شعر

مختارات للشاعر “ديرِك والكُت”

اعداد موقع “صفحات سورية”

———————————-

يا عذبةً لمرَّتينِ

ثلاث قصائد لـ ديرِك والكُت (١)

    وميضُ النيون، كما النجماتِ البيضاءِ، كما المُدُنِ،

    تشتعلُ لتكونَ العاهرة التي عليها أن تكون.

    ديرك والكت

ليلةٌ في حدائقِ ميناء إسبانيا

الليلُ، الصيفُ الأسوَدُ، يختصرُ رائحتَها

في قريةٍ؛ يفشي بسرِّها للمارَّةِ

مسكُ الزنجيِّ ينتشرُ سرًّا كالعرَق، وتفوحُ

رائحةُ المحارِ المهروسِ من أزقّتِها،

فحمُ البرتقال الذّهبيّ، نحاسُ البِطّيخِ.

دُفٌّ وتجارةٌ تزيدُ حرارتها.

الجحيمُ أو بيتُ الدعارةِ: العبورُ من شارع بارك،

حيث تختفي سَحْنةُ وجوهِ البحّارة.

مع البريق الفوسفوري للبّحرِ؛ تُدندِنُ الملاهِي

الليلية (٢) مثل يراعاتٍ في شَعْرِها الكثيفِ.

تُعْميها المصابيحُ، تُصِمُّ أذنَيْها الأبواقُ، ترفّع برأسِها

وسط عوادمِ القارِ والزّيتِ في المصيفِ.

وميضُ النيون، كما النجماتِ البيضاءِ، كما المُدُنِ،

تشتعلُ لتكونَ العاهرة التي عليها أن تكون.

مع اقتراب ضوءِ النهارِ يعودُ الحمّال بعربةِ

جوزِ الهندِ المٌقطّع إلى منزلِه.

** ** ** ** **

نجْمة

لو حصلَ، وتلاشيتِ من بينِ

 الأنوارِ، انسحبتِ وخبوتِ

إلى مسافتِنا المؤاتيةِ

المحتومةِ، مثلَ قمَرٍ تركَ

كلَّ اللّيلِ لأوراقِ الشَّجَرِ، هل تبعثين

بهجةَ هذا المنزلِ دونَ أن يراكِ أحدٌ؛

يا نجمةً، يا عذبةً لمرَّتينِ، حينَ جئتِ

مبكرةً جدًّا لأجلِ الشّفقِ، وحينَ

تأخرتِ في الفجرِ، فليرشِدْ لهبَكِ

الشّاحبَ أسوأَ ما فينَا

وعبرَ فوضانا

بشغفِ يومٍ

عاديٍّ بسيطٍ

** ** ** ** **

أغنيةُ العُرس (٣): موسِمُ الأمطارِ

 إلى ستيفانوس وهيذر

يأتي معَ أوّلِ القطراتِ التي تُرقِّشُ الإسمنتَ السّاخنِ،

 الأشكالُ المدوّرةُ في البركةِ، مع المدى

 المتسّعِ والمنعشِ، يأتي كمَطرٍ يخبِّئُ قصائدَ ريفيّة (٤)،

 مع قفزةِ الحمامةِ إلى الأعلى، مع مالكٍ الحزينِ

 يسرعُ في خطوتِهِ المتهوّرةِ؛ يرى شراعًا

 يختفي في الضّبابِ والشمسُ تمتنعُ وتنزوي

 ‏في رُكامةِ الغيْمِ، تلكَ السُّحبُ الضَّخمةُ

تنانيرُ الشّاشِ، شباكُ الصيدِ للمطرِ مثلُ فلاشاتِ الكاميرا

 لسجلّ البرقِ وهزيمِ الرَّعدِ

 لرماحِ الرّذاذِ عندما تشرعُ بالمسيرِ.

 ‏

ولكنْ لا شيءَ يمكنُ أن يساويَ الانهمارَ

في حضرةِ الآخرِ، حضرةُ الحبيبِ الخالدِ

 الذي سلطانُه المطرُ، وأجواؤُهُ الظُّلمةُ المعطّرةُ

 ‏للرّدهةِ، في المطبخِ، عند سكاكينِ البرقِ. لكنْ، آهٍ،

 عندما تهزُّ العاصفةُ المتفجرةُ سقفَ السّماءِ

 ‏ويقتربُ جسدُها أكثرَ مثلَ مركبٍ يلتوي

 في داخلِك، مرفَؤُها، ممرُّها، كلُّها المذهلةُ،

 ‏أضلاعُها تمسحُ على أضلاعِك، آهٍ، في يومِ زفافِك

 ‏تتلاشى لافتاتُ القلقِ من الغيمِ وتمرُّ العاصفةُ بعيدًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) اختيار وترجمة شريف بُقنه، عن مختارات مترجمة للشاعر ديرِك والكُت تصدر عن دار روايات – الشارقة 2021. ديرِك والكُت (١٩٣٠-٢٠١٧) شاعر ومسرحي وكاتب من سانت لوسيا، حصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٩٢) وعملَ أستاذاً للغة الإنجليزية قي جامعة بوسطن الأمريكية.

(٢) عن الفرنسية boîtes de nuit

(٣) (Epithalamium) أغنية أو قصيدة تحتفل بالزواج

(٤) حرفيًّا قصائد الفلاحة والعمل في الأرض، جيورجيكون (Georgics) وهي أحد أصناف القصائد والملاحم الشعرية التي ألّفها الشاعر الروماني ڤرجيل (٧٠ ق.م. – ١٩ ق.م.)

———————————

 بعد العاصفة – ديرك والكُت

هنالك العديدُ من الجُزُرِ!(1)

العديدُ من الجزُرِ مثل نجومِ اللَّيلِ الباهرةِ

على تلك الشجرةِ المتفرِّعةِ، اهتزت منها النيازك

وتساقطت مثلَ فاكهةٍ حول سربِ سُفُنٍ مسافرة.

لكنْ على الأشياءِ أن تسقطَ، كذلكَ كان الحال دائمًا،

الزُّهرةُ من كفّةٍ، والمرّيخُ من الكفّةِ الأخرى؛

يسقُطُانِ وكلاهما واحِدٌ، مثلَ هذه الأرضِ

جزيرةٌ واحدةٌ في أرخبيلِ نجومِ الورى.

كان البحرُ صديقي الأوّلُ، والآنَ هو الأخيرُ.

أتوقّفُ عن الحديثِ الآنَ، أعملُ، ثم أقرأُ، أستريحُ

تحتَ فانوسٍ معلّقٍ بالصاري، على الحصير.

أحاولُ أن أنسى معنى السعادة،

وعندما لا يفلحُ الأمرُ، أدرسُ النُّجومَ.

أحيانًا أكونُ أنا فقط، وتلكَ الرغوةُ المقصوصةُ النَّاعمةُ

حيثُ يستحيلُ جِلالُ السفينةِ أبيضَ ويفتح القمرُ

في السحابةِ بابًا، النورُ من فوقي طريقُ

ضوءِ القمرِ، يأخذني بعيدًا إلى الوطنِ.

غنَّت لك شابين(2) من غوْر بحرٍ سَحيقٍ.

____________________________________

  (1) After the storm عُرِف هذا المقطع بهذا العنوان، والنصّ مقتطفٌ من الجزء الثاني لقصيدة The Schooner Flight

  (2) شابين Shabine اسمٌ يستخدم في منطقة الكاريبي، للإشارة الى امرأةٍ من عِرقٍ مُختلط (أبيض وأسود) ذات بشرةٍ معتدلَةٍ أو فاتحة.

* ترجمة شريف بُقنه، عن مختارات مترجمة للشاعر ديرِك والكُت تصدر عن دار روايات – الشارقة 2021

from Star Apple Kingdom by Derek Walcott, 1979 by Farrar Strauss & Giroux-3pl

ديرِك والكُت (١٩٣٠-٢٠١٧) شاعر ومسرحي وكاتب من سانت لوسيا، حصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٩٢) وعملَ أستاذاً للغة الإنجليزية قي جامعة بوسطن الأمريكية

——————————

 قصائد مختارة للشاعر ديرِك والكُت (١)

منتصف الصيف، توباغو (٢)

شواطئُ عريضةٌ بسطَتْها الشّمسُ.

حرارةٌ بيضاءُ.

نهرٌ أخضرُ.

جسرٌ،

نخلاتٌ صفراءُ مُشيّطة

من منزلِ استجمامةِ الصّيفِ

أيامُ أغسطس الناعسةُ.

الأيّامُ التي قضَيْتُها،

الأيّامُ التي فقدتُها،

الأيّامُ التي كبُرت معي، مثل البناتِ،

أذرعي التي نذرتُها.

** ** ** **

نحيبٌ بعيدٌ من أفريقيا

ريحٌ تُقَشعِرُ جلدَة أفريقيا

السمراء، كيكويو (٣). بسرعةٍ كذُبابٍ

يسبحُ في حمّام دَمٍ فوقَ السّهابِ.

الجثثُ مُبعثَرةٌ في الجنَّةِ.

وحدَها الدودةُ، كولونيل الجيفةُ، تبكي:

«لا تُضيّعوا أيَّةَ رأفةٍ على هؤلاءِ

القتلى المنفصلين!»

الأرقامُ تُثبتُ،

والعُلماءُ تضبطُ بلا رَويّةٍ

مرتكبي السياسَة الاستعمارية.

ما الذي يعنيه ذلك

لطفلٍ أبيضَ في سريره مغدور؟

للهَمَجِ، لضحايا اليهود؟

صوت المغنّي (٤) يُخرجُه من عُشِّه

تنهارُ قفزتُه العاليةُ في غُبارٍ أبيضَ حزينٍ

تناثرَ منذُ فجرِ الحضارةِ

عن نهرٍ جافٍّ أو سهلِ وحوشٍ.

بَطْشُ الوحْشِ بالوحش يُعرّف

بقانونِ الطبيعةِ، لكنَّ الإنسانَ

ينشدُ ألوهيّتَه بافتعالِ الألمِ.

هائمٌ مثلَ هذهِ الوحوشِ الهائمةِ،

ترقصُ حروبُه على جلدةِ الطبلةِ المشدودةِ

بينما لايزالُ يدعو الشجاعةَ رهبةَ أهلِ البلادِ

من سلامٍ أبيضَ تعاقدتْ عليه الأمواتُ والعبادُ.

مرةً أخرى الضرورةُ الوحشيّةُ تمسحُ كفَّيْها

على منديلٍ بدعوى النّتَن، تُبَدِّدُ عطفَنا

مرةً أخرَى، كما هو الحالُ مع إسبانيا،

الغوريلا تتصارعُ مع سوبرمان.

أنا الذي تسمّم بدمِ كليهما،

إلى أين ألتفتُ وأنا مقسومٌ حتّى الوريد؟

أنا من ألقيتُ عليه اللعنةَ،

الضابطُ الّسكرانُ من الحكم البريطاني،

كيف أختارُ بين أفريقيا ولساني الإنجليزي؟

أخونُ كليهما، أو أعيدُ إليهما ما أعطياني؟

كيف أواجهُ هكذا مجزَرةً وأحيا في طمأنينةٍ

كيف أدير ظهري لأفريقيا وأعيش السّكينةَ؟

* * *

بلا عنوان (قصيدة رقم ٥٤)

هذه الصفحةُ هي السحابةُ بين حافتي خِصامٍ

نتوءٌ أرضيٌّ يبدو كأنَّه جبالٌ محطّمةٌ

ما يلبَثُ أن يختفيَ مرةً أخرى وتبتلعُه الأثلامُ

تمتدُّ زرقةٌ صحوةٌ الآنَ، بحرٌ في أخدودِ

وجزيرةٌ تسُمّي الأشياء، حوافُّها مُغْرَةُ (٥) الأجسامِ

وديانُها مغموسةٌ بالظّلالِ وطرُقُها ملتويةٌ

خيوطٌ تربطُ قرى الصيدِ، عبابُ الموجِ الأبيضِ الصامتِ

على طولِ السّاحلِ، حيثُ يصلُ خطُّ النّوارسِ كما السهْم

إلى الميناءِ الآخذِ في الاتساعِ لبلدةٍ بلا ضجيجٍ،

شوارعُها تلتصقُ ببعضها مثلَ الأحرفِ المرصوفةِ التي تقرؤُها الآنَ،

سفينتا كروز، سَكّونة (٦)، قاطرةٌ بحريةٌ، زوارقُ عتيقةٌ،

حيثُ تغطّي السحابةُ الصفحةُ ببطءٍ لتُصبحَ

بيضاءَ مرةً أخرى ويصلُ الكتابُ إلى نهايتِهِ.

* * *

القَطار

من ناحيةٍ، إنجلترا المروّعةُ،

الحديد، وحلُ مدارجِ المطارِ،

من الناحيةِ الأخرى، أنقاضُ أشجارٍ

محترقةٍ، يدٌ تعبثُ بنوافذِ العربةِ.

من أين جاء جدّي الأبيضُ الشّبِقْ؟

غادرَ هنا قبلَ قرنٍ

ليجدَ «مزرعتَه»،

ومثلُ آلافٍ آخرين،

بذَروا أرخبيلهم مخمورين.

من خلال زجاجٍ قذرٍ

تعبرُ أرضُه الزِّراعيةُ إلى وجهي.

أسْوَدُ ويائسٌ

وضعَ لحمَهُ على النَّارِ،

اِسْوَدَّ كشجرةٍ من لهَب واستعارَ،

يغلي دمُهُ في داخلي بينما يندفعُ هذا المحرِّكُ

وتشيطُ بشرتي مثل زُنَّارٍ مطبوعٍ باسمِه.

على رصيفِ محطّةِ الأحدِ القاتمةِ

تحدّقُ الوجوهُ البريئةُ وتتفرّقُ

مثل سككِ الحديدِ الضائعةِ،

وأنا مثلكَ يا جدّي، لا يمكنني تغييرَ المكانِ،

أعودُ بيتي ظمآن.

* * *

أردواز

أفكّرُ في بناء جُملةٍ عن لون الأردواز (٧)،

ببريق البلور لإحساسٍ عرَضي، بوميض الميكا (٨) لفِطْنةٍ عابرة.

لست مُتعباً من تَيْه المجاز،

لكن الأيام الرماديّة مفيدة، دون انعكاس،

مثل رَمْلٍ ترشّح بعد شفق الحبّ.

أفكر في تجنّب مفرداتٍ مثيرةٍ أو وقَفَاتٍ ميلودرامية كالموت،

أو ندَمِ الخسارات، أو لا؛ لا خسارةَ دون حبٍّ،

ولكن هذا أيضاً يجب أن يكون صامتاً، يجبُ ألا يفوت

مثل مترونوم (٩) التنفس قريب من القلب.

قِفْ. استئنفْ. قِفْ. وتُعاودُ الكَرّة بالتوارد.

حصانٌ رماديّ، بلا راكبٍ، يرعى أينما ذهب العُشْب،

حصانٌ أردوازيّ يجرُّ خصلاتَه على شاطئٍ بارد،

يرحل آخرُ جُرحٍ متوهّجٍ، تغلق الشمسُ بيتَها في الليل

ويصبحُ كل شيءٍ على وشَكِ الانقراض. حتى الندم.

خصوصاً النّدَمُ والأسَفُ والشوقُ والوَيْل،

باستثناء موجِ الظلام الذي يواسي بغرابة صلابته.

إنهّم يأتون بذات الأخبار القديمة،

ليس فقط بحشرجة الموجِ على الشاطئٍ وغرغرته،

ولكن هناك شيءٌ أبعدَ من الموجةِ الأخيرةِ،

قشورُ السّرطان التي أبيَضْت ورائحةُ الحشائشِ اللاذعة،

أبعدُ من النجوم التي بدت دائمًا صغيرة

لتلك المساحات اللانهائية، التي ظنّها (باسكال) خادعة

أفكّر في عالم خالٍ من النجوم والأضداد. متى تكون اللحظة الأثيرة؟

____________

(١) عن مختارات مترجمة للشاعر ديرِك والكُت تصدر عن دار روايات – الشارقة 2021. ديرِك والكُت (١٩٣٠-٢٠١٧) شاعر ومسرحي وكاتب من سانت لوسيا، حصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٩٢) وعملَ أستاذاً للغة الإنجليزية قي جامعة بوسطن الأمريكية.

(٢) توباغو (Tobago) جزيرة في جنوب البحر الكاريبي، وهي جزءٌ من أرخبيل جزر يشكِّل جمهورية ترينيداد وتوباغو ويقع قريباً من فنزويلا

(٣) الكيكويو أو الجيكويو «Kikuyu»، جماعةٌ عرقية من كينيا، يشكلون الآن حوالي٢٢٪ من إجمالي السّكان. استجابت قبائل الكيكويو بصدر رحب المبشرين والتعليم الأوروبي وكان لديهم فرص الحصول على التعليم والمشاركة في اقتصادات الأموال الجديدة في البلاد.

(٤) المنادي أو المغني: طريقة يحتال بها الصياد على فطرة الطيور بتقليد أصواتها أو باستخدام الطبول ليخرجها من أعشاشها. ورد في النص الأصلي كلمة (ibises) طائر أبو منجل كتسمية للطير المراد اصطياده، حذفت التسمية من الترجمة لضرورة فنيّة.

(٥) مُغْرَة ochre، وهو الطين الأحمر أو الأصفر، والشاعر يتحدث هنا عن جزيرة ويستكشفها بعيني طَيْر تظهر المعالم و تتوسط البحر، ربما يشير إلى جزيرته سانت لوسيا والتي تقع شرق البحر الكاريبي

(٦) السَكّونة (schooner) وهي مركب شراعي ذو صاريَتين أو أكثر

(٧) أردواز (slate) لون حجر الأردواز أو حجر السجيل وهو صخر مرقق تكوّن من الطين والرماد البركاني، يميل اللون الى إلى الرمادي الصلصالي

(٨) ميكا (mica) هي مجموعة معادن من السليكا تتبلور في هيئة طبقات

(٩) مترونوم (metronome)، رقّاص الإيقاع أو بندول الإيقاع وهي أداة تعطي تكتكة أو علامة تجزئة وهذه التكتكة تكون منظمة وثابتة

——————————

بعد العاصفة – ديرك والكُت

هنالك العديدُ من الجُزُرِ!(1)

العديدُ من الجزُرِ مثل نجومِ اللَّيلِ الباهرةِ

على تلك الشجرةِ المتفرِّعةِ، اهتزت منها النيازك

وتساقطت مثلَ فاكهةٍ حول سربِ سُفُنٍ مسافرة.

لكنْ على الأشياءِ أن تسقطَ، كذلكَ كان الحال دائمًا،

الزُّهرةُ من كفّةٍ، والمرّيخُ من الكفّةِ الأخرى؛

يسقُطُانِ وكلاهما واحِدٌ، مثلَ هذه الأرضِ

جزيرةٌ واحدةٌ في أرخبيلِ نجومِ الورى.

كان البحرُ صديقي الأوّلُ، والآنَ هو الأخيرُ.

أتوقّفُ عن الحديثِ الآنَ، أعملُ، ثم أقرأُ، أستريحُ

تحتَ فانوسٍ معلّقٍ بالصاري، على الحصير.

أحاولُ أن أنسى معنى السعادة،

وعندما لا يفلحُ الأمرُ، أدرسُ النُّجومَ.

أحيانًا أكونُ أنا فقط، وتلكَ الرغوةُ المقصوصةُ النَّاعمةُ

حيثُ يستحيلُ جِلالُ السفينةِ أبيضَ ويفتح القمرُ

في السحابةِ بابًا، النورُ من فوقي طريقُ

ضوءِ القمرِ، يأخذني بعيدًا إلى الوطنِ.

غنَّت لك شابين(2) من غوْر بحرٍ سَحيقٍ.

____________________________________

  (1) After the storm عُرِف هذا المقطع بهذا العنوان، والنصّ مقتطفٌ من الجزء الثاني لقصيدة The Schooner Flight

  (2) شابين Shabine اسمٌ يستخدم في منطقة الكاريبي، للإشارة الى امرأةٍ من عِرقٍ مُختلط (أبيض وأسود) ذات بشرةٍ معتدلَةٍ أو فاتحة.

* ترجمة شريف بُقنه، عن مختارات مترجمة للشاعر ديرِك والكُت تصدر عن دار روايات – الشارقة 2021

from Star Apple Kingdom by Derek Walcott, 1979 by Farrar Strauss & Giroux-3pl

ديرِك والكُت (١٩٣٠-٢٠١٧) شاعر ومسرحي وكاتب من سانت لوسيا، حصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٩٢) وعملَ أستاذاً للغة الإنجليزية قي جامعة بوسطن الأمريكية

———————–

29 أكتوبر 2020

في مكانٍ آخر- ديرك والكُت (1) 

(إلى ستيفن سبندر(2) )

في مكانٍ ما، تركضُ أحصنةٌ بيضُ

مرسلةً شعرَها في حقلٍ مسيّجٍ بأسلاكٍ

شائكةٍ، حيثُ الرجالُ في الغِيضِ

يكسِرون الحجارةَ ويبعدونَ الأشواك.

في مكانٍ ما، نسوةٌ سئمنَ بكاءَ

البحرِ على مراكب صيْدٍ لا تزالُ

بعيدةً، في لُجّةِ مستحيلٍ زرقاءَ.

نسوةٌ سئمن حكاياتِ الأهوال.

في ذاكَ المكانِ، حصلَ اعتقال.

في مكان ما غَلّةٌ حزينةٌ صغيرةٌ

من الجثَثِ في شاحنةٍ، وأرتالُ

جنودٍ يستريحون ذاتَ هجيرة.

في مكانٍ ما، مؤتمرٌ استشاطَ

 غضَبًا وصفحةُ أفكارٍ ممزّقة،

 ‏في مكانٍ مَا اختلطتِ الأنماطُ،

وورقةُ الأشجارِ لم تعُدْ ورَقة.

في مكانٍ ما، كاتبٌ صديقٌ

يتأمّلُ على فراشٍ وثيرِ،

لم  يقرأْ أو يكتب الطّريق،

كيف يُصْنعُ  قلَمُ الضمير؟

ها نحنُ أحرارٌ لوهلةٍ، لكنْ في مكانٍ

آخرَ، في ثلثِ الكوكبِ المحبوس،

بعقبِ بندقيّةٍ لا تعرفُ الأمان،

تُسْحقُ جمجمةٌ تحلمُ بالفردوس.

حيثُ لا شيءَ مجانيّ، الهواءُ الأزرقُ

في زنبيل ورقٍ، وكلُّ ما نخُطُّ للكُتب

سيختمُ مرّتين، حرفُ حريّة أزرقُ

يُشَقُّ حنجرتَه بسكّينِ الدولةِ، بالعتَب.

من خلالِ تلك القضبانِ السوداءِ

تحدّقُ وجوهٌ خاويةٌ. أصابعُ تخسَر

وتمسكُ بقضبانِ القصيدةِ العصماءِ

لأنها هنا مكتوبةٌ في مكانٍ آخرَ.

نظراتُهم تغيّمُ في السلوان،

نحيلةٌ، مثلَ أرقامٍ مجهولةٍ

محيّرةٍ في مذكّرةٍ لعنوان،

مثلَ أرقامٍ لمجازرَ بلا بطولة.

لا تلوموا العالمَ. الجريمةُ القاتمةُ

هو أن نجعلَ للضميرِ صوتًا وسيرةً،

أن تشعُرَ أرواحُنا بالصرخةِ الصامتة

لأغصانِ الشّتاءِ ونقرَأُ علاماتِ الحيرة.

____________________________________

(1) ترجمة شريف بُقنه، عن مختارات مترجمة للشاعر ديرِك والكُت تصدر عن دار روايات – الشارقة 2021

from The Arkansas Testament by Derek Walcott, 1989 by Farrar Strauss & Giroux-3pl

ديرِك والكُت (١٩٣٠-٢٠١٧) شاعر ومسرحي وكاتب من سانت لوسيا، حصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٩٢) وعملَ أستاذاً للغة الإنجليزية قي جامعة بوسطن الأمريكية.

(2) ستيفن هارولد سبندر Stephen Spender (١٩٠٩- ١٩٩٥) شاعر وروائي وكاتب إنجليزيّ، تركّزت أعماله حول موضوعات الظلم الاجتماعي والصراع الطبقي.

———————————-

نحيبٌ بعيدٌ من أفريقيا – قصائد مختارة للشاعر ديرِك والكُت

منتصف الصيف، توباغو (٢)

شواطئُ عريضةٌ بسطَتْها الشّمسُ.

حرارةٌ بيضاءُ.

نهرٌ أخضرُ.

جسرٌ،

نخلاتٌ صفراءُ مُشيّطة

من منزلِ استجمامةِ الصّيفِ

أيامُ أغسطس الناعسةُ.

الأيّامُ التي قضَيْتُها،

الأيّامُ التي فقدتُها،

الأيّامُ التي كبُرت معي، مثل البناتِ،

أذرعي التي نذرتُها.

** ** ** **

نحيبٌ بعيدٌ من أفريقيا

ريحٌ تُقَشعِرُ جلدَة أفريقيا

السمراء، كيكويو(٣). بسرعةٍ كذُبابٍ

يسبحُ في حمّام دَمٍ فوقَ السّهابِ.

الجثثُ مُبعثَرةٌ في الجنَّةِ.

وحدَها الدودةُ، كولونيل الجيفةُ، تبكي:

“لا تُضيّعوا أيَّةَ رأفةٍ على هؤلاءِ

 القتلى المنفصلين!”

الأرقامُ تُثبتُ،

والعُلماءُ تضبطُ بلا رَويّةٍ

مرتكبي السياسَة الاستعمارية.

ما الذي يعنيه ذلك

لطفلٍ أبيضَ في سريره مغدور؟

للهَمَجِ، لضحايا اليهود؟

صوت المغنّي (٤) يُخرجُه من عُشِّه

 تنهارُ قفزتُه العاليةُ في غُبارٍ أبيضَ حزينٍ

تناثرَ منذُ فجرِ الحضارةِ

عن نهرٍ جافٍّ أو سهلِ وحوشٍ.

بَطْشُ الوحْشِ بالوحش يُعرّف

بقانونِ الطبيعةِ، لكنَّ الإنسانَ

ينشدُ ألوهيّتَه بافتعالِ الألمِ.

هائمٌ مثلَ هذهِ الوحوشِ الهائمةِ،

ترقصُ حروبُه على جلدةِ الطبلةِ المشدودةِ

بينما لايزالُ يدعو الشجاعةَ رهبةَ أهلِ البلادِ

من سلامٍ أبيضَ تعاقدتْ عليه الأمواتُ والعبادُ.

مرةً أخرى الضرورةُ الوحشيّةُ تمسحُ كفَّيْها

 على منديلٍ بدعوى النّتَن، تُبَدِّدُ عطفَنا

مرةً أخرَى، كما هو الحالُ مع إسبانيا،

الغوريلا تتصارعُ مع سوبرمان.

أنا الذي تسمّم بدمِ كليهما،

إلى أين ألتفتُ وأنا مقسومٌ حتّى الوريد؟

أنا من ألقيتُ عليه اللعنةَ،

الضابطُ الّسكرانُ من الحكم البريطاني،

كيف أختارُ بين أفريقيا ولساني الإنجليزي؟

أخونُ كليهما، أو أعيدُ إليهما ما أعطياني؟

كيف أواجهُ هكذا مجزَرةً وأحيا في طمأنينةٍ

كيف أدير ظهري لأفريقيا وأعيش السّكينةَ؟

** ** ** **

بلا عنوان (قصيدة رقم ٥٤)

 هذه الصفحةُ هي السحابةُ بين حافتي خِصامٍ

 نتوءٌ أرضيٌّ يبدو كأنَّه جبالٌ محطّمةٌ

 ما يلبَثُ أن يختفيَ مرةً أخرى وتبتلعُه الأثلامُ

تمتدُّ زرقةٌ صحوةٌ الآنَ، بحرٌ في أخدودِ

وجزيرةٌ تسُمّي الأشياء، حوافُّها مُغْرَةُ (٥) الأجسامِ

وديانُها مغموسةٌ بالظّلالِ وطرُقُها ملتويةٌ

خيوطٌ تربطُ قرى الصيدِ، عبابُ الموجِ الأبيضِ الصامتِ

على طولِ السّاحلِ، حيثُ يصلُ خطُّ النّوارسِ كما السهْم

إلى الميناءِ الآخذِ في الاتساعِ لبلدةٍ بلا ضجيجٍ،

شوارعُها تلتصقُ ببعضها مثلَ الأحرفِ المرصوفةِ التي تقرؤُها الآنَ،

 سفينتا كروز، سَكّونة (٦)، قاطرةٌ بحريةٌ، زوارقُ عتيقةٌ،

حيثُ تغطّي السحابةُ الصفحةُ ببطءٍ لتُصبحَ

بيضاءَ مرةً أخرى ويصلُ الكتابُ إلى نهايتِهِ.

** ** ** **

القَطار

من ناحيةٍ، إنجلترا المروّعةُ،

الحديد، وحلُ مدارجِ المطارِ،

من الناحيةِ الأخرى، أنقاضُ أشجارٍ

محترقةٍ، يدٌ تعبثُ بنوافذِ العربةِ.

من أين جاء جدّي الأبيضُ الشّبِقْ؟

غادرَ هنا قبلَ قرنٍ

ليجدَ “مزرعتَه”،

ومثلُ آلافٍ آخرين،

بذَروا أرخبيلهم مخمورين.

من خلال زجاجٍ قذرٍ

تعبرُ أرضُه الزِّراعيةُ إلى وجهي.

أسْوَدُ ويائسٌ

وضعَ لحمَهُ على النَّارِ،

اِسْوَدَّ كشجرةٍ من لهَب واستعارَ،

يغلي دمُهُ في داخلي بينما يندفعُ هذا المحرِّكُ

وتشيطُ بشرتي مثل زُنَّارٍ مطبوعٍ باسمِه.

على رصيفِ محطّةِ الأحدِ القاتمةِ

تحدّقُ الوجوهُ البريئةُ وتتفرّقُ

 مثل سككِ الحديدِ الضائعةِ،

وأنا مثلكَ يا جدّي، لا يمكنني تغييرَ المكانِ،

أعودُ بيتي ظمآن.

** ** ** **

أردواز

أفكّرُ في بناء جُملةٍ عن لون الأردواز (٧)،

ببريق البلور لإحساسٍ عرَضي، بوميض الميكا (٨) لفِطْنةٍ عابرة.

لست مُتعباً من تَيْه المجاز،

 لكن الأيام الرماديّة مفيدة، دون انعكاس،

مثل رَمْلٍ ترشّح بعد شفق الحبّ.

أفكر في تجنّب مفرداتٍ مثيرةٍ أو وقَفَاتٍ ميلودرامية كالموت،

أو ندَمِ الخسارات، أو لا؛ لا خسارةَ دون حبٍّ،

ولكن هذا أيضاً يجب أن يكون صامتاً، يجبُ ألا يفوت

مثل مترونوم (٩) التنفس قريب من القلب.

قِفْ. استئنفْ. قِفْ.  وتُعاودُ الكَرّة بالتوارد.

حصانٌ رماديّ، بلا راكبٍ، يرعى أينما ذهب العُشْب،

حصانٌ أردوازيّ يجرُّ خصلاتَه على شاطئٍ بارد،

يرحل آخرُ جُرحٍ متوهّجٍ، تغلق الشمسُ بيتَها في الليل

ويصبحُ كل شيءٍ على وشَكِ الانقراض. حتى الندم.

خصوصاً النّدَمُ والأسَفُ والشوقُ والوَيْل،

باستثناء موجِ الظلام  الذي يواسي بغرابة صلابته.

إنهّم يأتون بذات الأخبار القديمة،

ليس فقط بحشرجة الموجِ على الشاطئٍ وغرغرته،

ولكن هناك شيءٌ أبعدَ من الموجةِ الأخيرةِ،

قشورُ السّرطان التي أبيَضْت ورائحةُ الحشائشِ اللاذعة،

أبعدُ من النجوم التي بدت دائمًا صغيرة

لتلك المساحات اللانهائية، التي ظنّها (باسكال) خادعة

أفكّر في عالم خالٍ من النجوم والأضداد. متى تكون اللحظة الأثيرة؟

_________________________

(١) اختيار وترجمة شريف بُقنه، عن مختارات مترجمة للشاعر ديرِك والكُت تصدر عن دار روايات – الشارقة 2021.دريك والكوت (١٩٣٠-٢٠١٧) شاعر ومسرحي وكاتب من سانت لوسيا، حصل على جائزة نوبل للآداب (١٩٩٢) وعملَ أستاذاً للغة الإنجليزية قي جامعة بوسطن الأمريكية.

(٢) توباغو (Tobago) جزيرة في جنوب البحر الكاريبي، وهي جزءٌ من أرخبيل جزر يشكِّل جمهورية ترينيداد وتوباغو ويقع قريباً من فنزويلا

(٣) الكيكويو أو الجيكويو “Kikuyu”، جماعةٌ عرقية من كينيا، يشكلون الآن حوالي٢٢٪ من إجمالي السّكان. استجابت قبائل الكيكويو بصدر رحب المبشرين والتعليم الأوروبي وكان لديهم فرص الحصول على التعليم والمشاركة في اقتصادات الأموال الجديدة في البلاد.

(٤) المنادي أو المغني: طريقة يحتال بها الصياد على فطرة الطيور بتقليد أصواتها أو باستخدام الطبول ليخرجها من أعشاشها.  ورد في النص الأصلي كلمة (ibises) طائر أبو منجل كتسمية للطير المراد اصطياده، حذفت التسمية من الترجمة لضرورة فنيّة.

(٥) مُغْرَة (ochre) وهو الطين الأحمر أو الأصفر، والشاعر يتحدث هنا عن  جزيرة ويستكشفها بعيني طَيْر تظهر المعالم و تتوسط البحر، ربما يشير إلى جزيرته سانت لوسيا والتي تقع شرق البحر الكاريبي

(٦) السَكّونة (schooner)  وهي مركب شراعي ذو صاريَتين أو أكثر

(٧) أردواز (slate) لون حجر الأردواز أو حجر السجيل وهو صخر مرقق تكوّن من الطين والرماد البركاني، يميل اللون الى إلى الرمادي الصلصالي

(٨) ميكا (mica) هي مجموعة معادن من السليكا تتبلور في هيئة طبقات

(٩) مترونوم (metronome)، رقّاص الإيقاع أو بندول الإيقاع  وهي أداة تعطي تكتكة أو علامة تجزئة وهذه التكتكة تكون منظمة وثابتة

——————————

05 يناير 2018

حُبٌّ بعد حُب – ديريك والكوت

سيأتي الوقتُ

لتُحيّي نفسَكَ

بكلِّ بهجةٍ عند وصولِكَ

إلى بابِكَ، في مرآتِك

و بابتسامةٍ سيُرحِّبُ

كلُّ واحدٍ منكما بالآخرِ،

ويقولُ اِجلسْ هُنا.

تناولِ طعامك.

ستُحبُّ مرةً أخرى الغريبَ

الَّذي كان نفْسَك.

ستُقدِّمُ لهُ النَّبيذَ. ستُقدَّمُ الخُبزَ.

ستُعيدُ قلبَك لنفْسِه،

إلى الغريبِ الَّذي أَحبَّكَ

طوالَ حياتِك،

الّذي تجاهلتَهُ من أجلِ الآخرِ،

الَّذي يعرفُكَ عن ظهرِ قلبٍ.

هات رسائلَ الحُبِّ مِن رفِّ الكُتبِ،

هات الصُّوَرَ، الملاحظاتِ اليائسةِ،

قَشّرْ صورتَكَ نفسهَا.. مِنَ المِرآةِ أمامَكَ.

اجلسْ.

حياتُك وليمتُك.

____________________

ترجمة شريف بقنه

* دريك والكوت (١٩٣٠-٢٠١٧) شاعر و مسرحي من سانت لوسيا

Love After Love from Collected Poems, 1948-1984 by Derek Walcott, 1987 by Farrar,

——————————-

ترجمة, ديريك والكوت, شعر, عن الإنجليزية

ديريك والكوت: قصائد مختارة

2021-08-22 – Doaa Shahin

    أيها النجم، العطوف، يا من أتى

    مبكرًا عن الشفق،

    ومتأخرًا عن الفجر،

    ليُرشدْ ضوؤك الخافت أسوأ ما فينا

    عبر الفوضى

    وبشغف كوضح النهار.

قصائد مختارة لديريك والكوت

ديريك والكوت شاعر وكاتب من دولة سانت لوسيا، وهي جزيرة تقع شرقي البحر الكاريبي، حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1992.

ترجمة: دعاء شاهين

——————————–

حب تلو حب

سيحين الوقت عندما ترحب مبتهجًا

بوصول نفسك إلى بابك، وفي مرآتك

سيبتسم كل منكما مرحبًا بالآخر،

ويقول: اجلسْ هنا، كُلْ.

ستحب مجددًا ذاك الغريب، الذي كان نفسك.

امنحه الخمر، امنحه الخبز. رد قلبك إلى نفسه،

إلى الغريب الذي أحبك،

طوال حياتك، الذي تجاهلته من أجل آخر،

الذي يعرفك عن ظهر قلب.

أنزل رسائل الحب الموضوعة على رف الكتب،

الصور، التدوينات اليائسة

قشر صورتك عن المرآة

واجلس، احتفِ بحياتك.

القبضة

أطبقت القبضة على قلبي

تتراخى قليلًا،  فأتنفس، لاهثًا،

نورًا ساطعًا؛ لكنها تحكم قبضتها

مجددًا. متى كنت يومًا لا أحب

ألم الحب؟ لكن هذه حالة تجاوزت

الحب إلى الجنون. فهي لها

قبضة الرجل المجنون القوية،

تتشبث بحافة اللامعقول، قبل

أن تنزلق، صارخة، إلى الهاوية.

تمسك جيداً يا قلبي. على الأقل، بهذه الطريقة أنت حي.

أغسطس المظلم

كثير من المطر وكثير من الحياة كسماء ملبدة بالغيوم

في أغسطس المظلم. أختي، الشمس،

تنزوي في غرفتها الصفراء وتأبى الخروج.

كل شيء يهوى إلى الجحيم؛ الجبال تتبخر

كإناء، الأنهار تفيض؛ لكنها

لن تشرق كي توقِف المطر.

هي في غرفتها، تداعب أشيائها القديمة،

قصائدي، وتقلب صورها. حتى وإن هوى الرعد

 كأصوات أطباق تتحطم من السماء،

لن تخرج.

ألا تعرفين أنني أحبك لكنني عاجزٌ

عن إصلاح المطر؟ غير أنني أتعلم برويّة،

أن أحب الأيام المظلمة، والتلال المتبخرة،

والهواء المحمل بالبعوض الثرثار،

وأن أرتشف دواء المرارة،

لذا، عندما تظهرين، يا أختي،

لتباعدي بين حبات المطر

بجبهتك المزهرة وعيني المغفرة،

لن يبقى شيء على حاله، لكنه سيكون حقيقيًا

(أترين، لن يتركوني أحب

كيفما أريد)، لأنه حينها، يا أختي،

سأكون قد تعلمت أن أحب الأيام المظلمة كالأيام المضيئة،

والمطر الأسود، والتلال البيضاء، بينما كنتُ سابقًا

أحب فقط سعادتي وأنتِ.

بعد العاصفة

هناك الكثير من الجزر!

كثير من الجزر كنجوم الليل

على تلك الشجرة المتفرعة، التي تهتز الشهب منها

كفاكهة تتساقط حول رحلة المركب الشراعي.

لكن يجب للأشياء أن تسقط، هكذا كانت دائمًا،

الزهرة في يد، والمريخ في اليد الأخرى؛

يسقطان، وهما واحد، تمامًا مثلما هي الأرض

جزيرة واحدة بين أرخبيل النجوم.

كان البحر صديقي الأول. والآن، هو الأخير.

أتوقف عن الحديث الآن. أعمل، ثم أقرأ

مسترخيًا أسفل مشكاة تتدلى من صاري المركب.

أحاول أن أنسى ما كانت تعنيه السعادة،

وعندما لا أفلح في هذا، أدرس النجوم.

أحيانًا، أكون أنا فقط، والرغوة الناعمة المتمايلة

عندما يتحول سطح المركب إلى اللون الأبيض والقمر يفتح

السحابة كبابٍ، ونوره الأبيض فوقي

طريقٌ يأخذني إلى البيت.

شابين[1] يغني لك من أعماق البحر.

النجم

إذا كنت، بين نور الأشياء، تتلاشى

حقيقيٌ، لكنك تنسحب تدريجيًا

إلى المسافة المحتومة والملائمة بيننا،

مثل قمر تُرِكَ بين أوراق الشجر طوال الليل،

فلتُبهج هذا البيت في خفاء؛

أيها النجم، العطوف، يا من أتى

مبكرًا عن الشفق،

ومتأخرًا عن الفجر،

ليُرشدْ ضوؤك الخافت أسوأ ما فينا

عبر الفوضى

وبشغف كوضح النهار.

[1] شابين، كلمة تستخدم في منطقة الكاريبي، وتشير إلى أصحاب العرق المختلط، ويستخدمها الكاتب في قصائده للإشارة إلى هوية الكاريبي المختلطة المكونة عبر سياق تاريخي استعماري.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

دعاء شاهين, ديريك والكوت, سان لوسيا, نوبل للآداب 

———————————–

في ذكرى رحيل الشاعر ديريك والكوت (الكاريبي) 17 مارس 2017

حاصل على نوبل 1992

نهايات

للشاعر Derek Alton Walcott

#ترجمة تحسين الخطيب

لا تنفجرُ الأشياءُ،

إنّها تضعفُ، إنّها تخبو،

كأشّعةِ الشّمسِ تتلاشى من الجسدِ،

كالزّبدِ يتلاشى في الرملِ سريعًا

حتّى إنّ وميضَ برقِ الحُبِّ

لا نهايةَ راعدةً لَهُ،

إنّه يموتُ بصوتِ

الأزهارِ التي تذوي كالجسدِ

منَ الحجَرِ الإسفنجيِّ المُتعرّقِ،

كلُّ شيءٍ يُشكّلُ هذا

حتّى نُتْرَكَ

معَ الصّمتِ الذي يطوّقُ رأسَ بيتهوفن.

——————————

رحيل ديرك والكوت: الذهب الطالع من النخيل

ترجمات رحيل ديرك والكوت: الذهب الطالع من النخيل

توفي يوم الجمعة الماضي، الشاعر والكاتب المسرحي الكاريبي، ديريك والكوت، إثر أزمة صحية عن عمر يناهز 87 عاماً.

ووالكوت، الذي ولد في 23 يناير 1930 في سانت لوسيا، هو من أهم الشعراء والكتاب العالميين الذين يكتبون بالانكليزية في النصف الثاني من القرن العشرين. تضمن شعره جماليات منطقة الكاريبي وتناقضاتها . عمل محاضرًا في جامعات في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، عيَّن عام 1981 أستاذًا للغة الانكليزية في جامعة بوسطن الأمريكية، ونال جائزة نوبل للآداب عام 1992.

من أعماله: “في ليلة خضراء” قصائد 1948 ـ 1960 (نشر في عام 1962) و”الناجي كم الغرق وقصائد أخرى” 1965، و”عنب البحر” 1976، و”مملكة التفاح النجمي” 1977، و”الخليج” 1969، و”المسافر المحظوظ” 1981، و”منتصف صيف” 1982، و”طقوس كاريبية” 1984، و”قصائد لدخول الملكوت” 1987، و”العودة الى الرحم” 1991، كما نشرت قصائده المختارة في عام 1993.  توقف تقرير لجنة نوبل، في تبرير منحه الجائزة، عند الحس التاريخي العميق في شعرية والكوت الذي عمل على مزج ثقافات عالمية ومحلية في أعماله الشعرية.

هنا ترجمة لبعض قصائده:

—————————————–

أن تعود إلى الأشجار

إلى جون فيغوروا

عتيقة، هذه السنديانة،

عتيقة، شجرةُ لوز البحرِ هذه

لا تجفلُ تحت الرذاذ

في هذا البستان الشّائخ

على الطريق البحريّة إلى كومانا.

أن تعودَ إلى الأشجار،

أن تذويَ مثل هذه الشجرة،

السنديانة الراسخة

للواعظ الـمُرعدِ بِن جونسون!

أو هل تراني أتمدّدُ

كتلك اللوزةِ المقطوعة

حين أكتبُ مُتَطَلِّعاً لأنْ أهرمَ-

شاعراً متغضّناً

مُلْتَحٍ بالزّوبعة،

أوزانُه كالرّعدِ؟

ليس الأمرُ البحرَ وحده،

لا، إذ في الصّباحات المخضوضرة العاصفةِ

أتقرّى ما يطرأ على جبلِ مورْنِ كوكو،

من الشّروق السّافر

إلى نهايتِه الشاحبة؛

اصّاعدَ الرماديّ كما لا أقوى على احتمالِه،

لم يَعُدْ محايداً،

لم تعُدْ رايةُ الإقدامِ

المتسخة تتعفّر تحتَه،

تبقّعتْ بتَدَرُّجِ الألوانِ

كما الـمَرْوُ، متباينةٌ هيَ

كما السّأمُ،

الرّماديُّ الآنَ سديمٌ

بِللوريٌّ، ألماسةٌ كَلِيْلَةٌ،

حجرٌ مُغْبَرٌّ ورواقيّ،

الرّماديُّ قلبُ السّلامِ،

أشدُّ بأساً من المُحارِبِ

وهو يتخطّى الفصائلَ،

إنّه التّرقُّبُ الشّموليُّ

عندما ترتكزُ أعمدةُ الهيكلِ

على أكُفِّ شمشونَ

وهي راسخة، راسخة،

تلك الهنيهة

عندما تغفو صخرةُ العالَمِ الثّقيلةُ

كطفلٍ

على عاتقيِّ أطلسَ الرّاجفتين

وعيناهُ مُغْمَضتانِ،

رزْحٌ ما هو إلا التّوازنُ.

سينيكا، ذلك الملولُ الخرافيّ،

ولاتينيتُه العُقَديّةُ، الوعرة

التي لا أقرؤها إلا في نثار

من لحاءٍ مُهَشَّمٍ، وأبطالُه

الذين طوّعتْهمُ الزّوابعُ،

والذين ينظرون مُستعِينينَ بكلمةِ

“حكيمة،” بعينيها الاثنتين،

من خلال أفرُعِ هذه الشجرة،

إلى ما وراء الغبطة،

إلى ما وراء اللفظ الـمُغنّى،

شجرة اللوز السّادرةُ هذه

تذهبُ بهذه اللغةِ

في الرّملِ، بطيئةً،

مع حُبيباتِ الرملِ، مع القرون.

———————————-

وظيفة غريبة للكلب- الثورُ[1]

تتهيّأُ لبلوى،

لكنّ أخرى تأتي.

لا يُشبه الأمرُ الطقسَ،

وليس بوسعك أن تُحصِّنَ نفسَك،

عدم الاستعداد هو لبّ المسألة.

رفيقك، المرأة،

الصديق إلى جوارك،

الطّفلُ قربَك،

والكلب،

نرتجفُ لأجلهم،

نتطلَّعُ صوبَ البحرِ آملين

أن تمطر.

علينا أن نتأهّبَ للمطر؛

لستَ تجد صِلةً

بين أشعّةِ الشمس إذ تغيّرُ

الدّفلى الآخذةَ بالاسوداد

في حديقة البحر،

وبين الذهب الطّالع من النخيلِ.

ولا تجد صلةً

بين نُقط الرّذاذ

على جلدك،

وبين عويلِ الكلب،

العاصفة لا تُخيف،

الاستعداد هو لبُّ المسألة؛

وما يأتيك من الزهو

يقصدُ أن يُعْلِمك

بأنّ الصّمتَ هو لبُّ المسألة:

أنه أعمقُ من الاستعداد،

أنه بعمقِ البحر،

بعمقِ الأرض،

بعمقِ الحبّ.

الصّمتُ

أعتى من الرّعد،

نحن مُبتَلُون بالغفلة والعمق

كما الأنعامُ التي لا تتلفظ بالحُبِّ أبداً

كما نفعلُ، إلا

أنه يصبح عصيّاً عن التلفّظ

ولا مناص من أن يُقالَ،

عويلاً،

دموعاً،

في الرّذاذ الذي يأتي أعيننَا

دون أن يتلفظ باسمِ الشيء المحبوب،

صمت الموتى،

صمت أعمقِ حُبٍّ دفين هو

الصمت الأوحد،

وإنْ نَكُنَّهُ للبهيمة،

أو للطفل أو للمرأة أو للصديق،

فإنه الحبُّ الأوحد، هو ذاته،

وهو المُبارَكَةُ

إذ تتجلى عميقةً بالفقد

هو المُبارَكَةُ، هو المبارَكَة.

 ————————————

ناسك كوڤا

إلى كينيث رامتشاند

عندما يتردَّدُ الغروبُ، والناقوس النحاسيّ،

في كوڤا،

أُدرِكُ روحي، طليقةً خارج غمدِها،

كسربِ طيورٍ بيضاءَ يتضاءلُ

فوقَ محيطٍ من قصبِ المساء،

أمكثُ هادئاً، بانتظارِ أن يعودَ

مثل قطيع خنازير تلطخت بالوحل،

إذ أنَّ الهندَ، بالنسبةِ إلى روحي، بعيدةُ المنال.

ونحو ذاك الناقوس

تحتشدُ غيومٌ عقيمةٌ في أرديةٍ زعفرانيةٍ

مقدّسَةٌ للمساء،

مقدَّسةٌ حتى لـِ راملوشان[2]،

وهو ينشِدُ أغنياتٍ هنديّةً من أرجوحتِه القنَّبِيَّة

بينما المساءُ يمسحُ الخواصرَ

والأبواقَ الفضّيّةَ لِعَرَبَتِه الكستنائيةِ العمومية،

في حينِ يطنّ البعّوض بتعاويذ مسائه،

صديقتي بعوضة الملاريا[3]، على السِّيْتارِ[4]،

واليراعات تُحيلُ كلَّ غَسَقٍ إلى دِيْوَاْلِيْ[5].

عَقَدتُّ رأسيَ بغيمةٍ،

تَسَمَّرَ شارِبايَ كقرنين،

يداي هَشّتان مثل صحائفِ الـ رامايانا[6].

ذات يوم تناسلتْ القِرَدَةُ المقدَّسَةُ كالأفْرُعِ

في المعابدِ القديمة؛

لم أحنَّ إليها،

لأنَّ هذه الحقول أنشَدَتِ الـ بِنْغال،

هناك خلف مشغلِ راملوشان كانت ولايةُ أُتّار برادِشْ[7]؛

لكنّ الزّمنَ يهدرُ في أُذنيَّ مثلَ نهرٍ،

العصرُ القديمُ حريقٌ هائلٌ

عاتٍ كما حرائق القصب وقتَ الحصاد.

سأعبرُ هؤلاء البشر عبورَ غيمةٍ،

سَيَرون طائراً أبيضَ يقهرُ بحرَ القصبِ

المسائيَّ وراء كوڤا،

فَمَنْ سيُشِيرُ إليهِ على أنّه روحيَ خارجَ غِمدِها؟

لا اللغةُ المقدسةُ للعريسُ في الخَرَزِ،

وللعروسِ في براقعِها،

على لوحِ الإعلان السينمائيّ.

تحدثتُ أكثر مما ينبغي إلى مجلسٍ كوڤا القرويّ.

تحدّثتُ بصوتٍ خافت، لكنَّ صوتيَ اختنقَ

بمكبراتِ الصَّوتِ أمام المتاجرِ

أو مكبّرات الصّوتِ مع الصّورِ الأكثر ضخامةً.

أنا أنسبُ مَن يتخطّرُ كطائرِ من سربٍ أبيض

ينتصب على ساقين كالعِيدان، ثم يعْلقُ عند المعبَرِ

بينَ القصبِ على طريقٍ ريفية في المساء.

ألعبُ دور الأخِ الرّاشد. لا مزيد من الأخوةِ الراشدين.

هناك العجائزُ وحسْب.

يبصقُ أصدقائي على الحكومة.

لا أظنّ أن الأمر وقْفٌ على الحكومة وحدها.

أتحسبُ أن كلَّ الآلهة عجائز،

أتحسب أنهم موتى وأن هناك من يحرقهم،

متخيِّلاً ما يُشبِه قطّاعةَ قصبٍ

تشرعُ في تقطيعِ الأفاعي بمنجلٍ

يسومُ الإلهَ ذا الأذرعِ الأفعوانيّة صنوفَ البترِ،

أتحسبُ

أنّ صيّاداً ما قدِ احتجزَ

هانومان[8] بخبثه في قفصِ القرود.

أتحسبُ أن الآلهةَ قاطبةً قد أعدمتْ بالمصباح الكهربائي؟

الغروبُ، كموقد، يهدرُ في أذنيَّ؛

جمراتٌ من سنونوّاتٍ منتفجةٍ تحومُ وتزعقُ،

حولَ مِحرقةِ جُثثِها،

كنساءٍ ذاهلاتٍ.

وأرتقي سريريَ المصنوعَ من خشبِ الصَّنْدَل النّديّ.

 هوامش:

[1] – Bull Terrier: كلب إنكليزيّ مهجّن، يشبه رأسه البيضة، ذو عينين مثلثتيّ الشكل.

[2] – Ramlochan: كاتب ولغويّ وناشر هنديّ، 1889-1971.

[3] – Anopheles.

[4] – Sitar: آلة موسيقية.

[5] – Divali أو Diwali: مهرجانُ أضواء وشموع يمتدّ خمسة أيام في الديانات الهندوسية، الجينية، والسيخية.

[6] – Ramayana: ملحمة سنسكريتية قديمة.

[7] – Uttar Pradesh: ولاية هندية.

[8] –  Hanuman: أحد رموز المعتقدِ الهندوسيّ.

    المترجم: أحمد. م. أحمد

———————————-

مجموعة من القصائد في مكان واحد

https://qasaed-lilhayat.com/poets/%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D8%AA

————————-

ديرك والكوت شاعر الكاريبي قاوم الاستعمار بغنائية عالية

مختارات جديدة بالعربية تضيء زوايا من عالمه الرحب وتجربته الملحمية

أنطوان أبو زيد

الشاعر الكاريبي ديرك والكوت (1930-2017) الحائز نوبل للآداب عام 1992، يحضر مرة جديدة في ترجمة عربية لمختارات من أشعاره، بعد ترجمات سابقة صدرت في القاهرة. المختارات الجديدة ترجمها من الإنجليزية الشاعر والمترجم السعودي شريف بقنة، وصدرت في كتاب عن دار روايات- الشارقة. قد تكون هذه المناسبة فرصة لأمرين معاً؛ التعرف إلى عالم والكوت (والكت) الشعري الغني، وإلى محيطه وعالمه وزمنه ومواقفه منهما، ومن ثم الحديث عن الكتاب المترجم موضوع العرض، وسبر أعماق لغة الشاعر الشعرية، وأهم التمايزات التي صنعت شهرته في العالم الأنكلوفوني.

قبل أن يلمع نجم ديرك في سماء الأدب، وهو سليل طبقة فقيرة من مواليد كاستريس، عاصمة جزيرة سانتا لوسيا، في البحر الكاريبي، لوالدين فقيرين، وأم عاملة مياومة، تنقل الفتى في مدارس المدينة، وعمل كثيراً لكسب لقمة عيشه، من دون أن يهمل نظم الشعر الذي واتاه صغيراً، على الأوزان التقليدية الإنجليزية، في البدء، وبغير الأوزان والقوافي لاحقاً. ولما بلغ، وصارت له نظرة مبدئية إلى عالم الجزيرة وما بعدها، في زمن انتفاض الشعوب على مستعمريها، في الخمسينيات من القرن العشرين، عزم على النفي الإرادي إلى الولايات المتحدة الأميركية، شأن زملائه الأدباء جورج لامينغ، وسامويل سيلفون، وف. س. نايبول، لرفضهم العيش في ظل مجتمعات لا تجهد نفسها من أجل أن تنال مكانتها تحت الشمس، وتنكر في المقابل على أدبائها وشعرائها مكانتهم التي سوف تعيد لها الألق وتزيدها حضوراً بين الأمم.

وفي السياق نفسه، يجدر بالمراقب أن يشير إلى أن جزءاً من أعمال والكوت، لا سيما المجموعات الشعرية الثلاث الأولى (“في الليلة الخضراء”، و”الخليج”، و”المنبوذ”)، تزامن مع الاضطرابات السياسية في الجزر الكاريبية التي كانت قد انتقلت من السيادة الفرنسية، إلى السيطرة الاستعمارية البريطانية، في حقبة شهدت بروز نزعة استقلالية عارمة (في كل من ترينيداد، وبرباد، وجامايكا، وفي الكاريبي) والتي تنازع فيها اتجاهان هما، تحقيق المثل أو إبطالها. وفي موازاة ذلك، راحت تتنامى لدى الشعراء والكتاب المحليين الميول إلى العناية بجمالية الجزر الكاريبية على الصعيد الأدبي.

وجدانية الجزر

وعلى هذا كانت المجموعات الشعرية الثلاث الأولى للشاعر المشار إليها أعلاه شديدة الدلالة على صلته الوجدانية بهذه الجزر، مصحوبة بانتقاد صارخ لشعوبها بسبب تخليها عن هويتها، وخضوعها الميسر لاستلاب المستعمر إياها، حتى تجريدها من جماليتها ومن استعاراتها، وفي هذا يقول “إنها عالم أخضر من دون استعارات”، ويروح يصف حال سكانها، مستحضراً قمع ذوي البشرة السمراء الأفارقة في الجزيرة: “ريح تقشعر جلدة أفريقيا/ السمراء كيكويو. بسرعة كذباب/ يسبح في حمام دم فوق السهاب/ الجثث مبعثرة في الجنة/ وحدها الدودة، كولونيل الجيفة، تبكي:/ لا تضيعوا أية رأفة على هؤلاء/ القتلى الانفصاليين!”.

ومثل ذلك، تسليط الشاعر الضوء على مظالم قديمة، للحاكم والمستعمر البريطاني، سلاحه الوحيد فيه استعارة نفاذة وحية، ومشهد صادم، كقوله: “من ناحية، إنجلترا المروعة/ الحديد، وحل مدارج المطار، من الناحية الأخرى، أنقاض أشجار/ محترقة، يد تعبث بنوافذ العربة… من أين جاء جدي الأبيض الشبق؟/ غادر من هنا قبل قرن/ ليجد مزرعته،/ ومثل آلاف آخرين،/ بذروا أرخبيلهم مخمورين. / أسود ويائس/ وضع لحمه على النار…” .

بيد أن ميل والكوت الاحتجاجي، بل الثوري حيناً والناقم أحياناً على خنوع أهليه حيال الاستعمار واستلاب هويتهم وأرضهم، لا يلبث أن يستكين، فينحو إلى تعديل رؤيته، ويقرر أن ينقل جمالات جزيرته، ويبتدع سبيلاً كان سبقه نفر قليل إلى اتباع شبيه به، عنيت استثمار الشعر والكتابة، على نحو يكفل تخلص الكائنات ومناظر الطبيعة، في بلاده من مسمياتها القديمة، بأن يخلع عليها أسماء جديدة، مستمدة من لغات دهرية سابقة للغات الاستعمار، وأدل على جوهرها، وأقدر على إحيائها وتحريرها من غفليتها السالفة. ولا ضير إذاً من استخدام خليط اللغات القديمة، وتلك التي عرفتها البلاد، كالفرنسية واللاتينية، ولغات السكان المحليين والأميرانديين، إلى الإنجليزية التي لم يتوان عن تطويعها وبثها قدراً من الروحانية تفتقدها بحسبه. وفي هذا يقول الشاعر: “إن خير ما أعطي لآدم سلطان تسمية الأشياء متى تسنى له فهم كتاب البلاد الحي. أما الشاعر فله أن يجدد، كل صباح، لغته واستعاراته لتصير حية، بعد أن تكون لغته الأولية قد أصابها الوهن والتحلل وهي تعبر ضباب المحيط”.

“البحر هو التاريخ”

يواصل الشاعر إعادة تسمية البحر والكائنات الطبيعية، والشواطئ الممتدة على مد نظره وخياله، فيضفي عليها ما يحررها من أسمائها الأولى، وما يديم ألقها وحياتها عبر الدهور. ويقول الشاعر والكوت، في هذا الشأن، لدى تسلمه جائزة نوبل: “لا يمحي التاريخ عند طلوع الشمس، فالتاريخ ماثل هنا، في الجغرافيا الأنتيلية (نسبة إلى جزر الأنتيل)، وفي نباتها. والبحر إذ يتنهد فتحسراً على غرقى العبور، ويحتضر مع مجازر الهنود المحليين، في الجزيرتين الكاريبيتين أراواك وتاينوس، مثلما تدمى الزهرة الخالدة لتلك الفواجع. وحتى الموجة الدفاقة أبداً لا يسعها أن تمحو ذلك من ذاكرتها”.

وفيما يجدد الشاعر لغته، ويبتدع لها استعارات حية بديلاً عن الصور الشعرية المتداولة في التراث الغربي، اهتدى ديرك والكوت إلى التراث اليوناني، وإلى الإلياذة تحديداً، فاختار أن يحوك حول شخصية هوميروس أسطورة بحرية تتوافق مع رؤاه باعتباره شاعراً خلاقاً ونافحاً الحياة في أسماء كائنات بلاده وبحرها وما نسجته مخيلات الأوائل من أساطير وحكايات جديرة بالخلود. ومن هذا القبيل كان إطلاق اسم هوميروس على الملحمة التي يحاكي فيها ملحمة الإلياذة، ويختلق فيها رحلات يقوم بها أوليس إلى الجحيم، ولكن مستهدياً بطير السنونو يعبر به المفازات، ناسجاً رباطاً متخيلاً بالطبع بين أفريقيا، موطن أوليس الأول، بحسب والكوت، وبين جزر البحر الكاريبي، أسطورة تزاد إلى الخزين الأدبي، وتديم صور الرحلة إلى أعماق الذات حتى المنتهى.

وإن صح أن الكتاب المترجم هنا ليس فيه اقتباس من ملحمة “هوميروس”، فإن فيه قصائد منتقاة من مجموعات شعرية متأخرة، من مثل “الهبة” (1997)، ومنه القصيدة ذات عنوان “2 علامات” والمهداة إلى الشاعر البولندي آدم زاغايفسكي: “رسمت أوروبا ظلها في القرن التاسع عشر/ بمحطات القطار البخارية، ومصابيح الغاز، والموسوعات/ تمدد خصر الإمبراطوريات يفتح شهية البشر/ رواية تعج بالأفكار والشتات… بعيداً عن الشوارع تغلي الروايات بحزن القرن/ من رسومات الفحم لكولفتز، ألم المهاجرين/ تلك هي المشاعر التي تترجمها، هالة اصطناعية/ لتركيبة غريبة، بناء متغير من شأنه تدوين/ أدق التفاصيل للكآبة: لصرير أشعة الشمس…” .

واستكمالاً للنظرة البانورامية إلى شعر والكوت، ينقل المترجم شريف بقنة، آخر قصيدة في الكتاب، تعود إلى مجموعة شعرية صادرة لوالكوت عام 2010، وهي بعنوان “البلشون الأبيض”، يقول فيها: “هذا ما يفعله الآخرون، يموتون، حتى الأقربون/ في صباح مجيد ومختال وكما تذهب الأغنية/ النخيل الأصفر البهيج أو الذهبي وكل البقية يرحلون/ النخيل الأصفر البهيج أو الذهبي وكل البقية يرحلون/ بروعة فاترة، يموتون، يرتجلون كاليبسوس الهندية/ ينصبون الخيام ويشدونها، يقطعون رؤوس/ جوز الهند حول السافانا، يتكئ الرجال/ ثم يقفزون في القوارب، يظهر الناموس/ ويبزغ القمر في نفس المكان فوق جبال/ مورن كوكو، عندها يضربني الحزن الفظيع…” (ص:19)

ولا ننس أن للشاعر ديرك والكوت عشرين مجموعة شعرية، مما استخلص المترجم قصائده، وأكثر من عشرين مسرحية مترجمة إلى لغات العالم قاطبة.

————————————-

 “ديريك والكوت”.. أن تكون نفسك أو لا أحد

جابر طاحون

كيف يمكن تلخيص وجود أي واحد أو توصيفه، خصوصًا إذا كان شاعرًا عظيمًا وإنسانًا بالغ التعقيد؟ هل كتابة الشعر عمل بطولي؟ بالأخص إن كان صاحب الشعر يتشكك في جدواه؟ هل الاستعارة مهمة في الحياة؟

كيف يمكن توصيف الشاعر والمسرحي والرسام الكاريبي ديريك والكوت؟ شاعر يكتب بالإنجليزية، لغة من يستعمره؟ شاعر تربّى ضمن أقلّية بروتستانتية في جزيرة أغلبها من الكاثوليك لها ثقافة فرانكفونية؟ ابن بلد متشظي ومُهمَل إلا من جدواه الاقتصادية للغرب، لكنه -والكوت- حجز لها مكانة بشعره؟ أهو من بحث عن الحرية لأهلها بينما  ينحدر من أصول العبيد.

 عشرين مجموعة شعرية، والعديد من الدراسات، وعشرات المسرحيات وكرسي جامعي في أمريكا غادره باتهامات بالتحرش والتدخل في التحصيل العلمي لطلابه، اتضح فيما بعد أنها مكائد لتنحيته؟

   “سأغني عن ذلك الرجل لأن قصصه تسرُّنا”. والكوت

  في حوار مع Paris review، تغنّى جوزيف برودسكي (نوبل للآداب 1987) بديريك والكوت. قال إنه كاتب كبير، “أرخبيل شعري”. ورغم أن صفة الكاتب الكبير قد تبدو مبتذلة ومجانية هذه الأيام، وأن برودسكي لما قال هذا الكلام عن والكوت كانا صديقين؛ إلا أن صفة الكاتب الكبير تَحِقّ لوالكوت تمامًا، هو الأرخبيل الشعري الكبير والخلاب. والكوت، الذي زاره الموت في وطنه ومسقط رأسه سانت لوسيا في مارس/ آذار 2017 بعد 87 عامًا حافلة بالشعر، الكاتب الكاريبي كما كان يحلو له وصف نفسه، فاز بنوبل للآداب عام 1999. وبجانب نوبل فقد حصل على عدة جوائز أخرى مثل جائزة تي إس إليوت عن مجموعته الشعرية “البلشون الأبيض”. ومن مجموعاته الشعرية أيضًا: “قصائد مختارة”، “الخليج”، “قارئة الحظ”. وبجانب الشعر فقد ألّف حوالي ثمانين نصًا مسرحيًا. في مجموعته الشعرية الأهم والأجمل “أوميروس” والتي ضمنت له صيتًا واسعًا ومكانة كبيرة، أعاد والكوت تدوير الأوديسة الإغريقية لتكون أوديسة سانت لوسيا. وإذا كان أبطال هوميروس في الأوديسة الأولى يبدون ملحميين؛ فقد كان أبطال أوديسة والكوت أناس عاديين وبسطاء: عمال موانئ وصيادين، خُدام ومزارعين.

موقع سانت لوسيا المهم في البحر الكاريبي كان مغريًا للفرنسيين والإنجليز ليسعيا لضمها تحت لوائهما. ورغم أن والكوت ربما قد ضجر من توافد الأجانب لينهشوا من جسد بلده؛ إلا أنه امتلك نظرة أكثر إنسانيةً وأكثر اتساعًا. حيث نظر لبلده كفردوس يتطلع كل واحد إليه وكل واحد يجئ لهذا الفردوس يترك شيئًا يستوعبه هذا الفردوس ويتسع به. في إحدى قصائده التي كتبها في الثمانينيات بعنوان مملكة يقول:” أحمل في داخلي الهولندي، الزنجي، الإنجليزي/ وأنا إما لا أحد/ أو أمة بأكملها”. ولما سُئل والكوت عن تعريفه الخاص لكلمة وطن، أجاب بأنه أكثر الأشياء التي يمثل امتلاكها حظًا لصاحبها. شعور استثنائي، شعور باليقين، لا يشعر به إلا في سانت لوسيا، يزول ويتجدد مع كل مرة يغادرها ويعود لها فيها. هو “يمتلك وطنًا واحدًا ومكانين”، سانت لوسيا هي وطنه الوحيد ومكانه الأول. المكان الثاني هو بوسطن، البلد الذي يفضله على غيره في أمريكا، على نيويورك بالأخص التي أحس فيها بالضياع وارتعب منها لما زارها. 

ظل والكوت حتى نهاية حياته متوجسًا ناحية نجاحه- ومتوجسًا ناحية الشعر نفسه- متخوفًا من أن هذا النجاح قد يكون سببًا ليخون سكان الجزر الصغيرة الواقعة في الكاريبي. فقد تأتيه فرصة تجعله يغادر وطنه (سانت لوسيا) أو ينساه في بلد آخر، وبذلك يخون أهله ونفسه. وكان يرى أن التسهيلات التي يلقاها بحُكم مكانته ولا يلقاها غيره هي انتهازية. كان الموضوع عميقًا بالنسبة له، ولا ينظر إلى ما يحوزه كشاعر على أنه حقه. وكان يرى أنه إن سافر مثلًا إلى أمريكا أو أوروبا واستقر فيها فسيكون -غير خيانته لأهله- بلا جذور؛ مواطنًا من الدرجة الثانية. وسيُعرَف كما يُعرَّف السود في تلك البلاد، أو بنص تعبيره “سأصير شيئًا لست مستعدًا لأن أكونه”. ربما كان والكوت ليصبح كاتبًا مختلفًا عما صار إليه لو غادر سانت لوسيا متبعًا أقرانه نيبول ولامينج وسيلفون إلى بريطانيا. لكنه فضّل أن يكون صبي البلاد Homeboy، وألا يجتث نفسه منها كما فعل غيره، رافضًا أن تكون بلدًا آخر غير الكاريبي مركزًا أو محورًا له. كان يحكي أنه في كل مرة كان يحمل كتاب لـ لامينج أو سيلفون في الجامعة؛ كان يشعر بالخفة، كون هذا كتاب ألّفه واحد كاريبي. “شعور غير عادي وأقل ما يُقال عنه أنه مدهش أن أمسك بـ (في القلعة) [رواية لجورج لامينج] و(شمس أكثر سطوعًا) [رواية سامويل سيلفون] والتفكير: يا إلهي هذا كتاب”. لكن الخلاف الذي حصل بينه وبين نيبول رسخ فيه رفضه للخروج من وطنه لئلا يتحول إلى شخص مماثل لغريمه. 

نيبول، هو صديقه القديم وعدوه فيما بعد. اختلفت رؤيتهما لإرث الإمبراطورية البريطانية؛ ما جعل صداقتهما تتوتر في وقت مبكر، حيث نسى نيبول وطنه وتباهي بأنه جزء من المملكة المتحدة. تعالى على والكوت وأقرانه بتصريحات تكاد تكون عنصرية، قائلاً إنه ذا باع وشهرة أكثر منهم، وكتبه سبقت كتبهم إلى النشر. فوصفه والكوت في إحدى قصائده بأنه قد غربت شمسه. إلا أن ما جعل الخلاف يصل إلى ذروته، كان مهاجمة والكوت له في قراءة شعرية في مهرجان كالاباش في جامايكا في 2008: “تم عضني/ ويجب على أن أتفادى العدوى/ وإلا سأكون ميتًا/ كخيال نايبول”. ورد نيبول واصفًا قصيدة والكوت بأنها طويلة وبلهاء. ومرة لما ذكر هيلتون ألس (كاتب أمريكي) اسم نيبول أمام والكوت، جف حلقه وبصق اشمئزازًا من عنصرية نايبول وإحساس الأخير بالعلو والتفوق الثقافي.

وإذا كان نيبول نجح ليكون الأول – فيما بينهما- في العثور على ناشر في لندن؛ فقد نجح والكوت في العثور على طريق الأكاديمية السويسرية والحصول على نوبل قبله. الشيء الآخر الذي بدد أي قُوى تجذب والكوت إلى بريطانيا، هو أنه أراد أن يرسم المشهد الكاريبي ولم يكن ليقدر على فعل ذلك من الخارج. أسباب أخرى اتضحت له فيما بعد؛ حقيقة أنه كان يكتب عن مكان لم يُكتَب عنه من قبل، وأنه نجح في خلق شيء مختلف وخاص. ورث والكوت تاريخًا ثقيلًا وصراعات معقدة ومريرة. حاصرته الكولونيالية، التي لم يهرب منها ولكنه فهمها وواجها، واللغة والعرق. لكنه وجد لنفسه مخرجًا عن طريق اللغة، وجد في الشعر سلاحه وعزاءه. وما نجح فيه والكوت هو أنه رغم صعوبة وثقل الموضوعات التي تناولها شعره – والشعر يبحث عن الخفة- إلا أنه نجح في أن يطير خارج سانت لوسيا، بينما بقيت قدماه متجذرتان في أرضها. آمن بنفسه وبذاكرته وبقدرته على التوغل فيما فات، ليواجهه وينقيه، ويحمل تلك الذاكرة معه دائمًا، ويضمن كونها حاضرة دومًا أمام عينه بكل مشهد فيها، لأنه إن نسي أي شيء؛ فإنه عندها ينسى نفسه ووطنه وهويته. الذاكرة هي ما يحفظ له هويته التي تخصه وحده. أراد والكوت أن يكتب عن شيء لم يكتب عنه من قبل. عن إثارة استكشاف شيء أو التنقيب عن شيء. ولكن هل نجح؟ نعم. نجح بنفسه التي كرهها ما حسبهم أصدقاء له، وبوطنه الذي تخلى عنه غيره.

لم تكن نوبل تكريمه الوحيد، بل يكمن التكريم الأكبر في استمرار حضوره الشعري وتأثيره الواسع. ولو أنه كان منشغلاً بغيابه وما قد يتلوه “إنني أتخيل غيابي” كما يقول في كتابه “الهبة” The Bounty، وأنه يشعر بنوع من الراحة لأن غيابه لن يكون فارقًا للطبيعة:”الظلال ستعود تمامًا في مايو كما ينبغي/ لكن مع التماس الهواء المغلق الذي سكنته” فقد كان رحيل جسده مجرد انضمام لقلب الأرض التي أحبها. لكن ظَلَّه وشعره لا زالا حاضران، وإن غابا فإنهما في عود دائم. فوالكوت؛ هو شاعر المكان والذاكرة. 

———————————-

«طائر البلشون الأبيض» يطلق جناحيه في الأفق: ديريك والكوت أدخل روح الأنتيل في أدب مستعمريها

 رديريك والكوت (1930-2017) شاعر الأنتيل ومؤلف إلياذتها المعاصرة التي استوحاها من ملحمة هوميروس المعروفة، وقد صورت بحسّه الدرامي حياة الجزر وثقافتها وتاريخها الحديث في تلك المنطقة من العالم، بما فيها جزيرة سانت لوسيا مسقط رأسه ومهوى إلهامه.

برزت موهبته الشعرية مبكّرًا منذ أن نشر قصائده الأولى في نهاية الأربعينيات، وقد استدان مئتي دولار من والدته الأرملة الشابة لنشرها بين دفتي كتاب، وكان عمره وقتذاك أربعة عشر عامًا. وقد لفت إليه جمهور الأدب مع صدور ديوانه «في ليل أخضر» (1962) ثم أطبقت شهرته الآفاق بعد نيله جائزة نوبل في الآداب عام 1992، عن مجموع أعماله الملحمية التي تضاهي نظيرتها عند الإغريق، بما في ذلك «أوميروس» تحديدًا. وكان ثاني كاتب زنجي ينال هذا التشريف بعد الشاعر النيجري وول سوينكا. وفي عام 2010 حصل على جائزة ت. س. إليوت عن ديوانه «طائر البلشون الأبيض»، الذي ترجمه غريب إسكندر مع مختارات أخرى إلى العربية تحت عنوان: هنا يكمن الفراغ» (دار التكوين- دمشق 2015). ولا يمكن لقراء الأدب المكتوب بالإنكليزية ألا يكونوا قد قرأوا لهذا الكاتب، إذ أصدر نحو عشرين ديوان شعر وثلاثين من أعماله المسرحية التي تثير كل منها بطريقتها الخاصة حياة جزر الكاريبي وثقافتها الغنية، حتى قال عنه الشاعر والروائي البريطاني روبرت غريفز: «يمتلك اللغة الإنكليزية أفضل من أي كاتب إنكليزي على قيد الحياة»، كما ذكّر النقاد بشعراء العصر الإليزابيثي. تيتم ديريك في سن مبكرة، واضطرّته أمه إلى أن يتعلم الخياطة قبل أن ترسله إلى المدرسة. وبما أنه كان يتحدث الإنكليزية، فقد فُصل عن الأغلبية الكاثوليكية والناطقة بالفرنسية، إلا أنه مع الوقت استطاع أن يتعلم لغات هذه الجزر، وكان لهذا الحادث المبكر تأثير في صميم عمله الشعري. تابع دراسته في جامايكا. ومن عام 1959 إلى عام 1976، أدار في ترينداد حلقة مسرح لعبت بعض قطعه المسرحية. وفي عام 1981، انتقل إلى الولايات المتحدة وعمل محاضرًا في جامعتي هارفارد وبوسطن. وفي عام 2009، سحب ترشيحه لمنصب أستاذ الشعر في جامعة أكسفورد بعد أن اتهم بالتحرش الجنسي.

أسلوب والكوت

بدأ والكوت تجريبيًّا، ثم سرعان ما توجه إلى استلهام الفلكلور الذي تضجّ به حياة جزر الأنتيل، فاستعمل لغة شعرية أكثر أصالة تمزج الإنكليزية بالتعابير الشعبية والرطانات المحلية مثل الكريول وتضم إليها الفرنسية واللاتينية. وفي شعره، نجد ثمة حاجة دائمة عند والكوت إلى التأليف بين التقليد الكلاسيكي الأوروبي، كالذي يعود إلى هوميروس وشكسبير وغيرهما، وبين الفلكلور الكاريبي. وهذا ما انعكس على أسلوبه الأدبي الذي بدا حديثًا وشديد التنوع ومستوحى من إبداعات كتاب عالميّين مثل إيميه سيزير وسان جون بيرس وبابلو نيرودا.

وهكذا توزعت ثقافة والكوت بين لغتين وعالمين، بقدر ما توتّرت كتاباته بين الشعر الغنائي الذي نثر فيها جماليات المكان الطبيعي وتفاصيل الحياة الغنية في هذه الجزر (طيور البلشون والكركي والنورس، أمواج البحر، الشطآن، الغابات، الطحالب، المستنقعات، الأحجار البيضاء، التلال الضبابية) وبين القصيدة المطولة التي تحاكم الحقبة الاستعمارية وتكشف عن تناقضاتها وما ترتب عليها من فقر وميز وعبودية، جنبًا إلى جنب المسرحية التي فتحها على مناطق أخرى مجهولة من هذا التاريخ البحري بحسه الساخر وبلاغة حواره الدرامي الذي يضم الاتساع والتكامل العضوي إلى الغنى المشهدي والتركيب المعماري، وأبطاله من عمَّال الموانئ والصيادين والمحاربين التائهين كما في ملحمته «كلب تيبولو» (2000)، التي تسرد البحث الروحي لبيسارو الذي يهجر جزيرته القدرية إلى باريس من أجل الرسم.

ويبني والكوت عمله دراميًّا بشكل يجمع فيه بين مصيرين لشخصين كل منهما يبحث طريقة التعبير عن طفولته المفتقدة، ثم هناك في المنفى يُشخّص كلاهما شوقه المرتجف لاحتضان العالم.

زنجيّ يحب البحر

ينتمي الأدب الذي كتبه والكوت، تحقيبيًّا، إلى ما يسمى بالحقبة ما بعد الاستعمارية. وإذا كانت هذه الحقبة قد شهدت مراجعات نقدية ورجحت فيها نبرة الإدانة وتجريم الآخر ومطالبته بالتعويض، إلا أن والكوت يستخلص منها مادة وحي حقيقية لتأملاته السمحة والصافية، ولرؤيته الشعرية التى تنتبه لجوهر الإنسان الذي تكتمل هويته في الآخر المختلف بلا غلّ وروح انتقامية:

«أنا مجرد زنجي أحمر يحبّ البحر،

تلقيت تعليماً كولونيالياً جيداً،

في باطني الهولندي والزنجي والإنكليزي،

إمّا أنا نكرة أو أمة».

ورغم أن شاعر «حياة أخرى» فتح عينيه على طبيعة مترامية الأطراف وتناهت إلى سمعه أصواتها وحركاتها اللانهائية، فقد آثر العزلة وسفر التأمُّلات الداخلية التي عرّفته على أشياء هي فيه منذ آلاف السنين، مازجًا في عمله الشعري بين أصداء من سيرته الذاتية وأسرار هذه الطبيعة على النحو الذي يقود المخيّلة إلى أن تستثير عالمًا من الإحساسات الكامنة:

«إنّها في غرفتها، تلاطف الأشياء القديمة،

قصائدي تقلب ألبومها. حتى لو قصف البرق

مثل تحطم أطباق في السماء،

لا تريد أن تخرج.

ألا تعرفين أنني أحبك لكنني عاجز

عن إيقاف المطر؟ لكنني أتعلم ببطء

كيف أحب الأيام الكئيبة، والتلال المتبخّرة،

والهواء المشبع بثرثرة البعوض،

وأن ارشف دواء المرارة.

لذا، حين تبزغين، يا أختي،

فاصلة خرز المطر،

بجبينك جبين الازهار، وبعينيك عيني الصفح والمغفرة،

لن يعود كل شيء كما كان، بل سيكون حقيقيا».

وفي آخر دواوينه: «طـــــــائر البلشون الأبيــــض» يكشـــف والكوت عن ولعه بالتجريب على نحو يكتشف روحه المتوثبة التي لا تؤمن بالجامد والمسكوك في حياة الأدب، والشعر بخاصة.

وربما لهذا السبب، لم يرغب والكــوت في أن يصبح شاعراً، بل بالأحرى صاحب «مختارات أدبية» ظل على الدوام يبحث عن الجملة الملائمة والكلمة المكتملة بين فجوات سيرته الذاتية: «لم أكتب ما أردت كتابته، وليس لديّ أي انطباع للوصول إلى نهاية الأشياء». إنها حياة تجدد نفسها مع الوقت، كلما تناهى إليه صوت أحدهم وهو يمشي في الجبل أو يأتي متسلّلًا من رحم البحر وتلاله الضبابية:

نصف أصدقائي ماتوا

سأخلق لك أصدقاء جددًا (قالت الأرض)

صحت: لا، أعيديهم إليّ

كما كانوا

جميعهم

وبكامل خطاياهم.

يمكنني الليلة سماع أصواتهم

تتسلل إليّ من خلال أمواج البحر

المتكسرة بين أعواد القصب.

فيما أمشي وحيداً

بين أوراق المحيط المضاءة بالقمر

أسفل الطريق الضبابي

ولا أستطيع التحليق

مثل بوم حالمة

تتحرر من ثقل الأرض.

آه، أيتها الأرض

أصدقائي الذين ابتلعتهم

أكثر من الذين سأحبّهم.

بيبليوغرافيا:

مما صدر له في الشعر: 25 قصيدة (1948)، مرثية للشاب سانتوس الثاني عشر (1949)، قصائد (1951)، في ليل أخضر: قصائد 1948-60 (1962)، قصائد مختارة (1964)، المنبوذ وقصائد أخرى (1965)، الخليج وقصائد أخرى (1969)، حياة أخرى (1973)، أعناب البحر (1976)، مملكة التفاح النجمي (1979)، «قارئة الحظ» (1981)، منتصف الصيف (1984)، نور العالم (1987)، أوميروس (1990)، كلب تيبولو (2000)، «طائر البلشون الأبيض» (2010). وفي المسرح: هنري كريستوف (1950)، حلم على جبل القرد (1970)، تي- جان وإخوته (1970)، تمثيل إيمائي (1980)، الأوديسا (1993).

«طائر البلشون الأبيض» يطلق جناحيه في الأفق: ديريك والكوت أدخل روح الأنتيل في أدب مستعمريها

—————————————–

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى