مقالات سينمائية

رحيل ديفيد لينش… الغرابة مفتاح سينمائي لفضح أهوال العالم/ نديم جرجوره

17 يناير 2025

فنونٌ عدّة يمتهنها الأميركي ديفيد لينش في حياته المهنية. فالسينما، وإنْ تكن أساسيّة، غير طاغية على اشتغالاته، التي تعثر في وسائل تواصل بصرية مختلفة على أدوات قولٍ فني آنيّ، أحياناً كثيرة. ولينش، الراحل في 15 يناير/كانون الثاني 2025، يتمتّع بالأعمق من هوايةٍ في اختبار كلّ فنّ، وبالأوسع من كلّ أداةٍ تُعينه على قولٍ كهذا.

التعريف الأبرز له يتضمّن التالي: سينمائي وسيناريست ومُصوّر فوتوغرافي وموسيقيّ ورسّام. لكنْ، في تقديم العدد الثاني من سلسلة Hors Serie الخاصة بـ”السينمائيين” (تُصدرها المجلة السينمائية الفرنسية الشهرية “دفاتر السينما”)، يُذكِّر تييري جوس وماركوس أوزال بـ”نشاطه الرائد في الإنترنت، تلك المساحة التي يُدرك باكراً جداً كيفية الاستثمار فيها بطريقة مرحة ومُبتكرة”.

لكنّ رحيله، قبل خمسة أيام فقط على بلوغه 79 عاماً (مواليد ميسولا في مونتانا، 20 يناير/كانون الثاني 1946)، يجعل عناوين صحافية كثيرة تُبرز صفة “رؤيوي” في اختزال سيرة واشتغالات. الزميل سعيد المزواري (ناقد سينمائي مغربي) يكتب في رحيله أنّ “العالم صار فجأةً أقلّ قابليةً للغرابة”، وأنّ “الحياة تبدو بالتالي أكثر سطحيةً من أيّ وقت مضى”، مُعتبراً أنّ العزاء “واحدٌ في الرجل. وعزاؤنا الوحيد في مُنجزه الهائل” (فيسبوك، 16 يناير/كانون الثاني 2025).

فالصفة، التي يُمكن ترجمة أصلها الفرنسي (Visionnaire) بـ”حالم” أو “خيالي” أو “كثير الرؤى” وغيرها، تجد في سينما ديفيد لينش كلّ الصفات تلك، لما فيها من اختراقٍ لمألوفٍ حياتي، ولأسلوبٍ في تفكيك العالم وتفاصيله. أمّا “الغرابة” فركيزة تكاد تكون وحيدة في تلك السينما، التي تفقد برحيل صانعها قدرة إمتاع مهووسين ومهووسات بها بالمعنى الأبهى للغرابة، التي لن تبتعد كثيراً عن وقائع مثقلة بغير المُحتَمل، فيصير الهوس بالمتخيّل إطلالةً على جوف عميق من ارتباكاتٍ وصدماتٍ.

لكنّ الانصراف في تلاعبٍ على مفردات نقدية، في كتابةٍ تودّع ديفيد لينش، غير صائبةٍ كلّياً، لأنّ ما يُرى في سينماه ربما لن يكون مقصوداً من قِبله كلّياً. هذا لا يعني أنّه غير قاصدٍ ما يُرى، أو غير قاصدٍ ابتكار أصنافٍ شتّى من صُورٍ، تلتقي كلّها في غرابة مُحمّلة أحياناً بشيءٍ من إثارة وهلع، ومن ترقّبٍ مُخيف للمُقبل من صُور وأحداثٍ وحالات.

في ردٍّ على اعتبار Mulholland Drive، المُنجز عام 2001، “بورتريه” لهوليوود، يقول إنّه غير عارفٍ أصلاً بأنّه “فيلمٌ عن هوليوود”، وبأنّه يُدرك هذا لاحقاً. فالأساسيّ عنده كامنٌ في أنّ هناك أفكاراً تنشأ في الوعي، “فتراها وتسمعها”، وعندما تتخمّر “سترى ثيمة تظهر”، تفلشها على الورق، “وهذا يتغيّر في السيناريو”، مُعتبراً أنّ “هذا” نفسه ليس هدفاً، بل وسيلةً لتنظيم الأفكار، وعندها “تُترجم هذا كلّه، وتقول إنّه حكاية تتناول هوليوود”. (حوار مع يال سادَت، “دفاتر السينما”، إبريل/نيسان 2023).

إنْ يكن عن هوليوود، أمْ عن امرأةٍ تعيش فيها وليس عن “شرط عيش النساء في هوليوود”، أو عن الممثلات، يُشكِّل فيلمه هذا تحدّياً في كيفية إبراز حُطامٍ من داخل كائن بشريّ، وإيجاد حيّزٍ له في المساحة الضيّقة لعيشٍ وشعور وعلاقات. تحدٍّ غير مُكتفٍ بنصٍّ، بل بصُور متلاحقة تعكس جوّانية الكائن ومسار الجوّانية إلى الانكشاف والتقهقر، تماماً كالحاصل في “الرجل الفيل” (1980)، لكنْ بطريقة عكسية، فالحطام سيكون خارج الكائن البشريّ المُشوَّه، وجوّانية الأخير تخدع ذاك الخارج الذي ينهار أمام انكشافها.

ديامان أبو عبّود في “أرزة”: المرأة اللبنانية تكافح (الملف الصحافي)

سينما ودراما

أقوالٌ تعكس جوانب من شخصيات سينمائيين وسينمائيات

“الرجل الفيل” أول فيلمٍ أشاهده لديفيد لينش، رغم أنّه الثاني في سلسلة أفلامه الطويلة، بعد “ممحاة الرأس” (1977، ترجمة حرفية لـEraserhead)، المشغول بالأسود والأبيض. مشاهدة “الرجل الفيل” صادمةٌ، لشدّة هلعٍ ينبثق من الشاشة، قبل تمكّنٍ ذاتيّ من ضبط العلاقة بالمُصوّر في حكاية مفتوحة على ابتكار بصري، التمثيل أبرز إنتاجه (جون هارت وأنتوني هوبكنز أولاً). أمّا “برّية في القلب” (1990، ترجمة حرفية لـWild At Heart)، فمزيجٌ صاخب من تناقضات وامتدادات في آنٍ واحد، بين رجل وامرأة (نيكولاس كايج ولورا ديرن)، في مدى واسعٍ من مشاعر ومواجهات وعنفٍ، بعضه المبطّن أقسى من ذاك الظاهر أحياناً.

من جملةٍ تقول إنّ “ديك لورانت توفّي”، تبدأ رحلة في متاهات الذات الفردية وما يحيط بها من أناسٍ وذكرياتٍ وماضٍ، في “طريق سريعة مفقودة” (1997، Lost Highway). متاهات تتشكّل في سلسلة لقطات، يطغى عليها مناخٌ يشي بكابوسٍ، يحضر في أفلامٍ أخرى للينش أيضاً.

أيُمكن اعتبار الكابوس امتداداً لغرابة سينماه، أو تفسيراً مختلفاً لها، إذ يُصنَع الكابوس من لوحاتٍ متداخلة ومعقّدة وضاغطة، ألوانها غير متناسقةٍ، ومحتواها مُصوّر بكل ما يشي بغموضٍ وعدم إدراكٍ، يكادان (الغموض وعدم الإدراك) يكونان فعلاً غريباً في مقاربة كلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ، أو في الإحساس بهما (الشيء والأحد)؟

نبأ رحيل سينمائيّ كديفيد لينش دافعٌ إلى محاولة اكتشاف جديدٍ في الكتابة عنه. فهو مُثابرٌ فعّال في تحريضٍ دائم على مُشاهدة وإعادة مُشاهدة أفلامه (على الأقلّ)، بنيّة اكتشاف غير المُكتشف سابقاً. “الرجل الفيل” حاضرٌ بقوّة في ذاتٍ غير منفضّة عنه. “توين بيكس” (1992، قبل “القِطَع الناقصة من الملف”، 2014) يعلق بشدّة، لما فيه من ثقوبٍ غير واضحةٍ إلى الآن، أو ربما هناك رغبة ذاتية لاواعية في عدم توضيحها. “الكثبان الرملية” (1984، Dune)، رغم كونه “خيال علمي” غير مُحبّب كثيراً إليّ، يجد في الذاكرة مكانةً، لتمزيقه كلّ خارجٍ يحجب مخبّأ.

هذا قليلٌ في كتابة تودِّع فناناً اسمه ديفيد لينش. أعمالٌ كثيرة له غير سينمائية، والتنقيب فيها عن سمات مطبوعة به يحتاج إلى أكثر من مقالةٍ، وإلى وقتٍ أطول. في زمن كورونا، يهتمّ بمسائل سينمائية، مُعتبراً أنّ هناك عاملين وعاملات في صالات العروض يحتاجون إلى دعمٍ وانتباه أيضاً، في عزلةٍ مفروضة عليهم. يُشدِّد حينها على أنّ إغلاق الصالات مؤقّتٌ، وأنّ المقبل أفضل، فالناس “يحبّون” المُشاهدة في الصالة، لا في غرفة منزلٍ.

لكنّه، في 15 يناير/كانون الثاني 2025، يُغادر الصالة والغرفة والمدينة والعالم والحياة، بما يُشبه الصمت والسكينة. قبل أشهرٍ (5 أغسطس/آب 2024)، يعترف بأنّه مُصاب بـ”انتفاخ في الرئة”، جرّاء “سنوات من التدخين”، فللمتعة (التدخين) ثمنٌ (انتفاخ في الرئة)، والموت خاتمةٌ بغيضة، لكنْ لا فرار منها.

العربي الجديد

————————-

المعلم” ديفيد لينتش صنع سينما جديدة بالأحلام والكوابيس/ هوفيك حبشيان

صاحب “الرجل الفيل” عاش على كوكبه الخاص وصنع 10 أفلام تجمع بين التجريب والتمرد والإرباك

السبت 18 يناير 2025

مع رحيل المخرج الأميركي ديفيد لينتش عن 79 سنة، تودع الشاشة أحد الذين أدخلوها في حقبة ما بعد الحداثة. إنه من الذين قدموا حفنة من الأعمال السينمائية (10 أفلام روائية طويلة في المحصلة)، ولكن كانت كافية لتغيير قواعد اللعبة.

خلال العقدين الأخيرين انسحب ديفيد لينتش من المشهد السينمائي، مكتفياً بالظهور على الإنترنت وبعض التكريمات هنا وهناك، ما عدا عودته إلى مهرجان “كان” بمسلسل “توين بيكس” قبل سبعة أعوام، وكأنما كان يراقب العالم من بعيد، منتظراً اللحظة المناسبة للعودة. قيل إنه واجه صعوبات لتمويل الفيلم الذي كان ينوي إنجازه، ولكن في الواقع هل كان ينوي العودة فعلاً؟ ربما خاب ظنه أيضاً بعدما كان تنبأ أن البشر سيكونون في وضع أفضل بعد جائحة كورونا والدروس المستخلصة منها، وهو ما لم يحدث في طبيعة الحال.

كان لينتش من معلمي الصورة والصوت، العنصرين اللذين يتشكل منهما فن الشاشة الذي أعاده أحياناً إلى ينبوعه متسائلاً عن احتمالاته. كأي فنان كبير، ترك إرثاً يحثنا على رؤية العالم بعيون مختلفة. عاش على كوكبه الخاص، كوكب صنعه من الأحلام والكوابيس، حيث الجمال والقبح يرقصان يداً بيد في انسجام غريب. أفلامه دعوة إلى الإقامة على هذا الكوكب، حيث الغرائز والخيال والرموز تقود المشاهد في رحلة تفكيك أسرار الوجود بلغة بصرية شكلت علامة هذا الفنان الطليعي.

صحيح أنه ذاع صيته كمخرج أفلام استثنائية، لكنه كان فناناً متعدداً: كاتباً ومنتجاً ومصوراً، وحتى موسيقياً ونحاتاً. لم يكتف بالسينما التقليدية، بل تجاوزها ليخلق عوالم متكاملة معتمداً على مخيلة لا تنضب. تعامل مع الفيلم كما يتعامل النحات مع الحجر، يشكله ويعيد صياغته حتى يشبه جسماً غريباً لا نألفه. يمكن القول إنه عاش على حافة الواقع، ملتقطاً منه ما يخدم رؤيته. غيابه لم يترك فراغاً فحسب، بل طرح سؤالاً: من يجرؤ على السير في الظلال التي تركها خلفه؟

متاهة البساطة

كل واحدة من تجاربه السينمائية حملته إلى بقعة معينة، حيث البساطة تحولت إلى متاهة، أما الزمن والحقيقة فمواد خام يعمل عليها. لم ينشغل كثيراً بالتفسيرات أو الرموز الواضحة، كل ما أراده هو خلق تجربة حسية بصرية تربك وتستفز. ما يميزه قدرته على استدعاء النفس البشرية في حالاتها الأكثر اضطراباً. شخصياته لم تكن تسعى إلى الشرح أو التبرير، إنما تمثل انعكاساً للإنسان في لحظات التناقض والتدمير الذاتي. كانت أفلامه حقل تجارب متواصلة.

في البدء، لم تكن السينما خياره الأول، بل أراد أن يكون رساماً. بينما كان أبناء جيله يعيشون في شغف السينما الكلاسيكية، فضل هو الانشغال بمراقبة العالم الطبيعي حوله. علاقته بالسينما تعززت لاحقاً، عندما درس في معهد الفنون، وهناك وقع تحت سحر “ساعة الذئب” لإنغمار برغمان. وسرعان ما اكتشف أن الرسم وحده لا يكفي لنقل تجربة الحياة بكامل حواسها. هذا الإدراك دفعه إلى السينما التي تتيح مزج الصور بالأصوات في تجربة متكاملة.

في عام 1976 قدم أول أفلامه الروائية الطويلة في عنوان “رأس ممحاة”، الذي لم تتجاوز موازنته آنذاك 10 آلاف دولار، وكان في جوهره عملاً فنياً انقلابياً. لم يكن مجرد فيلم عادي، بل وثيقة تعبيرية عن لجوء فنان إلى الغرابة، بحثاً عن المعنى في عالم يشوبه التشويه والاضطراب. حتى لو افترضنا أنه لم ينجز سواه، فهذا العمل يكفيه ليضعه في مصاف كبار السينمائيين. القصة: رجل عادي يتحول عالمه إلى كابوس بعد ولادة طفل مشوه له، مما يعكس نظرة لينتش العميقة إلى مفهوم الحياة وحقيقة ما يجري في دواخلنا من قلق وتهتك. في لحظة ما نرى مشهد تحلل جثة الجنين بطريقة واقعية مروعة، وهو ما يعكس أسلوب لينتش في تجسيد أقصى درجات الهلع بدم بارد. إذا أردنا أن نفهم تأثير لينتش، فيجب أن ننظر إلى “رأس ممحاة” باعتباره نقطة انطلاقته الفنية المدوية، إذ جمع بين التجريب والتمرد على السرد التقليدي، ليخلق عالمه الخاص الذي لا يشبه أي شيء آخر في تاريخ الفن السابع.

القبح الجميل

في “الرجل الفيل” (1980) تجاوز لينتش الآفاق التي وضعها في باكورته، علماً أنه لم يتبع المسار نفسه. لم يكن امتداداً لفيلمه السابق، بل قفزة في اتجاه جديد تماماً. معالجة قصة الرجل المشوه، جون ميريك، كانت تتطلب مخرجاً من قماشته يملك القدرة على استكشاف تلك الأعماق، وبدا لينتش الأقدر على أفلمة قضية هذا المسخ الذي صدم الرأي العام في إنجلترا الفيكتورية. الفيلم مليء بالتيمات التي أصبحت تعرف عن لينتش، مثل الهوية والتشويش، وقد ظهرت هذه المواضيع بأبهى صورها من خلال مشهدية مدير التصوير فريدي فرنسيس الذي أضفى أجواء معتمة تعزز من شعور الضيق والاضطراب.

هذا النجاح دفعه إلى تحد جديد مع اقتباس واحد من أشهر أعمال الخيال العلمي، “كثيب” لفرانك هربرت. لكن النتيجة كانت كارثية: فشل جماهيري ذريع واستقبال نقدي غير جيد، على رغم الموازنة الضخمة التي وظفت في نقله إلى الشاشة. لكن، مع فيلمه التالي، “مخمل أزرق” (1986)، عاد ليبرز من جديد. هذا الفيلم لم يكن مجرد استعادة للثقة، بل بوصلة توجه جديد له. أثناء رحلة إلى كارولاينا الجنوبية، يكتشف بطل الفيلم جفري أمراً يغير مجرى حياته، ليدخل في عالم مليء بالغموض. الأجواء التي كثيراً ما ميزت أفلامه كانت حاضرة بقوة هنا: التلاعب بالنفوس، الميول الغريبة والغموض المحيط بالشخصيات. حمل الفيلم إشارة واضحة إلى سينما الأربعينيات، لا سيما ما يعرف بـ”الفيلم النوار”، إذ قدم تحية خاصة لهذه الحقبة، بما فيها من غموض وإثارة.

في بداية التسعينيات قرر لينتش خوض غمار التلفزيون بمسلسل “توين بيكس”، الذي أعاد صياغة مفهوم الجريمة والغموض. تدور القصة على قضية مقتل لورا بالمر وملابساتها، لكن مع تطور الحبكة، تحول المسلسل إلى ظاهرة تتجاوز حدود الشاشة الصغيرة. أصبح “توين بيكس” ابتكاراً فنياً غير مسبوق على مستوى سرد الزمن. وعلى رغم تعقيد الحبكة وتشابك الأحداث، حمله الجمهور على الراحات، حتى قرر لينتش تحويله إلى فيلم سينمائي في عام 1992، مستلهماً أسلوب كبار المخرجين مثل هيتشكوك.

صخب وتمرد

في عام 1990 أهدى لينتش السينما “وايلد أت هارت”، فيلم كله صخب وتمرد، ظفر بـ”السعفة الذهبية” في مهرجان “كان”، من دون أن يحقق أي إجماع نقدي. يمزج الفيلم بين المخدرات والموسيقى الصاخبة والجنس ليخلق تجربة سينمائية متطرفة. هذا المزيج بين الحياة والموت ينطوي على تصورات عميقة عن الوجود ويحمل بصمة فنية تستحق إعادة التقييم.

ثم شاهدنا له “الأوتوستراد الضائع” (1996)، الذي يعد قمة من قمم سينما لينتش المعقدة والغامضة. كان هذا الفيلم بمنزلة رحلة ذهنية متشابكة. تجنب المخرج كل ما هو تقليدي، فقدم نوعاً من التحليل النفسي المكثف للمشاعر الإنسانية، وذلك من خلال قصة زوجين يتلقيان شرائط غامضة ترصد حياتهما الخاصة، مما يشكل نقطة انطلاق لتساؤلات أعمق.

أما فيلم “قصة مستقيمة” (1999)، فأدخل لينتش في مزاج مختلف. تميز هذا العمل ببساطته النسبية مقارنة بأعماله السابقة، غير أنه تضمن طبقات من التعقيد في مستواه الأعمق. يرينا الفيلم رحلة رجل مسن لزيارة شقيقه بعد خصام طويل، فيكشف عن مشاعر مختلطة من الحب والندم. وعلى رغم كونه أكثر أعماله رقة ونبذاً للغموض، فقد اعتبره لينتش تحدياً فنياً صارخاً. اعتمد الأسلوب البسيط ليرتكب ما يعد واحدة من أروع لحظات السينما المشغولة بالأحاسيس.

في عام 2001 أعاد ديفيد لينتش التعريف عن نفسه مع “مولهولند درايف”، تحفته المشبعة بالغموض التي لا يمكن تجاهلها. يبدأ الفيلم بمشهد امرأة تنجو من حادثة مروعة تعصف بحياتها، وسط جو من الضياع التام. بدلاً من تقديم المدينة كمكان مثالي، حول لينتش لوس أنجليس إلى مشهد مشوش وغريب، كاشفاً عن وجهها الآخر الذي خلف الأضواء. الفيلم لا يحكي قصة تقليدية، بل هو دعوة إلى الدخول إلى عالم مليء بالقراءات المجنونة والمفاجآت، حيث لا توجد أجوبة واضحة وصريحة. وضع هذا العمل لينتش في أعلى نقطة من السينما المعاصرة.

أخيراً في 2006 أطلق لينتش “إمبراطورية إينلاند”، الذي يمكن النظر إليه اليوم كخاتمة مسيرته السينمائية، حتى وإن عاد بعدها بـ18 حلقة جديدة من “توين بيكس”. هنا قرر لينتش أن يعيد اكتشاف السينما في ضوء عصر التكنولوجيا والرقمية، ولكن مع لمسته الآثرة التي تمزج الواقع بالخيال وتخترق الحواجز.

مرة جديدة اختار لينتش الابتعاد عن السرد التقليدي، ضارباً عرض الحائط، بالأصول المعمول بها، ومطلقاً العنان لمخيلة رجل لا يزال له كثير من الكلام عن العالم الذي يعيش فيه، ومتوجهاً إلى أسلوب غير خطي، يتنقل بحرية بين لحظات الواقع واللاوعي، ليخلص إلى تجربة سينمائية تستحق الاهتمام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى