سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 كانون الثاني 2025
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
—————————————
قرارات مهمة تنتظر سوريا مع دخولها عصرا جديدا/ دارين خليفة ونوح بونسي
سيكون من الضروري أن يكون الاختيار حكيما وسريعا
آخر تحديث 18 يناير 2025
ثمة أمر مؤكد: لم يكن أحد مستعدا لانهيار نظام الأسد. فالسرعة الخاطفة لتقدم قوات المعارضة فاجأت الجميع، كما فاجأهم رحيل بشار الأسد المباغت إلى المنفى في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. وبعد مرور أسبوعين، رأينا أثناء زيارتنا لدمشق، كيف تغص الشوارع بالاحتفالات، غير أن أجواء من عدم التصديق كانت لا تزال تخيم على الحشود المبتهجة. البعض عاد إلى العاصمة بعد سنوات من الغياب، بينما وطأها آخرون لأول مرة في حياتهم.
وسط هذه الأجواء الاحتفالية، كان ثمة شعور ملموس بالإرهاق والقلق من التحديات القادمة، سواء في وسط الحشود في الساحات أم في القصر الرئاسي، حيث يعمل القادة الذين شنوا الهجوم المصيري ثماني عشرة ساعة يوميا لتحديد مسار العهد الجديد في سوريا.
لقد انهار النظام، بعد أكثر من ثلاثة عشر عامًا من الصراع المرير، في هجوم خاطف استغرق أحد عشر يومًا فقط. ولا يزال وقع الأحداث يسير بوتيرة مدهشة. غير أن موضوعا واحدا برز بوضوح في مناقشات مجموعة الأزمات مع قادة سوريا الجدد، ومع شخصيات المجتمع المدني في دمشق، وكذلك مع المسؤولين الإقليميين والغربيين ومسؤولي الأمم المتحدة، وهو أن القرارات التي ستتخذ في الأسابيع المقبلة سيكون لها تأثير دائم على النظام السياسي السوري.
أسئلة تتعلق بالإدماج والتشاركية
بعد أيام قليلة من توليها زمام الأمور في دمشق، فإن “هيئة تحرير الشام”، الفصيل الذي قاد العمليات العسكرية التي اطاحت بالنظام، شكلت حكومة تصريف أعمال مؤلفة في معظمها من الشخصيات نفسها التي قادت “حكومة الإنقاذ”، التي كانت تدير محافظة إدلب في شمال غربي البلاد بداعم من “الهيئة”. وأعرب كثير من السوريين، ومعهم مسؤولون إقليميون وغربيون، عن قلقهم من أن يكون الاعتماد حصرا على هذه الشخصيات المقربة من “الهيئة” مؤشرا على نية للاستئثار بالسلطة، لا بل حتى فرض حكم إسلامي في جميع أنحاء البلاد.
قال زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع (الذي كان يُعرف حتى وقت قريب باسمه الحركي أبو محمد الجولاني)، في حديثه إلى “مجموعة الأزمات الدولية”، إن عمل حكومة تصريف الأعمال أمر مؤقت، وتعيينها لم يكن سوى إجراء اتخذته “الهيئة” لتجنب فراغ واستعادة الخدمات في أسرع وقت ممكن. وقال إنه يعتبر قدرة الحوكمة التي اكتسبتها “الهيئة” و”الإنقاذ” في إدلب، والعلاقات القائمة على الثقة بين المسؤولين هناك، قد قدمت فائدة كبيرة في هذه المرحلة المبكرة المضطربة التي تلت سقوط نظام الأسد. وأقر بأن مقاربة “الهيئة” و”الإنقاذ” في إدلب لا يمكن أن يكون نموذجا لسوريا ككل، نظرا لتنوعها الثقافي والأيديولوجي الكبير. لكنه أكد على أن المنفعة العملية لحكومة تصريف الأعمال، تتفوق على عيوب تجانسها، في هذه الفترة الانتقالية.
غير أن هذه العيوب غدت واضحة بالفعل. ويشعر كثير من السوريين من جميع التوجهات السياسية بالقلق من أصول “هيئة تحرير الشام”، التي كانت حتى عام 2016 تابعة لتنظيم “القاعدة”، وقبل ذلك لتنظيم “داعش”. وهم يرون أن الفسيفساء العرقية والدينية والثقافية لبلادهم لا تتمثل إلا قليلا في حكومة تصريف الأعمال. وكثيرون ممن يقدرون دور “هيئة تحرير الشام” في الإطاحة بالأسد، ونجاحها في تجنب انهيار الأمن والخدمات الحكومية الأساسية منذ ذلك الحين، يشعرون بالقلق أيضا من مؤشرات التجاوز الأيديولوجي. فقد أدلى مسؤولون في حكومة تصريف الأعمال بتعليقات تلمح إلى تقييد الدور السياسي للمرأة، وسارعوا إلى إدخال تغييرات على مناهج التعليم الإسلامي. كما كُشف عن أن وزير العدل المؤقت أشرف في عام 2015 على إعدام امرأتين متهمتين بـ”الفساد والدعارة”. وقد أثارت هذه التصريحات والاكتشافات الصادمة انتقادات واسعة النطاق، وهي تقوض التصريحات العلنية لقادة “هيئة تحرير الشام” بالتزامهم بحماية التنوع في سوريا.
ومن المرجح أن يظهر مزيد من الخلافات الأخرى، مع تولي حكومة تصريف الأعمال- التي تشكلت من إدلب ولحكم إدلب- مسؤولية إدارة معظم أنحاء البلاد. وفي إدلب، كان المتشددون الإسلاميون في الغالب هم من ينتقدون “هيئة تحرير الشام” على قراراتها. أما الآن فعلى مسؤولي حكومة تصريف الأعمال الاهتمام بالملاحظات والمخاوف من أطياف أوسع بكثير. وما يزيد من التحدي أن الشرع نفسه، إلى جانب حلقة صغيرة من كبار الشخصيات الموثوقة، تحملوا في السابق قدرا كبيرا من عبء التعامل مع القضايا السياسية الحساسة. وقد شكل هذا الحمل المفرط على القيادة مشكلة عندما كانت “الهيئة” تسيطر على إدلب وحدها، فما بالك بالآن وقد زادت كمية العمل أضعافا مضاعفة.
يقول الدبلوماسيون الأجانب ومسؤولو الأمم المتحدة وقادة “هيئة تحرير الشام” على حد سواء، إن الحل هو الإدماج والشمول : أي أن تكون المؤسسات الانتقالية أكثر تمثيلا للمجتمع السوري مما عليه حكومة تصريف الأعمال بكثير. إلا أن الإدماج مفهوم بسيط إلى حد الخداع. فلا أحد لديه رؤية ملموسة عما قد يعنيه في الممارسة العملية.
تعرف “هيئة تحرير الشام” ما الذي تريد تجنبه، أي تريد أن تتجنب التقسيم الواضح للمناصب على أسس عرقية ودينية، وهو النظام الذي ينظر إليه كثيرون على أنه قوض الحكم، بينما رسخ الطائفية، في كل من العراق ولبنان المجاورين.
كما ينفر كثير من السوريين من النهج الذي اتبعته الإدارة الذاتية في شمال شرقي البلاد، بقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد). إذ تضم هذه الإدارة مجموعة متنوعة من المسؤولين الشكليين، لكنهم لا يتمتعون بسلطة تذكر، بينما تقع السلطة الحقيقية في أيدي كوادر من حزب كردي واحد.
لكي تبدأ “هيئة تحرير الشام” في التعامل ا مع هذا التحدي، بإمكانها أن تتخذ خطوتين فوريتين:
أولاهما، إجراء تغييرات في طاقم حكومة تصريف الأعمال، تضمن أن تتمتع بالكفاءة والخبرة اللازمتين لاتخاذ قرارات سليمة. وأحداث الأسبوعين الماضيين تعكس مدى إلحاح هذه القضية، فمحاولة الاستمرار، حتى خلال هذه الفترة الانتقالية القصيرة، مع هيئة حاكمة ضيقة كهذه، ستؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية. ومن المهم أيضا أن تتجنب حكومة تصريف الأعمال اتخاذ تدابير مثيرة للانقسام في القضايا الثقافية أو الدينية.
ثانيتهما، بإمكان قادة “هيئة تحرير الشام” بناء الثقة مع سوريين مؤثرين وموهوبين من مختلف الأطياف الثقافية والسياسية في البلاد، بمن فيهم من هم في الشتات، ثم التحرك بسرعة لوضعهم في مناصب تمكنهم من المساعدة في تشكيل السياسة.
تتمتع “هيئة تحرير الشام” بخبرة في النصف الأول من هذه المعادلة، ولو على نطاق أصغر، كما يتضح في العلاقات التي أقامتها مع المسيحيين في إدلب مثلا. إلا أن عليها الآن أن تمضي إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، عبر إشراك مجموعة من السوريين الأكفاء، في اتخاذ القرارات التي ستحدد معالم المرحلة الانتقالية.
جداول زمنية مختلفة لتحديات مختلفة
ولكن ما الذي ينبغي أن يلي هذين التصحيحين للمسار؟ بعد الإطاحة بنظام الأسد بوتيرة مذهلة، تبدو “هيئة تحرير الشام”، وبشكل مفهوم، ميّالة إلى مواصلة العمل بالسرعة ذاتها في رسم معالم المرحلة التالية. وصرّح الشرع لمجموعة الأزمات في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2024 قائلاً: “نحن نسير بسرعة ألف كيلومتر في الساعة”، في إشارة إلى خطط “الهيئة” لعقد مؤتمر حوار وطني يضم ألف مشارك في الأسابيع القادمة. وتنظر “الهيئة” إلى هذا المؤتمر باعتباره منصة لإطلاق عملية انتقال ذات مسارين: الأول حل جناحها العسكري مع بقية الفصائل المسلحة، تمهيدا لدمجها في جيش موحد، والثاني تشكيل لجان تعمل على تعديل الدستور وصياغة الأطر اللازمة للحكم المستقبلي. ومع ذلك، يبرز توتر واضح بين رغبة الهيئة في التحرك بسرعة ، من جهة، ورغبتها في بناء الثقة مع السوريين وكسب الدعم الدولي، من جهة أخرى.
لعل من المفيد لصناع القرار في سوريا وفي الخارج، الذين يدرسون كيفية تسريع عملية الانتقال ومقاربتها، أن يميزوا بين ثلاث مهام رئيسة: دمج فصائل المعارضة السابقة في جيش موحد، وتحديد مصير قوات سوريا الديمقراطية والشمال الشرقي، وإصلاح الحكم بما في ذلك الدستور.
المهمة الأولى، التي تنطوي على دمج فصائل المعارضة السابقة في جيش واحد، مهمة يبدو التحرك السريع فيها حكيما. فقد تنافست الفصائل المتحالفة مع النظام وفصائل المعارضة على الأراضي والموارد، مما أدى إلى استنزاف فعاليتها العسكرية وتغذية اقتصاد حرب قائم على الاستغلال. وكان للكثير منها رعاة خارجيون. وسوف تحل كارثة بسوريا إذا انحدر نظام ما بعد الأسد إلى مثل هذه الصراعات السابقة. كما ستخسر البلدان الإقليمية الكثير أيضا، إن تكررت حالة عدم الاستقرار التي كانت سائدة زمن الحرب. ولكن كلما يمر الوقت، سوف تبدد النوايا الحسنة التي تتمتع بها “هيئة تحرير الشام” الآن، وتنجذب الجماعات المسلحة نحو ترسيخ نفسها خارج هياكل الدولة.
وإلى جانب دمج فصائل المعارضة السابقة، هناك أيضا مسألة ما الذي ينبغي فعله بما تبقى من الجيش السوري القديم، الذي ذاب معظمه في خضم هجوم المعارضة، بدلا من وقوفه آخر مرة للدفاع عن النظام.
أما المهمة الثانية، وهي إعادة ربط شمال شرقي سوريا بالدولة المركزية، فسوف تتطلب المزيد من الوقت لإجراء مفاوضات منفصلة بين أطراف عدة. فـ”قوات سوريا الديمقراطية” بقيادة الأكراد وإدارتها الذاتية، تحكم سكانا متنوعين وتسيطر على معظم النفط والغاز في سوريا. وتهدف السلطات الجديدة في دمشق إلى استعادة سيطرة الدولة على كامل أنحاء الشمال الشرقي في الأشهر المقبلة.
وتنشر الولايات المتحدة مئات من قواتها في تلك المنطقة، كجزء من قوات التحالف التي تسعى إلى القضاء على “داعش”، وكذلك لحماية “قوات سوريا الديمقراطية”، التي كانت لسنوات شريكها السوري الرئيس. ولكن في الوقت نفسه، لا تزال “قوات سوريا الديمقراطية” مرتبطة ارتباطا عميقا بـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي يخوض منذ عقود تمردا في تركيا. وترعى أنقرة الفصائل المسلحة السورية التي تقاتل “قوات سوريا الديمقراطية” منذ عام 2018. كما أنها قتلت الكثير من كوادر “قوات سوريا الديمقراطية”، بوصفهم جزءا من “حزب العمال الكردستاني”، الذي تصنفه (إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) كمنظمة إرهابية. وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول 2024، أدى هجوم مدعوم من تركيا إلى طرد “قوات سوريا الديمقراطية” إلى خارج منبج، المدينة الواقعة في شمال شرقي سوريا، بواسطة أميركية. إلا أن هذه الوساطة الأميركية حالت أيضا دون اتخاذ خطوة مماثلة تجاه مدينة كوباني ذات الأغلبية الكردية، أقله في الوقت الراهن.
ومع أن نهاية هذه الملحمة تلوح في الأفق، فلا يزال ممكنا أن تسوء الأمور. فقد انخرطت أنقرة في مبادرة سياسية لإنهاء الصراع مع “حزب العمال الكردستاني”. ومع أن الفرصة في بدايتها، فإنها مهمة، فقد أبدى الجانبان استعدادهما لوضع القضايا الكبرى على الطاولة، بما في ذلك إنهاء تمرد “حزب العمال الكردستاني” وتوسيع نطاق حقوق الأكراد في تركيا.
وفي سوريا المجاورة لتركيا، تحظى أنقرة بفرصة تحقق فيها بالمفاوضات ما هددت بتحقيقه بالقوة في أحيان كثيرة، أي منع المسلحين الأكراد من استخدام الشمال الشرقي من سوريا، كقاعدة خلفية لشن هجمات على الأراضي التركية. وإذا تقدم الحوار إلى الأمام، فسوف ينفتح المجال أيضا أمام “قوات سوريا الديمقراطية” لإبرام اتفاق مع دمشق بشأن الاندماج ضمن الدولة السورية. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن أي صدام بين تركيا وحلفائها من جهة، و”حزب العمال الكردستاني” أو “قوات سوريا الديمقراطية” من جهة أخرى، قد يعرقل المحادثات ويخرجها عن مسارها. كما يمكن أن يعرقلها أي تحركات متسرعة من أطراف أخرى، مثل ذلك القرار الأميركي المفاجئ بسحب القوات من الشمال الشرقي أو محاولة دمشق الاستيلاء على أراض من “قوات سوريا الديمقراطية”.
وسيكون على كل الأطراف المعنية أن تتحلي بالصبر إذا كانت تريد للحوار أن يسفر عن حل سلمي.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، ستكون الوتيرة المدروسة حاسمة أيضا بالنسبة للمهمة الانتقالية الثالثة المتمثلة بإصلاح الحكم. فبناء الثقة ضرورة حتمية لتمكين القيادة المؤقتة وغيرها من السوريين المؤثرين من معالجة القضايا المعقدة والمثيرة للانقسام. وقد أرجأ الشرع موعد مؤتمر الحوار الوطني، الذي كان مقررا بداية في أوائل يناير/كانون الثاني. ولا ضير أيضا من تأجيله لفترة أطول، بهدف توفير المزيد من الوقت للتحضيرات اللازمة لضمان المشاركة المتنوعة والهادفة، فالأمر الأكثر أهمية هو أن تحظى لجان المتابعة المكلفة ببلورة الإصلاحات بالوقت الكافي لدمج سوريين مؤهلين من خلفيات متنوعة ومشارب متعددة وتوفير الفضاء الضروري للتأكيد على الاستماع إلى وجهات نظرهم حول القضايا الثقافية والدينية الحساسة.
ومن المفيد أيضا التنسيق مع الأمم المتحدة كي تلعب دورا مباشرا في هذه العملية. حيث يمكن لمكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا أن يعمل مع دمشق للمساعدة في ضمان أن تكون لجان المتابعة مؤهلة ومتنوعة ومدعومة من قبل ذوي الخبرة الفنية في هذا المجال. كما يمكن للمكتب دعم السلطات في توضيح الإطار الانتقالي، من أجل تهدئة المخاوف بين السوريين والجهات الخارجية من تصرفات تعسفية. والأمر الأكثر أهمية هو أنه يمكن للأمم المتحدة أن تعمل أيضا كحلقة وصل بين السلطات الجديدة والدول الغربية والإقليمية التي أوضحت أنها لن تسعى إلى تخفيف العقوبات أو تقديم مساعدات لإعادة الإعمار أو السماح بالوصول إلى المساعدة من المؤسسات المالية الدولية إلا إذا تحقق انتقال سياسي شامل وذو مشاركة واسعة ومتنوعة. والأمم المتحدة هي الأقدر على طمأنة هذه الدول بأن مثل هذا الانتقال يتقدم على مسار إيجابي، وهو الأمر الذي سوف يمنحها الغطاء السياسي الذي تحتاجه للبدء بمساعدة دمشق بجدية.
بين العدالة والاقتصاص
على الرغم من الهدوء النسبي الذي يخيم على العاصمة، تعيش المناطق الساحلية والوسطى في سوريا على وقع توتر متصاعد، حيث تطفو على السطح المظاهر الطائفية للانقسامات السياسية التي أفرزتها الحرب بأبشع صورها. فمن جانب، لا ريب في أن نظام الأسد خلّف إرثا ثقيلا من الضغينة الطائفية، نتيجة سياساته القائمة على العقاب الجماعي واعتماده على عناصر أمنية وعسكرية تنتمي إلى الأقلية العلوية أكثر من غيرها، مدعومة بميليشيات شيعية أجنبية. ولكن تحول المعارضة المسلحة إلى التشدد الإسلامي ، خاصة بين عامي 2012 و2016، تسبب بدوره بتفاقم المشكلة، وهو الأمر الذي وفر مادة دسمة للنظام لإثارة الخوف الطائفي. غير أن المجتمعات التي نظر إليها النظام على أنها مؤيدة للمعارضة أو اعتبرها الحاضنة الشعبية لها تعرضت لأكثر أنواع الوحشية الممنهجة في الصراع، حيث قُدِّر عدد القتلى المدنيين بمئات الآلاف.
وبالنتيجة، تتعالى المطالبات بين السوريين بمعاقبة مجرمي الحرب وسط مخاوف- ولاسيما بين العلويين- من أن تدفع الفئات التي استغلها النظام كوقود لحروبه ثمن الأهوال التي ارتكبها كبار المسؤولين الذين فروا من البلاد. ويبدو الاستقطاب الحاد واضحا بالفعل في الحوارات السائدة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يصر البعض على الانتقام السريع والواسع، ويخشى آخرون أن تفتح الدعوات إلى العدالة الانتقالية الباب على مصراعيه للعنف العشوائي. وتعمل الحالات الموثقة من الاقتصاص الطائفي الصريح والمعاملة المهينة على تأجيج هذه المخاوف وتوفير تربة خصبة لحملات التضليل التي تسعى إلى تصوير النظام السوري الجديد على أنه تهديد وجودي للأقليات. ووفقا لمعظم الروايات، فقد قامت جماعات مسلحةوأفراد خارج “هيئة تحرير الشام” بارتكاب عمليات قتل واختطاف ونهب متكررة، مستهدفة أفرادا من الأقليات. وكثيرا ما كانت قوات “هيئة تحرير الشام” عاجزة عن منع هذه الأعمال، ما يفتح الباب واسعا أمام خطر قيام السكان المحليين بتولي الأمور بأيديهم.
وسيبقى التعامل مع هذه الضغوط المتزاحمة تحديا شائكا للسلطات الجديدة في البلاد، ولكن ثمة خطوات فورية يمكن لهذه السلطات أن تتخذها للحد من التوتر، فيمكنها أولا اعتماد نهج مؤسسي شفاف للعدالة الانتقالية، يشمل تحديد هوية المعتقلين وأسباب اعتقالهم وفي أي محاكم سيخضع المتهمون للمحاكمة.
ثانيا، يمكنها التصرف بشكل أكثر حزما لوقف عنف الجماعات المسلحة ومعاقبة أي انتهاكات تسجَّل.
كما أن دمج فصائل المعارضة السابقة في القوات الموحدة وتوضيح أن الدولة وحدها هي المخولة بملاحقة المجرمين سوف يعزز هذه الجهود.
ثالثا، يمكنها تعميق التواصل مع الوجهاء المحليين للحصول على إرشادات حول التهديدات أو الاحتياجات الخاصة بمناطق معينة، إلى جانب البدء في تنويع مجموعات التجنيد لقوات الأمن المحلية.
رابعا، يمكنها توسيع نطاق العفو المعروض بالفعل على الجنود العاديين من خلال تنظيم عمليات مصالحة مع كبار الضباط من عهد الأسد الذين لم يتورطوا في جرائم شنيعة. وخلال الحرب، أظهر قادة “هيئة تحرير الشام” موهبتهم المميزة في التوصل إلى تفاهمات مع الأعداء السابقين. إن القيام بالشيء نفسه مع أعضاء محددين من جيش نظام الأسد سوف يعمل على تهدئة المخاوف ويساعد على الحد من خطر التمرد الذي قد يتبناه عناصر النظام السابق.
التصنيفات الإرهابية
فرضت الولايات المتحدة الأميركية ومجلس الأمن الدولي والدول الأوروبية عقوبات على “هيئة تحرير الشام” بسبب انتمائها السابق إلى تنظيم “القاعدة”، بموجب سلطات مختلفة لمكافحة الإرهاب. وكان تصنيف واشنطن للمجموعة كمنظمة إرهابية أجنبية (FTO) هو الأكثر خطورة من بين تلك التصنيفات. ولأن هذا التصنيف يجرّم تقديم “الدعم المادي”- وهو مصطلح تقني واسع التعريف يمكن أن يغطي كل شيء من فنجان قهوة إلى تقديم الخبراء لأي نوع من المشورة- فإن وضع “هيئة تحرير الشام” كمنظمة إرهابية أجنبية يجعلها مشعة قانونيا، ما يقيد بشكل قاس قدرة الجهات الفاعلة الخارجية على العمل معها. أما اليوم وبعد أن أصبحت “هيئة تحرير الشام” هي القوة الدافعة للانتقال السياسي في سوريا، فإن هذا التصنيف وغيره من التصنيفات الإرهابية يهدد بإيذاء الجميع في البلاد من خلال منع الاستثمار والمشاركة الخارجية التي تحتاج إليها سوريا بشدة.
وقد عملت “هيئة تحرير الشام” بالفعل على تصحيح العوامل الأساسية التي أفضت إلى تلك التصنيفات، حيث فرضت الولايات المتحدة أول تلك التصنيفات في عام 2012، عندما كانت المجموعة تعمل تحت اسم “جبهة النصرة”. فقد انفصلت “الهيئة” عن “داعش” في عام 2013، ثم عن “القاعدة” في عام 2016، ثم قاتلت وفككت فروع كلتا المنظمتين في إدلب. ومع رحيل المتشددين أو طردهم، غيرت “هيئة تحرير الشام” سلوكها أيضا في ساحة المعركة (من خلال وقف القصف في المناطق المدنية على سبيل المثال) وفي أسلوب الحكم (من خلال حماية الأقليات في المناطق الخاضعة لسيطرتها وإعادة الممتلكات التي استولى عليها المتمردون تدريجيا أثناء الحرب). إن أياً مما سبق لا يعني أن “هيئة تحرير الشام” أصبحت ليبرالية أو ديمقراطية. لكن يبدو أنها قطعت العلاقات وتوقفت عن الأعمال التي كانت السبب في تصنيفها كمجموعة إرهابية. ولهذا التاريخ أهمية خاصة، فهو يعني أن صناع السياسات الذين يفكرون في إلغاء التصنيفات الإرهابية يمكنهم الحكم على سجل طويل الأمد، بالإضافة إلى الخطاب التصالحي الحالي الذي تتبناه “هيئة تحرير الشام”.
يتفق صناع السياسات على أن العقوبات ينبغي أن تكون وسيلة لتشجيع تغيير السلوك، وليست حكما بالسجن مدى الحياة دون إمكانية للإفراج المشروط. في أوائل عام 2021، نشرت مجموعة الأزمات الدولية “Crisis Group” مقالا يوضح آلية لوضع هذا المنطق موضع التنفيذ، من خلال تحديد المعايير التي، طالما التزمت بها الجهة المعنية، ويمكن أن تؤدي إلى قيام الولايات المتحدة وغيرها بإلغاء تصنيفات الإرهاب بشكل مشروط. وهذه الأفكار، التي لم تُعتمد بشكل رسمي، أصبحت أكثر أهمية.
ويمكن للولايات المتحدة أن تقود الطريق. فإدارة ترمب القادمة قادرة على أن توضح بالتفصيل ما يتعين على “هيئة تحرير الشام” وقادتها القيام به لإلغاء تصنيفات الإرهاب الأميركية، ثم تقييم ما إذا كانت قد امتثلت لهذه الطلبات. وينبغي للمعايير أن تركز على النشاط الإرهابي، مع ترك المخاوف الأخرى جانبا (مثل السلوك الاستبدادي والتشاركية في الانتقال السياسي). ومن المؤكد أن الولايات المتحدة ستولي اهتماما خاصا لابتعاد “الهيئة” عن استخدام العنف ضد المدنيين وارتباطاتها بالجماعات الإرهابية الدولية، وفي الوقت نفسه منعها استخدام الأراضي السورية في العمليات المسلحة العابرة للحدود الوطنية. وإذا كانت المصادر المفتوحة تشكل دليلا، فإن “هيئة تحرير الشام” قد استوفت بالفعل هذه المعايير إلى حد كبير.
وللمضي قدما، يمكن للمسؤولين الأميركيين أيضا السعي للحصول على التزامات مشددة من قادة “هيئة تحرير الشام” بأنها سوف تتعهد بامتثال المقاتلين الأجانب والفصائل التي قاتلت إلى جانبها أو تحالفت معها، وباستستخدام سلطتها لمنع الأعمال الانتقامية أو أي شكل آخر من أشكال العنف ضد المدنيين؛ وأنها ستواصل محاربة “داعش”. وإذا لم تفِ “هيئة تحرير الشام” بهذه الالتزامات، يمكن لواشنطن إعادة فرض التصنيفات الملغاة في أي وقت ما دامت المتطلبات القانونية متحققة.
التفكير في العقوبات الغربية
تحظى العواصم الغربية بمصدرين رئيسين آخرين للضغط على السلطات السورية الجديدة، وهما: العقوبات غير المرتبطة بالإرهاب والتي ما زالت تضيق الخناق على اقتصاد البلاد. وخيار تقديم الدعم لإعادة إعمار سوريا. ولدفع السلطات الجديدة نحو الإصلاح مع الحد من الأضرار الاقتصادية غير المقصودة، لا بد للدول الغربية من التمييز بين هاتين الرافعتين وتحديد المبادئ السياسية لكل منهما.
أولا، يجب على الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية تقديم إعفاء سريع للعقوبات المفروضة على نظام الأسد. فمن غير المعقول مطالبة المجتمع السوري بتقديم المزيد من التضحيات وتحمل العواقب الاقتصادية الهائلة لجرائم النظام السابق، كما يتحتم على صناع القرار أن يعملوا بالسرعة القصوى لتنفيذ هذا المبدأ. ولكن نظرا للتعقيد التقني والسياسي للعقوبات، يمكن للحكومات كممارسة عملية على أرض الواقع أن تسعى إلى رفع تلك العقوبات على مراحل. وتشكل التدابير الفورية التي تقدم الإغاثة خطوة إيجابية مهمة، كتلك التي اتخذتها الولايات المتحدة في 6 يناير/كانون الثاني، عندما أقرت ترخيصا عاما لمدة ستة أشهر يسمح بالتعاملات مع الحكومة السورية وقطاع الطاقة، وينبغي لإدارة ترمب أن توفر المزيد من الإغاثة الفورية من خلال إصدار تراخيص إضافية لقطاعات مهمة أخرى، مثل الخدمات المصرفية، بالإضافة إلى تمديد الترخيص العام الحالي إلى أجل غير مسمى. ويجب على الدول الأوروبية أن تحذو حذو الولايات المتحدة. غير أن مثل هذه التدابير الجزئية لن تقلل من التداعيات الاقتصادية للعقوبات إلا بشكل هامشي. ولتمكين حجم الاستثمار الذي تحتاجه سوريا، ينبغي لهذه البلدان أن تعمل بشكل مطرد على رفع كامل العقوبات بحلول نهاية عام 2025، وتحديد معايير واضحة وواقعية يتعين على قادة سوريا الجدد تلبيتها كشروط. إن الإجراءات التي تتخذها السلطات السورية الجديدة لإثبات أنها تتجنب القمع العنيف، وتتخذ خطوات لحماية الحقوق المتساوية للسوريين بمختلف أطيافهم، وأنها لا تدعم الأنشطة التي تزعزع الاستقرار في بلدان أخرى، قد تكون في صميم المعايير التي تضعها الحكومات الغربية. وفي الوقت الذي ترفع فيه العقوبات، يمكن لتلك الدول الحفاظ على نفوذها من خلال توضيح استعدادها لوقف العملية، أو فرض عقوبات جديدة، في حال أخلّت دمشق بالتزاماتها.
ثانيا، يجب على الدول الغربية أن تستخدم مساعدات إعادة الإعمار للتشجيع على الالتزام المستمر بالحكم التشاركي غير الإقصائي وإفساح المجال أمام المجتمع المدني. وينبغي لها أن تبدأ بتقديم مثل هذا الدعم بمجرد تشكيل هيئات انتقالية تمثل المجتمع السوري بمختلف أطيافه. بيد أن تقييم التشاركية وعدم الإقصاء قد يكون أمرا إشكاليا، وخاصة بالنسبة للبيروقراطيات الأجنبية، وسوف يصبح الأمر شائكا أكثر بمجرد أن تتجاوز سوريا المعالم الواضحة للفترة الانتقالية. إن أفضل المدافعين عن التشاركية والإدماج وأكثرهم دراية سوف ينهضون من بين صفوف المجتمع المدني النابض بالحياة الذي طوره السوريون داخل وخارج البلاد، ويتعين على الغرب أن يربط دعمه المستقبلي للمؤسسات الحاكمة بما إذا كانت السلطات تحترم حريات التعبير وتكوين الجمعيات اللازمة لتمكين المجتمع المدني من الاضطلاع بهذه المهمة.
ومن الجدير ذكره أن الناشطين السوريين منخرطون بعمق في المسائل الجوهرية المتعلقة بالحكم، وقد نجحوا بالفعل في الوقوف بشكل فعال بوجه الأخطاء التي ارتكبتها حكومة تصريف الأعمال. فعلى سبيل المثال، دفعت أصواتهم التي علت بشأن التغييرات المقترحة على مناهج التعليم لتصبح ذات طابع إسلامي إلى توضيحات سريعة من قبل وزارة التعليم المؤقتة واعتراف من قبل قادة “هيئة تحرير الشام” بأن ثمة حاجة إلى التماس تغييرات بين الموظفين لتجنب المزيد من الحوادث المماثلة.
وباختصار، لا ينبغي للحكومات الغربية أن تتدخل في الجدالات الدائرة بين السوريين، بل ينبغي لها أن تستخدم نفوذها المالي لمساعدة المجتمع المدني على لعب دور حيوي في بناء سوريا التي توفر لكافة أبناء شعبها الحقوق والفرص والحماية التي حرموا منها لفترة طويلة.
المقال نشر في موقع “مجموعة الأزمات الدولية”، وينشر في “المجلة” باللغة العربية بإذن مسبق.
المجلة
————————
هؤلاء المقاتلون الأجانب مع هيئة تحرير الشام/ محمد أبو رمان
19 يناير 2025
يشكّل موضوع المقاتلين الأجانب في سورية هاجساً لأطراف عديدة، سواء للدول الغربية والعربية من جهة، أو السوريين المدنيين والأقليات بخاصة من جهةٍ ثانية، ولهيئة تحرير الشام في التعامل مع مصيرهم من جهةٍ ثالثة، وقد طرحت هذا الموضوع علناً، كما تؤكّد أوساط دبلوماسية غربية وعربية، الوفود الأميركية والفرنسية والألمانية التي زارت دمشق، وكذلك المسؤولون العرب الذين التقوا قادة هيئة تحرير الشام، وبدت هنالك حالة من عدم الارتياح من إعلان الهيئة أسماء عدد من هؤلاء الأجانب في الجيش الجديد، من الأردن ومصر وتركستان الشرقية.
لا يُخفي قادة الهيئة في حديثهم مع المسؤولين العرب التزامهم الأخلاقي مع الذين ساندوا الهيئة والشعب السوري في التخلّص من النظام السابق، فهم لا يستطيعون اليوم التضحية بهم بدعوى الموقف الغربي والعربي. ولعلّ بعض الدول العربية، مثل الأردن وقطر، تتفهّم موقف الهيئة، لكن ذلك لا ينفي التفكير في حل استراتيجي يرضي الداخل والخارج، ويجري الحديث هنا منحهم الجنسية السورية، وتوطينهم، لمن يرغب منهم في ذلك، أما من يرفضون، فيمكن أن يطلب منهم الرحيل والمغادرة أو إيجاد مكانٍ آخر لهم.
بالطبع، قد يثير مثل هذا السيناريو مخاوف داخلية سورية، لكن من الضروري التوضيح هنا أنّنا لا نتحدث عن عدد كبير (بالمناسبة) من المقاتلين الأجانب المتبقين مع هيئة تحرير الشام، فهنالك الحزب الإسلامي التركستاني (ITP)، وغالبّيته من المسلمين الصينيين الأوغور، وعددهم المتوقع قرابة 3800، وفقاً لتقارير أمنية غربية، ويقيمون بالقرب من إدلب، بخاصة في منطقة جسر الشغور، ومعهم عائلاتهم، ويعتبرون القتال في سورية بمثابة مرحلة مؤقتة أو عابرة إلى حين العودة إلى مناطقهم والقتال ضد الصينيين. لذلك من المتوقّع أن غالبيتهم ستفضّل الانتقال إلى ساحات قتال أخرى، مثل أفغانستان وربما أوكرانيا أو غيرها.
الجهات الأخرى محدودة العدد، ففي داخل الهيئة لم يتبق إلا القليل جداً، بعدما انفصلت أغلب المجموعات القادمة من الخارج، بخاصة الأردنيون الذين كان لهم دور في تشكيل تنظيم حرّاس الدين، وهو تنظيم محدود وضعيف، وقد قتل عدد كبير من قادته، بينما الآخرون تحت الإقامة الجبرية من الهيئة، وهنالك من تبقوا من تنظيم المهاجرين والأنصار، الذي أسّسه أبو عمر الشيشاني، وانقسم التنظيم على نفسه مع انضمام الشيشاني إلى تنظيم داعش مع مجموعة كبيرة (قبل أن يُقتل في العراق)، وما تبقى اندمج مع الحزب الإسلامي التركستاني، وأصبحوا وحدة قتالية صغيرة فيه، وهنالك أيضاً كتيبة البلقان المكونة من مقاتلين من أوروبا والبلقان، والعدد كذلك قليل، إذ تفيد تقديرات بأنّهم لا يتجاوزون 200-300 مقاتل في أحسن الأحوال.
يبدو تطبيق نموذج البوسنة الحل الأمثل لهذه الفئات؛ لكن ضمن إطار عملي توافقي سوري وإقليمي، مثل أن يكون هنالك نزع سلاح الفئات التي ترغب في الاستقرار في سورية، وأخذ الجنسية هناك، وإدماجهم ضمن المجتمع السوري، وهنالك شريحة منهم تزوّجت من سوريات وأنجبت هناك، وأن يكون هناك برنامج فاعل في مكافحة الإرهاب والتطرّف يتولّى الإشراف على هذه العملية والتدقيق في مجرياتها، وكذلك دور توجيهي لمؤسّسات حقوقية وإنسانية ومجتمع مدني داخلي وخارجي.
الحالة الراهنة في سورية حسّاسة وحرجة، والإدارة الانتقالية اليوم تحتاج إلى الموازنة الدقيقة بين الاعتبارات الداخلية المعقّدة والاعتبارات الخارجية، الإقليمية والدولية، لأنّ رفع العقوبات وإعادة الإعمار وبناء سورية تفرض هذه المعادلة. وإلّا فإنّ البديل هو الدخول في حرب بالوكالة مرّة أخرى وصراع أهلي وربما التقسيم، بدعم من دول إقليمية، بخاصة إسرائيل التي يتحدّث بعض قادتها علناً عن التقسيم! ومثل هذه التعقيدات لا تجعل القيادة الجديدة في وضع مريح في التعامل مع الأطراف الداخلية والخارجية، وتضطر، في أحيانٍ كثيرة، إلى قبول متطلباتٍ لا ترغب فيها، ما يشيع حالة من خيبة الأمل لدى مراقبين كثيرين متفائلين بأن تكون سورية مفتاحاً لموجة جديدة من الربيع العربي، من دون إدراك حجم الضغوط والمخاطر والتحدّيات التي تمرّ بها سورية في المرحلة الراهنة.
العربي الجديد،
——————————
نحن والدولة/ حسن مدن
19 يناير 2025
بناء الدولة – الأمة في أوروبا اقترن بفصل الكنيسة عن السياسة، وتحييد الدور السياسي لرجال الدين، لينصرفوا إلى مهمتهم الأساس دعاة للفضيلة والقيم الأخلاقية والعبادات، فيما أدّى ويؤدي تسييس الدين عندنا، وفي مجتمعاتنا المنقسمة مذهبياً، لا إلى إضعاف بنية الدولة الوطنية فقط، بل إلى دحرها وإسقاطها، خصوصاً أنّ هذه الدولة، رغم ما أظهرته من استبداد في علاقتها بمواطنيها في حالات كثيرة، لم تكن راسخة البنيان، وعلى الأرجح بسبب هذا الاستبداد نفسه، رغم انصراف البلدان العربية، بعد نيل استقلالها غداة الحرب العالمية الثانية، نحو تشييد البيروقراطية “الدولتية”، ببناء مؤسسات الدولة، كالجيش والأجهزة الحكومية الأخرى المعنية بشؤون الخدمات والاقتصاد وسواهما.
ورغم أنّ خطاب الوحدة العربية كان، يومها، مدوّياً، سواء من جانب مصر الناصرية، أو من الحركات القومية، كحزب البعث وحركة القوميين العرب وغيرهما، لكن لم يكن متاحاً الانتقال إلى الدولة – الأمة، في سياق عربي شامل، في غياب كيانات قوية للدولة الوطنية، أو القطرية كما يطلق عليها، في كل بلد عربي على حدة، خصوصاً أنّ التنازع على النفوذ كان قوياً بين الدولة باعتبارها جهازاً حديثاً، وما قبل الدولة من بنى قبلية وعشائرية وطائفية وما إليها، فتراجعت الدعوات القومية عن “الأمة العربية الواحدة” لصالح الدعوات نحو “الأمة الإسلامية الواحدة”، وكانت الضحية مرّة أخرى الدولة الوطنية المتعثّرة أساساً في إنجاز بنية متماسكة مدنيّة حديثة.
في الظاهر، يبدو أنّ الدولة الوطنية نجحت في فرض سيطرتها على أراضيها وعلى المجتمع عامة، ولكن ما حدث حقيقة أنّ هذه الدولة كي تفعل ذلك تماهت مع البنى السابقة لها، ونقلت أدوات سيطرة هذه البنى إلى بنى الدولة، التي بدت امتداداً لسلطة القبيلة أو العشيرة أو الطائفة والمذهب، التي اخترقت أجهزة الدولة وهيمنت عليها، وجيَّرتها لصالح “تأبيد” سلطتها، أو إطالتها ما أمكن.
انحيازنا إلى فكرة الدولة مقارنة بما هو سابق لها من بنى تقليدية لا يعني، في أيّ حال، تقديس الدولة في المطلق. هناك الدولة الاستبداديّة والديكتاتوريّة والتسلطيّة، إلخ، التي تُقيم سلطتها على مواطنيها بالقمع والرعب، لكن هذا لا يعني أنّ الخطأ يكمن في فكرة الدولة نفسها، فالأمر يتوقّف على من يُدير هذه الدولة، وبأيّة ذهنية وآليات، ويتوقّف أيضاً على مدى استعداد المجتمع عامةً لفرض الدولة التي تدير الأمور بقوّة القانون لا بمنطق القوّة.
نخلص إلى أنّ الاستبداد مسؤولٌ، بدرجةٍ كبيرة، عن المالآت التي انزلقت إليها الدولة الوطنية في أكثر من بلد، وأن مناهضة هذا الاستبداد و”دمقرطة” الدولة والمجتمع مسلكان ضروريان ومجرّبان لصون هذه الدولة، وتأمين الالتفاف الشعبي حولها في وجه أية مخاطر، أكانت آتية من قوى داخلية تُضمر لأوطانها الشر، أو من تدخّلات واعتداءات خارجية، وهو ما أخفقت فيه دول عربية مفصلية مثل العراق وسورية وسواهما، خصوصاً مع شيوع ما عرف بـ “الفوضى الخلاقة” التي أعملت معاول الهدم في بنية الدولة الوطنية العربية، ونجحت في أكثر من مكان في تفكيكها، وردّ المجتمعات إلى عصبياتها المتأصلة في القاع، أكانت طائفية أم مذهبية أم إثنية، وهو ما استفادت منه قوى إقليمية صاعدة في الجوار العربي تملك أجندات واضحة لتعزيز نفوذها في المنطقة، مستفيدة من حال ضعفنا البيّن، الذي يزداد يوماً عن يوم ولا ينقص.
ضُعف الدولة أو عجزها أو استبدادها لا يُعالَج بتحطيم ما أقامته من مؤسّسات، ومصادرة دورها الوطني الشامل المفترض، بل بالعمل على النهوض بالمجتمع المدني، ليكون رقيباً وشريكاً. وهذه إحدى معضلات واقعنا العربي الراهن، ففي ظلّ هشاشة (وضعف) المجتمع المدني الحديث، المنطلق من فكرتي الحداثة والمشاركة السياسية بأفق ديمقراطي، يجري تسويق فكرة أن كل ما هو خارج الدولة يعدّ افضل منها، دون الوقوف على طبيعة البرامج الاجتماعية والسياسية والرؤى الإيديولوجية المحافظة الناظمة لتوجّه من هم خارج الدولة، ويتعيّن ألّا نُفتن بالشعارات البرّاقة التي تُسوّق بدائل الدولة، بحجّة أنّ الدولة استبدادية، وننساق إلى الوهم أنّ الكيانات التقليدية الموازية، أو التي تريد أن تجعل من نفسها بديلاً للدولة هي أكثر تعبيراً عن هموم المواطنين وتطلّعاتهم، لأنّ هذه الكيانات ردّةٌ إلى الوراء، وتحطيم للمنجز المؤسّساتي الذي حصل، مهما كانت ضآلته وهشاشته، فالمطلوب توسيع هذا الطابع المؤسّساتي وترسيخه وتقويته، لا الارتداد عنه.
العربي الجديد
——————————-
التشكيل في المُختبر الفني السوري: أسئلة التاريخ والجسد/ أشرف الحساني
19 يناير 2025
أعترف أنّ الصديق الشاعر الراحل أمجد ناصر كان المثقف العربي الذي وطّد علاقتي بالمختبر الفني السوري، سواء في التشكيل أو السينما وكذلك في الأدب. إذْ كانت كتاباته الثقافيّة المتعدّدة بمثابة شوقٍ بالنسبة لي لأعرف ما الذي يحصل داخل الجغرافيا السورية منذ بداية الربيع العربي. ومنذ تلك اللحظة بدأت صداقتي تتشكّل مع أسماء كثيرة من أجيال مختلفة داخل الثقافة السورية والتي استطاعت أنْ تؤكد نجاعتها في مجالات مختلفة تتعلّق بالتشكيل والفكر والسينما والأدب والصحافة. إنّها سيرة ثقافية مُركّبة مبنية في أساسها على الصداقات الأصيلة، بعدما يغدو السؤال الثقافي مدخلًا لتوطيد علاقة سحرية قوامها الصداقة والعشق والتعلّم. ورغم أنني لم أذهب يومًا إلى سورية، أشعر أنّ لي دائمًا هناك عائلات وأصدقاء وأحبابا أكثر من داخل البلد الذي أعيش فيه. تابعتُ الوسط الثقافي في سورية بشكل يومي تقريبًا منذ عام 2015 لدرجةٍ شعرتُ أحيانًا وكأنّي أعيش هناك لا هنا. ايميلات يومية ورسائل هاتفية من كتاب وأدباء ومفكّرين وسينمائيين تؤكّد أصالة صداقات ما تزال صامدة أمام الواقع. المختبر الثقافي السوري منذ 2011 إلى الآن يعني لي الشيء الكثير، لأنّه بقدر ما يُمثّل مخاضًا سياسيًا تُوّج بإسقاط أعتى الديكتاتوريات على الأرض، بقدر ما مثّل لي شخصيًا فضاءً لتعلم معنى المقاومة والنضال، سواء داخل سورية أو خارجها. بطريقة تلقائية وضعتني كتابات صاحب “شقائق نعمان الحيرة” وسط المأساة السورية وجعلتني قريبًا من التحوّلات الأنطولوجية التي كان يشهدها الواقع السوري في مجالات تتعلّق بالثقافة والفنّ. ولقد استطاع المَشهد الثقافي السوري تقديم العديد من الأسماء الأدبيّة والسينمائية والتشكيلية. أسماءٌ جديدة تُشكّل اليوم قيمة مضافة إلى الثقافة العربية، انطلاقًا من مؤلفاتها ومعارضها وأفلامها وأغانيها. إنّنا أمام تجربة مركّبة استطاعت التراجيديا اليومية أنْ تُصبغها بطابع التضحية وبعد الالتزام. فلا غرابة أنْ تُطالعنا مجموعة من الدواوين والروايات والقصص مكتوبة بدم الشهداء وبسيرة العابرين صوب حتفهم وبيقين المُنتصرين. إنّها كتابة عبارة عن شهادات إنسانية حيّة نابعة من تحت أنقاض الحرب وميثولوجيات القمع. بيد أنّ الكتابة هنا باعتبارها سيرة شخصية، بقدر ما تبدو ضاجة بالفردانية، خاصّة عند وداد نبي ومناهل السهوي وعماد الدين موسى، فإنّها في لحظةٍ معيّنة تتماهى برقّة مع الجسد السوريّ، لكونها تُصبح في لحظةٍ ما كتابة توثّق تاريخ الأجساد ورحلتها السرمدية داخل سراديبه. إنّ الوعي باللحظة السورية ظلّ بارزًا في تجارب الجيل الجديد، لكونه يكشف عن عمق التجربة الكيانية وحدسها بالسياق التاريخي التحرّري الذي تنتمي إليه وجوديًا وثقافيًا.
ورغم سقوط نظام بشار الأسد، ما تزال كتابات الجيل الجديد تأتي باعتبارها خلاصًا من تاريخ قمعي، ما يزال مُترسّبًا في بنية الوعي الجمعي السوري. إذْ تُظهر كتابات ما بعد مرحلة بشار الأسد أنّ السكين ما يزال موجودًا في أضلع الجسد وأنّ الراهن السوري ليس إلاّ استعادة لمتاهات الماضي، وذلك لأنّنا أمام شكل من الكتابة النوسطالجية التي تغوص في الواقع المتردّي وتحاول عبر جسد الكاتب إعادة تخييل هذا الواقع.
أليست الكتابة في ماهيتها، مهما ارتفع في منسوبها التجريد، تبقى عبارة عن شهادة واقعيّة عن أحوال الكائن داخل فُسحة وجوده؟
من ضمن التحوّلات الكبيرة التي عرفها المختبر السوري تلك التي تتمثّل بشكل أقوى في التشكيل. لقد فرضت العديد من الأسماء السورية مثل عادل داوود وأسعد عرابي وريم يسوف وثائر هلال وإبراهيم الحسون، على سبيل المثال لا الحصر، مواقفها الفكريّة داخل اللوحة ومُتخيّلها الفنّي. إذْ رغم آلام الغربة وقهر الواقع، فرض هؤلاء الفنانون أعمالهم داخل الساحة العربية، بحيث تُعتبر التجربة التشكيلية السورية من التجارب العربية الرائدة اليوم. وذلك لأنّها مبنية على أصالة التجريب الذي يقود المحترف السوري إلى ابتكار مفردات جديدة وآليات تعبير مغايرة، سواء عن طريق المادة أو اللون. إنّ اللوحة عند ريم يسوف (أنظر مثلًا لوحتها أعلاه) ليست مجرّد فُسحة للترفيه، بقدر ما تُمثّل أفقًا للتفكير في الضياع السوري وأسئلة الوجود ومصائب التاريخ. أيْ أنّ سند اللوحة يتجاوز كونه مجرّد وسيط تعبيري مادي لملامسة أحراش الجسد، بل يأتي كمُختبر فكريّ يحاول أنْ يعطي موقعًا جادًا للتراجيديا السورية ويوميّاتها المتحوّلة داخل النظام الرمزي للوحة.
على هذا الأساس، يُسقط عادل داوود الدلالات المعرفية المتعارف عليها أكاديميًا على مستوى اللون وتمثلاته في تاريخ الفنّ، حيث يُصبح عبارة عن تمثل بصري شخصي لما يراه الفنّان في واقعه وجسده وليس العكس. هذا التركيب البصري في إعادة صياغة مفردات جديدة للممارسة التشكيلية السورية تكشف عنه سلسلة من اللوحات الفنّية التي عُرضت على مدار سنوات خارج سورية. برعت ريم يسوف في تصوير حياة اللاجئين السوريين وتصوير مشاهد كثيرة من حياة الأطفال داخل سورية وخارجها. إنّ أعمالها بسيطة من ناحية الشكل والمواد، لكنّها عميقة في بُعدها البصري (أنظر لوحتها أدناه)، ذلك أنّ الرهان على أسئلة اللجوء والواقع والتاريخ والجسد، أعطى لأعمالها دلالات خاصّة في التجربة الجمعية السورية. فكلّما وجدتني أمام لوحة لها أشعر كأنّها تزداد يومًا بعد يوم تجذّرًا في الطفولة وليس العكس.
إنّها تُصوّر بخفّة من دون أنْ تترك المادة واللون يطغيان على الرسم، كما أنّ اللون عندها بارد وخفيف ولا يُريد أنْ يظهر بمظر التباهي والافتتان. إنّ اللون في تجربتها كائنٌ حيّ يرنو إلى الصمت وإلى السكينة وأحيانًا إلى الضياع نفسه. في حين تبقى شخصياتها زئبقية في الزمان والمكان وهائمة في اللونين الأبيض والرمادي. وجوهٌ ليست كالوجوه. لا هي أشباح ولا أجساد ولا أشكال. إنّها بقايا أجساد ممسوخة وهائمة في وحدتها، أحيانًا تبدو وكأنّها تطلب النجدة، وأحيانًا أخرى لا تريد تضامنًا أو شعورًا بالألم تجاهها في المناطق اليباب من العالم، لكنّها بلا ريب عبارة عن لوحات صارخة تطرح أسئلة فكرية عميقة حول الجسد واللجوء، وحول التاريخ والواقع.
ضفة ثالثة،
——————————–
أسئلة معلّقة برسم المركزي السوري/ إياد الجعفري
الأحد 2025/01/19
مرّ الحديث الحصري المباشر والأول من نوعه، لحاكمة المصرف المركزي السوري، ميساء صابرين، قبل أيام، من دون أن يحظى بما يستحق من الجدل والنقاش من جانب المتخصصين السوريين. إذ تركت تصريحات صابرين لوكالة “رويترز”، جملة أسئلة -بعضها ملح للغاية- بلا أجوبة، بصورة توحي وكأن شيئاً نوعياً لم يتغير في عقلية عمل المركزي، بعد سقوط المتحكم السابق به، نظام الأسد المخلوع.
وقبل الولوج إلى الأسئلة المعلّقة، لا بد من الإشارة إلى أن جملة قرارات إيجابية قد صدرت عن المركزي، بالفعل، خلال الشهر الذي تلا سقوط النظام. قد يكون أبرزها، ذاك الصادر قبل أيام، حينما ألغى المركزي سقف الحوالات المالية الداخلية، والذي كان يقيّد حركة الأموال بين المحافظات السورية، بصورة أضرّت بشدة، بالاقتصاد الوطني. لكن في المقابل، فإن الأسئلة المعلّقة في مقابلة حاكمة المركزي، لا تتعلّق بقرارات إجرائية، بقدر ما تتعلّق بعقلية إدارة أعلى مؤسسة نقدية في البلاد، والأكثر تأثيراً في معظم جوانب الاقتصاد الوطني.
في هذا السياق، جاءت اللفتة إلى إعداد مسودة لتعزيز استقلالية المركزي، تلك التي أشارت إليها الحاكمة، متضاربة مع التحفظات التي أبدتها خلال حديثها. أبرز تلك التحفظات، رفضُها الإجابة عن حجم احتياطيات سوريا الحالية من النقد الأجنبي والذهب. ذاك التحفظ يدفع بنا إلى تأويل وحيد، بصورة مبدئية، وهو أن حاكمة المركزي ما تزال تعمل وفق ذات العقلية التي حكمت عمل المركزي السوري خلال الـ14 سنة الفائتة، على الأقل. حينما كان الغموض هو استراتيجية المركزي المفضّلة لإدارة السياسة النقدية في البلاد. وكان يمكن فهم ذلك بأنه نتيجة التدخّل الصارخ من جانب سلطة النظام في عمل المركزي. لكن، أن يستمر هذا الغموض سارياً حتى بعد سقوط النظام، يعني أن عنصر الشفافية في عمل المركزي السوري، سيبقى مفقوداً في الفترة المقبلة. وهو عنصر يُجمع المتخصصون الدوليون في عمل البنوك المركزية، أنه السمة الملازمة للاستقلالية، بحيث يتيحان معاً الأساس لبناء سياسة نقدية رشيدة.
أما السؤال الثاني الذي بقي معلّقاً، والذي لم تتطرق الحاكمة إليه مطلقاً، رغم ارتباطه بالحياة اليومية للسوريين، هو كيفية إدارة سعر الصرف والتأثير به، والخطط المتعلقة بذلك. فالمركزي ومنذ نحو أسبوعين، استعاد سمعته سيئة الصيت لدى السوريين، بانفصاله عن الواقع، وتحكّم السوق السوداء بسعر الصرف، بالمطلق. فهو يحافظ على سعر صرف 13000 ليرة لكل دولار، رغم أن السعر الواقعي على الأرض بعيد عنه. كما أنه يمتنع برفقة البنوك العاملة في البلاد، عن تصريف الدولار بالسعر الرسمي الذي يُصدره. وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى جدّية المركزي بالعمل بشفافية تليق بالبنوك المركزية الرشيدة، بدل الانفصال المطلق عن واقع حياة السوريين، كما كان قائماً في عهد النظام السابق.
وكانت أبرز الوقفات المثيرة للجدل، تلك الإشارة التي أبدتها حاكمة المركزي بتوفر السيولة الكافية لدفع رواتب الموظفين الحكوميين حتى بعد زيادتها بنسبة 400%، في مطلع الشهر المقبل. تلك الوقفة جاءت موجزة، ولم تتطرق إلى معالجة المخاوف العديدة التي أبداها المتخصصون حيال هذه الزيادة الكبيرة في الأجور، التي أعلنتها سلطات الإدارة الجديدة بدمشق، مطلع الشهر الجاري.
وهنا نقرّ، أن زيادة الأجور بنسبة 400%، يُعتبر بالفعل، حلاً إسعافياً للتخفيف من غلواء ضعف الدخل غير المحتمل لدى غالبية السوريين، والمبدأ ذاته، لا يقبل النقاش. فالحد الأدنى الحالي للأجور (نحو 25 دولاراً)، يُعتبر امتهاناً لكرامة الإنسان السوري، من دون شك. ورفعه ليصبح بنحو 100 دولار، لن يفي بالحد الأدنى من متطلبات المعيشة، لكنه يقلّص من الفجوة الصارخة بين الدخل وبين تكاليف المعيشة. إلا أن ما سبق، لا يلغي المخاوف المحقة لفئة كبيرة من المتخصصين. أقل تلك المخاوف وطأة، هو مدى قدرة الصرّافات المعطّلة في معظمها، والتي تعاني دوماً من ازدحامات خانقة، على توفير السيولة الجديدة المضافة لمستحقيها. إلى جانب الجدل حول انعكاس هذه الزيادة في أجور موظفي القطاع العام، على نظرائهم في القطاع الخاص. فهل سيرفع أرباب الأعمال الخاصة الأجور بنسبة 400% أيضاً؟ وقد يكون بعض المخاوف السابقة ليس من صميم الاختصاص المباشر للمركزي، لكن أبرز المخاوف، وهي احتمال حدوث تضخم مفرط، هو من صميم اختصاص المركزي. فهل هناك خطة أو تصوّر واضح لدى إدارة المركزي حول مستوى التضخم المرتقب بعد ضخ السيولة النقدية الجديدة المتأتية مع زيادة الرواتب مطلع الشهر المقبل؟
فمن المعلوم أن زيادة السيولة النقدية المتاحة في الأسواق لا تؤدي إلى تضخم إن كانت متناسبة مع مقدار المعروض من السلع. ففي هذه الحالة، تؤدي السيولة النقدية الجديدة الهدف المرجو منها، وهو رفع القدرة الشرائية للمواطن. لكن، هذا التقدير يتطلب توافر بيانات دقيقة لدى المركزي، تجعله على يقين نسبي بأن السيولة الجديدة تتناسب مع المعروض من السلع. وأن الطلب الجديد المتولد عنها، لن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، كما هو متوقع، على نطاق واسع. لكن حاكمة المركزي لم تتطرق مطلقاً إلى هذه الحيثية. ولا نعرف إن كانت إدارة المركزي تملك بيانات واضحة حول حجم السيولة النقدية المتاحة في الأسواق، ومدى تناسبها مع حجم المعروض من السلع. وهو ما يجعل المخاوف من أن تفقد الزيادة في الرواتب قيمتها، مع ارتفاع صارخ للأسعار، مبررة بقوة.
ومع جملة الأسئلة المعلّقة أعلاه، يبدو الحديث عن استقلالية مرتقبة لعمل المركزي، منفصلاً تماماً عن سياق تطور الأمور. وتصبح المخاوف أكبر، أن يكون المركزي في العهد الجديد، كما كان في العهد البائد، خاضعاً لتلاعب الساسة بالسياسة النقدية، بما يخدم غايات سياسية قصيرة الأجل، من قبيل زيادة الشعبية في الشارع، في الظرف الانتقالي الراهن. فيما يجلب ذلك على المدى البعيد معاناة اقتصادية طويلة الأجل، أبرز معالمها، خروج التضخم عن السيطرة بصورة تجعل عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي، حالة مستدامة في البلاد، امتداداً لما كان قائماً في عهد النظام البائد.
المدن
————————————-
دمشق عن قرب/ سمير الزبن
19 يناير 2025
أيّ مشاعر تنتاب المرء عندما يعود إلى المكان الذي قضى فيه جلَّ عمره، بعد 12 عاماً من الغياب؟ أيّ مشاعر من الفرح العارم بسقوط النظام المجرم بعد سنوات من القتل الجماعي الوحشي للسوريين، وتدمير البلد؟ يأتي الفرح العارم مغمّساً بغصّة ألم، من الحجم المهول للجريمة التي ارتكبها النظام بحق البلد الذي تعرض على مدى سنوات لسحق وحشي وعنيف، سحق عدواني غادر ومنحط، سحق حطم البشر والمجتمع والمعمار، وحول البلد إلى دمار بشع. حاكم أبله ورث الحكم عن أبيه، زرع الموت في كل المدن والأرياف السورية، حتى في كل بيت سوري، وأرتكب جرائم عظمى بحق بلده، يصدق عليه ما قالته حنة أريندت: “أعظم الشرور يرتكبها أشخاص نكرات”
حكم رجل أبله سورية خلال ربع العقد المنصرم. وطوال هذه الفترة، كان السوريون في حالة إنكار، أن الرئيس الذي يحكمهم مجرّد أبله، لأنهم لم يرغبوا بالتصديق، حتى بينهم وبين أنفسهم، أن أبله يحكم 24 مليون سوري ورث عن أبيه آلة قتل رهيبة، كان الأب قد جرّب فعاليتها الرهيبة والوحشية في هدم مدينة حماة على رؤوس سكانها في فبراير/ شباط 1982. وهي آلة القتل نفسها التي حمت توريث الأب الميت الحكم للابن الأبله، وهي نفسها التي ضغط الرئيس الأبله زر تفعليها فيقتل السوريين من دون أن يمارس أي سياسة، على اعتبار أن السوريين “يحبّونه” حتى عندما يقتلهم، ولا أبالغ إن قلت إن سورية في فترة الابن كانت محكومة من قبر الأب.
ولدتُ في 1964 وكان قد مضى على انقلاب حزب البعث حوالي العام، فرض على أثر نجاحه الأحكام العرفية على البلد، التي ألغت كل حالة طبيعية فيه، وحالة الطوارئ التي يُفترض أن تُرفع في أسرع وقت ممكن والعودة إلى الحالة الطبيعية، لم يحصل شيءٌ من هذا، وبقي المرسوم مسلطاً على رقاب السوريين عقوداً، وحتى عندما رُفع تحت ضغط الثورة السورية، كان الرفع شكلياً، وبقيت آلة القتل تحصد أرواح السوريين.
لم يعرف السوريون من جيلي الوضع الطبيعي في حياتهم، فقد ولدوا وعاشوا حياتهم في ظل الاستثناء العرفي، الذي كرّسته الدولة الأمنية التي سلط فيها الطاغية أجهزة المخابرات على الناس لتنتهك حياتهم على كل المستويات، فقد عاش البلد طوال حكم “البعث” والأسديْن الأب والابن، في حالة انتهاك مستمرّة، تم خلالها تدمير حياة البشر، وجعل الخوف والرعب هو الأساس في سياسات الإخضاع المجتمعي. وفي مطلع الثمانينيات، مع الصراع مع الإخوان المسلمين، لم يتم قمع القوى السياسية ووضع أعضاء الأحزاب السياسية المعارضة، إسلامية ويسارية في السجون سنوات طويلة، أغلبهم تجاوز توقيفهم أكثر من عقد فحسب، بل جرى قطع السياسة في سورية، وتجريف الفضاء العام السوري ليس من العمل السياسي، بل وحتى من العمل الاجتماعي أيضاً، حيث تم احتكار السياسة من الطاغية وتكريس الأجهزة الأمنية بوصفها أداة الضبط الوحيدة للتعامل مع المجتمع، وحرست بالحديد والنار الفضاء العام من أي قادم من أصحاب هذا الفضاء إذا حاول الدخول إليه.
بعد استقلال سورية في 1947، انشغل رجالات الاستقلال ببناء وطنية سورية جامعة لكل التنوّع السوري، رغم الانقلابات التي بدأت مبكّراً في سورية، لم تتجاوز الفترة الفاصلة بين الاستقلال وحكم “البعث” سوى 16 عاماً بما فيها فترة حكم الانقلابات السابقة على “البعث” الذي حكم البلد 61 عاماً منذ انقلاب 1963 حتى سقوط النظام الأسدي 2024، وعمل هذا النظام على تصغير سورية بوصفها قُطراً، كتعبير سياسي مرذول، بوصف “البعث” الحزب الذي يسعى إلى تحقيق الوحدة العربية الكاملة بين الأقطار العربية. وفي الوقت الذي رفع فيه البعث السوري الشعارات القومية الكبرى، كان يطيّف البلد، وينتج أسوأ طائفة في البلاد عابرة للطوائف، وهي “الطائفة الأسدية”، وبذلك لم يعمل النظام البعثي على تصغير البلد وتصغير الشعب، ولم يحطّم نواة الوطنية السورية التي بدأ بتشكيلها رجالات الاستقلال فحسب، بل حطّم البلد والنسيج المجتمعي أيضاً.
مع الأسد الأب، جرى اختصار البلد به، ولم تعد الجمهورية العربية السورية، بل أصبحت “سورية الأسد” ولعقود كان على أجيال من السوريين ترديد الشعار، ففي كل اجتماع صباحي في المدارس أو وحدات الجيش أو أي اجتماع مهما كان موضوع اجتماعه، عليه أن يردّد خلف خطيب أو مدير أو أياً كان، إذ يقول: “قائدنا إلى الأبد” وعلى الجموع أن تردّد خلفه “الرئيس حافظ أسد” وبقي الشعار يُردّد حتى بعد موت الرجل بسنوات طويلة. لم يكن هذا شعاراً سياسياً أو شعاراً ضد منطق الطبيعة، من حيث الرئيس بشرٌ سيمر عليه الموت كما مرّ على غيره. لقد جرى رفعه فوق البشر، ليس من أجل احتكار السياسة والسلطة بالأجهزة الأمنية فحسب، وبل من أجل تحطيم المجتمع، وتحويل المواطنين إلى رعايا، أو بالأصح إلى عبيد.
لقد عاش السوريون في الستين عاماً التي حكم فيها “البعث” مقطوعي اللسان، لا ينطقون سوى بما تريده السلطة، أي كلام يُقال، حقوق سياسية، وحرية تعبير، أو أي شكل من أشكال الاحتجاج أو المحاولات للتواجد في الفضاء العام السوري، كان الاجتثاث بالسجن الطويل هو الرد السياسي الوحيد على هذه المحاولات. عشرات آلاف المعتقلين السياسيين الذين اعتقلوا في زمن الأب، ودمّر مدينة وقتل عشرات الآلاف في مدن أخرى. في زمن الابن، اعتقل النظام مئات آلاف من السوريين، وقتل مئات آلاف بكل أنواع الأسلحة، وأعدم عشرات آلاف ودفنهم في مقابر جماعية تغطي المدن السورية، وهجّر الملايين من منازلهم.
سورية التي دمّرها المجرم بحاجة إلى التعافي، من جراحات القتل ومن جراحات التاريخ المخزي للحقبة البعثية ـ الأسدية. لا تحتاج سورية إلى التعافي من الدمار، والتعافي بعدالة انتقالية وعدالة اجتماعية وأمن شخصي فحسب، السوريون بحاجة ماسة لاستعادة لسانهم المقطوع أيضاً، بحاجة إلى احتلال الفضاء العام، ليس فقط من أجل أن يستعيدوا حقهم بالمطالبة بحقوقهم، بل وليستعيدوا لسانهم المقطوع وحقهم في الكلام في الفضاء العام دون أن يحاول أحد قطع لسانهم من جديد.
وأنا في طريق العودة إلى دمشق، كنت أعتقد أن العودة تتعلق بالتعرّف من جديد على المكان الذي غادرته، ومعرفة ما فعل الزمن بالمكان الذي كونني وفيه أصبحت من أنا. عندما أصبحت في دمشق، اكتشفت أني أتعرّف على نفسي من جديد في شوارع المدينة.
العربي الجديد،
——————————–
ماذا يحدث في كنائس سوريا؟/ أسعد قطّان
الأحد 2025/01/19
قبل ثلاثة أيّام من كتابة هذه السطور، بعث أحد الأصدقاء، وهو أستاذ متقاعد من إحدى الجامعات الألمانيّة، رسالةً من بودابست يسأل فيها عن أوضاع الكنائس في سوريا بعد انهيار نظام حزب البعث. كانت قد تناهت إليه أخبار ما يُعرف بِـ”حركة التغيير الأنطاكيّ”، التي تطالب بتنحّي البطريرك يوحنّا العاشر (يازجي)، رأس كنيسة الروم الأنطاكيّين الأرثوذكس، بسبب “عمق الارتباط” بينه و”النظام السوريّ البائد”، وما شهدته السنون الماضية من “انحياز الكنيسة للسلطة بدلاً من الدفاع عن المظلومين”، كما ورد في بيان هذه الحركة الأوّل، الذي أصدرته يوم السابع من الشهر الجاري. وتشير الحركة في بيانها الثاني، الصادر يوم الثالث عشر من الجاري، والذي وقّعه طبيب سوريّ مقيم في أستراليا يدعى وديد سلبود، إلى تمكّنها من جمع نحو ألف توقيع على بيانها الأوّل. كذلك يشير الدكتور سلبود في نصّه إلى أنّ الحركة “تلقى دعماً من أفراد من الإكليروس الأنطاكيّ المؤمنين بضرورة الإصلاح والتجديد”. وهو يدعو إلى “إصلاح آليّة انتخاب البطريرك في الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة”، من دون أن يتطرّق إلى انتخاب المطارنة، ويدعو أعضاء المجمع المقدّس “إلى تشكيل لجنة مستقلّة للحوار” مع ممثّلي الحركة.
على الضفّة الأخرى من نهر التحوّلات الجارفة التي تشهدها الكنائس في سوريا، استضاف الإعلاميّ طوني خليفة في برنامجه “توتّر عالي” على قناة “المشهد”، المطران يوحنّا جهاد بطّاح، رئيس أساقفة السريان الكاثوليك في دمشق. في هذه المقابلة، أيّد المطران بطّاح التغيير الذي جرى في سوريا، معتبراً أنّ الهواجس المتّصلة بالمستقبل لا تقتصر على المسيحيّين، بل تشمل السوريّين جميعهم، بمن فيهم أهل السنّة. واعتبر المطران أنّ القيادة الكنسيّة تعرف الشعب جيّداً، لكنّها لم تكن تعلم بما كان يحدث في السجون السوريّة من قمع وتعذيب. أمّا ردّاً عن سؤال عن موقفه من الرئيس السوريّ السابق بشّار الأسد، فرأى بطّاح أنّه كان ضحيّة المؤامرات التي حيكت ضدّ سوريا، وأنّ الفاعلين الخارجيّين هم الذين حوّلوه إلى مجرم. وأضاف أنّه لا يطالب بمحاكمة الأسد، لأنّ هذا يستتبع محاكمة الآخرين جميعهم.
لا يخطئ من يعتبر أنّ كلام المطران بطّاح يشكّل نموذجاً من رماديّة موقف معظم القيادات الكنسيّة في سوريا بعد تهاوي النظام القمعيّ. وتكمن هذه الرماديّة، أوّلاً، في غضّ الطرف عن أنّ هذه القيادات ذاتها، في غالبيّتها، كانت تدور من حيث خطابها وسلوكها في فلك النظام، ما يحيل على عدم قدرتها اليوم على الانخراط في عمليّة نقد ذاتيّ. وهي تقوم، ثانياً، على تعميم المسؤوليّة عن الشرّ الذي حصل في سوريا، أو الاستنجاد بنظريّة المؤامرة الكونيّة، بغية تجهيل مرتكبي الجرائم. وهي تلوذ، ثالثاً، بادّعاء عدم الإلمام بالجرائم الفرديّة والجماعيّة المقترَفة، وذلك بالرغم من أنّ منظّمات حقوق الإنسان عملت إبّان العقد الأخير على توثيقها على نحو منهجيّ، ما يجعل هذا الادّعاء أشبه بالعذر الأقبح من الذنب.
ينتج من هذا أنّ “حركة التغيير الأنطاكيّ”، على الرغم من أنّ المرء ربّما لا يوافق على كلّ ما أتى في بيانَيها، لم تنطلق في موقفها من اللاشيء. فالقادة الكنسيّون في سوريا، والقادة الدينيّون عموماً، انغمسوا، في معظمهم، في وحل التحالف مع النظام البائد، أو سعوا على الأقلّ إلى مسايرته وممالقته، ساكتين عن القمع الكثير الذي تعرّض له الشعب السوريّ. قد يقول قائل إنّ هذا حصل إمّا بفعل الخوف، وإمّا بفعل خيارات سياسيّة معوجّة وغير منسجمة مع جوهر الدين، الذي يسقط ما لم يكن في خدمة إنسانيّة الإنسان. لكن يبدو أنّ هناك عاملاً إضافيّاً لم يحسب له كُثُر حساباً: منذ اندلاع الثورة السوريّة العام 2011، وربّما حتّى قبل اندلاعها، يمكننا رصد تباعد مطّرد بين القيادة الدينيّة والناس، ألذين من المفترض أن تمثّلهم هذه القيادة.
هذه الظاهرة تنسحب خصوصاً على الكنائس، حيث أدّت مجموعة من العوامل إلى تعميق الشرخ بين الرعاة والرعيّة. الخيارات السياسيّة هي طبعاً واحد من هذه العوامل، ولكن يجب أن نضيف إليها الإكليروسيّة المفرطة، والجنوح إلى التسلّط، وانحسار القدرة على العبّ من الثقافة الإنسانيّة غير الدينيّة، والغباء المستشري أحياناً في صفوف بعض القادة الكنسيّين. هذا كلّه حوّل المؤسّسات الكنسيّة إلى عوالم مقفلة وغير قادرة على استمداد مشروعيّتها من الناس، ما اضطرّها، عن وعي أو عن غير وعي، إلى التحالف مع الساسة، وإلى ما يستدعيه هذا التحالف من سكوت عن الظلم، بحثاً عن المشروعيّة.
بكلمات أخرى، لقد تحوّلت منظومات القيادة في معظم الكنائس إلى مجرّد أجهزة لا تستقي مشروعيّتها من الجماعة الكنسيّة، بل من السلطة الاستبداديّة القامعة.
من النافل القول إنّ هذه المنظومات تبحث اليوم، وبعد سقوط النظام القمعيّ، عن مشروعيّة جديدة تسعى إلى استمدادها هذه المرّة من الحكّام الجدد في الشام، ما يحتّم عليها استدرار عطفهم تارةً، عبر استدعاء نموذج “أهل الذمّة” من بطون التاريخ وتقديمه بحلّة جديدة، والتلويح طوراً بضرورة تعاون السادة الجدد معها لكونها هي، دون سواها، “تمثّل المكوّن المسيحيّ”. والطامة الكبرى أنّ هؤلاء السادة، الآتين من رحم الإسلام السياسيّ الجهاديّ، ولكونهم يقاربون شؤون المجتمع من منظور الشريعة الإسلاميّة، معرّضون بدورهم لتجربة النظر إلى المسيحيّين لا من حيث كونهم مواطنين، بل بوصفهم مللاً وأجساماً جماعيّةً، القادة الدينيّون فيها هم أولياء الأمر وأهل الحلّ والربط. يضاف إلى ذلك أنّ معظم الكنائس في سوريا لا تعرف آليّات قانونيّةً فعليّةً لتنحية القادة الكنسيّين، وذلك بسبب استغنائها منذ سنوات عدّة عن المجالس الأبرشيّة، أو بفعل تعطيل دور هذه المجالس.
حيال ذلك كلّه، يتبدّى التغيير عمليّةً عسيرة، حتّى إنّها تكاد تكون مستحيلةً في الوقت الحاضر، إذا آثرت الكنائس أن تبقى على وحدتها وألّا تنخرط في انشقاق تلو آخر. هذه العمليّة التغييريّة ليست مرهونةً بتشكّل المجتمع المدنيّ في سوريا مع أدواته الضاغطة، ولا سيّما الإعلام، فحسب، بل أيضاً بقيام طبقة سياسيّة جديدة تنظر إلى الناس على أنّهم مواطنون أفراد، لا مجرّد جماعات دينيّة يتزعّمها بطريرك أو مطران بوصفه رأس القوم، وذلك بحسب المفهوم الموروث من أزمنة السلطنة العثمانيّة.
هذا كان فحوى الجواب للصديق الأستاذ المتقاعد، على أمل أن يكذّب الماء الغطّاسين جميعهم.
المدن
————————–
سوريا.. في الأرقام والصور/ ضحى درويش
الأحد 2025/01/19
“الوطن هو حيث تتوفر مقومات الحياة لا مسببات الموت”
محمد الماغوط (من كتاب “سأخون وطني”)
على مدى 54 عاماً من حكم آل الأسد، حَاصرتنا الأرقام وتحكّمت في مصائرنا. أرقام في برادات المشافي، على صدور جثث المعتقلين، فروع أمنية بالأرقام، مقابر جماعية تحمل جثثها أرقاماً. سجون سريّة، أقبية تحت الأرض، تحتجز أرقاماً مغيّبة قسراً من لوائح الحياة، وسجلّات مرقمة نجتْ من الحَرق. سوريا هي بلد الأرقام اللانهائية.
وعلى الرغم من انني غادرت البلد في العام 2014، أي بعد أعوام ثلاثة من اندلاع الثورة او الحرب، إذ لكلٍ تسميته لما جرى من حوادث كما يراها من وجهة نظره الخاصة، أذكر جيّداً أنه لدى مغادرتي غرفة منزلي، قالت لي أمي إن رحيلنا مؤقت، ولن يطول أكثر من يومين أو ثلاثة، في انتظار أن تتحسّن الأوضاع الأمنية.
كنت اود لو استطعت البقاء في منزلي، محاطة بأشيائي الصغيرة ودفء أهلي، لكنه كان أمراً مستحيلاً. قال أهلي إن المسلحين خطرون، وقد لا ننجو من بطشهم. توقعوا أن تزول أمكنة، وتتبدل معالم المنطقة. كانوا على حق. بيتنا تحول إلى رماد ولم يبق حجر على حجر. تذكرت مشهداً من مسلسل سوري عنوانه “الولادة من الخاصرة”. لم أكن أعلم أنه يتحدث عن معاناة حقيقية يعيشها أغلب اطياف بلدي، عندما كان المقدم رؤوف، عديم الرحمة، يمارس القمع في أشكاله المختلفة، وبحسب أسلوب لا يتوافق مع اسمه، الذي يشير إلى الرأفة بما وبمن يحيط به.
صور كثيرة تراكمت في ذهني. أحسد هؤلاء الذين يمتلكون ذاكرة ضعيفة. صادفتُ بعضهم خلال حياتي، وعجبت من نسيانهم لأمور كان من المفترض أن تبقى في ذاكرتهم، لكونها تمسّهم مباشرة. مرّ أمام ناظري الكثير من مقاطع الفيديو والصور، صيف العام 2023. نهر بردى في دمشق الذي اصطبغت مياهه باللون الأحمر. لو حدث الأمر في بلد غير سوريا لجن جنون أنصار البيئة ولكان الاختصاصيون هوّلوا السكان، وعادوا إلى معاجم الكيمياء من أجل اكتشاف سبب المشكلة. وضع البعض فرضيات كأن يكون الماء قد تلّون بالدماء، أو بالصباغ، لم يشبع فضول الكثيرين التفسير المقدّم من محافظة دمشق، التي أرجعت السبب إلى الأمطار وتغير لون التربة. خطر في بالي ما قرأته عن سقوط بغداد على يد المغول، العام 1258، حين قيل إن مياء نهر دجلة تحوّلت إلى الأحمر والأزرق، بفعل دماء القتلى وحبر الكتب التي رُميت في النهر. أما أول ما جال في بال شعبنا فهو لون الدم. هذا اللون الأحمر الذي يوحي بالجراح والقتل. ما هي كمية الدماء التي من شأنها أن تلوّن نهراً؟ هذه المسألة تتطلّب مسلخاً وضحايا لا تُحصى أعدادهم، وطاغية يشبه بول بوت الذي قضى على ما يقرب من ربع سكان كمبوديا. كنّا أوفر حظاً. لم يسقط في سوريا سوى ما يقرب من 400 ألف قتيل، والكثير من هؤلاء ضاع أثرهم، ولا نعرف شيئاً عنهم.
أمّا “المكبس” البشري، فتلك حكاية أخرى. في فيلم “القنّاص” للمخرج أنطوان فوكوا (2007)، وإثر مشاهدة بطل الفيلم إبتكاراً يؤدي إلى أن ينتحر الإنسان من تلقاء نفسه، بإطلاق النار على رأسه من دون إرادته، يقول بوب لي شواغر (مارك ولبيرغ) الذي يلعب دوراً رئيسياً في الفيلم: أي عقل خبيث قام باختراع هذه الآلة العجيبة؟ المكبس، الذي شاهدناه على وسائل الإعلام في سجن صيدنايا، ينطبق عليه هذا الحكم، بل أكثر بكثير مما رأيناه في الشريط السينمائي. آلة خبيثة ووحشية حاقدة، تليق بممارسات القرون الوسطى، حين كان الإنسان، رجلاً أكان أو إمرأة، المتهم بالزندقة، أو بممارسة السحر، يُحرق حياً. الفرق الوحيد بين الحالتين هو أن المغضوب عليه، أو عليها، كان يُحرق في القرون الوسطى في ساحة رئيسية تحت أنظار الجماهير، في حين كان “يُكبس” السجين المتوفى تحت التعذيب في صيدنايا في حضور أفراد معدودين، ليس لهم أي شأن بالإنسانية ومبادئها. أصنام بلا روح، آلات بشرية لا تعرف للرحمة معنى.
هذا البلد مر بظروف لا يُحسد عليها منذ ما يزيد عن خمسين عاماً. نصف قرن ليست فترة بسيطة في حياة شعب. كرّس النظام السابق التفرقة الطائفية، من خلال ممارسات لا تخفى على أحد. كان في إمكان عسكري من طائفة معيّنة أن يهين حياً بأكمله، وكانت المناصب الحساسة من حصة الطائفة عينها، في حين كانت السلطة السابقة تزعم أن الجميع لديها سواسية. زعمٌ لم يصمد أمام وقائع الأحداث اليومية، ولم يصدّقه أحد.
تلك النعرات المذهبية المترسخة في أذهان الكثيرين لن تختفي بسهولة. بعد رحيل النظام ومن قاموا عليه، تغيّرت الآية وانقلبت الموازين. لو عومل الجميع على قدم المساواة فعلاً لما برزت هذه الصراعات، أو لكان وقعها محدوداً، علماً أن مرتكبي أفعال الإنتقام، في هذه الأيام، هم في الغالب من الموتورين، أو ممن عانوا شخصياً ظلماً من الصعب نسيانه بسهولة. شاهدتُ على وسائل التواصل الإجتماعي شريطاً يصوّر مشهداً مؤلماً: رجل في العقد السادس من عمره أمسكت بيده فتاتان شابتان، كان يبكي بمرارة، وقلبه يتمزق من الالم. لم أرَ في عينيه حزناً على سقوط النظام ولا سعادة بالسلطة الحالية. كان خائفاً على فلذات كبده. صورة لمواطن، ولكثيرين مثله، ممن لا ترى نظراتهم سوى المجهول، ولا شيء سواه.
المدن
——————————
لبنان: إعادة الإعمار السياسيّ/ حازم صاغية
19 يناير 2025 م
يطالب اللبنانيّون اليوم بـ «إعادة إعمار ما تهدّم»، وما تهدّم كثير وكبير ينبغي أن يعاد إعماره. وهم يرفعون هذا الطلب إلى الدول الصديقة والقادرة، أكان في المنطقة العربيّة أو في العالم. لكنّ اللبنانيّين، وسط فرحهم بانهيار «النظام القديم» بمحوره ومقاومته، وبانتخاب رئيس جمهوريّة واختيار رئيس حكومة محترمين، يقرنون طلبهم بلغة سياسيّة لا تملك من الحسم ما تتطلّبه خدمة إعادة الإعمار.
وإذ ينشأ عهد جديد، يُرجى أن يتحوّل نظاماً جديداً، يبدو الإصرار على لغة مختلفة شرطاً شارطاً لتحصين إعادة الإعمار المأمولة. والتجربة القريبة تلحّ على ذلك: فبعد الحرب المديدة (1975 – 1989) عرف اللبنانيّون إعادة إعمار يمكن أن يقال الكثير فيها ذمّاً أو مدحاً، لكنّ اللغة التي طغت يومذاك شابَها شيء معتبر من النسيان الممزوج بتمجيد الذات. فنحن، وفقاً للّغة تلك، بلد العراقة والعالميّة، نبني حواضر للمستقبل لا بدّ أن تترجمها ناطحات سحاب ومجمّعات تجاريّة تضع بيروت إلى جانب دبيّ وهونغ كونغ، ممّا «يليق» باللبنانيّين. وفي النسيان الذي استبطنته تلك اللغة لم يُفهم السبب الذي أدّى إلى التهديم ثمّ أوجب إعادة الإعمار.
والحال أنّ الإشارات الرسميّة القليلة إلى السبب كانت من طينة رحبانيّة تُحيل النزاع إلى صدفة أو استثناء عابر أو سوء تفاهم. ولم تكن اللغة تلك بعيدة عن تحالفات سياسيّة حاكمة وانفجاريّة، يتصدّرها تقاسم السلطة بين رفيق الحريري، رمز إعادة الإعمار ولو بالاستدانة، و»حزب الله»، رمز إعادة الهدم من خلال المقاومة الدائمة. وبدورها كانت السلطة السوريّة الأسديّة تحتوي هذا التقاسم وتتحكّم باشتغاله، هي التي رهنت لبنان، في سلامه وفي اقتصاده، بلعبة الصراع على النفوذ بينها وبين إسرائيل. وهذا ما أجلسَ إعادة الإعمار على مقربة من حافّة الهاوية الدائمة. هكذا درج البناء وتهديمه على النوم في سرير واحد: فالموسيقى التي يستمتع بها سعداء بسهرتهم في علبة ليليّة ما، قد تختلط بأصوات عيارات ناريّة لا يُسأل مُطلقوها عن سبب إطلاقها، إمّا لأنّهم مقاومة قالت إنّها تنذر نفسها لـ «تحرير فلسطين»، أو لأنّهم جماعة تحتفل بفوز صبيّ منها بنيل شهادة البريفيه. وكلّ جماعة، كما نعلم، جزء من طائفة مسنود بزعيم طائفيّ. لكنْ ذات مرّة، حين اكتملت الشروط، تجمّعت العيارات الناريّة واشتدّت وتولّت قضم كلّ شيء آخر.
وتلك تجربة يُستحسن أن لا تتكرّر، فلا نجدنا أمام خلائط سياسيّة وتعبيريّة لا مكان معها، في أحسن الأحوال، إلاّ لإعمار مؤقّت وزائل. فأغلب الظنّ إذاً أنّ إعادة الإعمار تلك تتطلّب، لاستقرارها ودوامها، إعادة إعمار سياسيّ ولغويّ يمكن اقتراح عناوين عريضة ثلاثة لها:
من جهة، عدم الترويج لقضايا، كالحرب مع إسرائيل وتحرير فلسطين إلخ…، تتحوّل إلى ذرائع لحمل السلاح، وتمنح صاحبها حصانة تجيز له ما لا يجوز لغيره. فهذا التزحلق اللغويّ إلى الهاوية مُكلف ومدمّر، يحضّ على الحذر منه والتنبّه له. لقد كان الامتياز الذي مُنح لـ «القضيّة» قاطرتنا إلى تحمّل النفوذ الإيرانيّ والوصاية السوريّة وهلهلة الدولة وتنازع المجتمع، ومن ثمّ انفجار كلّ شيء، وهذا علماً بأنّ المناخ الحاضن لإعادة الإعمار يمنح الأولويّة حصراً للدولة ولتماسك المجتمع، وبعد ذاك يرى اللبنانيّون ما الذي يمكنهم فعله في دعم الحقّ الفلسطينيّ من خلال الدولة ومن دون إضعافها.
ومن جهة أخرى، الكفّ عن التغنّي بـ «أصالة» و»رسالة» لبنانيّتين بات طريقنا، بعد التطوّرات الأخيرة، مُعبّداً للوصول إليهما، فيما المطلب الفعليّ هو العيش كدولة ومجتمع عاديّين. ذاك أنّ «الأصالة» تلك، إذا وضعنا جانباً الصورة الطافحة بالورديّة عنها، كالتي رسمها الشاعر سعيد عقل وآخرون، فيها الكثير من القتل والدم والثارات، وهي تتلاءم مع العيش في الطبيعة أكثر كثيراً ممّا يلائمها العيش في دولة ومجتمع هما بالضرورة «حديثان» وليسا «أصيلين». وأخطر ممّا عداه أنّ نهرب، مرّة أخرى، بـ «الأصالة» و»الرسالة» من مراجعة مسؤوليّتنا عمّا حصل. فنحن، «الأصلاء»، بأيدينا قتلنا وقاتلنا واستولت علينا الولاءات الصغرى وفعلنا كلّ ما يحوّل بلدنا ركاماً.
أمّا ثالثاً، فتجنّب الكذب في تقديمنا تاريخَنا، وتجنّب التناقض في رسم القيم التي يُراد لهذا التاريخ أن يصادق عليها. فاللبنانيّون، مثلاً، نالوا استقلالهم في 1943 من دون دم، وهذا إنجاز كبير، لكنّ تمجيد الدم والشهادة لا يستقيم مع هذه الرواية. وهم نالوه بدعم بريطانيّ، قبل عقود على تحرّرهم الراهن من المحور الإيرانيّ، وهذا ما تمّ أيضاً بفعل أدوار خارجيّة، لا يستقيم معها زعمنا أنّنا «أقوياء». فنحن بالتالي ضعفاء، لا نملك بذاتنا حلولاً لمشاكلنا، تماماً كما لا نستطيع أن نعيد بأنفسنا إعمار بلدنا. وهذا، في عمومه، يحضّ على اعتماد نظرة إلى أنفسنا وإلى العالم صادقة ومتواضعة، تقطع مع ثقافة «الشنفخة» و»الزعبرة» التي يستوطنها، بكثير من المواربة والالتواء، كثير من العنف.
الشرق الأوسط
———————–
“من يتزوّج أمي أنادِه يا عمّي”/ سلام الكواكبي
19 يناير 2025
من الطبيعي بعد تغيير أي نظام حكم، إن بطريقة سلمية أو عن طريق العنف، أن يتحوّل داعمون للنظام السابق بسرعة قياسية إلى داعمين للنظام الجديد لأسباب متعدّدة ومتشابكة. ومن النادر أن ينتقل هؤلاء، الذين كانوا خاضعين للنظام السابق ومتعاونين معه، إلى ضفة معارضة سياسية أو عسكرية مناوئة للحكم الجديد، لأن ارتباطهم بالذي سبقه كان مبنيًاً على انتهازية وخضوع، ولا تجمعهم معه أية مبادئ أو عقيدة. خصوصًا إن كان النظام الذي سقط قائماً على الاستبداد والترهيب والفساد الممنهج. ومن الأمور المستغربة نظرياً والمكرّرة عمليا، أن يقبل الحكم الجديد وشخوصه بأن يتقرّب منهم أزلام الحكم السابق. والحكمة، إن جاز التعبير، في ذلك والتي يعتمدها أصحاب السلطة الجدد، تقوم على أنه من الممكن بسهولة، وبأبخس الأثمان، أن يكون هؤلاء متمكنين من ممارسة الاستزلام عن خبرة، وبالتالي، فهم متعاونون من دون إحداث ضجيج من نوع ابداء الرأي أو النقاش في ما يقرره الحكم الجديد. هم مستعبدون سابقون لنظام سابق وكانوا يطبلون له ويزمّرون. ولن يجدوا أي صعوبة بتحولٍ إلى التطبيل والتزمير للنظام الجديد. خصوصا منهم من “ليست يداه ملطّخة بالدم”. جرائمهم تبقى في حدود الجرائم الأخلاقية، الفساد، التهريب. يُضاف إلى ذلك كله خبراتهم في التملق والمحاباة ومعرفة النظام الجديد بأن لهم تسعيرة واضحة يمكن شراؤهم وبيعهم من خلالها إضافة إلى ضعف في نفسياتهم وميلهم إلى الخضوع للقوي واستغلال قربهم منه لتحسين أوضاعهم وأوضاع من يقتات من فتاتهم.
ومن أهم عوامل التغيير مسألة التكيف مع الواقع السياسي الجديد والحفاظ على موقع ومنصب ضمن النظام الجديد من خلال تبنّي مواقف تتماشى مع توجّهاته، حتى لو تعارضت مع مواقفهم السابقة. هذا التكيف يمكن أن يكون محاولة لضمان الاستمرار في المشهد السياسي أو لتجنب الإقصاء أو العقوبات. كما يمكن ان تلعب التأثيرات الخارجية والضغوط دورها في صنع هذا التحوّل. حيث إن تغيير النظام غالباً ما يكون مصحوباً بتغير في التحالفات الدولية أو بمزيج من الضغوط الإقليمية والمحلية. وقد يحصل أحياناً، وإن كان الأمر من الندرة أنه لا يذكر، بأن بعض الأشخاص قد يضطرّون لإعادة تقييم مواقفهم بما يتماشى مع التوجهات الجديدة للحكم الجديد. ولكن غالباً ما تلعب المصالح الشخصية الدور الأهم. حيث تتقدّم لديهم ليكون موقعها فوق القيم والمبادئ، ما يجعلهم مستعدّين لتغيير مواقفهم للحفاظ على النفوذ أو الامتيازات. والخبثاء منهم، أو الذين يُسمّون باللغة المعاصرة أذكياءً، فيبرّرون تغيير مواقفهم بالتكيّف مع “مصلحة الوطن” أو “متطلبات المرحلة”، ما يمنحهم غطاءً أيديولوجيًا للتحوّل. كما من الممكن ان يتم تصوير التغيير على أنه “تطور فكري” قد عمل عليه المعني به ليصل الى نتيجة مؤداها ان دعم الحكم الجديد والخضوع له والعمل لديه مناسب للتطور الفكري الواقع. ويلعب الخوف من القمع والعنف الذي يمكن ان يمارس بحق هذه النوعية من الناس دوره في قلب مواقفهم رأساً على عقب وتبني شعار “من يتزوّج أمي أنادِه عمّي”. ويحدُث ذلك خصوصاً مع الأنظمة التي تعتمد القمع والعنف كأدوات استدامة للحكم. على المدى البعيد، يمكن أن تؤدي مثل هذه التحولات إلى انقسامات سياسية وضعف الاستقرار السياسي.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1991، عدد من السياسيين الذين كانوا جزءاً من النظام الشيوعي السابق تبنّوا مواقف مؤيدة للرأسمالية والديمقراطية. وبعد سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا سنة 1994، كثير من الشخصيات التي كانت داعمة للسياسات العنصرية انتقلت إلى دعم الوضع الجديد بقيادة نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وقد ادّعوا أنهم، وعبر هذا الموقف المستجد، يسعون لدعم الوحدة الوطنية. وفي عراق ما بعد صدّام حسين، تحوّل عديد من البعثيين إلى تأييد النظام الجديد. كما أن شخصيات سياسية بارزة أعادت تكييف مواقفها للعمل مع النظام الجديد الذي تشكل تحت الاحتلال الأميركي. وفي مصر، وبعد سقوط نظام حسني مبارك في عام 2011، تغيّرت مواقف عديدين من السياسيين والإعلاميين الذين كانوا يدعمون النظام بقوة. وهناك مئات الأمثلة على تحوّل مواقف الإعلام المصري مثلاً من تأييد النظام القديم إلى تأييد القوى الثورية أو السلطات الجديدة، ثم العودة إلى تأييد النظام الجديد / القديم بعد 2013. وفي تونس، وفي سنة 2011، عدد كبير من أعضاء النظام السابق الذي كان برئاسة زين العابدين بن علي، أعادوا تشكيل مواقفهم وانضموا إلى الساحة السياسية الجديدة أو قدموا أنفسهم كإصلاحيين.
كلها نماذج وقعت في الماضي القريب وتكرار وقوعها صار من الأمور البديهية في علم السياسة. يبقى هناك فارق لا يستهان به بقبول هذه التقلبات من قبل المنظومة الحاكمة الجديدة. فإن كانت تستبدل استبدادا باستبداد، فهي ستُسعد بضم أسوأ هؤلاء المنقلبين. أما إن كانت مؤمنة بأنها موجودة لخدمة الشعب وليس لإعادة إنتاج الاستبداد، فعليها حينئذ أن تكون حذرة بقبول هذه الفئات ضمن مؤسساتها. وخصوصاً أنها ليست مالكة لمفاتيح الحياة السياسية، بل هي عابرة فيها.
العربي الجديد
—————————–
ما يأمله السوريون من أشقائهم العرب/ جانبلات شكاي
تحديث 19 كانون الثاني 2025
ما زال السوريون ينتظرون كيف ستحول الحكومات العربية وعودها وتصريحات قادتها للوقوف إلى جانبهم ومساعدتهم، إلى واقع يتلمسونه في حياتهم اليومية التي باتت أشبه ما تكون بالجحيم من أي شيء آخر.
ولطالما سمع السوريون الكثير من الوعود، حتى في عهد رئيس النظام السابق بشار الأسد، ولكن وتيرة وحجم هذه الوعود، زادت بشكل لافت منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، بعد إسقاط الأسد وحكمه، ولم يمر يوم خلال الشهر الماضي، إلا وحمل معه الكثير من الآمال لشعب أوصله لصوص وفاسدو العهد البائد، إلى حافة القبر، باعتراف تقارير المنظمات الأممية.
ويرجع معظم متابعي الملف السوري، سبب تأخر العرب عن مد يد المساعدة جدياً، رغم قرار إعادة دمشق للحضن العربي منذ أيار/مايو 2023 حين تقرر فتتح باب الجامعة العربية أمام العاصمة السورية، إلى عدم تنفيذ النظام السابق، خريطة طريق تم التوافق عليها من لجنة المتابعة العربية الخاصة بسوريا، تقوم على وقف تهريب المخدرات عبر الحدود، وحل ملفّ اللاجئين السوريين في دول الجوار، وإطلاق دور عربي قيادي للتوصل إلى حل سياسي، مع اتخاذ خطوات عملية وفاعلة للتدرج في الحل، وفق مبدأ «الخطوة مقابل الخطوة» وبما ينسجم مع قرار مجلس الأمن رقم 2254.
وظلّ حجم النفوذ الإيراني في سوريا، أحد أبرز أسباب تردد العرب في العودة بقوة إلى دمشق، إلى جانب السبب الرئيسي الآخر الذي يتمثل بالعقوبات الأمريكية التي قيدت أيديهم، ولكن مع إسقاط نظام الأسد، وإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، وتقزيم الدور الروسي، ومن ثم إعادة افتتاح سفارات دول ظلت تعارض التطبيع مع نظام الأسد وفي المقدمة منها قطر وتركيا، واستقبال دمشق لمسؤولين غربيين كبار، بمن فيهم الذين وصلوها من واشنطن، يمكن القول إن خريطة الطريق العربية، التي كان مطلوباً من نظام الأسد تنفيذها، يبدو أنها انزاحت لترثها الإدارة السياسية الجديدة في دمشق، وإن بشروط ميسرة أكثر، وهو ما ظهر جلياً فيما صدر عما عرف بـ«اجتماع العقبة» في الرابع عشر من الشهر الماضي، عن لجنة الاتصال الوزارية العربية التي ضمت الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، إلى جانب حضور وزراء خارجية قطر والإمارات والبحرين وتركيا وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، والمبعوث الأممي إلى سوريا.
«اجتماع العقبة» انتهى بالدعوة لعملية انتقالية سلمية سياسية سورية- سورية جامعة ترعاها الأمم المتحدة والجامعة العربية، وأدان الاجتماع توغل إسرائيل داخل المنطقة العازلة مع سوريا، وطالب بانسحابها، وأكد الوقوف إلى جانب الشعب السوري واحترام خياراته، ودعم عملية انتقالية سلمية تمثل كل القوى السياسية والاجتماعية.
وهكذا، فإن فرحة السوريين المهشمين، بتنفسهم لهواء الحرية أخيراً، وبالتخلص من نظام جثم على قلوبهم وكتم أنفاسهم، لأكثر من خمسة عقود، يكاد يعكّرها التردد العربي بمد يد المساعدة السريعة، بعد انتهاء الأسباب التي كانت تدفعهم سابقاً للتحفظ، وأيضاً بعد أن خففت واشنطن عقوباتها، فباتت تسمح لمنظمات الإغاثة والشركات بتقديم الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي، كما تسمح بالمعاملات التي تدعم بيع أو توريد أو تخزين أو التبرع بالطاقة، بما في ذلك البترول والغاز الطبيعي والكهرباء، داخل سوريا.
الرسائل التي حاولت دمشق بإدارتها الجديدة، توجيهها إلى الأشقاء العرب تجلت في اختيار الرياض كأول محطة خارجية لوزير خارجيتها أسعد الشيباني، وأتبعتها بالعديد من العواصم العربية، قبل أن يتجه الشيباني إلى أنقرة على الرغم من العلاقات العضوية التي جمعت رموز الإدارة الجديدة مع الحكومة التركية.
دمشق الرسمية، مدت يدها السياسية أولاً باتجاه العرب، علها توازن بثقلهم الكفة المائلة لصالح أنقرة، ولا تقع مرة أخرى بذات المعضلة، عندما كانت الكفة في عهد النظام السابق، مائلة باتجاه طهران.
والعرب عموماً، باستثناء الدوحة، ما زالوا يمارسون ذات اللعبة، ويبدو أنهم لن يندفعوا نحو عاصمة الأمويين، إلا بعد الحصول على تطمينات يطالبون بها، وإن كان البعض يرى بأن الأثر سيكون أكثر جدوى لو عملوا على دعم الإدارة الجديدة ومدوها بعوامل القوة ليتفاوضوا لاحقاً من داخل اللعبة، وليس من خارجها، لتعديل الواقع السوري خطوة خطوة.
والعرب إن تأخروا، سيجدون النفوذ التركي يتمدد مرة أخرى على حسابهم، على الرغم من الجهود المصرية والسعودية والإماراتية المتواصلة منذ فترة ليست بالقصيرة، لمحاصرة نفوذ أنقرة المتمدد بما يعتبرونه تدخلاً بالأمن القومي العربي. وبعيداً عن الكلام المعسول، وبعض المساعدات التي تصل في معظمها جواً تحت أضواء كاميرات المحطات الفضائية، وهي لا ولن تسد رمق الجائعين، وحدهم ربما، القطريون والأتراك من يتحرك على الأرض لمد يد المساعدة الجدية، إن بالدعم المالي المباشر لتمويل خزائن الدولة المنهوبة، وتأمين رواتب الموظفين، أو بتأمين الكهرباء وحوامل الطاقة الأخرى، وإذا ما تم فعلاً تزويد سوريا بالكهرباء من قطر وتركيا، وانعكس ذلك بزيادة ساعات الوصل التي لا تتعدى حالياً سوى ساعتين مقابل 22 ساعة من قطع التيار، فإن عجلة الاقتصاد ستبدأ بالدوران، وسيدرك حينها المواطن السوري من ساعده على إنارة عتمة لياليه، ومن باعه الأحلام.
إدارة العمليات العسكرية، التي باتت تتحكم بالأوضاع في العاصمة دمشق، أعلنت صراحة أنها ليست بصدد توتير علاقاتها مع أي من الجوار بمن فيهم إسرائيل، فالسوريون تعبوا من الحرب، وأولوياتهم باتت تنصب نحو الأمان وتأمين قوت يومهم، حتى أن قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع في تصريحاته التي أطلقها خلال مؤتمر صحافي مشترك من دمشق مع رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الخميس، كرر مرات عدة وصفه التوغل والعدوان الإسرائيلي ضمن الأراضي السورية في هضبة الجولان بـ«التقدم» في المنطقة العازلة، وقال إن إدارته أبلغت الأطراف الدولية باحترام سوريا اتفاقية فض الاشتباك الموقعة برعاية أمريكية عام 1974، وأن دمشق «مستعدة لاستقبال قوات أممية وحمايتها في المنطقة العازلة، لعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل التقدم الإسرائيلي»، وأنه سيكون لقطر «دور أساسي في تشكيل موقف ضد التقدم الإسرائيلي وستقوم بدور فاعل في الأيام المقبلة» في إشارة منه إلى الدور الذي لعبته الدوحة لوضع حدّ ونهاية للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
على المستوى المعيشي، لا نبالغ إن قلنا بأن أكثر من 80 في المئة من مشاكل سوريا، ستنتهي مع تأمين الكهرباء، وعلى المستوى السياسي، فإن من يستخدم نفوذه وعلاقاته ليضع حداً للتوغل والعدوان الإسرائيلي في هضبة الجولان، ومن يستخدم نفوذه لإعادة توحيد وإنهاء قضية انقسام البلاد طولياً بين غربها وشرقها، هو من سيساعد السوريين اليوم لتجاوز هذه المعضلات الوجودية، والحفاظ على كيان دولتهم، وهو من سيتذكرونه بالتأكيد.
القدس العربي
——————————
بين الأسد وقسم أبقراط/ جمال محمد إبراهيم
19 يناير 2025
من ينظر إلى سورية التي حكمها رجلٌ ورث الحكم وراثة لا مسوّغ شرعياً أو قانونياً لها، سيرى مشهداً ودّع فيه شعب عاش القهر أكثر من ثلاثة عقود أو تزيد، وافتتح عهداً جديداً في الشهر الأخير من عام 2024. لقد شنَّ نظام البعث العربي بعد تولي ذلك الوريث حكم البلاد بقبضة حديدية حرباً شعواء ضد أبناء شعبه، بل قل أبناء جلدته، تكاد تشبه حربَ إبادة جماعية. عندما هبّت نسائم الربيع العربي على سورية وبعد السقوط المدوّي لبعض زعماء عرب في شمال أفريقيا، اقترب الشعب السوري من هبَّة كادت أن تسقط النظام، غير أن بشّار الأسد كان طاغية جبّاراً، لا شخصاً كان يمتهن يوماً مهنة الطب. ليعجب المرء، عربياً كان أم أجنبياً، أن يرى دولة تقف على تاريخ وإرثٍ راسخ في وجدان كل عربي تتداعى عظمتها تحت مباضع جزّار لا يرحم.
بشّار الأسد حاكم وطبيب، والطبيب في أيّ مجتمع إنساني راشد، يداوي ولا يقتل، إلا إن كان يرى، وباعتقاد زائف، أن قتل معارضي حكمه من أشكال القتل الرحيم الذي شاع في حضارات غير حضارةٍ كان من مؤسـّسي علم الطب فيها تاريخياً، علماء مثل الشيخ الرئيس ابن سينا وابن الهيثم ويعقوب الكندي وأضرابهم.
لو فعل حاكمٌ مثل فعل بشّار الحاكم الطبيب بشعبه، قـتلاً وتشريداً وتحطيماً بمقدرات بلاده، وهو طبيب، فإنه لن يكون قطعاً ذلك الطبيب المداوي، بل هو قاتل ســفاح، ويشهد عليه سجن صيدنايا لا يقلّ شـراسـة عن هولاكو التتاري وأشباهه في التاريخ القديم.
(2)
للمرء أن يتساءل: ترى هل درَى الرّجل أن أفعاله تخـدم مصالح تخصّ الشعب السوري، وتعزّز مكانة سورية في قلب أمتها العربية، أم هي لخدمة مصالح تخصّه أو تخصّ أطرافاً معلنة يعـرفها الناس؟ من تابع ورأى إلى أيّ جهة فـرّ واختبأ، يدرك أيّ أجندة اعتمدها الرجل الذي حكم سورية 24 عاماً في لعبة التنافس الدولي. إنّهُ محض بيدق تتحكّم فيه إرادة أقوى من إرادته السياسية يملكها كبارٌ في ذلك الملعب. لم يكن الرجل سوى ناطور مطلوب منه أن يُبقي الملائكة نائمين ليستأنف الكبار نهب ما يريدون. دعني أستعير لك من بيت شعري للمتنبي يصدق على تلك الحالة، فقد نامت نواطير بساتين المجتمع الدولي عن ثعالبها فقدـ بشمن وما تفنى العناقيد لكن الناطور لم يكتفِ بالحراسة بل حثّ جلاوزته لرمي معارضي نظامه في سجن صيـدنايا. بعد أن كمَّم الأسـد أفواه من عارضوا دوره بيدقاً في لعبة التنافس الدّولي، صارت سـورية كلها حبيسة ذلك السـجن.. تضامناً مع مقاطعة المجتمع الدولي لأفعال حليفهم المشـينة ضدّ شــعبه، انزوى في موسـكو حُماة نظــام الناطور خجـلاً، لكنهم ظلوا على حالـهـم يحمونه لتبقى سـورية تحت قبضتهم باباً مفتوحاً تطلّ عـبره على المناطق الدافئة في تخوم الشرق الأوسط.
(3)
ترى هل سمع أحدٌ بدورٍ قويِّ لموسكو حين انبرى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، في فترة رئاسـته الأولى، متبنّياً حماية إسرائيل؟ الإجابة هنا بالنفي. أما في حقبة الرئيس الحالي بايدن، فقد انشغلت موسكو بحربها المعلنة ضد أوكرانيا لحوالي العامين.
بات النظام السّـوري الذي يتزعّمه بشّار الأسد، مُنهكاً بسبب جولات المعارضة السجالية معه، فيما لموسكو حساباتٌ تخصّها وهي ترى أن قـيامة حليفها، كادت أن تقوم جرّاء استفحال معارضة نظامه المشتدة داخليا وخارجياً. رهان موسكو ونفوذها ووجودها العسكريّ في سورية بدا مُكلفاً، ولم تعد له أولوية في حساباتها، فيما حربها مستعرة ضد أوكرانيا. في لعبة التنافس الدولي، تدرك موسكو مرامي مساندة كلٍّ من الغرب الأوروبي والولايات المتحدة لأوكرانيا في حربها ضد روسـيا. المواجهات لم تعد باردة كما في حقبة أواسط القرن العشرين، ولا ساخنة بين كبار المجتمع الـدولي، بل صارت الصورة أقرب لمواجهات لحروبٍ بأسلحة جيلٍ جديدٍ تدار وقائعها بالوكالة. تلك تعقيدات تركت تأثيرها على مجمل العلاقات السورية الروسية، ولربما كانت هي التي عجّلتْ برحيل نظام الأسد ورمتْ به إلى مزابل التاريخ.
(4)
للمرء أن يتساءل إن كان الطبيب الذي حنث بقسـم أبقراط، وحمل عـبء إدارة حكم سورية عقب موت والده، وخلال كل هذه المدة الطويلة، قـد حقق نجاحات تبرّر بقائه طويلاً في حكم البلاد، أم أن سياسات البطش الأمني طوال حقـبة حكمه هي التي قادت المعارضة السورية بمختلف راياتها إلى إسقاط نظامه؟
قد تكون الإجابة بنعم، ولكن بتحفظٍ على السؤالين. لعلّ الأرجح أنّ نظام الطبيب الفاشل، صار عبئاً على أشقائه العرب يوم قرّروا طرد نظامه من جامعة الدول العربية سنوات، ثم أعادوه على مضض، لكن نظامه صار أيضاً عبئاً ثقيلاً على دولتين تحالفتا معه، هما روسيا بعلمانيتها وإيران بإسـلاميتها، إذ نفضتْ الدولتان كلاهما أيديهما فخسر “الطبيب الرئيس” كروت بقائه، بعد أن تنمّرت المعارضة السّـورية فجأة وبإسـناد خفيّ ممّن حوله ومـن المجتمع الدولي، فهوى النظام وفـرَّ الرَّجل إلى موسكو.
(5)
ذهب الأسد إلى الاختفاء، وهو لا شك تتملكه الحسرة، فلم يتوقع أن تسقطه قوى من المعارضة كانت تتوجّس منها الولايات المتحدة والكثير من الأطراف الأوروبية وأيضا أطرافٌ عربية ذات وزن. هي حسرة مشوبة بخذلان.
سورية التي كانت أول من جرب إسـقاط الحكومات بالانقلابات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط في أربعينيات القرن الماضي، ينجح شعبها في إسقاط حكومة جاءت بانقلاب عسكري قبل أكثر من 50 عاماً. الرجل الذي أسقطه شعبه لن يجد نظاماً يترأسه، بل ولا مشفى يمارس فيه مهنة الطب فقد حنث بقسم أبقراط، وأهدر أهم بنود ذلك القسم بإهداره دم الإنسان ودم شعبه وقتل النفس بغير حق. أما المستفيد الأول من قهر الأسد الشعب السوري فهو الكيان الصهيوني الذي ترك له الأسد بلداً منهكاً لن يكلفه جهداً إضافياً ليفعل مثلما فعل في غزّة أو لبنان.
العربي الجديد،
———————–
في رحيل فرحان بلبل: لا فِعل بدونِ فِكر/ أنور محمد
19 يناير 2025
فرحان بلبل (1937- 2025) كاتبٌ وناقدٌ ومخرجٌ مسرحيٌ سوري شكَّلت مسرحياته التي قدَّمها مواقف مثيرة ضد التخلف والاستبداد الذي تمارسه السلطات العربية على العقل النقدي لشعوبها، وتميَّزت عن غيرها من المسرحيات العربية بأنَّها أوَّل تراجيديات عن صراع العُمَّال مع رؤسائهم في الدول التي تبنَّت النظام الاشتراكي مثل مصر وسورية. فأرانا فرحان بلبل كيف كان استغلال السلطة الاشتراكية للعمال فظًا وقاسيًا، وأنَّ السلطة كانت تمارس مهنة القتل اليومي لمواطنيها/ عمَّالها؛ وحوَّلت النقابات التي يُفترض أن تُدافع عن حقوقهم إلى متعهدٍ لدفن الحق والعدالة كما يُدفنُ الموتى، وكيف حوَّلت العلاقة بين العُمَّال والدولة إلى علاقة بين مُستَغَل ومُستَغِل، كاسرةً كلَّ اضرابٍ يقوم به العُمَّال.
كَتَبَ فرحان بلبل أكثر من أربعين مسرحية أَخْرَجَ مُعظمها؛ أوَّلها كانت مسرحية “الجدران القرمزية” التي كتبها سنة 1969، ثم: الحفلة دارت في الحارة، يا حاضر يا زمان، لا ترهبْ حدَّ السيف، الممثلون يتراشقون الحجارة، العشاق لا يفشلون، الصخرة، الصندوق الأخضر، البيت والوهم، الطائر يسجن الغرفة، العيون ذات الاتساع الضيق، القرى تصعد إلى القمر، الميراث، الليلة الأخيرة، ديك الجن، عريس وعروس، ابدأ، أُحبُّها… وغيرها. وها
وهو في مسرحياته يذهب إلى الصراعٍ فالصدام الذي يأخذ عدَّة مسارات؛ مثل الصدام الفيزيولوجي كما في مسرحية “الجدران القرمزية”، والصدام الروحي/ النفسي عندما يستغلُّ القويُّ الضعيفَ ويُصادر حقوقه كما في مسرحية ” يا حاضر يا زمان”. وهو صراعٌ وجودي، سواء انتصر الخيرُ على الشرّْ أو الشرُّ على الخير؛ وبذلك تراه يُصوِّر القهر السياسي وكَمَّ الأفواه والإكراه الأعمى على الرضى بالواقع. طبعًا فرحان بلبل في مسرحه (العُمَّالي) يدفع العُمَّال- وهو مُؤسِّس فرقة المسرح العُمَّالي سنة 1973 في سورية؛ لأن يلعبوا دورًا إبداعيًا/ حياتيًا فلا يقفون مكتوفي الأيدي أمام سكاكين وخناجر الدولة التي تستعبدهم عبر (نقاباتها) التي تحوَّلت إلى أفرعٍ أمنية.
في مسرحيته الأولى “الجدران القرمزية” التي كتبها وأخرجها عام 1969، وهي عن القضية الفلسطينية، بطلُها العم أحمد يتصارع فيها مع عدوين: الصهيوني في الأرض المحتلة من طرف، وسلمانُ الخائنُ وخليل المتخاذلُ من طرفٍ ثانٍ، ويتحوَّل الصدام فيها من الصالة إلى مخيم اللاجئين الفلسطينيين في حمص، ويتمُّ إشهار السلاح لولا تدخل من تدخَّل من العقلاء وإلاَّ كان الدم سيُساح.
فرحان بلبل في مسرحياته/ تراجيدياته، يضعنا كمتفرجين في واقع جمالي ولكن وهو يغلي في قِدْرٍ سياسي، فيذهب من الفكر إلى تحقيق الفعل، فلا فِعلَ بدونِ فِكرْ؛ وإنَّ الفكرَ يقود الفعل. وأشدُّ ما كان يَحْذَرُ ويُحذِّرُ منه أنْ نقعَ في الهرطقة فَيُشَلُّ العقل. لذا نرى أنَّ شخصيات مسرحياته لا تستسلم للصدفة ولا للبطالة، ولا للكسل ولا لليأس، رغم أنَّ أغلبها شخصياتٌ تعاني الجوع إلى الحريَّة السياسية والاقتصادية لتأسيس دولة سورية الفكر والعقل. شخصياتٌ مندفعة فلا تُساقُ مع القطيع إلى المسالخ والمذابح. فعبد المطلِّب جدُّ الرسول محمَّد (ص) وهو سيِّدٌ من سادات قريش في مسرحيته “الممثلون يتراشقون الحجارة” وهي مسرحٌ داخل المسرح، يُحوِّله فرحان بلبل من شخص يُدافع عن إِبِلهِ/مالِهِ أمام الملك أبرهة الحبشي حين احتلَّ مكَّة ليهدم بناء الكعبة كمكان ورمزٍ ديني واقتصادي واجتماعي في عام الفيل 570م، إلى بطل يدافعُ عن الكعبة بدل أن يدافع عن إِبِلِه؛ إذْ قال يومها عبد المطلب لأبرهة قولته: (الإبلُ لي والكعبةُ لها ربٌّ يحميها). فرحان في انقلابه على عبد المطلب ليدافع عن الكعبة بدلًا من دفاعه عن إِبِلِهِ حتى لو كانت حجرًا؛ إنَّما يرينا كيف تُصنع البطولة التي تُغيِّر التاريخ. فالدفاع عن المكان هو دفاعٌ عن الغريزة الاجتماعية، فنقول إنَّه كافحَ وقاتلَ من أجل المكان: وطَنه.
في مسرحية “يا حاضر يا زمان” سنرى فرحان بلبل في أقصى حالات الغضب السياسي، وهو يقيم الجدل بين الضرورة والاحتمال، وإن جاءت بعض حواراتها خالية من التصعيد الدرامي، إذْ ذهب إلى الشعارات السياسية ليكشف عورات النظام السوري وهو يُفرِّخ ويرعى ويحمي الفساد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على حساب الناس؛ يسرقُ تَعَبَهُم ويمصُّ دمَهُم، ثمَّ يبيعهم إيَّاه. سيِّدٌ وقنْ، ملكٌ ورعية، إنَّها علاقةٌ غير إنسانية كما لو أنَّها علاقةٌ بين كلبٍ وصاحبه، وهذا ما كان يثيرُ غضبه، وهذا ما راحت إليه المسرحية على ما فيها من مباشرة سياسية تطالبُ بمقاومة الفساد، واليقظة والحذر من المتلاعبين بقوت الشعب.
في مسرحيته “قطعة العملة” كأنَّ فرحان بلبل يقول: إنَّه لا وقتَ للموت ولا وقتَ للحياة. الوقتُ كلُّ الوقت ما بين الحياة والموت هو (للنقد/ المال). شخصيتان تعثران على قطعة نقود فتلتقطها إحداهما، يختلفان على ملكيتها، يتحاججان وإن كان كلًا منهما يريد امتلاكها رغم اتفاقهما على اقتسامها، سرعان ما يحلمان بامتلاك ما يتمنيانه وقد استيقظا فيقتتلان حتى الموت. بلبل في هذه المسرحية يذهب إلى القول إنَّ الموت قد ألغى (الأنا)، وإنَّ الوقت الذي عاشه بطلا مسرحيته إنَّما هو جبرٌ وقتي. ماذا لو اقتسما المال/ قطعة العملة؟
إنَّها تراجيديا – وإن كانت ذهنية- من أسئلة فلسفية، يقوم المال الذي نجمعه، أو الذي جمعه الرئيس المهزوم/ الفار، على تصعيد الصراع وتأزيمه إلى الانفجار؛ فالموت، كون الوجودُ بِحلْوِهِ ومُرِّهِ، لا يدافع عن نفسه إذا قامت (الأنا) باغتصاب وعيه بالوجود، وتحوَّلت إلى وحشٍ بلا وعي.
ضفة ثالثة
————————————-
عن سورية وفلسطين وعن المعنى الحقيقي للسياسة/ راسم المدهون
18 يناير 2025
يثير دهشة المتابع – خصوصًا لمواقع التواصل الاجتماعي – كثافة المشاركات التي يكتبها فلسطينيون داخل فلسطين وخارجها، والتي تتناول الشأن السوري بطريقة صادمة بما تحمله من أفكار وآراء ينتظمها “موقف” واحد فاقع الوضوح هو الصدمة من سقوط نظام المخلوع بشار الأسد، وهي آراء قد تتنوع في شكلها وأساليبها لكنها تجتمع على فكرة الاستناد لمقولة أن المخلوع كان ينتسب لـ”محور المقاومة والممانعة” بما يعني أن غيابه يوصل إلى عالم آخر لا مكان فيه لهيمنة “الفكر المقاوم”.
وفي التحديق العميق وغير العابر لنظر سياسي كهذا نكتشف أن “أس” هذه “الرؤية” السياسية يقف في مكان آخر هو بالتحديد الفكرة القديمة، التي بليت واهترأت فيما أصحابها يتوسلون إدامة بقائها في حياتنا بأي ثمن بل بكل الأثمان، وأعني هنا فكرة “تسييد شعار تحرير فلسطين” هدفًا وحيدًا لا يجوز النظر إليه أو التعاطي معه في ظروفه الواقعية وموازين القوى التي تحكمه، بل والأخطر من ذلك في اعتبار هدف التحرير هدفًا لا يجوز أن يكون للفلسطينيين والعرب عمومًا هدف آخر يقاسمه الأهمية بل ولا أن يشاركه الوجود ولو في صورة ثانوية، والناظم هنا لذلك كله هو الشعار القديم إياه، شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
في أعقاب حرب 2006 في لبنان ذكر لي أحد أصدقائي، وهو سياسي معارض للمخلوع، أنه خلال عودته من بيروت بعد حضور “المؤتمر القومي والإسلامي العربي” إلى دمشق كان رفيقه في السفر “الأمين العام للمؤتمر” ما أتاح له خوض نقاشات طويلة معه تناولت موضوعات متعددة، لكن أهمها كان في سؤال رئيسي هو: هل نقبل إعلان هذا النظام العربي أو ذاك أنه مع المقاومة والممانعة وغض النظر عن علاقته مع شعبه؟ وبصورة أوضح: هل تفترض فكرة المقاومة ومواجهة العدو الخارجي علاقة ديمقراطية بين داعية المقاومة وشعبه؟
ما فاجأ صديقي الإجابة الواضحة التي قدمها له “الأمين العام” إياه: نحن نتوحد على قضية فلسطين ولا نتوحد على “قضايا قطرية داخلية”. وبكلام واضح ولغة بالغة الصراحة قال: لا تعنينا علاقة الحاكم بشعبه، فتلك مسألة داخلية تخص كل بلد عربي ولا تعني أحدًا سواه.
جنون رؤية سياسية كهذه أنها تبيح فكرة إطلاق يد الحاكم العربي واعتبار حرية شعبه “مسألة داخلية” أقرب لأن تكون “شأنًا عائليًا” لا يجوز الاقتراب منه، والأسوأ من هذا كله أن هذا الحاكم الذي يتوجب منحه هذا الامتياز لأنه مقاوم وممانع، هو في الحقيقة والواقع لا يمتلك من عالم المقاومة والممانعة سوى الشعار الذي يكرره ليل نهار بدون أية ممارسة على الإطلاق.
عقل كهذا يحتاج في صورة مستمرة لمحاولات دؤوبة لتكريس “فكر المقاومة” باعتباره فكرًا وحيدًا، وتحضرني هنا حملة التجييش التي مارسها الأسد المخلوع بعد حرب 2006 والتي كان عنوانها “تكريس ثقافة المقاومة” والتي مارسها بأشكال عديدة أبرزها صدور قرار من النظام بأن تكون ندوات “اتحاد الكتاب العرب” في سورية كلها لثقافة المقاومة، واستطرادًا في سياق أبله كهذا بدأنا نقرأ مقالات يتحدث أصحابها عن رفض أن يكتب المبدعون أدبًا إلا عن المقاومة، وقد تناسلت من موقف كهذا دعوات مضحكة لـ”التنقيب” عن أفكار “التطبيع” في هذه الرواية أو تلك، بل إن إحداهن (كاتبة رواية) قد شنت حملة هجوم على رواية أخي ربعي المدهون “السيدة من تل أبيب” انطلاقًا من عنوانها الذي بحسب الكاتبة يذكر اسم تل أبيب، الذي لا تعترف هي بأنها تسمعه في وسائل الإعلام آلاف المرات يوميًا لكنها ترى أن وجوده في رواية ما هو وحده الإفك، وقد أوصلت تلك الدعوات البلهاء أولي الأمر إلى تشكيل لجنة لمحاكمة “الفائزين بجوائز أدبية مشبوهة” وكان في عداد تلك الجوائز المشبوهة “جائزة البوكر العالمية للرواية العربية” و”جائزة الجامعة الأميركية” في القاهرة.
في مقابل تلك الترهات غوغائية الشكل والمضمون بتنا نواجه ما يقارب “استغراقًا” فلسطينيًا في فكرة “عبادة المقاومة” بعد تأليهها، ما جعل مثقفين “مرموقين” يبررون حروب حماس المتعددة في غزة ويؤمنون بأن القطاع الصغير المحاصر والبائس قادر على تحرير فلسطين، بل ويقبلون بتصريحات مخجلة من مثل قول بعضهم أن إبادة فلسطينيي غزة في المحرقة الراهنة ليست سوى “خسائر تكتيكية” لا يجب أن نتوقف عندها. هذا فتح الباب واسعًا لنوع مرضي من العصاب الذي يرى عدم جواز التعاطف مع أية قضية أخرى سوى فلسطين. أكاد أرى خلف تلك الدعوات نوعًا من العصاب الذي نتج عن الكوارث الفلسطينية الدامية التي خلقت في صفوف كثر من الفلسطينيين وبالذات “المثقفين” عقلية “الغيتو” بما تحمله وتستند إليه من “عنصرية المظلوم” الذي يستميت لتكريس مظلوميته باعتبارها مظلومية وحيدة لا يجوز لنكبة أي شعب آخر أن تشاركها ولا حتى أن “تشاغب” على حضورها في الساحتين السياسية والإعلامية.
عقلية كهذه سمحت ولم تزل تسمح لأفكار يحملها بعض المثقفين الفلسطينيين تضعهم في موقف الدفاع عن نظام الأسد البائد، وهو دفاع ذهب لرؤية انتصار الشعب السوري على الطاغية بوصفه “كارثة” تفتح الباب على طوفان من المؤامرات الكبرى على سورية والمنطقة والتي ستأتي تباعًا وحتمًا كما يرددون صباح مساء، بل إن من المضحك المبكي أن أحدهم وهو “شاعر مقاوم” كتب في صفحته على الفيسبوك يوم سقوط المخلوع أنه كان يتمنى لو أنه “كان نسيًا منسيًا ولم يعش لمشاهدة هذه المأساة”، بل هو “يحسد” صديقه الذي توفي قبل أيام لأنه مات قبل أن يعيش ويرى كارثة سقوط المخلوع!
من يكتب هذا الهذيان غير النبيل هو الذي يحدثك في أوقات الراحة والاسترخاء عن “التضامن الثوري” بين الشعوب المتباعدة وهو يرفض ويرتعد من فكرة التضامن مع الأخ الشقيق والذي شاركه العيش المشترك والحياة المشتركة منذ آلاف السنين، بل إن “ناقدًا” كتب يسألني بغضب لماذا أنا سعيد بسقوط نظام الأسد وماذا يسعدني في ذلك؟
هؤلاء “شبيحة” الطاغية وهم ليسوا مقاومين ولم يكونوا كذلك يومًا، وحضورهم الصاخب في العقدين الماضيين لم يكن سوى تعبير بائس عن انحطاط العقل وأفول المخيلة معًا، فالمجتمعات لا تتطور حياتها بالمراوحة في التكلس والجمود والذعر من أفكار حرية الشعوب وانطلاقها للتحديث والديمقراطية واستعادة أدوارها المسروقة بأيدي العسكر ورجال الأمن حراس ثروات الطغاة التي ينتهي الأمر كل مرة بسرقتها والهروب بها في الليل إلى بلاد اللجوء البعيدة.
هؤلاء يستخدمون في هرائهم ذاك “عصا غزة” وفجيعة أهلها ويحدثونك عن مأساتها باعتبارها إرثًا يدعم ترهاتهم ويمنحهم حق محاكمة من يخالفهم الرأي، وهم منذ سقوط المخلوع وغياب حزب الله وتقهقر إيران الراعية يبشرون بعصر استسلام شامل قادم، في محاولة لحجب النظر عن الكارثة الكبرى الحقيقية والتي تتمثل في النكبتين الفلسطينية واللبنانية، فالمهم هو استمرار حكم حماس في غزة، واستمرار سيطرة حزب الله على لبنان واحتكار الحياة السياسية فيه ناهيك عن الدمار الشامل في الجنوب والضاحية والبقاع وعجز اللبنانيين لعامين كاملين عن انتخاب رئيس للجمهورية بسبب من تلك “المقاومة” العتيدة.
أعتقد أن عصرًا جديدًا بدأ مع سقوط المخلوع بشار الأسد وهو – ومهما كانت التفاصيل القادمة- عهد الشعوب واستعادة أدوارها واستعادة فكرة تحرير السياسة من أسر القبضة العسكرية – الأمنية التي احتجزت سورية وقضت على ذلك التطور الذي شهدته في السنوات الأولى بعد الاستقلال وقبل الحكم العسكري واستعادة فكرة أن كل قضايا العيش اليومي للشعب السوري نبيلة وعظيمة الأهمية وتستحق أن يتوحد في سبيلها أبناء سورية كلهم وبكافة قومياتهم وطوائفهم وتياراتهم السياسية التي جعلت سقوط الطاغية وانتصار الشعب السوري ممكنًا ومطلوبًا من أجل سورية جديدة لا تشبه تلك المثخنة بجراح أبنائها وتدهور اقتصادها والتي عبر عنها السوريون في عرسهم الكبير يوم الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
في سياق كهذا يبدو صخب البعض الفلسطيني عن “المقاوم” بشار الأسد نشازًا فاضحًا ومفضوحًا إلى لغة آفلة ومعيبة يخجل منها المنطق والعقل السليم الذي لا يقبل تحت أية ذرائع أن يؤيد من يقبع تحت الاحتلال والظلم ويكافح من أجل التحرر باستعباد شعب آخر، فكيف إذا كان هذا الشعب هو شقيقه الذي عاش طيلة تاريخ البشرية معه كشعب واحد قبل أن يتم اختراع سايكس – بيكو؟
ضفة ثالثة
—————————
إسرائيل في سوريا: امتحان تركي أميركي أيضا
سمير صالحة
2025.01.19 | 05:26 دمشق
2
+A
حجم الخط
-A
تسير العلاقات التركية الأميركية منذ سنوات فوق حقل ألغام بسبب كثير من ملفات التوتّر والتباعد. لم يتردد جو بايدن في اعتماد سياسة إضعاف تركيا وتعريض مصالحها للخطر في الإقليم. أنقرة بالمقابل تمسّكت باستهداف شركاء واشنطن على خطّ شرق الفرات والسليمانية. هي لم تشأ أيضا التفريط بعلاقاتها مع روسيا والصين على أكثر من جبهة.
أمام تغيرات المشهد الإقليمي بدأنا نسمع الرئيس التركي وهو يكرر مقولة أنّ هناك لوبيات كثيرة يهمّها تسميم العلاقات التركية الأميركية، لكنّنا سنقف سدّاً بوجهها. رسائل انفتاحية جديدة باتجاه دونالد ترمب قبل أيام من عودته إلى البيت الأبيض، لكننا لا نعرف كيف سيفعل أردوغان ذلك وهل ترمب على استعداد لإعطائه ما يريد؟
لا أحد يتوقع انفراجة باكرة وسريعة في العلاقات التركية الأميركية، إذا لم نقل إن العكس هو الصحيح على ضوء ما نسمعه ونقرأه نقلا عن فريق ترمب الرئاسي الجديد. لكن المتغيرات الإقليمية الأخيرة في المنطقة خصوصا على جبهتي لبنان وسوريا قد تشكل حافزا باتجاه انفراجة واسعة في العلاقات بين البلدين.
الحديث يدور في الداخل التركي عن احتمال تحول المشهد السوري إلى فرصة للتقريب بين واشنطن وأنقرة في التعامل مع ملفات وأزمات إقليمية فيها كثير من المقايضات والصفقات
العقبة اليوم هي دخول تل أبيب على الخط بعد باريس لمواصلة سياسة بتحريض واشنطن ضدّ تركيا في سوريا وشرق المتوسط وإيجه وشمال أفريقيا بعدما تضرّرت مصالحهما بسبب السياسات التركية. صعّد نتنياهو ضدّ أنقرة بسبب مواقفها من الحرب على قطاع غزة وممارسات إسرائيل في جنوبي سوريا. لكن المشكلة هي أن واشنطن أيضا بدأت تنتقد الممارسات الإسرائيلية في المكانين. إسرائيل ستكون من بين المتضرّرين في حال أي تقارب تركي أميركي في سوريا. خصوصا وأن الحديث يدور في الداخل التركي عن احتمال تحول المشهد السوري إلى فرصة للتقريب بين واشنطن وأنقرة في التعامل مع ملفات وأزمات إقليمية فيها كثير من المقايضات والصفقات.
سبب المواجهة التركية الأميركية في سوريا هو ليس تضارب السياسات، بل طريقة تعامل الطرفين مع مصالح شركاء وحلفاء لهم هناك. يمنح سقوط المشروع الإيراني في المنطقة وتراجع النفوذ الروسي في سوريا، فرصة لأردوغان وترمب باتجاه صناعة سياسة إقليمية أكثر تأثيرا، لكن عليهما أولا تجاوز “قطوع” شرق الفرات وتوغل نتنياهو في المشهد السوري مستغلا الظروف السياسية والأمنية القائمة.
سيبذل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جهدا إضافيا لإقناع صديقه ترمب بفوائد “التهدئة الإقليمية” التي يتحدث عنها منذ عامين، وبارتداداتها الإيجابية على مصالحهما المشتركة، وحيث تعود غالبية أسباب الخلاف والتباعد بشأنها إلى طريقة تعاملهما ونظرتهما إلى سبل حماية مصالح شركاء وحلفاء لهم لا يريدون التخلي عنهم.
سقوط المشروع الإيراني في المنطقة وتراجع النفوذ الروسي في سوريا، يشكل فرصة لأردوغان وترمب باتجاه صناعة سياسة إقليمية أكثر تأثيرا.
سيتمسك أردوغان بموقف عدم مواصلة التصعيد ضد طهران في الإقليم أكثر من ذلك، لأن ارتدادات المزيد من التصلب ستنعكس على أنقرة قبل غيرها. كما سيصر على تفعيل سيناريو التقريب بين ترمب وبوتين لوقف الحرب في القرم، والبحث عن خيارات وبدائل مقبولة فيها بعض التنازلات والمساومات وتفتح الطريق أمام معادلة ” إربح ودع غيرك يربح “. في المقابل سيحاول الرئيس الأميركي إقناع نظيره التركي بعدم إشعال جبهة شرق الفرات ضد مجموعات “قوات سوريا الديمقراطية” مقابل سحب ورقة “داعش” من يدها، وتفعيل الحوار السوري السوري، المرتبط بالحؤول دون عودة إيران إلى دمشق ومراعاة مصالح موسكو في إطار صفقة إقليمية أوسع. كما سيعمل على إقناع أردوغان بالتخلي عن مواصلة توتير العلاقة مع تل أبيب في سوريا مقابل دفعها للانسحاب من المناطق التي دخلتها في مناطق فض الاشتباك والبحث عن فرص الاستفادة من المتغيرات السياسية والأمنية في المشهد السوري.
رسائل ماركو روبيو المرشح لمنصب وزير الخارجية الأميركي أمام “امتحان الفحص” في مجلس الشيوخ الأميركي لم تكن مشجعة “الحكام الجدد في سوريا لا يمنحوننا الطمأنينة.. إيران وروسيا ستعودان لملء الفراغ في سوريا إذا لم تقم واشنطن بـالاستفادة من هذه الفرص”. ويتابع “أردوغان عائق أمام تحسن الأوضاع في سوريا.. إدارة ترمب ستتواصل فورا معه لثنيه عن اتخاذ أي خطوة ضد الأكراد في سوريا. لأنه على واشنطن أن تستمر في دعم قوات سوريا الديمقراطية “. فهل مواقف روبيو هي التي ستعتمد في سياسة ترمب السورية؟
تجاهل اجتماع روما الأميركي الأوروبي الأخير بحث موضوع داعش في سوريا وسبل معالجته مع الجانبين التركي والسوري. فهل يتبنّى ترمب بعد أيّام السياسة نفسها، وهو الذي أعلن قبل سنوات انتهاء الحرب على “داعش”؟
إذا ما قدم ترمب لأنقرة ما تريده في الملفّ السوري، فلن يتردد أردوغان بالرد عبر كثير من الهدايا السياسية والاقتصادية بطابع إقليمي. العقبة أمام جهود ترمب للتقريب بين أنقرة وتل أبيب هي التصلب الإسرائيلي في سوريا. فكيف سيتصرف ترمب لإنهاء التوتر التركي الإسرائيلي وهو يستعد لتفعيل صفقة القرن بشكلها ومضمونها الجديد؟
كشف الرئيس الأميركي جو بايدن وقبل أيام من مغادرته للبيت الأبيض عن نقاشات كواليس دارت بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. “حاولت ثني إسرائيل عن القصف العشوائي للتجمعات البشرية بغزة، فرد عليه نتنياهو بقوله أردتم الفوز في الحرب العالمية الثانية فقصفتم برلين وألقيتم قنبلة نووية على اليابان”. تراشق فاضح قد يخدم أهداف أردوغان الذي قال إن إسرائيل ستنسحب عاجلا أم آجلا من سوريا. لكنه ينفع ترمب أكثر لأنه يورط الثنائي بايدن – نتنياهو أكثر فأكثر في ارتدادات الملف الفلسطيني بسبب سكوتهما المشترك عما فعلته إسرائيل طوال 17 شهرا في قطاع غزة، وينتزع بالتالي كثيرا من التنازلات الإسرائيلية قبل دخوله البيت الأبيض لإطلاق حملة صفقة القرن – 2 بعد إدخال كثير من التعديلات عليها والتي سيكون لسوريا حصتها الكبيرة فيها.
سيقوي ارتفاع أصوات المنددين عربيا وتركيا وغربيا بالممارسات والسياسات الإسرائيلية في الإقليم موقف ترمب، إذا ما كان يحتاج إلى مثل هذه الفرصة لوضع خطة سلام إقليمي جديدة معدلة. الشق السوري مهم هنا فهو قد يمنحه فرصة أقوى بعد سقوط نظام الأسد وانهيار الجدار الإيراني واستعداد موسكو للدخول في لعبة تفاهمات متعددة الأهداف والجوانب. نتنياهو هو الذي يوسع من رقعة اعتداءاته ويخرق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ولا يحترم قرارات مجلس الأمن الدولي في جنوبي سوريا، ويعلن أنه لن ينسحب من المناطق التي دخلها.
بمقدور ترمب هنا أن يستمد قوته مما تقوله العواصم العربية وأنقرة إذا ما كان راغبا في محاصرة القيادة الإسرائيلية وإلزامها بالتخلي عن سياساتها الحالية في التعامل مع الملفات الإقليمية. اتساع رقعة الاصطفافات الإقليمية في مواجهة نتنياهو قد يمنح ترمب فرصة لا تعوض إذا ما كان راغبا في الذهاب وراء التهدئة الإقليمية مستفيدا من التحولات والمتغيرات الإقليمية الحاصلة والتي قد لا تتكرر بمثل هذه السهولة.
أسلوب الشرع في عملية توحيد سوريا من جديد قد يغضب إسرائيل، رغم الرسائل المعتدلة التي وجهها وزير الخارجية السوري تجاه تل أبيب حول أننا لن نشكل أي تهديد لأي دولة بما فيها إسرائيل. لكن نتنياهو يريد البقاء في سوريا لأطول مدة ممكنة ينجز خلالها عملية تحييد القوة العسكرية لسوريا وإلزامها باتفاقية سلام مع إسرائيل. الطريق إلى ذلك يمر عبر تفكيك سوريا وشرذمتها إلى كانتونات تتناحر حول تقاسم الثروات والسلطة. فهل هذا هو أيضا ما سيدعمه ترمب؟ أم هو سيصغي لما سيقوله أردوغان حول مخاطر سيناريوهات كارثية من هذا النوع على أمن واستقرار المنطقة بأكملها؟
تلفزيون سوريا
————————
من الفصائلية إلى بناء جيش وطني/ لمى قنوت
تحديث 19 كانون الثاني 2025
تنوء الذاكرة السورية بإرث تحويل الجيش إلى أداة لقتل من ثاروا على سلطة وحشية، تلك السلطة التي أعادت هيكلة هذه المؤسسة بتأنٍ عبر عقود من الزمن، فشكّلته ببنية طائفية فاسدة، وقوننة حماية مجرميه من المساءلة، وقدسته، حتى وصلت مصاف قدسيته إلى رفع البسطار العسكري فوق رؤوس عابديه، من النساء والرجال، وتقبيله، كجزء من رمسنة العسكرة في المجتمع، والانتقال من التطبيع مع العنف إلى التحريض عليه، وخلق مناخ أباح للجنود القتل ونهب الأماكن المدمرة دون أي رادع أخلاقي وقانوني.
وكان انهيار الجيش مع فرار رئيسه وبعض أركان حكمه نموذجًا فريدًا عن نخر حثيث لبنيانه، أدى إلى انفراط عقده وشل تماسكه وتبخره دون حتى أن يدافع عن امتيازاته أو يفاوض على جزء منها مقابل المعلومات. وستبقى أسباب انهياره مجال بحث وتحليل تضيف أبعادًا جديدة إلى ما يتم طرحه حاليًا، كعدم رغبتهم في القتال، وضعف دعم الحليفين الرئيسين، الروسي والإيراني، خلال عملية “ردع العدوان”، والفساد المستشري بين صفوفه، وانخراط العديد من قواته بتصنيع “الكبتاجون” الذي وُجد مكدسًا في العديد من المرافق والقواعد العسكرية.
حددت السلطة الجديدة في سوريا انطلاق مسار هيكلة الجيش من تسليم السلاح “للدولة”، وحل جميع الفصائل المسلحة ابتداء من “هيئة تحرير الشام”، وضم من يرغب من أفراد تلك الفصائل إلى وزارة الدفاع، لكن الفصائل المسلحة التي ظهرت بعد 2011 في سوريا لها تاريخ في التنافسية والضغائن فيما بينها، وإرث وازن في الانشقاقات والدمج وإعادة الهيكلة وتغيير الاسم وطريقة تقديمها لنفسها (rebranding)، وعلى الرغم من أن بعضها استقر نسبيًا، فإنها فصائل تشكّل جُلها على خلفيات متنوعة، مناطقية، وأيديولوجية، وإثنية، وطائفية، ولعبت التبعية الخارجية دورًا مهمًا في تنافرها، أو الاقتتال فيما بينها، كما يحصل حاليًا بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) و”الجيش الوطني السوري”.
عمليًا وتاريخيًا، في المراحل الانتقالية، لا يمكن فصل بناء الجيش عن مناقشات الحوار الوطني، وعن العدالة الانتقالية التحولية وإحدى ركائزها المعنية بالمحاسبة، والأخرى المعنية بإصلاح المؤسسات والقوانين، وعن عملية بناء الدستور، فهي عمليات مترابطة ومتكاملة، تحدد مسؤولية الجيش، وحياديته عن الأحزاب والأيديولوجيات، وتمنحه استقلالًا مهنيًا ليدير شؤونه، وتؤطر خضوعه للدستور، وتفرض صلاحيات رقابية مدنية عليه من قبل مجلس الشعب، ضمن قضاء مستقل، وفصل للسلطات.
عادة، تعد القيود الدستورية على الجيش مهمة نظرًا إلى احتكاره أدوات العنف، وتوكل له مهام الدفاع عن الوطن ووحدته الترابية، تجاه أي عدوان، وبنفس الوقت قد يكون الجيش مصدر خطر أيضًا، حين ينحاز لطاغية أو لحزب سياسي، أو حين يقود انقلابًا، وعبر عن هذه الإشكالية الفريد ستيبان (Alfred C. Stepan) حين قال، “بينما يُعد احتكار استخدام أدوات العنف أمرًا ضروريًا للدولة الديمقراطية الحديثة، فإن الفشل في تطوير الآليات التي يمكن من خلالها السيطرة على الجيوش يُمثل تنازلًا عن السلطة الديمقراطية”، وهي معضلة لم تحسمها الدول الحديثة كممارسة سياسية، كدول الشمال العالمي التي مارست أشكالًا من القمع الأمني المعسكر على الحركات الاجتماعية كحركة “حيوات السود مهمة”، ونضال السكان الأصليين البيئي والحراك الطلابي الأخير في الشمال العالمي الذي طالب المؤسسات التعليمية والحكومية بوقف الاستثمار في المشاريع الصهيونية والشركات الداعمة للإبادة الجماعية في فلسطين.
بعض معوقات الانتقال من الفصائلية إلى بناء الجيش:
بداية، أثارت الخطوة الأولى في تعيين وترفيع 50 قياديًا من قادة فصائل عملية “ردع العدوان”، وخاصة للأجانب منهم، حفيظة كثير من السوريين والسوريات، بينما ما زالت المشاورات مع المنشقين عن الجيش في حدودها الدنيا، بالرغم من أهمية الاستفادة من خبراتهم وتكريمهم وجبر الضرر الذي وقع عليهم وعلى أسرهم. كما أن اعتماد الولاء كمعيار رئيس للتعيين والترفيع لا يشكّل أرضية صالحة في بناء جيش احترافي، بل هو نخر في بنيانه يعزز التنافسية والمحاباة في تحصيل المكاسب الشخصية ويكرس الشللية.
إن إعادة هيكلة الفصائل ودمجها ضمن الجيش كأفراد لا ككتل ستحتاج إلى كثير من المفاوضات وبناء الثقة بين جميع الأطراف، والسبيل إليها، خطة واضحة وشفافة قائمة على التشاركية لبناء الدولة، من خلال إطلاق عملية سياسة شاملة تبدأ بالانخراط الفعال في سلسلة من الحوارات الوطنية في كل المحافظات وبمشاركة واسعة من كل مكونات المجتمع وأطيافه، والأحزاب، والمجتمع المدني، والنقابات، وغيرها من المؤسسات والأفراد، دون إقصاء، وتنتهي الحوارات بعقد مؤتمر وطني تُرسم فيه ومن خلال مخرجاته معالم المرحلة الانتقالية وأولوياتها، بحيث تكون ملزمة للإدارة السياسية، ثم تنبثق عن المؤتمر لجنة تأسيسية منتخبة لكتابة الدستور.
مروحة التشدد السلفية المتنوعة المنضوية تحت إمرة “هيئة تحرير الشام” قد تؤدي إلى نشوء خلافات بين تلك الفصائل، التي تعتبر جزءًا من جهادها نشر رؤيتها الدعوية بين السوريات والسوريين، بينما تدرك بعض قيادات الفصائل الأخرى، وعلى رأسها قادة “هيئة تحرير الشام”، أن المرحلة تقتضي البراغماتية والتقية تجنبًا لصدام مع مجتمع سوري متنوع، ومجتمع دولي مراقب يستخدم رفع العقوبات كسيف مسلط على رقاب السلطة الحالية ورقاب السوريين والسوريات. وتسعى قيادة “الهيئة” لتفسير خطابها وسلوكها الجديد لقواعدها بشكل دائم، والتي ربما لم يُتح لها الوقت الكافي لفهم أبعاد التحولات والضغوط الدولية.
لا يمكن التقليل من دور العامل الخارجي وولاءات بعض الفصائل أو تبعيتها لدول لها مصالح قد تقوض السلم الأهلي وبناء الجيش، مثل تركيا وروسيا وأمريكا، وعلاقات خارجية للبعض كعلاقة “الإدارة الذاتية” مع إسرائيل، والتي عبرت عنها إلهام أحمد، رئيسة الشؤون الخارجية في “الإدارة” خلال لقاء أجرته قناة “العربية” معها، على إثر اتصال تم بينها وبين وزير الخارجية الإسرائيلي، بأنهم كإدارة ذاتية معنيون “بعلاقات حسن الجوار” و”استعدادهم للتعاون والسلام في المنطقة”، في الوقت الذي يواصل فيه الاحتلال التوغل في الأراضي السورية.
نواجه كسوريات وسوريين جملة تحديات متعددة الأوجه والمستويات لبناء دولة المواطنة المنشودة، تتطلب منا جميعًا العمل السياسي والنقابي المنظم، وهو مسار جمعي تشاركي تراكمي يحتاج إلى نفس طويل.
عنب بلدي،
———————–
تخفيف العقوبات لا ينعش الاقتصاد.. العقوبات تعرقل التعافي في سوريا
حسن إبراهيم | علي درويش
تحديث 19 كانون الثاني 2025
أعاد تغيير المشهد السوري سياسيًا واقتصاديًا ملف العقوبات المفروضة على سوريا إلى طاولة النقاش، بعد سقوط نظام حكم بشار الأسد، وزوال مبررات وجود العقوبات واسعة النطاق، عدا تلك التي تشمل الأفراد والكيانات مرتكبة الانتهاكات والجرائم بحق الشعب السوري، أو المرتبطة بمكافحة “الإرهاب”.
ومع تشكيل حكومة مؤقتة في دمشق، تكررت مطالب رفع العقوبات عن سوريا، أبرزها محليًا على لسان قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، الذي قال إن “الجلاد ذهب، والضحية موجودة في سوريا”، مطالبًا برفع العقوبات.
قوبلت المطالب والدعوات بإعفاءات أمريكية عن قطاعات مرتبطة بتلبية الاحتياجات الإنسانية، لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد، وبتحركات أوروبية واعتزام على رفع “القيود” والبحث في تخفيف العقوبات خلال اجتماع “بروكسل”، في 27 من كانون الثاني الحالي.
في هذا الملف، تسلط عنب بلدي الضوء على العقوبات المفروضة على سوريا والدعوات لإزالتها، وتسأل كلًا من حكومة دمشق المؤقتة عن إجراءاتها، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية عن الدور والموقف منها، وتناقش مع خبراء وباحثين إمكانية أن تتحول العقوبات إلى ورقة ضغط وابتزاز، وأثرها في عرقلة التعافي والاستقرار الاقتصادي والسياسي في سوريا.
حكومة دمشق تنتظر.. حراك أوروبي وإعفاءات أمريكية
منذ اندلاع الثورة السورية 2011، شكلت العقوبات أداة ضغط على النظام السوري السابق، بحراك ودفع من معارضين للنظام وجهود فردية وجماعية لمنظمات حقوقية وإنسانية، أدت إلى فرض عقوبات وتدابير استهدفت قطاعات رئيسة من الاقتصاد السوري، لتعطيل أنشطة النظام وخفض إيراداته، وتقييد قدرة الأسد على تمويل القمع، وإرغامه على حل سياسي يتماشى مع القرارات الدولية، خاصة قرار مجلس الأمن “2254”.
كما فرضت عقوبات على الأفراد والكيانات والنخب التابعة للنظام والتي سهّلت عمله، وعلى أفراد وجماعات أخرى منها “هيئة تحرير الشام”، وأعضاء منها، وزعيمها الذي يقود الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني).
رغم وضوح أهدافها وإيجابياتها، كانت العقوبات واسعة النطاق مثار جدل في سوريا، لأن تداعياتها طالت الشعب السوري وأفقرته وفاقمت معاناته، ورسخت سلطة الأسد من خلال تعزيز اقتصاد الحرب، وتمكين الشبكات الموالية له.
ودعت إلى رفع العقوبات على سوريا والسعي لإزالتها أكثر من 20 دولة عربية وأجنبية، منها دول مجلس التعاون الخليجي، وتركيا ومصر وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والأردن وإسبانيا وبريطانيا وأيرلندا الشمالية ولبنان، وممثلون عن الاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، إلى جانب مطالب من منظمات حقوقية وإنسانية.
واشنطن تراقب وتضع شروطها
كان للعقوبات الأمريكية دور في تقويض قدرة النظام السوري السابق، حيث طالت رأس النظام بشار الأسد وأفرادًا من عائلته نزولًا باتجاه الشخصيات الحكومية والاقتصادية والعسكرية الداعمة له، وكان أبرز هذه العقوبات والتي انعكست سلبًا على حياة السوريين تلك المفروضة على قطاعات خدمية واقتصادية، وأبرزها قانون العقوبات الأمريكي “قيصر”، الذي جرى تمديده نهاية 2024، إلى خمس سنوات إضافية.
وبعد توقعات وحديث عن رفع العقوبات الأمريكية على سوريا، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية، في 6 من كانون الثاني الحالي، الترخيص رقم “24” الذي يشمل إعفاءات تهدف لتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا، وضمان عدم إعاقة العقوبات للخدمات الأساسية، بما في ذلك توفير الكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي، لمدة ستة أشهر، مع مراقبة ما يحصل على الأراضي السورية.
وفي 15 من كانون الثاني، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات إضافية لتخفيف العقوبات، فيما يتعلق بالأمر التنفيذي “رقم 13894” الصادر في 14 من تشرين الأول 2019، حول “حظر الممتلكات وتعليق دخول بعض الأشخاص الذين يساهمون بالوضع في سوريا”.
وشملت التعديلات إلغاء إشارات التدخل العسكري التركي في شمال شرقي سوريا، وتحديث البنود المتعلقة بتجميد الممتلكات والداعمين للأفراد المشمولين بالعقوبات، ويهدف القرار إلى التعامل مع التطورات الأخيرة في الوضع السوري مع الالتزام بالقوانين المعمول بها.
يتيح الترخيص العام رقم “24” (GL24) الصادر عن وزارة الخزانة الأمريكية:
المعاملات مع المؤسسات الحاكمة في سوريا بعد 8 من كانون الأول 2024.
المعاملات لدعم بيع أو توريد أو تخزين أو التبرع بالطاقة، بما في ذلك البترول ومنتجات البترول والغاز الطبيعي والكهرباء، إلى سوريا أو داخلها.
المعاملات التي تكون عادة عرضية وضرورية لمعالجة تحويل الحوالات الشخصية غير التجارية إلى سوريا، بما في ذلك من خلال البنك المركزي السوري
يُسمح بهذا الترخيص حتى 7 من تموز 2025، مع قابلية التمديد
لا يؤدي الترخيص إلى رفع الحظر عن ممتلكات أو مصالح أي شخص محظور بموجب أي من برامج العقوبات لدى واشنطن
لا يُسمح بأي تحويلات مالية إلى أي شخص محظور، بخلاف الغرض من إجراء مدفوعات معينة مصرح بها للمؤسسات الحاكمة، أو مقدمي الخدمات المرتبطين في سوريا.
مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية، قال لعنب بلدي، إن قضية العقوبات معقدة، فهناك عدة أنواع مختلفة من العقوبات التي تحتاج إلى دراسة وفحص، ليس فقط من جانب الولايات المتحدة، بل وأيضًا من جانب بلدان أخرى، وفي بعض الحالات وفقًا لتفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وذكّر المسؤول بأن وزارة الخزانة الأمريكية أصدرت الترخيص العام رقم “24” لسوريا، للمساعدة في ضمان عدم إعاقة العقوبات للخدمات الأساسية، وتوفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية واستمرارية وظائف الحكم في جميع أنحاء سوريا، بما في ذلك توفير المساعدات الإنسانية والكهرباء والطاقة والمياه والصرف الصحي.
كما يسمح هذا الترخيص للسوريين في الخارج بإرسال التحويلات المالية من خلال البنك المركزي السوري، ويستمر هذا الترخيص لمدة ستة أشهر مع استمرار حكومة الولايات المتحدة في مراقبة الوضع المتطور على الأرض، وإمكانية تجديده بعد ستة أشهر.
أدرج الكونجرس تجديد عقوبات قانون “قيصر” في مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2025، الذي يمددها حتى عام 2029. ولا تزال أحكام قانون “قيصر” سارية حتى بعد رحيل الأسد، حيث نراقب كيف تتقدم الأمور في سوريا وطبيعة وسلوك أي حكومة مستقبلية.
مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية لعنب بلدي
وحول المخاوف بشأن تسييس قضية العقوبات وربط رفعها بتنفيذ خطوات أو إجراءات معينة من قبل حكومة دمشق، ووجود أي شروط أمريكية لرفعها، قال المسؤول لعنب بلدي، إن واشنطن تدعم عملية انتقال سياسي شاملة بقيادة سورية وملكية سورية. وينبغي أن تؤدي هذه العملية الانتقالية إلى حكم موثوق وشامل وتمثيلي وغير طائفي يفي بالمعايير الدولية للشفافية والمساءلة، بروح قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم “2254”.
وفق المسؤول الأمريكي، ينبغي لعملية الانتقال والحكومة الجديدة أن تلتزم بشكل واضح بما يلي:
احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع الناس في سوريا بشكل كامل، بمن في ذلك النساء وأعضاء المجتمعات السورية المتنوعة.
الحفاظ على تدفق المساعدات الإنسانية لجميع المحتاجين.
منع استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب أو أن تشكل تهديدًا لجيرانها.
ضمان تأمين أي عناصر متبقية من برنامج الأسلحة الكيماوية، والإعلان عنها وتدميرها بشكل آمن تحت التحقق الدولي.
وأضاف أن الإدارة الأمريكية الجديدة، التي تتولى مهامها الأسبوع المقبل، ستتخذ أي قرارات أخرى بشأن العقوبات.
حكومة دمشق: الترخيص المؤقت ليس حلًا جذريًا
مدير العلاقات العامة في وزارة الاقتصاد بحكومة دمشق المؤقتة، إياد نجار، قال لعنب بلدي، إن المتوقع من الترخيص الأمريكي أن يسهم في تسهيل تدفق السلع والخدمات الأساسية، خاصة في قطاع الطاقة، مع فتح المجال لإجراء معاملات مالية محدودة، ورغم ذلك، فإن تأثير هذه الخطوة سيظل محدودًا نظرًا إلى الطبيعة المؤقتة للترخيص.
وأضاف أن تخفيف العقوبات قد يؤدي إلى تحسن طفيف في قيمة الليرة السورية نتيجة زيادة التدفقات المالية، وارتفاع الثقة في الاقتصاد المحلي، لكن، بسبب نطاق الإعفاء المحدود وطبيعته المؤقتة، فإن الأثر الإيجابي على سعر الصرف سيكون محدودًا.
موفق نجار، يُعتبر هذا الترخيص خطوة أولية نحو تخفيف بعض القيود، إلا أن رفع العقوبات بشكل كامل سيعتمد على التطورات السياسية .
وأوضح أن الترخيص يتيح معاملات متعلقة بالطاقة، بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء، إضافة إلى معالجة التحويلات الشخصية غير التجارية عبر البنك المركزي السوري، ورغم أن هذا قد يدعم تحسين البنية التحتية ويُمهد لبدء بعض مشاريع إعادة الإعمار، فإن التأثير سيبقى محدودًا بسبب المدة الزمنية القصيرة للترخيص، مع ضرورة رفع كامل العقوبات لتحقيق انتعاش اقتصادي حقيقي.
واعتبر نجار أنه لا يمكن النظر إلى الترخيص المؤقت كحل جذري للأزمة السورية، إذ تبقى العقوبات المفروضة عائقًا رئيسًا أمام تحقيق انتعاش اقتصادي شامل وإعادة إعمار البلاد.
ومع زوال نظام الأسد، الذي كان السبب الرئيس في فرض هذه العقوبات وفي تدمير سوريا وإفقار شعبها، بات من الضروري رفع العقوبات بشكل كامل لإعطاء فرصة حقيقية للسوريين لإعادة بناء وطنهم وتحقيق الاستقرار والتنمية، وفق نجار.
إن استمرار هذه العقوبات، رغم تغير الظروف، يُبقي الشعب السوري تحت وطأة المعاناة ويعوق جهود إعادة الإعمار التي يحتاج إليها مستقبل سوريا.
إياد نجار
مدير العلاقات العامة في وزارة الاقتصاد بحكومة دمشق المؤقتة
مطالب أوروبية.. الأنظار نحو “بروكسل”
بدا تحرك دول الاتحاد الأوروبي واضحًا بمسألة رفع عقوباته المفروضة على سوريا، تعكسه تصريحات وزيارات شخصيات أوروبية رسمية إلى دمشق، ووثائق ظهرت إلى الإعلام، وحملت بنودًا وأولويات أوروبية مقابل الدعم ورفع القيود، بانتظار ترجمة الأمر فعليًا خلال اجتماع “بروكسل” المزمع عقده في 27 كانون الثاني الحالي.
تمحورت مساعي دول الاتحاد الأوروبي حول تعليق مؤقت للعقوبات المفروضة على سوريا، وتقاطعت في عدة بنود، وفق مسؤولين ألمان ووثائق عن دعوات وجهتها دول، واجتماعات نشرتها “رويترز” وموقع “يورونيوز“، وهي:
رفع القيود المفروضة على شركات الطيران، مثل الخطوط الجوية العربية السورية.
إزالة الحظر على تصدير تكنولوجيا النفط والغاز.
رفع القيود المفروضة على التصدير والمشاركة في مشاريع البنية التحتية والتمويل.
رفع القيود عن الأصول التجارية ذات القيمة العالية، مثل المركبات.
إعادة فتح العلاقات الاستثمارية والمصرفية بين البنوك السورية وبنوك الاتحاد الأوروبي.
مسألة رفع العقوبات عن “هيئة تحرير الشام” تحتاج إلى تنسيق أممي ومتابعة للتطورات الميدانية.
مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، أعلنت عن اجتماع وزراء خارجية الاتحاد في بروكسل (في 27 من كانون الثاني)، وقالت إن القرار الأوروبي بتخفيف العقوبات سيكون مشروطًا بنهج الإدارة السورية الجديدة في الحكم، والذي يجب أن يشمل مجموعات مختلفة والنساء و”عدم التطرف”.
وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، ربطت رفع الاتحاد الأوروبي للعقوبات بالتقدم السياسي في سوريا، قائلة إنه يتعين إشراك كل الفئات السورية، بمن في ذلك النساء والكرد بعملية الانتقال السياسي في سوريا إذا كانت دمشق تريد الدعم الأوروبي.
واقترحت بيربوك فرض نهج “ذكي” للتعامل مع العقوبات، ليحصل السوريون على الإغاثة ولجني ثمار سريعة من انتقال السلطة، دون توضيح ماهية هذا النهج.
وزيرة التعاون الاقتصادي والتنمية الألمانية، سفينيا شولتسه، قالت بعد أن قدمت وعودًا بالمساعدة في إعادة بناء النظام الصحي في سوريا، إنه لا ينبغي فهم ذلك على أنه دعم سياسي لـ”حكام الأمر الواقع الجدد”.
واعتبرت مفوضة المساواة والاستعداد وإدارة الأزمات في الاتحاد الأوروبي، حاجة لحبيب، أن العقوبات صيغت بطريقة لا تؤثر على العمل الإنساني، وجرى تخفيف الكثير منها بعد زلزال 2023، وهي فُرضت على النظام السابق، لكن أوروبا تنتظر بناء حكومة شاملة ودولة شاملة تضم كل السوريين بتنوعهم.
هناك بعض الدول الأوروبية مع إزالة العقوبات، لكننا نحتاج إلى إجماع على هذا الأمر، الكرة الآن في ملعب السلطات الحالية أيضًا.
حاجة لحبيب
مفوضة المساواة والاستعداد وإدارة الأزمات في الاتحاد الأوروبي
عقوبات معقدة تعرقل النهوض الاقتصادي
يصف باحثون وخبراء العقوبات المفروضة على سوريا بأنها معقدة، فهي لم تفرض بين يوم وآخر، بل كانت نتاج سنوات، بعضها كان قبل الثورة السورية، لكن الأشد والأكثر مطالبة حاليًا برفعها هي التي فرضت على سوريا بعد الثورة.
التخفيف الأمريكي غير كافٍ
وفق تحليل منشور عبر “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية“، ذكر الدكتور كرم شعار وبنجامين فيفي، أن الترخيص “رقم 24” يشكل تطورًا إيجابيًا، لكنه لا يرقى إلى مستوى تعزيز التعافي والاستثمار على المدى الطويل، لأنه يستبعد أحكامًا تتعلق بالمشاركة الاقتصادية الأوسع وجهود إعادة الإعمار.
الباحث الاقتصادي زكي محشي، قال لعنب بلدي، إن الرخصة العامة الصادرة عن الخزانة الأمريكية “هي إشارة إيجابية بالنسبة للوضع السوري”، لأن العقوبات الأمريكية أغلبها أو كلها تقريبًا كانت مفروضة بهدف تغيير سلوك نظام الأسد.
ويرى الباحث زكي محشي أن تخفيف العقوبات هو إشارة إيجابية على الاقتصاد السوري، وخاصة على صعيد تقديم المساعدات والدعم لسوريا، إذ سيصبح الدعم والتعامل مع المؤسسات الحكومية أسهل، وستصبح هناك إمكانية مباشرة للتعامل معها.
وهذا الشيء “مهم جدًا” بالوضع الحالي في سوريا لمساعدة الإدارة الحالية والمجتمع السوري، فهو بأمس الحاجة للمساعدات الإنسانية، لأن مستويات الفقر تزيد، وهناك ارتفاع كبير بالأسعار.
يضاف إلى ذلك أنه أصبحت هناك قدرة أكثر على تحويل أموال فردية، لكن ما زالت هناك عقوبات على تحويل أموال عن طريق المصرف المركزي للأنشطة التجارية.
وأشار الباحث زكي محشي إلى وجود تحديات، أبرزها استمرار أثر “الالتزام المفرط”، فأغلب الشركات والمؤسسات العالمية حتى البنوك والمؤسسات المالية لا يمكن أن تستثمر بسوريا وتدخل السوق السورية إذا كانت هناك عقوبات، فهي لن تخاطر بذلك.
وهذا الأثر السلبي لـ”الالتزام المفرط” سيستمر على المؤسسات المالية والمؤسسات التجارية والاقتصادية العالمية ما دامت هناك عقوبات.
التحدي الآخر له علاقة بالوضع الاقتصادي الحالي، في حال رفعت كل العقوبات وليس فقط تخفيفها أو منح رخصة عامة، فالاقتصاد السوري أو سوريا ما زالت “غير جاذبة للاستثمارات” باستثناء المغتربين الذين يريدون الاستثمار ببلدهم.
إشكالية العقوبات
الباحث في الاقتصاد السياسي بمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي، أوضح أن إشكالية العقوبات مكونة من عدة طبقات، وتستهدف عدة مستويات من أفراد ومؤسسات وشركات وغيرها، وبالتالي يتطلب معالجتها وقتًا وآليات متعددة.
وأضاف الدسوقي لعنب بلدي، أنه على الرغم من أهمية الاستثناءات التي تم الإعلان عنها من قبل الإدارة الأمريكية مؤخرًا، واستعداد دول أوروبية لرفع مؤقت للعقوبات، لما تحمله من رسائل سياسية إيجابية تجاه التغيير الحاصل في سوريا، “فإن الإطار الزمني الضيق لهذه الاستثناءات، وتداخل العقوبات، والتلويح المستمر بإعادة ما تم تجميده بشكل مؤقت ورهن ذلك باشتراطات سياسية وحقوقية وإنسانية، من شأنه الإبقاء على حالة عدم يقين، تنعكس سلبًا على تعافي الاقتصاد السوري”.
تعقيد العقوبات وكثرة تفاصيلها هما إشكالية ركز عليها مدير قسم تحليل السياسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، سمير العبد الله.
وذكر العبد الله لعنب بلدي، أن بعض العقوبات منذ عام 1979، لذلك من غير المتوقع رفعها بالقريب.
محاولات ومطالب بالرفع
يمكن ربط رفع بعض العقوبات غير ذات التأثير المباشر على الاقتصاد السوري وحياة الناس، بخطوات عملية تتخذها الإدارة السورية الجديدة، وفق الباحث سمير العبد الله.
وقال إن الخطوات تشمل تعزيز المشاركة السياسية، والشروع في وضع دستور جديد، أو التمهيد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، و”هذه المطالب ليست شكلًا من أشكال الابتزاز السياسي، بل تأتي ضمن التزامات جوهرية مستمدة من القرار الأممي 2254″، الذي وافق عليه كل من النظام والمعارضة في حينه، ما يجعل من تطبيقه ضرورة للخروج من حالة العزلة السياسية والاقتصادية.
وسعي بعض الدول العربية وتركيا إلى تخفيف العقوبات هو لأسباب اقتصادية واستراتيجية، إذ تأمل هذه الدول في تعزيز الاستثمارات العربية بمرحلة ما بعد الأسد، وتهيئة بيئة أكثر استقرارًا لدفع عجلة إعادة الإعمار.
ومع ذلك، فإن هذا التوجه “يواجه عقبات بسبب التباين في المواقف الدولية، والضغوط التي تمارسها قوى كبرى للحفاظ على العقوبات كأداة ضغط لتحقيق تغييرات سياسية ملموسة”، وفق تعبير العبد الله.
لذلك، يظل رفع العقوبات عن سوريا مشروطًا بإرادة سياسية حقيقية لتنفيذ إصلاحات جذرية، وفق العبد الله، ولا يمكن التعويل فقط على التحركات الإقليمية لكسر العزلة الدولية، ما لم تُترجم هذه الجهود إلى خطوات عملية على الصعيد الداخلي.
وفي مقدمة هذه الجهود مؤتمر وطني يرسم خريطة طريق للمرحلة المقبلة، ويكون ممثلًا لمعظم المكونات والمناطق السورية، ثم حكومة تكنوقراط انتقالية تهيئ البلاد لكتابة الدستور والانتخابات.
قطاعات أساسية
استهدفت العقوبات الغربية قطاعات رئيسة في الاقتصاد السوري، مثل النفط والخدمات المصرفية والتجارة، إلى جانب العقوبات الفردية التي تستهدف النخب التابعة للنظام.
وكان الهدف هو تقييد قدرة الأسد على تمويل القمع وإجبار نظامه على التوصل إلى تسوية سياسية تتماشى مع القرار الأممي “2254”.
وفي حين أدت العقوبات إلى تعطيل أنشطة النظام وخفض الإيرادات، فإنها رسخت أيضًا سلطة الأسد من خلال تعزيز اقتصاد الحرب وتمكين الشبكات الموالية، ما أدى إلى تفاقم معاناة المدنيين في هذه العملية، بحسب تحليل نشره “مرصد الشبكات الاجتماعية”.
قال الباحث أيمن الدسوقي، إن القطاعات الواجب رفع العقوبات عنها تلك التي تتصل بقطاعي الطاقة والمال، فتأمين إمدادات مستقرة من الوقود والتغذية الكهربائية شرط ضروري لتعافي الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية، كذلك القطاع المالي والمصرفي لتسهيل حركة التجارة والاستثمارات في سوريا.
ولاستمرار العقوبات أثر سياسي واقتصادي وحتى مجتمعي، معرقل لإعادة بناء الدولة السورية واستقرار المجتمع السوري، واستمرار العقوبات من شأنه ترسيخ اقتصاد الحرب بشبكاته وآلياته على حساب الاقتصاد الرسمي الإنتاجي.
والإبقاء على العقوبات أيضًا يبقي سوريا في حالة عزلة سياسية، ويؤثر سلبًا على جهود الدول الإقليمية العاملة على توفير شروط الاستقرار للدولة السورية، وإضعاف عملية إصلاح مؤسساتها، أما مجتمعيًا، فمن شأن العقوبات إذا ما ترافقت مع بقاء مناطق نفوذ أن تسهم في تكريس الانقسام المجتمعي.
العقوبات.. سهلة الفرض صعبة الإزالة
آرون لوند باحث سويدي متخصص بالشأن السوري في مركز “Century International”
آرون لوند
آرون لوند
باحث متخصص بالشأن السوري في مركز “Century International”
إن القادة الأمريكيين والأوروبيين قلقون بشأن استقرار سوريا، فهم يرون أن حكومة أحمد الشرع الجديدة ضعيفة، وستجد صعوبة في توسيع نفوذها ما لم تتمكن من تشغيل الاقتصاد.
والواقع أن العقوبات تعوق التجارة والاستثمار في سوريا، لكنها في الوقت نفسه تشكل أداة ضغط للعواصم الغربية، التي تريد أن تضمن ألا ينتهي الأمر بسوريا إلى نظام على غرار نظام أفغانستان.
ومن منظور الاستقرار، فإن أفضل شيء قد يكون رفع العقوبات، أو تعليقها مؤقتًا على الأقل، على الفور، لكن العقوبات مفيدة من أجل تعظيم النفوذ الغربي، أو على الأقل هذه هي الفكرة في العواصم الغربية.
وهناك خطر يتمثل في أن تظل العقوبات سارية لفترة أطول مما ينبغي، وأن ينتهي بها الأمر ببساطة إلى إلحاق الضرر بسوريا وجعل عملية الانتقال أكثر صعوبة وإشكالية.
وخففت الولايات المتحدة بالفعل بعض العقوبات بشكل مؤقت، وهو ما يساعد سوريا اقتصاديًا، وقد وقفت هذه العقوبات في طريق الدول المجاورة والداعمة، مثل قطر أو تركيا، لمساعدة قطاع الطاقة السوري، ويمكن الآن تقديم مثل هذه المساعدة.
في الوقت نفسه، لم تلغِ واشنطن العقوبات بشكل دائم، ويمكنها إعادة فرضها إذا تغير الوضع، ومن المرجح أن تكون إدارة ترامب التي توشك على تولي السلطة في واشنطن أقل اهتمامًا بالوضع الإنساني في سوريا، لكنها لا تزال ترى قيمة في استقرار البلاد، لذا سيتعين علينا الانتظار لنرى.
ومن المرجح أن يحاول الاتحاد الأوروبي أن يحذو حذو الولايات المتحدة، وسيجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، لمناقشة العقوبات المفروضة على سوريا، وأتوقع أن يعلقوا بعض العقوبات، على غرار ما فعلته واشنطن.
بيد أن العقوبات الأوروبية لا تشكل مشكلة كبيرة بالنسبة لسوريا بقدر العقوبات الأمريكية، التي هي أشد قوة، وحتى لو رفعت أوروبا كل عقوباتها، فإن الفارق لن يكون كبيرًا إذا أبقت الولايات المتحدة عقوباتها سارية.
وبالنسبة للعقوبات على المسؤولين ورجال الأعمال السابقين في نظام الأسد الذين عملوا مع النظام المخلوع، لا ترغب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في رفع العقوبات المفروضة عليهم.
أما قضية تصنيف “هيئة تحرير الشام” كمنظمة “إرهابية” فهي منفصلة، وقد يكون حلها أكثر تعقيدًا، ولا يستحيل إيصال المساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها فصائل مدرجة على قائمة “الإرهاب”، أو التجارة معها، فقد سيطرت “هيئة تحرير الشام” على إدلب لسنوات عديدة، ولا تزال هناك طرق لتزويد المنطقة بالمساعدات الغربية والتجارة من تركيا، لكن بالطبع لا تزال هذه مشكلة.
والعديد من الشركات تخشى التعامل مع سوريا حتى لو كان ذلك قانونيًا من الناحية الرسمية، وذلك بسبب العقوبات وقوائم الإرهاب العديدة، ولا تستطيع هذه الشركات التنقل بسهولة في متاهة القواعد التنظيمية هذه.
كما أن العقوبات المالية المترتبة على انتهاك العقوبات قد تكون شديدة القسوة، وفي كثير من الحالات، ترفض البنوك أو الشركات الأخرى ببساطة التعامل مع سوريا أو السوريين حتى لو كان ذلك قانونيًا تمامًا، والسوريون يدركون هذا جيدًا، حيث واجه العديد من اللاجئين مشكلات مع البنوك وشركات تحويل الأموال.
حتى أنا، الذي لست سوريًا، تعرضت في بعض الأحيان لحظر معاملاتي الشخصية من قبل بنوك أوروبية وأمريكية، لمجرد أنني أكتب عن القضايا السورية، بالطبع يمكن حل هذه العوائق، ولم تكن مشكلة كبيرة بالنسبة لي، لكنها تظهر مدى تأثير هذه العقوبات.
في الواقع، كانت هذه العقوبات تتجاوز دائمًا هدفها المقصود، وهو نظام الأسد، والآن لم يعد هناك نظام الأسد، ولكن استمرت العقوبات قائمة، وهذا يوضح مدى سهولة فرض العقوبات، ومدى صعوبة إزالتها.
عنب بلدي
——————————
وحدة سوريا وشبح التقسيم/ مالك ونوس
19-يناير-2025
بعد نجاح الثورة في إسقاط النظام السوري، وهروب الرئيس المخلوع بشار الأسد، خارج البلاد، تَبيّن أن شعار الأسد الذي رفعه بعد انطلاق الثورة سنة 2011، والذي يقول: “الأسد أو نحرق البلد”، لم يكن مجرد شعارٍ، بل كان منهجًا للعمل اتبعه النظام من أجل تقسيم البلاد وإدخالها في نزاعات طائفية وعرقية دموية ستندلع مباشرة إن هو اضطر إلى التنحي أو جرى خلعه. ومن هنا وَجَدت الإدارة السياسية الجديدة في دمشق نفسها وسط تحديات كبيرة، ليس أقلها توحيد البلاد ومنع تقسيمها. ومن التحديات الخارجية ما يشكله الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية، وتمدده في أراضٍ جديدة فور سقوط نظام الأسد، من خطورةٍ على البلاد ووحدتها. كما تبرز التحديات الداخلية التي لا تقل خطورة عن الخارجية، ومنها موضوع مناطق شرق وشمال شرق الفرات التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، والتي تطرح شروطها على السلطة الجديدة في دمشق من أجل إعادة انضوائها تحت سلطتها. كما تبرز المخاطر التي يشكلها تعاطي المجتمع الدولي مع سوريا كمجموعة مكونات طائفية بدلًا من التعاطي معها كدولة.
وإذا كانت سوريا قد تجاوزت بعض الأخطار التي كانت تهدد بتقسيمها، خصوصًا منها لحلحة معضلة مناطق شرق وشمال شرق الفرات، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية والمخططات الإسرائيلية المبيتة حول مستقبل سوريا تبقى الخطر الأكبر البارز حاليًا. وهنا تحضر خطورة ومدلولات احتلال القوات الإسرائيلية كامل جبل الشيخ ووصولها إلى مشارف دمشق، بعد احتلال مناطق في ريف القنيطرة وريف دمشق. وإذا كانت الضربات العسكرية الإسرائيلية غير المسبوقة على عدد كبير من المواقع العسكرية السورية غير كافية للإسرائيليين لإضعاف سورية، تظهر خطورة ما نقلته صحيفة “إسرائيل هيوم”، قبل أيام عن اجتماع وزراي صغير ترأسه وزير الدفاع الإسرائيلي، خُصِّصَ لدراسة مبادرةٍ تقدم بها مسؤولون أمنيون وسياسيون يوم سقط النظام السوري وتهدف لتقسيم سوريا إلى كانتونات صغيرة من أجل حماية الجماعات الطائفية والعرقية، كما ادعت المبادرة.
ومع خطورة المبادرة أو المشروع الإسرائيلي، تأتي خطورة تعاطي المجتمع الدولي، وخصوصًا دول الغرب، ومفهومهم للدولة السورية، وهو التعاطي مع سوريا على أنها مجموعة طوائف وملل، وتركيز الخطاب الغربي على سردية الأقليات والأكثرية، بدلًا من التركيز على الدولة السورية والمجتمع السوري والشعب السوري المتنوع الانتماء الطائفي والمذهبي. هذا التنوع الذي يساهم في غنى المجتمع السوري ويقود إلى التعاطي الديمقراطي مع هذا المجتمع وحقوق المواطنين، بدلًا من سردية حقوق الطوائف والملل التي تقود إلى زيادة الشروخ المجتمعية وربما النزاعات الطائفية.
أما التحديات الداخلية، وخطورة بقاء بعض المناطق خارج سيطرة الإدارة في دمشق، ومنها على سبيل المثال مسألة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على مناطق شرق وشمال شرق الفرات، فقد جرى حلحلة معضلتها بعد سماح قسد لإدارة العمليات العسكرية ببسط سيطرتها على مدينة دير الزور، بعد أيامٍ من تحرير سوريا، كذلك رفع علم الثورة الذي اعتمده الثوار علمًا للبلاد على مؤسسات قسد، في بادرة حسن نية تجاه دمشق، لكن يبقى الاتفاق على مصير تلك المناطق معلقًا.
غير أن الأجواء توحي بإمكانية التوصل إلى حل قريب، بعد النيات الطيبة التي ظهرت في إثر اللقاء بين قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، وقائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، في 30 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والاتفاق على مبدأ “وحدة وسلامة الأراضي السورية ورفض أي مشروعات تهدد وحدة البلاد”، وفق تصريح لعبدي نقلته وكالة الصحافة الفرنسية، في 8 يناير/ كانون الثاني الجاري. أما الشروط التي تضعها قسد من أجل إعادة توحيد جميع أراضي البلاد تحت سلطة دمشق، فتبدو شروط جميع السوريين لا شروطها وحدها، ومنها شرط تقاسم الثروات وتوزيعها على أبناء الشعب السوري في جميع محافظات البلاد بشكل عادل، بعدما حرمهم نظام الأسد الفاسد من الاستفادة منها على مدى عقود من النهب لصالح عائلته ورموز سلطته. ومن هنا تأتي أهمية اعتماد السلطة الجديدة التنمية االمستدامة لجميع مناطق البلاد، ما يؤدي إلى إعادة سكان الأرياف الذين هجروا مناطقهم إلى المدن الكبيرة، وإعادة إحياء المناطق التي كانت تشكل سلة غذاء سوريا.
وإذا ما جرى حل المشكلات مع قسد والاتفاق على بسط السلطة الجديدة سيادتها على مناطق شرق الفرات، يبقى التحدي الداخلي والمتمثل ببعض الشروخ التي يمكن أن تؤثر على مسار إعادة توحيد سوريا بسبب القلاقل التي يمكن أن تنشأ إذا ما سُمح لعوامل خارجية أن تؤججها. وفي هذا السياق، ثمة معركة بسيف ذي حدين تدار على منصات التواصل الاجتماعي بين السوريين حول مسألة الأقليات والطائفية والتخوفات المبطنة والظاهرة التي يعبر عنها كثيرون، وهي تخوفات تَبيَّن أن أياديًا خارجية بدأت تعمل على إبرازها وتعزيزها من أجل إحداث بلبلة بين السوريين والتشويش على السلطة الجديدة في جهدها المتواصل في إدارة البلاد وسكانها على النحو الذي يحقق لهم الخدمات الأساسية ويوفر الأمان للجميع. أما حدها الإيجابي فيكمن في أنها تسمح لكثيرين الخوض في طبيعة الطائفية لتقريب وجهات نظر السوريين حول بعضهم، وتجاوز المحظورات التي وضعها النظام المخلوع لمنع النقاش فيها وذلك لإبقائها مسيطرة على لا وعي السوريين للتفريق فيما بينهم. أما الحد السلبي فهو أن يطل بعض المغرضين برؤوسهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أجز تعزيز الانقسامات النفسية والتطرف في طرح موضوع الطائفية لإحداث صدامات، وبالتالي نقلها من مستوى النقاش الفكري، إلى مستوى الصراع الفعلي.
غير أن التخوفات والمخاطر تتلاشى إذا ما اجمعت القوى الرئيسية في المجتمع السوري على كيان الدولة، وتوافقت على التشاركية في الحكم وعلى تبادل السلطة سلميًا من خلال الانتخابات لمنع ازدياد الشروخ الطائفية والاثنية والخصومات الحزبية في المجتمع، وإعلاء شأن المسؤولية الوطنية لدى التعاطي مع تلك الشروخ والخصومات، وهي الشروخ التي تعمل القوى الخارجية على تعزيزها من أجل إبرازها وجعل حلها الشغل الشاغل، والمسألة الرئيسية المصيرية التي تقع على عاتق أي سلطة، بدلًا من تركيزها على بناء الدولة ومؤسساتها. وتتلاشى أيضًا مع حصول توافق اجتماعي حول قيم الديموقراطية، وأهمها مسألة الحقوق والحريات المدنية العامة، وضمان أن يلحظها الدستور وتحميها القوانين لكي تبقى مصانة مهما جرى من تداول للسلطة وأيا كانت الخلفية الإيديولوجية لمن سيصل إلى الحكم عبر الانتخابات الدورية. كما تبرز أهمية فصل القوى الاجتماعية وأبناء الشعب بين كيان الدولة ونظام الحكم، وهو الذي يضمن ولاء الناس للدولة، بغض النظر عن ولائهم لنظام الحكم، ما يجعل العمل من أجل بناء الدولة طريق أي حزب أو قوة اجتماعية لكسب تأييد أبناء الشعب، وهو المبدأ الذي حرمت منه البلاد طوال سني حكم البعث ونظام الأسدين.
الترا صوت
————————————
كوارث الإعلام في سوريا الجديدة/ علاء خطيب
17/1/2025
في الوقت الذي يتدفق فيه عدد كبير من وسائل الإعلام العربية والعالمية لمواكبة مجريات الأحداث في سوريا، تعتري المشهد الإعلامي السوري فوضى هائلة، تبدو في بعض أوجهها سياسة إعلامية بحد ذاتها.
سقط النظام السوري يوم الثامن من كانون الأول/ديسمبر، ودخلت أولى فصائل المسلحين أو الثورة، من غير مطلقي عملية “ردع العدوان” إلى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وبدأ بعدها التلفزيون السوري ببث أغان وقف كثيرون مستغربين إزاءها.
مثّلت هذه الأغاني بالنسبة للبعض أوّل خطابات الإدارة الجديدة التي لم تكن قد وصلت إلى دمشق بعد؛ أغاني السلفية الجهادية التي كان أهل المناطق الواقعة تحت سلطة نظام الأسد يسمعونها عن طريق الفيديوهات المتداولة فقط.
ومع استلام الإدارة الجديدة السلطة، عُيّن شخص يُدعى علاء برسيلو مديرًا للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، في خطوة لم تخرج عن سياق التعيينات الأخرى التي نفذتها الإدارة، والتي ما زال فهمها عصيًا حتى اللحظة. فالشخص المذكور لم يبلغ الأربعين عامًا من العمر، وتفيد سيرته الذاتية بأنه كان مديرًا لصفحة “مبدعون سوريون في إدلب”.
ومع إقدام الإدارة الجديدة على إغلاق وسائل الإعلام الرسمية، أخذ المشهد السوري يشهد حالًا من التخبط الإعلامي في مجالات عدّة. فاتُخذت قرارات لم تُقر، كإدراج علامة الديانة في المجموع العام في البكالوريا، وحُوّر مضمون قرارات أخرى، كحال تلك المتعلقة بالإجازة مع راتب لكثير من موظفي القطاع العام، فيما بدت بعض القرارات غير مفهومة كقرار تعديل المناهج الدراسية وخلافها، من دون أن يظهر شخص أو وسيلة إعلام لشرحها أو الحديث بشأنها.
يدقّ هذا ناقوس خطر في ما يخص أداء الإدارة الجديدة الإعلامي. ففي الوقت الذي يتدفق فيه عدد كبير من وسائل الإعلام العربية والعالمية لمواكبة مجريات الأحداث في البلاد، تغيب فعالية وسائل الإعلام السورية بأنواعها كافة.
ويبرز التخبط في نقطة بسيطة، لكن جوهرية، تتمثل بالغموض الذي يكتنف العملية الاتصالية وآلياتها. فدراسة الجمهور الذي تخاطبه، وتحديد الرسائل الموجهة إليه وكيفية توجيهها والوسائل المستخدمة لذلك، ألف باء عملية الاتصال. لكن القيادة الجديدة اختارت قناة “تليغرام” للتواصل مع جمهورها، و”واتساب” مع أرقام من لوكسومبورغ. أما أكثر المواقع التي يستخدمها السوريون، أي “فيسبوك”، فلم يكن للإدارة صفحة عليها، بل ظهرت صفحات عدة تنتحل صفتها لتشوّش عليها.
وبرغم أن وكالة “سانا” الرسمية عادت إلى العمل، فما تغير فيها كان اللون الأحمر الذي أصبح أخضر، بينما الأسلوب المستخدم فيها ظل كما كان، ومعه المبالغات غير المهنية في أدائها التحريري، ولكن هذه المرة بشكل معكوس. فيما ظهرت منشورات غريبة ومضحكة لوزارة الداخلية، حيث يُنشر عنوان خبر مع الفقرة الأولى، ويؤجَل نشر الفقرة التي تليها ـــ وقد تكون مرتبطة بالفقرة الأولى بشكل مباشر ـــ إلى منشور آخر.
وقد كثر تكرار سوريين لجملة “اعطونا رقم بترد عليه الهيئة” في الآونة الأخيرة، خصوصًا لدى بحثهم عن جهة تتلقى شكاويهم من انتهاكات “الفصائل غير المنضبطة”، على حد تعبير القيادة الجديدة، بحقهم.
وفي موازاة ذلك، أخذ مصطلح “فلول النظام” يغزو السوشال ميديا السورية، وأصبح أي عمل تقدم عليه الإدارة الجديدة يسمى ملاحقة لـ”فلول النظام”، وكان بالكاد يرفق بتوضيحات للجمهور، وبرزت في المقابل تعابير من قبيل “فصائل غير منضبطة” و”تصرفات فردية” للإحالة إلى أفعال تتبرأ منها السلطة وتتهم غيرها بها.
وفي اللحظة التي بدا فيها أن الإدارة باشرت بمخاطبة الجمهور السوري عبر وسائل الإعلام، حلّت كارثة التعيينات التي شكّك كثيرون بصوابيتها، وقد شملت أشخاصًا ـــ مع الاحترام لهم ـــ غير مهيئين لتولي المسؤولية المناطة بهم، ولا توجيه أي رسائل للداخل السوري أو للخارج، خصوصًا أنهم بالكاد مطلعين على أفكار سواهم، ولم يتجاوزوا الأفق الضيق للتنظيمات الإسلامية المتطرفة.
وقد ظهر هذا في حديث السيدة عبيدة ارناؤوط لقناة “الجديد” اللبنانية عن “كينونة المرأة”، مرورًا بكلام السيدة عائشة الدبس عن عدم فتح المجال لمن يخالفها الرأي في ما يخص إدراة شؤون المرأة، وصولًا إلى ما قاله محافظ دمشق في مسألة التطبيع مع العدو، حتى أصبح ما أورده هؤلاء مثار تندر بين كثير من السوريين.
كل هذا فيما توحي “السوشال ميديا” السورية لأي متابع أن البلاد مقسومة إلى قسمين، أحدهما فيه جموع ترى السماء صافية، والآخر فيه جمهور يراها سوداء كالحة. وهو ما يذكرنا بعام 2012 ـــ عام تسلّح الثورة ـــ يوم كانت وجهتا النظر هاتان موجودتين في البلاد، إنما بشكل معكوس.
وفي ظل هذا كله، برزت شخصية قائد الإدارة السورية وكلامه الموجّه إلى “الخارج”، أحمد الشرع ـــ أبو محمد الجولاني سابقًا ـــ بوصفه الخطاب الوحيد، بغض النظر عن مدى صدقه، المتوازن من حيث الشكل.
لكن من منبع الجُمل نفسها لمن أُطلق عليهم في السابق وصف “المؤيدين”، الذين تغزّلوا بـ”ضحكة الرئيس” وقرروا وضع “طبيب العيون في العيون” واستخدموا تعابير التفخيم بشخص الرئيس الهارب، ينهل سوريون اليوم تعابير ويستنسخون أفكارًا مماثلة، حتى أصبحت بدلة القائد وكرافاته وكلامه مواد ملهمة ومدعاة للغزل.
كل هذا والسوريون لم يعثروا، حتى اللحظة، على خطاب جامع لهم. فيما البلد ازدادت انقسامًا على نفسها، وظلّ حال مناطق “قسد” منفصلًا عن سائر المناطق، وكذا حال درعا والسويداء وسائر والجنوب. وفي حين أن التقسيمات هذه موجودة منذ عهد الرئيس الهارب، فقد أضيفت إليها اليوم مناطق تواجد العلويين في طرطوس واللاذقية وبعض أحياء حمص وريفها، وبعض أرياف حماة.
أوان
—————————–
=========================