناضج تقريبًا، بكل حمولته الأخلاقية والإنسانية “الحانية”، كما يبدو لنا حتى الآن على الأقل.

كما أن وجود “إسناد إقليمي” له وزنه وهيبته ـ مثل تركيا ـ للنسخة السورية الجديدة، لا يمكن حذفه من أي تنظير يستشرف مستقبل أي وجود محتمل لـ “الدولة العميقة”. فتركيا ـ القوة الإقليمية العظمى في المنطقة ـ يقتضي أمنها القومي إنهاء حكم عائلة الأسد بكل تجلياته اللاحقة على انهياره، بشكل لا يقبل الترميم أو إعادة التدوير والتجميل أو العمل من خلال عُلب الليل السرية.

الدولة العميقة، لها شروطها ـ أن تظل المؤسسات القديمة بكل حمولتها من شبكات الفساد قائمة ـ والثورة السورية، تُعيد هندسة المشهد على نظافة ـ كما يقولون ـ وعلى النحو الذي يضيق المساحات على “الفلول” المشغولة الآن بالبحث عن الخروج الآمن من التصفية، أو الملاحقات القضائية المتوقعة: العفو أو العقاب.

————————-

سنوات سوريا الجديدة: ورشة واسعة وبطيئة/ رفيق خوري

إذا كانت القوى العربية والدولية تعمل حالياً على “تأهيل” الشرع للزعامة فعليها تعلم دروس التجربة لتجنب كوارث صنعها النظام الرئاسي المطلق السلطات

الأربعاء 1 يناير 2025 1:00

المطلوب بالفعل في سوريا هو أن تكون “المواطنة” عماد السلطة، والجميع مواطنون على قدم المساواة تحميهم دولة وطنية في نظام ديمقراطي.

تحديات العام الجديد أمام سوريا الجديدة لا حدود لها، وسوريا ليست من دون تجربة سياسية غنية قبل الوحدة وحكم البعث والإنقلابات العسكرية، تجربة سبقت الاستقلال وتلته في أربعينيات القرن الـ20 حتى انقلاب حسني الزعيم عام 1949، ثم جرت معاودة التجربة بعد سقوط حكم الشيشكلي السلطوي عام 1954، وكانت ذروة النجاح بين عامي 1954 و1958، إذ تشارك اليمين البرجوازي واليسار في نظام ديمقراطي برلماني ضمن أقصى حد من الحريات العامة، في إطار دستور مدني وتفاعل بين المجتمعين المدني والأهلي والأحزاب السياسية التي تمثل مجمل الطيف السوري. لكن هذا النظام الملائم لطبائع المجتمع وتنوعه صار ضحية أنظمة رئاسية شديدة ضربت التنوع وقمعت الحريات وألغت الحياة الحزبية على أيدي انقلابيين عسكريين ثم عسكريين ارتدوا الثياب المدنية، وكانت المرحلة الأقسى على مدى 54 عاماً من حكم عائلة الأسد.

وأسوأ ما يمكن أن يواجه سوريا الجديدة بعد سقوط حكم بشار الأسد فرض نظام رئاسي من نوع آخر، فالإمساك بالسلطة هو بداية طريق طويل متعرج وصعب، وليس أخطر من الإفراط في الإمساك بالسلطة وممارستها سوى الفلتان والفوضى. وإذا كانت القوى العربية والدولية تعمل حالياً على “تأهيل” أحمد الشرع للزعامة العامة، فإن عليها تعلم دروس التجربة لتجنب كوارث صنعها النظام الرئاسي المطلق السلطات والعودة لـ”تأهيل” تجربة النظام الديمقراطي البرلماني.

وليس من المتوقع أن تكون المرحلة الانتقالية في سوريا قصيرة أو سريعة كما حدث في العراق وليبيا وسواهما. والمقصود ليس المرحلة الانتقالية الأولى من سقوط النظام إلى “حكومة إدلب” في مارس (آذار) عام 2025، بل المرحلة الانتقالية المطلوبة لمشاركة التنوع السوري في السلطة وإنجاز الدستور قبل الانتخابات. فالتسرع في الانتخابات قاد إلى هيمنة على السلطة ولم يعكس دقة التنوع والتعدد، والمماطلة في الانفتاح الحقيقي هي بطاقة دعوة إلى حكم سلطوي توتاليتاري في قبضة طرف واحد يقوده زعيم أوحد. ولا بأس عند البدء في التطمينات إلى التسامح وحماية الأقليات والحرص على الجميع. لكن هذه في النهاية مطالب من نظام ديني، والمطلوب بالفعل هو أن تكون “المواطنة” عماد السلطة، فالجميع مواطنون على قدم المساواة تحميهم دولة وطنية في نظام ديمقراطي.

ولا مبرر لاستسهال الأمور، فالسقوط السهل للنظام أمام الفصائل المسلحة ليس صدفة، والعمل الصعب بعد السقوط السهل هو إدارة ما بعد السقوط، وسوريا تحتاج إلى “ورشة” واسعة طويلة ومعقدة يشارك فيها المواطنون في الداخل والأصدقاء في الخارج، ورشة لإعادة الإعمار في البنية التحتية وكل شيء وورشة لإعادة “إعمار” الدولة التي جرى ضربها لمصلحة النظام، وورشة للنهوض الاقتصادي والتنمية البشرية، وورشة للانتقال إلى جودة التعليم بعد عقود من المستوى الهابط للتعليم حتى في الجامعات، وورشة لإعادة إعمار البنية الفوقية الثقافية التي تسلّط عليها الفكر الواحد وحجب تنوعها الثقافي وفرض “التصحر” على الإبداع الأدبي والفني والفكري، وورشة لعودة الروح للسوريين وثقتهم بأنفسهم والبلد بعد مشهد المسالخ البشرية في السجون، وورشة لإعادة اللاجئين السوريين من الخارج واستعادة الكفاءات والكادرات السورية المهاجرة إلى البلدان المتطورة وورشة لمنع عودة “داعش” وكل “داعش” آخر.

وهذه الورشة المتنوعة أكبر من إمكانات أي إدارة عسكرية وإدارة مدنية وأكبر من قدرات تركيا وطموحاتها الجامحة المعرضة للتناقض مع التنوع السوري والاصطدام به وأكبر من مجرد الاستعدادات للمساعدة العربية والدولية، فهي في حاجة إلى كل هؤلاء وسواهم. ومفتاحها ليس في يد طرف واحد، وإن كان من يمسك بإعادة الإعمار يحمل مفتاح الضغط لبناء حياة سياسية حقيقية في سوريا ومنع الانفراد بالسلطة لدى أي طرف.

والتحديات هائلة بالنسبة إلى حماية الورشة الكبيرة من الفساد والفوضى، فما ظهر حتى الآن من تمرد و”حرب عصابات” هو ظاهرة لا بد من وضعها في الحسابات عند تغيير الدول، وحل جيش وأجهزة وميليشيات مسلحة في وضع اقتصادي واجتماعي بائس ووضع سياسي يائس. والقوى الخاسرة في الإقليم بسقوط النظام السوري لن تتورع عن أي محاولة لاستعادة ما خسرته أو بعضه، والمناخ ملائم لعصابات على شكل “داعش”.

والأقوى في سوريا ليس القوي بقوة الفصائل بل الحكيم القادر على جمع كل الأطياف السورية في ورشة الإعمار والحكم.

والدرس تقدمه أستاذة العلوم السياسية شيري برمان في كتاب “ديمقراطية وديكتاتورية في أوروبا: من النظام القديم إلى اليوم” بالقول إن “الديمقراطية الليبرالية لا تحدث فقط بفعل رجال ونساء عظام بل أيضاً نتيجة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة، ولكي تنجح فإنها تحتاج إلى وحدة وطنية ودولة قوية”.

———————————–

أسلحة سوريا الكيماوية لا تزال في مخازنها/ غريغوري دي. كوبلنتز و ناتاشا هول

كيف ندفع بحكام البلاد الجدد للمساعدة في إزالة ترسانة الأسد القاتلة

الأربعاء 1 يناير 2025

شمل البرنامج الكيماوي العسكري لنظام الأسد أسلحة ومعدات وأعتدة وعناصر للتصنيع، إضافة إلى خبراء ومتخصصين بها. لا يستطيع أي عمل عسكري إزالة تلك الأخطار بل يتوجب على الغرب التعاون بصورة إيجابية وواسعة مع حكومة دمشق الجديدة بغية التوصل إلى تحقيق ذلك الهدف.

أطيح بالرئيس السوري بشار الأسد بعد حرب أهلية استمرت 13 عاماً. وقد انهار نظام الأسد بسرعة أكبر، وبمقدار أقل بما لا يقاس من إراقة الدماء، مما توقعه الجميع. وعلى نحوٍ خاص، بدا مدهشاً أن ينتهي ذلك النظام بأنين وليس عبر سُحب من الغازات السامة. وأثناء مسار الحرب الأهلية الوحشية في سوريا، استخدم الأسد الأسلحة الكيماوية أكثر من 300 مرة ضد شعبه، ما تسبب في سقوط آلاف الضحايا. وقد تمثل أسوأ تلك الهجمات بوابل من الصواريخ المملوءة بغاز الـ”سارين” Sarin التي أطلقت على ضاحية الغوطة بدمشق في أغسطس (آب) 2013 وأسفرت عن مقتل نحو ألف وأربعمئة شخص. وقد تحولت الصور المؤلمة لصفوف من الجثث الصغيرة المغطاة بملاءات بيضاء، بما فيها ما يصل إلى الأربعمئة طفل الذين تسمموا في تلك الضربة، إلى رموز أيقونية عن قسوة نظام الأسد.

ولحسن الحظ، لم يتكرر مشهد مماثل مع تقدم جماعات الثوار نحو دمشق كجزء من هجومهم الخاطف. وعلى رغم رحيل الأسد، إلا أن شبح الأسلحة الكيماوية لا يزال مسيطراً على سورية. وقبل عام 2013، قدرت أجهزة الاستخبارات الغربية أن سورية تمتلك إحدى أكبر الترسانات الكيماوية عالمياً التي تشمل غازات الخردل Mustard و”في إكس” VX والـ”سارين”. وفي أعقاب هجوم الغوطة، دمرت سورية تحت إشراف دولي، مخزونها المعلن عنه من تلك الأسلحة إلا أنها فشلت في تقديم كشف موثق عن أطنان من مكونات غاز الأعصاب، ومئات الأطنان من غاز الخردل وآلاف الذخائر الكيماوية التي أنتجتها قبل عام 2013.

وإضافة إلى ذلك، ثمة دلائل مقلقة على أن النظام سعى إلى إعادة بناء برنامجه عن الأسلحة الكيماوية من خلال استيراد مكونات غاز الأعصاب “في إكس”، وإعادة بناء منشآت إنتاجها. ومهما بلغت كمية الأسلحة الكيماوية التي احتفظ بها الأسد بعد عام 2013، أو أنتجها منذئذ، فقد باتت الآن بلا حراسة، وقد تستولي عليها الحكومة الجديدة أو يسرقها متمردون أو جماعات إرهابية.

بالتالي، يتوجب على الولايات المتحدة أن تعطي الأولوية للعمل مع الحكومة السورية الجديدة والمنظمات الدولية وجماعات المجتمع المدني وحلفائها في المنطقة؛ بغية ضمان التخلص مما تبقى من الأسلحة الكيماوية السورية. ويفترض أن يجري ذلك بشكل مأمون ومضمون، مع الالتزام بمحاسبة جميع المسؤولين السوريين ممن ارتكبوا جرائم عبر مساعدة النظام في تنفيذ تلك الهجمات الكيماوية.

أخطار متجمعة

على مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية، كانت المنظمات الدولية تحاول التخلص من الأسلحة الكيماوية السورية. وفي عام 2013، بعيد هجوم الغوطة، وقع نظام الأسد “معاهدة الأسلحة الكيماوية” Chemical Weapons Convention التي تمنع امتلاكها. وتحت إشراف “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية” Organization for the Prohibition of Chemical Weapons، واختصاراً “أو بي سي دبليو” OPCW، المؤسسة الدولية المكلفة بتنفيذ تلك المعاهدة، دمر النظام مخزونه المعلن عنه من الأسلحة الكيماوية وضمنه ألف وثلاثمئة طن من الأسلحة الكيماوية ومكوناتها. وفي المقابل، حتى حينما انخرط النظام في تدمير أسلحته المعلن عنها، بدأ الجيش السوري باستخدام نوع جديد من الأسلحة الكيماوية، متمثلاً ببراميل الكلور المتفجرة، كجزء من حملته الوحشية ضد المعارضة.

ويضاف إلى ذلك أن تعاون دمشق مع “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية”، جاء محدوداً. وقد منع النظام “أو بي سي دبليو” من الوصول إلى بعض موظفيها، وتباطأ في عملية تدمير المكونات، ورفض الكشف عن المدى الحقيقي للأبحاث عن الأسلحة الكيماوية وإنتاجها واختبارها. ولم تكشف دمشق أبداً عن مصير 360 طناً مترياً من خردل الكبريت (ما يكفي لتعبئة آلاف القذائف المدفعية) التي تدعي أنها دمرتها في بداية الحرب الأهلية. وقد تأكدت الشكوك بأن سورية احتفظت بأسلحة كيماوية غير معلن عنها في أبريل (نيسان) 2017، حينما شن سلاح الجو هجوماً بغاز الـ”سارين” على بلدة خان شيخون التي سيطر عليها المتمردون آنذاك في شمال غربي البلاد، ما أسفر عن مقتل نحو مئة من المدنيين، بينهم ثلاثة وثلاثين طفلاً.

وبمساعدة موسكو، أطلق نظام الأسد حملة دعائية ضخمة ضد محققي “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية”، وكذلك العناصر المحلية التي عملت على جمع أدلة عن استخدام تلك الأسلحة. وبحسب ناجين من الهجمات الكيماوية، أجبرت الأجهزة الأمنية المدنيين، وقد فَقَدَ عديدون منهم أطفالهم في الهجمات، على ترديد أكذوبة أن الثوار استخدموا الغاز السام ضد مجتمعاتهم.

كذلك أدى التحقيق العنيد الذي نهضت به “أو بي سي دبليو” بشأن برنامج النظام السوري عن تلك الأعتدة، إلى إجبار الأخير على تعديل إعلاناته عنها 20 مرة، والاعتراف بوجود منشآت بحث وإنتاج عَملَ على إخفائها في السابق. وبحسب التقرير الأحدث الصادر عن “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية”، وقد نشر في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني)، فإن “كميات كبيرة من مكونات الأعتدة والذخائر الكيماوية” ما زالت غير موثقة. وأثناء اجتماع المجلس التنفيذي لـ”أو بي سي دبليو” خلال ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أعرب المدير العام للمنظمة السفير فرناندو أرياس عن قلقه من أن سورية قد تمتلك الآن أسلحة كيماوية “لا تقتصر على الذخائر المتبقية بل تشمل مكونات جديدة محتملٌ استخدامها في برنامج أسلحة كيماوية”.

وفي سياق متصل، قد تسعى الجماعات الإرهابية إلى تجنيد خبراء الأسلحة الكيماوية السوريين. وإذا أدى سقوط الأسد إلى مرحلة جديدة من الصراع، فقد تغدو الأسلحة الكيماوية للنظام السابق جائزة تسعى إليها جماعات متنافسة من ثوار المعارضة. وحتى الآن، أصدرت ثلاث من تلك الجماعات؛ “هيئة تحرير الشام” المنتمية سابقاً إلى تنظيم “القاعدة”، وقد قادت الثورة، وإثنين من الميليشيات في جنوب سوريا؛ بيانات تعهدت فيها بدعم الجهود الدولية للقضاء على الأسلحة الكيماوية المتبقية في البلاد. بالتالي، يتوجب على أحمد الشرع، زعيم “هيئة تحرير الشام” والحاكم الفعلي الجديد في دمشق، الذي تخلى عن علاقته بتنظيم “القاعدة” عام 2016، الاستفادة من هذا الالتزام والعمل مع “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية” بغية حل القضايا العالقة وتدمير أي أسلحة أو مرافق إنتاج لها.

وفي المقابل، حتى إذا أبدت القيادة الجديدة في دمشق، رغبةً في القضاء على الأسلحة الكيماوية المتبقية في سورية، فقد لا يتوافق ذلك مع رغبة جهات فاعلة أخرى في البلاد. ومثلاً، تشهد سوريا استمراراً في نشاط تنظيم “داعش” الإرهابي، الذي استخدم أسلحة كيماوية مرتجلة وبدائية الصنع في العراق وسوريا، بداية من عام 2014 وحتى طرده من الموصل عام 2017. ويضاف إلى ذلك خطر أن ينطلق تمرد ما يقوده الموالون للأسد أو العناصر المتطرفة من الأقلية العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد. ومن المحتمل أن تتمكن هذه الفصائل من الوصول إلى الأسلحة الكيماوية التي أخفاها النظام السابق. وكلما طال الوقت الذي قد تستغرقه الحكومة السورية الجديدة في تعزيز سلطتها وتحقيق الاستقرار في البلاد، يتزايد خطر نهب الأسلحة الكيماوية.

في الإطار نفسه، ثمة خطر من أن تعمد جماعات إرهابية أو دول أخرى، إلى تجنيد خبراء الأسلحة الكيماوية السوريين. وعلى مدار 40 عاماً من العمل ببرنامج الأسلحة الكيماوية، أتقنت سورية إنتاج مكونات غاز الأعصاب القاتل، وطورت ترسانة من الذخائر الكيماوية. وقد وظف برنامج النظام السوري للأسلحة الكيماوية نحو 300 عالم ومهندس، وبات عديدون منهم الآن يبحثون عن وظائف جديدة. ويشار إلى أن إيران وكوريا الشمالية لديهما برامج أسلحة كيماوية قد تستفيد من المعارف المتراكمة لدى أولئك النفر من المتخصصين. وكذلك قد تسعى جماعات إرهابية في سوريا أو مناطق أخرى إلى تجنيد هؤلاء المتخصصين الكيماويين إذا ما أضحوا مرتزقة؛ في تطوير أسلحة جديدة توقع إصابات جماعية.

حوافز مقابل التعاون

ليس من شأن العمل العسكري وحده أن يشكل استجابة ملائمة في مواجهة تلك الأخطار؛ على غرار مئات الغارات الجوية الإسرائيلية التي نفذت ضد البنية التحتية العسكرية السورية منذ انهيار نظام الأسد. وقد تُخطئ هجمات من ذلك النوع في تحقيق أهدافها، بمعنى الإخفاق في تدميرها بشكل كامل، إضافة إلى أنها قد تدمر الوثائق اللازمة لتعقب الأسلحة المخبأة.

بالتالي، ثمة ضرورة ملحة لزيارات مفتشي الأسلحة الدوليين بغية التحقق من مصير تلك الأسلحة والتأكد من عدم سرقتها، وكذلك الإشراف على تدميرها. في ذلك السياق، من شأن تدمير إسرائيل للبنية التحتية العسكرية السورية، بما في ذلك الأسطول البحري ومستودعات الأسلحة التقليدية، أن يضعف الدولة الجديدة بشدة ويخفض قدرتها على حماية البلاد من التهديدات الداخلية والخارجية. وربما يدفع ذلك بالسلطات الحاكمة إلى موقف تغدو فيه أقل حرصاً على التخلي عن كل الأصول العسكرية، وضمنها الأسلحة الكيماوية. وكذلك قد لا يجدي حتى استهداف إسرائيل لمنشآت الأسلحة الكيماوية المعروفة في دمشق، لأن النظام قد نقل على الأرجح مخزوناته إلى مواقع لا تعرفها “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية”.

بالتالي، يتوجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وشركائهما في المنطقة اتخاذ إجراءات عدة لمعالجة تهديد الانتشار الذي قد يحصل للأسلحة الكيماوية المتبقية في سوريا. أولاً، ينبغي بهم إيضاح أن دعمهم الاقتصادي والسياسي يتوقف على مدى استعداد الحكومة الجديدة للتعاون مع “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية” التي طلبت بالفعل من القيادة السورية الجديدة الإعلان عن جميع الأسلحة الكيماوية المتبقية ومرافق إنتاجها والسماح للمفتشين بالتحقق من تدميرها. وقد وافق الشرع علانية على التعاون مع “أو بي سي دبليو”، ولكن هناك خطر أن يعيد النظر في ذلك. ولربما مثل في ذهنه مصير الزعيم الليبي معمر القذافي، الذي امتلك إمكانية الوصول إلى الأسلحة الكيماوية لكنه فشل في استخدامها. ففي عام 2011، سحل القذافي في الشوارع وقتله الثوار بعد حملة عسكرية قادها حلف شمال الأطلسي “ناتو”. وفي المقابل، استخدم الأسد الأسلحة الكيماوية للمرة الأولى عام 2012 وبقي في السلطة طيلة إثني عشر عاماً أخرى قبل أن يغادر البلاد بصورة مريحة على متن طائرة إلى موسكو.

وكذلك يفترض بالولايات المتحدة وشركائها ثني الحكومة السورية الجديدة عن الاحتفاظ بالأسلحة الكيماوية للنظام السابق، بمعنى أنها يجب ألا تعتبرها بوليصة تأمين لقدراتها العسكرية المستنفدة، أو فاتورة تعويض عنها.

واستطراداً، يشكل استكمال التحقق من برنامج الأسلحة الكيماوية السوري وتدميره مهمة كبيرة. وتحتاج “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية” إلى مزيد من الموارد بغية ضمان القضاء السريع والآمن على الأسلحة الكيماوية السورية المتبقية. وقد تشمل تلك الموارد المطلوبة زيادة التمويل، ومفتشين إضافيين، وكميات أخرى من معدات الوقاية الشخصية، والأدوات المتخصصة اللازمة لتفتيش المخزونات الكيماوية وتدميرها. بالتالي، يشكل تعاون الحكومة السورية الجديدة، إضافة إلى وجود بيئة أمنية مستقرة، عاملين أساسيين لنجاح مثل تلك المهمة.

وبعد الثورة الليبية عام 2011، أوصلت الحكومة الجديدة في طرابلس معلومات إلى “أو بي سي دبليو” عن وجود أسلحة غير معلنة أخفاها القذافي عن المفتشين. وبطريقة مماثلة، ينبغي على الدول التي لديها معلومات عن أنشطة سورية في مجال الأسلحة الكيماوية، كإسرائيل والولايات المتحدة، أن تشارك تلك المعلومات مع “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية” على الفور. وفي حالة فقدان الأسلحة الكيماوية أو نهبها في فوضى ما بعد الأسد، قد يغدو متوجباً على الدول المهتمة تمويل برنامج مكافآت بهدف استعادة مواد الأسلحة الكيماوية المفقودة.

وأخيراً، يفتح سقوط نظام الأسد سبلاً عدة محتملة لمحاسبة المسؤولين الحكوميين السابقين والضباط العسكريين والعلماء المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية. وعلى رغم بقاء الأسد وعائلته في مأمن من الملاحقة القضائية طالما أنهم يتمتعون باللجوء في روسيا، إلا أن معظم المسؤولين السوريين الآخرين عن ارتكاب الفظائع الكيماوية ليسوا في وضعية مماثلة. بالتالي، يتوجب على الحكومة السورية الجديدة ومجموعات المجتمع المدني والشركاء الدوليين، إعطاء الأولوية لجمع الوثائق الحكومية التي توافرت لهم أخيراً، وقد تقدم أدلة على جرائم النظام. وفي الخطوة التالية، يجب اعتقال رسميين سوريين مسؤولين عن التخطيط للهجمات الكيماوية وتنفيذها، ومحاكمتهم أيضاً. وتشكل هذه الخطوات إجراءً ضرورياً ينبغي بالقيادة السورية الجديدة النهوض به بهدف صياغة إعلان شامل جديد يقدم إلى “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية”، إضافة إلى الحد من خطر انتشار تلك الأسلحة، وبدء عملية طويلة الأجل تسعى إلى تحقيق العدالة لضحايا فظائع الأسد الكيماوية. وإذا التزمت الحكومة السورية الجديدة بهذه الأهداف، فستحتاج إلى دعم قد يتخذ شكل أدلة وخبرات وموارد، من الحلفاء الأجانب والمجتمع المدني المحلي والمنظمات الدولية.

ولدى الولايات المتحدة مصلحة قوية في ضمان القبض على مجرمي الحرب السوريين وإدانتهم، الأمر الذي من شأنه أن يبعث برسالة إلى الآخرين مفادها أنه لا إفلات من العقاب على استخدام الأسلحة الكيماوية.

واستطراداً، تستطيع إدارة بايدن البدء في عملية تدمير الأسلحة الكيماوية السورية المتبقية، ودعم الجهود الرامية إلى محاسبة مرتكبي الهجمات الكيماوية على جرائمهم. ولاحقاً، سيقع على كاهل إدارة ترمب متابعة تلك الإجراءات. وقد أظهر الرئيس دونالد ترمب خلال ولايته الأولى التزاماً قوياً بإنفاذ القاعدة العالمية ضد الأسلحة الكيماوية. وآنذاك، في عامي 2017 و2018، أمر بتوجيه ضربتين صاروخيتين لمعاقبة دمشق على استخدام الأسلحة الكيماوية، ما أدى إلى إضعاف قدرتها على استخدام هذه الأسلحة وردعها عن شن هجمات مستقبلية.

ويضاف إلى ذلك أن إدارة ترمب فرضت حينئذ عقوبات صارمة على نظام الأسد بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان، وأوقعت عقوبات على 271 موظفاً في “مركز الدراسات والبحوث العلمية” Scientific Studies and Research Center الذي تولى المسؤولية آنذاك عن برنامج الأسلحة الكيماوية في سورية.

وأثناء ولايته المقبلة الثانية، يمتلك ترمب الفرصة لتعزيز إرثه كقائد أنهى آفة الأسلحة الكيماوية السورية. وكذلك تستطيع الولايات المتحدة وشركاؤها في المنطقة، عبر العمل مع “منظمة حظر الأسلحة الكيماوية” والحكومة الجديدة في دمشق، القضاء أخيراً على تهديد مخزونات سورية من الأسلحة الكيماوية وتعزيز المعايير المتبعة ضد تلك الأسلحة الهمجية.

غريغوري دي. كوبلنتز، مدير “برنامج الدراسات العليا في الدفاع البيولوجي” في “كلية شار للسياسة والحكومة”، بجامعة جورج ميسون.

ناتاشا هول، زميلة بارزة في “برنامج الشرق الأوسط” في “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”.

مترجم عن “فورين أفيرز”، 19 ديسمبر (كانون الأول) 2024

——————————-

ما جناه الأسد… من يغفر زمن الأخطاء؟/ حميدة أبو هميلة

ميراثه الدموي لعنة ستلاحق أبناءه مهما حاولوا التبرؤ والنسيان والاندماج في المجتمعات الجديدة

الأربعاء 1 يناير 2025

ملخص

كيف يؤثر الماضي المضطرب للآباء على مستقبل أبنائهم، سواء كان هؤلاء الآباء مطلوبين جنائياً أو لديهم عداوات تهدد حياة ذويهم؟

شخصيات مثل ماهر وأسماء وحتى رفعت الأسد، حصدت ولا تزال اهتماماً كبيراً من متابعي التطورات على الأراضي السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، وهم أشخاص يشكلون مع بشار عناصر مهمة في تكوين الطبقة التي حكمت سوريا على مدى تجاوز الجيلين.

لكن بالمقابل لم تتكشف معلومات كثيرة عن مصير أبناء الرئيس الهارب إلى روسيا، ولا حتى عن طبيعة أفكارهم وتكوينها، وهم الذين نشأوا في كنف أسرة تتوارث الديكتاتورية أباً عن جد وفقاً لوقائع موثقة تتهم الدائرة الحاكمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب لقمع الاحتجاجات ضدها. فهل سيرث الأبناء الثلاثة الذين لا يزالون في مقتبل العشرينات من العمر لعنة هذه الأسرة أيضاً، أم سيتمكنون من عيش حياة طبيعية من دون أن يدفعوا ثمن ما ارتكبه أقرب الناس إليهم؟

“الكرملين” أعلن أن بشار الأسد وعائلته يعيشون في روسيا باعتبارهم لاجئين لأسباب إنسانية، على رغم أن الجميع كان يصنف حال الأسد بأنها سياسية بحتة، كونه يواجه غضباً شعبياً نتيجة لطريقة إدارته البلاد وتوجيه جيشه السلاح ضد شعبه. أما الأسباب الإنسانية فتتعلق عادة بوجود خطر على الحياة أو السلامة باعتبار أن طالبها متضرر من أوضاع صعبة في بلاده. لكن في النهاية، ووفقاً للقانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومعاهدة جنيف، فإن حق اللجوء تنظمه الاتفاقات الدولية، ويضطر إليه الأشخاص الذين يواجهون تهديدات بالاضطهاد بسبب أفكارهم أو انتماءاتهم السياسية أو الدينية أو بسبب العرق وغيره.

بالطبع هناك أكثر من 100 مليون لاجئ حول العالم بحسب إحصاءات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لكن فرصهم في الاندماج المجتمعي بالدول التي يستقرون بها تكون أكبر من هؤلاء الذين يمثلون حالات خاصة مثل أبناء السياسيين المعروفين على نطاق دولي، والذين قد يضطرون لتضييق دائرة معارفهم خوفاً من كشف هويتهم والتعرض لمضايقات أو حتى مواجهة تهديدات تطاول سلامتهم وأمنهم الشخصي. والقائمة تشمل كثيرين بخلاف الأسد وأبنائه، إذ تتضمن أيضاً أبناء المدانين بالإرهاب الذين لديهم تاريخ دموي ومطلوبين لدى البوليس الدولي، ولا يزال بعضهم يكافح التصنيف والوصم، ويحاول إثبات أنه لا يعيش أبداً في جلباب الأب أو الأم.

الصغار يدفعون الثمن

كان الابن الأكبر لبشار الأسد في العاشرة من عمره حينما انطلقت الاحتجاجات السلمية ضد أبيه في 2011، وبعد تدهور الأوضاع واستخدام النظام الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة والصواريخ التي أودت بحياة مئات الآلاف وتحول الأمر إلى حرب أهلية تدخلت بها عناصر مسلحة متعددة الجبهات، كان حافظ الأسد الصغير لا يزال في سن الطفولة أيضاً. بعدها كان يظهر مع أخويه الأصغر كريم (مواليد 2004)، والوسطى زين (مواليد 2003) في لقطات تُبث بين الحين والآخر لتجميل صورة النظام، بعضها في الشارع للدلالة على الأمن والاستقرار، وأخرى في زيارات يروج لها على أنها غير مرتبة لبعض العائلات البسيطة.

الشاب، الذي بحسب ما نقلته وسائل إعلام روسية عن وزارة التعليم والعلوم الروسية، قد حصل منذ أسابيع قليلة للغاية على درجة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة موسكو، حقق إنجازات علمية في سن صغير، فما هو المستقبل الذي ينتظر ابناً لدى الآلاف وربما الملايين ثأر مع أسرته، سواء ممن فقدوا ذويهم أو من هاجروا أو عذبوا وسلبت حريتهم في السجون وخسروا أملاكهم.

وتعمل فرق من المحامين الدوليين ومقرري الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في الوقت الحالي على إعداد ملفات للبحث عن مسار قانوني لمحاكمة الأسد وفقاً للأدلة المكتشفة، وبينها عديد من المقابر الجماعية في البلاد التي تضم مئات الآلاف من الضحايا.

وفقاً لأستاذ القانون الدولي أبو الخير عطية، فإن “هناك جرائم لا تسقط بالتقادم، ووجود الأسد في روسيا لا يعني استحالة محاكمته إذا ثبت تورطه في إبادة جماعية أو جرائم حرب أو عدوان ضد الإنسانية”، لافتاً إلى أن الأمر قانوناً وارد، لكنه سياسياً غير مرجح في ظل قيادة فلاديمير بوتين الذي صدرت ضده مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية على خلفية حربه في أوكرانيا، وإن كان يحق لبشار الأسد وأبنائه أن يحصلوا من الدولة الروسية على تأمين إضافي وفقاً لنوع الأخطار التي قد يتعرضون لها، فهذا منوط بالدولة الروسية ويخضع لتقييمها للموقف”.

على وقع السقوط

من جهته، يلقي الباحث السياسي حاتم أبو النجا الذي اجتاز الدراسات العليا بجامعة “سان بطرسبرغ” الروسية، نظرة على وضع أبناء الأسد الحالي كطلبة جامعيين في روسيا، حيث يصنف أبو النجا جامعة “موسكو” الحكومية بأنها من ضمن جامعات عديدة مفضلة لأبناء الطبقات الميسورة والمسؤولين الروس أو المبعوثين من أبناء أو أقارب المسؤولين في الدول المقربة لروسيا الاتحادية أو دول الاتحاد السوفياتي السابق. مشيراً إلى أن المصروفات الدراسية لتلك الجامعات مرتفعة لأغلب الطلبة الأجانب العاديين الذين يخضعون لاختبارات قبول صعبة بالنسبة إلى الطلبة الروس أنفسهم.

طبقاً للأخبار المتداولة فإن حافظ بشار الأسد أو “حافظ الأسد جونيور” كما يحب أن يطلق عليه أبناء شعبه، قد حصل على الدكتوراه بدرجة امتياز في الوقت الذي اشتعلت فيه الأوضاع تماماً في بلاده، وكانت عناصر “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع على بعد كيلومترات من القصر الرئاسي في دمشق، حيث اختار الشاب تخصصاً دقيقاً هو علم الجبر والمنطق الرياضي، وجاء موضوع رسالته العلمية بعنوان “المسائل الحسابية المتعددة الأسئلة في عديد من الأنماط الجبرية”. وقد سلم الرسالة باللغة الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ونوقشت بالتزامن مع سقوط جيش بشار الأسد.

كريم بشار الأسد الذي أتم الـ20 من عمره عُرف بتفوقه الدراسي أيضاً، حيث يميل إلى المواد العلمية. كما تفوقت زين بشار الأسد في رياضة ركوب الخيل، وكان لها بعض الأنشطة الخيرية بينها المساعدة في تخفيف الأعباء عن الأسر المتضررة من الزلزال الذي ضرب بعض المناطق العام الماضي. فهل سينطلق الأبناء في مسيرتهم رافضين أعباء الماضي الثقيل، أم أن الميراث الخطر سوف يطاردهم؟

الأمر نفسياً يبدو معقداً للغاية بالنسبة إليهم، فحتى الأب الطاغية يكون لديه ولاء غير عادي لعائلته، بالتالي كيف سيفرقون بين هذا وذاك؟ وكيف سيتجاوزون تلك الضغوط التي فشل البعض في السابق في تجاوزها والنجاة منها حتى إن لم يكونوا متورطين بالمرة في الجرائم؟ وهل ستوفر لهم الدولة الروسية حماية خاصة على مستوى عالٍ وهم لا يزالون في مرحلة الشباب ولديهم كثير ليفعلوه سواء في ما يتعلق بالدراسة أو المسار المهني؟

يقول الباحث حاتم أبو النجا، إن الدولة الروسية تتعامل مع اللاجئين كأغلب دول العالم، وينص القانون الروسي على حظر ترحيل اللاجئ أثناء دراسة طلبه، كما يجب على السلطات تسهيل عملية التعامل معه. ويلزم القانون السلطات الروسية توفير مترجم إذا كان اللاجئ لا يجيد اللغة الروسية، مشيراً إلى أن روسيا تصدر شهادة للاجئين الدائمين بأجل غير مسمى، وشهادة موقتة يتم تمديدها بحسب تطور الأوضاع في البلد التي يخشى أن يعود إليها الشخص.

لكن في ما يتعلق بالمعاملة الخاصة، لا سيما في الجامعات، هل يحصل أبناء الطبقة العليا في الجامعات الباهظة الكلفة على بعض من الامتيازات أو حتى التأمين الإضافي مقارنة بالجامعات المجانية؟ يقول أبو النجا إنه بشكل عام لا توجد معاملة خاصة داخل الجامعات الروسية، فالطلاب الذين يدرسون على نفقتهم الخاصة يتم التعامل معهم بشكل اعتيادي، وحتى في بعض الأحيان يفاجأ الزملاء بأن هذا الطالب يدفع رسوماً لتلقيه العلم مع عدم تقديم أية امتيازات إضافية له تشير إلى وضعه.

الزعيم الشرس والأب المثالي

وفقاً لنماذج متعددة حول العالم لا توجد أية علاقة بين سلوكيات قادة السياسة وحتى قادة المجموعات الخارجة عن القانون وبين شخصيتهم الحقيقية، خصوصاً في علاقتهم بأحبائهم. بل إن بعضهم تكون نقطة ضعفه الحقيقية هي أسرته، فالشراسة والعنف في الممارسات العامة قد يقابلها حنان طاغٍ مع الأبناء وحرص كبير عليهم وعلى تلقينهم قيماً إنسانية رفيعة. حيث كان بابلو إسكوبار يدلل أبناءه ويحثهم على استكمال تعليمهم ولا يدخن أمامهم، مطالباً إياهم بالابتعاد عن التدخين والمخدرات، فيما كان هو إمبراطور تجارة المخدرات في كولومبيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهرّب أطناناً من الكوكايين إلى العالم بما فيه الولايات المتحدة التي أوقع ضباطها به عام 1993. ومنذ وفاته حاول أبناه خوان ومانويلا مع والدتهما التخلص من إرثه تماماً لكنهم ظلوا يتلقون نظرات الريبة.

وفشل أبناء إسكوبار في اللجوء إلى دولة أوروبية أو أميركية، ولم ترحب بهم إلا الأرجنتين. وكان خوان في الـ15 من عمره تقريباً بينما كانت شقيقته الصغرى في العاشرة. ووفقاً لتصريحات خوان سيباستيان ماروكين، الذي اتخذ اسماً بديلاً حيث تخلى عن لقب إسكوبار ليساعد نفسه على الاندماج في المجتمع، فإنه ترك أموال والده الطائلة، إذ كان يصنف كسابع أغنى رجل في العالم خلال حياته، للبدء من الصفر. وعمل مهندساً ومحاضراً وكاتباً أيضاً، وقد نشر قبل عشر سنوات كتابه عن حياته مع أبيه بعنوان “بابلو إسكوبار والدي”. كما ظهر في وثائقي بعنوان “إثم والدي” طالب فيه الضحايا بالصفح عن عائلته، نظراً إلى أن والده تورط في قتل الآلاف وتدمير حياة غيرهم عن طريق المخدرات.

وعلى رغم كل المحاولات التي يبذلها خوان للتعايش والتكيف مع العالم وإسهاماته الكبيرة في الأعمال الخيرية، فإنه يجد نفسه بين حين وآخر يحاسب بذنب لم يرتكبه. وقد ذكر أن كثيراً من البلدان لا ترحب بأسرته الصغيرة بسبب الماضي العنيف وانخراط كثيرين من أقربائهم في عالم الجريمة. كما أنه واجه أزمة قانونية عام 2018 هو ووالدته فيكتوريا هيناو، أرملة إسكوبار، حيث تشككت السلطات الأرجنتينية في مصدر ثروتهما وخضعا للتحقيق بتهمة تبييض أموال تجار المخدرات في كولومبيا.

خوان، الذي يصف أباه بالرجل الصالح الشجاع الذي أحسن تربيته، حذر كذلك من الإعجاب بالأعمال الدرامية التي تظهر تجار الممنوعات على أنهم نماذج ناجحة وأسطورية. وكان أبوه موضوعاً لعشرات الإنتاجات في هذا الصدد، بينها مسلسل منصة “نتفليكس” الشهير، كما عرضت المنصة كذلك مسلسلاً مطلع هذا العام عن معلمة إسكوبار، غريزيلدا بلانكو، الملقبة بـ”الأرملة السوداء” لقتلها أزواجها الثلاثة وتسببها في مقتل ما يزيد على 200 شخص بشكل مباشر ليدفع ثلاثة من أبنائها الثمن ويتم تصفيتهم بطريقة انتقامية ويظل ابنها الأصغر مايكل كورليوني بلانكو الناجي الوحيد، لكنه أيضاً لا يزال مطارداً بماضي الأم الملقبة بـ”عرابة الكوكايين” التي قتلت عام 2012 وهي على مشارف الـ70 في وضح النهار بكولومبيا بعد صفقة خروجها من السجن في الولايات المتحدة، على رغم أنها كانت قد اختارت أن تعيش حياة هادئة.

ولا يبدو أن أحداً يصدق أن بلانكو، الذي قضى مراهقته متنقلاً بين الأوصياء القانونيين بسبب سجن والدته، قد نسي أنه عمل لبعض الوقت في التجارة غير المشروعة، حيث تم نصب كمين له في ولاية فلوريدا الأميركية عام 2011 وقُبض عليه وبحوزته خمسة كيلوغرامات من الكوكايين بهدف الاتجار، وتمت تسوية الأمر بعد أن وضع تحت الإقامة الجبرية. لكنه في ما بعد احترف الظهور البرامجي وركز على عمله كمنتج موسيقى وصاحب علامة تجارية تستمد صيحاتها من أسلوب ملابس تجار مخدرات كولومبيا، نافياً علاقته بأية عصابات. ومشدداً على أنه سعيد في حياته الأسرية حيث يربي مع زوجته ماري راميريز دي أريلانو ابنتهما الوحيدة فيث. ووصف مايكل مراراً والدته بالمحبة له والقوية التي كانت تحرص على قضاء وقت رائع معه، واعتبرها امرأة أسطورية ورائدة.

العالم لا يتسامح

أيضاً عمر نجل أسامة بن لادن وصف والده بأنه كان لطيفاً للغاية معه، ولديه قواعد أخلاقية صارمة، وحال بن لادن الابن الذي حاول على مدى أعوام اللجوء السياسي إلى دول عدة بينها إسبانيا ورفض طلبه، تبدو نموذجية في ما يتعلق بالوصم الذي يدفع ثمنه الأبناء، فالرجل البالغ من العمر 44 سنة كان يعيش في فرنسا يرسم لوحات من الطبيعة، لكنه على ما يبدو سوف ينظر إليه دائماً على أنه نجل العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، والذي قُتل في غارة أميركية عام 2011، حيث إنه محاصر بهالة من التشكك على رغم تأكيده مراراً أنه يرفض نهج والده وبعض أشقائه تماماً، بل وتبرؤه من أيديولوجية مؤسس تنظيم “القاعدة”. لكن تم إبعاده قبل نحو شهرين عن فرنسا بتهمة تمجيد الإرهاب بسبب تدوينة له، حيث مُنع من العودة إليها لأي سبب وسط دهشة معارفه وبينهم أصدقاء أوروبيون، وكذلك زوجته البريطانية جين فيليكس براون التي غيرت اسمها إلى زينة محمد الصباح.

وكان عمر بن لادن كشف في مذكرات نُشرت له عام 2009 أنه وإخوته نشأوا في وضع خاص جداً، حيث كانوا مضطرين للاختباء والهروب طوال الوقت نظراً إلى أن أكبر الأجهزة الاستخباراتية في العالم كانت تطارد أبيه، ويرى نفسه حالاً تدعو للأسى بسبب الخوف الذي لاحقه. وفي ما بعد كان قد أدلى بتصريحات غاضبة تجاه الولايات المتحدة التي منعته من دفن أبيه بشكل لائق بعد قتله. ولدى عمر بن لادن ما يقرب من 25 أخاً وأختاً وفقاً لبعض التقديرات، بعضهم سار على نهج الأب مثل حمزة وسعد اللذين قُتلا في اشتباكات كذلك.

واستقبلت مصر عديداً من اللاجئين السياسيين سواء كانوا حكاماً أو معارضين لأنظمة بلادهم أو رؤساء. وقد يكون أشهرهم شاه إيران محمد رضا بهلوي، الذي غادر البلاد بعد إطاحته أثناء الثورة الإسلامية عام 1979، ورحب به الرئيس الراحل أنور السادات. وقد توفي بهلوي في العام التالي متأثراً بمرضه لتقرر أرملته الإمبراطورة فرح ديبا والأبناء الأربعة الاستقرار في الولايات المتحدة.

لكن على ما يبدو فإن الاندماج بالحياة العادية كان صعباً للغاية، حيث تأثرت نفسية الأبناء بشدة، وبعضهم كان يعيش في دائرة ضيقة من دون أن يكشف هويته إلا لعدد محدود للغاية من المحيطين، ليقرر اثنان منهما الانتحار في مراحل مختلفة وهما ليلى وعلي رضا اللذان عانيا من اكتئاب شديد بسبب ما حدث للأسرة. وكانت الأم صرحت قبل سنوات بأنهما كانا يعتبران أنفسهما منفيين قسراً. ويتبقى فرح ناز وولي العهد الأمير رضا بهلوي الثاني الذي يعمل بكل قوته لحشد أتباعه لانقلاب على الحكم في إيران، حيث يرى أن إرث عائلته يجب أن يعود.

المؤكد أن الدول تقدم الفرص لأبناء المطلوبين جنائياً أو اللاجئين سياسياً والمضطهدين، وعليهم أن يتقبلوها، لكن بعضهم يجد صعوبة في التكيف. يقول الأكاديمي أبو الخير عطية إن اللجوء السياسي والإنساني بشكل عام هو حق سيادي وأصيل للدولة المضيفة وله حالات معروفة، وعلى الدولة التي قبلت بلجوء بعض الأشخاص على أراضيها أن توفر لهم المأوى والمعيشة والحماية، حيث يتمتعون بحقوق قريبة من حقوق المواطن، وتمنحهم أيضاً وثيقة تثبت ذلك، وتتدرج الامتيازات التي يحصلون عليها، فقد يحصل على حقوق مواطن مهم كوزير سابق مثلاً، أو يظل يحصل على امتيازات عادية وفقاً لوضعه، كما أن من حق أي لاجئ مهما كانت حيثيته أن يذهب ويسجل نفسه في مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لتحميه إذا ما نشبت أية أزمة.

—————————

قصة أول ضابط منشق عن نظام الأسد… كما يرويها شقيقه لـ “المجلة”/ فراس كرم

المقدم حسين الهرموش الذي خُطف ويُعتقد أنه قُتل

آخر تحديث 01 يناير 2025

في 9 يونيو/حزيران 2011، أي بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة السورية التي أطاحت بالنظام السوري (بعد 14 عاما من الصراع)، كان للضابط السوري برتبة مقدم حسين هرموش ابن محافظة إدلب، موقف وصفه السوريون آنذاك بالمشرف والبطولي، عندما أعلن انشقاقه عن قوات النظام السوري المخلوع كأول ضابط، ووقوفه إلى جانب المتظاهرين وحمايتهم من نيران مخابرات النظام، وسرعان ما تحولت فرحة السوريين بانشقاقه إلى حزن عميق، عندما أطل مرة ثانية في 15 سبتمبر/أيلول 2011، على شاشات تلفاز النظام السوري، وظهرت عليه علامات التعذيب، معلنا إلقاء القبض عليه ومدليا باعترافات انشقاقه.

ولد هرموش في قرية إبلين التابعة لمنطقة جبل الزاوية في محافظة إدلب جنوبا، ونشأ هناك. وفي الفترة 1990-1996 حصل على دورة في الهندسة العسكرية في روسيا الاتحادية في أكاديمية الهندسة العسكرية العليا “كوبيشوف” وحصل فيها على تقدير ممتاز وحاز على الدبلوم الفني كما حاز على دبلوم الترجمة من العربية إلى الروسية وبالعكس، أيضا شارك بأبحاث علمية على مستوى مدينة موسكو، كما عمل في برمجة الحاسوب وله بحث عن التكنولوجيا وتأثير الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل.

قصة هرموش الكاملة وزلزلة النظام

“السلام عليكم يا حماة الديار، نترحم على أرواح شهدائنا الأبرار عسكريين ومدنيين… أنا المقدم حسين هرموش من ملاك الفرقة 11 قيادة الفرقة، أعلن انشقاقي عن الجيش وانضمامي إلى صفوف شباب سوريا مع عدد من عناصر الجيش العربي السوري الحر، ومهمتنا الحالية هي حماية المتظاهرين العزل المطالبين بالحرية والديمقراطية”.

بهذه الكلمات أعلن المقدم حسين هرموش في التاسع من يونيو 2011، بتسجيل مصور على منصات الثورة السورية، انشقاقه عن قوات نظام الأسد، وداعيا أيضا زملاءه الضباط السوريين إلى الانشقاق واصطفافهم إلى جانب شعبهم الذي ينادي بالحرية والكرامة والديمقراطية في الساحات السورية، التي قابلها النظام ومخابراته بالرصاص الحي وبدأت الأحداث بالتصاعد وارتفاع وتيرة القتل بحق المدنيين العزل.

وتزامن انشقاقه مع بدء قوات النظام محاولة اقتحام مدينة جسر الشغور في الريف الغربي من محافظة إدلب، الذي قاد خلالها جزءا من العمليات العسكرية برفقة ضباط عسكريين انشقوا لاحقا ومجموعات من الثوار السوريين، ونجح في التصدي لـ3 محاولات تقدم لقوات النظام، وألحق بها خسائر بشرية فادحة، قبل أن يغادر إلى تركيا ويشكل أول كيان عسكري ثوري مناهض للنظام تحت اسم “لواء الضباط الأحرار”، والذي ساهم بدور رئيس في تشكيل “الجيش السوري الحر”، والذي قاده لسنوات العقيد السوري المنشق رياض الأسعد (عقب عملية أمنية مشتركة بين أمنيين أتراك ونظراء لهم سوريين، أودعت الهرموش بالسجن والمصير المجهول حتى الآن).

اعتقال الهرموش

يقول مقربون من المقدم حسين هرموش إنه اختفى في  صباح يوم الاثنين 29 أغسطس/آب 2011 في ظروف غامضة، ومع ظهور هرموش على شاشات تلفاز النظام في 15 سبتمبر/أيلول، وعلامات التعذيب واضحة على وجهه، والإدلاء باعترافات حول “تورطه” في الانشقاق، وعلاقاته بالمعارضة في المنفى، حملَ ناشطون وحقوقيون سوريون الجانب التركي وجهازها الأمني مسؤولية اختطاف المقدم هرموش من الأراضي التركية وتسليمه للنظام السوري، فيما نفت تركيا آنذاك مسؤوليتها عن ذلك، كما تضاربت في الوقت ذاته الأنباء حول عملية تسليم الهرموش للنظام السوري، ونقلت حينها صحيفة “الغارديان” عن وسام طريف من منظمة “أواز” الحقوقية، التي تضم ناشطين من دول مختلفة ومقرها تركيا، قوله إن “أنقرة قايضت المقدم السوري المنشق حسين هرموش بتسعة ناشطين من حزب العمال الكردستاني”، أما الرواية الحقيقية حول اختطاف الهرموش من تركيا فقد تمت بعملية أمنية خاصة بين عنصر يتبع للمخابرات التركية يدعى “سيغيرجيك أوغلو” بتصريح خاص له مع موقع “أودا تي في” التركي، وأنه نفذ العملية بدوافع انتقامية من الهرموش حيث اتهمه الأمني التركي بوقوفه وراء التفجيرات التي وقعت في سوريا وعمليات القتل بحق المدنيين، انطلاقا من “الشرف والوجدان” على حد وصفه، وذلك عقب اكتشاف أمره من قبل السلطات التركية واحتجازه وبعدها هروبه إلى سوريا.

“المجلة” في قرية الهرموش

“المجلة” زارت قرية إبلين بريف إدلب والتقت شقيقه محمود مصطفى هرموش، وقال: “المقدم حسين كان إنسانا متواضعا إلى أبعد الحدود، وكان من أوائل الضباط المنشقين عن قوات النظام السوري (المخلوع)، وكله أمل أن يكون المقدم حسين على قيد الحياة، بالرغم من مصيره المجهول حتى الآن”.

وتابع: “قوات النظام السوري (المخلوع)، وعقب انشقاق المقدم حسين واختطافه من تركيا بفترة قصيرة، اقتحمت القرية، بصورة وحشية وقتلت ثلاثة من إخوته، واعتقلت نحو 40 شخصا من أقربائه، وهدمت وحرقت منازلهم، كما اعتقلت أيضا مخابرات النظام اثنين من إخوته في مدينة حلب وعلى الطريق البري المؤدي إلى لبنان، ولا يزال مصيرهم مع المقدم حسين مجهولا حتى الآن”.

ويعتقد محمود أن أخاه المقدم حسين لا يزال على قيد الحياة، وأن أخبارا من مصادر دقيقة وصلتهم قبل سقوط النظام السوري بحوالي 8 أشهر، بأنه جرى نقله إلى قاعدة “حميميم” الروسية في اللاذقية لأسباب مجهولة، فيما لا يزال مصير أقربائه الأربعين مجهولا حتى الآن، مستغربا صمت الإدارة السورية الجديدة عن المطالبة بالكشف عن مصير أخيه.

محاولات تبادل بالهرموش

في 24 من نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أسقطت تركيا طائرة حربية روسية من نوع سوخوي في ريف اللاذقية الشمالي كانت قد اخترقت الأجواء التركية، ووقعت جثتا قائديها بيد فصائل “الجيش الحر” في المنطقة، وطالب السوريون حينها بتسليم جثتي الطيارين الروسيين مقابل تسليم المقدم حسين، ولكن لم تلبى مطالبهم، وكذلك عندما تعرضت طائرة حربية سورية (ميغ21) يقودها الطيار محمد صوفان في 5 مارس/آذار 2017 ، لخلل فني عقب تنفيذها سلسلة غارات جوية على مناطق إدلب شمال غربي سوريا، وسقوطها داخل الحدود التركية والعثور على الطيار السوري حيا وإسعافه في أحد المشافي بمنطقة هاتاي التركية.

وفي 18 أغسطس 2017، ألقى فصيل “أسود الشرقية”، بالاشتراك مع “قوات الشهيد أحمد العبدو” المعارضين، القبض على الطيار علي سالم الحلو، وهو على قيد الحياة، بعد أن تم استهداف طائرته الحربية من طراز “ميغ21” بمضادات أرضية، وإسقاطها في ريف السويداء الشرقي، وأشار حينها المتحدث الإعلامي باسم “أسود الشرقية”، سعد الحاج، إلى أن الفصائل وجهت رسالة للنظام السوري بإمكانية إجراء عملية تبادل بين الطيار والمقدم حسين، إلا أن المبادرة لم تلق أي إستجابة من قبل النظام (المخلوع)”.

—————————–

إيران الخاسر الأكبر.. هزّات ارتدادية لزلزال سقوط الأسد/ عبد القادر المنلا

2025.01.01

كان يمكن لسقوط الأسد أن يكون بلا أي معنى لو أنه لم يترافق برحيل الميليشيات الإيرانية كاملة، والتي كانت تمثل الخطر الأكبر الذي جثم على صدر سوريا وكان يهدد بزوالها أو بقائها تحت الاحتلال الإيراني لفترة غير معلومة.

لقد جاء تحرير سوريا ليقتلع سرطانين خطيرين معاً أوصلا السوريين إلى مرحلة اليأس، فينهي حكم الأسد ومعه الحلم الإيراني الذي عملت إيران على تحويله إلى واقع منذ عشرات السنين، وأنفقت كثيرا من ميزانياتها من أجله ولا سيما حينما اعتقدت أن الفرصة مواتية لاستكمال مشروعها بعد العام  2011، وخسرت من أجل ذلك المشروع -بالإضافة إلى خسائرها المالية الضخمة- الكثير من كبار قادتها وجنودها وأجهزة استخباراتها وأسلحتها.

كانت إيران على وشك  الوصول إلى هدفها، قبل أن ينهار مشروعها تماماً بداية من لبنان ومن ثم في سوريا، وهي على وشك خسارة مماثلة في اليمن.

ظلت فكرة سقوط بشار الأسد حلماً بعيد المنال بالنسبة للسوريين الذين عانوا ما عانوه من ظلم وبطش وإذلال وترويع وقتل وتهجير على يد الطاغية الأبله وحلفائه وزبانيته وداعميه، بل وكانت كل المؤشرات توحي باستحالة تحول ذلك الحلم إلى حقيقة بسبب الخلل العميق في المنظومة الأخلاقية الدولية التي لم تكن تمانع بقاء حكم الأسد، فضلاً عن توافق معظم الدول العربية والكثير من الدول الأوروبية ليس على التسليم ببقائه فحسب، بل أيضاً على إعادة تدويره والترويج لانتصاره الأخلاقي ومسح سجله الإجرامي.

ورغم كل القهر الذي تسببت به جرائم الأسد للسوريين، إلا أن فكرة بقائه في السلطة كانت هي الأكثر قسوة وإيلاماً وقهراً من كل مجازره الوحشية، فكيف لشعب كسر جدار الخوف وضحى بمئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين وملايين المهجرين أن تذهب تضحياته هباء ويعود جلاده أقوى مما كان، ويرمم جدار الخوف مرة أخرى وبشكل أكثر صلابة؟

فضلاً عن ذلك فإن العار الذي ألحقه الأسد باغتصابه السلطة في واحدة من أهم بلدان الشرق الأوسط، كان وحده كفيلاً بمضاعفة الإحساس بالمذلة والإحساس بطعم الهزيمة الشخصية والوطنية والتي كانت ستبقى ملازمة للشخصية السورية لو لم تحدث معجزة السقوط.

كان بشار الأسد يعيش نشوة انتصاره المتوهم، وهو يعتقده انتصاراً ليس على الشعب السوري فحسب، بل على العالم برمته وعلى الولايات المتحدة الأميركية ذاتها التي أمضت سنوات بعد اندلاع الثورة السورية وهي تؤكد على لسان رئيسها السابق باراك أوباما بأن أيام الأسد معدودة وأن عليه أن يتنحى.

ثم ما لبثت أميركا ذاتها -وهي القوة العظمى- أن التزمت الصمت وأعلنت بشكل غير مباشر عن عجزها عن إحداث تغيير حقيقي في سوريا، بل واقتصرت مطالبها على تغيير سلوك النظام، الأمر الذي فسره الأسد على أنه نوع من الهزيمة لأميركا والتسليم بانتصاره، أو بالأحرى نوع من الخضوع الأميركي لمشيئته، وهو ما أعطاه مزيداً من الثقة باستحالة سقوطه، وجعله يتصرف وكأنه الرجل الأقوى ليس في سوريا وحدها بل في المنطقة، وربما قاده غروره لتصديق مقولة أحد أعضاء مجلس شعبه بأنه يقود العالم.

وإذا كان سقوط الأسد ومعه ميليشيات إيران بمنزلة معجزة حقيقية استطاع السوريون في نهاية الأمر أن يحولوها إلى واقع، فإن ثمة معجزة تعد أهم وأكبر من سقوط الأسد والتي تجسدت في قدرة الإدارة الجديدة على منع  كل السيناريوهات الدموية التي كانت مصدر تخوف السوريين في حالة سقوط الأسد، وهي حالات الثأر والانتقام من الطائفة العلوية، وهو الأمر الذي لم يحدث، بل استطاعت الإدارة الجديدة أن تطرح روح التسامي وتلح على الطرح الوطني الصرف الذي استطاع طمأنة الطائفة وتزويدها بالثقة الكاملة لممارسة دورها الوطني بعيداً عن أي نزاع طائفي.

لقد نجح الأسد في زرع الشقاق بين معظم مكونات الشعب السوري وتأصيل العداء بينها، ومن هنا كانت التخوفات من حمامات الدم بمنزلة كابوس إضافي لكل السوريين الذين كانوا يخشون هذا السيناريو ويخشون على إخوتهم من الطائفة العلوية الذين لم يتورطوا في سفك الدم السوري وكانوا مضطهدين من قبل النظام بذات حجم اضطهاد السوريين من الطوائف الأخرى، وكان مستوى الشحن الطائفي مرعباً، غير أن المعجزة حصلت من خلال طريقة تعامل الإدارة الجديدة وتشديدها على حماية السوريين جميعاً بلا أي تفريق.

لقد ربط النظام مصير الطائفة العلوية بوجوده وأوصل بسطاءها إلى قناعة تامة بأن بقاء الأسد وحده هو من يجنبهم تلك المذابح، ولهذا السبب وحده بقيت نسبة كبيرة يؤيدون الأسد رغم كراهية معظمهم له وتعرضهم للاضطهاد على يديه، ليكتشفوا -بعد السقوط- أنهم كانوا يعيشون وهماً رسخه الهارب ليحمي نفسه بهم وليس لحمايتهم.

جاء السقوط السريع والمدوي والمفاجئ ليكون أشبه بزلزال قوي قوض البنى الصلبة التي أمضى الأسدان الأب والابن أكثر من خمسين عاماً في بناء دعائمها بحيث تكون مقاومة لأعتى أنواع الزلازل قبل أن يتضح مدى هشاشتها وقابليتها  للاقتلاع من جذورها العميقة.

شكّل السقوط صدمة لا تختلف عن صدمة زلزال ضخم، ولكنها صدمة إيجابية أيقظت الأمل بإنقاذ السفينة السورية التي كانت على وشك الغرق، أنقذت سوريا التي كانت ترقد في حالة موت سريري مع تسليم شبه كامل باستحالة عودتها إلى الحياة.

وبقدر ما كان لزلزال السقوط وقع مميز بنكهة النصر والتعافي والكرامة والحرية لدى معظم فئات الشعب السوري، بقدر ما شكل خيبة أمل وانتكاسة وكابوساً مرعباً لفلول النظام والحلقة الضيقة التي استفادت من استمراره وتعيشت على وجوده، وأثْرت على حساب قوت السوريين وكرامتهم، وكان من الصعب عليها الاعتراف بالهزيمة، الأمر الذي وجدت فيه إيران فرصة جديدة لإحياء حلمها ومحاولة تعبيد الطريق مرة أخرى باتجاه دمشق، أو بالحد الأدنى محاولة إفساد بهجة السوريين بنيل حريتهم وكرامتهم كحالة انتقام منهم بسبب إفشال مشروعها، فراحت تغذي النعرات الطائفية وتبعث رسائل مفكوكة التشفير وارتأت أن تقود الهزات الارتدادية لإثارة الفوضى وصولاً للتأسيس لحرب أهلية بين السوريين.

فشلت إيران في تحقيق حلمها واستكمال مشروعها حينما كان لها نفوذ كبير في سوريا، وتهاوت في أيام قليلة وهربت كل ميليشياتها وكانت أكبر الخاسرين من ضمن كل المتدخلين في الشأن السوري، كانت خسارتها أكبر حتى من خسارة النظام نفسه والذي لم يكن لديه مشروع سوى البقاء في السلطة.

بينما كان لإيران مشروع اعتبرته استراتيجياً وكانت سوريا حجر الزاوية فيه، ومع ذلك ما زالت تتحين أية فرصة سانحة للعودة إلى العبث بالمنطقة من خلال اللعب على وتر الفتن الطائفية ونشر الأخبار الكاذبة والشائعات التي يتم تصنيعها في طهران وتضخيم التجاوزات أو اختراعها إن لم تكن موجودة وزراعة الحقد وسحب الثقة التي أسست بين العلويين والإدارة الجديدة والتي أثبتت أنها لن تسمح بأذيتهم وأنها ستلاحق المتورطين من كل الفئات قضائياً، وهو الأمر الذي أزعج المتورطين من مرتكبي الجرائم فارتأوا أن يدافعوا عن أنفسهم بالهجوم على كل مكتسبات الشعب السوري بدعم من الحليف المهزوم.

وبوقوف عقلاء الطائفة العلوية ضد محاولات فلول النظام وضد تدخلات إيران الخبيثة، عادت سوريا للتعافي من جديد وتلقت إيران صفعة إضافية ستكون بمنزلة الضربة القاضية لمشروعها إذا تحلى السوريون بالوعي الكافي لعبور المرحلة الصعبة التي يمرون بها، وكما كان للطائفة العلوية دور في توحيد سوريا في الماضي من خلال رفضهم لفكرة التقسيم، سيكون لهم دورهم المهم اليوم أيضاً في إنقاذ سوريا من جديد وكل المعطيات على الأرض تؤكد هذا السيناريو.

إن فترة ما بعد سقوط الأسد تتشابه إلى حد كبير مع فترة جلاء الاستعمار الفرنسي حيث تتقد الروح الوطنية لدى السوريين بكل طوائفهم، وفي كل مدنهم وقراهم، ولكن الجبل (السويداء) والساحل يعودان اليوم للعب دور مفصلي، فضلاً عن الدور الإيجابي للمسيحيين وباقي مكونات الشعب السوري، التي تعيش اليوم معاً مشاعر الاستقلال الحقيقية ومشاعر يوم جلاء جديد ومضاعف وهو جلاء المحتل الأسدي والإيراني معاً، في انتظار جلاء باقي الاحتلالات الأقل خطراً.

———————————

«طوفان الأقصى» و«ردع العدوان»: إغلاق النقاش وفتحه…/ حازم صاغية

1 يناير 2025 م

ما بين 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ويومنا هذا هبّ علينا زلزالان: عمليّة «طوفان الأقصى» وعمليّة «ردع العدوان». وبالتضامن كما بالتناقض بين العمليّتين، تغيّر كلّ شيء تقريباً في المشرق العربيّ، وتغيّرت أشياء كثيرة في عموم الشرق الأوسط.

لكنّ أحد الفوارق الأساسيّة بين العمليّتين يتّصل بالنقاش العامّ.

فالبيئة العربيّة التي أيّدت «الطوفان» مارست تحريماً على كلّ نقد أو حتّى تحفّظ، وهذا علماً بأنّ التأييد كان أمراً صعباً على مَن احتفظ بعدد من القناعات العقلانيّة والإنسانيّة والنفعيّة. فلهؤلاء الأخيرين بدا «الطوفان» عملاً مرتجلاً لا يتخلّله تمييز بين بشر وبشر، ولا اعتبار لتوازنات القوى، ناهيك عن ارتكازه إلى أشدّ الأفكار والقيم بدائيّة، وإفضائه إلى كارثة محقّقة بحقّ الشعب الفلسطينيّ. رغم هذا، لم تبق كلمة في كتاب الأهاجي إلاّ استُخدمت ضدّ الذين عارضوا ذاك الحدث أو حذّروا منه. فالخيانة والعمالة والصهينَة والارتزاق راحت تتسابق ناشرةً جوّاً مَقيتاً من امتداح الذات المرفق بإسكات كلّ صوت نافر. وفي سيادة وعي كهذا، إباديّ للعقل وللأخلاق وللحرّيّة، غُضّ النظر عمّا لا يُغضّ عنه النظر. فإذا بعقلانيّين مفترضين يهزجون وراء يحيى السنوار ومحمّد الضيف، وإذا بملاحدة مفترضين يستعيرون لغة حسن نصر الله الغيبيّة، فيما وَجدت نِسويّات متشدّدات في الناطق أبي عبيدة، وربّما في زميله يحيى سريع، الرجل الأمثل لمجتمع المساواة الجندريّة.

باختصار، أغلقت التفاهة المدجّجة بقوّة «القضيّة» باب النقاش، وبدا واضحاً أنّ شرط هذه «القضيّة» الشارط تعطيل كلّ شيء حيّ. فإنسان «الطوفان» تكشّف عن إنسان آحاديّ البُعد، لا يستطيع أن يكون «مع» و«ضدّ» في وقت واحد، إنسانٍ قَبَليّ يضحّي بكلّ معنى وقيمة كي يقاتل إسرائيل، وكي يقاتلها كيفما اتّفق. إنّه، بكلمة، أقرب إلى جنديّ ينفّذ، لكنّه بعد ذاك لا يعترض، مكرّساً كلّ نفسه لملاقاة فرحة الانتصار المبين.

في المقابل، لم تتصرّف البيئة المتحمّسة لإسقاط الأسد ونظامه على هذا النحو، بل زوّدتنا بمشهد مختلف. فهي لم تنتظر خصوم الثورة وأعداءها كي يوجّهوا سهامهم للحكم الجديد، بل بادرت بنفسها إلى ممارسة النقد، ومارسته بقسوة لا ترحم. هكذا خرجت منها أعلى أصوات الهجوم على السلطة التي أنجزت إسقاط الأسد وفتح السجون وإتاحة العودة للاّجئين وتحرير سوريّا من النفوذين الإيرانيّ والروسيّ. وبالفعل فُتح باب النقاش الذي طال كلّ شيء تقريباً، من السياسة إلى الاجتماع، ومن مفهوم الشرعيّة إلى وضع النساء…

ولئن رأى البعض في المبايعة التي حظي بها «الطوفان» دليلاً على قوميّة المعركة، أو دينيّتها، بما يجعل «قضيّة» «الطوفان» تعبيراً عن «تناقض رئيسيّ» لأجله تؤجَّل الحياة، اختلف الأمر في التعليق على «ردع العدوان». فنحن نادراً ما سمعنا تعبير «قضيّة» يُطلق وصفاً لحدث يتّصل مباشرة بحياة 24 مليون إنسان، وينهي 54 عاماً من حكم مجرم. فكأنّما عصفَ بالبيئة الداعمة لإطاحة الأسد قلق من لغة المبايعة رافق احتفالها بالحدث. وبعد كلّ حساب، فإنّ اللغة تلك، التي أحاطت بـ«الطوفان»، أختُ لغة الطغيان الأسديّة في خنق التناقضات وتأجيل الحياة.

ثمّ لئن كانت الأداة التي نفّذت العمليّتين سياسيّة – دينيّة، فإنّ البيئة التي بايعت «الطوفان» صدرت عن مقدّمات آيديولوجيّة، دينيّة أو قوميّة أو يساريّة يؤرّقها حسم «التناقض الرئيسيّ» مع الإمبرياليّة، وهو ما كان سبباً وراء التماهي، الذي لا يخالطه تحفّظ، مع السنوار ونصر الله. أمّا في الحالة الثانية، وبنتيجة الابتعاد عن عالم «القضايا» ولغتها، وربّما بتأثير احتكاك النقّاد السوريّين بمجتمعات ديمقراطيّة لجأوا إليها، فإنّ الأداة التي نفّذت «ردع العدوان» لم تُكافأ بغير النقد والتحفّظ.

فالذين واللواتي شكروا أحمد الشرع، سريعاً ما قرنوا شكرهم بنقده. ونعرف أنّ ثمّة في ثقافتنا، بالقديم منها والحديث، ما يطالب الشاكر بأن يطأطئ رأسه أمام المشكور، فلا يتوقّف عند نواقصه وقصوره التي يتكفّل تفاديها بإبقائه مشكوراً وإبقاء الشاكر شاكراً. ومن بين آلاف التعابير عن هذا الموقف المركّب، كتب الشاعر فرج بيرقدار، وهو نزيل سجون الأسد لسنوات طويلة: «للحقيقة والأمانة نجحت إدارة العمليات العسكرية في تحقيق ما يشبه المعجزة، أعني أنها نجحت في كتابة الحلقة الأخيرة من مسلسل حكم عائلة الأسد، وأعتقد أن معظم السوريين يقدِّرون لها هذه المأثرة. ولكن نجاح إدارة العمليات في هذه الخطوة، بل القفزة الرائعة، لا يعني أنها صارت تلقائياً تمثل الثورة وأهدافها الأولى والأساسية. تمثيل الثورة يقتضي إنجاز خطوات كثيرة أبسط معاييرها أن تكون بأقوالها وأفعالها نقيضاً للأسد وأجهزته».

هكذا نجدنا أمام حدث كبير يقول لنا، كما لو أنّه يؤجّل الحياة أو يُقفلها: «لا تناقشوا، بايعوا»، وأمام حدث كبير آخر يطالبنا بالنقاش وبجعل «مائة زهرة تتفتّح ومائة مدرسة تتبارى»، بحسب الشعار الذي رفعه ماو تسي تونغ قبل أن يخونه. فأيّ الوجهتين نختار؟

الشرق الأوسط

————————————

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى