سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 16 كانون الثاني 2025
كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————
المبادئ الأساسية للمرحلة الانتقالية في سوريا: رؤية للسيناريوهات والخيارات الدستورية المختلفة
وحدة عمل سياسات سوريا
16-01-2025
عن المجموعة
صبيحة سقوط نظام الأسد وانتصار ثورة الشعب السوري في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 2024، التقينا كما التقى كثيرون وكثيرات لنسأل أنفسنا: ماذا نفعل الآن؟ أتى اليوم الذي انتظرناه وعملنا لأجله لسنوات، أتى بسرعة خاطفة فاقت توقعات الجميع. بشكل عفوي جمعنا أنفسنا ودارت بيننا أحاديث يملؤها الحماس والفرح والترقُّب والتحليل والتساؤل، ثم قررنا: سنفعل ما باستطاعتنا، كلٌّ من حيث يُقيم أو تُقيم، خارج سوريا وداخلها، لتوظيف قدراتنا وخبراتنا ومعارفنا، التي اكتسبناها من العمل على مدار سنوات عديدة في منظمات الأمم المتحدة والمؤسسات الأكاديمية والمدنية والسياسية، في خدمة هذه المرحلة التاريخية.
مَن نحن؟ أطلقنا على أنفسنا اسم وحدة عمل سياسات سوريا؛ مجموعة سوريون وسوريات لديهم ولديهنّ رؤية مشتركة لبناء سوريا ديمقراطية موحدة وذات سيادة على كافة أراضيها، تتمسّك بالمساواة على أساس المواطنة وسيادة القانون والشرعة الدولية لحقوق الإنسان. لدينا أمل كبير في مستقبل البلاد. وبصفتنا مجموعة تطوعية مهتمة بتحليل السياسات والمناصرة على حد سواء، فإننا نتطلّعُ إلى التواصل مع السوريات والسوريين الذين يشاركوننا رؤيتنا، سواء كانوا أفراداً أو منظمات، من أجل تعزيز جهودنا وأصواتنا والاستفادة من الخبرات السورية الغنية والمتنوعة داخل البلاد وخارجها.
كما نقول في سوريا «من الآخر»، بدأنا كزملاء لدينا خبرة مشتركة في العمل على صياغة وتصميم السياسات والاستراتيجيات العامة في العديد من المجالات والقطاعات التنموية وخاصة المرتبطة بالحالة السورية. جَمَعَنا عملُنا المشترك على رسم سياسات لمستقبل سوريا في مجموعات مختلفة منذ بدء الثورة عام 2011، كما تجمعنا اليوم غايتنا المتمثلة في خدمة سوريا والمساهمة بما نملكه من خبرات في بناء المستقبل المنشود.
نحن ندرك حجم التحديات الهائل على المَديَين القصير والمتوسط، فاللحظة الحالية تُمثّل فرصة غير مسبوقة للتغيير الإيجابي، إلا أن التحديات كبيرة وشديدة التعقيد. إنَّ إدراكنا لاحتمال حدوث انتكاسات أو ظهور خطوط صدع جديدة على طريق التعافي الكامل، يجعلنا نضع نصب أعيننا أولوية تفادي رسم سياسات قد تُؤجِّجُ الصراع مرة أخرى، ونركز على السياسات التي تدعم بناء دولة القانون والمواطنة.
ولهذا الغرض، قمنا بصياغة ورقة تهدف إلى تقديم موقف ورؤية حول المبادئ الأساسية للعملية السياسية خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، وذلك بالاستفادة من الدراسات والأوراق التي تم إنجازها في مشروع الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا. وتُركِّزُ الورقة في المقام الأول على التعقيدات والتحديات التي تكتنف عملية صياغة الدستور الدائم لسوريا، وتتناول السيناريوهات المختلفة والمسارات المحتملة والأكثر تداولاً التي يمكن اللجوء إليها خلال المرحلة الانتقالية للوصول إلى دستور دائم لسوريا وهي:
1- العودة إلى أحد الدساتير السابقة، كدستور (1950)، واعتماده كدستور مؤقت لمدة سنتين، يتم خلالهما دعوة القوى السياسية لعقد مؤتمر وطني وانتخاب هيئة تأسيسية مُمثِّلة لمكونات الشعب السوري والقوى السياسية المختلفة والمجتمع المدني من أجل صياغة الدستور.
2- دعوة القوى السياسية لعقد مؤتمر وطني وانتخاب هيئة تأسيسية ممثلة للشعب السوري والقوى السياسية المختلفة والمجتمع المدني من أجل صياغة الدستور، مع الإبقاء على حالة الفراغ الدستوري لحين إنجاز الدستور.
3- صياغة هيئة تحرير الشام مسودة دستور دائم بشكل منفرد، أو مع إجراء استشارات شكلية، مع تضمين الدستور مبادئ الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.
4- صياغة دستور بشكل منفرد، أو بإجراء استشارات شكلية، لا يلتزم بمعايير حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية.
يتطرّق النص إلى مزايا ومخاطر كل من هذه السيناريوهات. تَخلُصُ الورقة إلى توصية وحدة عمل سياسات سوريا بتبني السيناريو الأول لما له من مزايا تفوق المخاطر، ولكونه يُعطي الفرصة والمساحة للقوى السياسية والمجتمعية للحوار وبناء عقد اجتماعي جديد يؤسس لإقامة دولة قانون ذات شرعية قوية، ويعزز مفهوم المواطنة، ويساهم في إحلال السلام المستدام بتفادي إعادة خلق بيئة الصراع، ويُفضي إلى القطع التام مع النظام السابق الذي تفرّدَ بالسلطة وأجرمَ بحق السوريين والسوريات.
تتضمّن الورقة توصيات أخرى وخمس أولويات مرحلية رئيسية متساوية في الأهمية هي التالية: وقفُ العمليات العسكرية في وعلى سوريا، إعادةُ بناء مؤسسات الأمن لحماية المواطنين ومنعُ الانفلات الأمني، تأمينُ الحاجات الأساسية والخدمية للناس، الإعلانُ الفوري عن خطة واضحة للعملية السياسية، والعملُ الفوري على تحفيز دوران عجلة الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة.
نتمنى أن تكون الورقة والمواضيع والأفكار المذكورة فيها مفيدة ومُحفِّزة على الحوار وتبادُل الأفكار، الأمر الذي تعتبره وحدة العمل غاية في الأهمية في هذه اللحظة المفصلية. إننا ندرك أن هذه الفرصة الثمينة قد لا تأتي مجدداً، وأن بناء الوطن مسؤولية جماعية تتطلب من كل فرد أن يساهم بكل ما يملك من طاقة وإخلاص. لنجعل من هذه الفرصة حجرَ الأساس في بناء وطن العدل والمساواة والحرية، لنا وللأجيال القادمة.
كتبَ خالد البيطار هذه الورقة، وراجعها كلٌّ من: أحمد شيخ عبيد، باسل كغدو، جهاد يازجي، كريم خوندة، ماريا سالم، راتب أتاسي، د.علي خوندة، د.عمر ضاحي.
* * * * *
مقدمة
في يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، انتصرت ثورة الشعب السوري، وشهدت البلاد تحولاً جذرياً بعد أن قادت هيئة تحرير الشام وعدد من الفصائل العسكرية عملية إسقاط النظام السوري السابق. وعلى الرغم من الفرح الشعبي الذي عمَّ السوريين والسوريات، تسودُ المرحلةَ الانتقاليةَ المقبلةَ حالةٌ من القلق والشكوك، داخلياً ودولياً، بسبب الغموض الذي يكتنف الخطوات القادمة.
تهدف هذه الورقة إلى تقديم موقف ورؤية واضحة حول المبادئ الأساسية للعملية السياسية خلال المرحلة الانتقالية في سوريا عبر تحليل أربعة سيناريوهات متداولة، مع التركيز على الفُرَص المتاحة والمخاطر المرتبطة بكل منها. لإنجاز هذه الورقة استفدنا من الدراسات والأوراق التي أُنجزت خلال مشروع الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا، والذي تم تنفيذه تحت مظلة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، وجَمَعَ مئات السوريين والسوريات من مختلف الخبرات والاتجاهات.
المسار التأسيسي للدستور
يحدد المسار التأسيسي للدستور الآليات التي يتم اتباعها لصياغة دستور دائم للبلاد في المراحل الانتقالية، ويعرض المسار الإجرائي الخيارات الأربعة المتاحة للمسار التأسيسي للوثيقة الدستورية.
ويمرّ المسار التأسيسي للدستور بمرحلتين اثنتين: المرحلة الأولى مرحلة الحكم الانتقالي، وهي مرحلة مؤقتة يتم فيها إنشاءُ مرجعية وشرعية دستورية تحكم المرحلة الانتقالية، وخلقُ البيئة المناسبة لإطلاق عملية سياسية شاملة وتضمينية لكتابة دستور دائم للبلاد. هذه المرحلة المؤقتة هي حجر الأساس الذي ستُبنى عليه سوريا المستقبل، وفيها يُحدَّد شكل الدولة وأُسس الحكم. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة كتابة وصياغة الدستور الدائم للبلاد، والذي يكون عبارة عن صياغة للعقد الاجتماعي الجديد.
لقد قامت هيئة تحرير الشام بتعليق العمل بالدستور السوري، دستور عام 2012، إنما لم يتم الإعلان عن البديل الدستوري الذي سيحكم هذه المرحلة، الأمر الذي أدى إلى تعطيل الحالة الدستورية. هذه الحالة شبيهة بما مرت فيه سوريا بعد انقلاب حسني الزعيم عام 1949، حيث تم إيقاف العمل بدستور عام 1930 النافذ آنذاك دون أن يتم طرح بديل دستوري، وتمت إدارة البلاد بموجب قرارات ومراسيم فردية دون الخضوع للرقابة التي تضمنُها وتُنظّمها الدساتير القائمة1. وعليه تبرز المعضلة الدستورية التي تتركز الآن في نقطتين:
تحديد البديل الدستوري الصالح للتطبيق إلى حين انجاز الدستور النهائي.
تحديد آلية كتابة الدستور والجهة المسؤولة عن ذلك.
بمراجعة لعدد من آراء الخبراء وعدد من أوراق المشاريع للأمم المتحدة ومنظمات عملت على الشأن السوري خلال السنوات الـ12 الماضية حول الحلول الدستورية وآليات إنجاز دستور سوري جديد2، نجد أن الواقع يطرح أمامنا أربعة بدائل رئيسية وهي:
العودة إلى خيار دستور عام 1950.
الإبقاء على الدستور الحالي، دستور 2012، مع إدخال بعض التعديلات عليه.
إعلان دستوري مؤقت.
البدء الفوري بصياغة دستور دائم وطرحه للاستفتاء.
بالرغم من أن البدائل الأربعة أعلاه قد تبدو مختلفة أو حتى مُتعارضة، إلا أنها تصبُّ في اتجاه تأسيس الدولة، وتُحدِّدُ بالتالي شكل المرحلة الانتقالية. كما أن العامل المشترك الذي يربط بين البدائل الثلاثة الأولى هو إضفاء الشرعية القانونية والدستورية على كل الإجراءات التي يتمّ اتّخاذها خلال الفترة الانتقالية وما بعدها، وتفادي الوقوع في أخطاء دستورية ناجمة عن الفراغ الدستوري، والتي قد تؤدي إلى تقويض أُسس سلام مستدام في سوريا. كما أن البدائل الثلاثة الأولى تشترك في أنها تُساهم في التأسيس لبناء دولة القانون، وتُعطي الفرصة لممثلي السوريين والسوريات والقوى السياسية المختلفة للنقاش والحوار وتطوير الحلول المشتركة والمقبولة من الجميع، والمشاركة في صياغة أسس وآليات الحكم القادم وشكل الدولة المنشودة.
انطلاقاً من تلك البدائل، واعتماداً على توجهات السلطة القائمة في سوريا، تبرز سيناريوهات مختلفة لوضع آليات كتابة الدستور وتحديد الجهة المسؤولة عن ذلك. نستعرضُ هنا أربعة سيناريوهات مختلفة لآليات صياغة الدستور في البلد، الذي تديره هيئة تحرير الشام اليوم كسلطة مسيطرة اليوم عسكرياً وسياسياً، ونستعرض المزايا والمخاطر المرتبطة بكل منها.
السيناريوهات الأربعة للمرحلة الانتقالية3
السيناريو الأول
العودة إلى أحد الدساتير السابقة، كدستور (1950)، واعتماده كدستور مؤقت لمدة سنتين، يتم خلالهما دعوة القوى السياسية لعقد مؤتمر وطني وانتخاب هيئة تأسيسية مُمثِّلة لمكونات الشعب السوري والقوى السياسية المختلفة والمجتمع المدني من أجل صياغة الدستور.
المزايا:
حل سريع: يُتيح هذا السيناريو اعتماد إطار دستوري مؤقت بسرعة دون الحاجة إلى صياغة دستور جديد تماماً.
تهيئة للحوار الوطني: يُعطي هذا السيناريو فترة زمنية مدتها سنتان لإجراء حوار وطني شامل وانتخاب لجنة صياغة دستور دائم.
تخفيف الضغوط وتهدئة الشارع والرأي العام: يُوفر الدستور المؤقت غطاءً قانونياً يُمكن أن يُخفّف من حدة القلق الداخلي، ويساهم في تهدئة الشارع وتخفيف الضغوطات الدولية.
تجنُّب الفراغ الدستوري القانوني: يُسهم في استمرارية عمل مؤسسات الدولة وتجنُّب الفوضى خاصة داخل السلطة القضائية.
خلق بيئة مناسبة للحوار: يساهم هذا السيناريو في خلق بيئة مناسبة لبدء حوارات بناءة، ويجعل من عملية عقد المؤتمر الوطني عملية سلسة، ويُمكِّن الهيئة التأسيسة من العمل بهدوء دون الاضطرار للعمل تحت ضغط الوقت.
شرعية واسعة: إن وجود بديل دستوري قوي خلال المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى البدء بعملية دستورية لصياغة الدستور الدائم، مع إشراك مختلف القوى السياسية في صياغة الدستور، يُعطي العملية الانتقالية مصداقية وشرعية كبيرة داخلية ودولية.
تعزيز الوحدة الوطنية: التعاون بين مختلف المكونات السياسية والاجتماعية يُسهم في بناء دولة قائمة على المواطنة، ويعزز الوحدة الوطنية، ويساهم في بناء عقد اجتماعي متين.
المخاطر:
قصور في الاستجابة: قد يكون الدستور المؤقت غير قادر على معالجة التحديات الخاصة بالمرحلة الانتقالية.
عدم القبول الشعبي: قد يؤدي اختيار دستور 1950 إلى تعالي الأصوات المعترضة على شكل النظام البرلماني، ويضع السلطة أمام تحديات جديدة.
إطالة أمد العملية: خطر أن تصبح المرحلة المؤقتةُ دائمةً دون تحقيق تقدم حقيقي في صياغة الدستور الدائم.
السيناريو الثاني
دعوة القوى السياسية لعقد مؤتمر وطني وانتخاب هيئة تأسيسية ممثلة للشعب السوري والقوى السياسية المختلفة والمجتمع المدني من أجل صياغة الدستور، مع الإبقاء على حالة الفراغ الدستوري لحين إنجاز الدستور.
المزايا:
شرعية مُوسَّعة: إشراك مختلف القوى السياسية في صياغة الدستور يُعطي العملية الانتقالية مصداقية وشرعية كبيرة داخلية ودولية.
تعزيز الوحدة الوطنية: التعاون بين مختلف المكونات السياسية والاجتماعية يُسهم في بناء دولة قائمة على المواطنة، ويعزز الوحدة الوطنية، ويساهم في بناء عقد اجتماعي متين.
فرصة لتغيير الصورة: يقدِّم هذا السيناريو هيئةَ تحرير الشام والقوى المشاركة معها كقوى وطنية مسؤولة تُفضّل الحوار على الإقصاء، ويعزز مكانتها داخلياً ودولياً، ويمهد لها الطريق لممارسة دور سياسي كبير في سوريا وعلى المستوى الإقليمي.
تفادي خطر الحرب الأهلية: إشراك الجميع في العملية الدستورية يُقلّل من احتمالية تفجُّر نزاعات داخلية، ويساهم في إحلال بيئة السلام المستدام بدلاً من بيئة الحرب، ويؤسس لدولة مستقرة قادرة على إدارة التعددية وإدارة الخلافات والاختلافات سياسياً، ويجعلها قادرة على خلق القنوات والحلول السياسية للنزاعات الداخلية.
المخاطر:
تأخيرٌ في التنفيذ: قد تُؤدي الخلافات بين القوى السياسية إلى إبطاء العملية الانتقالية، حيث تستغرق النقاشات ومجموعات العمل والوصول إلى تفاهمات وتسويات حول عدد من القضايا الإشكالية وقتاً وجهداً كبيرين.
فقدان السيطرة: قد تخرج الحوارات عن السيطرة وقد تصل إلى طرق مسدودة، مما يُهدّد عملية صياغة الدستور برمَّتها، ويُدخِل البلاد في أزمة دستورية طويلة الأمد.
تحديات لوجستية وأمنية: جمع القوى السياسية المختلفة في بيئة مستقرة وآمنة يُمثل تحدياً كبيراً. كما أن تيسير الحوار بين مجموعة كبيرة من الناس ليس بالأمر السهل، ويحتاج إلى وجود عدد كبير من المُيسّرين، ووجود منهجية واضحة علمية قد تم اختبارها والتأكد من نجاعتها.
السيناريو الثالث
صياغة هيئة تحرير الشام مسودة دستور دائم بشكل منفرد، أو مع إجراء استشارات شكلية، مع تضمين الدستور مبادئ الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.
المزايا:
تعزيز الشرعية الدولية: الالتزام بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة قد يؤدي إلى تحسين صورة هيئة تحرير الشام دولياً، ويُسهم في تغيير النظرة العدائية ضد القوى الإسلامية. كما أنه يساهم في البدء باستعادة الشرعية الدولية للحكومة في سوريا، وبدء رفع العقوبات عنها وبدء برامج إعادة الإعمار.
السرعة: توفّر هذه الطريقة سرعة في إنهاء إشكاليات المرحلة الانتقالية، والمضي قدماً نحو مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية.
طمأنة الشارع: تضمين الدستور مبادئَ المواطنة المتساوية تماماً لكافة السوريين والسوريات سيُعزز الوحدة الوطنية، ويخفف من التوترات المذهبية أو الطائفية الناجمة عن الفراغ الدستوري، ويَعرِضُ بديلاً عن تقديم ضمانات تقسيمية ومُحاصصات للمجموعات المذهبية والإثنية المختلفة.
حفظ حقوق المرأة: وضمان مكتسباتها وفقاً لمبادئ المواطنة المتساوية يدعم النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويُعزّز فرص تحقيق أهداف التنمية بفاعلية ويساهم بتعزيز السلم الأهلي في سوريا.
المخاطر:
تشكيك داخلي وشرعية ضعيفة: سيؤدي تفرّدُ جهة واحدة بالسيطرة على عملية صياغة الدستور إلى معارضة العديد من الأطراف المتشددة داخل هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معه، وكذلك معارضة عدة جهات وأطراف سياسية ومجتمعية سورية داخل وخارج سوريا بسبب الإقصاء. بذلك سيكون هذا الدستور موضعاً للتشكيك في شرعيته، وقد كانت هذه إحدى أبرز العيوب في دستور عام 2012.
ضبابية التنفيذ وضعف الالتزام: دون آليات تضمينية وشاملة وواضحة لصياغة وتنفيذ المبادئ الدستورية، قد يبقى الالتزام بالديمقراطية والمواطنة حبراً على ورق، ويُعرِّضُ عملية بناء دولة القانون للخطر قبل ولادتها.
ضغوط خارجية: حتى مع الالتزام بمبادئ الديمقراطية والمواطنة، قد تُواجه السلطة ضغوطاً من أطراف دولية غير مقتنعة بمصداقيتها، وقد يُستخدَم هذا الوضع وسيلة لممارسة الضغوط السياسية على السلطة السياسية، بسبب رجاحة كفة الشرعية المستمدة من الخارج على الشرعية المستندة على إرادة الشعب.
تهديد تحقيق استقرار داخلي: إن صياغة دستور بشكل منفرد وغير تضميني قد يُسهم في زعزعة استقرار البلاد، وفي تهديد السلم الأهلي وزيادة احتمالات اندلاع صراعات جديدة مستقبلية.
السيناريو الرابع
صياغة دستور بشكل منفرد، أو بإجراء استشارات شكلية، لا يلتزم بمعايير حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية.
المزايا:
تعزيز السيطرة: قد يُمكّنُ هذا السيناريو هيئة تحرير الشام من فرض رؤيتها الخاصة وبسط سيطرة سريعة على المدى القصير فقط.
إرضاء الأطراف المتشددة: الالتزام ببرنامج سياسي متماسك قد يُعزز الولاء الداخلي بين الفصائل المتحالفة، ويحقق طموحاتها ويخفف من احتمال نشوب صراع على السلطة بينها في المستقبل.
المخاطر:
تفاقم التوتر الداخلي: عدم الالتزام بحقوق الإنسان والمواطنة سيؤدي إلى تصاعد المعارضة الداخلية، ليس على المستوى السياسي فحسب، وإنما على المستوى الشعبي أيضاً، وقد يؤدي لاندلاع احتجاجات داخلية واسعة بما في ذلك في أوساط مؤيدي الثورة.
العزلة الدولية: سيُعرقل ذلك رفع العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على سوريا، وقد يؤدي إلى فرض عقوبات جديدة وتعاظُم الضغوط الخارجية التي سيدفع ثمنها الشعب السوري.
احتمال اندلاع حرب أهلية: تجاهل مبادئ المواطنة والمساواة قد يُغذي التوترات الطائفية والمناطقية والإثنية، ويُعيد البلاد إلى حالة من الفوضى يصعب التعامل معها، وقد تؤدي في النهاية إلى تهديد وحدة وسلامة الأراضي السورية وإلى تقويض إنجازات الإطاحة بالنظام السابق.
فُرَص ضائعة: سيُعزز هذا السيناريو التصورات السلبية عن القوى السياسية الإسلامية وتجاربها في العالم، مما يُضيّع فرصة تاريخية لتقديم نموذج إيجابي وتعزيز صورتها عربياً وعالمياً.
توصيات
توصي وحدة عمل سياسات سوريا بتبني السيناريو الأول:
نوصي بتبني السيناريو الأول لما له من مزايا تفوق المخاطر، ولأنه يؤسس لإقامة دولة قوية ذات شرعية كبيرة، ويعزز مفهوم المواطنة، ويساهم بإحلال السلام المُستدام بتفادي إعادة خلق بيئة الحرب، ويؤدي إلى القطع التام مع النظام السابق الذي تفرَّدَ بالسلطة وأجرمَ بحق السوريين والسوريات.
إطلاق حوار وطني شامل: يجب أن تكون الخطوة الأولى هي دعوة جميع الأطراف السياسية والاجتماعية لمناقشة رؤية مشتركة للمرحلة الانتقالية.
الالتزام بالشفافية: إعلان فوري لخطة واضحة للمرحلة الانتقالية وآليات تنفيذها لضمان الطمأنينة الداخلية والدولية.
الاستفادة من الخبرات السورية والدولية: طلب دعم منظمات دولية وخبراء دستوريين لضمان صياغة دستور يُلبي المعايير العالمية، والاستفادة من كل الخبرات السورية المتاحة في الداخل والخارج.
التخطيط والتنظيم: من أهم عوامل نجاح المرحلة الانتقالية هو وجود تخطيط وتنظيم جيد للمرحلة الانتقالية، قائم على الاستفادة من دروس الماضي وتوظيف الخبرات السورية والدولية لضمان نجاح التنفيذ بسلاسة وسهولة.
الهيئة التأسيسية: سيُشكل تحديد مهام الهيئة التأسيسية وصلاحياتها وآليات عملها ومكوناتها وآليات اتخاذ القرار فيها تحدياً كبيراً.
الأولويات في المرحلة الحالية لسوريا
تمثل المرحلة الانتقالية في سوريا فترة حساسة تتطلب التركيز على خمس أولويات رئيسية متساوية في الأهمية:
وقف العمليات العسكرية في وعلى سوريا: ضمان وقف إطلاق النار والالتزام به لمنع تصاعد العنف.
الأمن العام: إعادة بناء مؤسسات الأمن لحماية المواطنين ومنع الانفلات الأمني.
تأمين الحاجات الأساسية والخدمية للناس: ضمان توفير الغذاء والماء والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية الأساسية.
الإعلان الفوري عن خطة واضحة للعملية السياسية: وضع خطة شاملة ومعلنة للمرحلة الانتقالية تشمل آليات الحوار الوطني وصياغة الدستور، مع ضمان دعم ورعاية أممية للعملية.
العمل الفوري على تحفيز دوران عجلة الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة.
1.د. ابراهيم دراجي، «الآباء الدستوريون»، حكايات سياسية ودستورية من أعمال الجمعية التأسيسية للدستور السوري الأول بعد الاستقلال- دستور 1950، شركة بستان هشام، 2021.
2.من هذه الدراسات: «سوريا: خيارات لانتقال سياسي»، دراسة غير منشورة خاصة بمعهد كارتر. «خطة التحول الديمقراطي في سوريا»، دراسة صادرة عن بيت الخبرة السوري والمركز السوري للدراسات الاستراتيجية والسياسية، 2023.
3.بالاستناد إلى ورقة «قطاع الدستور» التي تم إنتاجها في مشروع الاجندة الوطنية لمستقبل سوريا 2015.
موقع الجمهورية
—————————-
عن مخاطر نشوء “مسألة علوية” في سورية/ مروان قبلان
15 يناير 2025
تزخر سورية، حال كل دول المشرق العربي، بتنوّع ديني، ومذهبي، وإثني صنعته قرون من التفاعلات السياسية والثقافية والدينية، والاجتماعية – الاقتصادية. ورغم أن هذا التنوّع العريق لم يكن دائماً، كما سائر المجتمعات البشرية، في حال انسجام، إلا أن تسييسه، بالمعايير المعاصرة، بدأ في فترات متأخّرة، وتحديداً حوالي منتصف القرن التاسع عشر، عندما أخذت الدول الاستعمارية الأوروبية بإنتاج ما أصبحت تعرف لاحقا بـ”مسألة الأقليات”، والتي كانت بدورها من أعراض “المسألة الشرقية” (مرض الدولة العثمانية)، تبلورت في أثناء الاحتكاكات المارونية -الدرزية عام 1840، وبشكل أكبر خلال أحداث عام 1860 الطائفية في لبنان وسورية. وظّفت الدول الأوروبية حينها هذه الاضطرابات أداة للتدخّل في شؤون المنطقة وبناء نفوذ لها بداعي حماية الأقليات. لكن هذه التوترات الطائفية لم تلبَث أن خفتت بشدة مع ظهور الدولة القومية (الوطنية) الحديثة في المشرق العربي، وتبلور مفهوم المواطنة وحقوقها المكفولة دستوريّاً، في سورية على وجه الخصوص، فصار طبيعيا أن ترى كردياً، مثل محمد علي العابد رئيساً للجمهورية (1932 – 1936)، ومسيحيّاً، مثل فارس الخوري رئيسا للوزراء (1954 – 1955)، وكردياً آخر، مثل حسني الزعيم قائداً للجيش ثم رئيسا للدولة (بعد انقلاب 1949)، وعلويّاً، مثل محمد عمران نائبا للرئيس (1963 – 1964).
أخذ هذا الوضع يتغير بوضوح منذ أواخر الستينات، وخصوصاً بعد استلام حافظ الأسد مقاليد السلطة، وتعمّق سياسة “تطييف” الجيش وأجهزة الأمن، حيث صار الأسد يعتمد، بشكلٍ مفرط، على الطائفة العلوية في تثبيت أركان حكمه، في إطار سياسة “ترييف” أوسع لمؤسّسات الدولة، بدأت مع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963. ويذهب كثيرون، بمن فيهم حنّا بطاطو، إلى أن نسبة الضباط العلويين في قيادة الجيش كانت أكبر كثيراً من وزنهم الديموغرافي، إذ بلغت قبل عام 1995 نحو 60%، في حين سيطر الضبّاط العلويون بعد عام 2020 على 100% من أعلى 40 منصبا قياديا في الجيش السوري.
خلال أكثر من خمسة عقود، نجحت عائلة الأسد في ربط الطائفة العلوية بها، وجعلت مصالحها مرتبطة ببقائها، كما كرّست لديها فكرة أن زوال الحكم الأسدي يعني حتماً الفتك بها، وتجريمها جماعيّاً. ارتباط عموم الطائفة العلوية بالنظام قابلته نظرة عداء وتشكّك من بقية فئات المجتمع السوري، ساهمت في نشوء حالةٍ من التماهي بين الطائفة والنظام. ولم يؤثّر في ذلك وجود مثقفين علويين معارضين لنظام الأسد، من أمثال عارف دليلة وعبد العزيز الخيّر وآخرين، دفعوا أثماناً باهظة نتيجة مواقفهم. وكانت عائلة الأسد مارست، لأسبابٍ اجتماعيةٍ معروفة، عقوداً، تهميشاً ممنهجاً بحق أبرز العائلات العلوية في الساحل من أمثال آل الخير، وآل خير بك، وآل هواش، وآل بركات، وآل عثمان، وغيرهم. مع ذلك، ورغم التململ الواضح الذي أخذ يبرُز في أوساط العلويين تجاه سياسات النظام، خاصة في السنوات الأخيرة، إلا أن الجزء الأكبر ظل ملتزماً بدعمه، أو أقله غير مستعدٍّ للجهر بمعارضته، خوفاً على مصيرهم في حال سقوطه، خاصة وأن النظام وضعهم في مواجهة بقية أبناء المجتمع، حيث تورّط عديدون منهم في القتل والتعذيب، وفي أعمال نهب وسلب خلال سنوات الثورة السورية.
مع سقوط النظام، علت أصوات، في وسائل التواصل الاجتماعي خاصة، تجرّم العلويين بصفتهم هذه، وتطالب بإخراجهم كليّاً من مؤسّسات الدولة، عبر سياسات فصل تعسفي وغير ذلك من إجراءات العقاب الجماعي، وهذا توجّه في المبدأ خطير، لأن فيه استسلاماً لنوازع الثأر والانتقام، فضلاً عن أنه غير عادل، إذ يأخذ بعض الناس بجريرة آخرين. وعلى أهمية رفض هذا التوجّه قيميّاً وأخلاقيّاً، فإن خطر تبنّيه سياسياً أكبر، ذلك أن معاقبة العلويين باعتبارهم “جماعة النظام”، ومحاولة تهميشهم وتجويعهم سوف تدفعهم حتماً إلى التطلّع إلى الخارج من أجل الحماية، وهذا عمل يفتقر إلى الحكمة والخيال السياسي. لا ينبغي، لهذا، السماح بتصنيع مسألة أقليات (علوية، كردية، درزية، أو غيرها) في سورية، وهذا لا يتم إلا باستعادة “دولة المواطنة” التي أسّسها السابقون من السوريين، وتحقيق التوازن الصعب بين الحقّ في ملاحقة المجرمين وتحقيق العدالة، ومراعاة المصلحة الوطنية العليا المتمثلة في حماية السلم الأهلي ومنع التدخّلات الخارجية.
العربي الجديد
—————————
موازين القوى الإقليمية بعد سقوط نظام الأسد/ بكر صدقي
تحديث 16 كانون الثاني 2025
الواقع أن الانهيار السريع لنظام الأسد لم يكن إلا تتويجاً لمسار طويل من الاهتراء الداخلي والتعفن اللذين لم يكونا خافيين على أحد، وقد اقتصرت «أهميته» على كون المناطق التي بدت ظاهرياً تحت سيطرته عبارة عن ممر بري لمد حزب الله في لبنان بالسلاح والذخيرة من جهة، ولنقل المخدرات من لبنان إلى البلدان العربية عبر الحدود من جهة أخرى. هذا ليس بالقليل بالنسبة للمحور الإيراني، بطبيعة الحال، لكن ضمان استمرارية هذه الخدمات كان في حاجة إلى نظام أكثر تفاعلاً مع الوقائع السياسية، أي أكثر انخراطاً في السياسة. في حين كان النظام «نائماً في عسل» أوهامه بشأن عدم قدرة إيران وروسيا على الاستغناء عنه، تماماً مثل عدم قدرة مدمني الكبتاغون الأسدي عن الاستغناء عن منتجاته، بعدما ازدادت ثقته بـ«صحة» نهجه بدليل الحركة الدبلوماسية النشطة لاسترضائه من قبل تركيا ودول عربية وازنة، بل كذلك دول أوروبية مدفوعة بهاجس اللاجئين (8 دول أوروبية بقيادة إيطاليا). أما في الداخل السوري فقد كان مؤمناً إيماناً «صوفياً» موروثاً من أبيه ومدعوماً من تيار عالمي جارف قائم على إنكار وجود بشر شاء القدر الغاشم أن يكونوا من سكان سوريا، يمكن معالجة أمرهم بالعصا الغليظة إذا خطر لهم أن يتصرفوا كبشر طبيعيين، يجوعون ويعطشون ويمرضون، يحتاجون إلى تعليم وهواء للتنفس ووقود للتدفئة وللوصول إلى مكان عملهم، لا عبيداً يقتاتون على ضربات السوط ويشربون الذل مع غياب أي بصيص أمل في تحسين شروط عبوديتهم بما يجعلها قابلة للتحمل ولتوريثها إلى أولادهم والموت «مرتاحين».
على رغم كل هذه المقدمات الواضحة، كان المفاجئ هو التقاط هيئة تحرير الشام المصنفة منظمة إرهابية للحظة تاريخية قد لا تتكرر إلا بوتيرة تكرار خسوف الشمس أو ظهور النجوم المذنبة لسكان الكرة الأرضية. والحال أننا نستطيع تفسير هذه المفاجأة تفسيراً معقولاً ولكن بعد وقوعه. فقد كان ثمة قوتان فقط منظمتين تنظيماً جيداً تملكان القدرة النسبية على ملء فراغ السلطة الآيلة للسقوط ثمرةً ناضجة تنتظر من يمد يده لقطفها، وهما هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية. أما وأن الثانية ممتنعة بنيوياً على حكم سوريا بسبب تمثيلها الفئوي (الكردي) فلا يبقى غير «الهيئة» بقيادة أبو محمد الجولاني الذي عمل طوال سنوات على تغيير صورة منظمته إلى قوة سياسية وطنية بعيداً عن أيديولوجيته السلفية الجهادية التي يشكل العالم ساحة جهادها، والحاكمية الإلهية غايتها.
ولعل مما شجع الهيئة على اقتناص اللحظة هو قبول «العالم» المشبع بالإسلاموفوبيا و«مكافحة الإرهاب» بعودة حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان، فما الذي قد يمنعه من قبول «الهيئة» أيضاً بعدما فشل في فرض «انتقال سياسي» في سوريا على ما نصت عليه رطانة الأمم المتحدة منذ العام 2015، وبعد فشل جميع الجهود الدولية في إنقاذ نظام الأسد من نفسه، وتحولت «المشكلة السورية» إلى مشكلة لاجئين ومخدرات وسكان في حاجة إلى مساعدات دولية دائمة.
أما وقد «تم الأمر» فقد عادت سوريا إلى دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي، لا بوصفها بلداً منكوباً يحتاج إلى إقامة دولته من الصفر وإلى مساعدات إسعافية في كل المجالات، بل بوصفها ساحة تشهد فراغ قوة بعد خروج إيران (وحزب الله) من المعادلة، وإضعاف روسيا فيها. القوى الإقليمية المرشحة لملء الفراغ الذي تركته إيران هي تركيا وإسرائيل ودول الخليج العربية مع دور سعودي راجح (وهي جميعاً أقرب إلى القطب الدولي الغربي المواجه للقطب الصيني – الروسي). ثمة مقاربة سطحية شائعة ترى في تركيا الوريث «البديهي» للنفوذ الإيراني في سوريا، في حين أن مسالك السلطة الجديدة في دمشق تشي باستقلالية لا يستهان بها عن الحليف التركي، ورغبة في موازنة دوره مع دور عربي. فلا يمكن إغفال أن أول زيارة يقوم بها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني كانت للرياض، تلتها زيارات إلى الدوحة وأبو ظبي وعمّان، على رغم أن تركيا كانت أول دولة أوفدت وزير خارجيتها إلى دمشق. كما شكّل أحمد الشرع حكومته بعيداً عن أي توزير من الائتلاف الوطني في اسطنبول وحكومته المؤقتة في غازي عنتاب، وطغى على مقاربته في التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية، إلى الآن، الميل التفاوضي والتوافقي، بخلاف فصائل «الجيش الوطني» التي تخوض معركة تركيا ضد قسد.
أما إسرائيل فقد استغلت الفرصة بطريقتها المعهودة، فتمددت ميدانياً في المنطقة الحدودية، وضربت كل ما تبقى من إمكانات عسكرية سورية، ولا حظ لها في الهيمنة السياسية على سوريا ما بعد الأسد لأسباب بنيوية، وجل ما يمكن أن تطمح إليه هو محاولة التلاعب في المساحة القذرة من غواية الكرد والدروز على ما لاحظنا في تصريحات وزير الخارجية جدعون ساعر بهذا الخصوص.
بل يمكن الحديث عن أن إسرائيل المنتشية بفائض القوة في غزة ولبنان، قد خسرت ورقة مهمة جداً بهزيمة المحور الإيراني، فلم تعد بلدان «اتفاقات أبراهام» أو السعودية التي كانت مرشحة للانضمام إليها، في حاجة إلى التحالف مع إسرائيل في مواجهة البعبع الذي كانته إيران في نظر تلك البلدان.
كاتب سوري
القدس العربي
————————-
ملاحظات وخواطر من سوريا في زمن جديد/ ياسين الحاج صالح
تحديث 16 كانون الثاني 2025
أول ما قد يلفت سورياً عائداً إلى بلده بعد سنوات مظاهر تردٍّ متقدم في البيئات المدينية، الأبنية والشوارع والمساحات الخضراء والهواء الملوث، بخاصة في العاصمة دمشق، فضلاً عن تراجع الخدمات من كهرباء (بالكاد ثلاث ساعات في اليوم في دمشق) وقلة النظافة وازدحام مروري شديد، وانتشار «البسطات» في كل مكان، تبيع بضائع قادمة من الشمال، من إدلب ومن تركيا. وفي الساحات والشوارع الرئيسية في دمشق وحمص واللاذقية تصادف كل 100 متر تقريباً أوعية ماء بلاستيكية مملوءة بالبنزين، القادم بدوره من الشمال. ومع انفتاح حدود البلد لسوريين وأجانب بعد سقوط النظام، تنتشر محلات الصرافة، وفي الشارع بين السيارات تعلو أصوات صرافين ينادون على بضاعتهم. هناك حالة اهتراء في البلد تعكس تقدم العملية الترثيثية التي عانت منها سوريا طوال سنوت الحكم الأسدي، وفاقمتها شروط الثورة والحرب والتعفن الطويل للصراع السوري، وما يتصل بذلك من غياب أفعال الصيانة والتجديد. يتقابل هذا الترثُّث مع التحفز العام عند قطاعات من السوريين أوسع من أي وقت سبق، تسود فيها روح إيجابية، وإن كان يتناوبها طيف المشاعر كله، من الابتهاج والفرح إلى الخوف والتوجس كل يوم. اتجاه تطور الأمور في البلد يتعلق بقدر ما بمحصلة القوى بين الترثث القائم والمترسخ واتساع دوائر التحفز أو التوثب النشط.
المشكلة الأساسية هي الفقر الذي تتراوح أرقامه بين 70 و90 في المئة من السكان، يظهر مباشرة عبر انتشار كبير للمتسولين في الشوارع، أطفال من الجنسين ورجال ونساء، وكذلك في اقتصاد البسطات. هذا يقتضي معونات إسعافية عاجلة، وأهم من ذلك تحفيز النشاط المنتج الصناعي والزراعي والخدمي، وتقلص مراتب البطالة الصريحة والمقنعة. أما المشكلة الملحة أكثر من غيرها فهي الأمن، في حمص خاصة التي شهدت وتشهد توترات طائفية وعمليات تفتيش و«تمشيط» بحثاً عن السلاح ومطلوبين، لكن مورست أثناءها أفعال إذلال مشينة ضد مواطنين علويين. ينسحب سكان المدينة من شوارعها غير المضاءة في السابعة مساء، خلافاً لما هو الحال في اللاذقية ودمشق.
بعد خمسة أسابيع من فرار بشار الأسد وسقوط نظامه، الأوضاع سائلة في البلد ولا شكل لها: المؤسسات القديمة ألغيت أو جمدت أو فقدت الفاعلية، والمؤسسات الجديدة المتصلة بإدارة أحمد الشرع ضعيفة التشكل والأثر إلى اليوم، ولا تبدو موحدة التوجه. ولأنه سائل، فهذا زمن تأسيسي، ويبدو مناسباً جداً للأنشطة العامة المؤسّسة، من بناء الأحزاب والمنظمات والجمعيات، ومن توسيع مساحات النقاش العام، كجهود لتشكيل الأوضاع العامة بما يتوافق مع تطلعات الفاعلين العامين الجدد. الوضع وضع ثورة بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث تثور الانفعالات وتختلط المشاعر وتتداخل الأفكار في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. لا يكاد يتكلم أي شخص دون أن يقول الشيء ونقيضه.
ويتصل بوضع السيولة كثرة الإشاعات وفي كل اتجاه، سواء عبر اختلاق وقائع غير موجودة يسهل من أمر انتشارها وسائل التواصل الاجتماعي، أو بتحويل نتفة من حدث إلى قصة وبناء تأويل حولها حسب هوى المتكلم، أو من تحويل تأويلات مجادل بها إلى وقائع قطعية. ربما يحدث مثل كل ذلك في الثورات والتحولات العظيمة، ولكنه يدعو إلى التريث والتبصر. ظواهر الأمور قلما تطابق حقائقها، وقد لا نرى ما يجدر بنا رؤيته بسبب اضطراب مياه الواقع الجديد وما يتصل به من هيجان الانفعالات.
شهر العسل الثوري، بعبارة آصف بيات، انتهى كأمد زمني، لكنه لما ينته في النفوس، يتجدد مع كل قادمين جدد إلى البلد بعد سنوات طويلة من المهجر، نحو نصف قرن في حالة الصديق فاروق مردم بيك. سقوط النظام بعد 54 عاماً من الحكم، لا يزال ثورة عظيمة، كانت مستحيلة التصور قبل شهر ونصف. وهذا مثلما كانت الثورة السورية مستحيلاً وقع، ومثلما كان تناهش البلد والدمار البشري والمادي الواسع النطاق مستحيل التصور. في سوريا اليوم ما قد يكون أعلى مستوى حرية بلا قواعد في عالم اليوم، وفي حين أنه لا بد من تطوير قواعد ناظمة لأوجه العمل العام في الشهور والسنوات القليلة المقبلة، فإن الخشية من قواعد بلا حرية منتشرة اليوم ومنذ البداية قبل أسابيع.
المزاج العام متقلب، بل سائل هو الآخر، لكنه متفاعل مع ما يجري. لكن هناك شكلين من رفض التفاعل، أولهما تشكك عدائي سلبي بكل ما يحدث، يرفض أخذ العلم بوضع جديد كثير الممكنات، ويمكن التأثير فيه في الجهة التي يفضلها المتفاعلون؛ وثانيهما هو الموالاة الاتباعية العمياء التي يلغي أصحابها أنفسهم بالالتحاق بما تفعله السلطة دون نقاش. هذان موقفان قديمان على حد سواء، ينكران «ذاتية» التحول الكبير، ويرفضان التغير لملاقاته. يشتركان في إنكار البداية الكبيرة لصالح استمرارية ما سبق والثبات على القديم.
يلحظ كل من يقابلهم المرء من متكلمين أن أحمد الشرع لم يخاطب السوريين مباشرة. الواقعة مؤسفة، وما قد يكون مؤسفاً أكثر منها هو السبب المحتمل وراءها: الخشية من إعطاء وعود محددة أو عدم القدرة على ذلك. هذا خطر. سوريا تلج مستقبلاً لا يمكن التنبؤ بأحداثه، وما يساعد على ولوجه بأمان هو أن المتحكمين بمفاتيحه أكثر من غيرهم يلتزمون أمام العموم ويلزمون أنفسهم بوعود عامة. ليس الوقت مبكراً على فعل ذلك.
وربما يكمن وراء عدم القدرة على الوعد كون الشرع يحكم كيانين: جماعته في «هيئة تحرير الشام» وما ينضوي تحت جناحها من تشكيلات مسلحة، ثم سوريا، البلد المتعدد على مستويات متعددة. والعلاقة بين ما يتصل بالكيان الأول من وعود، مع ما هو معلوم من أن لمعظمه تاريخا سلفيا جهاديا، أي متطرفا وطائفيا ومحافظا اجتماعياً جداً، وبين وعود الكيان الثاني، السوري، هي علاقة عدم توافق، بل تنافر. وما حدث غير مرة من تدخلات في حياة سكان محليين هنا وهناك، ومنها مبادرة الهداية في جبلة على الساحل على يد أشخاص غير سوريين، هو مثال على تنافر الوعود. «سوريا بدها حرية» وليس فلقة لمن لا يحفظ القرآن.
لعل من الدوافع التكوينية العميقة في سلوك الفريق المسيطر الجديد ما يمكن تسميته رهاب السحق الذي يتملك الإسلاميين، وهو رهاب لم يأت من عدم، فقد سحقوا فعلاً على يد نظم محلية ونظام السيطرة الدولي مراراً وفي بلدان متعددة. من يستطيع أن يعطي الإسلاميين الحاكمين اليوم تطمينات بأنهم لن يسحقوا؟ لكن في هذا الشأن، كما في شأن مخاوف «الأقليات» التطمينات لا تجدي. ما يمكن أن يجدي هو ميثاق وطني سوري يؤسس لنظام سياسي جديد، قائم على التعددية السياسية والانتخابات الحرة وتداول السلطة. ما يحمي الإسلاميين هو نفسه ما يحمي غيرهم، مثلما أن ما يحمي الأقليات هو ما يحمي غيرها: المواطنة المتساوية. الميثاق، أو بكلمة أخرى الدستور، يمكن أن يعتمد بعد انتخابات حرة تجري خلال أربع سنوات، مثلما قال الشرع. ليست هذه فترة طويلة من أجل أسس أمتن لسوريا جديدة، لكن بشرط واحد: كفالة الحريات العامة خلال هذه السنوات من أجل توسيع دوائر النقاش العام واستقرار المشاعر والانفعالات ووضوح الأفكار، من أجل الحفاظ على قوة الدفاع الإيجابية الراهنة، ثمن من أجل أن يشكل الناس منظماتهم وأحزابهم ونقاباتهم واتحاداتهم في جو من الأمان والثقة. وهو ما يقتضي من الإسلاميين أن يفكروا بأنهم حزب (أو أحزاب) مثل غيرهم، وليس «الحزب» مثلما كان حزب البعث الذي حزّب الدولة، وسهل خصخصتها واختزالها إلى «سوريا الأسد». إذا تمكن غرور السلطة الذي أودى بالأسديين وسوريا من إسلاميي اليوم فلن يكن المآل مختلفاً. ما يحميهم هو قواعد تعمهم مع غيرهم، وليس امتيازات سياسية وحقوقية ومؤسسية تخصهم دون غيرهم.
ليس ما يطمئن الإسلاميين «سياسة أعيان» جديدة يبدو أن تفكيرهم ينتظم حولها، يجري فيه تمثيل الجماعات الأهلية في النظام السياسي، لكن بثمن تثبيت الشكل الأهلي، دون المدني ودون الديمقراطي، للمجتمع السوري. سياسة الأعيان الجديدة لا تستطيع أن تعترض على سياسة «حماية الأقليات» التي تطرحها القوى الغربية، واليوم إسرائيل. لسياسة الأعيان وجه اجتماعي محافظ في كل حال، واقترانها باقتصاد السوق الذي تعرض الإرادة الجديدة حماسة له تقارب ما يسمى «أصولية السوق» سيدفع من كل بد إلى مشكلات اجتماعية متفجرة خلال سنوات، وليس عقودا. ما يتجاوز سياسة حماية الأقليات هو ذاته ما يتجاوز سياسة الأعيان، وهو نظام سياسي يقوم على المواطنة، أي المساواة الحقوقية والسياسية بين السوريين الأفراد، والحريات العامة وحكم القانون والتعددية السياسية والانتخابات الحرة وتداول السلطة.
بعد موت سياسي مديد، تحتاج سوريا إلى حياة سياسية تتنشط. حكم المواطنين أصعب بطبيعة الحال من حكم الأتباع، لكن الحكم السهل على الطريقة الأسدية قاد إلى حربين أهليتين، بعشرات ألوف الضحايا في الأولى ومئات الألوف في الثانية، وإلى قطع الرأس السياسي للمجتمع السوري. يجب ألا يتكرر ذلك، وحول هذا الواجب يتعين أن تقوم الحياة السياسية والأخلاقية في سوريا الجديدة.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————-
مخاطر الانتقال إلى سورية جديدة/ راتب شعبو
16 يناير 2025
لأول مرّة في عمر سورية الحالية الذي تجاوز القرن ببضع سنوات، تسقط السلطة الحاكمة من خارج جهاز الدولة نفسه. ولأول مرّة تتحطّم الدولة السورية، ويتلاشى الجيش والأجهزة الأمنية، ولا تبقى للنظام السابق أي ركيزة في المجتمع، لا من فئاتٍ شعبيةٍ ولا من جهاتٍ سياسية أو غيرها. الحال أن نظام الأسد، في تنفيذه الفعلي وعده بإحراق البلد في العقد المنصرم، إنما كان يحرق كل ما يصل إليه بالمجتمع السوري وبالعالم أيضاً، ويهيئ لكل من سيخلّص البلاد منه مقبولية أولية مضمونة. وفي هذا كثير مما يفسّر الهدوء الذي تلا سقوط نظام الأسد، وهو ما يخفف الضغط على السلطة الجديدة، ويوفّر لها فرصة جيدة للانفتاح على المجتمع، فرصة ينبغي أن لا تضيع، وهذا لا يتوقّف فقط على السلطة الحديثة العهد، بل وعلى المجتمع بمختلف قواه أيضاً.
من العلامات المميّزة للتحول الذي حصل في سورية أن غالبية جمهور الموالين السابقين (نقصد المنحازين في موقفهم العام لصالح نظام الأسد في الصراع المفتوح)، رحّبوا بسقوط النظام. لا حاجة للقول إن المحرّك الأساسي لهذا التبدّل ليس هو رغبة الجمهور بالوافدين الجدد أو قناعته بأفكارهم، بل هو الإفلاس التام لنظام الأسد على كل المستويات، وتحوّله إلى عبء على جمهوره كما على سورية كلها. ينطبق هذا على نسبة كبيرة من غير الموالين، نقصد أن فرحتهم تنبع من خلاصهم من الأسد، وليس لأن هذا الخلاص جاء على يد إسلاميين، وهو ما لا ينبغي أن يخطئ هؤلاء في قراءته، فيعتقدون أن الفرحة السورية الغامرة هذه تعادل قبولاً بأفكارهم.
بعد الاستقطاب الحاد الذي شهدته سورية في السنوات السابقة، تجد نفسها في حالة لا تتكرر كثيراً في التاريخ، وهي وجود موقف عام موحد، وقبول شعبي كامل بضرورة تجاوز النظام السابق، ليس فقط بشخوصه ورموزه وركائزه، بل الأهم بمعناه، بما يتضمن من تركيبة فاشلة من القمع والفساد والمافيوية والانغلاق الأناني. السوريون يريدون البدء من جديد دون النظر إلى الخلف، مزودين بدرس جوهري هو أن التراجع أمام السلطات لا يزيدها إلا فرعنة على المحكومين، وأن السلطات لن تحترم حقوق محكوميها ما لم يحترموا هم أنفسهم حقوقهم.
ما يحلم به السوريون لم يعد مستحيلاً، وقد دفعوا ثمنه غالياً، وعبّروا عنه في مظاهراتهم الأولى، إنه بناء دولة عامة وليست مستعمرة للسلطة القائمة، أن تكون السلطة مجبرة على احترام المسافة التي تفصلها عن الدولة، فلا يتطلب تغيير السلطة تحطيم الدولة كما جرى. يحلم السوريون أن يشهدوا الصورة السلمية التي سلّم فيها رئيس وزراء نظام الأسد السلطة لشخص آخر، من دون أن تكون في خلفية هذه الصورة أهوال وفظائع وأنهار من الدم.
نعتقد أن الدور القيادي المركزي الذي تلعبه هيئة تحرير الشام وزعيمها، إضافة إلى تأثيرات خارجية، أميركية وتركية أساساً، جنّب سورية خطرين كان يمكن أن يفسدا كل شيء، الأول هو المجازر الانتقامية، والثاني صراع الفصائل. صحيحٌ أن كل مرحلة انتقالية تكون محفوفة بالمخاطر، ولكننا نعتقد أن الخطر الحقيقي على المرحلة الانتقالية اليوم لا يأتي من خارجها، أي لا يأتي من إمكانية هجوم مؤثّر لقوى من خارجها بغرض استعادة وضعٍ سابقٍ بشكلٍ ما، بل يأتي من احتمال تفجر التركيبة الانتقالية نفسها، سواء بسبب فشل حل مشكلة الفصائل، أو الفشل في لجم شهية الثأر وفرض الذات التي تبدو واضحة أكثر عند العناصر غير السورية، وكلما نزلنا في السلم القيادي. النجاح في تفادي هذه المخاطر المباشرة أمر أساسي للانتقال إلى دولة متوازنة، على أن هذا لا ينبغي أن يحجب عنا الخطر الذي لا يقلّ أهمية، وهو “نجاح” المرحلة الانتقالية في إعادة بناء النظام السياسي المغلق على الطريقة السابقة.
تعمل القوى الإسلامية للسيطرة على مفاصل الدولة، ولا سيما أجهزة القوة فيها، يجري ذلك أمام السوريين من دون اعتراضٍ يُذكر، وذلك لإدراكهم الحاجة، في الظروف الحالية، إلى وجود قوة عامة منظمة تحمي من انفلات العنف الذي يخشاه الجميع. تنطوي هذه الحاجة المفهومة اليوم على أهم المخاطر التي تواجه تحقيق حلم السوريين، ذلك لأنه سيكون بمقدور الإسلاميين بعد ذلك، إذا أرادوا، ولا غرابة في أنهم يريدون عرقلة، أو الالتفاف على، ما لا يرضون عنه من مخرجات أي مؤتمرٍ وطنيٍّ ممكن. ليس هذا لأنهم إسلاميون، بل لأنهم سلطة. أي جماعة سياسية في الحالة التي هم عليها الإسلاميون اليوم، سيشكلون الخطر ذاته. ربما كان ثمة خطر إضافي في حالة الإسلاميين، لأنهم إطلاقيون في تصوّراتهم أكثر من غيرهم، وتظهر لديهم هذه العلة أكثر كلما التمسوا القوة في أنفسهم أكثر.
ما جرى في سورية يحمل ملامح انقلابية. في السنوات الأخيرة، اعتبر بعض المعارضين السوريين أن تعبير “النظام السوري” بات يعني كامل التركيبة السياسية التي استقرّت في سورية، وتشمل ليس فقط سلطة الأسد، بل أيضاً السلطات التي نشأت في سياق انكماش مساحة سيطرة الأسد. على هذا، يمكن وصف ما جرى انقلاباً من داخل “النظام”. من عادة الانقلابيين أن يستولوا على الدولة بوعود عالية، ثم، حين يمكّنون لأنفسهم، يخونون وعودهم ويواجهون المجتمع بالدولة إذا ما تحرّك المجتمع للدفاع عن نفسه في وجههم. في العموم، نخطئ إذا عرّفنا الاستبداد خيانة. المستبد يخون المجتمع في استخدام الدولة التي يفترض أنه مؤتمنٌ عليها، لمصالحه الخاصة وضد المجتمع.
لذلك، ورغم إقرارنا بأهمية تحصين المرحلة الانتقالية من المخاطر أعلاه (صراع الفصائل على السلطة، وتفشّي نزعة الثأر العمياء سياسياً)، يحقّ لنا، بل علينا، أن نقلق من احتمال أن تتجه سيطرة الإسلاميين على الدولة إلى أن تكون نهائية، لا ينفع معها سوى ما نفع مع سيطرة الأسد. تجارب الإسلام السياسي السابقة (التي خسرت الحكم مثل السودان، والتي لم تخسره بعد مثل إيران)، تقول لنا الكثير مما قد يفيدنا. الاطمئنان لا يأتي من تكرار القول إن سورية ليست أفغانستان مثلاً، وإنه لا يمكن أن يحكمها الإسلام السياسي، الاطمئنان يأتي من الفعل اليومي الذي يثبت أن سورية ليست أفغانستان.
العربي الجديد
————————
مؤتمر الحوار الوطني السوري: آمال وتوقّعات/ نزار بعريني
2025.01.15
يتطلّع السوريون بكثير من الأمل إلى المشاركة الفاعلة في جهود الحوار الوطني الذي تعتزم الإدارة الجديدة إطلاق مؤتمره الشامل والموسّع في دمشق، وقد أعطى قرار تأجيل انعقاده من مطلع ديسمبر، كما كان متوقّعا إلى منتصف فبراير القادم، مؤشّرات إضافية على حرص المسؤولين على الوصول إلى أفضل صيغ الحوكمة الممكنة في ظل تعقّد الشرط الموضوعي والذاتي السوري، وفي ضوء عوامل السياق الخارجي.
إذ يشكّل مؤتمر الحوار الوطني عمليا المرحلة التأسيسية لهيئات ومؤسسات الحكم التنفيذية والتشريعية في المرحلة الانتقالية والدائمة، أحاول في هذا المقال رسم تصوراتنا لطبيعة المهام السياسية والتشريعية والاقتصادية التي من المتوقّع أن يناقشها المؤتمر الوطني السوري العام المزمع عقده في أواسط شباط القادم.
1- على الصعيد السياسي
أعتقد أنّ النتيجة الرئيسية التي ستنبثق عن المؤتمر هي تشكيل حكومة” وحدة وطنية” انتقالية، واسعة التمثيل السياسي الشعبي والوطني، وتحظى بغطاء ودعم إقليمي ودولي
أن تسعى القيادة إلى قيام حوار ومشاركة شاملة بين السوريين، يجمّع مختلف الأطراف في الداخل السوري والخارج حول مصالح السوريين المشتركة، هو علامة واضحة الدلالة على أنّهم يسعون إلى تشكيل حكومة وطنية، تستند إلى مشروعية وقاعدة شعبية واسعة، وبما يشجّع القوى الدولية على دعم مسارات المرحلة الانتقالية.
يبدو لي أنّ تلك القوى الدولية ذاتها باتت مقتنعة أنّ المؤتمر هو مسألة سورية داخلية، ويرتبط بالحاجة لقيام حوار وطني شامل، وتوافقات بين السوريين، في إطار مسعى الإدارة الانتقالية لأن تستمد الحكومة المقبلة شرعيتها الدستورية من قاعدة شعبية واسعة، قدر الإمكان، وأنّ الولايات المتّحدة قد تدعم هذا الجهد بما يتوافق مع رؤيتها لمستقبل” الإدارة الذاتية” (١)، وقد نصل إلى نقطة يصبح عندها من المفيد أن تُعلن الأمم المتحدة دعمها الصريح لجهود الإدارة الانتقالية بشكل خاص، والسوريين عموما، على تحقيق ما يصبون إليه من تشكيل حكومة واسعة تشمل جميع الشرائح الاجتماعية في سوريا، وتشكّل عمليا” هيئة حكم انتقالية”.
2- على الصعيد التشريعي/ السياسي
إذا أخذنا بعين الاعتبار ما أكّد عليه رئيس الإدارة الانتقالية لتلفزيون “العربي”، أحمد الشرع، موضّحا أبرز سمات المرحلة الانتقالية، نتوقّع تشكيل لجنة خاصة لصياغة “إعلان دستوري- دستور مؤقّت”، خاص بالمرحلة الانتقالية، وإقراره، بعد حل البرلمان، وسيقوم بدور الرقابة على أعمال الحكومة؛ وقد يكون نتيجة لتعديل أحد الدساتير السابقة؛ علاوة على لجنة خاصة بصياغة دستور دائم يصلح لأطول مدة ممكنة.
“نحتاج إلى صياغة دستور، أو حل الدستور السابق، صياغة دستور جديد، أو تعديلات دستورية” فصياغة الدستور يجب أن لا يكون وجبات سريعة… يجب أن يُصاغ بعناية شديدة، وعليه رقابة، وينبغي أن يُستشار به خبراء قانونيون وشرعيون دوليون بحيث يكون دستور يصلح لأطول مدة ممكنة.
هذا مفرق تاريخي. الدستور يجب أن يكون ناظما لحياة المجتمع، بحيث لا تتكرر التجربة السابقة نفسها، وتذهب سوريا إلى ما ذهبت إليه خلال الستين عام الماضية”.
بكل الأحوال، لن يكون من مهمّة هذا المؤتمر تحديد موعد للانتخابات العامة، البرلمانية والرئاسية، بعد تصريح الشرع، الذي أشار فيه إلى أنّ إجراء الانتخابات قد يستغرق أربع سنوات، لأسباب تتعلّق بمشكلات داخلية، كعدم وجود تعداد حقيقي للسكان، في ظل ملايين المهجّرين والنازحين.
ومما جاء في مقابلة الشرع عن الانتخابات العامة الرئاسية قال: “هذا أمر آخر، البنية العامة التحتية للانتخابات متعذّرة جدا، بحاجة إلى بناء من جديد”.
وعن طبيعة هذا الدستور الدائم الموعود، يقول وزير العدل شادي الويسي: “نحن ننتظر الآن المؤتمر السوري العام الذي سيصدر عنه نتائج مهمّة جدا على مستوى التشريع القادم، وآليات عمل الدولة، والنظم التي تحكم الدولة”.
يتابع الويسي: “ستأخذ لجنة إعداد الدستور القادم ما كان يصبوا إليه الشعب السوري. دستور يشمل جميع السوريين بعنايته، من دون أن يكون هناك مواد، تفرض على الشعب السوري ما يخالف تطلّعاته وتوجّهاته القادمة”.
3 – على الصعيد الاقتصادي
لا بدّ أن تأخذ اللجان الخاصة بوضع القاعدة التشريعية للاقتصاد السوري الجديد بعض الملامح التي بدأت تتبلور خلال الأسابيع القليلة الماضية، وقد تشكّل بعض سمات” النهج الاقتصادي الرأسمالي” الذي تعتزم الإدارة الجديدة تبنيه، ويأخذ طابع الاقتصاد الحر:
تنظيم وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وسياسات مالية ونقدية خاصة، ترتبط بدعم الدولة للقطاعات الرئيسية المرتبطة بالبنى التحتية، وتتوافق مع سياسات ربط الأجور بالأسعار، وسلّم الصادرات بآليات ضرائب مرنة، وتراعي حاجة السوق الاستهلاكية، إضافة إلى إعادة البنية القانونية الناظمة لمشاريع إعادة الإعمار.
“هناك كثير من الخراب في هذه الدولة التي حكمها النظام لأكثر من خمسين عاما، وخلّف دمارا.. كثير من الهدم والدمار. هناك انقسام مجتمعي وتهديم للبنية التحتية، تعليمية وبنية اقتصادية ومنشآت وزراعة إلخ.. وهناك نحن بحاجة إلى قوانين ناظمة تنظم العمل بما يتناسب مع تطلعات الشعب السوري في أن يكون بلد متقدم ومتطوّر”. “أحمد الشرع”- المصدر السابق.
أعلن وزير الخارجية السوري، السيد أحمد الشيباني، عن تريّث حكومته “بالمؤتمر الوطني لكي يتثنى تشكيل لجنة تحضيرية موسّعة، تستوعب التمثيل الشامل لسوريا، من كافة الشرائح والمحافظات، والتي ستكون الحجر الأساس في بناء الهوية السياسية لسوريا المستقبل”.
قد يكون الدافع الرئيسي “للتريّث” هو ما تناقلته بعض المصادر عن وصول الحوار بين أحمد الشرع وزعيم “قوّات سوريا الديمقراطية” (قسد) مظلوم عبدي، برعاية أميركية / تركية إلى صفقة شاملة، تُتيح استيعاب أفراد وعناصر” قسد” في تشكيلات وزارة الدفاع الجديدة، وتسمح للقيادات السياسية في قسد ومسد المشاركة الفاعلة في لجان المؤتمر الوطني السوري، يمكن لنا أن نتوقّع حصول تغيّرات مهمّة في آليات عمله و طبيعة مخرجاته، بما يعزز عوامل توحيد سوريا، ودمقرطة نظامها السياسي.
ما جاء في خطاب نائب رئيس مجلس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية السابق السابق عبد الله الدردري في لقاء مع نخبة من رجال الأعمال السوريين في الإمارات العربية المتحدة، يُعطي مؤشّرات سياسية وقانونية واقتصادية بالغة الأهمية، قد تجد صدى واسعا داخل أروقة المؤتمر الوطني: “خلال زيارتي في دمشق، سأعرض حزمة من المشاريع التي تساعد على تلمّس كيفية التخطيط، ووضع الرؤية، وتلمس الطريق.. التحرر التنموي السوري الذي هو أساس العقد الاجتماعي القادم.. النقطة الأولى في الإصلاح التي أحملها معي إلى دمشق، هي إصلاح الحوكمة.. المؤسسات.. القوانين.. التشريعات.. العقول.. العقلية التي تُدير البلاد”.
هناك فرصة عندما نسمع أولي الأمر اليوم يتحدّثون عن اقتصاد تنافسي حر، هي فرصة، يجب أن نغتنمها لأنه إذا استطعنا أن نرسّخ عهدا من الاستقرار والحريات ومساءلة السلطات من قبل الشعب، نحن قادرون على مواجهة هذا التحدّي، وتجاوزه”.
تلفزيون سوريا
—————————
هل يحتاج السوريون إلى خطاب من أحمد الشرع؟/ فرح يوسف
15.01.2025
مرّ أكثر من شهر على هروب الأسد، وتنصيب أبو محمد الجولاني نفسه قائداً للمرحلة المؤقتة، معتمداً تسمية أحمد الشرع. لكن يبدو أن أحمد الشرع لم ينقلب على نهج أبو محمد الجولاني في التعامل مع الشعب السوري. نهجٌ يتسم بالتجاهل المتعمد للتواصل المباشر مع السوريين والسوريات، يكتفي بتحركات سياسية وإدارية لا يقدم عنها أي تفسير أو مبرر، ما يثير أسئلة عن طبيعة العلاقة التي يبنيها مع الجمهور الذي يفترض أنه يمثله أو يحكمه.
فجر هروب الأسد، تحلّقنا حول طاولة في العاصمة الفرنسية، نصغي إلى البيان رقم 1، بهدوء يعاكس الهرج والرقص والنشوة الاحتفالية التي سبقت جلستنا، وتابعنا البيان الأول، واليوم أتابع على هاتفي مقطعاً سجله صديقنا توثيقاً لما ظنناه لحظة تاريخية. كانت لحظة سوريالية، مجموعة وجدت مبنى التلفزيون فارغاً، فملأت الفراغ بقراءة بيان مرتجل.
الخطاب السياسي الموجّه للشعب هو حجر الزاوية لأي قيادة في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى، الجسر الذي يربط بين تطلعات الناس ورؤية القيادة، وبين المخاوف الجماعية والحلول المقترحة. في خضم الأحداث التي أعادت تشكيل وجه سوريا منذ اندلاع الثورة عام 2011، تكشّفت هشاشة الخطابات السياسية أمام تطلعات الشعب وآلامه. من وعود بشار الأسد التي اتسمت بالغموض والمراوغة، إلى سياسات أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) التي افتقدت الشفافية والتواصل، بدا غياب الخطاب الصادق والمباشر عاملاً جوهرياً في تعميق جراح السوريين. وعلى رغم محاولات “الجولاني” تلميع صورته دولياً، يبقى السؤال مفتوحاً: كيف بإمكان قيادة أن تبني شرعية حقيقية بينما تتجاهل الشعب؟
خطابات الأسد: بين المراوغة والتشخيص النظري للأزمة
عكس خطاب بشار الأسد الأول بعد بدء الاحتجاجات السورية في آذار/ مارس 2011 توجهاً يغلب عليه التشخيص العام للأحداث بدلاً من التركيز على معالجة المطالب الشعبية الملحّة. فعلى الرغم من الإشارة إلى أهمية الإصلاح، ظل الحديث عن الخطط المستقبلية، مثل إعداد قانون الأحزاب ومكافحة الفساد، غامضاً وغير مصحوب بجدول زمني واضح أو خطوات تنفيذية محددة. هذا النهج أعطى انطباعاً بالتأجيل وأثار تساؤلات حول جدية الاستجابة للمطالب التي رفعتها الاحتجاجات. كما حمل الخطاب تركيزاً كبيراً على نظرية “المؤامرة” لتفسير الأحداث، ما طغى على الاعتراف بالاحتياجات الحقيقية للشعب السوري. بدلاً من تقديم رؤية شاملة تعالج جذور الأزمة، ركز الأسد على خطر الفتنة والضغوط الخارجية، ما أدى إلى إضعاف الإحساس بأن القيادة تسعى فعلاً إلى الاستماع للمطالب الشعبية أو تقديم حلول فورية. بالإضافة إلى ذلك، افتقر الخطاب إلى لغة تطمئن الشارع أو تهدئ التوترات، وبدت الرسائل موجهة لتعزيز دعم النظام أكثر من كونها دعوة إلى الحوار أو الإصلاح.
في خطابه الثاني بتاريخ 16 نيسان/ إبريل 2011، وعد بشار الأسد بإلغاء قانون الطوارئ الساري منذ عام 1963 ومحكمة أمن الدولة، وحث الحكومة الجديدة على اتخاذ خطوات إصلاحية ملموسة. ولكن هذا جاء من دون سياق عملي يضمن تنفيذ هذه الإصلاحات على أرض الواقع. يبدو أن الهدف كان تهدئة الضغط الشعبي والدولي، إلا أن هذه الوعود لم تحمل طابع الإلحاح أو الجدية المطلوبة للتعامل مع أزمة متصاعدة.
ألقى بشار الأسد خطابه الثالث في 20 حزيران/ يونيو 2011، ساعياً فيه إلى تعزيز الدعم الروسي والصيني الرافض فرض عقوبات أممية على نظامه، ما يتيح له المزيد من الوقت لمحاولة احتواء الأزمة المتفاقمة. كما أعلن عن تشكيل لجنة للحوار الوطني، وأشار إلى خطط لانتخاب مجلس شعب جديد في آب/ أغسطس 2011. جاء الخطاب فيما ازدادت الضغوط الدولية، لكنه كشف عن تركيز أكبر على الحفاظ على دعم حلفاء النظام، خصوصاً روسيا والصين.
إعلان الأسد عن لجنة الحوار الوطني والانتخابات البرلمانية الجديدة عكس رغبة في إظهار نية للإصلاح أمام المجتمع الدولي، لكنها خطوات كانت أقرب إلى المناورة السياسية منها إلى معالجة المطالب الشعبية. تزامن ذلك مع تركيزه على تعزيز موقف النظام خارجياً أكثر من التركيز على الداخل السوري، ما عمق الفجوة بين الخطاب الرسمي ومطالب الشارع.
تعكس هذه الخطابات مزيجاً من المراوغة والتشخيص النظري للأحداث، مع غياب الإرادة السياسية لتقديم حلول فعلية. هذه الاستراتيجية ساهمت في إطالة أمد الأزمة وتعميق التوترات، بدلًا من احتوائها أو الاستجابة لمسبباتها الرئيسية.
لم يكن الحال مختلفاً في إدلب بعد سنوات من الثورة السورية. كانت سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب نتيجة لهيمنة الجولاني الذي لم يكتفِ بالتغلّب على القوى المنافسة، بل ابتلعها واحدة تلو الأخرى، مكرساً نفسه زعيماً بلا منافس. تمكن الجولاني من فرض هيمنته عبر القضاء على الفصائل المعارضة، مثل فصائل الجيش الحر المكونة من ضباط منشقين وثوار مدنيين حملوا السلاح دفاعاً عن الشعب، وأحرار الشام الذين كانوا يمثلون إلى حد كبير الإسلام السياسي الجهادي في سوريا وكانوا المشروع المواجه لمشروع الجولاني، وإخضاع الفصائل الأخرى من خلال إنشاء غرفة عمليات “الفتح المبين”، التي جعلت جميع الأطراف تعمل تحت مظلته.
مع ذلك، افتقرت هذه السيطرة إلى أي شرعية مجتمعية حقيقية، إذ اعتمدت الهيئة بشكل أساسي على القوة والإقصاء، مع قمع أي احتجاجات شعبية ضد حكمها، كما حدث في مدن مثل بنش وجسر الشغور. هذه السيطرة لم تأتِ من شرعية مجتمعية حقيقية، بل من استراتيجيات الإقصاء والقوة، لتضع الجولاني في قلب مشهد يفتقر الى أي عقد اجتماعي يُعطيه الحق في تمثيل المنطقة.
كان تشكيل حكومة الإنقاذ محاولة لتقديم هيئة تحرير الشام كسلطة حاكمة قادرة على إدارة شؤون المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلا أن الواقع على الأرض يكشف عن صورة مختلفة. فعلى مدار السنوات الماضية، اعتمدت الهيئة بشكل أساسي على الموارد المالية التي تجنيها من المعابر والضرائب المفروضة على السكان، لكنها لم توظف هذه الموارد بشكل فعلي لدعم مشاريع تنموية أو خدماتية تخدم المجتمع المحلي.
في المقابل، كان العمل الخدمي والتنموي الفعلي تديره بشكل شبه كامل المنظمات والجمعيات الدولية والمحلية. تحملت هذه الهيئات، على رغم التحديات والقيود المفروضة عليها، العبء الأكبر في توفير الخدمات الأساسية، من تعليم وصحة وإغاثة، بينما انحصر دور الهيئة في مهام مجلس محلي فعلياً، من دون تقديم أي خطط مستدامة لتحسين واقع السكان أو تلبية احتياجاتهم المتزايدة.
منذ ظهوره كزعيم لهيئة تحرير الشام، بدا الجولاني وكأنه يضع الشعب خارج معادلة خطابه. سواء في لحظات الصراع أو الاحتجاج، ظل غائباً عن تقديم رؤية واضحة أو تفسير مقنع لسياساته. على سبيل المثال، عندما تصاعدت الاحتجاجات في المناطق الخاضعة لسيطرته، لم يخرج الجولاني ليشرح أو يناقش أو حتى يستمع. بدلًا من ذلك، استمر في تنفيذ قراراته وسياساته من دون التفات إلى الرأي العام المحلي. قرارات مثل فرض سياسات أمنية صارمة أو إدارة موارد المناطق بطريقة مثيرة للجدل أثرت على حياة الناس بشكل مباشر، من دون أن تحظى بأي تبرير أو تفسير رسمي.
وعلى الرغم من أن “هيئة تحرير الشام” لم تتبنّ الديمقراطية أو السيادة الشعبية، سعى زعيمها، أبو محمد الجولاني، إلى تقديم مشروع بناء الدولة كجهد يشمل جميع السكان عبر اجتماعات عدة مع وجهاء دينيين ومدنيين على امتداد 2021، 2022، 2023. خاطب في إدلب من كانوا يعتبرون قادة مجتمعيين وأعياناً، ولم يكونوا في غالبيتهم محضر توافق الجميع. بحسب صحيفة الغد، أكد الجولاني في خطابه أمام وجهاء إدلب في آب/ أغسطس 2022: “نحن جميعًا مؤسسة واحدة، كلنا لدينا سلطة، نحن كل الشعب”.
حاول أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، عبر اجتماعاته مع وجهاء المناطق والناشطين في إدلب، تقديم نفسه كقائد يعمل على بناء دولة مكتفية ذاتياً ومجتمع قادر على حماية ذاته. سعى إلى تأطير هذه الاجتماعات على أنها منصة للنقاش المفتوح والتفاعل مع قضايا السكان المحليين. تحدث الجولاني عن مشاريع تنموية تشمل تحسين الزراعة عبر خطط متكاملة، تطوير الصناعة بتبسيط القوانين وتسهيل التراخيص، وتحسين الخدمات العامة كالكهرباء والمياه. من خلال هذه اللقاءات، يُظهر رغبة في تعزيز الاكتفاء الذاتي والتخلص من الاعتماد على المساعدات الدولية، معتبراً أن الاعتماد الكلي على الدعم الخارجي يشكل إهانة للشعب السوري.
مع ذلك، تعكس طبيعة هذه الاجتماعات صورة مزدوجة؛ فمن جهة، أتاح الجولاني للنقاشات المتعلقة بالخدمات العامة والاحتياجات المحلية أن تبرز كوسيلة لتصحيح المسار وتعزيز شرعية هيئة تحرير الشام كسلطة حاكمة. ومن جهة أخرى، تشير التقارير إلى أن هذه الاجتماعات لا تتسع للنقد السياسي أو القضايا الحساسة التي قد تهدد سلطته. كانت الانتقادات التي تُطرح عبر القنوات الرسمية تُعتبر مقبولة، بينما يُقمع أي نقد علني أو تناول مواضيع تُعتبر “مخلّة بالأمن العام”. بهذا الشكل، تبدو الاجتماعات محاولة لترويج صورة منفتحة على الحوار، لكنها في الوقت ذاته تعمل على ضبط حدود النقاش ضمن إطار يخدم مشروع الهيئة السياسي.
الجولاني بين استعراض القيادة وتجاهل المسؤولية
مرّ أكثر من شهر على هروب الأسد، وتنصيب أبو محمد الجولاني نفسه قائداً للمرحلة المؤقتة، معتمداً تسمية أحمد الشرع. لكن يبدو أن أحمد الشرع لم ينقلب على نهج أبو محمد الجولاني في التعامل مع الشعب السوري. نهجٌ يتسم بالتجاهل المتعمد للتواصل المباشر مع السوريين والسوريات، يكتفي بتحركات سياسية وإدارية لا يقدم عنها أي تفسير أو مبرر، ما يثير أسئلة عن طبيعة العلاقة التي يبنيها مع الجمهور الذي يفترض أنه يمثله أو يحكمه.
لا أُطالب الحكومة المؤقتة هنا بمضاهاة دول العالم الأول، لكنني أرى أن الخروج بخطاب واحد للشعب، ولنسمه “خطاب النصر”، هو مطلب شرعي وقابل للتنفيذ، إذا ما توافرت النية السياسية للشفافية.
في أعقاب سقوط الأسد، زاد الجولاني من نشاطه في عقد لقاءات مع فئات محددة مثل رجال الأعمال والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، والوجهاء الدينيين من مختلف الطوائف. إلا أن اللافت في هذه التحركات هو امتناعه المستمر عن لقاء أسر المفقودين والمغيبين قسراً، الذين يمثلون شريحة مجتمعية تحمل ألماً كبيراً وتساؤلات مشروعة حول مصير أبنائهم، وتشكل فاعلاً رئيساً في مسار العدالة الانتقالية. هذا الامتناع يعكس فجوة عميقة في خطاب الجولاني، الذي يبدو انتقائياً في تحديد الفئات التي يخاطبها، متجنباً مواجهة القضايا الإنسانية الحساسة التي تمس عمق الأزمة السورية.
ما يلفت الانتباه هو الانفتاح الذي يظهره الجولاني على المجتمع الدولي والإعلام الأجنبي. فقد شاهدناه يطل في مقابلات صحافية يرتدي الملابس المدنية، محاولًا تلميع صورته كزعيم سياسي معتدل. يمكن تفسير هذه الخطوة بأنها محاولة لإعادة صياغة صورته أمام القوى الدولية. إلا أن هذا السلوك يثير تساؤلات: كيف بإمكان زعيم أن يسعى الى الحصول على اعتراف دولي بينما يفشل في التواصل مع شعبه؟
هل هذا التجاهل تعبير عن استعلاء سياسي، يرى فيه الجولاني أن مخاطبة الشعب ليست ضرورية؟ أم أنه تكتيك لتجنب الاعتراف بمسؤولياته أمام جمهور يرفض سياساته؟ قد يكون السبب مزيجاً من الاثنين، إذ يفضل الجولاني البقاء في منطقة الظل بدلاً من مواجهة الواقع الذي يتطلب الشفافية والوضوح. قد يكون غياب الخطاب الموجه للشعب جزءاً من استراتيجية تجنب المواجهة مع أسئلة يصعب الإجابة عنها. مثلًا، كيف يمكن تبرير السياسات التي فرضتها هيئة تحرير الشام على المناطق التي تسيطر عليها؟ وكيف يمكن تفسير العلاقات المتشابكة مع القوى الإقليمية والدولية؟
تشبه هذه الحالة السورية في جانبها المأساوي عبثية مسرحية “في انتظار غودو” لصموئيل بيكيت، حيث يبقى الأمل معلقاً بوعد لا يتحقق. لكن هنا، الانتظار لا ينتمي إلى عالم العبث، بل ينبع من حاجة مشروعة وأصيلة لدى السوريين لرؤية قيادة تخاطبهم بوضوح وتشاركهم رؤيتها للمستقبل. إنه انتظار يعبر عن مطلب جماعي لا يتوقف عند الوعود المبهمة، بل يتجاوزها إلى المطالبة بإجابات دقيقة وخطط ملموسة تعكس احتراماً لوعي الناس ومأساتهم. وبصفتي مواطنة سورية، أجد نفسي في قلب هذا الانتظار، أطالب بمطلب محدد وواضح:
الخروج بخطاب موجه للشعب السوري، يشرح فيه الجولاني رؤيته عن مهام الحكومة المؤقتة، خطة الأشهر الثلاثة التي مضى منها شهر بالفعل، علاقة الحكومة بتنظيم المؤتمر الوطني، واستعداده للانخراط في مسار عدالة انتقالية لا يستثني جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام.
هذا المطلب ليس رفاهية سياسية، إنما هو حق أساسي. الشعب السوري الذي عاش معاناة الحرب والتهميش لسنوات يستحق أن يسمع رؤية صادقة وخطة عملية.
ولهذا التجاهل تداعيات خطيرة. فبينما يسعى الجولاني الى تلميع صورته دولياً، تتآكل شرعيته محلياً. الهوة تتسع، وصورة القيادة تتحول إلى نموذج يعتمد على القوة أكثر من التفاهم. السؤال الذي يجب أن يطرحه الجولاني على نفسه: إلى متى يمكن لأي قوة أن تبقى بمعزل عن شعبها؟ هل يمكنه إدراك أن الشرعية الحقيقية تبدأ من الداخل، من خطاب صادق ومباشر يعترف بالشعب كشريك في صياغة المستقبل؟ أم أن رهانه سيبقى على الخارج فقط، معتمداً على صورة مصقولة لا تعكس واقع الأرض؟
الإجابة قد تكون في المستقبل القريب، لكن الشعب السوري الذي أثبت صبره ووعيه لا يمكن أن يُبقي على انتظار طويل. هذا الشعب يستحق خطاباً يليق بوعيه ونضاله، خطاباً يعترف بوجوده ودوره المحوري في أي معادلة سياسية. وفي غياب هذا الخطاب، يبقى الجولاني أسير معادلة مختلّة لا يمكن أن تدوم طويلاً.
كاتبة وناشطة سياسية سورية
درج
————————
سورية الجديدة وخطر البلقنة القادم من إسرائيل/ غازي دحمان
16 يناير 2025
تدخل الأفعال الإسرائيلية العدائية تجاه سورية في إطار ما أطلقت عليها حكومة بنيامين نتنياهو إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وصناعته من جديد، وفق معايير ومقاسات إسرائيلية، عبر تحويله إلى بيئةٍ منزوعة العداء لإسرائيل، تمنحها الأمان والسيطرة والتحكّم بمخرجاتها وتفاعلاتها.
تدرك إسرائيل أن حزب الله وحركة حماس قد لا يطول بهما المقام لهضم الانكسار الحاصل، فما دام أن بيئاتهما لا تزال مؤيدة لهما، وما دامت هذه البيئات ترى أن إسرائيل عدو وجودي، فإنها ستقّيم الانكسار الحالي أنه جولة في صراع مديد، وحتى ولو بعد سنوات طويلة ستعاود الكرة، طالما أن إسرائيل لا تريد ولا ترغب في التوصل إلى حلول سياسية تنهي معها مبرّرات الصراع ومحرّكاته، ومن ثم فإن إدّعاء تغيير الشرق الأوسط وتشكيل بديل عنه لن تكون بوابته هزيمة “حماس” وحزب الله، هذه متغيرات مؤقتة ومتحرّكة لا تصلح للبناء عليها صرحا بحجم شرق أوسط جديد.
قد تكون سورية المفتاح. يكون هنا التغيير على مستوى البنية الجغرافية لدولةٍ مركزية في الإقليم، تشبه يوغسلافيا في التسعينيات من القرن الماضي؛ إذ تبدو من الناحية النظرية غرفاً بعدة منازل، لديها قابلية للانفصال عن الجسم الأساسي، حيث لدى غرفة أسباب الانعزال والاستقلال ومبرّراتهما، وتملك نتيجة سنوات الفوضى الأدوات اللازمة لتثبيت هذا الانفصال، ولا تحتاج سوى إطلاق دينامية معينة، تعتقد إسرائيل أنها توفرها لها عبر سياساتها العدائية تجاه المركز الدمشقي.
كل ما تقوم به إسرائيل تجاه سورية في الوقت الراهن، هو التأسيس بالفعل لمرحلة تفكيك سورية، عبر تجهيز البيئة الإستراتيجية المناسبة لذلك، ما يعني أن تصرّفات إسرائيل السابقة، والتي بدأتها بتدمير الأسلحة السورية، احتلال حيز من الأراضي السورية، كانت جزءاً من عمل مخطّط وممنهج ومدروس بعناية، الهدف منه تهيئة البيئة الإستراتيجية المناسبة لإطلاق ديناميات التفكيك وتزخيمها للتفاعل في المسارات السورية وتنتج الواقع المنشود لإسرائيل، والذي لم يخف قادة إسرائيل تصورهم لمشهديته المتشكّلة من خمسة كانتونات منفصلة ومتنازعة وتحتاج لإسرائيل، الجار القوي، لضبط صراعاتها وتحديد أشكال وأنماط تفاعلاتها.
في اعتقاد ساسة إسرائيل، أنهم أمام فرصة نادرة لتحقيق أهدافهم، والإعلان عنها بكل شفافية ووضوح، فالسلطة الحاكمة لديها سجل دولي في التطرف، ومصنفة لدى الكثير من الفاعلين الدوليين الكبار بوصفها تنظيما إرهابيا، وعلى ضوء ذلك، يمكن لإسرائيل الذهاب بعيدا في تصرفاتها العدائية تجاه سورية، انطلاقا من مبدأ الحماية للنفس، دون الاضطرار لتبرير أفعالها، كما أن هذه السلطة السورية الجديدة غير مرغوب بها من قبل العديد من الدول العربية، ومن ثم فإنها لن تجد من يدافع عنها، ربما باستثناء تركيا المُتهمة أصلا بالنزوع للسيطرة على المنطقة، أو إعادة التاريخ للزمن العثماني، الذي يثير ذكريات غير حسنة لدى العديد من الدول الإقليمية والأوروبية.
اللافت أن إسرائيل، ورغم كل حساباتها وما قامت به من أعمال تحوطية، واعتقادها أنها وصلت إلى مرحلة نهاية التاريخ في الشرق الأوسط، تجد نفسها، وبعد سيطرة القوى الإسلامية في دمشق، أمام تطور لم يدخل في حساباتها، ولم تلحظه عقولها الإستراتيجية، فالتغيير الذي حصل في دمشق قد يكون المدماك الأول في سلسلة تحوّلات قد تغير البيئة الإستراتيجية، إن لم يكن بعد سنة أو سنتين؛ فبعد عقد أو عقدين، كما عبر أحد مسؤولي إسرائيل توضيحا لسبب عدائهم وعدم ثقتهم في السلطة الجديدة في دمشق.
فانتصار الثورة، أو لنقل، بالمفهوم الإسرائيلي، الإسلاميين ووصولهم إلى السلطة ونجاحهم في إدارة السياسة والإقتصاد والمجتمع، وفق الخطط التي يتم الإعلان عنها للوفود الزائرة لدمشق، والتي أغاظت إسرائيل كثيرا لدرجة أنها وصفت الغرب الذي يوفد مبعوثيه إلى دمشق بالعمى، سيشكل دينامية لإطلاق ثورات تحرّر عديدة في العالم العربي، وسيكشف عن حقيقة وجود بدائل وممكنات للأنظمة التي تعايشت معها إسرائيل طويلا وأخضعتها وحوّلتها إلى أداة لقمع شعوبها ومنعهم حتى من مجرد التفكير في الوقوف في مواجهة التجبر الإسرائيلي، ما يوسّع هوامش الخيارات أمام هذه الشعوب، ويزيد من احتمالات تصدّع جدران الحماية الإسرائيلية، حينما تتحوّل كل تخوم الأراضي المحتلة إلى منتجة لطوفانات عديدة.
من المؤكد أن إسرائيل باتت تدرك المخاطر التي بدأت تحوم حولها، وهي تعرف أن تدمير الأسلحة السورية ليس منجزا كافيا للركون إلى الاطمئنان، لأن من سيحاربونها في المستقبل، لا بد أنهم درسوا جيداً حروب إسرائيل في 2023 و2024، وبالتالي سيكون من الجنون لو كرروا نفس الفعل في مرحلة مقبلة، أي مواجهة إسرائيل بهذا النمط من الأدوات والخطط والتكتيكات، هذه مرحلة انتهت وأخذت معها عُدّتها.
ربما هذا ما يفسّر سبب الهلوسة الإسرائيلية بالاستعجال على تفكيك سورية، وإعادة إنتاج تجربة البلقان في أوروبا، من خلال إعادة صوغ الجغرافية وصناعة الفاعلين من وجاهات ورجال دين وعشائر، وطوائف وقوميات؛ فسورية هي التطبيق الحرفي لولادة الشرق الأوسط الجديد، ومفتاح الحل السحري لإسرائيل، وتفكّكها سيطلق دينامية تفكيك رهيبة لن تنجو منها جميع دول المنطقة، والرهان بات معقودا على وعي السوريين وقدرتهم على إفشال اللعبة الإسرائيلية الخطيرة، وعلى وعي الأنظمة العربية وتحييد حساباتها السلطوية لحماية مستقبل دولها وأمن مجتمعاتها.
العربي الجديد
————————-
مسمار جحا: الأقليات والخطاب الدولي/ محمد جميح
تحديث 16 كانون الثاني 2025
مع سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ارتفعت وتيرة الحديث عن المخاطر التي تتعرض لها الأقليات في الشرق الأوسط، وجاء «الأوصياء» ليلقوا دروسهم، بل وتهديداتهم، إذا لم يتم احترام حقوق الأقليات الدينية والعرقية التي يراد تكريس «أقليتها» من أجل إبقائها مكونات منفصمة عن شعوبها، وعن سياقاتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية التي تدمجها ضمن نسيج واحد، ومن أجل إبقاء شعوب المنطقة منقسمة على نفسها بين «أقلية مضطهَدة» و«أغلبية مضطهِدة» رغم أن تاريخ المنطقة المعاصر كان تاريخاً من اضطهاد الأغلبية على يد الأقليات، سواء كانت تلك الأقلية سياسية أم عرق/طائفية.
الأهداف معروفة، والقصة قديمة، وقد باع جحا ـ يوماً ـ بيتاً، وشمل عقد البيع ملكية المشتري للبيت كله، ما عدا مسماراً صغيراً ظل في ملكية جحا الذي كان يأتي لتفقد المسمار كل يوم، ويشارك المالك الجديد طعامه وشرابه ومناسباته كلها، الأمر الذي دفع المالك لترك البيت لجحا الذي سيطر على البيت، أو على الوطن بالاصطلاح الحديث، بذريعة وجود هذا المسمار الذي أصبح اسمه «أقلية» وهي التسمية التي تستثير المظلومية والتعاطف والتسييس والمتاجرة.
ويحدثنا التاريخ عن غزو الصليبيين للشرق العربي، أو «بلاد السمن والعسل» باسم حماية «خراف المسيح» وتطهير «الأراضي المقدسة من دنس المسلمين الكفار» تماما، كما احتل المستعمر الأوروبي الحديث بلداناً عربية ومسلمة، بذريعة حماية «الأقلية المسيحية» مما يقول إنه لحق بها من ظلم من طرف «الأغلبية المسلمة».
ويمكن الاسترسال في ذكر ما لا يحصى من شواهد، ولكن النموذج الأبرز في التاريخ المعاصر هو ما رأينا من سيطرة إيرانية ـ عبر ميليشيات «تحالف الأقليات» ـ على بلدان وعواصم عربية، بذريعة «حماية الشيعة والمراقد المقدسة» وهو مسمار جحا إيراني تمكنت طهران ـ بفعله ـ من إحداث خراب واسع: طائفياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً في بلدان المشرق العربي، وكأننا أمام تكرار لتاريخ يعيد نفسه بشكل حرفي، رغم اختلاف الزمان والظروف والشخوص.
ورغم أن اضطهاد الأقلية للأغلبية هو السائد، إلا أن المشهد يتم تصديره على هيئة اضطهاد الأغلبية للأقلية، كما هو ملحوظ في سوريا الأسد ولبنان وفي اليمن حيث توجد «أقلية طائفية» تمارس طغياناً موثقاً ضد «أغلبية يمنية» ومع ذلك، ظلت القوى والمنظمات الدولية تقدم تسهيلات كبيرة للحوثيين، بذريعة أنهم «أقلية مضطهَدة» يجب حمايتها، وإشراكها في السلطة والثروة، إلى أن وصل الحوثيون إلى الانفراد بالسلطة والثروة، والزعم بأن عبد الملك الحوثي هو «علم الهدى» الذي اختاره الله لحكم اليمن.
ومنذ 2004 وإلى اليوم لم يترك الحوثي جريمة ضد اليمنيين إلا ارتكبها، حيث مارس القتل والتهجير والتطهير الطائفي، وتفجير المنازل ودور العبادة، وزج الآلاف في السجون، ومارس التعذيب الوحشي ضد المعتقلين الذين قضى كثير منهم في السجون، ومارس الاغتصاب، وضرب المنشآت المدنية، ونهب موارد الدولة، وسيطر على حقوق المودعين في البنوك، وغير ذلك مما ورد في تقارير منظمات دولية وأممية كثيرة.
ومع ذلك، ظل الحوثي يُنظر إليه على أساس أنه أقلية مضطهدة إلى أن بدأ يستهدف خطوط الملاحة الدولية، ويرسل بعض الصواريخ إلى إسرائيل، حينها بدأت القوى الغربية تتحدث عن «الإرهاب الحوثي» الذي لم تكن تراه طيلة أكثر من عشرين سنة، إلا بعد اندلاع الحرب على غزة. المثير للسخرية ـ هنا ـ أن الحوثي يرتكب ضد اليمنيين ما يرتكبه الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ولكي يغطي الحوثي على جرائمه ضد اليمنيين يرسل صواريخه إلى الإسرائيلي الذي يستفيد من صواريخ الحوثي، للتغطية على جرائم الإسرائيلي ضد الفلسطيني.
وبالعودة للأهداف البعيدة من وراء التلويح بورقة الأقليات، وبعد كل هذه الجراح العميقة التي أحدثتها القوى الإقليمية والدولية والميليشيات الطائفية والعرقية في النسيج الديني والاجتماعي في المنطقة، فإن تلك الجراح في حاجة إلى معالجات عميقة وبعيدة الأثر تبعد ما يطلق عليه «أقليات» عن محاولات القوى الدولية والإقليمية استغلالها، لخدمة أغراض لا علاقة لها بحقوق تلك المكونات الدينية والعرقية، قدر ما لها علاقة بمصالح جحا الذي سيطر على البيت كله، بذريعة المسمار، وهذا ما يجعل تلك القوى لا تمل من التلويح بورقة الأقليات، لتكريس الصورة النمطية عن المجتمعات المستهدفة بأنها لم ترق بعد إلى مستوى الشعوب، بل لا تزال محكومة بثنائية «الأغلبية والأقلية» في محاولات لتكريس حالة الصراع التي تستهلك طاقات تلك الشعوب، وهذا هو الهدف من الحديث الذي لا ينقطع عن «مسمار جحا» مع ضرورة الالتزام بحماية حقوق الأقليات، ضمن دولة تضمن حقوق الجميع، وفي مجتمع يعاد فيه تعريف الأقلية والأغلبية على أسس سياسية، لا طائفية ولا عرقية.
ونحن نمر بهذه الفترات العصيبة ينبغي تذكر جملة من الحقائق، في مقدمتها أن الانتماء للوطن رباط وثيق لا يتعارض مع الانتماءات الدينية والعرقية، والحقيقة الأخرى أن الأجنبي الإقليمي والأجنبي الدولي لا يهتمان بالأقليات إلا بقدر ما يوفره هذا الاهتمام من أرباح تتراكم بفعل المتاجرة بقضايا الأقليات التي يجب أن تعالج ملفاتها، ضمن منظومات جديدة لا تقسم المجتمعات إلى أغلبية وأقليات، ولا تقوم فيه النظم السياسية على أساس من المحاصصات الطائفية والعرقية، وأن يعاد تعريف الأقلية والأغلبية على أساس سياسي، لا علاقة له بالنسيج الطائفي والعرقي، قدر ما له علاقة بأغلبية الأصوات وأقليتها في صناديق الاقتراع، وهذا هو الحاصل في الديمقراطيات الغربية التي تريد إبقاء مفاهيم الأغلبية والأقلية في المشرق العربي ضمن أطرها الدينية والعرقية.
أخيراً: عندما أبلغ الجنرال الفرنسي هنري غورو الزعيم السوري فارس الخوري بأن جيوش الاحتلال الفرنسي جاءت لحماية المسيحيين في سوريا، نهض الخوري، وتوجه إلى الجامع الأموي في دمشق، وألقى فيه خطبة، جاء فيها: «إذا كانت فرنسا تدعي أنها جاءت إلى سوريا، لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وأنا كمسيحي من هذا المنبر، أشهد ألا إله إلا الله».
كاتب يمني
القدس العربي
—————————–
نظرية العقد الاجتماعي وسؤال سورية الجديدة/ سوسن جميل حسن
16 يناير 2025
نظريات العقد الاجتماعي هي إجابات على سؤال تبرير الدولة، الذي لا يعدّ مظهرًا طبيعيًا، بل بناء إنساني قائم على الرضى المتبادل. إنها تجعل من الممكن إعطاء السلطة السياسية شرعية لا تأتي من الحق الإلهي ولا من قانون الأقوى.
والعقد الاجتماعي هو فكرة فلسفية مفادها أنه في لحظة حقيقية أو افتراضية في الماضي، ترك الناس حالة “الطبيعة” لتوحيد وتشكيل المجتمعات من خلال الاتفاق المتبادل على الحقوق التي سيتمتعون بها، والطريقة التي سيحكمون بها، فهو اتفاق ضمني بين المحكومين والحكومة.
يعتمد المفهوم على الفكرة النظرية القائلة بأن الحكومات أو القادة شرعيون إذا حصلوا على موافقة المحكومين. لذلك، فإن العقد الاجتماعي هو الاتفاق الذي يمنح بموجبه الشعبُ الحكومةَ سلطة حكمها. كانت نظرية العقد الاجتماعي نظرية سياسية مهيمنة في التاريخ الغربي الحديث، إذ ألهم هذا المفهوم، أو هذه الفكرة، الذي ظهر في القرن السادس عشر، الفلاسفة السياسيين، وأكثرهم رمزية هم توماس هوبز (1588-1669) وجون لوك (1632-1704) وجان جاك روسو (1712-1778).
غالبا ما يشار إلى حالة ما قبل المجتمع باسم “حالة الطبيعة” أو الحقوق الطبيعية، وهي الحالة التي كان فيها الناس قبل الدخول في مثل هذا الاتفاق الذي يقررون بموجبه مغادرة حالة الطبيعة وحكم أنفسهم بقواعد معينة تضمن حقوقا معينة. قد يضطر المواطنون إلى التخلي عن بعض الحريات الفردية من أجل التمتع بحريات أخرى وأمن شخصي، التي يجب أن يحتفظ بها المواطنون في المجتمع السياسي المعاصر، وكيف يجب على الحكومات حماية هذه الحقوق.
اعتقد هوبز، الذي يرى أن ما يميز حالة الطبيعة هو الخوف من التهديد الدائم للوجود ما يؤدي إلى التهديد الدائم بالعنف، أن المعاناة القاسية للبشرية تتطلب سلطة سياسية قوية للغاية، أطلق عليها اسم ليفياثان، كان عنوان أشهر أعماله، وقد نشر عام 1651. هذه السلطة العليا، التي يتصورها هوبز كملك مطلق، ستعمل لصالح الجميع وتضمن التزام الجميع بقواعد المجتمع، قصر هوبز سلطة الملك على المسائل السياسية والقانونية، لأنه لم يدعُ إلى التدخل في مجالات أخرى، مثل الفنون. لذلك، حتى بالنسبة لهوبز، هناك أمل في أن البشرية يمكن أن تعيش في سلام نسبي، خاصة وأن البديل هو الحرب الزاحفة لحالة الطبيعة.
كره الأرستقراطيون عقد هوبز الاجتماعي، لأنه وضع الجميع على قدم المساواة من حيث حقوق الولادة. كما انتقدته مجموعة المسيحيين، الذين لم يؤيدوه في طرحه بأن المؤسسات الدينية ليس لها الحق في التدخل في السياسة. جاء بعده من له رؤية أخرى.
بعد سبعة وثلاثين عامًا من نشر عمل توماس هوبز ” ليفياثان”، نشر جون لوك أطروحتيه عن الحكومة في عام 1689، ويقول فيهما إنه في حالة الطبيعة يمكن للإنسان أن يعيش وفق القانون الذي يقضي بأنه “لا ينبغي لأحد أن يؤذي الآخر في حياته، أو صحته، أو حريته، أو ممتلكاته”. ما يعني أنه أدرج الحق في الحياة والحرية في المصطلح العام “الملكية”. علاوة على ذلك، بما أن الجميع لديهم حقوق متساوية في حالة الطبيعة، يجب أن يتمتع الجميع بحقوق متساوية في المجتمع السياسي. بالنسبة إلى لوك، لأن الناس يُنشئون طوعًا عقدًا اجتماعيًا، فإن وظيفة الحكومة هي خدمة الناس وليس نفسها، ويتم إنشاء الحكومات من قبل الشعب وبموافقته لحماية حقوقه، لذلك يمكن الإطاحة بأي حكومة تفشل في أداء وظيفتها بشكل شرعي، ويمكن إنشاء عقد اجتماعي جديد. لتجنب الخطر الحقيقي المتمثل في أن تصبح الحكومات استبدادية، من الضروري فصل السلطات التنفيذية (الملكية) والتشريعية (مجلسا الشيوخ والنواب) والسلطات الفيدرالية (التي تتعامل مع السياسة الخارجية). وهناك سلطة رابعة، وهي القضاء، لمعاقبة كل من يخالف القانون.
كانت نظرية العقد الاجتماعي نظرية سياسية مهيمنة في التاريخ الغربي الحديث، إذ ألهم هذا المفهوم الفلاسفة السياسيين، وأكثرهم رمزية توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو
في خطابه عام 1755 حول أصل وأسس عدم المساواة بين الأشخاص، نظر جان جاك روسو في أصل عدم المساواة الواضحة في المجتمع. إنه يعتبر حالة الطبيعة بدائية تمامًا، مكانًا لا توجد فيه الملكية والكبرياء والحسد أو الغيرة، لأنها ظهرت في البشرية في اللحظة التي بدأت خلالها في تكوين المجتمعات فحسب. ورأى أنه عندما اجتمع الأفراد معًا في مجتمعات أكثر تطورًا، تدهورت أخلاقهم بتولّيهم البحث عن المصلحة الذاتية والثروة. لذلك فالمجتمع فاسد وغير متكافئ وبلا أخلاق، والرجال المتحضرون غير سعداء، أنانيون، وغير أحرار. كل هذا يرسم صورة قاتمة إلى حد ما للإنسانية.
لكنه قدّم ما يمكن أن يحمل الأمل في مقابل هذه الصورة القاتمة عندما نشر خططه لمجتمع أكثر عدلًا في عقده الاجتماعي، الذي نشر عام 1762. ففي مجتمعه المثالي، لا ينبغي لأحد أن يبيع نفسه، ولا ينبغي لأي شخص ثري أن يكون قادرًا على شراء شخص آخر. تهدف حكومته المثالية إلى الحد من حالات عدم المساواة (يدرك أن المساواة المطلقة مستحيلة). يجب أن يجتمع الناس في مجتمع قائم على الموافقة وأن يشكلوا عقدًا اجتماعيًا فيما بينهم، يكون معه الهدف النهائي لهذا المجتمع هو الصالح العام.
لم تكن حكومة روسو المثالية تمثيلية، لأنه كان يعتقد أنه يجب انتخاب الحكام، إنما لتنفيذ المهام الإدارية فحسب، وهو دورها الأساسي. الإرادة العامة تختار ما هو الأفضل للدولة ككل، والحكام يضعون الإرادة العامة موضع التنفيذ فحسب. وهكذا يفصل روسو السيادة عن الحكومة. وبالتالي فإن فكرة الإرادة العامة حاسمة في العقد الاجتماعي لروسو. وبالنسبة إليه فإن الإرادة العامة هي نتيجة حل وسط حيث يضحي الأفراد بحريتهم الكاملة للوصول إلى أفضل خيار ممكن: تقييد الحرية من أجل تجنب وضع لا توجد فيه حرية على الإطلاق. وبالتالي فإن الإرادة العامة ليست مجرد مجموع الإرادات الفردية، بل هي المصلحة العليا للمجتمع ككل. في صميم هذه النظرية تكمن فكرة أن حقوق والتزامات الأفراد والحكومة تنبع من عقد، بالمعنى الحرفي أو المجازي، مصمم لتأمين المنفعة المتبادلة. هذا العقد ليس مستندًا مكتوبًا، ولكنه مجموعة من القواعد المقبولة التي تحكم سلوك الشركة وهيكلها. تستكشف النظرية كيف تتحول الحالة الطبيعية الاستقلالية للأفراد إلى مجتمع منظم تحت سلطة الحكومة.
كان عصر التنوير فترة محورية لنظرية العقد الاجتماعي، تميزت بالتحول نحو تفسيرات أكثر علمانية وعقلانية للنظام الاجتماعي والسياسي، ولقد أثرت النظريات التي اقترحها هؤلاء الفلاسفة بشكل كبير على تطور الفكر السياسي، وألهمت ثورات ديمقراطية مختلفة وشكلت المبادئ الأساسية للحكم الديمقراطي الحديث. ويعكس تطور نظرية العقد الاجتماعي وجهات النظر المتغيرة حول طبيعة الإنسان وحقوقه ودور الدولة، مما يوفر إطارًا لفهم الشرعية السياسية والعلاقة بين الأفراد وحكوماتهم. لذلك نرى مبادئ نظرية العقد الاجتماعي موجودة في الدساتير وهياكل الحكم في البلدان الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. تؤكد هذه المبادئ على حماية الحقوق الفردية وسيادة القانون وفكرة أن الحكومات تستمد سلطتها من موافقة المحكومين. استنادًا إلى ذلك يمكن أن يعدّ مفهوم الدستور نوعًا من العقد الاجتماعي، أي اتفاق رسمي وصريح يحدد حقوق وواجبات الدولة من جهة، ومواطنيها من الجهة الأخرى. والدستور يضمن حقوق الإنسان بمفهومها الشامل، الذي يشترك فيه كل البشر بغض النظر عن الجنسية أو مكان الإقامة أو الجنس أو الأصل القومي أو الإثني أو اللون أو الدين أو اللغة أو أي وضع آخر، وعلى الدولة حمايتها.
يحيلنا استعراض هذه النظرية إلى الواقع السوري، خاصة إذا ما أخذنا بعين النظر التصريحات التي أدلى بها قائد الإدارة الحالية في سورية، أحمد الشرع، عن العقد الاجتماعي الذي ستبنى الدولة السورية بموجبه. هذا ما يثير مجموعة من الأسئلة، قد يكون من أهمها أي من المنظرين السابقين ستكون نظريته أكثر إلهامًا للقيادة السورية الجديدة في صياغة دستور واعتمادها، ما دام أن “العقد الاجتماعي” وارد في الخطاب؟
فكيف ستتم المواءمة بين نظرية العقد الاجتماعي والحالة السورية بكل ما فيها من التعددية حيث تتعايش مجتمعات عرقية ودينية وثقافية متعددة. ولا نبتعد عن الواقع كثيرًا إذا ما أقرّينا أن المجتمع يعاني الانقسامات العميقة، والعديد من المصالح التي تبدو أحيانًا متضاربة. فما هي الحقوق “الطبيعية” وتلك الطارئة، التي على الدستور أن يقرها، والحكومة أن تحميها؟ هذا السؤال يخطر في بال معظم السوريين في ظل التحول الكبير الذي حصل، سقوط نظام قمعي أدار البلاد بقبضة أمنية ولجأ إلى أقسى أساليب العنف في إحكام قبضته على مقادير الشعب والبلاد، وأطّر الوعي العام والفردي حتى بات مفهوم الحقوق يكاد يكون مفهومًا ضبابيًا مربكًا بالنسبة للفرد السوري عامة، بات لا يعرف بشكل دقيق ما هي حقوقه بعدما صار انشغاله بشكل مستمر بالبحث عن أبسط مقومات الحياة وأكثرها بداهة، كي يحظى بالحد الدنى منها. يكاد السوري لا يكترث بأهمية الحرية وأن يكون له رأي يستطيع أن يعبر عنه، أو معنى القانون وأهميته في ضبط الحياة والعلاقات، أو حقه في إدارة حياته ومساهمته في صنع القرارات، أو معنى ان يكون مشاركًا في الحياة السياسية، ومعنى العدالة الاجتماعية والمساواة وعدم التمييز، وغيرها كثير من مبادئ الحياة ضمن مجتمع وتحت سقف دولة يضمن دستورها الحقوق، فما زال غارقًا في همومه الصغيرة، إنما الثقيلة حتى تكاد تهدّ الجبال. كل هذا يرافقه تشظي الوعي بالهوية الجامعة، كسوريين، بل إن الهويات الجزئية تمكنت من النفوس على مدى الحرب الطاحنة التي نالت بنية المجتمع والفرد.
من البديهي أن تكون هناك حاجة إلى مباشرة الحوار ومواصلته، هذا ما أعلنت عنه الهيئة بدعوتها إلى مؤتمر حوار وطني. وبما أن مخرجات مؤتمر من هذا النوع، على ضرورته وأهميته، ستكون العتبة المؤسسة لابتكار مفهوم “العقد الاجتماعي” بصبغته السورية، ومن هذا المفهوم سيكتب دستور للبلاد، قال رئيس الهيئة أحمد الشرع إنه ربما يستغرق أكثر من ثلاث إلى أربع سنوات لكتابته، فإن الشفافية قبل كل شيء هي الضمانة الأولى للارتياح الشعبي.
ضفة ثالثة
————————–
في إيران… من الاستراتيجية الثورية إلى الانطواء القومي/ برنار هوركاد
16 يناير 2025
شكّل انهيار إيران وحزب الله العسكري في لبنان وسورية منعطفاً حاداً في مشهد الشرق الأوسط السياسي والجيوسياسي. وتجد الجمهورية الإسلامية نفسها مضطرة للتراجع عن طموحاتها الإقليمية والتقهقر إلى أراضيها ومصالحها الوطنية، في وقت تتصاعد فيه دعوات إسرائيلية للولايات المتحدة للتدخل عسكرياً.
أثّر الفشل العسكري في الساحتين اللبنانية والسورية أساساً على الحرس الثوري الإيراني والفصائل الأيديولوجية الأكثر تشدداً، التي تهيمن على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في إيران. وفيما يتحدث البعض عن احتمال “سقوط النظام” في المستقبل القريب، يخشى آخرون من صعود سلطة عسكرية أشد تطرفاً. من جهته، يسعى المرشد الأعلى علي خامنئي إلى التوصّل إلى تسويات، محاولاً إنقاذ نظام إسلامي يتهاوى تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية والمعارضة الدولية لبرنامجه النووي، وبالأخص تحت ضغط المجتمع الإيراني.
فهمت القوى المحافظة خطورة المرحلة منذ وصولها إلى السلطة مع انتخاب إبراهيم رئيسي على رأس البلد في 2021، وشرعت في تغيير استراتيجيتها الإقليمية لفتح قنوات تفاوض مع الولايات المتحدة والتوصّل إلى رفع العقوبات الاقتصادية. غير أن الاختلافات داخل المعسكر المحافظ أعاقت مسار هذه الاستراتيجية الرامية إلى توطيد العلاقات مع دول الجوار، بدءاً بالسعودية، والابتعاد عن شبكة “الوكلاء” التي تشكّلت خلال الحرب العراقية -الإيرانية (1980-1988)، حتى وإن لم تُعطّل هذا المنعطف تماماً. وتعزز هذا التوجه في يونيو/حزيران 2024 مع انتخاب الإصلاحي مسعود بزشكيان رئيساً بمباركة المرشد خامنئي، في ظل انعدام بديل.
بيد أن إسرائيل زعزعت – في ظرف أشهر قليلة – مشروع الانكفاء على الأراضي والمصالح الوطنية. فسقوط نظام الأسد في سورية – حليف إيران العربي الوحيد الراسخ منذ 1979 – والهزيمة العسكرية لحزب الله، أَمْلَيَا على الجمهورية الإسلامية صياغة سياسة داخلية ودولية جديدة تتجاوز البراغماتية البسيطة.
نجاحات عسكرية وإخفاقات سياسية
حقّق الحرس الثوري (الذي يُعرف باللغة الفارسية باسم “باسدران”) نجاحات عسكرية عديدة في الماضي. فخلال الحرب العراقية-الإيرانية، تحوّلت هذه المليشيا السياسية (“سباه” بالفارسية) والتي تأسّست للتصدّي لمعارضي الجمهورية الإسلامية، إلى قوة نخبويّة في الجيش الوطني. وفيما اقتصر دور الجيش النظامي (“ارتش” بالفارسية) على الدفاع عن الأراضي الوطنية، لعب الحرس الثوري دور أداة استراتيجية “للدفاع المتقدم” خارج الحدود، معتمداً في ذلك على حزب الله والنظام السوري. وسرعان ما تجاوزت مهمّة الحرس الثوري الجبهة العراقية لتتّخذ طابعاً أيديولوجياً عالمياً ضدّ “الشيطان الأكبر” الأميركي وحلفائه الأوروبيين والإسرائيليين.
عرض لنظام صواريخ أرض جو إيراني في طهران، 26 سبتمبر 2024 (فرانس برس)
وبعد دعم الحركات الفلسطينية، أدى الحرس دوراً بارزاً في تأسيس حزب الله عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وسرعان ما تولى المحاربون القدامى مناصب قيادية في السياسة وإدارة الدولة وبطبيعة الحال في قطاع الأعمال، بعد انتهاء الحرب مع العراق. وتولى الحرس الثوري آنذاك مهام الرقابة السياسية والاستخبارات والقمع داخل البلاد، في حين تم تشكيل قوات خاصة تحمل اسم “فيلق القدس”، متخصصة في العمليات الخارجية.
واتّخذ التدخّل العسكري الإيراني في سورية بُعداً جديداً حين دعمت إيران بقوة نظام بشار الأسد ضدّ الثورة في 2011، خصوصاً مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق ثم في سورية. وكان يُنظر في طهران إلى هذا الجيش من الجهاديين السُنّة الذين يمقتون الشيعة، على أنه أداة بيد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها السعوديين والإسرائيليين لإسقاط الجمهورية الإسلامية. وأدى “فيلق القدس” بقيادة اللواء قاسم سليماني دوراً محورياً بمساعدة مرتزقة أفغان ومليشيات عراقية، وبصورة خاصة حزب الله. ثم ظل الحرس الثوري على الأراضي السورية شأنه شأن القوات الخاصة الأميركية والروس بطبيعة الحال.
هاجر واستقرّ عدد كبير من عناصر الحرس الثوري في لبنان وسورية على مدى عشرين عاماً، بحجة حماية مقام السيدة زينب قرب دمشق، ومن ثم أطلق هذا التواجد الديمغرافي والاقتصادي والديني – مقروناً بالمشاريع السياسية لحزب الله في لبنان – العنان لأفكار توسّعية. فقد أوحى الانفتاح على البحر المتوسط للبعض بفكرة الثأر لمعركة “ماراثون” (معركة وقعت عام 490 ق.م بين الجيش الأثيني وحلفائه من جهة، والجيش الفارسي من جهة أخرى، وأسفرت عن هزيمة الأخير) وبناء استراتيجية متوسطيّة إمبريالية لإيران. وقد ندّدت الدول العربية السنّية بتشكيل هذا “الهلال الشيعي” واعتبره العديد من المحلّلين عنصراً محورياً في السياسة الخارجية الإيرانية. وصوّرت عقيدة “التهديد الإيراني” – التي يتبناها معظم المحللين الغربيين – إيران دولة إسلامية وإمبريالية، هدفها الأول زعزعة استقرار الشرق الأوسط ثم أوروبا، عبر البحر المتوسط.
هجوم مباشر على إسرائيل
في ديسمبر/كانون الأول 2024، أُطبق الفخ على الحرس الثوري، حيث لم يدرك مدى تغلغل “الموساد”، المتمركز جيداً في سورية، في صفوف حزب الله و”فيلق القدس”، كما لم يدرك تداعيات عجز نظام الأسد عن الخروج من الحرب. فقد أنسته أحلام الانفتاح على المتوسط أن الدولة الإيرانية الحديثة التي أسّسها الصفويّون في القرن السادس عشر لم تكن إمبريالية بل قوميّة بالدرجة الأولى، حريصة على حماية حدودها من الإمبراطوريات العثمانية والروسية والبريطانية المعادية. وإن كان النضال ضد عدو مُعَولم كالولايات المتحدة يبرّر استراتيجية “الدفاع المتقدّم”، فإن “فيلق القدس” حوّل هذه المعاقل البعيدة إلى رهانات استراتيجية. لذا كان التحّول مبهراً ليلة 13 إلى 14 إبريل/نيسان 2024، حين أُطلقت أكثر من 350 طائرة مسيّرة وصاروخا على إسرائيل من الأراضي الإيرانية دون الحاجة إلى ترسانة حزب الله. وأكّدت طهران بذلك قرارها بالدّفاع وحدها عن أراضيها ونظامها السياسي وبرنامجها النووي، دون الاستعانة بشبكة “الوكلاء”.
وإثر هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حاولت إيران قدر المستطاع تفادي الدخول في حرب لا طائل منها، وسحبت أغلب مليشياتها من سورية ولبنان، تحسّباً لانسحاب منظم. كما أن التدمير الممنهج لمخازن الأسلحة الإيرانية الموجودة بسورية والمخصصة لحزب الله، دفع بشار الأسد إلى مطالبة الإيرانيين بالتستّر على نشاطهم. وهكذا لم يقاتل أعضاء الحرس الثوري الإيراني، بل فرّوا من البلد حين حرّر الثوّار القادمون من إدلب مدينة حلب ثم دمشق في ديسمبر 2024، ما جعل الهزيمة مخجلة أكثر. من جهته أعلن اللواء حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، بكل فخر، أن آخر رجل إيراني غادر سورية هو من قوات “باسدران”. وهو إقرار بالفشل مثير للشفقة.
نهاية “محور المقاومة”؟
وفي 11 ديسمبر الماضي، أعلن المرشد الأعلى علي خامنئي، وكأنه يحاول إنكار الواقع، أنه “كلما ازداد الضغط على محور المقاومة، اشتدّت وِحدته”، وأن “ما حدث في سورية هو نتيجة مؤامرة مشتركة أميركية-صهيونية”، قبل أن يعترف في 22 ديسمبر بأنّ إيران “لم تكن تحتاج إلى وسيط في المنطقة”.
غير أن غياب التعليقات المعمّقة على أحداث لبنان وسورية يُظهر أن الصفحة قد طُويت، وأن المصلحة العليا للجمهورية الإسلامية لم تعد في المقاومة أو التدخل المباشر. حيث أدرك الجميع أن “محور المقاومة” قد تفكّك، ويأسف لذلك أكثر المناصرين تحمّساً للنظام، داعين إلى ثورة إسلامية جديدة. وينتقد هؤلاء بشدّة الرئيس الإصلاحي بزشكيان، الذي يؤكّد تشبثه بمقاومة إسرائيل، لكنه يؤجل أيّ تحرك إلى “اللحظة المناسبة” ويتقرّب في الأثناء من البلدان العربية. من جهتهم، يشعر معظم الإيرانيين بالارتياح لوقف هذه العمليات العسكرية والنفقات الخارجية، لكنهم يأسفون لاحتمالية عدم سداد القروض والنفقات في سورية، التي تبلغ بين 30 و50 مليار دولار، على مدى نحو خمسة عشر عاماً.
ويكشف الصمت القلق للإعلام والشعب وخطاب القادة الإيرانيين عن صدمة حادّة، فهزيمة الحرس الثوري، من دون خوض معركة، هي بمثابة مرحلة جوهرية في إضعاف الجمهورية الإسلامية. وهكذا، سقط القفل ليُفتح المجال لجميع الاحتمالات، من أحسنها إلى أسوئها.
يُضاف النقص الحالي في الكهرباء الذي يعطل البلاد بأكملها إلى قائمة الأزمات. وقد أصبحت الحاجة إلى التغيير الشامل تبدو ملحّة، لكن الإيرانيين متمسكون بالأمن وباستقرار الدولة. إنهم يعرفون تمام المعرفة ثمن الثورات ويقرون بغياب بديل، في حين أن القوى السياسية في المهجر بعيدة جداً عن الواقع. فقد رأى الإيرانيون كيف دمّرت الصراعات الداخلية إضافة إلى التدخّلات الخارجية أفغانستان والعراق وسورية ولبنان إلى جانب فلسطين، كما يخشون في الوقت نفسه من النجاحات العسكرية ومن الغزوات التي تحققها إسرائيل، ما يمكن أن يولّد صراعات إقليمية لا نهاية لها.
الحفاظ على توازن هش
من أين يأتي التغيير الذي لا يقود البلاد إلى التهلكة؟ هل لا يزال المرشد الأعلى يمتلك الأدوات والسلطة الأخلاقية الكافية لفرض اختياراته والتوصل إلى تسويات نهائية، وهو الذي له خبرة طويلة في إدارة الصراعات بين فصائل المتشددين والمحافظين والإصلاحيين؟ كيف ستكون ردّة فعل ملايين أعضاء الحرس الثوري السابقين والحاليين، وكل من يعتمد عليه سياسياً ومالياً؟ في يناير/كانون الثاني 2020، أثار اغتيال قاسم سليماني موجة حزن وطنية واسعة، لكنه كان لواءً منتصراً. أما اليوم، فالويل للمهزومين؟
من المبكر الحديث عن سقوط وشيك للجمهورية الإسلامية، فهزيمة الفصائل المحافظة الممثلة في “باسدران” لا تُغيّب حيوية القومية الإيرانية ولا الإجماع العام في إيران على ضرورة استقرار الدولة العريقة منذ آلاف السنين. في 1988، اضطر آية الله روح الله الخميني إلى قبول هدنة مع العراق للحفاظ على أمن الجمهورية الإسلامية، وفي 2015، وقّع علي خامنئي على اتفاق حول البرنامج النووي وهي “خطة العمل المشتركة الشاملة”. كما أنه قرّر في 2024 تعليق القانون الجائر المتعلق “بالحجاب والعفة”، وهو قرار مهم، ويكشف اتخاذه من قبل مجلس الأمن الوطني -أعلى هيئة مسؤولة عن الأمن القومي والدولي- بمباركة المرشد الأعلى، عن هشاشة النظام وعدم رغبته في استفزاز مجتمع قادر على التمرّد كما حدث في عام 2022.
يمكن أن ترافق هذا الانفتاح مفاوضات حول المسألة النووية، بموافقة المرشد الأعلى، تقوم بها حكومة إصلاحية يرأسها مسعود بزشكيان، معتمداً على محمد جواد ظریف، مهندس مشروع الاتفاق النووي لعام 2015. فهل يحلّ هذا الاتفاق المسألة النووية والتي باتت ثانوية، وهل يقدر على رفع العقوبات الاقتصادية؟ في تقدير الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب والشركات الأميركية، يمكن أن تصير إيران، بثروتها البترولية وسكانها التسعين مليونا ذوي المستوى التعليمي العالي، أرضاً اقتصادية خصبة وجداراً في وجه الطموحات الصينية. فإيران تحتاج هذه النهضة الاقتصادية لكي تصبح قوة إقليمية قادرة على المساهمة في تأمين المنطقة، إلى جانب السعودية، وحتى في حل القضية الفلسطينية، في حين أعلن ترامب أنه زاهد في أي مشروع تغيير نظام أو صراع مسلّح في المنطقة.
يمكن للجمهورية الإسلامية أن تتطلّع إلى تجاوز الأزمة الحالية، بعدما تجرّدت من التزاماتها تجاه “وكلائها” وانغلقت على أراضيها، على الرغم من تردّد الفصائل المحافظة الإيرانية وعداء الكثير من مستشاري ترامب الموالي لطموحات إسرائيل. يبدو كل شيء جامداً حالياً في طهران، فالمرشد علي خامنئي يحاول الإبقاء على توازن هش بين معارضة راديكالية تؤججها إخفاقاته الخاصة، ومحافظين منتهزين، أو إصلاحيين براغماتيين، بالإضافة إلى 90 مليون مواطن إيراني يتطلعون إلى تغييرات عميقة، بانتظار دونالد ترامب.
يُنشر بالتزامن مع “أوريان 21”
العربي الجديد
————————
فيما تتفقدون القتلى على طريق دمشق…اعثروا عليّ/ وفائي ليلا
الأربعاء 2025/01/15
حين لامستْ الأرض إطاراتُ الطائرة التي حملتني إلى بيروت، لمستُ دمشق، هكذا شعرت فيما تسارعت دقات قلبي بعد غيابي عنها 14 عاماً تقريباً قضيتها في أكثر من بلد. فيض من دمع حارق لا يمكن إخفاؤه ولا يمكن حتى تجنّب أن يراه الآخرون.
قضيت الوقت قبل وصول منطقة المصنع الحدودية، متوتراً ومترقباً ومتلهفاً لما يمكن أن أراه في الجانب الآخر من لبنان، وكيف ستبدو سوريا الجديدة الحرة تماماً وأخيراً، بترابها وهوائها الذي لا يتمايز عن جواره وتراه كذلك رغم كل شيء.
أرضها وترابها وهواؤها الذي أعتقد أنني، وللمرة الأولى في حياتي، سأستنشقه بقوة وأحتفظ به في قلبي. لم أحب يوماً هذا النوع من التغني الأبله والأجوف الخالي من العاطفة، الذي لقنتنا إياه الشعارات البعثية المقيتة ومناهج التربية والمؤسسات الحكومية، وصبّته في رؤوسنا وذاكرتنا على مدى عقود طويلة.
كان المسلحون الشبان، أول ما لمحت، مع علم سوريا الجديد، أخضر وأسود وأبيض ونجومه الحُمر.
شبان في العشرينات من العمر، أو أكثر قليلاً، يمررون السيارات برشاقة وجدية وحماس، يدققون في اللوحات وينظرون إلى القادمين بلا مَعالم عدائية أو نظرات متشككة، خلافاً لما كنا نرى ونعاني في وقت ما، من أصغر عنصر حكمنا قادته، وبلهجة التسلّط تلك التي استعارها واحترفها كأداة ترهيب تدلّ على الجهة التي تتحدث معك.
بعض الشبان الجدد، ملثم، ومعظمهم حاسر الوجه. عسكريون يرتدون أحذية خفيفة، يدققون في صور الجوازات ويقارنونها بوجهك ويلوحون لك بودّ. العلَم القديم ذو النجوم الخضر، يبدو ممزقاً في أكثر من مكان، وصور القائد الصنمي تتكرر بيأس كما لو أن الجراد عبَر وأكل معظم ملامحها، وعلى أطراف الطريق في البعيد تلمح بقايا صور أو علم أو شعار نجا وينتظر من يصل إليه.
لوحات هائلة محترقة لسيادته المخلوع، كما لو أن النظام كان يوزع كل تلك الصور لوجهه المتشنج ذاك ليثبت له ولسواه أنه يمتلك تلك الأرض وحده وهي منطقة نفوذه الأبدي. وتحمل تلك الرموز واللوحات الشاخصة، دلالات إرغام الناس وخنوعهم، كما تفعل الحيوانات حين تتبول وتترك الأثر كعلامات تحدد مساحات عبورها ولا يستحسن الاستهانة بها أو تجاوزها.
دمشق
تلوح دمشق منبسطة وواسعة وبيضاء، أو هكذا بدت لي ابتداءً من المزة. يداخل ازدحامها وأبنيتها، الاعتيادي، والكثير من رثها القديم، وتصعقك الأبنية الأمنية ذليلة ومُهانة وكئيبة، هي التي نكلت بنا طويلاً، والآن مُحترقة، كما لو أنها تشفي غليل ملايين البشر ممن رزحوا تحت سطوة ابتزازها وسحقها واخفائها لكثيرين من دون وجه حق.
الأمن الجنائي كان خاويا ومحترقاً ومهاناً كما يليق به، وألمح من دون أن أرى بالطبع، أقبيته والصفعات والتنكيل بالقرب من ساحة الدوار المهملة. لمحت باباً من الأسفل وعرفت أنه على الأغلب مخصص لتهوئة سجن يقبع تحت الساحة تماماً، وأن ثمة بشر مازالوا يصرخون في عتمة أيامهم ومصائرهم التي سحقت هناك.
تبدو المحلات مليئة، لكن ملامح الناس وثيابهم تعاني إرهاقاً واضحاً حد الفقر. الأبنية تبدو كهلة بإتجاه العباسيين، والنخيل نفسه تظنه أصبح أقل، والأنفاق تخلعت جدرانها قليلاً. تعجّ دمشق بالبشر وتزدحم، سوى أنك تلمح فيها بسيط سكانها أو بعيدهم القادم من الجوار. الخبز، تلك السلعة النادرة، متاحة أخيراً وبلا بطاقات، يستطيع المرء شراءها بكل سهولة، والفواكه وكل السلع متوافرة… والغلاء سيد، كما يؤكد الجميع. المتسول يمد كفه وموجود، ويستوقفك عدد غير قليل من أطفال ونساء، بعضهم بملابس لائقة ونظيفة وأسلوب هو أقرب للتردد والخجل.
وقود
الأطفال في أكثر من مكان يدخنون بلا حرج، وبعضهم يضع علب السجائر في جيوبه الخلفية. أحياناً، قرب بعض المخابز، ترى ازدحاماً كبيراً والناس ينظرون إليك بتمعن وبشيء من الفضول إلى القادمين الذين لا يشاركونهم بؤساً واضحاً وجلياً في الملابس والملامح ولغة الجسد. تنتشر غالونات البنزين والوقود المهرب من لبنان على حواف الطرق، إنه أنظف وأرخص، يقول لي سائق سيارة.
عند المصارف وكوات التحويل والاستلام من العملات الأخرى، هناك عشرات الأشخاص وأحياناً المئات، ينتظرون حوالاتهم بصخب غير عادي، الكل ينتظر خلاصه هنا.
مطر خفيف يهطل على دمشق، أتى أخيراً بعد صلاة استسقاء، يقول آخر صادفته، وهي المطرة الأولى في هذا الموسم الشحيح على ما يبدو. أتجول في أغلب أسواق دمشق الرئيسة، نزولاً من الجسر الأبيض إلى الحمراء والصالحية، وأعبر في الشعلان مروراً بالسبكي التي صارت أصغر مما كنت أعتقد، مع تعديلات طفيفة وزوار أقل بسبب الطقس ربما.
الناس في دمشق القديمة تحديداً، أكثر سعادة، تلمح الضحكات والأصوات والوجوه المضيئة، شيء ما تغير أكيد، جدّي ومختلف.
يجتمع المثقفون في “مظبوطة” والروضة” بعيون تنتبه لأي جديد، ويقترب البعض مرحباً بلطف، معرفاً عن نفسه ثم ينسحب بدماثة. هناك فرقة “للعراضة الشامية” تستقبل المشاهير الوافدين من الخارج، للترحيب بهم. يريددون أناشيد تمجّد الحرية ويدمجون سيد درويش مع سواه في توليفة فكهة وغاية في العفوية. شبان يشيعون بهجة وتفاؤلاً مستحباً وحقيقياً هذه المرة.
طاولة “ابو حالوب”، اللاجىء العراقي الذي غادر منذ سنوات وصار وجهه وحضوره مثل علامة شهرة تخصه وحده هناك… لا أعرف لماذا اخترت طاولته للجلوس قبل أن ينبهني أحدهم: هل صارت حكراً له؟ ابتسم وأقول: ها أنا أحل مكانه رغم أنه موجود على ما يبدو بعينيه الطيبتين المتطلعتين واللتين لا ينافسه عليهما أحد.
زرت والتقيت الكثيرين ممن عرفني رغم غياب طويل، وممن لم أعرف في الروضة والهافانا ومظبوطة وبار أبو جورج، وبعض البارات المجاورة والمقاهي المنتشرة في دمشق القديمة. اختلاط وصخب ورائحة دخان وحوارات سياسية بأصوات عالية. هناك فريقان من المثقفين، أولهما مستبشر ويظن أن الوقت مبكراً للحكم على تجربة “الهيئة”، وأن هناك من استغل الهامش الديموقراطي وطالب بعلمانية مبكرة في ساحة الأمويين التي ضمّت أيضاً رموزاً مؤيدة للنظام المخلوع، اندست بين الجموع وكانت في الماضي القريب بين وجوه الفساد والاستبداد. وثانيهما متحفظ، ويبدي الكثير من الملاحظات ويوثق انتهاكات ويبالغ في عرضها على أنها كارثية. لكن في العموم، يتصرف السوريين ويتكلمون بثقة أكبر أخيراً، يشعرون أن أحداً لن يقصيهم بعد الآن من المشاركة في الحياة السياسية.
ولمحت على عجل، قلقاً عند بعض من التقيتهم، يسألون من جديد عن اللجوء أو الهجرة. كان الأمر محزناً ومبكياً من جانب. هناك من يشعر بخطر داهم، يخشى أسلَمة المجتمع واجتياح مناهج التعليم والتجاوزات الفردية هنا وهناك، والخطاب الديني الذي لا يروق لكثير من المثقفين ممن خبروا هذا الخطاب وصار يهدد حياتهم الخاصة وحياة الناس العامة، فيتهكمون عليه.
وهناك من يرى أن المرحلة الأولى لحكم بشار الأسد، كانت مبشّرة، لو استمرت الاصلاحات أو كانت جدية، لكن الغالبية لا ترى ذلك.
في الليل، أقترب من العمود الشهير للمرجة، هناك عُلقت صور المفقودين بالعشرات، بعضها ينعي، وبعضها يستجدي أي معلومة أو يتسقط أي خبر مع هاتف للتواصل. تمتد الصور التي ترتجف من البرد حتى مدخل الحميدية، وتتابع طريقها معك إلى نهاية مرورك العابر في أزقة دمشق خلف الأموي باتجاه باب توما، حيث تولد دمشق هناك حقاً، مرحة وحرة وضاحكة بشكل يليق ببساطتها العميقة وروحها الطيبة.
مشانق
جنوبي دمشق، كانت المخيمات مدمرة بالكامل تقريباً، بعض بيوتها معلقة سقوفها كما لو أنها مشانق موتى تشخص على منصات إعدام. الجدران مبقورة بقنابل فتحت جدران البيوت على بعضها البعض، ومن خلالها تستطيع ان تتخيّل ما حل بالبشر هناك. وحينما تتجه أبعد لتبحث عن حفرة “التضامن”، ويدلك عليها العشرات من دون أن يرافقوك، يقفز أمامك فجأة طفل في العاشرة ملوثاً بالطين وبوجه متجهم تماماً وصارم وقسمات ميتة، يقول لك بثبات حازم وهو يشير بإصبعه مكرراً: هنا، هنا كانت الحفرة، ويختفي. البناء المجاور فاغر فمه، يبدو كصرخة، وأنت وسطه عاجز ومرتبك وتدور حولك. تطلب من سائق التاكسي أن يوصلك إلى مدرستك القديمة لتعود طفلاً لا يريد أن يعي أو يصدق كل هذا الذي رأى، ولا يريد أن ينساه أو يتجاهله كذلك.
في النهاية، يبدو المشهد في دمشق واعداً وعارماً ومقبلاً على تغييرات جديدة، السجال عال ومحموم وصاخب، كعادة السوريين المأخوذين بالسياسة والحالمين بخلاص ما.
قبّلت وعانقت أصدقاء وصديقات على مرأى رجال “الهيئة”، قرب قوس النصر، من دون أن يبتعدوا حتى. غنينا وبكينا في بارات وشربنا وقرأت الشعر في حانة أبو جورج، وحين حدث ذلك كان صمت كنسي هائل يلف حانة مقدسة لا تتسع لأكثر من عشرة أشخاص، مع الكلمات الأولى لقصيدة: “فيما تتفقدون القتلى على طريق دمشق…اعثروا عليّ”.
إسرائيل تضرب تخوم دمشق، يراقب الناس بلا تعقيب ويستمرون في يومهم المعتاد، وكأن الأمر عارض أو تفصيل غير مهم. تستيقظ دمشق كل صباح بهدوء، حماماتها توزع سلاماً آسراً يلوح ويرسم دوائره فوق بيوتها أسفل الجبل الأشم، حارس الأبد ذاك، ثمة سلالم للرحمة والألفة تمتد إلى سماء لانهائية الأفق، وثمة فضاء يتسع كما لو أنه عناق.
المدن
————————-
سوريا الجديدة من قبضة القمع إلى قبضة الفراغ/ لينا سنجاب
16.01.2025
لا توجد عصا سحرية لنهضة سوريا. البلد بحاجة إلى كثير من الوقت، والكثير الكثير من الحكمة والتريث في معالجة الأمور، مع التشديد على ضرورة توثيق أي انتهاك، صغيراً كان أم كبيراً، وتسليط الضوء عليه حتى تتم معالجته.
هي مرحلة انتقالية تمر بمخاض صعب. فبعد عقود من استلاب الحقوق العامة والتجويع ومصادرة المواطنة، لصالح حفنة منتفعة استأثرت بمفاصل الدولة والاقتصاد وصنع القرار، تمر سوريا اليوم بمرحلة مفعمة بطاقة متفجرة من أهلها، الذين للمرة الأولى يشعرون بأن لهم صوتاً يُسمع، وحقاً يُكتسب، ويمكنهم المشاركة في المساحة العامة.
لكن الحال اليوم تحوّل إلى “ترند”. فمع احترام النوايا الحسنة لكل من يريد أن يساهم في التغيير، لكن يبدو أن عدد المتابعين والمشاركة على “السوشال ميديا”، أكثر أهمية من أثر العمل نفسه وآلية القيام به.
الكارثة التي تسبب بها الشيف أبو عمر الدمشقي عند الجامع الأموي، أدت إلى مقتل أربعة أشخاص وإصابة الكثير من بينهم أطفال، بسبب التدافع للحصول على طعام مجاني.
لا شك في أن الشيف أبو عمر نواياه حسنة بتوزيع الطعام، لكن شعبوية الأداء وغياب الاحترافية في تنظيم موائد يتوافد عليها المئات، ومن دون تنسيق أمني في المنطقة، وحتى اختيار المكان عند الجامع الأموي بأهميته التاريخية والدينية، كلها عوامل تصب في حالة “الترند”، أكثر مما تصب في هدف توزيع الطعام على أكبر عدد ممكن من المحتاجين.
كان القول السائد إن كنت تريد أن تفعل خيراً فلا تجعل يمينك تعلم بما تنفقه يسارك… أما حال اليوم، فافتح “لايف” وصوّر، وكلما كانت الصور احترافية، أو استعنت بطائرة “درون”، كلما زاد عدد المتابعين. لا احترام لوجوه الجوعى ولا اهتمام بكرامتهم وهم يتهافتون للحصول على الطعام.
والحادثة الثانية التي أثارت غضباً واسعاً بين السوريين، هي حالة طلاء سجن أمن الدولة في اللاذقية. الفيديو تسبب بحنق شديد لدى السوريين، سواء من المدافعين عن حقوق السجناء أم من المعتقلين السابقين. هي حادثة تنم عن جهل مدقع واستخفاف بألم من قبع داخل هذه السجون لسنوات وعقود.
المشكلة ربما ليست في النوايا، ولكن بمن سمح لهذا العمل بأن يحدث. فيما تمت المطالبة بإغلاق السجون وحمايتها من عبث القاصي والداني، بعد التعدي على الوثائق والأدلة في داخلها، كيف يسمح المعنيون بدخول مجموعة متحمسة من الشبان والشابات لطلاء الجدران وطمس الحقائق.
دعونا نتوقف قليلاً قبل المطالبة بمحاكمة من قام بطلاء السجون، ونطرح السؤال، هل هي مسؤولية الجاهل أم مسؤولية المؤتمن؟ ومن سمح بهذا العمل؟
هناك حالة من الفوضى تنتشر، فيما تقوم الإدارة في السلطة الجديدة، بمحاولات حثيثة لضبط الأمن وتجنيب البلاد عنفاً هي بغنى عنه، مع مقاومة فلول نظام الأسد للسلطة الجديدة، أو محاولاتهم المتكررة لبث الفتنة والإخلال بالأمن، كي يتجنبوا المحاسبة على جرائم الحرب التي ارتكبوها.
هناك فراغ إداري وسياسي أيضاً، فبينما تم تفعيل مؤسسات الدولة، بقي بعضها معطلاً، بخاصة مؤسسات الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية. وهذه معضلة حقيقية. فبينما تُعد الشرطة المدنية والعسكرية أساسية في ضبط النظام في الشوارع وملاحقة المخالفات والاعتداءات اليومية، تم تغييبها حالياً، إلى حين تُعاد هيكلة بنية وزارة الداخلية.
لكن في مناطق وأحياء كثيرة، تم تسليح أبنائها للعمل مع رجال الإدارة الجديدة، للحماية من اعتداءات أو جرائم سرقة.
والحال هو أن “اللجان الشعبية” التي كانت تنتهك الحقوق بالأمس، باسم نظام الأسد، بعضها تحول إلى “رجال حماية” اليوم، بالشراكة مع الإدارة الجديدة، ولكن بهيئة وخطاب جديدين، أطلقوا لحاهم واستخدموا الدين كقناع لموجة جديدة من الانتهاكات.
انتهاكات من نوع مصادرة بيوت بدون وجه حق، فرض فصل النساء عن الرجال في بعض المناطق، استخدام خطابات وشعارات دينية في المناطق المعروفة بطابعها المدني المتحرر، إن لم تكن ذات غالبية مسيحية، بناء مسجد في حرم جامعة دمشق من دون أي موافقة ودراسات هندسية واضحة، أمر يحتاج إلى أشهر للموافقة عليه، بدأت عمليات الحفر له في غضون أسابيع قليلة بعد التحرير.
والحق يُقال إنه حين يتم التبليغ عن الانتهاكات، تقوم السلطات الجديدة بالتلبية ووقف الاعتداء والظلم الواقع فوراً، ولكن حجم الانتهاكات بات لا يُعد ولا يُحصى.
الفساد متأصل في سوريا، والأسد تركها حطاماً مهلهلاً بالفقر والعجز والخراب. ومنتفع الأمس لا يريد أن يتنازل عن موارده، فيعيث فساداً اليوم، ومن له عداء شخصي مع جار أو قريب، يستقوي عليه بادعاءات كاذبة للسلطات الجديدة،
ناهيك بأن السلطة الجديدة لا تمثل تياراً واحداً، فهناك من يريد أن ينهض بسوريا حديثة، غنية، تندمج مع محيطها الإقليمي، وتستعيد وجودها عالمياً، وهذا يتطلب دولة قانون تحافظ على مدنيتها وعلى احترام حقوق مكوناتها، وهناك من انتظر عقوداً ليصل إلى سدة الحكم ليطبق الشريعة الإسلامية، وباسم القانون أيضاً.
وبين هذا وذاك، هناك الكثيرون ممن يتصيدون الفرص لمكاسب شخصية، تضر بالصالح العام، وتبعث رسائل مقلقة كثيرة للمراقبين، أو الراغبين في العودة الدائمة إلى سوريا.
ثمة قضايا مهمة كثيرة لها الأولوية، كاستتباب الأمن وهذه ضرورة، لكن ربما من الأولويات أيضاً للحد من العبث بالمساحات العامة والتجاوزات، هو العمل على استقلال القضاء وتفعيل النقابات بوجوه جديدة غير ملطخة بالفساد والتبعية، كما كانت الحال منذ عقود.
لا توجد عصا سحرية لنهضة سوريا. البلد بحاجة إلى كثير من الوقت، والكثير الكثير من الحكمة والتريث في معالجة الأمور، مع التشديد على ضرورة توثيق أي انتهاك، صغيراً كان أم كبيراً، وتسليط الضوء عليه حتى تتم معالجته.
درج
——————————
حين كانت الأبجديّة الأولى ملكاً لطاغية دمشق!/ تميم بدران
15.01.2025
التلاعب السياسي بالتراث الثقافي هو أداة قوية ضمن ترسانة القوة الناعمة. ويدرك الرئيس السوري بشار الأسد هذا جيداً، وكذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان”.
أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وفي الاجتماع السنوي للجمعية الأميركية لأبحاث ما وراء البحار( ASOR)، أُعلن عن اكتشاف أقدم مثال معروف للكتابة الأبجدية في تل أم المرا جنوب مدينة دير حافر في ريف حلب الشرقي، كنتيجة للدراسات التي تبعت أعمال التنقيب المتوقفة في الموقع منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.
نقلت وكالة الأنباء الرسمية سانا والكثير من الصفحات الموالية للنظام البائد آنذاك، الخبر وكأنه تظاهرة مناوئة له، إذ عنونت وكالة الأنباء السورية (سانا) على صفحتها الرسمية على “فيسبوك” الخبر بالشكل التالي: “بعد تداوله على نطاق واسع… مديرية الآثار والمتاحف تنفي ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام حول اكتشاف أبجدية جديدة في تل أم المرا بحلب”.
وعلى موقعها الإلكتروني الرسمي، كان عنوان الخبر يذهب إلى نفي مديرية الآثار والمتاحف “حتمية” أن يكون ما تداولته وسائل الإعلام أبجدية، واضعاً كلمة أبجدية بين علامتي تنصيص للتشكيك فيها. وأضافت سانا أن مديرية الآثار والمتاحف تشترط المزيد من سنوات البحث والاكتشافات من البعثة الأميركية-الهولندية التي عملت في الموقع قبل أن تعتبر هذا الكشف أبجدية، مؤكدة أنه مجرد فرضية نشرها في العام 2010 الباحث الأميركي غلين شوارتز، مدير التنقيبات في أم المرا، وأعيد تداولها حديثاً من دون وجود تنقيبات حديثة في الموقع المذكور، وهنا يبدو أن مديرية الآثار تتجاهل كل المنشورات والدراسات التي صدرت عن فرق الباحثين خلال الـ14 عاماً الماضية عن أم المرا.
في مقال له نُشر عبر منصة تونيوز الدولية في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، عرض الدكتور يوسف كنجو الباحث في جامعة توبنغن الألمانية والمدير السابق لمتحف حلب الوطني، وهو من العناصر الوطنية السورية العاملة في موقع أم المرا، تفاصيل الاكتشاف الذي يتضمن أربع أسطوانات طينية تحمل نقوشاً يُعتقد أنها أقدم نص أبجدي في العالم، يعود تاريخها إلى نحو 2400 قبل الميلاد، أي أقدم بـ 500 عام من النصوص الأبجدية المعروفة سابقاً. وُجدت القطع في قبر يحتوي على ستة هياكل عظمية لأفراد يُرجح أنهم من نخبة المدينة.
تم تأريخ النقوش باستخدام الكربون المشع، ما يجعلها أقدم من الأبجدية السينائية في مصر(نحو 1800 ق.م) والبيبلوسية في جبيل على الساحل اللبناني (نحو 1800 ق.م) والأوغاريتية على الساحل السوري (نحو 1400 ق.م). وبحسب غلين شوارتز، أم المرا أكبر مواقع العصر البرونزي في سهل الجبول بين حلب ووادي الفرات، وربما كانت عاصمة لمملكة صغيرة محصنة.
تعاطي سانا آنذاك مع الخبر بهذه الطريقة المريبة أثار ردود أفعال كثير من السوريين بمختلف شرائحهم، وذهب بعضهم إلى أن هذه “الشعبنة” القمعية للُّغة العلمية التي تتعاطى بها المجلات العلمية والأوساط الآثارية حين تناقش أمور “فتوحات أثرية” على هذا المستوى، هي امتداد للعقاب الشامل والتهميش الذي تعرض له السوريون في المناطق التي خرجت عن طاعة الأسد. وفي سياقنا هذا، نتحدث عن دير حافر. في حين أن وسائل الإعلام العالمية ومنها الصحيفة الإسرائيلية ذي جيروساليم بوست، عنونت الخبر كالتالي: أقدم كتابة أبجدية معروفة حتى الآن على أسطوانات طينية في سوريا.
إذا أردنا أن “نشعبن” اللغة العلمية التي تحدث بها شوارتز في إعلانه عن الكشف ونترجمها إلى عنوان إخباري للتداول بين الجمهور من غير أهل الاختصاص، فإن العنوان الأكثر توخياً للدقة العلمية “التي ادعاها خبر سانا” لهكذا كشف يمكن أن يكون: “دلائل أولية لأقدم أبجدية معروفة حتى الأن أتت من سورية”.
في حالة أم المرا، حيث البحث ما زال جارياً، توجد حالة أقرب إلى إجماع بين الباحثين في علوم اللغويات على أن النقوش المكتشفة تمثل بواكير للكتابة الأبجدية، والجدل الوحيد بين أهل الاختصاص ربما يكون انتماء تلك الأسطوانات الحاملة للنقوش إلى طبقات أثرية تعود إلى فترة البرونز القديم، نحو 2300-2400 ، ق.م. وهذا ما لا يوجد حجة لنفيه حتى الآن!
التراث كمشروع سياسي
التوظيف السياسي للتراث من النخب في الشرق الأوسط، وربما في العالم، يضعنا أمام التباس في مواضيعنا التراثية. فالأبجديات الأولى مثلاً، تحولت من بحث علمي إنساني يقصد إلى كتابة تاريخ الكتابة، إلى ما يشبه سباق البطّ الذي فازت فيه كل البطات بالمركز الأول، فالبطة التي وصلت أولاً هي أول بطة بذيل أبيض، من وصلت ثانياً هي أول بطة بذيل بني، فالأوغاريتية هي أول أبجدية مسمارية والبيبلوسية هي أول أبجدية صورية، وهكذا.
يذهب توظيف التراث في المشاريع السياسية إلى ما وراء سباق البط بكثير، ففي ألمانيا النازية حيث مؤسسة آنهينيرب (Ahnenerbe) كقسم بحثي في جهاز شوتزشتافل العسكري، كانت الهدف البحث في التاريخ والتراث الجرماني لتعزيز أسطورة التفوق الآري لتبرير العنصرية وتعزيز فكرة الشعوب الدنيا، الأمر ذاته في إسرائيل ما يسمى “علم الآثار الزائف” الذي وصل إلى مرحلة القول بأن كريستوفر كولومبوس يهوديّ كما نشر هذا العام.
ونتذكر خطابات اليمين الشعبوي اللبناني في العقد السابق، والتي استثمرت بالتراث الفينيقي. ولم يفوت جبران باسيل وزير الخارجية اللبنانية الأسبق، في خطابه في مؤتمر الطاقة الاغترابية الثالث لأميركا الشمالية في مونتريال في أيلول/ سبتمبر 2018، فرصة لطلب مال وأصوات المغتربين طارحاً نفسه مدافعاً عن فينيقية لبنان في وجه “الآخر” وفي وجه “مشروع” تصدير اللبنانيين وتوطين النازحين مكانهم.
“التلاعب السياسي بالتراث الثقافي هو أداة قوية ضمن ترسانة القوة الناعمة. ويدرك الرئيس السوري بشار الأسد هذا جيداً، وكذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان”. بهذه الكلمات، علقت الباحثة في تراث الشرق الأوسط، البريطانية ديانا دارك، على مشهد رد الأسد وبوتين على تحويل أردوغان في تموز/ يوليو 2020 كنيسة آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، ببناء نسخة رديئة مصغرة من آيا صوفيا تتسع لعشرة مصلين في بلدة سقيلبية ذات الغالبية المسيحية الأرثوذكسية في حماة، بتمويل من روسيا. ليظهر الإثنان كمروجّين للحوار السلمي، معتدلين متعدّدي الثقافات – عكس أردوغان الذي كانت أقرب نقطة عسكرية لجيشه حينها في مورك تبعد عن سقيلبية كيلومترات عدة.
أوغاريت الأسد
عام 2011، رأى السوريون الصور التي نشرها الفنان السوري العالمي مالك جندلي لأبويه المسنين، وقد تعرضا لاعتداء وحشي من عناصر مخابرات نظام الأسد داخل منزلهما بحمص، للانتقام منه لمشاركته في مسيرة الحرية وأدائه مقطوعاته الموسيقية دعماً للثورة السورية من واشنطن، ولإيصال رسالة لوالديه مفادها: يبدو أنكما لم تعرفا كيف تربيان ابنكما، ولا بد أن نعلمكما.
مالك “قليل التربية” هذا، وقبيل انطلاق الثورة، كان تقدم مراراً لوزارة ومديريات الثقافة بمشروعه الموسيقي لإعادة إحياء أقدم تدوين موسيقي جاء من أوغاريت، من خلال دراسته لأبحاث علماء اللغويات الأجانب على هذا التدوين المهمل من المعنيين السوريين. عمل جندلي على إيجاد القاسم المشترك بين هذه الترجمات وتوزيعه الموسيقى على آلة البيانو. الأمر الذي جوبه بالتجاهل التام من السلطات آنذاك. بعدها، اختارت مؤسسات الأسد في عام 2013 أن تعلق بصورة الرقم الذي يحتوي هذا التدوين الموسيقي على الوجه الخلفي للعملة من فئة 500 ليرة.
عطّلت دولة البعث إنشاء متحف في مدينة أوغاريت على رغم كل محاولات القائمين على الموقع بدء هذا المشروع على مدار عقود. واستثمر نظام الأسد في الموضوع الأوغاريتي تحت عناوين الحملات الإعلامية والترويج السياحي، في المناهج المدرسية والرموز والشعارات والمهرجانات الثقافية. كلها فعاليات وأحداث تبدو للوهلة الأولى أنها مبادرات وطنية يقودها الأسد عبر مؤسساته العتيدة لتعزيز الفخر القومي والهوية الوطنية التاريخية وتعميق الصلة بالجذر التاريخي الثخين… لكن ما أن نخدش سطح هذه العناوين حتى نكتشف طبقات السياسة والفساد.
عام 2019، روّج الأسد لـ”انتصاره” على “الإرهاب” بعد استعادته السيطرة على مدن مهمة، وصولاً الى حلب شمالاً ودرعا جنوباً، وتدميره معظم المساحات التي خرجت عن سيطرته وتهجير أهلها، معطلاً الحل السياسي ومنتظراً أموال إعادة الإعمار. حينذاك، انطلق مهرجان أوغاريت الأثري، برعاية محافظة اللاذقية ومديرية الثقافة، بتغطية إعلامية متفانية من قناة الميادين المقاومة، وهمة بعض “الباحثين” وعلى رأسهم “الباحث” حيدر نعيسة.
بغض النظر عن توقيت استحداث المهرجان المتأخّر، بعد قرابة المئة عام على اكتشاف أوغاريت، تحدث نعيسة الى قناة “أوغاريت” التلفزيونية متغنياً بالنسخة الرابعة من المهرجان، والتي شارك فيها افتراضياً عبر رسالة صوتية من بيروت الفنان فايز قزق ليحيّي الحاضرين والقائمين على المهرجان الذي غلبت عليه بحسب “الباحث” نعيسة، الأعمال المسرحية والتمثيلية.
يقول نعيسة: “إقامة مثل هذه المهرجانات في هذه الفترة بالذات، تهدف إلى إعادة إعمار الإنسان إكمالاً لمسيرة “الانتصار”، وتسليط الضوء على أهمية أوغاريت في رفد البشرية بالعلوم والآداب والفنون، وضرورة السير بهديِ هذه المدينة القدوة التي شكلت لنا الحروف التي تكتب ولا تلفظ”. استرسل نعيسة بعدها في الحديث عن إحدى القصص التي تم تمثيلها على مسرح المهرجان، وهنا المصيبة.
القصة التي سردها نعيسة بعنوان “بين أوغاريتيٍّ وراميتي”،
تتحدث عن رجل أوغاريتي بعث من قبره ربما لأن أحد الأشقياء حاول أن يحفر في قبره بحثاً عن الكنوز، فخرج من نفق إلى المدينة وسرعان ما التقى بمسلح من القتلة الإرهابيين من “شعوب البر التي اجتاحت بلادنا”. تذكّر هذا الأوغاريتي شعوب البحر التي حرقت أوغاريت، وحصل بينهما حوار يؤكد عراقة أوغاريت مقابل همجية العصابات، وهمجية “القوى العدوانية الإرهابية”، وعطاء أوغاريت مقابل البدائية التي يتحلى بها التكفيريون والإرهابيون وسواهم. يقول الأوغاريتي: أنا اخترعت الأبجديي. ويقول له الإرهابي: أنا اخترعت الكندرجيي…
يعدد الأوغاريتي المنجزات الحضارية التي قدمها للعالم مقابل البدائية والتخريب والهمجية لدى الإرهابي من “شعوب البر” الذين هم من المفترض سوريون أيضاً.
ينهي الأستاذ القصة هنا من دون أن يذكر بالضبط في ما إذا قتل الأوغاريتي الإرهابي أو زجّ سارق الآثار في قبو المخابرات الجوية… لكنه ذكر تصفيق الحاضرين وإعجابهم بالمسرحية، وهنا الطّامة الكبرى، يكمل نعيسة: لماذا ننتظر الأجانب لكي يستكشفوا ما تبقى من أوغاريت، هؤلاء هم أحفاد شعوب البحر الذين حرقوا أوغاريت، لدينا المئات من علماء الآثار، معدداً أسماء بعضهم، مشيراً إليهم بـ “الثلة الرائعة” أو “سُلّة” كما قال.
كاتب هذه القصة ربما وصف “الإرهابي” هنا بـ” الراميتّي”، وراميتا هي مدينة أو مستوطنة تبدو في النصوص الأوغاريتية كمنطقة تابعة أو خاضعة لأوغاريت، ربما أراد كاتب القصة إسقاط حالة الخضوع هذه على من تمرد على الأسد اليوم. لكن وصفه للإرهابي بأنه من شعوب البر، فهذا الأمر فيه سلخ لمن تمرد على الأسد عن سوريّته، وأصبح شعباً آخر عدواً كشعوب البحر التي أحرقت أوغاريت. وفيه ما فيه من تحوير وتلفيق لصراعات وقصص من التاريخ لتطويعه وإسقاطه على الواقع بحس “ما قبل وطني”. وفيه قبل كل شيء، علم المشاركون بتمثيل هذه القصة أم لم يعلموا، تبرير لجرائم الدولة في الإبادة والإخفاء والمجازر بحق المعارضين.
تحوي الممارسة السابقة عطباً كبيراً حيث يشارك معتنق السردية الأسدية هذه لتراثه مع باقي السوريين، إذ يراهم باستعلاء إما خاضعين لـ”أوغاريت الأسد” أو أعداء، وهذا لا يشبه إعادة إعمار الإنسان بشيء.
هذا النوع من “خطاب الكراهية” العابر للبحار تحت شراع “السلام” يَسْهُلُ تعزيزه في اللاوعي الجمعي عن طريق تسخير التراث كحامل لهذا الخطاب، هو ليس فقط انتهاك بحق التراث وقصص التراث، بل أيضاً اتهام مسيء بحق الإنسان، وخصوصاً إنسان رأس الشمرا الحالي، حفيد شعب أوغاريت، ويعمق شرخاً على مستويات عدة بينه وبين شريكه في الوطن “ابن شعوب البر”
والبعث بالطبع كان يفضل إقامة هذا النوع من الفعاليات السطحية التي يسهل فيها على المخابرات تعزيز سردية الأسد، وتقديم رؤيته عن مدينة “السلام” على مشهد الجماهير الخائفة من غزو “شعوب البر” وحرقها لبيوتهم إذا هم تخلوا عن حامي التراث الأول وتقاعسوا عن إرسال أبنائهم جنداً في صفوفه لإخضاع باقي البر السوري.
بعد ذلك، من المحتّم أن المخابرات ستنفي عبر سانا أن لـ”شعوب البر” في دير حافر أيضاً أبجديتها… فكيف بهم إذا أعلن علماء أميركيون وعالميون أنها قد تكون الأقدم في العالم حتى الآن!
دير حافر تنتظر
يوم إعلان اكتشاف أبجدية أم المرا من شيكاغو في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، كانت مدينة دير حافر الاستراتيجية المتاخمة لمطار كويريس العسكري لا تزال تحت سيطرة جيش الأسد الذي استعادها من داعش في آذار/ مارس العام 2017، بعد معارك عنيفة أدت حينها إلى نزوح قسم كبير من الأهالي في جميع الاتجاهات، لتنتهي بهذا النزوح الكبير فترة من المعاناة تحت وطأة الخلافة الإسلامية المرعبة دامت أكثر من ثلاث سنوات عجاف,
وكما هو حال معظم الأهالي النازحين من المناطق التي استعادها النظام آنذاك، لم يسمح لمن يرغبون أو يستطيعون العودة إلا بعد “تعفيش” منازلهم التي دمر معظمها قصف النظام وحلفائه، الذي لم يتوقف منذ منتصف العام 2012.
بدأت بعدها مرحلة أخرى، شهدت بعض الاستقرار الأمني لكنه ظل هشاً بسبب التحديات الاقتصادية والدمار الكبير. والأهالي الذين عادوا واجهوا ظروفاً صعبة في إعادة بناء حياتهم وسط القيود القمعية الصارمة التي فرضها النظام السوري، في ظل غياب الدعم الكافي والإرادة لإعادة الإعمار.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أصدر مركز حرمون للدراسات بحثاً بعنوان “العلاقات بين المجتمع المحلي في سوريا وتنظيم الدولة “داعش” منطقة دير حافر نموذجا”، أوضح فيه العبدالله فداحة ما تعرض له السكان من انتهاكات وضغوط خلال حكم داعش لدير حافر، والعلاقات المعقدة والصراعات بين الأطراف المتحاربة في بلدتهم الاستراتيجية، والتي تخادم فيها الجميع لإنهاك الثورة التي انضمت إليها مجموعات من الأهالي في تظاهرات ليلية في 2011 ضد نظام الأسد الذي أهمل هموم مجتمعهم الريفي لعقود.
طمأننا الدكتور يوسف كنجو في لقاء له مع “درج”، إلى أن وضع أم المرا جيد والتل محمي، وحارس التل موجود ولم تحصل أي تعديات، فالمجتمع يعرف قيمة التل، وعلاقته بالبعثة الأثرية جيدة والتواصل معها مستمر.
والآن، وبعد انهيار نظام الأسد في دمشق وانسحاب قواته من دير حافر، تحولت الأخيرة إلى منطقة للنزاع بين قوات سوريا الديمقراطية والجيش الوطني المدعوم من تركيا، وحتى الآن لا يزال مهجروها والباقون فيها تحت ثقل النزاع الأخير، ينتظرون أن يضع وزره ليعودوا وتعود الحياة ويحتفلوا مع بقية شعوب البر والبحر والنهر من السوريين بزوال الطغيان.
في إعادة بناء الهوية الوطنية والتراثية السورية
مع سقوط الأسد، انهارت السرديات التي طالما بررت جرائمه أمام مؤيديه. كثر ممن يزعمون أنهم اكتشفوا اليوم فقط الانتهاكات والجرائم في سجون الأسد، فقدوا في الحقيقة المبررات التي دعمت مواقفهم سابقاً. تلك المبررات كانت قائمة على مزيج من الأساطير، التلاعب بالتاريخ، واستغلال القضايا لتحقيق مكاسب دعائية تحشيدية.
إصلاح ما أفسد الأسد لدى السوريين هو تحدّ كبير جداً وحساس في طريق إعادة بناء الهوية الوطنية السورية. أولئك الذين تعرضوا على مدى 54 عاماً أو أكثر لهذه الدعاية “البعثية” أو “الأسديّة”، إذ نجد اليوم من يرفضون رفع العلم السوري الجديد، الذي يعتبرونه، منذ 14 عاماً، رمزاً “لشعوب البر والبحر” بحسب المسرحية السابقة. ولا يمكننا تجاهل الحملة الإعلامية التي شنها الأسد لتشويه صورة هذا العلم، واصفاً إياه بعلم الاستعمار. هذا التشويه يمثل بدوره انتهاكاً للتراث السوري وتشويهاً لتاريخ “الهوية البصرية” السورية.
درج
—————————-
“ثوار 25 يناير”: فانتازيا سورية/ شادي لويس
الأربعاء 2025/01/15
وسط رسائل الطمأنة الصادرة عن دمشق إلى دول المنطقة والعالم، وبالأخص المشددة على أن سوريا لن تكون منصة لتصدير ثورة إسلامية، يعلن المصري أحمد المنصور المقرب من هيئة تحرير الشام عن تنظيم مسلح لإسقاط نظام الحكم في مصر تحت اسم “حركة ثوار 25 يناير”. يجلس المنصور على طاولة مكشوف الوجه وأمامه مسدس وحيد، ويصطف على يمينه ملثمان وعلى يساره اثنان آخران. ويتوزع في مقدمة المشهد وخلفيته عدة أعلام خضراء يزينها الهلال وثلاثة نجوم. علم الملكية هنا لا يمكن تصوره سوى كحلية ملفقة تجمع بضعة عناصر متنافرة، رمزيات إسلامية عارضة في الهلال واللون الأخضر، وكذا ادعاء صلة ما بالتاريخ المصري من منطلق معادٍ لدولة الضباط الأحرار. ثمة محاولة لاستنساخ التجربة السورية فيما يتعلق بطرح علم بديل يلتف حوله المحتجون. لكن وبينما خرج علم الثورة السورية من الاحتجاجات الجماهيرية، يظهر علم الملكية المصرية هكذا فجأة من العدم، أو هو بالأحرى تفصيل ديكوري في استوديو تصوير متواضع الإمكانيات.
لا يمكن الجزم إن كان الإعلان الذي خرج على الأغلب من الأراضي السورية، قام المسؤولون عنه بتنسيق إطلاقه مع سلطة الأمر الواقع في دمشق أم لا. من جهة السلطة في دمشق، وهي الساعية للاعتراف من القريب والبعيد، يظهر الإعلان الصبياني في تفاصيله وإخراجه مجرد بادرة لعداوة مجانية غير مرغوبة، كون الخصومة في هذا الحالة لا تقتصر على القاهرة وحدها بل تتوسع بالتبعية إلى دول الجوار العربي كله وأبعد. أما بالنسبة للنظام المصري، فيأتي الإعلان عديم الأثر بالمرة على أرض الواقع ليضخ دماء جديدة في ماكينة بروباغندا الخوف. والحال، أن التنظيم الافتراضي يوفر ثلاثة صكوك تزكي خطاب السلطة. أولاً أن مصر تواجه خطراً داهماً ومزمناً يهدد بسقوط الدولة، هو الإرهاب بتعريف النظام ومحاكمه التي تلصق تلك التهمة بكل خصومه، أو بمعنى أدق، هو خطر مسلح تحركه إيديولوجية إسلامية جهادية. ثانياً، ثمة مؤامرة مصدرها الخارج تقف وراءها قوى إقليمية ودولية. وأخيراً يمكن ربط حالة الاضطراب تلك بثورة يناير التي ينسب لها رأس النظام بشكل متكرر كل خراب العقد الماضي.
هكذا لا تتضرر السلطة في مصر من تلك الفقاعة الدعائية، بل تقوم بالنفخ فيها إعلامياً، وبها تثبت لنفسها وللآخرين صحة تحفظها إزاء التغيرات المفاجئة في سوريا. ويحدث هذا بينما ينهمك الجهاز القضائي المصري في موجة جديدة وواسعة من إعادة تدوير السجناء السياسيين ممن قضوا أحكام طويلة على ذمة قضايا أخرى.
والحال، أن العنف المسلح ليس محض خيالات مرضية تروجها الآلة الدعائية للدولة أو خصومها. بل شهدت البلاد خلال العقد الماضي ما يمكن تسميته من دون الكثير من المبالغة، حرباً أهلية مصغرة وصامتة في شبه جزيرة سيناء، وبشكل أقل حدة بطول الحدود الغربية الممتدة مع ليبيا، الجارة غير المستقرة. وفي خضم هذا الصراع الدموي والمأساوي والذي حصد بضعة ألوف من القتلى وعشرات الألوف من النازحين والمهجرين قسراً، نالت مصر حصتها من تنظيم يحمل راية الدولة الإسلامية على أرضها. وعلى غير ما تروج له السلطة، لم يكن هذا العنف المسلح نتاج لهزة يناير التي ضربت أساسات الاستقرار، وأنما له تاريخ سابق عليها بوقت طويل، حيث شهد عقدا الثمانينات والتسعينات تمردات مسلحة متوطنة في صعيد مصر، وأحياناً ما وجد العنف طريقه ليتسرب إلى شمال الوادي وانتشرت ببطء في العاصمة والمراكز الحضرية، وكان من بين علامات تلك الحقبة جيوب الإمارات إسلامية في الأحياء المدينية المعدمة، والضربات الخاطفة التي استهدفت الأقباط والشرطة والسياحة، وبوتيرة متفرقة، المثقفين والفنانين. وفي كل تلك المعارك في الماضي القريب أو البعيد، انتصرت الدولة بشكل مظفر وخرجت أكثر تماسكاً وبطشاً وهيمنة. ولم يتقدم الحراك الاحتجاجي السلمي سوى بعد خفوت صوت الرصاص لوقت كافٍ.
لكن “حركة ثوار 25 يناير” لا تنتمي إلى هذا الرصيد الموثق من التمرد الجهادي. فعلى عكسها جميعاً، يأتي الإعلان من الخارج ومن بلد ليس له حدود مباشرة مع مصر. الإعلان عن التنظيم أشبه بحفلة تنكرية لملثمين مع سلاح وحيد وأعلام كرنفالية، تلهمها فانتازيا جهادية بمنطق القص واللصق. فبعد أن يأس الجميع في مصر من أحلام الثورات الملونة، ومن إعادة إنتاج يناير باستدعاء الجماهير للشوارع مرة بعد أخرى بلا نتيجة، لم يبقَ لهؤلاء سوى التمني… أن تكون مصر سوريا أخرى.
المدن
————————–
العمل التطوعي في سوريا ودافع الانتماء/ حمدان العكله
2025.01.15
بعد تحرير سوريا وسقوط نظام الاستبداد الذي طالما قيَّد حرية الشعب، سمعت من العديد من أصدقائي رغبتهم الملحة في العودة إلى وطنهم، على الرغم ممَّا أنجزوه من أعمال أو وصلوا إليه من وظائف في الخارج، والبعض منهم أكَّد لي نية عودته للعمل بشكل تطوعي في مؤسسات الدولة الجديدة، التي لا شكَّ أنَّها في أمسِّ الحاجة إلى الخبرات والمهارات التي اكتسبها السوريون خلال سنوات اللجوء والنزوح، وهذه الرغبة في العودة ترتبط بوعيهم العميق بأهمية دورهم في إعادة بناء وطنهم، خاصة في ظلِّ التحديات الكبيرة التي تواجه البلاد في مرحلة ما بعد التحرير.
شهدت المناطق المحررة – سابقاً – حركة حيوية في مجال العمل التطوعي، وهو النشاط الذي لطالما كان جزءاً لا يتجزأ من الثقافة السورية، وقد تنوعت أشكال هذا النشاط بين المساعدات الإنسانية، والرعاية الصحية، والتعليم، والدعم النفسي والاجتماعي، لتتحول إلى لون بارز من ألوان التكافل الاجتماعي والتضامن الوطني، ولقد تجسَّد هذا التضامن في صورة رأس مال اجتماعي بالغ الأهمية، خاصة بعد كارثة الزلزال في شباط 2023، التي جعلت من العمل التطوعي شريان حياة حيوي للمجتمع السوري في المناطق المحررة، في وقت كانت فيه المنطقة تعاني من نزوح داخلي، وتدمير للمدن، وانهيار في البنية التحتية، وفقدان العديد من الأشخاص لموارد رزقهم وحياتهم الطبيعية، وقد برزت الأنشطة التطوعية كأداة أساسية للمساعدة في تجاوز الأزمات الإنسانية والاجتماعية، ولم تكن هذه الأنشطة مجرد ردَّة فعل تجاه الكوارث، بل كانت بمنزلة دعامة أساسية لتمكين المجتمع المدني، وتعزيز المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرارات المتعلقة بمستقبلهم السياسي والاجتماعي في مرحلة إعادة الإعمار.
وفي ظلَّ الاستبداد الذي خيم على سوريا لسنوات طويلة، كان النظام الحاكم يسعى جاهداً إلى احتكار السلطة والسيطرة المركزية على كافة مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية، ممّا خلق بيئة خانقة لا تحتمل أي شكل من أشكال الاستقلالية أو الحرية، في هذه الحالة، كان العمل التطوعي يشكل تهديداً حقيقياً للنظام، إذ يتطلب هذا النوع من الأنشطة أن يكون الأفراد والمنظمات مستقلين، للتعبير عن إرادة المجتمع بعيداً عن الهيمنة السياسية، وهو ما كان يتناقض بشكل جوهري مع سياسة النظام الذي كان يسعى إلى إضعاف كلِّ مبادرة حرة في المجتمع المدني، ومن هنا، يفسر غياب المنظمات غير الحكومية المستقلة، حيث كان النظام يدرك تماماً أنَّ العمل التطوعي لا يقتصر على تقديم الخدمات الإنسانية، بل يُسهم في تعزيز الوعي الجماعي وحرية التعبير، ممَّا قد يؤدي إلى المطالبة بالتغيير السياسي الذي يهدد استمراره في السلطة.
لقد كان النظام يدرك أنَّ العمل التطوعي هو أداة فعالة لإعادة تشكيل الهوية المجتمعية المستقلة، وتعزيز التكافل الاجتماعي، والانتماء إلى المجتمع بعيداً عن الولاء الأعمى للسلطة المستبدة، هذه القوى المجتمعية قد تفتح أبواباً نحو تفكيك الولاء المطلق للنظام، وهو ما كان يشكل تهديداً وجودياً له، ولذا، كانت المبادرات التطوعية التي كان يروِّج لها النظام مجرَّد أنشطة وهمية، تُنفَّذ عبر منظمات تابعة له، مثل حزب البعث أو منظمة الطلائع، التي كانت تركز على تعزيز الولاء السياسي للنظام بدلاً من خدمة المجتمع بشكل حقيقي، فالنظام لم يكن يرى في العمل التطوعي إلا وسيلة لفرض التبعية، وليس أداة للإصلاح الاجتماعي أو التغيير البنَّاء.
وقد تراجعت، في العهد الاستبدادي، روح المبادرة لدى الشعب السوري بشكل ملحوظ، حيث غابت الرغبة في الانخراط في الأعمال التطوعية أو أيِّ نشاط مجتمعي يحمل في طياته بذور التغيير، هذا التراجع لم يكن مجرد انعكاس للوضع المعيشي الصعب الذي كان يرزح تحته السوريون، بل كان نتيجة القمع والتسلط السياسي الذي سلب الأفراد قدرتهم على التعبير عن إرادتهم الحرة، لكن السبب الأعمق يكمن في غياب الروح الوطنية والشعور بالانتماء، فقد كان النظام يسعى بكل جهده إلى احتكار السلطة وتهميش دور المجتمع، ممَّا أدى إلى فقدان الحافز الجماعي للمساهمة في بناء الوطن، في هذا السياق، كان الشعب السوري يعيش في حالة من الاغتراب الداخلي، حيث باتت فكرة المشاركة في بناء الوطن غير ممكنة، نتيجة لانسحاب الأمل في تغيير الواقع، وتحول الولاء إلى النظام بدلاً من الوطن.
ونتساءل: ما هي الأسباب التي أدَّت إلى استعادة اهتمام الشعب بالعمل التطوعي بعد التحرير؟
عاد الاهتمام بالعمل التطوعي بشكل ملحوظ بين السوريين، وذلك نتيجة لعدة دوافع نفسية واجتماعية قوية، تبرز هذه الدوافع بشكل خاص في سياق التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد، حيث أصبح العمل التطوعي وسيلة للتعبير عن الهوية السورية، بعيداً عن الهيمنة السياسية، ممَّا ساعد في إحياء الروح المجتمعية والمشاركة الفعالة في عملية إعادة الإعمار، كما أنَّ الحرمان من المشاركة في الأنشطة المجتمعية لفترة طويلة خلق فراغاً نفسياً، وعندما تحررت البلاد، بدأ الشعب يشعر بحاجة ماسة إلى إعادة بناء الثقة بين أفراده، فالمشاركة في الأعمال التطوعية أعطت السوريين فرصة لتقوية الروابط الاجتماعية والشعور بـالانتماء للوطن، خاصة بعد سنوات من التفرقة والتهجير القسري، ذلك أنَّ تراجع روح المبادرة في فترة ما قبل التحرير بسبب القمع والتخويف، قد أفسح المجال فيما بعده لظهور روح التعاون والتضامن بين السوريين الذين رأوا في العمل التطوعي وسيلة لتحقيق إعادة الإعمار وإعادة بناء الهوية الوطنية، فمن خلال الأنشطة التطوعية، استطاع الشعب السوري أن يعيد التواصل مع بعضه البعض، ويشعر بأهمية التكافل الاجتماعي والمسؤولية الجماعية في إعادة بناء وطنهم.
ختاماً: بعد التحرير، أصبح العمل التطوعي في سوريا أكثر من مجرد نشاط اجتماعي أو خدمة إنسانية؛ فقد تحول إلى عملية نفسية وعاطفية عميقة، تمثل نقطة انطلاق لإعادة بناء المجتمع الذي مزقته سنوات من الصراع والدمار، لم يكن هذا العمل مجرد محاولة لإصلاح ما تضرر من البنية التحتية، بل كان بناءً للروح المجتمعية وإحياءً للأمل في نفوس السوريين. لقد أثبتت هذه التجربة أن العمل التطوعي لا يقتصر فقط على إصلاح الخراب المادي، بل يمتد ليشمل أيضاً إعادة بناء الإنسان السوري نفسياً واجتماعياً، من خلال العمل التطوعي، تمكّن السوريون من استعادة هويتهم وتقوية الروابط الاجتماعية، وأصبح كل عمل تطوعي هو تعبير عن رغبة عميقة في التغيير واستعادة الكرامة الوطنية، إنه رأس المال الاجتماعي الذي بدأ يترسخ في المجتمع السوري بعد سنوات من القهر، حيث بدأ الأفراد يشعرون بأنهم جزء من حركة مجتمعية حية تهدف إلى إعادة تشكيل المستقبل.
تلفزيون سوريا
———————————-
الترياق في إسقاط الأسد العملاق/ أحمد عمر
16 يناير 2025
أنكر علينا أحد “المؤسّرين” السوريين فرحنا، واحتفالنا المتواصل بسقوط طاغية القرن، لا بل الحقبة، لقد أسقطنا فرعوناً أشدّ وأطغى من فراعين مصر جميعاً، السابقين واللاحقين، بل الجن والإنس أجمعين، من غير الحاجة إلى قنبلتيْن نوويتين، كما وقع في اليابان، وقد أجبرتا إمبراطور اليابان على إنكار انتسابه للآلهة والإقرار ببشريّته. مع أن الشعب السوري ضحّى بأضعاف ما ضحت به اليابان، وسلخناه من ألوهيته وربوبيّته، وجعلناه لاجئاً معزولاً، مطروداً، في بلاد الفودكا الموحشة.
ما زلتُ أستيقظ كل يوم، وأنظر إلى المرآة، فيسألني الرجل الذي يظهر فيها: وهو رجل يشبهني الخالق الناطق الفالق الرازق، كأنه توأمي: ما شعورُك بعد سقوط الأسد؟ وليس عندي سوى جواب واحد، وهو ما قاله سهيل النمر “للمؤسّر” شادي حلوة: أنت “تكسر” من الأسئلة. كان الأسد قد قدم من قرية القرداحة إلى كوكب سورية، وقد سمع بموصل حراري فائق الإيصال هو السوري، يوصل بدرجة حرارة الغرفة، فتسلل إلى عاصمته واستعبد أهلها بسلاح الدولة وقوة القانون.
كان الموصل السابق سبب احتلال الأميركان كوكب باندورا، في فيلم الافاتار، وإن مثل حافظ الأسد العقيد مايلز كوارتش في الفيلم، أكثر الأفلام ربحاً في تاريح شباك التذاكر حتى حينه، يقفز العقيد من طائرته الساقطة بسهم سولي إلى قمرة رجلٍ آلي عملاق، فيقوده، ويصارع جيك سولي، وكان حافظ الأسد قد ركب سورية العملاقة، فأصبح بقوتها، وقوة تاريخها، ومكانتها، وقوة شعبها الجبار، الذي يصفه مؤرّخون بأنه أشدُّ الشعوب العربية وأذكاها وأعزّها، تؤازره شهادات التاريخ وآثار نبوية، ومع قوة سورية قوة دولة إقليمية هي سليلة الإمبراطورية الفارسية، وقوة دولتين نوويتين، هما روسيا والصين، صاحبتا حقّ النقض في مجلس الأمن، وقوة أميركا التي كانت تؤازر الأسد بصمتٍ في عهد أوباما، وقوة إسرائيل أيضاً، فقد كان الأسد من حرّاسها، فأصبح الأسد رجلاً خارقًاً جباراً مارداً عتيّاً، مثل عوج بن عنق في الأساطير، ولم يسقط إلا بمئات آلاف من الشهداء، ومئات آلاف من الثكالى، ووجدت عبارة إن حدثاً مثل هذا لا يقع إلا كل ألف سنة مرّة مناسبة للتعبير عن إسقاط هذا الجبار، وإن نسبة وقوع ما وقع لا تعادل واحدا بالمليار، فلم يكن أحد يصدّق أن ينتهي الأسد، صاحب الأبد، هذه النهاية الرائعة؛ هارباً، لاجئاً، منكسراً، من غير كلمة وداع، مجللاً بالعار الصافي، وهي نهاية لم أكن أحلم بها في أحلام اليقظة، وكنتُ كل يوم أرتّب أحلام يقظتي، فألبس عباءة سوبرمان، فلا أجد سبيلاً لتحرير المعتقلين والمعتقلات، لقسوة الواقع وعوائق السياسة.
وقعت المعجزة في عصر ينكر المعجزات، وإن نهاية بشّار الأسد متجانسة مع تاريخ رجلٍ سعى إلى تجانس شعبه، فجنّس مئات الألوف من الأفغان والإيرانيين بالجنسية السورية، وقد كان الرجل متجانساً مع نفسه، وقد خيّر كثيراً، فاختار الحرب، فما أحسنها من خاتمة، فلو أنه أسر، ووقف أمام الكاميرا والمحقّقين، لقال عباراتٍ قد تأسر قلوب محبّيه أو مبغضيه، مثل عبارة حسني مبارك في مصر: لن أموت إلا على ترابها، وقد دافعت عن أرضها. صمتَ الرجل، وسكت، وكان سكوتُه من ذهب، فليس عنده ما يُقال بعد صيدنايا، حتى أنّ الرسالة التي نسبت إليه، وهي رسالةٌ من تحت الزفت، مهينة، فقد فسّر الماء بعد الجهد بالماء. رأينا في سجون صيدنايا ما لا عين رأت، وسمعنا من شهادات عتقائها ما لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وكنّا محرومين من رؤية القنيطرة المحرّرة، فرأيناها، ورأينا المراسلين في عاصمة الأمويين، وشهدنا أعلام النظام وهم “يكوّعون” في المنعطف التاريخي، إن نزع ملك هذا الطاغية ليستحق عرساً طويلاً، فقد حصلنا الحسنيين؛ الشهادة لمن استشهد والنصر لمن حييَ، وثالثة حسنة جميلة: أخزينا الطاغية وأتباعه، وحرّرنا “الموصل الحراري”، وزعلنا المؤسّر المذكور أعلاه، الذي قلق من لحية القائد الجديد، لأنها مشوّكة، عند القبلات. ما يخزك، أيها المؤسّر، ليس لحية أحمد الشرع، وإنما المسلة في جيبك، والضغينة في قلبك الذي أُشرب العجل.
العربي الجديد
—————————
نار سوريا المرغوبة!/ مشاري الذايدي
16 يناير 2025 م
لا يمكن الاستغناء عن سوريا، فهي مفتاح الشرق الأوسط منذ القدم، منذ زمن الآشوريين والأشمونيين الفرس والإغريق والرومان، ثم العرب فالتتار فالصليبيين فالأيوبيين فالمماليك فالعثمانيين والروس فالفرنسيين والبريطانيين… ثم عصرنا الراهن.
لذلك حتى لو تمّ خروج الإيرانيين بهذه الطريقة المذلّة من سوريا واندحارهم في لبنان، وحتى لو خسرت روسيا بوتين رجلها في الهلال الخصيب، بشار الأسد، فسوريا مسألة لا يمكن، بالنسبة للاستراتيجية الروسية والإيرانية، نسيانها، وركنها في درج النسيان ودفاتر التاريخ.
صوت روسيا ما بعد الأسد واضح وفصيح، في التخلي عن سياسات الرئيس الهارب إلى موسكو، بشار الأسد، على الأقل عبر كلام رمز دبلوماسيتها الأول، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
لافروف في تصريحات جديدة أكد استعداد بلاده للإسهام في دفع مسار العملية السياسية في سوريا، وقال إن موسكو «لم ولن تنسحب من الشرق الأوسط»، مشدداً على استمرار التواصل مع القيادة السورية الجديدة.
وتبرّأ وزير الخارجية الروسي من عهد وسياسات بشار الأسد، وقال إن موسكو «دعت الحكومة السورية مراراً إلى دعم عمل اللجنة الدستورية التي أُنشئت في سوتشي خلال المؤتمر السوري – السوري في 2018، ودفع جهود وضع الدستور».
لافروف يخبر الطامعين بطرد روسيا وإغلاق قواعدها في سوريا بأن «سفارتنا لم تغادر دمشق، ولدينا تواصل دائم مع السلطات هناك»، وأن موسكو «ترغب في أن تكون ذات فائدة في الأوضاع الراهنة».
هذا من طرف روسيا، الأقل مرارة والأكثر عملية في التعامل مع المسألة السورية، فإن إسماعيل بقائي، المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، وفقاً لوكالة «تسنيم» الإيرانية، قال إن «العلاقات بين الشعبين تاريخية، كانت لدينا علاقة طويلة الأمد من الناحيتين الحضارية والسياسية مع سوريا. كنا دائماً نحرص على مصلحة سوريا وساعدناهم».
كما أن متحدثة باسم الحكومة الإيرانية قد أعلنت سابقاً أن مباحثات دبلوماسية تجري من أجل إعادة فتح السفارتين في دمشق وطهران.
قد يكون الكلام الإيراني الليّن هذا من باب شراء الوقت وطمأنة حكام سوريا الجدد الذين عانوا كثيراً من ميليشيات إيران في سوريا، ودعمهم المطلق للأسد، كما أن الكلام الروسي ربما يكون في هذا السياق، مع أن الحنق السوري على روسيا أقل كثيراً من إيران، كما أن الذاكرة السورية متأزمة بصورة أعمق مع إيران مما هي عليه مع روسيا، ناهيك بأن وزن روسيا في موازين القوة أثقل كثيراً من الوزن الإيراني، كما أن روسيا البوتينية تتحرك ببراغماتية أكثر رشاقة من الخطى الإيرانية المثقلة بسلاسل الآيديولوجيا وأغلال التاريخ.
كل ما سبق صحيح، وأكثر منه، غير أن سياسات الكرّ والفرّ في شرقنا الأوسط علمتنا بأن «التكويع» هو آلة فعّالة من آليات العمل، وعلى المتضرر البكاء والندب والعويل… أو اللجوء إلى فيلا أو شقة فخمة في الصقيع الروسي إن كان محظوظاً… نيران الشرق الأوسط لا تنتظر أحداً.
الشرق الأوسط
———————–
ربّما باتت آخر «المعارك المصيريّة»: الحذف ضدّ الـ«سكرين شوت»/ حازم صاغية
5 يناير ,2025
لاحظ متبحّرون في «فيسبوك» ظاهرة جديدة: كتّاب ومؤرّخون ونقّاد حذفوا عبارات (بوستات) سبق أن كتبوها في تمجيد «طوفان الأقصى» وامتداح قادته وقادة «حرب الإسناد»، فضلاً عن عرض تقديراتهم الجازمة بنصر مؤزّر.
ردّ الفعل هذا محزن ومحبط لأنّه يقول كيف يستجيب جزء من نُخبنا لهزيمة ربّما كانت أكبر هزائم العرب وأوسعها نطاقاً في الزمن الحديث. هكذا إذاً يُرَدّ على الهزائم بالاستناد إلى زرّ delete على الكومبيوتر.
مَن يذكر كيف هزّت هزيمة ثورة 1905 الروسيّة نخبة بلدها، أو معاناة النخبة الألمانيّة مع صعود هتلر، وما حلّ بالنخبة اليابانيّة بعد هزيمة اليابان في الحرب الثانية، عليه أن ينسى. عندنا، يتكفّل زرّ delete بالمهمّة. ذاك أنّ الشطر المذكور من النخبة آثر أن يتجاهل عدم فهمه تراكيبَ مجتمعاتنا، واستعدادات شعوبنا، وعدم فهم «الغرب» و«الشرق» وإسرائيل والمقاومة… أمّا «خطّ التاريخ» الذي لطالما حسبه هؤلاء مقيماً في جيوبهم ففرّ إلى جهة مجهولة. ولأنّ زرّ الكومبيوتر اللاغي يعفينا ويعفي ثقافتنا من إلغاءات أكبر وأهمّ، تُرك له، بالتضامن مع تقاليدنا في عدم المحاسبة، توفير النجاة الفرديّة وصون ماء الوجه. هكذا يبقى «المؤرّخ الكبير» كبيراً، و«المثقّف اللامع» لامعاً، وتمضي بنا الحياة على رَسلها.
والحال أنّ انعطافات التاريخ غالباً ما تنشأ عن عوامل منها تطوّر التقنيّة والآلة، وتغيّر الأفكار والتطلّعات الشائعة، وما تعلّمه التجارب لمن يجرّبونها. أمّا لدى هذه النخبة، فلا تفعل تلك العوامل سوى استعراض عجزها المحض. فالصنف المذكور تقيم الحرب والمقاومة «في دمه» بمعزل عمّا يجدّ في عالم التقنيّة، وعمّا يطرأ من قناعات ورغبات تخالف ما ساد، أو قيل إنّه ساد، في مراحل سابقة، ولكنْ أيضاً بغضّ النظر عن خزين هائل من التجارب.
فـ«الشعب يهزم الآلة»، كما رُدّد إبّان الحرب الفيتناميّة، ليس بالضرورة قولاً صائباً على الدوام، خصوصاً حين لا تكون «الشعوب» شعوباً بالمعنى الذي يفترضه الشعار فيها، أي موحّدة في قلبها وإصرارها على محاربة عدوّ بعينه. فوق هذا، بات افتراض أنّ تشي غيفارا أو السنوار ونصر الله يستولون على مخيّلات الشبيبة مأخذاً مُقلقاً على صاحب الافتراض، تماماً كافتراض أنّ قلوب الملايين تخفق للشهادة في المعركة.
بيد أنّ أسوأ تعابير الفكر البائس سلوكه حيال التجارب. ففي منطقتنا، تتكدّس عشرات الحروب والمقاومات التي انتهت إلى كوارث، لكنّها لم تُفض إلى مراجعة تلك المفاهيم. يصحّ هذا أيضاً في مفهوم «الوحدة العربيّة» مثلاً، الذي باشر سقوطه منذ 1961، كما يصحّ في مفهوم «الاشتراكيّة» السوفياتيّ الذي انهار وانهارت معه دزينة دول قبل ثلث قرن، أو في مفهوم «التحرّر الوطنيّ» بنتائجه الفقيرة… لكنْ في أحسن الأحوال، كان انهيار هذا الشعار الأيقونيّ أو ذاك لا يرتّب أكثر من ذكره العَرَضيّ والاضطراريّ كما لو أنّه فعل بلا فاعل، أو أثر بلا تأثير.
والراهن أنّه حين يمتنع التعلّم من التقنيّة والأفكار والتجارب، فلا تُراجَع ولا يُبنى عليها، تستولي على الفكر البائس ديناميّات تقاوم الواقع وحقائقه.
فهناك، أوّلاً، التعويل على إراديّة قصوى مفادها أنّ «العوائق والعقبات» لن تقف حائلاً في طريق انتصار موعود سوف يأتي ذات يوم غامض،
وثانياً، هناك ربط القضيّة الخاسرة بالشرف والكرامة والأصالة، وتنسيب اليائسين منها ومن انتصارها المزعوم إلى العار المدمّج بالخيانة،
أمّا ثالثاً فتشتغل ديناميّة التخفيف أو الإنكار، على ما فعل محمّد حسنين هيكل بتسميته هزيمة 1967 «نكسة»، أو ما فعله النظام السوريّ السابق باعتبارها انتصاراً، أو ما يفعله «حزب الله» في تشبّثه بأنّ «صموده» مصدر مجد وافتخار.
ورابعاً، تُرَدّ حقائق الواقع إلى مؤامرة أو أفعال عدوانيّة من طبيعة خرافيّة تستهدفنا وحدنا، نحن الضحايا الأبديّين، ونصرخ «يا وحدنا».
وأخيراً، وفي أوساط صنف من الماركسيّين ينسبون إلى أنفسهم «طليعيّة» و«علميّة» تتيحان الإفتاء في «الفكر والتاريخ والطبيعة»، فلا تتبدّى المشكلة في القضايا، بل في حامليها، إذ لو أتيح لهم هم أن يعبّروا عن تلك القضايا إيّاها لما حلّت الهزيمة.
وبالطبع فتبعاً لتلك الديناميّات، لا يعود هناك مسؤول يُلام عمّا قال وفعل، بل يتحوّل المسؤول هذا إلى لائم، إذ هو في الآن نفسه واحد من ضحايا المؤامرة والعدوان.
في هذه الشورباء الفكريّة، حيث يُدفن الفشل بصمت، بلا مراجعة أو اعتراف أو نقد أو إعلان مسؤوليّة، يبقى الباب مفتوحاً لتكرار الكوارث بأسماء وعناوين أخرى. وبعدما كانت الكتب والصحف الورقيّة تحفظ «هفواتنا»، باتت التقنيّات توفّر لنا فرصة الرهان على الحذف، إلاّ أنّه للأسف رهان غير مضمون النتائج. فالـdelete يبقى مهدَّداً بصورة الـscreenshot التي قد يلتقطها عدوّ متلصّص ويحتفظ بها. وهكذا ربّما بات صراع الـdelete والـscreenshot التحدّي الأكبر الذي تواجهه الثقافة الراديكاليّة العربيّة في خوضها «حروب المصير».
* نقلا عن ” الشرق الأوسط”
—————————
بين إدلب وقندهار/ عبدالله فيصل آل ربح
تشدد أعضاء “هيئة تحرير الشام” ثقافة غريبة على المجتمع السوري
آخر تحديث 16 يناير 2025
مر شهر وبضعة أيام على سقوط حكومة “البعث” التي يرأسها بشار الأسد الذي قضى قرابة الربع قرن في رئاسة سوريا. فوّت خلالها فرصا ذهبية ليكون رئيسا ناجحا يبني البلاد ويطوّرها بدلا من سياسة القمع الأحادي في بلد يمتلك كل مقومات التطور. ومع الاحترام لكل التحليلات التي حاولت تفسير سقوط الأسد في هذا التوقيت، فإن سقوطه بذلك الشكل كان مفاجأة حقيقية.
لن نمعن في تحليل آلية سقوط الأسد والدور الإقليمي لتركيا وإيران وإسرائيل في تسارع الأحداث في سوريا. فالواقع يقول إن الأسد سقط وحل مكانه تنظيم “هيئة تحرير الشام” الذي تسلم الدولة بشكل حرفي من سلطات “البعث”. يذكرنا ذلك بما حدث في أفغانستان في نهاية أغسطس/آب 2021؛ وهنا ثمة مفارقات بين الحالتين السورية والأفغانية ينبغي تسليط الضوء عليها.
على خطى طالبان، قامت “هيئة تحرير الشام” بخطوات لتثبيت نفسها كحكومة لسوريا، ساعية لتحصيل الشرعية الدولية لها كممثل حصري للشعب السوري ذي الغالبية المسلمة السنيّة الذي تعتبر شرعيتها الدينية عليه واضحة ومتحققة على قاعدة “ولاية المتغلب”. وبالنسبة لنظرة الشعب لشرعية “الهيئة”، فهي متحققة عند مؤيديها بوصفها حاكما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فله البيعة الشرعية والسمع والطاعة. أما من لا يؤمنون بالدولة الدينية، فإنهم يتعاملون مع الحركة بوصفها حكومة أمر واقع فرضت نفسها بقوة السلاح. هذا بالضبط ما يحصل في أفغانستان منذ أغسطس 2021.
أما على الصعيد الدولي، فإن الدول الكبرى غير معنية بالأمور التي تمس حياة الشعب السوري كالاقتصاد والصحة والتعليم. فتلك القوى تطالب الحكومة الجديدة بأن تثبت جدّيتها في إدارة الملف الأمني بشقيه الداخلي والخارجي، وذلك لمنع العمليات الإرهابية وتهريب المخدرات. ولذلك، تُطالب الحركة بالتعاون الاستخباراتي مع دول الجوار والدول الكبرى من أجل منع العمليات الإرهابية التي قد تخطط لها الجماعات النشطة على الأراضي السورية. يُضاف لذلك بعض المطالبات الشكلية المتعلقة بالأقليات الدينية والعرقية، والمرأة، والشؤون المتعلقة بالحريات الشخصية لعامة الشعب وهي أمور داخلية يستخدمها الغرب متى أراد الضغط على دولة ما. وهذا أيضا بالضبط ما يحصل في أفغانستان منذ أغسطس 2021.
في الساحة الأفغانية، نرى تجربة طالبان تعيد نفسها بعد 22 عاما بالأساليب نفسها في الالتفاف على الأسئلة المحرجة حول وضع المرأة، ناهيك عن قناعاتهم التي لا يبدو أنها تغيرت أبدا. بل إن أساليب التبرير التي ينتهجها القادة الحاليون هي نفسها التي كانوا يستخدمونها في فترة الإمارة الأولى. وهذا ما يمارسه قادة سوريا الجدد في لقاءاتهم الإعلامية.
تختلف تجربة “هيئة تحرير الشام” بأنها كانت تحكم منطقة إدلب شمالي سوريا، وبالتالي، فإن التساؤل حول نية “الهيئة” توسعة تجربة إدلب على مجمل الأراضي السورية. وقد أكد قائد الحركة أحمد الشرع أن وضع حكم بلد كامل يختلف عن حكم منطقة صغيرة، ولكنه لم يبين لأي حد.
وفي لقائه مع قناة “العربية”، أكد الشرع أن مستقبل سوريا سيكون بيد المؤتمر الوطني الذي سيقرر صياغة الدستور السوري الذي سيرسم مستقبل الحكم في دمشق. كلام إيجابي جدا لو أُخذ بمعزل عن سياقه الحالي. فـ”الهيئة” عينت جميع وزراء الحكومة الانتقالية من أعضائها، وفي اللقاء ذاته، أكد أحمد الشرع أن الهدف من ذلك التوافق والاستقرار في المرحلة الانتقالية التي ستمتد لأربع سنوات على الأقل حتى تتمكن سوريا من إجراء انتخابات تُفرز حكومة تعبر عن طموحات الشعب السوري بكافة مكوناته.
الهدف واضح، فـ”الهيئة” تنوي الاحتفاظ بالحكم المطلق لمدة أربع سنوات، وفي اللغة السياسية للجمهوريات العربية، فإن تلك المدة قابلة للتمديد حسب ما تقتضيه المصلحة الوطنية؛ والتي يحددها- بالطبع- الحزب الحاكم. وهنا يأتي السؤال: ما الفارق بين حكومة “هيئة تحرير الشام” وحكومة طالبان؟
إن حقيقة كون طالبان لم تَعدْ بتسليم الحكم لحكومة منتخبة يقابلها أن الحركة تستمد شرعيتها من كونها “استردّت” الحكم من نظام سياسي نصّبته القوى الأجنبية، ولا توجد قوى أفغانية تستطيع أن تنازع طالبان الحكم. بينما في سوريا، الوضع مختلف حيث تحكم “الهيئة” الدولة السورية للمرة الأولى، وفي ظل وجود قوى سورية- مسلحة ومدنية- لها تطلعاتها في شكل الحكم في البلاد.
خلاصة القول: إن حكام إدلب قد أحكموا سيطرتهم على سوريا كما أحكم حكام قندهار سيطرتهم على أفغانستان. غير أن الفارق بين الجماعتين الحاكمتين كبير، فطالبان تمثل امتدادا للتشدد القبلي والريفي لقبائل البشتون التي تشكل غالبية في الشعب الأفغاني، بينما يشكل تشدد أعضاء “هيئة تحرير الشام” ثقافة غريبة على المجتمع السوري المعروف بعلمانيته المتصالحة مع الدين. وعليه، فإن المستقبل السوري غير واضح المعالم.
المجلة
———————————-
سوريا ومصاعب الفطام عن السلاح/ مالك داغستاني
2025.01.16
خلال تحرير سوريا من نظام الأسد، وحتى بعد سقوطه، ظهرت العديد من المقاطع المصورة، لمجموعات من الميليشيات التي ترفض الرضوخ للأمر الواقع، وتهدد بأنها لن تتخلى عن سلاحها بمواجهة (المجموعات الإرهابية)، بدا مشهد هؤلاء وكأنهم يعيشون في عالم آخر، ولكن هل هم كذلك حقاً؟
إضافة لخوف أمثال هؤلاء من المحاسبة على الاقترافات والجرائم التي ارتكبوها، كان من المؤكد أن هناك دوافع أخرى تتلطى خلف المشهد، وتشي بأن عدم التسليم بنتائج المعركة المحسومة، ينطوي على مشاعر لا تتعلق بالانفصال عن الواقع فقط.
ولكن، ماذا يمكن أن يُضمر هؤلاء ليتعنتوا رافضين قبول الهزيمة؟ تفيد العديد من الدراسات أن اعتياد حمل السلاح لفترات طويلة، يتحول مع الزمن، إلى نوع من الإدمان، وأكثر من ذلك تصبح قطعة السلاح التي يحملها المقاتل امتداداً جسدياً ونفسياً له.
لم يكن غريباً خلال سنوات حرب الأسد على السوريين، أن نجد معظم هؤلاء، ينامون وسلاحهم قريبٌ وفي متناول اليد، حتى لو لم يكن هناك خطر داهم، مردُّ ذلك الإحساس الملازم بأن السلاح بات جزءاً أصيلاً من شخص المقاتل.
هل أبدو هنا أتحدث عن هؤلاء المجرمين بحيادية؟ نعم، إلى حدٍّ ما، فأنا أتحدث عن المقاتلين، أما المرتكبين فلهم المحاكم مستقبلاً، والأمر لا يعني هؤلاء فقط، فتلك الخصيصة ليست مرتبطة بموقفهم الأخلاقي والسلوكي، ولا بانحيازهم السياسي، بل بالبنية النفسية التي تطغى على أي مقاتل أدمنَ، أراد أو لم يرِد، حمل السلاح، وهذا موضوعياً، لا ينطبق فقط على ميليشيات الأسد، وإنما على مقاتلي المعارضة أيضاً.
شعور المقاتل، حامل السلاح، أن سلاحه منحه سلطة وقوة تميّزه عن الآخرين، لسنوات طويلة، لا يختلف عن الإدمان أو أقلّه الاعتياد، ومسألة الفطام عن ذاك الشعور ليست بالسهولة التي يمكن تخيلها، فلا يكفي أن نطلب من ذاك المقاتل، تسليم سلاحه والعودة إلى البيت، فينتهي الأمر بسلام.
للأسف، كل التجارب العالمية تفيد بأن هؤلاء، بخبرتهم القتالية، مؤهلون وجاهزون للانخراط في عوالم الجريمة المنظمة وشبكات التهريب، حين تنعدم البرامج لإعادة إدماجهم في المجتمعات المدنية.
خلال العملية السياسية الجارية حالياً، بما فيها الحوارات بين وزارة الدفاع المُحدَثة، مع الفصائل المعارضة الأخرى، نلاحظ أن هناك بعض الاستعصاءات، ومرد ذلك ليس فقط بحث تلك الفصائل وقادتها عن دورٍ أكبر في الدولة الناشئة، وإنما أيضاً عن مقابلٍ مجزٍ للتخلي عن اعتياد هؤلاء، كقادة ومقاتلين، على نوع من الاستقلالية التي مكنتهم من حيازة القوة والسيطرة، وفي حالات ليست بالقليلة، المال الوفير.
تشير تجارب الدول الخارجة من صراعات مزمنة، أن كثيراً من الفصائل المتحالفة في سياقات الصراع، قد تتحول لجهات متصارعة بعد تحقيق الهدف الأول الذي تحالفت لأجله.
ونلاحظ اليوم في تلك الاستعصاءات، أن أسهلها إدماج فصائل شمال غربي سوريا، فهي تتبع الإرادة التركية بدرجات متفاوتة، وسوف تصل إلى حل مع الإدارة الجديدة بدفعٍ تركي، لكن يبقى الاستعصاء الأهم هو في شمال شرقي سوريا، وجنوباً في محافظتي درعا والسويداء، ومعالجة الأمر هنا يحتاج إلى كثير من الصبر والحنكة والعمل السياسي، كي لا تدخل البلد في دوامات عنف جديدة.
لدى الأمم المتحدة برامج جاهزة لحفظ السلام بعد حالات الصراع الداخلية، ولديها خبرات هائلة، حازتها من خلال عديد التجارب، خصوصاً في أفريقيا، يمكن للسوريين طلب المساعدة وحتى التمويل من الأمم المتحدة، لإنجاز وتخطّي مرحلة الصراع نحو الاستقرار.
مع ذلك ومع وجود مثل تلك المساعدة، يمكن أن يعارض المقاتلون السابقون عمليات نزع السلاح وإعادة الإدماج لأسباب نفسية، باعتبار تلك المصطلحات (نزع السلاح، التسريح، الإدماج) تحيل إلى فكرة الهزيمة، بل وأحياناً في كثير من التجارب الأفريقية، رفض هؤلاء حتى صفة “مقاتل سابق”، بحجة أنهم سيواصلون كفاحهم والثورة على الأقل في الساحة السياسية.
عموماً، إذا لم يتم جمع السلاح بفاعلية، وعلى نحو شمولي وكامل في وقت مناسب، فإنه قد ينتج عن ذلك حالة أكبر من التنافس على امتلاك الأسلحة المختلفة بين المتحاربين السابقين، ومن ثم يزداد الطلب على الأسلحة في السوق الموازية، فينعكس ذلك في زيادة استخدام الأسلحة الصغيرة، وارتفاع معدلات الجريمة، وتلك واحدة من الآثار الجانبية التي تحدث بعد أي صراع مسلح، إذ تزداد معدلات العنف، مما يطيل مرحلة عدم الاستقرار.
واحد من أهم الأهداف الاستراتيجية لبرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة دمج المقاتلين، هو محاولة بناء شعور المواطنة الكاملة لدى المحاربين، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية، والرفع من مكانة الهوية الوطنية فوق كل الهويات الأخرى، سواء أكانت قبلية أو مناطقية أو عرقية أو أيديولوجية أو سياسية.
وأرجو ألا يفهم كلامي هذا وكأنه مكافأة للمجرمين (في حالة مقاتلي ميليشيات الأسد)، إنما هو انحياز وانتصار لسوريا القادمة، وواحد من أهم الاستثمارت بهدف استقرارها.
في الحالة السورية خلال السنوات الماضية، وعلى كلا الضفتين، تحول العديد من الأشخاص من أناس طبيعيين، وأحياناً غير مرئيين في المجتمع، إلى أناس ذوي سلطة وأحياناً شهرة، مع استطالة السلاح الذي أضاف إلى بنيتهم النفسية كثيراً، ما أكسبهم صفات جديدة.
وليس من السهولة إعادة هؤلاء إلى أشخاص عاديين، في مجتمع طبيعي ليس لسلطة السلاح فيه أي امتياز. إنه أمر يحتاج لكثير من الحذر والبرامج كما في حالة الفطام عن الرضاعة، أو الانسحاب الدوائي أو برامج معالجة حالات الإدمان، كي نصل إلى استقرار مجتمعي، هو أكثر ما نحتاجه في سوريا الجديدة.
تلفزيون سوريا
——————————-
سوريا الحديثة ومصير الأسد/ محمد برو
2025.01.16
لم يُعر السوريون أمر فرار الرئيس المخلوع والهارب بشار الأسد أدنى أهمية، وهم منشغلون بنشوة وبهجة النصر المدهش، وسقوط أعتى الديكتاتوريات في الشرق الأوسطـ، لا سيما أن سقوطه كان في أحلك ساعات الثورة السورية وأبلغها يأسا، وهي من شهدت منذ وقت قريب كيف تسعى دول فاعلة “أوروبية وعربية” لإعادة تعويمه وتأهيله، ليستمر في حكم السوريين والبطش بهم إلى زمن غير معلن.
هذا إضافة إلى الحماية القديمة التي تصبغها عليه وعلى نظامه دولة إسرائيل، بوصفه السياج الحامي لحدودها وضابط إيقاع خصومها في الجبهة الشمالية.
لكن مع اقتراب استقرار الوضع في سوريا والذي نرجو أن يكون قريباً، ستعود قضية محاسبة بشار الأسد إلى السطح، كونه العراب الأكبر لمئات آلاف الجرائم والجنايات والمجازر التي ارتكبت بحق السوريين، وبحق أشقاء لبنانيين وأردنيين وفلسطينيين.
علاوة على هذا يعرف المهتمون والمشتغلون بالشأن السوري، أن بشار الأسد هو الصندوق الأسود الذي يحوي أسرار أعظم الفضائح، التي سيكون أمر انكشافها للعلن مدوياً، وربما سيهز عروشا ومحافل سياسية “عربية وأوروبية وفارسية” طالما كانت شريكة لهذا النظام في جرائمه التي لا تحصى، بدءاً من المجازر المستمرة على مدى أربع عشرة سنة، مروراً بتصدير المخدرات إلى دول كثيرة وما رافق ذلك من تواطؤ شبكات عابرة للقارات، استطاعت بناء إمبراطوريات مالية من وراء تلك التجارة المحرمة دولياً.
كذلك شركات الاتجار بالسلاح والاتجار بالأعضاء البشرية، وتجارة الرقيق الأبيض، واختفاء مئات آلاف السوريين الذين لم يعثر على رفاتهم إلى اليوم ويرجح أنَّ شطراً منهم بِيع ونُقل حياً إلى إيران وروسيا، للاتجار بأعضائهم وليكونوا فئران تجارب لصناعات سرية، وما خفي أعظم.
أمام هذا المشهد المربك ما هي احتمالات بقاء بشار الأسد حيا؟ مع ما تكتنفه هذه المخاطرة من نتائج مضرّة بأصحاب المصالح والجرائم المذكورة آنفاً، هل يمكن لروسيا وهي في حالة حرب مستنزفة لا تعرف نتائجها، مع المعسكر الغربي من خلال حربها في أوكرانيا، هل لها أن تحتمل عبء احتفاظها ببشار، مع ما يمكن أن يضيفه هذا الملف الأسود إلى ملفاتها، وهل يمكن أن تقايض عليه لقاء مكاسب جزئية تتحصل عليها في سوريا؟
وهل يمكن أن يمنح السوريون الناجون نفوذاً جديداً لروسيا التي كانت شريكاً مباشراً في قتلهم وتدمير مدنهم لقاء الحصول على بشار الأسد وتقديمه لمحاكمات عادلة، وربما استعادة جُزءٍ من المليارات التي نهبها هو وعائلته وأعوانه.
هل ستقبل إيران ببقاء سيف الفضائح الذي يمكن لهذا الصندوق الأسود المملوء بالمخازي أن يسلّطه عليها، في حال تقديمه للعدالة الوطنية أو الدولية، كذلك الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، التي تواطأت مع هذا المختل المخلوع على مدى بضعٍ وعشرين سنة، في نسج خيوط العمالة وتعزيز الدعم والحماية له، ليبقى حارساً أميناً لحدودها؟
وخير شاهد على ذلك دكُّ طيرانها وتدمير جميع المواقع التي يحتمل أن تحوي وثائق تخابرهم معه فورَ فراره من دمشق، إضافة إلى مخازن السلاح السوري ومستودعاته، وقد كشفت العديد من الوثائق ضلوع بشار الأسد في تسليم الأجهزة الإسرائيلية أدق الخرائط والمواقع اللازم تدميرها، لحمايته وحمايتهم.
في الجانب الروسي وهو من أهم الجوانب في هذه القضية كونها الدولة التي منحت بشار الأسد لجوءاً إنسانياً، فإن الحفاظ عليه من الناحية الأمنية سيكون مكلفاً على المدى الطويل، ومُلِّوثاً لسمعة روسيا المغمّسة أصلاً بدماء الشعب السوري على مدى عشر سنوات على الأقل، كما أنها بهذا ترسّخ عداءَها للدولة السورية الحديثة، وللشعب السوري الذي لم يعد مهمّشاً بعد اليوم، وهي في أمسّ الحاجة لمد الجسور مع سوريا الحديثة كونها من بقايا المنافذ النادرة لها على منطقة الشرق الأوسط وحوض المتوسط.
الأمر الآخر الذي يعزز احتمال قيام الروس بتسليمه لمحكمة الجنايات الدولية، عبر صفقة تأخذ عليهم بموجبها تعهدات بعدم نشر أي معلوم يسفر عنه التحقيق مع بشار الأسد، وهو وجود وثائق تدين القوات الروسية بالإشراف على استخدام السلاح الكيميائي ضد السوريين المدنيين العزل.
ولتجنب الإدانة التي أشار إليها التقرير التاسع لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية والتي كان لمنظمة الخوذ البيضاء السورية الفضل الأكبر في كشف تفاصيلها، وتقديم الأدلة العينية الموثقة على ضلوع روسيا فيها.
ربما تعمد الإدارة الروسية إلى مقايضة بشار الأسد بذلك الملف، شريطة ألا تسمح المحكمة الدولية بوصول صوت بشار إلى أجهزة الإعلام لو فكر بفضح المستور.
هل يمكن أن يقدم بشار الأسد على الانتحار؟ مع المعرفة العميقة بهشاشته النفسية، وجبنه الذي يحول دون اتخاذ قرار جريء كهذا، أم أنهم سينتحرونه بعدة طلقات في الرأس على غرار انتحار رجل المخابرات غازي كنعان ورئيس الوزراء السابق محمود الزعبي، ذلك الانتحار الصبياني المزعوم، أم هل ستكون بضع قطرات من مادة سامة أو غاز سام كفيلة بذلك؟
أسئلة برسم المستقبل، من الصعب التكهن بها، إلا أن اختفاءه وتصفيته تتواطؤ عليها مصالح دول عدة لن تجد الاطمئنان إلا بموته، واختفاء ما يمكن أن يتسرب عنه في ظروف غامضة.
سيبقى من حق السوريين محاكمته ومحاسبته والقصاص منه، ليكون عبرة لكل طاغية، وشفاء لقلوب آلاف الأمهات والزوجات والشقيقات اللائي اغتصب أحلامهن ودمر مستقبلهن، وحتى لا يستمرئ أي حاكم دماء شعبه كما فعل الأسد وسلفه في الشعب السوري من استباحة وإجرام لم يفعله طاغية في هذا العصر.
تلفزيون سوريا
——————————-
من العقوبات إلى الدعم.. كيف يمكن لسوريا تجاوز التحديات الدولية؟/ بسام بربندي
2025.01.16
عندما بدأت الثورة السورية عام 2011، زار السفير فريد هوف روسيا وأخبر المسؤولين الروس أن الولايات المتحدة لا تعتبر سوريا جزءاً من مجال نفوذها، وحث روسيا على تحمل المسؤولية وإيقاف النزاع المتصاعد.
وردّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حينذاك، بعدم اهتمامه ببشار الأسد، مشيراً إلى أن “الأسد” زار موسكو بعد أن استنفد خياراته في أوروبا.
هذا التفاعل يبرز تصوراً بين السوريين بأن الولايات المتحدة لم تعط الأولوية لسوريا، ولم تهتم بالانتهاكات التي ارتكبها النظام ضد السوريين، وهو شعور استمر حتى بعد سقوط النظام.
ربما السقوط السريع لنظام الأسد وصعود مجموعات مثل هيئة تحرير الشام للحكم، زاد من تعقيد خيارات التفاعل الأميركي التي كان خبراؤها الحكوميين وخبراء في مراكز أبحاث منقسمين قبل شهر من الآن، بين أفكار تدعو إلى تقسيم سوريا، لأن “الأسد” انتصر في الحرب، وبين ضرورة التعاون معه ورفع العقوبات عنه مقابل التعاون ضد إيران.
مجرد التفكير أن سوريا لم تعد امتدادا للنفوذ الإيراني والروسي كان وهما قبل عدة أسابيع، وتوقّع العديد من السوريين أن تغتنم واشنطن هذه الفرصة لتملأ الفراغ وتجعل سوريا امتداداً لنفوذها في المنطقة، لكن لا يبدو أن هذا يحدث بالطريقة المتوقعة، حيث هناك برود وسطحية أميركية بالتعاطي مع التطورات السورية.
رغم هذه التحديات، هناك قضايا مهمة يجب معالجتها بين الولايات المتحدة والقيادة الجديدة في سوريا لتحسين العلاقات، فهناك مجالان رئيسيان يجب التركيز عليهما من الجانب السوري: العقوبات والوجود العسكري الأميركي في سوريا.
العقوبات
تاريخياً، تستخدم الحكومة الأميركية العقوبات كأداة لتغيير السلوك الدول أو أشخاص أو مؤسسات وإذا تغيّرت الظروف، يمكن إعادة النظر في العقوبات قانونياً، ويبقى القرار النهائي سياسياً.
فيما يتعلق بسوريا، يمكن تقسيم العقوبات إلى فترتين:
من 1979 إلى 2011: خلال هذه الفترة، هدفت العقوبات إلى تغيير سلوك نظام الأسد، بعلاقاته مع إيران، ودعمه لما تعتبره الولايات المتحدة مجموعات إرهابية، ودعمه تطوير وبرامج الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل بالتعاون مع كوريا الشمالية وروسيا وإيران، واحتلاله للبنان وعدائه تجاه إسرائيل.
من 2011 إلى اليوم: بعد الفظائع التي ارتكبها النظام ضد السوريين، تحوّل تركيز العقوبات إلى تغيير سلوك النظام تجاه شعبه عن طريق المطالبة بإنشاء نظام يمثل جميع السوريين، ويكافح الفساد، ويضمن التعددية ويضمن حقوق جميع السوريين بشكل متساو، ويمنع إساءة استخدام الأموال العامة ويحد من الفساد المالي والإداري.
هناك نوع ثالث من العقوبات يستهدف مجموعات أجنبية في سوريا مثل “داعش” أو جماعات سوريّة مثل هيئة تحرير الشام وقادتها، ورفع العقوبات عن هذه المجموعات غير مرتبطة بالنظام السوري الجديد أو الشعب السوري، بل مرتبط بقدرتهم على إثبات أنّهم تغيّروا عقائدياً وفكرياً.
اليوم وبعد نجاح الثورة وسقوط النظام، العديد من الأسباب الأصلية للعقوبات خلال فترة (1979-2011) تم تحقيقها مثل:
غياب “حزب الله” والمليشيات الإيرانية في سوريا.
ضعف الوجود الروسي في سوريا.
عدم وجود خبراء كوريين شماليين أو منشآت للأسلحة الكيميائية أو النووية أو لتطوير الصواريخ الباليستية.
انسحاب الجيش السوري من لبنان.
لمعالجة هذه التغيرات، يجب على القيادة السورية الجديدة إعداد وثيقة قانونية تتضمن النقاط التالية التي تم تحقيقها والتي تتماشي مع المطالب القانونية الأميركية، خلال شهر من نجاح الثورة، والتعهد بالاستمرار بتحقيق باقي المطالب في المستقبل القريب، وهي:
الشفافية والتعاون الكامل مع المنظمات الدولية بشأن أسلحة الدمار الشامل.
التأكيد على عدم وجود ميليشيات إيرانية والالتزام بعدم عودتها.
حل الفصائل الفلسطينية العسكرية التابعة للنظام السابق.
الالتزام بالجهود العالمية لمكافحة الفساد، ومنع تمويل الإرهاب، ومكافحة غسيل الأموال.
ضمان السلام والاستقرار الإقليمي، وحماية الحدود، وعدم التدخل بشؤون دول المجاورة.
التعهد بمكافحة تهريب الأسلحة من خلال التعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين.
فتح السفارات وبداية ترسيم الحدود مع لبنان.
بالنسبة للإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، فقد تم الأمر.
ستدعم هذه الوثيقة القانونية، جهود المغتربين السوريين والدول المهتمة، في جهودهم لرفع العقوبات وتعزيز التعاون الدولي مع سوريا.
الوجود العسكري الأميركي في سوريا
أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بوضوح عن رغبته في سحب القوات الأميركية من سوريا، مع احتمال إعلان ذلك في بداية رئاسته، الأسبوع المقبل، ومع ذلك، سيتم وضع شروط لهذا الانسحاب لتجنب أخطاء التي ارتكبت في أفغانستان بوضع موعد زمني محدد للانسحاب.
القلق الرئيسي للولايات المتحدة هو وجود مقاتلي “داعش” وعائلاتهم في المرافق التي تديرها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي استخدمت هذه القضية للحفاظ على الحماية الأميركية لها وتزويدها بالأموال لحماية المنشآت، واستخدام هذه الورقة لتقوية مطالبهم السياسية الداعية إلى التقسيم ولو بشكل غير مباشر.
يجب على القيادة السورية الجديدة أن تقترح ما يلي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي:
تقع على الدولة السورية الجديدة مسؤولية حراسة سجون “داعش”، ومعسكرات عائلات عناصرها، وذلك بدعم من قوات دولية.
إقامة محاكمات عادلة وشفافة للمعتقلين تحت إشراف دولي، حيث رفضت العديد من الدول التي لديها رعايا إعادتهم إليها.
خطة شاملة لإدارة وإعادة إدماج المعتقلين وعائلاتهم تتطلب دعماً مالياً من المجتمع الدولي يصل إلى 10 مليارات دولار.
في حال الموافقة على هذه المقترحات من الدول الغربية ستتم إجراءات لبناء الثقة في المجال الأمني والعسكري والدبلوماسي مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع الجانب السوري، مما سيؤدي إلى تدفق استثمارات مباشرة ودعم دبلوماسي واسع.
وستعالج هذه الخطوات مخاوف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما ستسهل رفع العقوبات، وتشجع الدعم الدولي بكل أشكاله، وهذه المبادرة تتطلب وجود حكومة سورية شرعية وشاملة تمثل جميع السوريين.
أمام القيادة السورية الجديدة فرصة لإعادة بناء العلاقات الدولية لسوريا وتأمين مستقبلها من خلال معالجة المخاوف الرئيسية للمجتمع الدولي، بحيث يمكن لهذه الأفكار رفع العقوبات وتأمين الدعم المالي، وتعزيز العلاقات الدبلوماسية.
وستفيد هذه الإجراءات جميع السوريين لتطوير حياتهم اليومية وفتح آفاق اقتصادية كبيرة تسهم في إعادة بناء سوريا، وتُظهر التزام القيادة بمستقبل مستقر ومزدهر لسوريا ولكل السوريين.
تلفزيون سوريا
——————————–
طلاء جدران الزنازين.. طمس ذاكرة وذكريات المعتقلين/ أحمد زكريا
2025.01.16
مع استمرار اكتشاف المقابر الجماعية في سوريا، وتصاعد الأصوات المطالبة بالكشف عن مصير المختفين قسراً، تظهر مبادرة مثيرة للجدل من مجموعة تطوعية تُدعى “سواعد الخير”، هذه المجموعة قامت بطلاء جدران زنازين في أحد الأفرع الأمنية في اللاذقية، مدعية أن هدفها هو “إظهار للعالم أن عهد الظلم قد ولى وعهد الحب قد جاء”.
لكن ما حدث يتجاوز مجرد طلاء جدران، إنه محاولة لطمس ذاكرة وذكريات المعتقلين الذين تركوا رسائلهم بأظافرهم على هذه الجدران خلال سنوات من التعذيب والمعاناة.
بغض النظر عن “حسن النوايا” المزعوم، فإن ما قامت به “سواعد الخير” يُعد جريمة بحد ذاتها، فكيف يمكن لمجموعة من الأفراد أن تقوم بمثل هذا العمل من دون استشارة أو مراقبة من جهات رسمية أو حقوقية؟ ألم يدركوا القيمة الجنائية والعاطفية لتلك الرسائل التي خطها المعتقلون بأظافرهم؟ ألم يفكروا في أن هذه الجدران هي شهادات حية على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في هذه الأماكن؟
هذا العمل يذكرنا بجريمة تنظيم “داعش” الذي نسف سجن تدمر قبل سنوات، حين تم تدمير آثار تاريخية وإنسانية لا تقدر بثمن، فطمس الأدلة في مسرح الجرائم يُعد انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية، ويشكل إهداراً لحقوق الضحايا وأهاليهم في معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة، لأن العبث بمسارح الجريمة يقوّض جهود تحقيق العدالة، ويؤخر عملية التعرف على الجناة ومحاسبتهم.
القوانين الدولية تجرم مثل هذه الأفعال، وقد تصل العقوبات إلى السجن لمدة 20 عاماً أو غرامات مالية كبيرة أو كليهما، وهذه الأفعال غالباً ما تكون متعمدة بهدف طمس الأدلة وإخفاء الحقيقة، وفي حالة سوريا، حيث ارتُكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع، فإن حماية مسارح الجرائم والأدلة أمر جوهري لتحقيق المحاسبة والمصالحة، خاصة وأن طمس هذه الأدلة يعني حرمان الضحايا وذويهم من حقهم في العدالة، ومنع العالم من رؤية حجم المعاناة التي عاشها المعتقلون.
هذه الجدران التي طُليت كانت تحمل رسائل كتبها المعتقلون وهم أحياء، رسائل كانت آخر أمل لهم لإيصال أصواتهم إلى العالم في حال موتهم أو اختفائهم، هذه الرسائل ليست مجرد كلمات على جدران، إنها شهادات حية على المعاناة الإنسانية، ودلائل جنائية على الانتهاكات التي ارتكبت بحقهم، وبالتالي طمس هذه الرسائل يعني محو جزء من التاريخ الإنساني، وإسكات أصوات الضحايا مرة أخرى.
وبعد تحرير سوريا والسيطرة على جميع الأراضي السورية وبسط الأمن، تم التوجه إلى أماكن الاعتقال سواء في سجن صيدنايا أو في المعتقلات الأخرى وفروع الأمن والمخابرات لتحرير السجناء، وبالفعل، تم تحرير كافة السجناء والمعتقلين، ولم يبقَ في تلك السجون سوى الذكريات المؤلمة وأرشيف المعتقلين في أدراج تلك السجون والمعتقلات.
ومن بين هذه الأرشفة، توجد أرشيفات مدونة على جدران وزنازين السجناء، وهي مدونات تُعد وثيقة مهمة لكل من يريد أن يتحرى عن أبنائه المعتقلين وعن مصيرهم في تلك المعتقلات.
وعندما أُفرِغت تلك السجون، هبت عدة منظمات وفرقاء للعمل التطوعي، ومنها فريق “سواعد الخير التطوعي” الذي انبرى لمهمة تنظيف جدران السجون من مخلفات نظام الأسد القمعي، وقد أدى ذلك إلى طمس تلك المدونات على الجدران، والتي تعتبر من أهم الوثائق للمعتقلين والمفقودين والمغيبين قسرياً، وهذا ما أثار حفيظة المنظمات الحقوقية التي تعمل في مجال البحث عن الأدلة والوثائق المتعلقة بالمعتقلين والمفقودين، حيث أن عملية طلاء تلك الجدران تعني طمس هذه المدونات التي تعد وثيقة يمكن الاعتماد عليها في عملية البحث.
عملية طلاء الجدران، سواء بقصد أو عن عمد، تعتبر جريمة في حق أهالي المعتقلين والمفقودين قسرياً، وكان من الأجدر بالإدارة العامة أن تحافظ على تلك السجون والمعتقلات بما تحتويه من أرشيف وأن تحمي هذا الأرشيف لعرضه مستقبلاً على المنظمات الحقوقية والدولية في إطار البحث الجنائي، من أجل محاسبة مرتكبي تلك الجرائم بحق السجناء والمعتقلين.
كل ذلك بالتأكيد سيؤدي إلى استياء شعبي كبير من هذه الأفعال التي تهدف إلى طمس الحقائق عن تلك الجرائم المرتكبة، وهو ما أدى إلى تصاعد الخطاب حول ضرورة الحفاظ على تلك الأدلة في السجون والمعتقلات وحماية هذه الوثائق والأدلة مهما كانت، حتى وإن كانت على شكل مدونات على تلك الجدران، وهذه صحوة حقوقية للمنظمات العاملة في هذا الشأن للحفاظ على تلك الوثائق والأدلة.
من الضروري أن تتحمل السلطات المحلية والدولية مسؤولياتها القانونية في حماية مسارح الجرائم والأدلة، ويجب أن تكون هناك تحقيقات عاجلة وشاملة في هذه الحادثة، ومحاسبة المسؤولين عنها، كما يجب أن تعمل المنظمات الدولية والحقوقية على توثيق هذه الجرائم وحماية الأدلة التي يمكن أن تسهم في تحقيق العدالة للضحايا.
ما حدث في أحد السجون في اللاذقية ليس مجرد طلاء جدران، إنه محاولة لطمس ذاكرة وذكريات المعتقلين وإسكات أصوات الضحايا وتقويض جهود تحقيق العدالة، وهذه الجريمة يجب أن لا تمر من دون محاسبة ويجب أن تكون درساً للجميع بأن حماية الأدلة والذاكرة الإنسانية هي مسؤولية الجميع، فالعدالة ليست مجرد كلمة إنها حق للضحايا وذويهم، ولا يمكن تحقيقها من دون الحفاظ على الأدلة والذاكرة.
يجب علينا جميعا أن ندرك أن هذه الجدران ليست مجرد حوائط إسمنتية، بل هي صفحات من تاريخ إنساني مليء بالألم والمعاناة، وطمسها يعني محو جزء من هذا التاريخ، وإسكات أصوات من عانوا وكافحوا من أجل إيصال حقيقتهم إلى العالم، فحماية هذه الأدلة ليست فقط مسؤولية قانونية، بل هي واجب أخلاقي تجاه الضحايا وذويهم، وتجاه الإنسانية جمعاء.
في العديد من الدول، يتم تحويل السجون التي شهدت انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية إلى متاحف أو مواقع تاريخية مفتوحة للجمهور، والهدف من ذلك هو تذكير الأجيال القادمة بما حدث وتعليمهم دروساً عن بشاعة تلك الفترات حتى لا تتكرر أخطاء الماضي، وهذه السجون تصبح أماكن للتعلم والتفكير وليست مجرد مساحات مهجورة، فلماذا لا نتعلم من هذه التجارب ونحول سجوننا إلى متاحف تروي حكايات الماضي بدلاً من طمسها؟
أتمنى من أي شخص يريد أن يبادر أو يتطوع لأي عمل، خاصة إذا كان يتعلق بمواقع تاريخية أو ذات أهمية إنسانية، أن يستشير جهات مختصة أو أشخاص لديهم خبرة أكبر، فلا يكفي أن نحمل دلواً من الدهان ونبدأ في طلاء الجدران فقط لنقول إننا “مع الثورة” أو إننا “نحب بلدنا”، فهذه المواقع ليست ملكية شخصية، بل هي ملكية عامة ذات أبعاد سياسية وتاريخية عميقة، ويجب التعامل معها بحذر واحترام وليس بعشوائية أو من دون تفكير.
من الواضح أن بعض المبادرات تتم من دون وعي كافٍ أو خبرة في التعامل مع مثل هذه الأماكن، قد تكون النوايا حسنة لكنّ النتائج يمكن أن تكون كارثية، وبالتالي بدلاً من طلاء الجدران وإزالة الأدلة، لماذا لا نوجه طاقاتنا نحو أعمال أخرى مفيدة؟ مثلاً، يمكن تنظيف الحدائق العامة أو تزيينها، أو حتى طلاء كراسي الحديقة بألوان جميلة تناسب ذوقكم، لكن حتى في هذه الحالة، يجب أن نكون حريصين على اختيار الألوان والتصاميم المناسبة لأن كل شيء نفعله يعكس ذوقنا ووعينا.
في النهاية، يجب أن نتعلم من أخطائنا ونفكر ملياً قبل القيام بأي عمل، خاصة إذا كان يتعلق بمواقع تاريخية أو إنسانية، فهذه الأماكن ليست مجرد جدران أو كراسي، بل هي جزء من ذاكرتنا الجماعية وتاريخنا الذي يجب أن نحافظ عليه بكل عناية، فلنكن أكثر وعياً ومسؤولية في تعاملنا مع تراثنا وتاريخنا، حتى نضمن أن تبقى هذه الذكريات حية للأجيال القادمة.
—————————-
الأعمال الفنية والدكتاتورية/ فارس الذهبي
2025.01.16
فوْرَ فرحتهم بسقوط نظام الأسد، اندفع السوريون يحثّهم فضولٌ تواطؤوا جميعهم حوله، لمعاينةِ ما كانت عليه أحوال العصابة التي حكمتهم أزيد من 54 عامًا، مشكّلين (من الحلقة الأقرب والأعتى من أسرة حافظ الأب)، ليس فقط طبقة حاكمة ومستبدة.
بل، وأيضًا، فاسدة امتصّت خيرات البلاد طوال ستة عقود دون أي شبع أو رحمة بالناس، فسرقوا المال والفرص، واحتكروا الألقاب والامتيازات والمناصب في فجعٍ غريب لاغتصاب كل خيرات البلاد عنوة بمختلف صنوفها المادية والمعنوية، فاستأثروا بالمجالات جميعها التي تضخ عليهم المال والأضواء؛ سرقوا النفط، اختلسوا أموال الجيش والحكومة، ارتشوا ورشوا من أجل الصفقات، هرّبوا الآثار والتحف والذهب والفوسفات والزئبق، حتى اللحوم الممتازة احتكروا تصديرها إلى الخليج العربي.
من بين كل هذا وذاك، شد انتباهي بدهشةٍ مصعوقةٍ اهتمامهم بالفن، فكيف لهؤلاء الذين امتهنوا تجارة المخدرات والنفايات النووية والسلاح والإرهاب، أن يجدوا وقتاً لتذوّق عملٍ تشكيليٍّ بصريّ؟
مع سقوط النظام انتشرت عدة تسجيلات لرجال أعمال اعتمد عليهم النظام في تسيير أعماله، فكسبوا الثروات السريعة، اشتكى هؤلاء المثرون بالحرب من مداهمة العوام لبيوتهم الراقية وتدميرها مثلما فعلت كل الثورات عبر التاريخ، ومن جملة ما ذكروه سرقة لوحات فنية نفيسة فعلاً، فمن لوحات كلود مونية الثلاثة التي تحدث عنها التسجيل واختفت لاحقاً، إلى لوحات كبار الفنانين السوريين مثل فاتح المدرّس ولؤي كيالي، وعدد كبير من لوحات الفنان المتميز صفوان داحول.
كان هؤلاء يوحون في تسجيلاتهم أن الرعاع من الشعب قد سرقوا التحف الفنية التي لا يدركون أهميتها ولا قيمتها، وكأنهم يضعون حداً بينهم وبين الشارع الذي لا يدرك الفن وقيمته، فيعلون من شأنهم ويقللون من شأن الناس.
بغض النظر عن فعل السرقة المستنكر، فإن تلك اللوحات التي يقدر سعرها بالملايين قد وصلت إلى بيوتات هؤلاء بعد سرقتهم واختلاسهم أموال الشعب والفقراء حصراً، ولم تصل إليهم بعد أن أهداهم إياهاه الفنانون أنفسهم.
في مقلب آخر تقفز صورة رأس النظام ابن حافظ الأسد، وهو يقود مجموعة من الممثلين الذين اقتادتهم أجهزة أمنه إلى قصر المهاجرين في آخر زيارة للممثلين إلى رأس النظام، يبدو ابن حافظ الأسد في إحدى الصور، وهو يشرح لهم موجودات مكتب فاخر مصنوع من الخشب الفاخر، بينما تبدو خلفه لوحة للفنان سعيد تحسين (لوحة “معركة اليرموك”) التي اختفت بعد فراره إلى موسكو، وهي لوحة فنية لا تقدر بثمن أنجزها الفنان تحسين بك في خمسينيات القرن العشرين.
علمًا أن سعيد تحسين بك (1904-1985) من رواد الفن التشكيلي السوري، وقد ركّزت تجربته على تصوير كبريات المعارك الفاصلة في التاريخ العربي، التي نفذها بأحجام كبيرة ودقة عالية في التفاصيل وعدد كبير من الشخصيات التي تشغل الفراغ التكويني.
ومن مجمل الأعمال التي اختفت من قصر المهاجرين وكانت وزارة الثقافة قد اشترتها من الفنان، أربعة أعمال مهمة جداً، وهي: “معركة القادسية”، “معركة اليرموك”، “معركة ذات الصواري” و”منظر في الغوطة”.
يذكر أن تحسين بك كان غزير الإنتاج إذ إنه يملك في رصيده الفني ما يزيد على ألفي لوحة ودراسة فنية، لكن أهم أعماله هي التي استمدها من التاريخ العربي الإسلامي، أو تلك اللوحات التي رسمها تكريماً لشخصيات عاصرها مثل البورتريه الشخصي للرئيس شكري القوتلي التي نقلها بنفسه من وزارة الخارجية حيث كانت من ضمن أملاك الوزراة إلى المتحف الوطني كي يعيد ترميمها بنفسه، قبل أن يختفي أثرها، واللوحة الرائعة المعنونة بـ”جمال عبد الناصر والأمم” التي تجسّد عبد الناصر وهو يدوس على أفعى الامبريالية ويرفع غصن سلام وتسير خلفه شعوب العالم التي ترجو السلام العالمي (محفوظة في متحف الشارقة).
عبد الناصر
هنالك لوحة أخرى فُقدت أو اختفى أثرها، بعد أن انتوى ترميمها بنفسه قبل أن توافيه المنية، وهي لوحة تمثل المباحثات السورية المصرية من أجل الوحدة في عام 1943، قبل الإعلان عن تأسيس جامعة الدول العربية، واللوحة المهمة جداً لِمرجعيتها التاريخية والدلالية، تعرضت لضرر كبير بسبب حريق طال مخازن وزارة الخارجية.
في تلك اللوحة المنقولة عن صورة فوتوغرافية، يظهر الرئيس سعد الله الجابري، وإلى جواره الوفد السوري المكوّن من جميل مردم بك ونجيب الأرمنازي وصبري العسلي، بينما عُرف من الوفد المصري الرئيس مصطفى باشا النحاس.
تؤكد هذه اللوحة، إضافة إلى لوحة عبد الناصر والقوتلي، اهتمام تحسين بفكرة الوحدة العربية والعمل العربي المشترك (اللوحة موجودة في المتحف الوطني حسب تصريح السيدة هيام دركل المشرفة السابقة على المتحف).
في مشهد آخر وفي واحد من فيديوهات السوريين التي انتشرت إبان سقوط النظام يظهر أحد الشبان وهو يقلّب في ركام الصور الفوتوغرافية المنتشرة والمهشمة على الأرض في ما قال إنه قصر ماهر الأسد شقيق الرئيس الوريث.
وبينما يتنقّل الشاب بين صور ميادة الحناوي وجورج وسوف، لفتتني لوحة أعرفها جيداً للفنان التشكيلي السوري توفيق طارق تصوّر رجلاً يرتدي طربوشاً أحمر، وطارق من مواليد دمشق في عام 1875، وتوفي في أربعينيات القرن العشرين، امتازت تجربته بخصوصية التلوين والبروتريهات.
اللوحة (على حد علمي) من مقتنيات متحف الفن الحديث في مشروع دمّر، ولكن على ما يبدو أن المجرم ماهر الأسد قد أعجب باللوحة وضمّها لمجموعته الفنية، إلا إن كانت نسخة مقلدة عن الأصل، اختفى الفيديو في زحام (الفلوغات) التي اكتسحت وسائل التواصل الاجتماعي، واختفت اللوحة كذلك.
وعلى منوال سعيد تحسين بك اعتنى توفيق طارق بالتاريخ العربي الإسلامي في كثير من أعماله، ومن أعماله الخالدة في هذا السياق لوحة “معركة حطين” التي تأثر خلال إنجازه لها بالمدرسة الكلاسيكية بنسختها الفرنسية كونه أقام في فرنسا لمدة ست سنوات درس خلالها الفن والعمارة، قبل أن يعود إلى بلده ليساهم في هوية سوريا الفنية والثقافية، ومن إنجازاته المهمة تخطيط شارع النصر (أحمد جمال باشا سابقاً)، وتصميم شعار جامعة دمشق (المشكاة).
نالت لوحته “معركة حطين” كثيرا من الأذى حينما قصفت القوات الفرنسية دمشق سنة 1925، إذ كانت اللوحة موجودة في قصر العظم قبل أن يتم نقلها إلى متحف من قاعة واحدة أقيمت لأعماله في منطقة العفيف في مركز الفنون التطبيقية، ولكن هذا المتحف أغلق لاحقاً، ليتم إهداء اللوحة العظيمة إلى حافظ الأسد لتتصدر الغرفة التي يستقبل بها ضيوف البلاد، وورثها لاحقاً ابنه بشار الأسد كما ورث الحكم، حتى اختفت بعد سقوط النظام السابق.
تمتاز اللوحة بمنظورها الكلاسيكي الذي تظهر فيه الشخصيات والفرسان والخيول كبيرة في مقدمة اللوحة لتتضاءل الأحجام في العمق كدلالة على عمق مسرح المعركة واتساعه، الخطوط فيها منحنية وليّنة وكأنها تظهر الأجساد في لحظة حركة وليس ثبات.
باعتقادي أن اهتمام المسؤولين السوريين السابقين بالأعمال الفنية التشكيلية لكبار الفنانين السوريين، ليس سوى استثماراً مالياً بمقتنيات يعلمون جيداً أن قيمتها الشرائية ستزداد بمرور الوقت، بدلالة تركها خلفهم بعد الهروب، ونقلهم الأموال المفيدة، أو ضمن سياق المنافسة فيما بينهم حول قيمة وغرابة المقتنيات التي يملكها كل منهم وتصاعد التنافسية فيما بين أفراد تلك الطبقة التي كانت تحكم البلاد، فلا تعدو تلك اللوحات أكثر من مادة يتبارون في اقتناءها مثل السيارات الفارهة والمجوهرات النفيسة.
بينما سجّل العشرات من المثقفين والعاملين في الفن في سوريا دخولهم إلى القصور الرئاسية أثناء دخول السوريين إليها للفرجة ربما أو للتأكد من سقوط النظام، سجّلوا، إلى ذلك، إنقاذهم عدّة أعمال كانت ملقاة على الأرض، ونقلوها إلى أماكن خاصة لحمايتها وإعادة ترميمها.
بينما، وفي سياق متصل ومنفصل، افتُتِحَت على الإنترنت سوق سوداء لعشرات، أو ربما لمئات اللوحات التشكيلية التي شكلت وتشكّل تراثاً سوريا فنياً وإبداعياً خالصاً، وبدأت عملية تهريب تلك الأعمال من سوريا عبر لبنان ومنها إلى مقتنيها الجدد.
لوحات لا تقدر بثمن لأنها تشكل إرثاً ثقافياً سورياً، اختطفته عائلة الأسد ونقلته من أملاك وزارة الثقافة والمتاحف الوطنية إلى قصورهم الشخصية، وأماكن عملهم التي اعتقدوا أنها ستكون ملكاً لهم حتى الأبد.
ومنها إلى أوروبا لتستقر في قصور المقتنين الجدد لتخسر سوريا والحركة الفنية فيها عشرات الأعمال التي تؤرخ لفترة الرواد ولفترة العصر الذهبي للنشاط الفني التشكيلي السوري.
تلفزيون سوريا
—————————–
سوريا تنزلق إلى الأدلبة… فهل من يكبح؟/ عبدالله سليمان علي
تحديث 16 كانون الثاني 2025
استقر الحال في سوريا، بعد ما يقارب 40 يوماً من سقوط نظام الأسد، على مرتكزات يمكن من خلال استقرائها استخلاص ما يمثله المشهد الحالي وما يمكن أن يتطور إليه في المستقبل القريب.
تتجسد أهم هذه المرتكزات في شخص أحمد الشرع (الجولاني) الذي تدرّجت ألقابه منذ كانون الأول / ديسمبر من قائد إدارة العمليات العسكرية، مروراً بقائد الإدارة السورية، وصولاً إلى القائد العام، وهو اللقب الذي استخدمه للمرة الأولى في القرار رقم 8 الخاص بترفيع الضباط.
وفي ظل غموض الحالة الدستورية في سوريا، لجهة تجميد دستور عام2012 من الناحية العملية من دون صدور قرار بذلك، ولجهة عدم مسارعة الحكام الجدد إلى إصدار إعلان دستوري، ليست هناك نصوص تبيّن ما هو منصب القائد العام وما هي صلاحياته، ولا الجهة التي يعتبر مسؤولاً أمامها، بخاصة في ظل تغييب مجلس الشعب السوري ومنعه من أداء عمله، من دون أن يصدر قرار بحله أيضاً.
ومن شأن هذه الضبابية التي تلفّ موقع المنصب الأعلى في الإدارة الجديدة وعدم وضوح صلاحياته وحدود هذه الصلاحيات، أن تثير قلقاً عميقاً لجهة عدم وجود دستور أو إعلان دستوري يقوم بمهمة تأطير هذه المناصب وتحديد علاقتها بمؤسسات الدولة الأخرى، وبخاصة حكومة تصريف الأعمال، الأمر الذي يهدد بعدم دستورية القرارات التي تخرج عن حدّ تصريف الأعمال وتمس، على سبيل المثال، وظائف المواطنين ومعيشتهم وحقوقهم التقاعدية، وباتت تهدد بفوضى مستقبلية على الصعيدين الدستوري والقانوني.
ولكن قد يكون القلق الأكبر نابعاً من دلالة هذه الحالة وخلفياتها التي لا تحتاج إلى بصر نافذ لاكتشاف وجود جذورها في إدلب، المختبر الصغير الذي جربت فيه “هيئة تحرير الشام” أولى مواهب الحوكمة عندها.
ففي إدلب كان هناك مؤتمر عام انبثق منه مجلس الشورى الذي منح الثقة لحكومة الإنقاذ. وكان هناك منصب القائد العام أو “قائد المحرّر” الذي كان من نصيب أحمد الشرع.
وحتى في أنظمة إدلب وقوانينها، حيث لم يصدر دستور هناك طوال السنوات الماضية، ظلّ منصب القائد العام من دون أي قواعد تحدد صلاحياته أو ترسم حدود علاقاته بباقي المؤسسات، وهو ما يذكر تلقائياً بمنصب قائد الثورة الذي احتكره لنفسه الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وكذلك بمنصب المرشد الأعلى في إيران، بما فيهما من استعلاء حتى على سلطات الدولة.
وقد سارت الأمور في إدلب على هذا المنوال من العلاقة بين القائد العام والحكومة والمواطنين منذ عام 2017، بحيث يمكن اعتبار أنها أصبحت تشكل عرفاً مكرّساً في المنطقة.
لذلك ينبغي أن تكون الخشية الحقيقية من بوادر استنساخ نموذج الحكم في إدلب وتطبيقه خلال هذه المرحلة في المحافظات التي سيطرت عليها الهيئة بموجب عملية “ردع العدوان”.
وهكذا، فإن مصطلح “أدلبة” سوريا لا يأتي من فراغ، بل تدل إليه مؤشرات ومظاهر واضحة تتعلق بنموذج الحكم المعمول به حالياً.
وهناك مظاهر كثيرة أخرى تدل إلى أن هذه الأدلبة لا تتعلق فقط ببنية نظام الحكم ومؤسساته، بل تكاد تطال كل جوانب الحياة الأخرى. والأمثلة كثيرة: الملتقيات الدعوية التي يقوم بها “مجاهدون” أجانب يرتدون الزيّ الأفغانيّ بكل ما تتضمنه من تهجم على الطوائف والأديان الأخرى ومطالبة الحاضرين بالتزام النسخة المتشددة من تعاليم الدين الإسلامي، وكذلك نشر ملصقات تطالب النساء بالحجاب، وأخرى بالفصل بين الذكور والإناث في الأماكن العامة ووسائل النقل. ومن لم ير أولئك “المجاهدين” وهم يتنقلون بين المطاعم في اللاذقية ويطالبون روادها بترك الدخان والأراكيل في اقتحام غير معتاد لحرمة هذه الأماكن المخصصة للترفيه وليس لسماع المحاضرات الدينية من متطفلين مسلحين؟. وبلغ الأمر ذروته مع سيارة الدعوة التي جابت حي القصاع الدمشقي ذي الغالبية المسيحية لدعوة أهله إلى اعتناق الإسلام.
في حديثه مع اليوتيوبر الأردني جو حطاب، قال الشرع إن دمشق خلال سنة واحدة ستكون مثل سويسرا. وفي حديث مع الـ”سي إن إن” قال إنه لن تكون هناك أفغنة لسوريا.
وبعد مرور أربعين يوماً على تسلم الحكم يبدو أن وعد سويسرا بعيد المنال. وفي المقابل لا يمكن القول إن ما يجري هو “أفغنة” مطلقة، إذ ما زالت الفوارق كثيرة بين سوريا وأفغانستان وإن كانت تتضاءل، ولكن مما لا شك فيه هو أن أدلبة سوريا قائمة على قدم وساق ولا يمكن إنكارها.
وأخطر ما في الأمر أن عملية أدلبة البلاد تتم بأسلوب سلس وهادئ وكأنه يعبر عن طبيعة راسخة وعقلية متجذرة، بحيث لم يعد ينتبه أحد من أهل الحكم إلى أين تنزلق المجتمعات والمؤسسات ولا كيف تقاد نحو نماذج غريبة عن الإسلام الشامي وروح الدساتير، أو أنهم ينتبهون ولا يجدون فيه ما يخالف سجيتهم، وبالتالي لا يتولد لديهم أي دافع للضغط على الفرامل لكبح هذا الانزلاق.
وإذا لم يفعلوا هم من سيفعل؟
النهار العربي
———————-
هل تنجح أنقرة في إقصاء ورقة داعش السّوريّة؟/ سمير صالحة
تحديث 16 كانون الثاني 2025
يريد البعض أن يضع “هيئة تحرير الشام” و”قسد” و”حزب العمّال الكردستاني” و”داعش” في سلّة تفاوض ومساومة سياسية واحدة، وعقد صفقة تعطيه ما يريد في “حكاية المسمار” السوري هذه المرّة. الهدف هو تحويل مسار التحالف الدولي لمحاربة “داعش” إلى تحالف دولي لرسم خارطة المسار السياسي والدستوري الجديد في شرق سوريا.
منحت المتغيّرات السياسية والأمنيّة في سوريا أنقرة المزيد من الثقل والتأثير في الملفّ داخلياً وخارجياً. لا تريد تركيا التفريط بمثل هذه الفرصة الاستراتيجية التي ستعزّز من نفوذها على مستوى الإقليم ككلّ بعد انحسار التمدّد الإيراني في المنطقة وجمود السياسة الروسيّة في سوريا.
ليست العقبة هنا توصيات قمّة العقبة في الأردن قبل شهر. فاجتماعات الرياض الأخيرة أعادت خلط الأوراق وترتيب خارطة طريق سورية جديدة تتقدّمها مراجعة شرط الالتزام بتنفيذ القرار الأممي 2254. كما أنّ دعوة الإدارة السياسية السوريّة الجديدة إلى المشاركة في اجتماعات العاصمة السعودية، التي حضرها أبرز اللاعبين العرب والغربيين المؤثّرين في سياسات الإقليم، لا يمكن فصلها عن احتمال تقدّم المفاوضات الجارية بين دمشق وقيادات “قسد” ووصولها إلى نتائج ترضي الطرفين، مع اقتراب موعد التخلّي الغربي عن قرار العقوبات ضدّ دمشق وتجاوز مسألة مشروعية أحمد الشرع وفريق عمله في مواصلة قيادة المرحلة ما قبل الانتقالية.
منحت المتغيّرات السياسية والأمنيّة في سوريا أنقرة المزيد من الثقل والتأثير في الملفّ داخلياً وخارجياً
أميركا وفرنسا وإسرائيل تلوّح بـ… “داعش”
تراجعت أميركا وإسرائيل وفرنسا عن تمسّكها بتحريك ورقة “قوات سوريا الديمقراطية” ومشروعها في شرق الفرات ضدّ تركيا، لمصلحة تفعيل ورقة “داعش” كسلاح متعدّد الفوهات تلوّح به باريس وتل أبيب ضدّ الجانب التركي.
لهذا تشعر قيادة حزب العدالة والتنمية أنّ تل أبيب تريد أن تكون شريكاً أساسيّاً في تقاسم أرباح انحسار النفوذ الإيراني. وتدرك أيضاً أنّ نتنياهو لن يسمح لها بتحقيق تفاهمات على حسابه مع دونالد ترامب في سوريا حيث تتداخل المسائل في أكثر من ملفّ استراتيجي إقليمي ذي طابع اقتصادي وأمني وسياسي.
هكذا يتراجع احتمال لعب ورقة “قسد” يوماً بعد يوم لمصلحة تحريك ورقة “داعش” في حسابات المواجهة السوريّة بين تركيا وإسرائيل لأنّ إبقاء ملفّ “داعش” دائم السخونة في سوريا هدفه إبقاء مسألة حقوق ومطالب “الأقلّية الكردية” في سوريا على النار، والتحذير من سيناريوهات اشتعال الفوضى والاقتتال الداخلي. واحتمال حصول انقلاب عسكري سوري قد يعقّد الأمور أكثر ممّا هي معقّدة.
تشعر قيادة حزب العدالة والتنمية أنّ تل أبيب تريد أن تكون شريكاً أساسيّاً في تقاسم أرباح انحسار النفوذ الإيراني
أميركا تحتاج تركيا في سوريا
تكرّر القيادات التركية أنّ ما ينتظر سوريا من تحدّيات يحتاج إلى تضافر الجهود لإعادة بناء الدولة. وتعلن باستمرار أنّه لا يمكن لها القيام بهذه المهمّة بشقّها المالي والسياسي لوحدها. وتتمسّك بمواصلة مسار دبلوماسية التهدئة والانفتاح بعيداً عن الدخول في المزيد من ساحات الاصطفاف والتصعيد الإقليمي. لكن تحتاج إدارة ترامب إلى الحليف التركي في سوريا بعد تراجع النفوذ الإيراني والروسي هناك لمصلحة إدارة سياسية جديدة مقرّبة منها. وبالتالي ليس من مصلحة واشنطن التصعيد مع أنقرة أو الدخول في مواجهة معها بعد التنسيق التركي العربي المتزايد في الإقليم، إرضاء للشريك الكردي في شرق الفرات أو لمنح باريس وتل أبيب ما يريدان.
يحتاج ضبط الإيقاع الأميركي في المنطقة إلى الإصغاء إلى ما يقوله اللاعبان العربي والتركي، شريكا دمشق على طريق إعادة بناء سوريا الجديدة، الجارة لتركيا والدولة العربية التي تريد استرداد موقعها بعيداً عمّا عاشته طوال نصف قرن من حكم أسرة الأسد.
سيطرة “قسد” على مناطق جغرافية واسعة حيث الثروات الطبيعية السورية على حساب بقيّة مكوّنات المجتمع السوري، وتمسّكها بملفّ “داعش” كورقة مقايضة، والاستقواء بالسلاح الأميركي في مواجهة دمشق وتركيا، لن يقبل بها النظام السوري الجديد ولن يكون لها أيّ تأثير في بناء الدولة الجديدة، ولن ترضى به أنقرة حتّى لو كان ثمنه التصعيد أكثر فأكثر مع إسرائيل وفرنسا.
تكرّر القيادات التركية أنّ ما ينتظر سوريا من تحدّيات يحتاج إلى تضافر الجهود لإعادة بناء الدولة
الآلاف في سجون “قسد”… ومصير المعركة
في هذا السياق قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إنّ الولايات المتحدة “بحاجة إلى إبقاء قوّاتها في سوريا، لمنع تنظيم الدولة من إعادة تشكيل نفسه ليكون تهديداً كبيراً بعد الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد”.
ألا يتعارض ذلك مع ما قاله ترامب في فترة حكمه الأولى حول القضاء الكامل على مجموعات داعش في سوريا؟
يدعم التحالف الدولي أوستن في مقولة إنّ المعركة لم تنتهِ بعد مع هذه العناصر. إرسال المزيد من السلاح والدعم المالي لقوات سوريا الديمقراطية هدفه تمويل إدارتها للسجون والمخيّمات التي تضمّ عشرات الآلاف منهم، لإبقائهم في شرق الفرات. لكنّ هدف ذلك كما تقول أنقرة هو تحضير “قسد” للدفاع عن مخطّطها السياسي في سوريا تحت إشراف وحماية بعض دول التحالف نفسه.
التعامل مع الشقّ القانوني في ملفّ “داعش” يستدعي الأخذ بعين الاعتبار وجود الكثير من التعقيدات القانونية والتقنية والسياسية المحلّية والدولية، ومواجهة الكثير من التحدّيات، أهمّها المحاكمات ومن سيقوم بها، وتسليم المقاتلين إلى بلدانهم الأصلية، وأُسر السجناء ومصيرهم.
تستدعي تطوّرات المشهد السياسي والأمني في سوريا البحث في سبل إنهاء هذه المعضلة. واجتماع روما الأميركي الأوروبي الأخير بحث هذه المسائل. لكنّه قرّر مواصلة تجاهلها وتقديم مشروع دعم “قسد” في سوريا على التفاهم مع دمشق وأنقرة حول الموضوع. فهل يتبنّى ترامب بعد أيّام السياسة نفسها، وهو الذي تحدّث عن انتهاء الحرب على “داعش”؟ أم يعطي البعض ما يريده في مواجهة تركيا فوق الأراضي السورية؟
بانتظار ترامب توجّه تل أبيب أسهمها الكردية نحو أنقرة. بينما تتمسّك باريس بلعب ورقة “داعش” والأقلّيات في سوريا حتى النهاية
إيران والأكراد… تراجع المشروع
تراجع مشروع التحالف الثلاثي الذي قرّب بين طهران والسليمانية والقامشلي في جغرافيا الحدود السورية العراقية بعد الضربات التي تلقّتها إيران ونظام بشار الأسد في سوريا. يريد أحمد الشرع بسط نفوذ الإدارة السياسية الجديدة فوق كامل تراب البلاد. يريد استرداد مساحات زراعية واسعة وآبار النفط التي تقع تحت سيطرة “قسد”. ذريعة “داعش” عقبة في طريقه. لذلك يعوّل على أنقرة كي تساعده في حسم المسألة. المقايضات محتملة طبعاً لناحية ترتيب الأولويّات وعقد الصفقات. لكنّ خيار الحسم العسكري لن يكون مستبعداً عند فشل المفاوضات التي تسير أمام تقاطعات أنقرة ودمشق وواشنطن وشرق الفرات.
بانتظار ترامب توجّه تل أبيب أسهمها الكردية نحو أنقرة. بينما تتمسّك باريس بلعب ورقة “داعش” والأقلّيات في سوريا حتى النهاية. يقول وزير خارجية تركيا هاكان فيدان لنظيره الفرنسي بارو: “إستردّوا بضاعتكم”. ويردّ الأخير: “ينبغي إبقاؤهم حيث ارتكبوا جرائمهم “. أمّا اللاعب العربي فهو المؤهّل اليوم أمام تعقيدات المشهد ليقول ما عنده على طريق استرداد سوريا بعد التواصل الانفتاحيّ الواسع على القيادة الجديدة في دمشق.
تقول “قسد” إنّه لا مشروع تفتيتيّاً أو نيّة لها لطلب حكم ذاتيّ. لكنّ محاولة أيلول العام المنصرم الذهاب وراء استفتاء غير شرعي لتوسيع مساحة نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري التي أفشلها المجتمع الدولي في اللحظة الأخيرة تقول العكس.
والتريّث بانتظار أجواء وظروف مؤاتية أكثر. مثلاً: دخول إسرائيلي مباشر على الخطّ. وإلّا فما معنى أن تقول الأصوات المقرّبة من “قسد” إنّ الأخيرة لن تسلّم ملفّ “داعش” للإدارة السياسية السورية الجديدة لأنّها لا تثق بها؟ فهي ما زالت على لوائح الإرهاب ولم تحظَ بالاعتراف الدولي بعد ولم تطرح مشروعها السياسي والدستوري الجديد على طريق المرحلة الانتقالية.
دعا وزير الخارجية التركي هاكان فيدان “قسد” إلى إعلان حلّ نفسها “إذا كانت صادقة في مساعيها للاندماج مع الإدارة السورية المركزية”. لكنّ “قسد” وداعميها يجهدون لوضع ملفّ “داعش” داخل سلّة تفاوض واحدة مع القيادة السورية الجديدة. وذلك تحت عنوان تفاصيل المرحلة الانتقالية ومستقبل البلاد ودستورها وحصّة “الأقلّية” الكردية في كلّ ذلك.
ترامب يضحّي بـ”قسد”؟
في الختام، بقدر ما ستحاول تل أبيب وباريس التأثير على قرار دونالد ترامب وهو يحدّد معالم سياسته السورية، ستتمسّك أنقرة بما تقوله وتريده عند بناء سوريا الجديدة. أيام قليلة ونعرف لمن سينحاز ترامب. لكنّ خيار محاولته التوفيق بين الطرفين قائم وغير مستبعد أيضاً. هو تاجر في الأصل وهمّه الأوّل هو الربح في كلّ الصفقات بعيداً عن تعريض علاقته بشركائه وحلفائه للخطر. الضحيّة هنا قد تكون “قوات سوريا الديمقراطية” إذا ما كان البديل هو التقريب بين تركيا وإسرائيل.
أعلنت الخارجية الروسية أنّ الوزير سيرغي لافروف بحث مع نظيره التركي هاكان فيدان الخطوات الإضافية اللازمة لدعم التسوية في سوريا. يتمّ التواصل بعد اجتماع روما الغربي وقمّة الرياض وقبل اجتماع بروكسل الأوروبي لبحث تطوّرات المشهد السوري. تجلس إيران في غرفة الانتظار، لكنّ أنقرة لن تقبل بمحاولات تهميش أو استبعاد بوتين عمّا يجري. أنقرة وموسكو تنتظران قدوم ترامب، فهناك ملفّات إقليمية كثيرة ينبغي حلّها.
أساس ميديا
—————————-
المهمة الشاقة التي تواجه الحكومة السورية الجديدة/ د. ألون بن مئير
مهام هائلة تواجه زعيم الثوّار السوريين أحمد الشرع وهو يحاول تعزيز سلطته سلميا والعمل على أجندته المحلية بعيدة المدى.
الخميس 2025/01/16
مؤشرات إيجابية إلى حد الآن
مع إدراك الرعب الذي تحمّله الشعب السوري على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية يبرز السؤال التالي: هل سيفي زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع بوعوده العلنية من خلال تحويل سوريا إلى بلاد ديمقراطية تسودها الحرية والمساواة، بغض النظر عن مدى ضخامة مهمته؟
من الصعب المبالغة في المهام الهائلة التي تواجه زعيم الثوّار السوريين أحمد الشرع وهو يحاول تعزيز سلطته سلميّا مع مجموعات ثائرة أخرى والعمل على أجندته المحلية بعيدة المدى.
وتشير جميع الدلائل إلى أن الشرع عازم على وضع سوريا على مسار تحوّلي يؤدي إلى ديمقراطية تسود فيها العدالة الاجتماعية والسياسية وتمنع سوريا من الانزلاق مرة أخرى إلى الهاوية.
ومع تحمّل سوريا للجحيم على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية، يعرف الشرع أنه يجب عليه أن يثبت للعالم أنه يعني ما يقوله وسيفي بوعوده لكسب الاعتراف والدعم الدوليين.
يجب على الشرع أن يعالج على مراحل عدة قضايا رئيسية مثقلة بصعوبات هائلة سوف تحدّد ما إذا كان سيرتقي إلى مستوى المناسبة التاريخية ويعيد إحياء سوريا من الرماد الذي خلفه نظام بشار الأسد.
شفاء الأمة
نظرا إلى الدمار الذي أصاب الشعب السوري بعد أربعة عشر عاماً من الاضطهاد المنهجي والتشريد والخراب وموت أكثر من ستمئة ألف سوري، فلا شيء أكثر إلحاحاً من بذل الحكومة الجديدة جهوداً متضافرة لشفاء الأمة. إن توحيد كل الجماعات المتمردة تحت سقف واحد يشكّل خطوة أولى أساسية لجعل مثل هذا الجهد الوطني ممكناً.
ويتعين على الحكومة الجديدة أن تضع عقداً اجتماعياً جديداً من خلال إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان وسيادة القانون، والبدء في المهمة الضخمة المتمثلة في إعادة تأهيل النازحين.
ومن الأهمية بمكان تقديم أولئك الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية إلى العدالة، ومنع الاعتقال التعسفي واتباع الإجراءات القانونية. إن إنشاء هيئة على المستوى الوزاري للسلام والعدالة والمصالحة أمر ضروري جدا، فضلاً عن حظر الانتقام والقصاص، وتوضيح أن الجناة سيواجهون العدالة مع الحفاظ على أدلة الفظائع لضمان المساءلة في المستقبل.
نظام سياسي شامل
لأن سوريا تضمّ ما يقرب من عشرين مجموعة عرقية ودينية مختلفة، بما في ذلك الطوائف المسيحية المتعددة، فإن النظام السياسي الجديد يجب أن يكون شاملاً ويسمح بمشاركة جميع المجموعات في العمليات السياسية. ومن الأهمية بمكان إصلاح الدستور للاعتراف بالحقوق السياسية لجميع شرائح السكان لضمان الانتقال السلس إلى نظام ديمقراطي لامركزي، بما في ذلك إلغاء جميع القوانين والممارسات التمييزية وضمان الحرية الدينية والمساواة للجميع.
لقد تم تهميش جميع المجموعات العرقية والدينية تقريباً، باستثناء العلويين الذين حكموا البلاد، سياسياً. وبالتالي فإن الشمولية السياسية والانتخابات الحرة والنزيهة أمران حاسمان للتماسك الاجتماعي، وهو ما يحتاج إليه الشعب السوري بشدة.
العدالة الاجتماعية والاقتصادية
لقد أدت أربعة عشر عامًا من الدمار إلى تدمير النسيج الاجتماعي للبلاد وسحقه اقتصاديًا. من الناحية الاقتصادية تحتاج الحكومة الجديدة بشكل عاجل إلى إصلاح هذا الخلل الملحوظ من خلال اتخاذ التدابير التالية من بين أمور أخرى: وضع خطة إعادة إعمار مستدامة لإعادة بناء الاقتصاد، وتنشيط القطاع الخاص، وخلق فرص العمل، والعمل مع المستثمرين الدوليين والجهات المانحة والمنظمات المحلية بشفافية وتعاون للمساعدة في إحياء الاقتصاد ودعم الشركات صغيرة الحجم ومتوسطته ماليًا وفنيًا لتحفيز النمو. وينبغي إنشاء أمانة للمانحين بهدف تقديم المساعدات المالية المرتبطة بتقدم إعادة الإعمار وكذلك الالتزام الكامل بالديمقراطية حيث تسود حقوق الإنسان.
وعلى الصعيد الاجتماعي يتعين على الحكومة أن تستثمر في التعليم والرعاية الصحية وتخفيف حدة الفقر وانعدام الأمن الغذائي. وجب عليها أن تنفذ برامج دعم زراعي مستدامة وأن تزيل كل العقبات للسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى كل المناطق، وأن تتعاون مع مختلف الدول لضمان تدفق المساعدات الإنسانية. والأهم من ذلك يتعين عليها أن تخلق الظروف التي تسمح للاجئين والنازحين داخليا بالعودة إلى ديارهم مع استعادة التغييرات الديمغرافية التي ربما حدثت في ظل القمع الوحشي الذي مارسه الأسد.
استبعاد القوات الأجنبية
على مدى العقود العديدة الماضية كانت القوات الأجنبية والمنشآت العسكرية من روسيا وتركيا وإيران متمركزة في سوريا. ولكي تظهر كدولة مستقلة حقا يتعين على الحكومة أن تطلب من القوى الأجنبية سحب قواتها من البلاد. ويجب على الحكومة السورية أن تؤكد على أنه نظرا لدخول سوريا عصرا جديدا، فإن استضافة القوى الأجنبية لم تعد ضرورية ولا تؤدي إلا إلى تقويض سيادة سوريا.
روسيا: يتعين على الحكومة الجديدة أن تدعو روسيا إلى سحب قواتها من سوريا. وقد طالبت الحكومة السورية بالفعل روسيا بسحب قواتها العسكرية بحلول منتصف فبراير، ويمكنها الآن الاستفادة من القدرات العسكرية المحدودة لروسيا بسبب الحرب المستمرة في أوكرانيا.
كما ينبغي للحكومة السورية أن تلغي عملية أستانة التي سمحت لروسيا وإيران باستخدام جيوشهما لضمان بقاء نظام الأسد في حين تخدم مصالحهما الإقليمية الإستراتيجية. وعلاوة على ذلك ينبغي للحكومة أن تؤكد أن البلدين يمكنهما تطوير علاقة بديلة مفيدة للطرفين في العديد من المجالات، بما في ذلك التنمية الاقتصادية.
تركيا: لأن تركيا دعمت الثوار في سعيهم للإطاحة بالأسد، فسوف يكون من الصعب للغاية على الحكومة السورية أن تتخلص من الوجود العسكري التركي في سوريا. ومثل روسيا، استخدمت تركيا أيضاً إطار أستانة لتبرير تعزيزها العسكري، وخاصة في شمال سوريا، لمحاربة القوات الكردية، والتي تعتبرها أنقرة بالغة الأهمية لمصالحها الوطنية.
وبصرف النظر عن التأكيد على سيادة سوريا، ينبغي للحكومة الجديدة أن تقدم إلى تركيا خططاً لمحاربة الجماعات الإرهابية، والتفاوض على عودة اللاجئين السوريين، والتعاون مع الأكراد السوريين للتوصل إلى حلّ وسط يبدد المخاوف الأمنية التركية، وتقديم تعاون اقتصادي واسع النطاق، واقتراح الانسحاب التدريجي للقوات، والسعي إلى الحصول على الدعم الدولي لممارسة الضغوط الدبلوماسية والمالية على تركيا.
إيران: بالفعل طالب أحمد الشرع إيران بسحب قواتها وجميع منشآتها العسكرية من سوريا. إن حكومته لا بد أن تطالب بعدم التدخل في سوريا ذات السيادة، وإلغاء الوصول إلى المجمعات العسكرية التي كانت تستخدمها إيران في السابق، وتعزيز أمن الحدود لمنع إيران من العودة إلى سوريا، ومنعها من تهريب الأسلحة إلى حزب الله.
وعلاوة على ذلك ينبغي أن يهدد النظام الجديد في سوريا بإلغاء كلّ التعاون الاقتصادي الثنائي إذا لم تحترم إيران سيادتها، والسعي إلى الحصول على الدعم من الأمم المتحدة للضغط على إيران لاحترام السيادة السورية، وأن يوضح لطهران أن البلاد لن تسمح باستخدام سوريا كمسرح لتهديد إسرائيل.
إسرائيل: استغلت إسرائيل سقوط نظام الأسد وبدأت عمليات قصف مكثفة لتدمير المنشآت العسكرية ومخازن الأسلحة التابعة للأسد في حين قامت باحتلال المنطقة العازلة وجبل الشيخ. ونظرا لحساسية إسرائيل الشديدة تجاه ما يتصل بأمنها، يتعيّن على حكومة الشرع أن تتعامل مع إسرائيل بحذر لمنع أي صراع عسكري من شأنه أن يقوّض بشكل خطير الحاجة الملحة إلى إعادة تأهيل البلاد.
وينبغي أن تلتزم الحكومة الجديدة التزاما كاملا باتفاقية فكّ الارتباط لعام 1974 (التي التزمت بها بالفعل) وتطلب من إسرائيل أن تفعل الشيء نفسه، مع توضيح أنها ستسعى إلى حلّ سلمي لجميع الصراعات مع إسرائيل. ومن الضروري إقامة اتصالات خلفية لمناقشة أمن الحدود، واقتراح تدابير بناء الثقة، بما في ذلك إدارة المياه في المنطقة الحدودية، والعمل مع قوة مراقبي فكّ الارتباط التابعة للأمم المتحدة من أجل ضمان الرصد الفعال للمنطقة العازلة.
ومن الصعب المبالغة في تقدير المهمة الهائلة التي يتعيّن على الشرع والحكومة الجديدة في سوريا أن تضطلع بها على جميع الجبهات لتحقيق الاستقرار في البلاد وتجنب العنف داخليا وخارجيا. وتجدر الإشارة إلى أن سوريا لا تستطيع معالجة هذه المهمة الضخمة بمفردها. إن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربية وإسرائيل لديها مصلحة راسخة في الحفاظ على الاستقرار والأمن الإقليميين وتحتاج إلى التعاون مع النظام السوري الجديد لتحقيق أهدافها المشتركة، بدءا برفع هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية وإضفاء الشرعية على سلطتها الحاكمة.
وإلى حد الآن تشير كل الدلائل إلى التزام الحكومة السورية الجديدة بتنفيذ هدفها المعلن المتمثل في إنهاء المعاناة وشق طريق جديد نحو السلام والأمن، وهو ما يتوق إليه الشعب السوري توقا شديدا.
العرب
——————————–
الجولاني المكوّع الأكبر… هل يخدع السوريين؟/ حاتم علي
الخميس 16 يناير 2025
ولد الجولاني في السعودية ثم انتقل إلى دمشق، مع أبيه اليساري الناصري حسين الشرع، الذي يقال إنه كان متأثراً بحزب البعث العراقي، ولم يكن الأب إسلامياً متشدّداً كما يُتوقع، وربما كان لمعايشة الجولاني فشل تيار أبيه العروبي وعجزه عن حماية دولة عربية مثل العراق، دافعاً له حتى يمشي في الجهة المعاكسة تماماً، ويذهب للجهاد ضد قوات الاحتلال الأمريكي، ليُسجن/يتتلمذ في “بوكا”؛ السجن الشهير الذي ضمّ أشهر قادة “القاعدة”، ليخرج بعدها متابعاً المسيرة الجهادية التي مرّت بالكثير من التقلبات والانفصالات والتغيرات، بدأت من عدم الظهور إلى الظهور دون الوجه، ثم إظهاره بالعباءة ثم بلباس عسكري، حتى وصوله إلى قصر الشعب بالطقم وربطة العنق… هذه السيرة المتقلبة بتعقيداتها تتشابه مع مسار الثورة السورية، التي إن أحصينا انعطافاتها المفاجئة وربما العشوائية، قد نراها متجسّدة في شخصية أحمد الشرع/ أبو محمد الجولاني.
صك غفران لمن يطيح بالأسد
صحيح أنّ الديكتاتور هو من يقمع المجتمع ويدجّنه ليثبت حكمه ويطبق شموليته على أرض الواقع، لكن إلى جانب هذه الحقيقة يوجد حقيقة أخرى؛ هي أن المجتمع يسهم في تعزيز الميول الاستبدادية لدى القادة الجدد أو في الحد منها، من خلال النقد والتمرّد وعدم إعطاء الثقة الكاملة لأي شخص كان، مهما بدت عليه ملامح حسن النية وأقوال وأفعال، إذ يقتضي المنطق إبقاءه تحت الإقامة الجبرية للمراقبة النقدية، للحفاظ على إحساسه بالمسؤولية تجاه الناس، والإبقاء على نسبة صحية من الخوف، الذي يذكّره بالانتخابات القادمة، وبالطرق القانونية والدستورية للاحتجاج وحجب الثقة والعزل وغيرها.
لكن يبدو أن العديد من السوريين لم يستفيدوا من التجارب السابقة، فالمدح والتمجيد والتأليه لدى الحاكم السابق لم ينمّ في داخله سوى شعور الراحة وصفة النرجسية، إذ يبالغ كثيرون في إظهار الولاء للعهد الجديد وإطلاق ألقاب تعظيم على أحمد الشرع أو أبو محمد الجولاني، وقد يكون ذلك مفهوماً في اللحظات الأولى لسقوط أعتى ديكتاتورية في العصر الحديث وأكثرها إجراماً في التاريخ، فمقدار الوحشية والشمولية لنظام الأسد، أعطت -باللا وعي- صك غفران لتاريخ من يزيحه ويخلص البلاد والعباد منه، وقد يكون مفهوماً في لحظات النشوة والاحتفال، وخطيراً فيما لو تمّ البناء عليه في المدى الطويل.
مع التذكير أنّ هيئة تحرير الشام هي من أطلقت رصاصة الرحمة على النظام المتهالك، بفعل نضالات السوريين الأحرار السلمية والمدنية والسياسية والأدبية والعنفية منذ السبعينيات وحتى الثامن من ديسمبر 2024، هو فعل تراكمي وليس كبسة زر.
تمجيد= استبداد
وبغض النظر عن خلفية الجولاني الأيديولوجية، فإن سلوك التمجيد يغذّي نزعة السلطة داخله، ومن الضروري أن تتغير نظرة الناس تجاه الحكام، بحيث يُعتبرون بشراً عاديين مهمتهم خدمة المجتمع، وليس الركوب عليه.
وليس في تعداد أخطاء “حكومة الجولاني” في إدلب والتحذير منها وتسليط الضوء عليها، خيانة أو استعجالاً، وإنما تذكير بها، وليعلموا أنّ هنالك من يراقب أداءهم ويعارض سلبياتهم، وهذا ما يجب الحفاظ عليه في الدستور الجديد وفي الشكل الجديد للدولة، كائناً من كان الرئيس، يجب أن تكون حرية المعارضة ليس مكفولة فقط وإنما مقدسة أيضاً.
فجهاز الأمن العام في إدلب، الذي كان يقوده أبو أحمد حدود (القائد الحالي للاستخبارات السورية) اتبع أسلوباً مختلفاً عن نظام الأسد في التعامل مع شهادات وفاة المعدومين في سجونه ومعتقلاته.
وبدلاً من إرسال الشهادات إلى دائرة الأحوال الشخصية، كما كانت تفعل مخابرات الأسد، كان عناصره يبلغون زوجات الضحايا بضرورة دخولهن في العدة، وكأنه استنساخ واضح لتجربة الأسد بنكهة إسلامية، وهنا طالب الصحفي السوري المختص بالجماعات الجهادية حسام جزماتي، رئيس الاستخبارات الجديد أنس خطاب، بتحديد مواقع المقابر الفردية والجماعية للضحايا نتيجة المحاكمات السرية التي قام بها، إن كان يرغب في بناء جهاز أمني استخباري مختلف عن سلفه البائد.
لم يعتذر
الكثيرون لم ينسوا أنّ الشرع هو الجولاني الذي ارتكب المجازر والجرائم في رحلته الجهادية، وهو بدوره لم يعتذر عنها أو يقدم نقداً ذاتياً، وقد اكتفى بالتلميح “تلك مرحلة قد مضت..”، لم يعتذر عن جرائم الاستعباد الجنسي وخطف الأيزيديات وبيعهن.
قد يبدو الأمر صعباً على أرض الواقع، خاصة أنه لم يتلفظ بكلمة “ديمقراطية” حتى الآن، بل تكلم -هو وحكومته- بنقيضها، إذ أجاب على الأسئلة التي تخص الدستور الجديد بأنه سيتركها لما أسماه “لجان من المختصين في الشأن”، هذا ما يُشعل نار الشك والتساؤلات: من هي هذه اللجان؟ من يعينها؟ هل تُعين على شاكلة التعيينات التي نراها الآن؟ لنبرّرها تحت عنوان “ضرورات الانسجام في هذه المرحلة”؟ فلو كان الجولاني يسعى لدولة ديمقراطية كان يفترض أن يكون الجواب: “مؤتمر وطني جامع لجميع القوى والتيارات السورية”، أما كلمة “لجان ومختصين” فلا تذكرنا سوى بدوامات ومتاهات النظام البائد.
الجولاني… المكوّع الأكبر
مع سقوط الأسد، برز مصطلح التكويع في الفضاء السوري العام، ذلك لتوصيف تكويع موالي الأسد إلى موالين للجولاني، بين ليلة وضحاها، لكن نسي كثيرون أنّ الجولاني كان “المكوّع الأكبر” من العباءة إلى “الطقم والكرافة”، وهو يحيّر جميع الأطراف باتجاه تكويعته “يميناً أم يساراً؟”.
فهو يقول إنّ سوريا ستكون لكل السوريين، لكنه يرفع ضباطاً غير سوريين، ومنهم مدنيون بالأصل ولم يجروا “حتى معسكر تدريب جامعي” كما يقول أحد الناشطين. يؤكد أنه سيقوم بحل “الهيئة”، لكنه يعين ضباط الهيئة في هرم الاستخبارات والجيش، ووزراء الهيئة في الحكومة، عندها يصبح حلّ الهيئة لا طعم له ولا رائحة، فقد تحولت الهيئة إلى دولة.
يقرّ أنّ حكم إدلب يختلف تماماً عن إدارة سوريا كلها فـ “إدلب ليست سوريا”، وينكر نيته تعميم التجربة في إدلب على عموم البلاد، لكنه يعتبر تجربة إدلب نواةً يعتمد عليها! ويعين وزراء حكومة إدلب (حكومة الإنقاذ) وزراءً في الحكومة السورية! يعتبرها حكومة تصريف أعمال لكنها تتجاوز كل صلاحيات تسيير الأعمال، يصفه أحد الأصدقاء “يغمز عاليسار ويكوع على اليمين “.
يمكن تناول مراوغة/ براغماتية الجولاني من منظور آخر، وهي أنّ الجولاني لم يعد مقتنعاً بالسلفية الجهادية منذ سنوات، وليس في وارد أن يقيم دولة إسلامية متشدّدة، وإنما يستغل “الجهادية” لتحقيق أهدافه “السلطوية”، فماذا سيكون مصيره أو رصيده لو تخلى عن جهاديته؟ الجواب: لا شيء، وهو يسترضي جماعته وجمهوره بأشياء بسيطة لا وزن حقيقي لها، مثل تعديلات المناهج وتغيير أسماء وتعيينات يمكنه التراجع عنها فيما بعد في سياق التغيير، فقد احتلّ تعديل المناهج السوشال ميديا، وحول الأنظار عن أي حدث آخر.
فلا يجب الخوف من أسلمة الدولة، أكثر من السيطرة عليها والاستبداد بها وبنا من جديد، خاصةً أنّ التاريخ ليس في صالحنا، فقد بينت الدراسة التي عمل عليها كرم شعار وسامي عقيل في معهد الشرق الأوسط، أنّ احتمالية التخلي عن السلطة طوعاً (بعد السيطرة عليها عسكرياً) هو صفر تقريباً، وخلال التاريخ السوري الحديث، كل حاكم وصل للرئاسة بالقوّة لم يترك بغير القوّة، باستثناء أديب الشيشكلي الذي غادر الحكم بسبب خطر اندلاع الثورة، وهرب للبرازيل وقتله شخص سوري بعد عشر سنوات على انتهاء حكمه.
ما يمكن الاستفادة منه في حالتنا السورية، ليس التسليم بالأمر الواقع والاستسلام، بل يجب معرفة أنّ حق التعددية السياسية وحق المواطنة وممارسة الديمقراطية وتداول السلطة يؤخذ بالقوة، ولا يجب توقع منحه على طبق من فضة، لذا يجب أن نجهّز أنفسنا لمواجهة مشروع الاستبداد الجديد، فالتاريخ والحاضر يدلان أنّ الشرع ساع للتفرد بالسلطة، وإيحاءاته وكلامه ووعوده ولطفه قد يكونون مجرد شهر عسل سينتهي قريباً.
رصيف 22
———————————-
“نوايا دعم إسرائيل لأكراد سوريا”… تحذير شكلي لتركيا أم مقدمة لمخطط أوسع؟/ معاذ سعد فاروق
الأربعاء 15 يناير 2025
لم يمرّ على فرحة السوريين بسقوط نظام الأسد شهر كامل، رأوا فيه آمالاً واقعية في أن يُبنى وطنهم ويتوحد، حتى تناقلت مصادر إعلامية إسرائيلية تقاريرَ تشير إلى تفكير إسرائيل الرسمي في دعم الأكراد في شمال شرق سوريا؛ الأمر الذي ترك عند كثيرين تساؤلات حول مرامي هذا الدعم وانعكاسه على القوى الإقليمية، سيما تركيا، خصم الأكراد التاريخي الأكبر.
وربما ذهبت بعض التقارير، ومنها الإسرائيلية، إلى أبعد من ذلك، في تكهن مطامع إسرائيلية تسعى إلى تقسيم سوريا إلى دويلات. لكن قد تتكشف في مستوى المستقبل المنظور إن كانت هي مطامع استراتيجية أم تكتيكية تسعى إلى إحكام السيطرة على حدود سوريا الجنوبية والشمالية، وبالتالي حماية نفسها من أي تهديدات محتملة، أو إلى رفع السبابة في وجه أردوغان، وتحذيره من خطوات سياسية وعسكرية قد تؤذي إسرائيل.
وعلى الرغم من حضور هذه التصريحات الإسرائيلية في الإعلام، إلا أن محللين يرون أنها لا تتجاوز عن كونها مجرد “مناكفة” لتركيا، في ظل العلاقات المتوترة بين الطرفين.
هل هو دعم صوريّ؟
شرعت تقارير إعلامية إسرائيلية تحلل الواقع السوري الحالي، وتكتب عن تفكير إسرائيل في دعم الأكراد. فركز موقع “إسرائيل هيوم”، على سبيل المثال، على موقف أردوغان العدائي تجاه إسرائيل، والذي وصل إلى أدنى مستوياته بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ووقوفه إلى جانب حماس، حسبما يقول التقرير، الذي أكد أن هذا الموقف دفع أصواتاً داخل إسرائيل تطالب بمساعدة أعداء الرئيس التركي، أي الأكراد، في الساحة السورية.
وتزعم هذه الأصوات، أن “تعزيز الحكم الذاتي الكردي، والمجموعات الأخرى المعادية للميليشيات الموالية لتركيا، سيضعف نفوذ القوات المدعومة من تركيا، ويمنعها من ترسيخ وجودها على الحدود السورية مع إسرائيل. كما أن هذه الخطوة ستوضح لأردوغان أن إسرائيل لن تتغاضى عن محاولاته لتعزيز التحركات المناهضة لإسرائيل على الساحة الإقليمية والعالمية”.
ويتابع التقرير: “الأهم من ذلك، فإن دعم الأكراد سيجعل أردوغان يتردد في التحرك لتنفيذ التهديد بغزو إسرائيل، من خلال دعم الجماعات الجهادية العاملة في المنطقة. وعليه، يتعين على إسرائيل أن تقدم المساعدات العسكرية للجماعات الكردية، التي تتلقى بالفعل دعماً كبيراً من الأمريكيين، وبالتالي تحسين موقفها على الأرض، بل حتى توسيع سيطرتها في شمال وشرق سوريا”.
من جهة أخرى، تظلّ هذه التقارير الإسرائيلية مؤشراً على نوايا إسرائيل وحدها. إذ يقول د. فريد سعدون، الباحث السياسي من القامشلي، إن “التقارير الإعلامية الإسرائيلية ليست جديدة، بل هي جزء من سياسة إسرائيلية قديمة تهدف إلى استغلال الظروف لتدعيم أمنها”.
وأضاف أن “تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، كرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حول دعم الأكراد، ليست سوى تصريحات إعلامية لا ترتبط بمواقف عملية أو تحالفات حقيقية”.
تأمين الحدود
يتبين من ذلك، أن إسرائيل ربما ترى أن الهدف الأساسي من دعم الأكراد، هو تأمين نفسها من ناحية الشمال السوري، بالإضافة إلى السيطرة على الجنوب من خلال تواجدها في الجولان المحتل وفي العمق الذي تقدمت فيه فور سقوط نظام الأسد.
“وبالتالي تسيطر على أطراف كبيرة من الدولة، ومعها بالطبع محاولات لاحقة للتقسيم. لكن في الوقت نفسه، يبدو أن الأمر ليس بهذه السهولة؛ في ذلك معضلات تواجه تل أبيب في تنفيذ لك”.
هذا ما أشار إليه تقرير نشره معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، موضحاً أن التطورات في شمال شرق سوريا، خلقت معضلات لإسرائيل، أبرزها يتعلق بإمكانية سحب القوات الأمريكية في سوريا، والتي يبلغ عددها 2000 جندي أمريكي في سوريا. فمن مصلحة إسرائيل بقاء هذه القوات، كونها ساعدت في قطع الجسر البري الإيراني عبر العراق وسوريا إلى حزب الله في لبنان.
ووفق المعهد، فإنه من ضمن المعضلات التي تواجه إسرائيل في الشمال السوري، علاقتها بتركيا، مشيراً إلى أنه إذا دعمت إسرائيل قوات سوريا الديمقراطية، ستنظر أنقرة إلى ذلك باعتباره تحولاً كبيراً في سياسة الأولى، الأمر الذي يستلزم دراسة متأنية للعواقب المترتبة على مثل هذا القرار.
ويؤكد التقرير على أن “أيّ تحدّ إسرائيلي لمصالح تركيا في شمال سوريا، قد يزيد من احتمالات نشر القوات التركية في جنوب سوريا. وحينها، ستبرر تركيا ذلك بحجة الدفاع عن السيادة السورية ودعم الجيش السوري، الذي يعيد الآن تنظيم نفسه، وسيتلقى معدات من صناعة الدفاع التركية.
رهان على الحصان الخطأ
وفي هذا السياق، ذكر موقع “إسرائيل هيوم”، أن “هناك أصوات تحذر من اتباع مسار دعم الأكراد، خاصة أنه قد يؤدي إلى تفاقم الصراع مع الأتراك ويعرض المصالح الإسرائيلية للخطر، مشيراً إلى أنه سوف يجري تفسير دعم الأكراد في أنقرة على أنه يعطي دفعة للتهديد الكردي لسلامة أراضي تركيا”.
وترى هذه الأصوات، أن “العداء في موقف تركيا تجاه إسرائيل، على الرغم من حدته الحالية، قد يتفاقم أكثر، وليس من الحكمة دفع أردوغان في هذا الاتجاه”، وسط مخاوف من خطوات مقابلة أبرزها عدم السماح بمرور النفط القادم من أذربيجان والمتجه إلى إسرائيل عبر تركيا.
ويعترف تقرير الصحفية الإسرائيلية، بأنه “إذا عمدت تركيا إلى تعميق نفوذها في سوريا، لا سيما إذا شنت عملية عسكرية أخرى لتفكيك الحكم الذاتي الكردي- وفقاً لتهديدات أصدرتها مؤخراً- فإن فرص خروج الأكراد ذوي اليد العليا منخفضة للغاية. وفي مثل هذا السيناريو، فإن ما يبدو على أنه استغلال للفرص من جانب إسرائيل، قد يتبين أنه رهان على الحصان الخطأ”.
إسرائيل تدعم استقلال الأكراد
ولم يكن الحديث عن دعم إسرائيل للأكراد، وليد اللحظة، فللعلاقة جذور تاريخية. في كتابه المعنون بـ”العلاقات التركية الإسرائيلية 2016–2022″، يقول أحمد خالد الزعتري، إن “الوجود الإسرائيلي في كردستان العراق يشكل مصدر قلق دائم لتركيا، خاصة أن علاقات إسرائيل مع الأكراد تؤثر بشكل سلبي على علاقات الدولتين القائمة منذ عام 1949، لما لهذه القضية من حساسية لدى الحكومات التركية المتعاقبة”.
ويؤكد الزعتري على أن تركيا تخشى أن يؤدي الدعم الإسرائيلي للأكراد في شمال العراق إلى قيام دولة كردية، ما يشجع الأكراد في جنوب شرق تركيا على الانفصال عنها، وهو ما لا يمكن أن تقبل به أنقرة.
وتؤكد الحكومة التركية، بحسب ما ذكره المؤلف، أن هناك علاقة بين إسرائيل وأكراد العراق، تعود إلى عام 1967. وتشير بعض المصادر إلى أن الأكراد بدأوا بالعمل على الاتصال بشكل مباشر مع إسرائيل منذ عام 1963، لتساعدهم في تحقيق حلم الأكراد في بناء حكم ذاتي.
وبعد ذلك، أصبح لملف الأكراد أهمية خاصة في إسرائيل، فقد اعترف مناحيم بيجن، الذي كان رئيساً لحكومة إسرائيل عام 1981، في 29 أيلول/سبتمبر من العام نفسه، أن إسرائيل “ساعدت الأكراد بالأسلحة والمال، وأن الخلافات التي كانت تقع بين الفصائل الكردية تسبب لها الإزعاج”.
كما دعمت إسرائيل على لسان رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، استقلال الأكراد عام 2014؛ فخلال حديثه مع معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي آنذاك، قال: “علينا أن نؤيد الجهود الدولية لدعم التطلعات الكردية من أجل الاستقلال. فالأكراد شعب مناضل أثبت التزامه واعتداله السياسي، ويستحق الاستقلال”.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر عام 2024، دعا وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، إلى تعزيز العلاقات مع الأقليات في منطقة الشرق الأوسط، خاصة الأكراد، ووصفهم بأنهم “حليف طبيعي، يتعرضون للقمع من قبل تركيا وإيران”، مشدداً على “ضرورة تعزيز إسرائيل للعلاقات معهم”.
ما غرض إسرائيل من دعم الأكراد؟
ولا يمكن بأي حال، فصل أهداف إسرائيل الحالية من التفكير في دعم الأكراد، عن أهدافها السابقة. إذ تشير رنا خماش، في مؤلفها المعنون بـ”العلاقات التركية–الإسرائيلية وتأثيرها على المنطقة العربية”، إلى أن إسرائيل كانت تدعم الأكراد للحصول على استقلالهم الذاتي لإبعاد العراق عن الصراع العربي الإسرائيلي في فلسطين، من خلال تشتيت تركيزه واستنزاف طاقاته وموارده في النزاع مع الأكراد.
وتعلق الكاتبة على ذلك هذا الدعم قائلة: “بينما تمد إسرائيل الأكراد في العراق بالسلاح لتقرير مصيرهم والانفصال عن العراق، صادرت هي نفسها هذا الحق من الفلسطينيين”.
ويؤكد عيدان برير، الباحث في منتدى التفكير الأقليمي بجامعة تل أبيب، في تقرير سابق لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، أن “إسرائيل تحتفظ بعلاقة تاريخية مع الأكراد منذ الستينيات والسبعينيات، عندما عمل عملاء المخابرات الإسرائيلية في كردستان العراق بالتعاون مع الملا مصطفى البارزاني”.
ويشير الباحث إلى أن “إسرائيل ترغب في أن تكون لها شراكة في المنطقة مع دول ليست بالضرورة عربية، وهذه مصلحة واضحة”.
بالطبع، هذه التحركات أثارت قلق تركيا. فعبّر فاتح أربكان، رئيس حزب “الرفاه من جديد”، عن مخاوفه بشأن ما يحدث في سوريا، متوقعاً أن يجري تقسيم سوريا إلى أربع دويلات، وتشكيل منطقة حكم ذاتي لحزب “الاتحاد الديمقراطي”، و”وحدات حماية الشعب” الكردية، على الحدود التركية.
وأشار أربكان إلى تقارير في الصحف الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية، تتحدث عن وجود مفاوضات بشأن تقسيم سوريا إلى دويلات، عبر التخطيط لإقامة أربع مناطق حكم ذاتي، على اعتبارها خطوة من خطوات مشروع الشرق الأوسط الكبير.
من جهته، شدد الرئيس التركي على رفضه أي تقسيم لسوريا بعد سقوط بشار الأسد، قائلاً: “لا يمكننا أن نسمح، تحت أي ذريعة كانت، بتقسيم سوريا، وفي حال لاحظنا أدنى خطر يشي بحصول ذلك، فسنتخذ سريعاً الإجراءات اللازمة”.
وكانت تركيا، خلال السنوات الماضية، قد دخلت في عداء كبير مع الأكراد؛ ما يعني أنه إذا حدث أي تقارب في العلاقات بين إسرائيل والأكراد، ستظل أنقرة في حالة تأهب لمواجهة أي تحركات. كما أن إسرائيل تؤجج بذلك الصراع في المنطقة، وتقسم سوريا إلى طوائف متعددة، بعد محاولات التقرب من الدروز في الجولان، وحزب العمل الكردستاني في الشمال.
ومن ناحية أخرى، يعتقد د. سعدون أن “تصريحات إسرائيلية بهذا الصدد، قد تؤدي إلى تعزيز العداء ضد الأكراد في العالم العربي والإسلامي، مما يعرقل الحلول السياسية للمسألة الكردية في سوريا”.
وربما ينضوي هذا الأمر تحت سياسة إسرائيل المعهودة في دق الأسافين داخل المجتمعات متعددة الأعراف والأعراق في المحيط العربي، لأجل حفظ مصالحها وسيطرتها، حتى لو كان ذلك على المستوى الدبلوماسي فحسب.
رصيف 22
—————————
======================