سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 31 كانون الثاني 2025
حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
————————————–
«مبادئ أساسية من شأنها أن تحصِّن سورية الجديدة»: بيان صادر عن مجموعة من الفاعلين والفاعلات في الشأن السوري العام
الجمهورية.نت
31-01-2025
بعد أكثر من خمسة عقودٍ من الطغيان والقمع الوحشيّ والفساد، سقط النظام الأسديّ مُخلّفاً تركةً ثقيلةً من الدمار الماديّ والمعنويّ، ومن الفقر الشديد والتهميش اللذين تُعاني منهما قطّاعات واسعة من الشعب السوريّ، ومن التدنّي المُريع للخدمات العامّة، ومن تفاقم العصبيّات الإثنيّة والطائفيّة التي عمل النظام البائد على تأجيجها، ومن الفراغ السياسيّ بسبب حرمان جيلين أو ثلاثة من الخوض بحرّيّة في القضايا العامّة.
يضع هذا كلّه بلادنا في عهدها الجديد أمام تحدّياتٍ كبرى لإعادة بنائها سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً ونفسيّاً وضمان حمايتها في المستقبل من الاستبداد ومن أيّ نزعةٍ من أيّ جهةٍ كانت للاستئثار بالسلطة على هواها.
وإيماناً منا بأن شعبنا مدعوٌ اليوم إلى المشاركة في صناعة حاضره ومستقبله فإننا، نحن الموقّعين أدناه، نشدّد في هذا البيان على مجموعة من المبادئ الأساسية التي من شأنها أن تحصِّن سورية الجديدة، وتشكّل إطاراً ناظماً للمرحلة الانتقاليّة، وتُسهم في إقامة النظام السياسيّ الذي ثار من أجله الشعب السوريّ تحت شعار الحرّيّة والكرامة واستُشهد مئات الألوف من أبنائه وبناته.
1- نؤكّد أوّلاً أنّ جميع المواطنين والمواطنات، على اختلاف أصولهم القوميّة والطائفيّة، متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات وفي الكرامة والمنزلة الاجتماعية.
2- ندعو إلى إطلاق الحريّات العامّة الأساسيّة، وأهمّها حريّة التجمّع والاحتجاج والتعبير والمعتقد، وهي تشمل الحريّات السياسيّة بما فيها الحقّ في تأسيس الأحزاب والصحف والمنصّات والمنتديات، وكذلك الحريّات الاجتماعيّة بما فيها الحقّ في إنشاء النقابات والجمعيّات المستقلّة عن أجهزة الدولة. وليس للدولة في هذا السياق أن تتدخّل سلباً أو إيجاباً فيما اعتاده الناس في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وسائر شؤون حياتهم اليوميّة.
3- نلحّ على ضرورة الالتزام من دون تحفظ بالمعاهدات والمواثيق الدولية الضامنة لحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك تلك التي تكفل التقيّد بالقانون الدوليّ الإنسانيّ وملاحقة المتورّطين في خرقه.
4- نطالب سنَّ القوانين الناظمة للعدالة الانتقاليّة من قبل هيئات دستوريّة منتخبة، لمحاسبة المتّهمين في جرائم حربٍ وجرائم ضدّ الإنسانيّة، وفق إجراءات عادلة غير انتقاميّة تشمل كلّ من تورّط فيها أيّاً كان انتماؤه، وتكفل إنصاف الضحايا وحقوق الدفاع وقرينة البراءة، إضافةً إلى غيرها من التدابير الهادفة إلى الكشف عن مصير المغيّبين، وحفظ الوثائق، ومنع العبث بالمقابر الجماعية، وتمكين السوريّين من معرفة الحقيقة لأنّها السبيل الوحيد إلى الصفح والمصالحة الوطنيّة.
5- نصرّ على وحدة الأراضي السورية بحدودها المعترف بها دوليّاً، وعلى استقلالها وسيادتها على جميع مواردها.
6- لا بدّ في سورية الجديدة التي نتطلّع إليها من حلّ عادلٍ للمسألة الكرديّة يُلبّي مطالب مواطنينا الكرد الثقافيّة واللغويّة والسياسيّة المشروعة، وذلك في إطار ٍمتوافقٍ عليه من اللامركزيّة الإداريّة.
7- ندعو أخيراً إلى بناء الجيش وأجهزة الأمن على أساسٍ وطنيّ جامع بحيث يشمل وتشمل مكوّنات الشعب السوري بلا تمييزٍ بينها، وإلى حصر حمل السلاح بيد مؤسّسات الدولة المعنيّة بحماية حدود الوطن وأمن المواطنين، وإلى منع الأجهزة الأمنيّة منعاً باتّاً من التعسّف في ممارسة عملها، خصوصاً الاعتقال من غير سندٍ قانونيّ وتعذيب المعتقلين جسديّاً أو نفسيّاً.
لقد انتهى عهد الاستبداد، ولن يقبل السوريّون تكرار ما عانوا منه طويلاً، وعلى قواهم الحيّة في الوطن والشتات، أن تتكاتف وتُعبّر عن إرادتها بصراحةٍ ومسؤوليّة حتّى تتمكّن سورية من عبور المرحلة الانتقالية بسلام وأمان وإخاءٍ وثقة، إلى حين انتخاب جمعيّة تأسيسيّة وفقاً لقانونٍ انتخابيّ عادل، ثمّ إقرار دستورٍ جديد يكفل لجميع المواطنات والمواطنين حرّيّتهم وكرامتهم.
الموقّعون: (يمكن للراغبين والراغبات بالتوقيع على هذا البيان الضغط على الرابط)
الموقعين
أحمد حسو: صحفي
أسامة محمّد: مخرج سينمائي
أصلان عبد الكريم: سياسي
بكر صدقي: كاتب ومترجم
جهاد يازجي: اقتصادي
الدكتور جمال شحيّد: باحث واستاذ جامعي
جمانة سيف: حقوقية
حسام جزماتي: صحافي وباحث
ديمة ونوس: روائية
راتب شعبو: كاتب
ربيعة البرازي: ناشطة وعضوة حركة عائلات من أجل الحرية
الدكتور توفيق شماع – أحد مؤسسي منظمة الأطباء السوريين (UOSSM)
رشا عمران: شاعرة
رشا عباس: كاتبة
رلى الركبي: ناشطة سياسية
روزا ياسين حسن: روائية
ريم الغزي: مخرجة سينمائية
الدكتورة زينة العظمة: باحثة واستاذة جامعية
الدكتور سامر جبور: طبيب واستاذ جامعي
الدكتور ساري حنفي: أستاذ جامعي فلسطيني سوري
سراب جمال الأتاسي: باحثة
سمر يزبك: روائية
سميح شقير: موسيقي وشاعر
سليمان الشمر: سياسي وباحث
سليم بركات: روائي وشاعر
صبحي حديدي: كاتب وناقد ادبي
الدكتور عبد الحي السيد: حقوقي واستاذ جامعي
الدكتور عديّ الزعبي: قاص
عزة أبو ربعية: فنانة تشكيلية
عمر قدور: كاتب
الدكتور غسان المالح: استاذ المسرح ومؤسس المعهد العالي للفنون المسرحية
غياث عيون السود: سياسي
فاروق مردم بك: كاتب وناشر
فادي يازجي: فنان تشكيلي
فارس الحلو: ممثل
فرج بيرقدار: شاعر
فوّاز حدّاد: روائي
الدكتور فؤاد محمد فؤاد: طبيب واستاذ جامعي وشاعر
كرم نشار: كاتب ورئيس تحرير موقع الجمهورية
كنان العظمة: مؤلف موسيقي
لينا سنجاب: صحافية ومخرجة أفلام وثائقية
ماجد كيالي: كاتب فلسطيني سوري
الشيخ محمد أمين الشيخ عبدي: سياسي
محمد علي الأتاسي: كاتب ومخرج أفلام وثائقية
محمّد العطّار: كاتب ومسرحي
مرسيل شحوارو: كاتبة
مصطفى خليفة: روائي
الدكتور ناصر رباط: أستاذ في معهد MIT
الدكتور نائل جرجس: حقوقي واستاذ جامعي
نبيل سليمان: روائي
نبيه نبهان: ناشط مدني
الدكتور نبراس شحيّد: باحث في الفلسفة وأستاذ جامعي
نعمى عمران: مؤلفة موسيقية ومغنية اوبرا
نجوان عيسى (صادق عبد الرحمن): كاتب
الدكتورة نسرين الزهر: كاتبة وأستاذة جامعية
نوري الجراح: شاعر
هالة العبد الله: مخرجة سينمائية
هالة قضماني: صحافية
الدكتور هاني السيد: حقوقي وأستاذ جامعي
وجدان ناصيف: كاتبة
وعد الخطيب: صانعة أفلام
الدكتور ياسر منيف – استاذ جامعي
ياسين الحاج صالح: كاتب
ياسين سويحة: كاتب وصحافي
يوسف عبدلكي: فنان تشكيلي
حسين الشيخ: شاعر وصحافي
After more than five decades of tyranny, repression, and corruption, the Assad regime has fallen. It left behind a heavy legacy of physical and moral destruction, extreme poverty and marginalization of large segments of the Syrian people, an alarming decline in public services, the exacerbation of ethnic and sectarian tensions that the former regime fostered, and a political vacuum after generations were denied the right to freely engage in public affairs. All of this confronts our country in its new epoch with major challenges—to rebuild politically, economically, socially, culturally, and psychologically, and to safeguard its future from tyranny and any tendency by any party to monopolize power at its own whim.
Believing that our people are called upon today to shape their present and future, we, the undersigned, affirm in this statement a set of foundational principles to fortify the new Syria, provide a framework for the transitional period, and help establish the political order for which the Syrian people rose up under the banner of freedom and dignity—an order for which hundreds of thousands of our sons and daughters gave their lives.
1. We affirm that all citizens, both men and women, regardless of their national or sectarian origins, are equal before the law in rights, duties, dignity, and social status.
2. We call for the restoration of fundamental public freedoms, foremost among them the freedoms of assembly, protest, expression, and belief. This includes political freedoms—the right to establish political parties, newspapers, platforms, and forums—as well as social freedoms, including the right to form unions and associations independent of state control. In this context, the state must neither impose nor interfere in people’s customs regarding food, drink, clothing, or other aspects of daily life.
3. We stress the imperative of complying without reservation with international treaties and covenants that guarantee civil, political, social, and economic human rights, as well as ensuring compliance with international humanitarian law and the prosecution of those who violate it.
4. We call for the enactment of laws regulating transitional justice by elected constitutional bodies to hold accountable those accused of war crimes and crimes against humanity through fair and non-vindictive procedures. These measures should apply to all perpetrators, regardless of their affiliation, and ensure justice for victims, the rights of the defense, and the presumption of innocence. Additionally, they should include efforts to uncover the fate of the disappeared, preserve records, prevent tampering with mass graves, and enable Syrians to know the truth, as it is the only path to forgiveness and national reconciliation
5. We affirm Syria’s territorial integrity within its internationally recognized borders, as well as its independence and sovereignty over all its resources.
6. In the new Syria we aspire to, a just resolution to the Kurdish question must uphold the legitimate cultural, linguistic, and political rights of our Kurdish citizens within a mutually agreed framework of administrative decentralization.
7. Finally, we call for rebuilding the army and security services on an inclusive civic basis that represents all constituents of the Syrian people without discrimination. The possession of weapons must be strictly limited to state institutions responsible for protecting the country’s borders and ensuring citizens’ security. Furthermore, security services must be strictly prohibited from abusing their authority, particularly engaging in unlawful detention or subjecting detainees to physical or psychological torture.
The era of tyranny is over, and Syrians will not accept a return to the suffering they endured for so long. Their living forces, both at home and in the diaspora, must unite and express their will openly and responsibly so that Syria can navigate the transitional period in peace, security, fraternity, and trust, until the election of a constituent assembly under a fair electoral law and the adoption of a new constitution that guarantees freedom and dignity for all citizens, men and women alike.
First Signatories
Abdulhay Sayed – Jurist and University Professor
Ahmed Hassou – Journalist
Aslan Abdul Karim – Politician
Azza Abo Rebieh – Visual Artist
Baker Sidqi – Writer and Translator
Dima Wannous – Novelist
Faraj Bayrakdar – Poet
Fawaz Haddad – Novelist
Fares Helou – Actor
Fadi Yazigi – Visual Artist
Farouk Mardam Bey – Writer and Publisher
Fouad Mohamed Fouad – Physician, University Professor and Poet
Ghassan Al-Maleh – Theatre Professor and Founder of the Higher Institute of Theatrical Arts
Ghiath Ouyoun Al-Soud – Politician
Hani Sayed – Jurist and University Professor
Hala Al-Abdallah – Filmmaker
Hala Kodmani – Journalist
Houssam Jazmati – Journalist and Researcher
Jamal Chehayed – Researcher and University Professor
Joumana Seif – Human Rights Advocate
Jihad Yazigi – Economist
Karam Nashar – Writer and Editor-in-Chief of Al-Jumhuriya Net
Kinan Azmeh – Composer
Lina Sinjab – Journalist and Documentary Filmmaker
Mohamed Al-Amin Sheikh Abdi – Politician
Mohammad Ali Atassi – Writer and Documentary Filmmaker
Mohammad Al-Attar – Writer and Playwright
Nibras Chehayed – Researcher in Philosophy and University Professor
Nael Georges – Human Rights Advocate and University Professor
Marcel Shehwaro – Writer
Majed Kayali – Palestinian-Syrian Writer
Moustafa Khalifa – Novelist
Nabil Suleiman – Novelist
Nisrine Al Zahre – Writer and University Professor
Nouri Al-Jarrah – Poet
Najwan Issa (Sadiq Abdel Rahman) – Writer
Nabih Nabhan – Civil Activist
Nasser Rabbat – Professor of Islamic Architecture
Noma Omran – Opera Singer and Composer
Omar Kaddour – Writer
Odai Al-Zoubi – Short Story Writer
Osama Mohammed – Filmmaker
Rasha Omran – Poet
Rasha Abbas – Writer
Rabiha Al-Barazi – Activist and Member of the Families for Freedom Movement
Rosa Yassin Hassan – Novelist
Rola Al Rukabi – Political Activist
Rateb Shabo – Writer
Reem Al-Ghazzi – Filmmaker
Samar Yazbek – Novelist
Sari Hanafi – Palestinian-Syrian University Professor
Sarab Jamal Atassi – Researcher
Salim Barakat – Novelist and Poet
Samer Jabbour – Physician and University Professor
Samih Choukeir – Musician and Poet
Subhi Hadidi – Writer and Literary Critic
Suleiman Al-Shammar – Politician and Researcher
Tawfic Chamaa – Physician and Co-Founder of the Union of Syrian Medical Relief Organizations (UOSSM)
Wajdan Nassif – Writer
Waad Al-Kateab – Filmmaker
Yassin Swehat – Writer and Journalist
Yassin Al-Haj Saleh – Writer
Yasser Munif – University Professor
Youssef Abdelke – Visual Artist
Zeina Azmeh – Researcher and Teaching Assistant
———————————————-
قرارات القيادة السورية… أسئلة الشرعية والمرجعية والانتقال والغد الغامض/ محمد أمين
31 يناير 2025
بعد مرور أكثر من شهر ونصف الشهر على إسقاط نظام بشار الأسد في سورية، في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، واستلام إدارة جديدة زمام السلطة بحكم الأمر الواقع، وتعيين زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع قائداً لهذه الإدارة، شهدت سورية مساء أول من أمس الأربعاء، تحولاً سياسياً ترجمه إصدار الإدارة الجديدة سلسلة قرارات أنهت رسمياً رموز الحكم الاستبدادي لآل الأسد، قانونياً ودستورياً وعسكرياً وأمنياً وحزبياً. غير أن هذه القرارات، طرحت في المقابل تساؤلات كبيرة، في ظل غموض مدة الفترة الانتقالية وبديل الدستور الذي تمّ إنهاء العمل به، إضافة إلى قرار تعيين الشرع رئيساً من دون انتخابات ومع حلّ المجلس التشريعي (مجلس الشعب أو البرلمان السوري)، لتبقى الضبابية تلف المشهد المستقبلي في البلاد.
قرارات أحادية تثير المخاوف
وفي اجتماع عقد مساء الأربعاء في العاصمة دمشق لأغلب الفصائل العسكرية والثورية السورية، تقرر تكليف أحمد الشرع رئيساً للبلاد خلال المرحلة الانتقالية. كما قرّر المجتمعون حلّ مجلس الشعب، وتفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت يتولى مهامه حتى إقرار دستور دائم للبلاد. كما تقرر إنهاء العمل بدستور 2012، وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية والمليشيات التي كانت من أدوات القمع لدى النظام المخلوع، وطيّ صفحة حزب البعث وأحزاب ما كان يُعرف بـ”الجبهة الوطنية التقدمية”، التي كانت تدور في فلكه، بعد طغيان على الحياة السياسية السورية استمر ستة عقود. كما نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) عن المتحدث باسم الإدارة العسكرية العقيد حسن عبد الغني قوله إن المجتمعين قرروا حلّ “جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة”.
وفي كلمة له وُصفت بـ”خطاب النصر”، قال الشرع إن “أولويات سورية اليوم هي أولاً ملء فراغ السلطة بشكل شرعي وقانوني”، داعياً إلى الحفاظ “على السلم الأهلي من خلال السعي إلى تحقيق العدالة الانتقالية ومنع مظاهر الانتقام وبناء مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسات العسكرية والأمنية والشرطية”.
وفي محاولة لتقديم تطمينات، قال الشرع، في خطاب مساء أمس الخميس: “سنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة، تعبّر عن تنوع سورية برجالها ونسائها وشبابها، وتتولى العمل على بناء مؤسسات سورية الجديدة حتى نصل إلى مرحلة انتخابات حرة نزيهة”. وأضاف: “استناداً لتفويضي بمهامي الحالية وقرار حل مجلس الشعب، فإنني سأعلن عن لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغر يملأ هذا الفراغ في المرحلة الانتقالية، وسنعلن في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، والذي سيكون منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول برنامجنا السياسي القادم”. وأعلن أنه “بعد إتمام هذه الخطوات، سنعلن عن الإعلان الدستوري ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية”. لكن الشرع لم يقدّم موعداً محدداً لهذه التعهدات.
إعلان هذه القرارات بشكل أحادي من قبل الإدارة الجديدة وتخطي مؤتمر الحوار الوطني الذي كان يُفترض عقده لبتّ هذه المواضيع المهمة، أثار مخاوف من تداعياتها، خصوصاً لجهة وضع السلطات في يد شخص واحد، ووسط قلق من “انقلاب” جديد، ولا سيما أن تنصيب الشرع رئيساً لم يكن من طرف مؤتمر وطني يضم كل القوى السياسية والمجتمعية والدينية، بل جاء من قبل قادة فصائل عسكرية ومليشيات ليست محل إجماع وطني.
كذلك فإن القرارات الجديدة لم تحدد مدة المرحلة الانتقالية في البلاد، والضوابط القانونية والسياسية الواضحة التي ستحكم عمل الدولة خلال هذه المرحلة، وهو ما خلق مخاوف من استمرارها لوقت أطول من المتوقع. كذلك فإن تفويض “رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ”، يثير مخاوف من أن تصبح كل السلطات في يد الشرع. كما أن هذه القرارات لم تجد صدى طيباً لدى أقليات مذهبية ودينية في البلاد تتوجس من فرض سلطة ذات طابع إسلامي خارج إطار الدستور الذي يحتاج إلى سنوات ليرى النور وتجرى على أساسه انتخابات.
سورية بانتظار المؤتمر الجامع
وكان السوريون ينتظرون صدور هذه القرارات من مؤتمر وطني جامع، إلا أن الإدارة الجديدة قرّرت اتخاذها بشكل منفرد بمبرر تدارك الفراغ السياسي الذي تركه نظام الأسد المخلوع، وتمكين الإدارة الجديدة من تمثيل السوريين بشكل رسمي. ولم تضع الإدارة الجديدة يدها بعد على كامل البلاد، حيث لا يزال الشمال الشرقي تسيطر عليه “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي تقول إنها تتفاوض مع هذه الإدارة، ما يعني أن القرارات لم تشمل كامل جغرافية البلاد.
في المقابل، أعلنت العديد من القوى السورية الترحيب بهذه القرارات، حيث بارك هادي البحرة، رئيس الائتلاف الوطني السوري، نيل الشرع “ثقة قادة الفصائل واختياره رئيساً للجمهورية العربية السورية في المرحلة الانتقالية”، داعياً إلى بناء “الدولة السورية الجديدة، دولة المواطنة المتساوية”.
وحضر الاجتماع الذي تمّ الإعلان فيه عن القرارات، أغلب الفصائل السورية العسكرية التي شاركت في عملية “ردع العدوان” التي بدأت في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني وانتهت في الثامن من ديسمبر بدخول دمشق وإسقاط نظام الأسد. ومن المتوقع أن تمتد المرحلة الانتقالية لنحو أريع سنوات، حيث سبق للشرع أن قال في تصريحات صحافية إن كتابة دستور للبلاد والقيام بعملية إحصاء كاملة للسكان تسبق إجراء انتخابات سوف تستغرق سنوات عدة. ومن المتوقع تشكيل لجنة من اختصاصيين قانونيين خلال الأيام المقبلة لصياغة إعلان دستوري لتلافي الفراغ التي تركه إنهاء العمل بدستور عام 2012 الذي وضعه الأسد والذي كان مرفوضاً من قبل القطاع الأوسع من السوريين، لأنه كرّس حكم الفرد وكان غطاء للجرائم والمجازر التي ارتكبت بحق السوريين.
وحملت القرارات الجديدة جوانب إيجابية من المتوقع أن تنعكس على حياة السوريين، خصوصاً لجهة وضع حد للحالة الفصائلية التي تتحكم بالمشهد العسكري السوري والتي كان يخشى السوريون من أن تكون بمثابة فخاخ في الطريق للوصول إلى جيش سوري وطني جامع. كما يعد حل الأجهزة الأمنية التي كانت كابوساً في حياة السوريين لمدة أكثر من 50 عاماً، من القرارات التي قُوبلت بترحيب كبير من قبل كل السوريين، فضلاً عن حلّ جيش النظام المخلوع والذي كان له دور أسود في قمعهم، خصوصاً خلال سنوات ثورتهم التي امتدت من عام 2011 إلى أواخر عام 2024.
ورأى الباحث السياسي مؤيد غزلان، في حديث مع “العربي الجديد”، أن القرارات التي صدرت مساء الأربعاء، هي “تثبيت الشرعية للمرحلة الحالية في البلاد، مستندة إلى التأييد الشعبي بعد مرحلة التفاعل الميداني مع الشعب منذ الثامن من ديسمبر الماضي”. وأشار إلى أنها جاءت “بعد الاستقراء الميداني للشرعية الثورية والدعم الكامل من جميع قوى الثورة العسكرية”، مضيفاً أن “القرارات تحاكي تماماً إعلاناً دستورياً مؤقتاً يملأ الفراغ الدستوري ويعطي شرعية للرئيس الشرع للمضي في الإعلان الدستوري المؤقت ومأسسة المجلس التشريعي المقبل”. وأعرب غزلان عن اعتقاده بأن القبول العربي والدولي للإدارة السورية الجديدة بعد إسقاط نظام الأسد “كان من محفزات البنود المعلنة في خطاب النصر مساء الأربعاء”، مضيفاً أن “توالي الزيارات العربية ودعوة مجلس التعاون الخليجي لسورية والزيارات المستمرة من الاتحاد الأوروبي وقادته أعطت أيضاً أرضية قبول صلبة للانطلاق نحو ترسيم المرحلة الانتقالية”.
ورأى غزلان أن “حلّ مجلس الشعب وحزب البعث والجيش، كان محصلات متوقعة وبديهية تتطلبها المرحلة الحالية في سورية”، لافتاً إلى أن “الخطوة الأهم كانت ملء الفراغ الرئاسي وإعطاءه الصلاحيات التمثيلية لسورية والتنفيذية لتأسيس مجلس التشريع واللجان المختصة بالدستور وغيره”. وتابع: “هذا الاجتماع الذي كان يحتوي النواة الصلبة للواقع السياسي والعسكري الذي يستمد شرعيته من الشرعية الثورية أولاً ومن الشعبية ثانياً”، مضيفاً أن “مشاركة المؤسسات العسكرية في اجتماع النصر ما هي إلا خطوة كان معظم الوسط السياسي يتمنى أن تنعقد في أسرع وقت ممكن لتثبيت ركائز المرحلة الانتقالية والانطلاق نحو مرحلة البناء التشريعي والدستوري والتنفيذي”. ورأى أن القرارات “ستعطي استقراراً محورياً للمرحلة الانتقالية”، مضيفاً: “لاحظنا بوادر القبول الشعبي في الشارع السوري وبين أطياف النخب السياسية السورية، وهذا أمر مبشر”.
من جهته، رأى الباحث السياسي عرابي عرابي، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “بحكم الشرعية الثورية تم تسليم أحمد الشرع السلطات الثلاث في سورية (التشريعية والقضائية والتنفيذية)”، موضحاً أن “كل ما سيصدر من قرارات سيكون بناء على هذه الخطوة”. وأشار إلى أن “عموم الشعب رحّب بهذه القرارات، لكن بعض المثقفين والمعارضين للإدارة لهم ملاحظات كثيرة عليها”. واعتبر أن المشكلة في سورية تكمن في أنه ليست ثمة قدرة وأرضية لإجراء انتخابات وتشكيل مجلس تشريعي، ما يجعل ما جرى خطوة واقعية يمكن البناء عليها، وليس انتقادها فقط.
العربي الجديد
—————————-
غموض حول الدستور السوري في المرحلة الانتقالية/ عماد كركص
31 يناير 2025
مع دخول سورية، الأربعاء الماضي، مرحلة جديدة مع الإعلان عن تعيين أحمد الشرع رئيساً لسورية في المرحلة الانتقالية، برز أيضاً، خلال مؤتمر النصر الذي احتضنه قصر الشعب في العاصمة دمشق، إلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية، لكن من دون إصدار إعلان دستوري، والإعلان عن العمل بأي وثيقة دستورية سابقة. واكتفى المتحدث باسم إدارة العمليات العسكرية، الذي تلا ما سمي بيان النصر، بالإشارة إلى تفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية يتولى مهامه إلى حين إقرار الدستور السوري الدائم ودخوله حيز التنفيذ.
وفي محاولة لتقديم تطمينات، قال الرئيس السوري أحمد الشرع، في خطاب مساء أمس الخميس: “سنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة، تعبّر عن تنوع سورية برجالها ونسائها وشبابها، وتتولى العمل على بناء مؤسسات سورية الجديدة حتى نصل إلى مرحلة انتخابات حرة نزيهة”. وأضاف: “استناداً لتفويضي بمهامي الحالية وقرار حل مجلس الشعب، فإنني سأعلن عن لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغر يملأ هذا الفراغ في المرحلة الانتقالية، وسنعلن في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، والذي سيكون منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول برنامجنا السياسي القادم”. وأعلن أنه “بعد إتمام هذه الخطوات، سنعلن عن الإعلان الدستوري ليكون المرجع القانوني للمرحلة الانتقالية”. ولكن الشرع لم يقدّم مواعيد لهذه الاستحقاقات.
وفي حين أعلنت الإدارة الجديدة، أو على الأقل الحكومة التي عينتها برئاسة محمد البشير في السابق، أنها ستسيّر أمور البلاد لثلاثة أشهر تنتهي في الأول من مارس/آذار المقبل، تضاربت المعلومات، الأربعاء الماضي، حول إعلان قيادة العمليات العسكرية عن تمديد المرحلة الانتقالية ثلاثة أشهر إضافية، من دون تأكيدات واضحة في هذا الشأن. في هذا الإطار، رأى سياسيون أن الحكومة لا تدرك أهمية التعاطي مع الوقت الكافي لتمرير المرحلة الانتقالية في البلاد، قياساً مع طبيعة الاستحقاقات السياسية والأمنية التي تتخللها، لا سيما عقد “مؤتمر حوار وطني شامل”، ينتج منه دستور جديد، أو هيئة لصياغة الدستور السوري سواء كانت هذه الهيئة منتخبة أو مختارة، وبالتالي، فإن الوقت يجب أن يكون كافياً لتمرير هذه الاستحقاقات بكفاءة.
وكانت التسريبات تشير إلى عزم الإدارة الجديدة إجراء مؤتمر وطني يضم نحو 1200 شخصية من جميع مكونات وأطياف المجتمع السوري، تنبثق عنه لجنة قانونية تقوم بحل البرلمان وحل الدستور السوري ويشكل لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد وقانون انتخابات، يجري وفقه انتخابات تشريعية ورئاسية تنتقل وفقها البلاد إلى حكومة نظامية. ثم أجّلت المؤتمر “حتى يتسنى تشكيل لجنة تحضيرية موسعة للمؤتمر تستوعب التمثيل الشامل لسورية من كافة الشرائح والمحافظات”، على أن تكون هذه اللجنة التحضيرية “حجر أساس في إنشاء الهوية السياسية لسورية المستقبل”، بحسب تصريحات سابقة لوزير الخارجية في الإدارة أسعد الشيباني.
رفض الدستور السوري الحالي
يبدو أن هناك اتفاقاً بين الإدارة الجديدة وجميع المكونات السياسية والاجتماعية السورية، على رفض التعامل بالدستور الحالي (دستور 2012)، الذي كان بشار الأسد أقره، وفيه ما يثبت أركان حكمه، فلم تأت الإدارة أو أي من المكونات السياسية في البلاد. ورغم ذلك لم تكن المطالبات حاضرة بملء “الفراغ الدستوري” سواء بوثيقة دستورية، أو دستور قديم للبلاد لتمرير الفترة الانتقالية، إلا ما ندر، ودون الإشارة إلى أهمية ذلك في المرحلة الحالية. وضمن ذلك، كان المعارض والمفكر السوري برهان غليون أشار، في لقاء ضمن بودكاست “هامش جاد” على التلفزيون العربي، إلى أنه كان يفضل أن تتبنى الإدارة الجديدة دستور 1950، لكونه دستوراً شرعياً، بعد تنقيحه من قبل لجنة دستورية منتخبة، والعمل به خلال الفترة الانتقالية، لافتاً إلى أن مؤتمر الحوار الوطني فكرة سابقة لأوانها، ويجب عدم عقده قبل عامين، حتى تنضج الأفكار من خلال الحوارات بين مكونات الشعب عبر المنتديات والندوات.
مسودات اللجنة الدستورية
أكدت المحامية ميادة سفر، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن كل القرارات والتعيينات التي تصدر عن الإدارة الجديدة ليس لها أي سند قانوني، موضحة أنه كان يجب على هذه الإدارة إصدار إعلان دستوري يشكل مرجعية قانونية ودستورية لتلك القرارات. واعتبرت أنه في الوقت الحالي هناك تعطيل غير معلن للدستور، وقرارات تصدر بشكل يخالف دستور عام 2012، دون سند قانوني أو دستوري تستند إليه تلك القرارات، سواء فيما يخص تسريح بعض العمال المعينين وفق قانون العاملين الأساسي، أو قرارات تتعلق بشكل الدولة والاقتصاد التي يجب أن تستند إلى الدستور أو حتى إحداث وظائف ليس لها وجود أصلاً ضمن الدستور السوري أو القوانين. وأضافت سفر: حتى القرارات التي تصدر في المرحلة التي يتم فيها إعلان دستوري، أو تصدر في المرحلة الانتقالية، لا تأخذ الصفة الشرعية ما لم يتم المصادقة عليها من مجلس شعب منتخب.
وفي حين كان الدستور السوري أهم مفاصل التفاوض مع نظام الأسد برعاية الأمم المتحدة، بما هو أحد مخرجات القرار الأممي 2254 للعام 2015، فإن النظام عرقل بداية انعقاد لجنة صياغة الدستور السوري حتى 2019، أي بعد أربعة أعوام من صدور القرار الأممي، ثم عرقل في أربعة أعوام أخرى عمل واجتماعات اللجنة في جنيف، ولم ينتج من اللجنة صياغة مادة واحدة في الدستور الذي كان مفترضاً للبلاد.
وأشارت ديما موسى، العضو في اللجنة المصغرة لصياغة الدستور السوري (كانت عضوة في هيئة التفاوض التي تمثل المعارضة)، رداً على سؤال لـ”العربي الجديد”، فيما إذا كانوا في اللجنة توصلوا إلى مسودات أو أوراق يمكن مشاركتها مع من سيخولون كتابة الدستور السوري الجديد، إلى أنه “خلال السنوات الماضية، وبالأخص بعد إطلاق اللجنة الدستورية، عملنا ضمن هيئة التفاوض ووفدها في اللجنة الدستورية على الكثير من الملفات المرتبطة بالدستور، وكذلك قانون الانتخابات، وأنجزنا الكثير من العمل والأوراق التي ستكون مفيدة لأي لجنة تعمل على الدستور السوري القادم. وبالتأكيد هذه الأوراق هي ملك الشعب السوري، وستتم مشاركتها للاستفادة منها في عملية كتابة الدستور والمنظومة القانونية ذات الصلة”.
وحول ما إذا كان عمل اللجنة ينحصر في صياغة دستور جديد، أو تعديل دستور 2012، قالت موسى: “عملنا في إطار اللجنة الدستورية كان في إطار صياغة دستور جديد للبلاد، بالاستفادة من جميع دساتير سورية، منذ أول دستور في 1920 وحتى الحالي (2012)، وعملنا كذلك على دراسة التجارب الدستورية لعدد من الدول التي خاضت تجربة مشابهة في العمل على دستور بعد خروج البلاد من نزاع، وبالأخص فيما يتعلق بالأحكام الانتقالية والأمور ذات الصلة، مثل العدالة الانتقالية ومعالجة كل ما هو مرتبط بانتهاكات حقوق الإنسان مثل موضوع المفقودين والمهجرين”.
ولفتت موسى إلى أنه “منذ 2011، عملت الكثير من الجهات السياسية والمدنية السورية على ملفات مهمة مرتبطة بالدستور والحقوق والواجبات التي يجب أن ينص عليها الدستور، وقامت بمشاورات مع شريحة واسعة ومتنوعة من الشعب السوري لمعرفة تطلعاته حول سورية المستقبل. ويجب الاستفادة من كل الجهود والخبرات التي اكتسبها السوريون، وبالتأكيد هناك أشخاص ممن كانوا في اللجنة الدستورية سيكون وجودهم قيمة مضافة للهيئة التي سيتم تكليفها بصياغة مسودة الدستور السوري الجديد”.
مشكلات دستور 2012
كان دستور 2012، الذي اعتمد النظام الرئاسي المطلق، قد أعطى سلطات واسعة لرئيس الجمهورية، الذي ركز بيده السلطات الثلاث دون الفصل بينها على أي مستوى. واعتمد الدستور السوري أيضاً المركزية الكاملة شكلاً لإدارة الدولة، ما يُشعر بعض المناطق في الأطراف، أو تلك البعيدة عن المركز، بالغبن أو التهميش. كما أنه أتاح للرئيس سن القوانين وإصدار المراسيم دون الرجوع، أو برجوع شكلي، للبرلمان لتمريرها. وعلاوة على ذلك، استطاع الرئيس وجهاز الحكم القفز فوق كل مواد الدستور، مستنداً في ذلك إلى رئاسة رئيس الجمهورية لمجلس القضاء الأعلى، ما يشكل انتهاكاً دستورياً صارخاً.
كما أن دستور 2012 تضمن مواد تتعارض مع مبدأ “سمو الدستور”، لا سيما فيما يخص المواد المتعلقة بالتعبير عن الرأي وتشكيل الأحزاب والانتخابات وحق التظاهر والملكية الخاصة والعامة، حيث يتيح الدستور السوري كل هذه الحقوق، لكن وفق قوانين يجب أن تمر عبر المشرع العادي، ما يمكن أن يفرغ تلك الحقوق من قوتها الدستورية.
وستتجه الأنظار إلى أي لجنة أو هيئة مكلفة بصياغة الدستور السوري الجديد، لا سيما فيما يتعلق بالمواد والبنود الخاصة بشكل نظام الحكم (رئاسي، شبه رئاسي، برلماني)، وشكل إدارة الدولة (مركزية، لامركزية، فيدرالية)، وصلاحيات رئيس الجمهورية، لا سيما فيما يتعلق بتعيين رؤساء السلطات الثلاث أو كبار الموظفين في الدولة أو إصدار المراسيم أو اقتراح القوانين، والفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، ومصادر التشريع وآلية الرقابة على دستورية القوانين، بالإضافة إلى مناقشة مواد هامة كدين رئيس الدولة، وضمان توزيع الثروات وغيرها، وإن كان هناك عدد من المبادئ في الدستور الحالي لا تشكل خلافاً كبيراً بين المعارضة والنظام، كبعض المبادئ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
من جهته، رأى الخبير القانوني، والمسؤول السابق في المعارضة السورية محمد صبرا، أنه يجب التمييز بين وضع الدستور وصياغته، موضحاً أن وضع الدستور من المفترض أن يتم من قبل الشعب السوري أو ممثليه الحقيقيين، أما الصياغة فتتم في مرحلة لاحقة لوضع الدستور السوري أي الاتفاق على المبادئ الأساسية التي ستحكم النظام السياسي في البلاد. وأضاف صبرا، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “الممثلين الحقيقيين للسوريين الذين من المفترض أن يضعوا الدستور السوري يتم اختيارهم عبر الانتخاب، وهذا ما أفضله، أي انتخاب هيئة تأسيسية بعد مؤتمر الحوار الوطني، وهذا المؤتمر يفترض أن يدوم انعقاده طيلة المرحلة الانتقالية ليتم النقاش بشكل معمق حول المبادئ والقيم التي سيتضمنها ويحميها الدستور”.
ورأى صبرا أن صياغة الدستور السوري من قبل لجنة فنية أو لجنة من الخبراء، لا تعطي دستوراً حقيقياً، وإنما دستوراً مفصلاً على هوى أعضاء تلك اللجنة، لافتاً إلى أن “الأولوية حالياً هي لتشكيل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، الذي أتمنى أن يكون التمثيل فيه مستنداً إلى تمثيل الوحدات الإدارية السورية بشكل حقيقي، من دون عدد كبير حتى يتم النقاش بشكل سليم وجاد”.
الملاءمة مع الواقع
وشدد صبرا على أنه بناء على “التخريب الممنهج الذي طاول البنية المجتمعية والسياسية والاقتصادية والإدارية السورية، يجب أن يذهب الدستور لتحقيق عملية الملاءمة، أي تقديم الحلول المناسبة مع الواقع الحالي، فلا يوجد دستور جيد ودستور سيئ. هناك دستور ملائم قادر على حل المشكلات والاستعصاءات التي تنشأ داخل المجتمع، فالأولوية الآن لإعادة البناء المجتمعي والسياسي والاقتصادي بمعناه الشامل، الذي يتضمن إعادة الإعمار، وتنمية الإنسان السوري، وتأهيل التعليم، والرعاية الصحية، والضمانات الاجتماعية، فنحن لدينا مجتمع منهك وتفتت في النسيج المجتمعي، ويجب أن يلحظ الدستور كل هذه المشكلات، ما يفضي إلى قوانين مرنة تلتزم بمعالجتها”.
العربي الجديد
——————————–
عبثٌ بمسارح الجرائم في سورية… مخاوف من تضييع الأدلّة/ فضل عبد الغني
31 يناير 2025
وسط تفاعلٍ واسع في مواقع التواصل الاجتماعي السورية إثر نشر فيديو، في الـ13 من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، يبيّن مجموعةً ناشطةً تُدعى “سواعد الخير”، تدخل فرع الأمن 325 للمخابرات والأمن العام في مدينة اللاذقية، وتقوم بطلاء جدرانه، والعبث بمحتوياته، إذ صرّح أفراد المجموعة بأنّهم حصلوا على موافقة من حرّاس الموقع. غير أنّ هذا السلوك، الذي وصفه بعضهم بالمبادرة التطوّعية، أثار انتقاداتٍ شديدة من حقوقيين وعائلات ضحايا رأوا فيه تهديداً مباشراً لجهود التحقيق في انتهاكاتٍ يُحتمل أنّها وقعت في هذا الفرع. وبرزت تساؤلاتٌ حول مدى تأثير العبث بالوثائق على مسار البحث عن الحقيقة ومحاسبة الجناة، وعلى سبب سماح السلطات (إن كانت قد أذنت فعلاً) لجهة غير مختصّة بدخول مكان بهذه الحساسية.
وفق روايات متطابقة ومقاطع فيديو منشورة، دخلت مجموعة “سواعد الخير” مقرّ فرع الأمن المذكور بحجّة “إعادة تأهيل المبنى” وتنظيفه، إلا أنّ الشبكة السورية لحقوق الإنسان حذّرت، في بيانٍ رسمي، من تداعيات هذا الدخول غير المنظّم، وأوضحت أنّ المقرّ يُعدّ من أماكن الاحتجاز التي رُصدت فيها اعتقالات تعسّفية وعمليات إخفاء قسري عديدة منذ بداية النزاع، وبالتالي، هو مسرح جريمة. وطالبت السلطات السورية بفتح تحقيق مع مجموعة “سواعد الخير” وكشف نتائجه للرأي العام. وعلى الرغم من محاولات التواصل مع السلطات في محافظة اللاذقية، لم يصدر أيُّ تعليق رسمي واضح يحدّد الجهة المخوَّلة السماح للمجموعة بدخول المبنى، واقتصرت تصريحاتٌ متفرّقة على الدعوة إلى “التعاون في ما ينفع أهالي المدينة”، من دون بيان أيّ ضوابط للمحافظة على الوثائق المودعة في الفرع.
الأهمية والسياق العام
لا تنحصر إشكالية دخول مجموعات مدنية مراكز أمنية حسّاسة في أنها “عمل تطوّعي” وحسب، بل المشكلة في أنّ هذه المواقع قد تحتوي أدلّةً توثّق انتهاكات جسيمة، كالاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري. وأي عبثٍ أو إتلافٍ للوثائق، حتى لو لم يكن متعمّداً، قد يعرقل وصول الضحايا وعائلاتهم إلى حقيقة ما جرى، كما يهدّد صدقية التحقيقات أمام المحاكم الوطنية أو الدولية. في هذا الإطار، يُلقي الخبراء بالمسؤولية على السلطات الانتقالية أو المحلّية التي يفترض أنّها المكلّفة بتأمين المواقع الحسّاسة وإدارة دخولها وفق قواعد قانونية واضحة. ويُحذّر ناشطون حقوقيون من أنّ تساهل الجهات الرسمية في هذه الحادثة قد يشجّع مجموعات أخرى على تكرار التصرّف نفسه، ما يزيد من خطر اختفاء أدلّة ذات أهمية بالغة للعدالة.
ضوابط الدخول إلى مسارح الجرائم
تُحاط عملية الدخول إلى مسارح الجرائم بمجموعةٍ من البروتوكولات الدولية الصارمة، منها بروتوكول بورنموث لحماية المقابر الجماعية والتحقيق فيها، الذي يهدف إلى توحيد المعايير القانونية والإجرائية لضمان حماية هذه المواقع الحسّاسة من أيّ تدخّل غير قانوني، والحفاظ على الأدلة التي تحتويها، وبروتوكول إسطنبول الخاص بالتحقيق في مزاعم التعذيب، وبروتوكول مينيسوتا المعني بالتحقيق في الوفيات غير المشروعة، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي ينصّ على تجريم أيّ فعلٍ يعرقل سير العدالة، بما في ذلك تدمير الأدلّة أو تغيير أماكنها على نحوٍ قد ينال من قيمتها الإثباتية. وبموجب هذه البروتوكولات، لا يُسمَح بالوجود في الموقع إلا للفئات المخوَّلة قانونياً، مثل ضبّاط إنفاذ القانون، وخبراء الطبّ الشرعي، والأطباء الشرعيين والمدّعين العامّين. وتُحدّد هذه الفئات بناءً على دور كلٍّ منها في توثيق الأدلة وتحليلها، وكذلك في ضمان الالتزام بالمعايير القانونية الراسخة في جمع المعلومات. على سبيل المثال، يتولّى ضبّاط إنفاذ القانون إعلان الموقع مسرحاً للجريمة، وضبط حدوده، والسيطرة على حركتَي الدخول والخروج، بينما يتمتّع خبراء الطبّ الشرعي بالأدوات والخبرات اللازمة لجمع الأدلّة بطريقة تحافظ على صلاحيتها أمام المحاكم. وتشدّد هذه البروتوكولات على ضرورة الحصول على موافقات رسمية مسبقة قبل دخول الموقع، بما في ذلك استصدار أوامر تفتيش في الحالات التي تخضع لحقوق ملكية خاصّة، أو وجود دواعٍ أمنية تقتضي حماية الأدلة من العبث والضياع. علاوةً على ذلك، تولي هذه الإجراءات عنايةً خاصّةً للمواقع الحسّاسة كالمقابر الجماعية ومراكز الاحتجاز، إذ تتطلّب معايير دولية إضافية لفرض رقابةٍ دقيقة على الدخول ومنع تسريب الأدلة أو نقلها بطرق غير منظمة.
تدابير الحفاظ على سلامة مسرح الجريمة
يكتسي الالتزام بضوابط تأمين مسرح الجريمة أهميةً قصوى في ظلّ المخاطر المتكرّرة بفقدان الأدلّة أو تلويثها، خصوصاً في الحالة السورية التي شهدت طوال قرابة 14 عاماً كمّيةً هائلةً من الانتهاكات، خلّفت وراءها أعداداً ضخمةً من الضحايا، وبحسب قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ما زال هناك قرابة 115 ألف مواطن سوري مختفٍ قسراً بسبب نظام الأسد وحده. ولا يمكن تخيّل مدى معاناة أهالي هؤلاء عند مشاهدتهم العبث في مسارح الجريمة. ولذا توصي الهيئات الدولية المعنية، وكذلك منظّمات حقوقية عديدة، باعتماد إجراءات محدّدة لمنع الوصول غير المصرّح به، من بينها تقييد الدخول وإحاطة الموقع بحواجز مادّية واضحة، إضافة إلى توثيق هُويَّة كلّ فرد يدخل أو يغادر المنطقة. وفي حالات الطوارئ، قد يُسمح لفرق الإسعاف الطبّي بالوصول المباشر لإنقاذ الأرواح، شريطة الالتزام بتوثيق كلّ خطوة لمنع فقدان الأدلّة أو تشويه معالمها. كما تصرّ هذه البروتوكولات على وجوب تخصيص حراسة مدرَّبة للمواقع الحساسة، والحرص على إنشاء سجلّ خاص بسلسلة العهدة (Chain of Custody)، يسجّل فيه اسم كلّ شخص يتعامل مع الأدلة، ووقت استلامه لها، والجهة التي سُلِّمت إليها بعد ذلك. ويُفترض أن تواكب هذه التدابير منظومةً أشمل تهدف إلى ضمان فعّالية المسار القضائي في محاسبة مرتكبي الانتهاكات، بما في ذلك تطبيق الممارسات الفضلى في الطبّ الشرعي وحفظ العينات البيولوجية والوثائق الرسمية. ونتيجة للانتهاكات الواسعة التي شهدتها البلاد، تضطلع المنظمات الحقوقية السورية والدولية بدورٍ جوهري في التوعية بضرورة هذه الإجراءات، فضلًا عن دعم السلطات الانتقالية أو المحلّية بتوفير الموارد اللازمة، وتطوير قدرات الكوادر الميدانية، وتثبيت إطارٍ قانوني واضح يفرض عقوبات صارمة على كلّ من يتعدّى على حرمة هذه المواقع أو يعبث بالأدلة بأيّ صورة كانت.
المسؤوليات القانونية
لا يجرى التعامل، في سورية، صراحة مع العبث بمسرح الجريمة أو تغييره باعتباره جريمةً قائمةً بذاتها بموجب قانون العقوبات الحالي. ومع ذلك، تُجرَّم مثل هذه الأفعال بشكل غير مباشر من خلال أحكام قانونية أوسع نطاقًا تتعلّق بعرقلة العدالة وإخفاء الأدلّة وتقويض التحقيقات، فيتضمّن قانون العقوبات السوري أحكاماً تجرّم الأفعال التي تعرقل العدالة أو تدمّر الأدلة. على سبيل المثال، تنصّ المادة 535 على عقوبات شديدة، بما في ذلك عقوبة الإعدام، للجرائم المتعمّدة التي تنطوي على العبث بالأدلة لإخفاء جرائم أخرى.
ويُعدّ العبث بمسرح الجريمة جريمةً جنائيةً خطيرةً في العديد من الأنظمة القانونية في العالم. ففي الولايات المتحدة، يعاقب القانون الفيدرالي (18 U.S.C. § 1519) على التلاعب بالأدلة بالسجن مدداً تصل إلى 20 عاماً، علماً أنّ بعض القوانين الولائية، كقانون تكساس (§37.09)، يشدّد العقوبات في حال تدمير أدلة تتضمن جثثاً بشرية لتصل إلى 20 عاماً سجناً. وفي ألمانيا، يعالج القانون الجنائي (Strafgesetzbuch) هذه الجريمة تحت مواد أبرزها المادة 136 الخاصّة بتدمير الأشياء الخاضعة للمصادرة، والمادّة 258 التي تجرّم عرقلة العدالة. أمّا في فرنسا، فتنصّ المادة 434-4 من قانون العقوبات على أنّ تغيير الأدلة أو إخفاءها بقصد تضليل التحقيقات يؤدي إلى عقوبات بالسجن والغرامة، فيما تشدّد المادة 222-33-3 على تجريم تسجيل أو نشر الصور المرتبطة بالجريمة بصورة تضرّ بكرامة الضحايا. وفي هولندا، تُصنَّف عرقلة العدالة من طريق التلاعب بالأدلة جريمةً تحت المادة 189 من قانون العقوبات، مع إمكانية الحكم بالسجن مدّة تصل إلى ستّ سنوات تبعاً لظروف القضية. وفي كندا، يحظر القسم 137 من القانون الجنائي تلفيق الأدلة بقصد التضليل، مع عقوباتٍ تصل إلى 14 عاماً من السجن، كما يجرّم القسم 129 (أ) عرقلة واجبات الشرطة في موقع الجريمة. وعلى نحوٍ مشابه، ينصّ قانون الجرائم في أستراليا (القسم 317 من قانون الجرائم لعام 1900) على معاقبة التلاعب بالأدلة بالسجن حتى عشر سنوات. وأخيراً، تفرض نيوزيلندا بموجب قانون الجرائم لعام 1961 (القسم 113) عقوبةً قد تصل إلى سبع سنوات لمن يزوّر الأدلة لتضليل الإجراءات القضائية.
تضع القوانين السابقة مسؤوليةً مباشرةً على السلطات (حكومية أو محلية انتقالية) في الحيلولة دون دخول غير المخوّلين إلى هذه المواقع، وفي محاسبة الجهات المسؤولة بتهمة التقاعس أو حتى التواطؤ في طمس حقائقٍ تهمّ الضحايا وذويهم.
الأحداث الماضية: الآثار والتداعيات
1- تأثير على مسار التحقيقات الجنائية: يرى خبراء القانون أنّ دخول غير المتخصّصين إلى موقع يحتمل أن يكون مسرحاً لجريمة دولية قد يعبث بالأدلّة أو يخلّ بسلسلة العهدة اللازمة لضمان قبول هذه الأدلة في أيّ محاكمة.
2- خطر ضياع الأدلة أو تلوّثها: قد يحتفظ المبنى بوثائق وأوامر اعتقال وسجّلات لأسماء معتقلين، الأمر الذي يجعل ضياعها أو نقلها من مكانها الأصلي، من دون اتباع إجراءات سليمة، تهديداً خطيراً لإمكانية كشف الحقيقة. ويعني هذا ضياع فرصة ثمينة لمعرفة كيفية تنفيذ الاعتقالات وطبيعة الانتهاكات، فضلاً عن تحديد المسؤولين عنها.
3- انعكاس على حقوق المعتقلين وعائلات المفقودين: يمثّل كشف مصير المعتقلين ومعرفة ما تعرّضوا له أولويةً كبرى لأهالي الضحايا. وأيّ تدخّل عشوائي في المقرّ الأمني يحرم أهالي المعتقلين من نافذة محتملة نحو إنصافهم، خاصّةً إذا انقضت هذه الفرصة، ولم تعد هناك أدلّة تدعم مطالبهم أو تساعد على إثبات تعرّضهم أو ذويهم لأيّ انتهاك.
خاتمة
تشكّل حادثة طلاء نشطاء جدران فرع أمني نموذجاً لصراعٍ متكرّر بين الدور الحيوي للإعلام والنشطاء في الكشف عن الانتهاكات، والحاجة الملحّة للحفاظ على مسارح الجرائم، كالسجون والأفرع الأمنية، والمقابر الجماعية في سورية. ففي حين تسهم التغطية الإعلامية في إماطة اللثام عمّا خفي من جرائم محتملة، فإنّ التسرّع في استعراض المكان أو تصويره من دون قواعد دقيقة قد يُلحق الضرر بالأدلة الجنائية. وفي سياق العدالة الانتقالية التي تهدف إلى ملاحقة مرتكبي الجرائم وترميم النسيج المجتمعي، تصبح حماية أدلّة الجرائم أولوية قصوى. لذا، قد ينعكس أيّ عمل عشوائي سلباً على حقوق الضحايا، ويقوّض جهود المصالحة المبنية على قاعدة “توثيق وتثبيت الحقائق” قبل مرحلة المحاسبة.
في ضوء هذه التطوّرات، تبدو الحاجة ماسّة إلى قيام الحكومة السورية الحالية بوضع ضوابط واضحة تحكم دخول مسارح الجرائم، وتحديد جهة قضائية تُشرف على ذلك. إنّ نجاح أي عملية عدالة انتقالية في سورية يتطلّب احترام مسارح الجرائم والمحافظة على محتوياتها، وإن لم تتحمّل السلطات الحاكمة أو الانتقالية مسؤولياتها فوراً، فقد تجد نفسها أمام تراكم من الحوادث المشابهة، ما يُعقّد أكثر فأكثر مهمّة الكشف عن الحقيقة وإنصاف الضحايا، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات.
العربي الجديد
—————————-
دمج المعتقلين: خطوة أساسية في إعادة تشكيل الذات السورية/ حمدان العكله
2025.01.31
منذ أيام، تابعت على شاشة تلفزيون سوريا برنامجاً يستعرض معاناة المعتقلين السوريين، محاولاً تسليط الضوء على صور الألم التي عاشوها داخل المعتقلات، وفي حين كنت غارقاً في تفاصيل هذه المعاناة الإنسانية، تمنت نفسي لو أن البرنامج قد تناول في جزءٍ لاحق، أو حلقة مستقلة موضوعاً لا يقل أهمية عمَّا تمَّ عرضه، وهو كيفية دمج هؤلاء المعتقلين في نسيج المجتمع السوري بعد معاناتهم الطويلة في سجون الاستبداد، فهذا الموضوع يتطلب اهتماماً خاصاً نظراً لحساسيته، وأثره العميق على الاستقرار الاجتماعي والنفسي للمتضررين، وفي هذا السياق، نجد أنفسنا أمام تحدٍ كبير، يستدعي البحث عن آليات الدمج الفعّالة، والسبل التي يمكن أن تساعد المعتقلين السابقين على التكيف مع واقعهم الجديد، على الرغم من المآسي التي حفرت في ذاكراتهم ووصمت على أجسادهم.
وفي الحديث عن أهم الآليات تبرز أمامنا مسألة تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمعتقلين السابقين في سجون النظام السوري كخطوة جوهرية للتخفيف من الآثار العميقة التي خلفتها التجربة القاسية عليهم. تبدأ العملية من خلال برامج تأهيل نفسي مكثفة، تستهدف تمكين المعتقلين من التعامل مع صدماتهم النفسية والاجتماعية عبر العلاج المتخصص الذي يشمل الدعم النفسي الفردي والجماعي، إذ توفر الجلسات بيئة آمنة للتعبير عن المشاعر والأفكار، ما يعزز التواصل والتضامن بين المعتقلين السابقين، ويخفف من شعور العزلة. أما الدعم الاجتماعي فيتمثل في بناء شبكات تفاعلية تسهم في إعادة دمجهم الاجتماعي، من خلال أنشطة وبرامج تقوي الروابط بين الأفراد، وتساعدهم على التكيف مع الحياة المدنية بعد سنوات من القمع، إضافة إلى ذلك، يسهم الدعم القانوني في تمكينهم من استعادة حقوقهم ومواجهة التحديات القانونية التي قد يواجهونها، هذا الدعم يمكنهم من المطالبة بالعدالة والتعويضات، ما يعيد لهم جزءاً من كرامتهم التي سلبت.
إن جميع هذه الأبعاد النفسية والاجتماعية والقانونية تشكل الأساس لإعادة بناء حياة المعتقلين السابقين بشكل يعكس توازناً إنسانياً ويعزز من قدرة المجتمع السوري على التعافي والاندماج بعد سنوات من الانقسام والاضطهاد.
تُعد عملية دعم المعتقلين السابقين في سجون النظام السوري أحد التحديات الكبيرة التي تواجه المجتمع السوري في مرحلة ما بعد الصراع، وانتصار ثورة الشعب، ولتحقيق نجاح فعلي في عملية إعادة الدمج، من الضروري تبني مجموعة من الآليات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية التي تساعد المعتقلين على استعادة حياتهم الطبيعية ومواصلة طريقهم نحو التعايش المشترك في مجتمعهم، في البداية، يأتي الدعم الاقتصادي كأحد الركائز الأساسية لتحقيق الاستقرار المادي للمعتقلين السابقين، فيجب توفير فرص عمل لهم، من خلال برامج تدريب مهني، تستهدف تطوير المهارات اللازمة لسوق العمل، هذه البرامج تسهم في تأهيل المعتقلين السابقين وتزويدهم بالمعرفة والمهارات التي يحتاجونها للاندماج في المجتمع المدني بشكل فعال، بالإضافة إلى ذلك، من الضروري تقديم قروض صغيرة – إن أمكن ذلك- لمساعدتهم على تأسيس مشاريعهم الخاصة، ما يتيح لهم القدرة على الاعتماد على أنفسهم مالياً، بعيداً عن الدعم الحكومي، وبالتالي يسهم في تحسين وضعهم الاقتصادي، ويوفر فرص عمل للأفراد الآخرين في المجتمع.
أما في مجال الدعم التعليمي، فإن توفير برامج تعليمية للكبار يعدُّ أمراً بالغ الأهمية، فالعديد من المعتقلين السابقين توقف تعليمهم بسبب ظروف اعتقالهم، لذا يجب توفير برامج تعليمية تساعدهم على استكمال تعليمهم، في جميع المراحل، علاوة على ذلك، يمكن تقديم دورات تدريبية لتنمية مهاراتهم العملية، مثل دورات الحرف اليدوية أو مهارات الحاسوب، هذا النوع من الدعم يسهم في تعزيز فرصهم في الحصول على وظائف أفضل، ويزيد من قدرتهم على الإسهام في إعادة إعمار المجتمع.
وفيما يخص برامج إعادة التأهيل المجتمعي، ينبغي أن يتم العمل على إعادة دمج المعتقلين السابقين في مجتمعاتهم المحلية بشكل تدريجي، وهذا يمكن أن يتم عبر تنظيم أنشطة تطوعية، ومبادرات مجتمعية، تشمل المعتقلين السابقين، وتتيح لهم فرصة المشاركة الفاعلة في إعادة بناء مجتمعهم، هذه الأنشطة تعمل على تعزيز الشعور بالانتماء، وتعزز من قيمة التضامن الاجتماعي، كما يجب تفعيل التوعية المجتمعية من خلال حملات توعية تهدف إلى تغيير النظرة السلبية تجاه المعتقلين السابقين والتي تعيق عملية اندماجهم في المجتمع، علاوة على ذلك، يجب تشجيع الحوار بين المعتقلين السابقين وأفراد المجتمع، بهدف إزالة الحواجز النفسية والاجتماعية وتعزيز التفاهم المتبادل.
ومع ذلك، تواجه عملية الدمج العديد من التحديات، كالوصمة الاجتماعية التي ترافق المعتقلين السابقين، إذ تشكل هذه الوصمة عقبة رئيسة، فالبعض قد ينظر إليهم أحياناً كمجرمين أو كأشخاص لا يمكن
الوثوق بهم. كما أن النقص في الموارد سواء كانت مالية أو بشرية يمثل عائقاً كبيراً أمام تنفيذ هذه البرامج، بالإضافة إلى ذلك، قد يعيق الوضع الأمني غير المستقر تنفيذ بعض البرامج، خاصة في المناطق التي ما زالت تعاني من النزاعات، وأخيراً، هناك الاختلافات الفردية بين المعتقلين السابقين في احتياجاتهم وقدراتهم، وهو ما يستدعي تبني برامج مرنة ومخصصة تتناسب مع هذه الفوارق.
ختاماً، من أجل النجاح في هذه عملية دمج المعتقلين السابقين، يجب التعاون بين القطاع العام و القطاع الخاص و المجتمع المدني، وضرورة الاستفادة من تجارب العمل الميداني، ودراسة الحالات التي عملت عليها بعض المنظمات المحلية والدولية التي مارست نشاطاً إيجابياً في المناطق المحررة سابقاً، هذا التعاون يسهم في توفير الموارد والخبرات اللازمة لإنجاح البرامج، كما أن المشاركة الفاعلة للمعتقلين السابقين في تصميم برامج الدمج وتنفيذها يعدُّ أمراً أساسياً، إذ إن مشاركتهم الفعالة في العملية تعزز من حس المسؤولية لديهم، وتزيد من فرص نجاح البرامج، وأخيراً، من الضروري الاستمرار في تقييم البرامج، بهدف تحديد نقاط القوة والضعف، وإجراء التعديلات اللازمة بما يحقق الأهداف المرجوة من عملية الدمج، كما يمكن للباحثين والمختصين الاستفادة من تجارب سابقة لدول عانت من تجارب شبيهة لتجربة النظام الاستبدادي السوري ولو بصورة نسبية، كنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، أو تشيلي بعد سقوط ديكتاتورية بينوشيه أو كما هو الحال في كمبوديا أو الكونغو.
تلفزيون سوريا
———————————-
انتصار الثورة السورية ونهاية متلازمة الإقصاء والتطرف/ فاروق شريف
2025.01.31
منذ بداية الألفية الثانية، وتحديدا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، درج مصطلح الإرهاب العالمي وأخذ مفهوما فضفاضا للتحكم بإسقاطه على الفئة المستهدفة حسب الحاجة ونفيه عن فئة أخرى لأسباب سياسية ودينية أيضا.
ضخ إعلامي هائل وندوات فكرية مكثفة بدأت تحصر الإرهاب بكل جماعة تنتمي للدين الإسلامي، ومع احتلال العراق أصبحت فكرة ربط الإرهاب بالإسلام أكثر بلورة وأشد جرأة على ما يعتقده المسلمون أنه من عقائدهم، لتأتي بعدها أحداث الربيع العربي وخصوصا في سوريا وظهور تنظيم “داعش” كأول تنظيم محسوب على الجهادية العابرة للحدود يتبنى نظرية الخلافة بشكل عملي.
كل هذه الأحداث أطلقت العنان لعشرات المؤسسات الفكرية التي بدأت بنبش كتب التراث ووضع النصوص الدينية من القرآن الكريم والسنة النبوية على مشرحة النقد الذي في معظمه عبارة عن ردة فعل هجومية أكثر مما هي علمية موضوعية، فهذا يرى الحل للقضاء على التطرف بإيجاد دين جامع مستقى من كل الأديان وذاك يرى الحل بتغيير النصوص الدينية وغيره يرى الحل بتغيير الخطاب الديني وما إلى ذلك من أطروحات تتسم بالطفولية، لكن لم يطرح أحد السؤال الأهم، ماذا عن دور الإقصاء وتهميش الهوية الدينية لشعوب المنطقة في توليد فكرة التطرف في عقول الشباب ولا سيما المراهقين؟
التطرف الطارئ على الحياة السورية
على مدى التاريخ لم تعرف منطقة بلاد الشام تشددا دينيا لا على المستوى الفقهي ولا العقدي، فالفقه الذي كان دارجا لعقود طويلة كان على المذهب الشافعي ثم الحنبلي ثم المالكي حتى جاءت الدولة العثمانية فأعلت من شأن المذهب الحنفي.
على المستوى العقدي كان المذهب الأشعري والماتريدي ومذهب أهل الحديث الذين يسمون اليوم السلفية متخالفين في سوريا ولكن بشكل سلمي ولم تشهد البلاد أن حدثت صراعات عسكرية منطلقة من فكر تكفيري في سوريا، إلا ما يأتي من خلال “الخوارج”.
ولقد شهدت دمشق في القرن الثامن الهجري أوج الصراعات العقدية، بين أهل الحديث الحنابلة والشافعية الأشاعرة، من خلال مناظرات وأطروحات كان ابن تيمية وابن القيم والذهبي روادها من جهة أهل الحديث وتاج الدين السبكي وابن مخلوف المالكي وابن دقيق العيد من جهة الأشاعرة، ومع ذلك تعايش الطرفان سوية بل حاربوا مجتمعين ضد التتار، وظلت هذه الخلافات رهن الكتب وقاعات المناظرة دون أن يتدخل السيف بحسمها، وابن تيمية رغم سجنه عدة مرات بمكيدة خصومه لم يقم بنفسه أو عن طريق طلابه بثورة مسلحة ضد مناوئيه، وعلى العكس تماما كان يعود مخالفيه إذا مرضوا ويعزي أهلهم حين ماتوا، حتى إن خصمه اللدود القاضي المالكي ابن مخلوف قال فيه: “مارأيت كريماً واسع الصدر مثل ابن تيمية فقد أثرنا الدولة ضده، ولكنه عفا عنا بعد المقدرة، حتى دافع عن أنفسنا وقام بحمايتنا، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا”.
كانت دمشق في تلك الحقبة تحتضن مختلف التيارات الدينية من الصوفية المغالية كأتباع الشيخ الأكبر ابن العربي كما يسميه محبوه إلى السلفية القحة كأمثال مدرسة ابن تيمية، والواقع السياسي كأن أشد قتامة، حيث الأمة ممزقة والبلاد اجتاحها التتار والمماليك الحاكمين في منتهى الهشاشة من الحكم، والخلافة العباسية في مصر مجرد صورة، ورغم ذلك لم تفرز هذه الظروف عن جماعات مسلحة تقاتل بعضها بعضا من منطلق تكفير عقدي، ولعل السبب في ذلك عدم شعور التيارات الإسلامية بأنها مقصاة من المشهد ولا تعيش أزمة هوية فرضها عليها نظام عالمي كما حصل في القرنين العشرين والحادي والعشرين مع فرض النظام العالمي وصاية على هوية الشعوب المهزومة بعد انهيار الخلافة العثمانية.
ما بعد الحرب العالمية الأولى
منذ إعلان نهاية الخلافة العثمانية رسمياً عام 1923، أحست الشعوب المسلمة بهزيمة نفسية عبرت عنها بحركات إحياء دينية تصارعت فكريا مع الوافد الجديد الممثل بالأحزاب القومية التي تمكنت من تكوين قاعدة شعبية وجدت فيها ملاذا للتعبير عن الهوية القومية الجامعة في مواجهة الاستعمار ومارس بعضها قمعا فكريا للأحزاب الإسلامية وتمكنت من الإمساك بزمام السلطة في البلاد التي تخلصت من الاستعمار الفرنسي والانجليزي، لكنها فشلت في تحقيق متطلبات الشعوب وانقشع سراب شعاراتها بعد نكبة فلسطين ومن ثم النكسة، فبدأت التيارات الإسلامية تستغل فشل الأحزاب القومية لتقدم نفسها بديلا عنها.
ومع سقوط أفغانستان بيد السوفييت وممارسة الشيوعية تغريبة وجدانية متوحشة ضد الدول المسلمة تطور نضال الجماعات الإسلامية من سياسي إلى مسلح تمكن من تحقيق هدفه في دحر السوفييت، لكن الاحتلال الأميركي اللاحق لأفغانستان أعاد انتكاسة هذه الجماعات وأحست بأنها تواجه حلفا عالميا يستهدف الإسلام، ومن خلال هذه “المظلومية” استطاعت أن تستقطب آلاف الشباب من شتى البلدان الإسلامية.
وعقب الاحتلال الأميركي للعراق وما خلفه من مصطلحات تتعلق بالإرهاب؛ ازداد شعور هذه الجماعات بحمل مسؤولية ما اعتبرته استرداداً لهوية الأمة الضائعة من أنياب التوحش العالمي الذي يستهدفها بشتى الوسائل.
وبعد انطلاق الثورة السورية وتخاذل المجتمع الدولي عن رفض الظلم عن الشعب السوري الذي تعرض لعمليات إفناء ممنهجة تستهدف هويته قبل كل شيء ازداد شعور الشباب المنتمين للتيارات الجهادية بحجم ما وصفوه بأنه “مؤامرة تستهدف الهوية الدينية للمكون الأكبر في سوريا”، ولذلك أصبحت أي فكرة جهادية تستهويهم، وإن كانت بعيدة عن التعقل والمنهجية. حتى إذا ما انتصرت الثورة السورية وأدرك الشباب السوريون المقاتلون من كافة الفصائل أنهم استردوا هويتهم، بدأ التطرف العدائي الطارئ يتلاشى تدريجيا من وجدانهم، مستعيدين توازنهم النفسي وطبيعتهم المسالمة غير العدائية، طالما أنهم لا يشعرون بالغربة الفكرية ضمن بلدهم وغير مقطوعين عن تراثهم.
والحال، فإن معالجة التطرف لا تتم عبر ندوات فكرية تستهدف المسلّمات الدينية وتحاربها، وإنما يكفي الشباب المسلم، في سوريا خاصة، أن لا يتعرض لإقصاء فكري حتى يكون مسالماً يحق له النضال من أجل الحياة في بلد يشعر بالانتماء التام إليه.
تلفزيون سوريا
—————————
عن مخاطر اللامركزية في حكم سورية/ حنان البلخي
31 يناير 2025
مع سقوط النظام السوري، واستعادة الأراضي من قبضة نظام الأسد، ظهرت تطوّرات جديدة، أثارت تساؤلات عن مستقبل سورية ووحدة أراضيها. في ظلّ التحولات الكُبرى التي تمرّ بها البلاد بعد سنوات من النزاع والدمار، يبرز السؤال الأكثر أهمية: هل يمكن أن يكون النظام اللامركزي الحلّ الأنسب في المرحلة المُقبلة؟
في مناطق الشمال الشرقي، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على أجزاء من ريف محافظة حلب، ومحافظتَي الحسكة والرقّة بشكل كامل، بالإضافة إلى ريف محافظة دير الزور الشرقي (ما تُعرف بالجزيرة السورية)، التي تُعدّ من أغنى المناطق السورية من ناحية الثروات النفطية والباطنية والزراعية، تتبنّى هذه القوات نهجاً يتسم باللامركزية، بل تسعى إلى إقامة نظام فيدرالي في المناطق التي تسيطر عليها. غير أن هذا التوجّه قد يعزّز الانقسامات العرقية والطائفية بين المناطق المختلفة في سورية، خاصّة في ظلّ التنوّع الكبير للمكونات السكّانية، مثل الأكراد والعرب والسريان، إذ يسعى بعض هذه الجماعات إلى تحقيق حكم ذاتي موسّع. وهذا قد يؤدّي إلى تقويض وحدة الدولة السورية. ورغم أن اللامركزية قد تُعتبر وسيلة لتوسيع المشاركة الشعبية وتخفيف العبء عن الحكومة المركزية، فإن تطبيقها في السياق السوري قد يواجه تحدّيات جسيمة تهدّد وحدة البلاد واستقرارها.
منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وقبل أن يورّثها لابنه بشّار، قامت الدولة السورية على نموذج مركزي يعزّز السلطة المطلقة للرئيس. كان هذا النموذج يعتمد على التحكّم المباشر في جميع مفاصل الدولة، بهدف الحفاظ على السيطرة الفردية، وتكريس هيمنة المركز على جوانب الحياة السياسية والإدارية كافّة. وقد كانت القرارات السياسية تُتَّخذ في دائرة ضيّقة من المقرّبين، ما جعل أي نوع من المشاركة الشعبية أو المؤسّساتية أمراً بعيداً عن الواقع. وحتى مجلس الشعب أصبح أداة تجميلية للنظام بدلاً من أن يكون هيئة تشريعية حقيقية. علاوة على ذلك، ظلّ التوزيع التنموي للمناطق السورية غير متوازن، فكانت المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب، تحظى بحصّة كبيرة من الموارد، بينما كانت المناطق الريفية مثل دير الزور والرقة تعاني من التهميش، ما ساهم في تعزيز شعور الغبن لدى سوريين عديدين. بعد هذه التجارب، أصبح الانتقال إلى نموذج جديد من الضرورة الملحّة لاستكمال أهداف الثورة. ما تحتاجه سورية ليس حكماً مركزياً شديد التركيز، بل نموذجاً يسمح بالمشاركة الواسعة للمجتمع والمؤسّسات المحلّية في اتخاذ القرار، فيمكن أن يُعيد هذا النموذج الثقة بين المواطن والدولة، ويُساهم في تحقيق عملية سياسية أكثر استدامة وشمولية.
تتمتع سورية بنسيج اجتماعي وثقافي وإثني متنوّع، يعتبر من أبرز ثرواتها الحضارية، ما يمنحها كثيراً من الخصوصية والتميز، إذا أُدير هذا التنوع بوعي واحترام متبادل. إلا أن اللامركزية في السياق السوري تظلّ محفوفة بالعديد من المخاطر. فقد تؤدّي إلى تعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية في بلد يعاني من تنوّع شديد في مكوّناته. اللامركزية قد تزيد من هذه الانقسامات بدلاً من أن تكون وسيلة لتعزيز الوحدة الوطنية، كما قد تفتح الباب أمام صراعات جديدة بين المناطق المختلفة، ممّا يعرّض وحدة سورية للخطر. من جانب آخر، قد تساهم اللامركزية في ترسيخ المحاصصة السياسية إذا وُزِّعت الصلاحيات بناءً على الانتماءات الطائفية أو المناطقية. ومن شأن هذا أن يضعف المؤسّسات الوطنية، ويحوّلها كياناتٍ تعكس الولاءات الطائفية بدلاً من الولاء للوطن، ما يحدّ من فرص بناء دولة قانون حقيقية، ويعمّق الفجوات السياسية والاجتماعية بين المناطق.
لتجاوز هذه التحدّيات، يجب أن يكون الهدف الرئيس بناء هُويَّة وطنية جامعة تعزّز الانتماء إلى الدولة السورية بدلاً من الانتماء للعرق أو الطائفة أو المنطقة. هذا يتطلّب جهوداً حثيثة في مجالات التعليم والإعلام لبناء ثقافة شاملة تعترف بالتنوع العرقي، ولكن في إطار الوحدة الوطنية. كما لا يمكن تجاهل دور المؤسّسات الحكومية في ضمان العدالة والمساواة في توزيع الموارد والخدمات بين جميع السوريين. وقبل الحديث عن اللامركزية خياراً سياسياً، على سورية التركيز أولاً في بناء المؤسّسات الوطنية، التي يمكن أن تدير شؤون البلاد بكفاءة وشفافية. هذا يشمل ضمان العدالة في توزيع الموارد والخدمات، ومكافحة الفساد الذي يشوّه هيكل الدولة. كذلك، يجب أن تكون هناك خطوات جادّة لمعالجة الانقسامات الطائفية والعرقية التي خلّفتها الحرب.
إذا نظرنا إلى بعض التجارب الدولية، مثل ألمانيا وإسبانيا، نجد أن الفيدرالية أو اللامركزية يمكن أن تكون مفيدة في حالة وجود هُويَّة وطنية قوية ومؤسّسات قادرة على دعم هذا النموذج. ولكن تطبيق هذا النموذج في سورية يتطلّب شروطًا خاصّة، لا سيّما فيما يتعلّق بتعزيز الهُويَّة الوطنية، وإصلاح المؤسّسات، وتوزيع الموارد بشكل عادل.
سورية بحاجة في هذه المرحلة إلى نظام مركزي قوي قادر على توحيد الجهود الوطنية وإعادة بناء الدولة. اللامركزية قد تكون خياراً مستقبلياً بعد تحقيق الاستقرار، ولكن في الوقت الحالي قد تشكّل مخاطر كبيرة تهدد وحدة البلاد. الأهم حالياً هو بناء دولة المواطنة والعدالة التي تضمّ جميع السوريين من دون استثناء، وترسيخ القيم الوطنية التي تضمن للجميع فرصاً متساوية في بناء مستقبلهم المشترك.
العربي الجديد
———————————–
الدولة السورية بين تأسيسين: بدايات وسياقات متشابهة/ عمار السمر
2025.01.31
اليوم وعلى الرغم من مرور حوالي شهرين على سقوط نظام الأسد، هناك من لم يستوعب انتصار الثورة السورية. ويمكن رد هذه الحالة إلى عدم تصور كثيرين لانتصار الثورة خاصة بعد الحالة التي وصلت إليها المسألة السورية في السنوات الأخيرة. هؤلاء وقسم كبير من الشعب السوري اعتادوا على الأوضاع غير الطبيعية خلال الـ 60 سنة الماضية من حكم آل الأسد حتى صار الوضع الشاذ قاعدة. و ربما يكون ذلك سبب الحساسية الوطنية أو الطائفية المستترة بالوطنية التي تظهر كردات فعل على التصرفات تظهر في سوريا ما بعد التحرير، والتي تبدو غريبة للوهلة الأولى لأنها لم تكن موجودة في مرحلة الأسدين الطويلة. وهذه المقالة تحاول تبيان أن كثيراً مما يحدث في سوريا منذ سقوط نظام الأسد، وينظر إليه كثيرون بغرابة وحساسية ليس جديداً، ومرت سوريا الحديثة بما يشبهه.
في البداية لا بد من الاعتراف أن هناك تغييراً عميقاً يحدث في سوريا، يمكن اعتباره تأسيساً جديداً للدولة السورية، الأمر الذي اقتضاه القطع مع نصف قرن من حكم نظام الأسد أصاب أسس الدولة السورية الحديثة بتشوهات عميقة على الرغم من مرور قرن ونيف من الزمن على تأسيسها الأول عام 1918، ليكون هذا التأسيس الثاني على الرغم من مرور سوريا بمراحل تاريخية مفصلية عديدة أهمها الاستقلال عام 1946، قبل أن يتسبب نظام الأسد بتخريب التوافقات الوطنية غير المُعلنة التي صنعها آباء الاستقلال ورضي بها السوريين.
كتبت قبل بضع سنوات دراسة علمية عن تأسيس الدولة السورية الحديثة (المملكة السورية 1918-1920)، بعنوان (الحكومة العربية وبناء الدولة) تناولت فيه، قيام الحكومة العربية في دمشق بقيادة الأمير /الملك فيصل، التي لم يكن معترف بها دولياً آنذاك، وقامت على الشرعية الثورية وتوافقات مع الحلفاء. تلك الحكومة هي التي قادت المرحلة الانتقالية التي تلت نهاية الدولة العثمانية، ووقع على عاتقها بناء الدولة السورية الحديثة، أساس الدولة التي نعيش فيها اليوم. وكان على تلك الحكومة قيادة التغيير وبناء مؤسسات الدولة الجديدة على أنقاض التي كانت موجودة. وعلى الرغم من القرن الذي يفصل بين التأسيس الأول للدولة السورية والتأسيس الثاني الحالي، فالتشابه كبير في السياقات، والسيطرة على الجغرافية السورية، وتأسيس الجيش وبنيته، والمؤسسات، والتعليم والمناهج، والقوانيين، والتغييرات في الإدارة وحتى صرف الموظفين، بالإضافة إلى التأثيرات الدولية والإقليمية.
السياق: سنحاول مقارنة السياق على الرغم من استحالة ايجاد ما يشبه السياق الأسدي في سوريا أو غيرها. ففي السياق الأول ولدت سورية في نهاية حرب عالمية طويلة ومؤلمة، وتنازع استعماري للسيطرة على أراضي الدولة العثمانية ومنها سوريا. في حين السياق الثاني فهي حرب شنها الجيش المفترض أنه جيش الدولة السورية بمعونة دول خارجية على الشعب السوري. الثورة العربية الكبرى بغض النظر عن تقييمها فقد تحالفت مع الغرب ودخلت قواتها دمشق بعد انسحاب الجيش العثماني. طبعاً لا يمكن مقارنة جيش الأسد بأي حال من الأحول بالجيش العثماني على الرغم من الفوضى والمظالم وقتها، ولنا أن نتصور أن قائد الجيش العثماني في سورية أحمد جمال باشا استحق لقب السفاح لأن محاكمه التعسفية قضت بإعدام 60 من مثقفي القومية العربية، في حين لم يقصف الجيش العثماني الأحياء والمدن التي دخلتها قوات الثورة العربية ويرتكب المجازر أسوة بجيش الأسد. أضف إلى ما سبق فيما يتعلق بالسياق، كانت ما زالت هناك هيمنة غربية وضعف محلي، فقد كانت فرنسا تتحفز للانقضاض على الدولة الجديدة كما تفعل إسرائيل اليوم. كما كان على الدولة الجديدة أن تأخذ في الحسبان توجسات الجماعات الطائفية السورية وارتباطاتها الخارجية، ومحاولة استقطابها حول الدولة الجديدة وهو ما نجح فيه
فيصل لحد كبير، بالإضافة إلى إدراك زعامتها أنهم أبناء هذه البلاد وأن الرهان على الخصوصية والأجنبي رهان خاسر.
لحظة السقوط: لا يمكن مقارنة لحظة انسحاب العثمانيين وما رافقها بسقوط نظام الأسد وفراره خارج البلاد وتبخر جيشه وأجهزته الأمنية أمام تقدم فصائل الثورة. ففي الحالة الأولى قامات في المدن والبلدات حكومات محلية من أعيان المدن قامت باستلام الإدارة من السلطات العثمانية قبل انسحابها حتى لا يحدث فراغ وفوضى واستمرت تلك الحكومات لأيام أو أكثر ريثما وصلت الإدارة العربية أو أرسلت مندوبين عنها. في حين فرَّ بشار الأسد وكبار ضباطه بعد أن أوعزوا للجنود بترك السلاح وخلع الملابس العسكرية وتركوهم لمصيرهم، كما تُركت البلاد والعاصمة لقدرها. ففي هذه اللحظات الحرجة يظهر الفرق بين رجال الدولة والعصابات.
القيادة: من دون الدخول في التفاصيل، بعد انسحاب الجيش العثماني سرعان ما وصل الأمير فيصل إلى دمشق ليتولى عملياً أعلى منصب في سوريا وسط ترحيب شعبي كبير على الرغم من الوضع القانوني غير الملتبس للدولة ولفيصل. فقانونياً كان الفريق رضا باشا الركابي الحاكم العسكري لسوريا أعلى منصب. فالوضع القانوني لسورية آنذاك أنها كانت تعتبر أرض عدو محتلة يديرها الجنرال اللنبي القائد العام لجيوش الحلفاء، وهو الذي عين الركابي الذي كان يأخذ تعليماته من الأمير فيصل صاحب الشرعية الثورية، الذي كان يوقع القرارات ويكتب بجوار بعضها، لحين تصديقها من البرلمان بعد تشكيله. وصارت الدول تتعامل مع فيصل حتى قبل انعقاد المؤتمر السوري العام وإعلان استقلال المملكة السورية وتنصيبه ملكاً دستورياً عليها. وحالياً أحمد الشرع قائد الإدارة الجديدة يشغل أعلى موقع في الإدارة الجديدة مستمداً شرعيته من الثورة، وعلى هذا الأساس تتعامل معه دول العالم.
السيطرة على الجغرافية السورية: من التحديات التي واجهتها الحكومة الفيصلية السيطرة على الجغرافية السورية، حتى أن خريطة الدولة لم تكن واضحة المعالم خشية إغضاب الدول الاستعمارية الطامعة بالمنطقة، بالإضافة إلى عدم أخذ الدولة شكلها النهائي وتثبيت حدودها. كما كانت قلة الإمكانات المادية والعسكرية واتساع رقعة البلاد تحدياً إضافياً أمام الحكومة، بالإضافة إلى سيطرة القبائل والجماعات الإثنية على العديد من المناطق، وكان لكل منها طموحاته التي أخرت إدراكها للحظة التاريخية وأن هناك دولة جديدة تتشكل.
الإدارة ومؤسسات الدولة: تمت إعادة العمل في المؤسسات وتفعيل المحاكم خلال فترة وجيزة. واستمرت بالعمل وفقاً للقوانيين العثمانية ذاتها مع تعديل بعضها لتتلاءم مع العهد الجديد. كما كان من اللازم القيام بالعديد من التغييرات لإعطاء الدولة شكلها وهويتها الجديدة. فتمَّ تباعاً تأسيس المؤسسات التشريعية كمجلس الشورى لسن القوانيين فقد كانت المؤسسات التشريعية في المركز إسطنبول ولا وجود لها في الولايات. أما في الحالة الحاضرة فقد استولى الأسد على مجلس الشعب وكل المؤسسات التشريعية وجعلها أداة بيده.
التعليم والمناهج: تمَّ إدخال تغييرات جذرية في التعليم ليلاءم العهد الجديد، فحلت اللغة العربية محل العثمانية التركية حتى في المعاهد العليا، وتمَّ استبدال كثير من المعلمين وأساتذة الجامعة. وقد تفاعل المثقفون مع التغيير وبذلوا جهوداً مضنية في تعريب المصطلحات، ووضع المناهج الجديدة و كتابة الكتب للطلاب.
الجيش: شكلت قوات الثورة العربية التي دخلت سوريا مع الحلفاء نواة الجيش السوري الجديد، على الرغم من أن أغلبية تلك القوات كانت من غير السوريين ضباطاً وجنوداً، فقد تشكلت من الحجازيين والعراقيين والفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم، وعُهد لياسين الهاشمي إعادة تنظيم الجيش وكان عراقياً. كما تمَّ تعريب الرتب العسكرية والإيعازات، واستبدلت الألقاب القديمة. كانت بنية الجيش الجديد تختلف كلياً عن الجيش العثماني السابق، الذي ضُم العديد من ضباطه إلى الجيش الجديد لمهنيتهم، مع العلم أن معظم الضباط والجنود العرب قاتلوا في الجيش العثماني حتى نهاية الحرب. أما جيش الأسد فقد كان عصياً على التغيير وتورط في المجازر ضد الشعب السوري بسبب طبيعة بنائه ونواته الطائفية الصلبة، فلم يتأثر بانشقاق مئات آلاف من الجنود والضباط.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أجواء التفاؤل بالبداية الجديدة التي اجتاحت دمشق مع العهد الجديد رغم حالة البلاد المزرية بعد الحرب العالمية الأولى كما اليوم بعد الخلاص من النظام. كما أنه لا بد من لفت الانتباه لظاهرة يبدو أنها ترافق هذا النوع من التغيير، فقد تقاطر إلى دمشق كثيرون طالبين المناصب والوظائف في الدولة الجديدة وكان بعضهم مكوعين بكل معنى الكلمة كما اليوم. كما أن قسماً من طبقة الأعيان القديمة في دمشق وحلب اتخذت موقفاً عدائياً أو حذراً من العهد الفيصلي الجديد خوفاً على مصالحها، فكما قال محمد كرد علي نظر بعضهم إلى القادمين الجدد كغرباء حتى إلى الملك فيصل باعتباره حجازياً وبعض أعضاء الحكومة والجيش الذين كانوا من خارج سوريا. كما نظر بعضهم للقادمين بفوقية، قبل أن ينخرط الجميع في الدولة الجديدة ويفعل التاريخ فعله بلفظ من لا يقبلون بالتغيير.
تلفزيون سوريا
———————————–
إرث التمزق… من يرتب أوراق سوريا؟/ طارق علي
الإدارة الجديدة تواجه مزيجاً من الملفات المعقدة والشارع قلق من استئثارها بالسلطة وقراراتها المرتجلة
الجمعة 31 يناير 2025
من نافلة القول، أن حكومة تصريف الأعمال تجاوزت دورها المنوط بها دستورياً وسيادياً بحفظ الأمن والأمان وتسيير الأعمال المنصوص عليها في المواثيق الدولية، لتذهب أبعد من ذلك بكثير نحو البت بقضايا سيادية لا يمكن غض الطرف عنها.
“من يحرر يقرر”، جملة تجتاح الشارع السوري إلى أن باتت الأكثر تداولاً بين الناس وعلى منصات التواصل الاجتماعي بعد انتصار الثورة السورية. وعلى رغم أنها لم تصدر علانية كقول من مستويات الإدارة الجديدة الرفيعة، فإنها مورست فعلياً على مستويات متعددة من بينها الاستئثار بالسلطة والتعيينات، والسماح لحكومة تصريف الأعمال بتخطي دورها قولاً وفعلاً نحو قرارات لا يمكن البت بها إلا عبر سلطة شرعية، تستمد شرعيتها من الانتخابات ووجود دستور قائم وقوانين ومراسيم من مجلس شعب ومجلس قضاء أعلى وحكومة انتقالية.
كمن سيبقى أبداً
من نافلة القول، أن حكومة تصريف الأعمال تجاوزت دورها المنوط بها دستورياً وسيادياً بحفظ الأمن والأمان وتسيير الأعمال المنصوص عليها في المواثيق الدولية، لتذهب أبعد من ذلك بكثير نحو البت بقضايا سيادية لا يمكن غض الطرف عنها، وعلى رأسها تصريحات وزير خارجية تصريف الأعمال أسعد الشيباني في مؤتمر “دافوس”، حين تحدث عن خصخصة القطاعات ومن ضمنها الموانئ والمرافئ، وما ورد على لسانه من تطلعات تحتاج توافقاً شعبياً قائماً على أساس الاستفتاء على الدستور الموحد للجمهورية، والذي أشار قائد العمليات أحمد الشرع في لقاء سابق إلى أن كتابته قد تتطلب أعواماً.
ممارسات الحكومة الحالية باتت أكبر من أن تُحصى، ليس في إطار عملها واجتهاداتها بل وفي تجاوزها صلاحياتها، ومن بين تلك التجاوزات حل منصب المحامي العام والنائب العام ليحل مكانهما تسمية “رئيس العدلية”، وهي تسمية جديدة رافقها تسريح جملة من القضاة ونقل آخرين وهو ما يحتاج مجلس قضاء أعلى، لا سيما أن وزير العدل نفسه يواجه إشكاليات دولية مذ كان قاضياً شرعياً في إدلب وثبت عليه تلاوة حكم الإعدام على امرأتين بجرم “الدعارة”.
وضمن موجة التعسف تلك كانت صرف عشرات آلاف الموظفين من أعمالهم، من ثم إضافة آلاف العائلات الجائعة الجديدة، إلى جانب المجازر التي لا تزال ترتكب في مناطق متعددة من البلاد على أسس مذهبية، وآخرها في قرى ريف حمص الغربي والتي استدعت تدخلاً سريعاً من محافظ المدينة ومسؤوليها لتبيان الأمور، والقول إن جماعات منفلتة وصلت إلى المنطقة بعد خروج الهيئة هي من ارتكبت مجازر انتقامية راح ضحيتها أكثر من 50 شخصاً بين ضابط ومدنيين في قرية “فاحل” على وجه الخصوص.
دولة عدل لا ثأر
في الإطار تبدو الهيئة واعية لما تفعله، وهي التي تسعى قدر المستطاع إلى الابتعاد من الجريمة المنظمة وتنظيم صفوفها للابتعاد من شبح الإرهاب، والانخراط في سياق بناء دولة قال الشرع نفسه عنها إنها “دولة عدل وليست دولة ثأر”، وإن “الثورة انتهت مع تحقيق أهدافها”.
وعلى رغم ذلك فإن واقع الحال يقود إلى سؤال مركب، ماذا عن آلاف الجنود الأجانب الذين تمت ترقية نحو ثمانية منهم إلى رتب عقيد وعميد ولواء في الجيش السوري الجديد؟ وماذا عن رفاق الأمس وكيف سيكون سبيل التخلص منهم وهم الذين قامت قيامة أهل الساحل الأسبوع الماضي عليهم لوجود قطعة عسكرية لهم قرب مدينة جبلة؟ وهذه القطعة الأجنبية ارتكبت مجازر عشوائية عدة قبل أن يأتي أمر انسحاب الأجانب من الساحل، لذا وفي هذا الموضع بالضبط يبدو الشرع في مأزق خطر وهو الذي يسعى بكل ما استطاع إلى محو صفة الإرهاب الملصقة بتنظيمه وشخصيات الصف الأول منه.
ولأن “من يحرر يقرر” فإن تلك الأمور تحمل قلقاً كبيراً لمكونات متعددة من بينها المكون السني المعتدل الذي بات يصحو على جهاديين يدعون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشوارع، ويلصقون على الجدران منشورات حول ضرورة لباس المرأة الشرعي “النقاب”. وفيما يبدو الشرع ذاته معتدلاً في خطاباته وبياناته فإن الأمر على الأرض أكثر تعقيداً بكثير، فالرجل وجد نفسه فجأة يحكم بلداً فيه من التعقيدات ما يفيض على قدرة أنظمة قائمة بحد ذاتها.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فلابد في كل لحظة ومنعطف من النظر إلى الحقيقة الكامنة وراء كل ما جرى، ووراء سقوط النظام نفسه، فالأمر لم يكن معركة بالمعنى التقليدي، إذ لا يختلف سياسيان ومعهما التقارير الدولية على أن ما حصل كان عملية تسليم وتسلم، لم يقاتل جيش النظام المعارضة التي سيطرت على سوريا خلال 10 أيام من دون دماء تُذكر. وفي هذا السياق اطلعت “اندبندنت عربية” على وثيقة سرية مصدرها قناة “العالم” الإيرانية، وتوجه فيها فريقها ومكتبها الإقليمي في دمشق بعدم وصف المعارضة بـ”الإرهاب” مع عدم التركيز على أي تقدم للجيش إن حصل، وكان ذلك في السادس من ديسمبر (كانون الأول) 2024، أي قبل سقوط النظام السوري بيومين.
“سفر برلك” جديد
يقول الأكاديمي في القانون الدولي معاذ فطرة لـ”اندبندنت عربية” إن “السلفية الجهادية هي منهج بارز لدى معظم مقاتلي الفصائل، وهم الذين انطلقوا من إدلب ذات اللون الواحد حيث تقام فيها حدود الشريعة، نحو حكم مدن تمتلئ بالحريات الاجتماعية.
ويضيف “أولئك يحاولون فرض نمط تفكيرهم وحياتهم على المواطنين الآخرين، فإلى أي حد سيتحمل المجتمع السوري حال الخناق تلك وما يرتبط بها من تداعيات تحت مسمى حالات فردية متمثلة بالقتل والخطف والتنكيل ومصادرة الأملاك. إن أي حاكم يخشى من ثورة الجوعى ولكن ماذا عن ثورة تتعلق بالأمان؟ هنا تحديداً نتحدث عن مكون لا مرجعية له عكس بقية الأقليات المدعومة من طرف أو آخر، داخلي أو خارجي، بقوة ذراعه أو استقوائه بغيره، فأفضل ما تفعله القيادة الجديدة هو احتضان كل المكونات لمنع التلاعب بها وانقلابها وتجنيبها الإغراءات، ولا يظن الشرع أن السُّنة راضون عما يحصل، فالإسلام الشامي صوفي معتدل، والعالم اليوم أكثر انفتاحاً وتحرراً، ولا أعتقد أنه يريد (سفر برلك) جديداً يهدد البلاد كل لحظة في ظل التخبط ونقص الخبرات”.
الشرع الآن تحت المجهر المحلي والإقليمي والعالمي، وفي وجهه تعلو أصوات مطالبة بالحماية الدولية والتقسيم أو الفدرلة في أسوأ الحالات، وهو يعد بمؤتمر وطني جامع ومن ثم حكومة انتقالية خلال مارس (آذار) المقبل لا توحي المؤشرات أنه يجري العمل عليه، أو أنها ستنجح فعلياً في ظل انقسام الشارع بصورة هائلة.
يضاف إلى ذلك جملة من المشكلات تواجه الإدارة الجديدة أهمها ملف الجيش السابق، فماذا بعد أن أجريت تسوية لمعظمه، هل سيعاد من لم يثبت تورطه في الدماء للخدمة؟ وفي حال اتخذ قرار بالتسريح الجماعي فماذا عن رواتبهم التقاعدية؟ إنهم إذا حرموا منها سيزداد الجائعون مئات الآلاف من جديد.
وعلى صعيد بناء جيش، فحتى اليوم اجتمع وزير الدفاع في حكومة البشير مرهف أبو قصرة مع 70 فصيلاً وافقوا على الاندماج، ولكن كم فصيل تبقى؟ هذا ما لم تفصح عنه الإدارة الجديدة، وهل سيوافقون بفكرهم، أو في الأقل فكر بعضهم المتطرف الدعوي، وهم الذين قد يكفرون الشرع وحكومته في أية لحظة قادمة لأسباب صارت معلومة؟ والشرع نفسه أعلن انتهاء الثورة، ولكن ثورة الشرع قامت لإسقاط النظام فيما ثورة الجهاديين مستمرة حتى إقامة الخلافة.
علاوة على ذلك رفض الدروز والأكراد مبدأياً الانضمام للجيش حتى تتبلور فكرته وصورته في مرحلة لاحقة، وهو يبدو مطلباً محقاً لا سيما مع إصرار وزير الدفاع على ألا تنخرط أية جماعة في الجيش ضمن كتلة أو جسم واحد، بل إن يجري توزيعها على القطاعات، فيما لا يبدو للأقليات الأخرى دور يذكر أو مفاوضات تجري معهم.
كلمة ترمب النهائية
ويلخص المتخصص في العلوم السياسية حسين الجمل المشهد السوري بأن أكثر ما فيه إقلاقاً هو ملف موازنة الدولة المتهاوية، وملف قوى الأمن الداخلي الذين جرى حل وزارتهم السابقة “الداخلية”، والدولة الآن بأمس الحاجة إليهم لضبط الأمن وحالات الثأر، وغالبيتهم من مكون الأكثرية، وقد كان تعدادهم يبلغ نحو 80 ألف عنصر، مع ملف ضباط الجيش الحر المنشقين، وأين سيكون دورهم ومكانهم، وماذا عن توزيع المناصب في الحكومة المقبلة والتي ستخلق مشكلات جمة، يضاف إليها الضغوط الدولية لتنازع كعكة البلد المتوسطي الذي يرزح تحت رقابة آنية تتناهشها القوى الإقليمية والدولية، من دون رفع كامل للعقوبات الغربية في انتظار كلمة ترمب النهائية، التي يبدو أنها لن تتهاون مع رجال قاتلوا جنوده في العراق يوماً ما.
ويختم الجمل “يعلم الشرع كل ذلك، فإلى أي حد سينجح في إدارة تلك الملفات؟ وما خططه البديلة إن وجدت وهو أكثر العارفين بأنه استلم رقعة فاسدة، قد تتوالى عليها إدارات وإدارات قبل أن ينصلح الحال فيها؟”.
———————————-
ملء الفراغ الدستوري خطوة ملغزة للانتقال السياسي في سوريا/ مصطفى رستم
“الشرعية الثورية” منحت الشرع رئاسة مفتوحة الوقت والصلاحيات
الجمعة 31 يناير 2025
بعد أقل من شهرين على سقوط الأسد، تسمر السوريون مجدداً أمام شاشات التلفزة لمتابعة كلمة القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع الذي أطل بخطاب، كرئيس لمرحلة انتقالية بعد فراغ دستوري بعد سقوط النظام، وحل مؤسساته الدستورية والتشريعية، وأعلن أول رئيس بعد انتهاء حقبة حكم عائلة الأسد.
كسر هدوء مبنى الإذاعة والتلفزيون السوري المطل على ساحة الأمويين فجر الثامن من ديسمبر (كانون الأول) ضجيج اقتحام قوات الثورة السورية، حين دخلت غرفة “عمليات فتح دمشق” أستديو الأخبار، وأذاعت البيان رقم (1)، وظهر خلال بثه تسعة شبان أعلنوا سقوط بشار الأسد وتحرير السجون والمعتقلات.
وبعد أقل من شهرين على سقوط الأسد، تسمر السوريون مجدداً أمام شاشات التلفزة لمتابعة كلمة القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع الذي أطل بخطاب، كرئيس لمرحلة انتقالية بعد فراغ دستوري بعد سقوط النظام، وحل مؤسساته الدستورية والتشريعية، وأعلن أول رئيس بعد انتهاء حقبة حكم عائلة الأسد.
حفلة النصر
المتحدث باسم قيادة العمليات العسكرية السورية حسن عبدالغني أعلن، في حفلة النصر التي ضمت شخصيات عسكرية من الفصائل الثورية، تعيين أحمد الشرع رئيساً للدولة خلال الفترة الانتقالية، والرئيس الانتقالي الجديد سيتولى مهمات رئيس الجمهورية العربية السورية، ويمثل البلاد في المحافل الدولية، وتضمن إعلان عبدالغني أن “الرئيس مخول بتشكيل مجلس تشريعي موقت للمرحلة الانتقالية، يتولى مهماته لحين وضع دستور دائم ودخوله حيز التنفيذ”.
تعليق الدستور
كما أعلنت قيادة الثورة قرارات عدة منها تعليق الدستور، وحل كل من جيش النظام السابق والبرلمان و”حزب البعث” وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، وما يتبع لها من مؤسسات ولجان، ويحظر تشكيلها تحت أي اسم آخر. وأيضاً حل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام بفروعها وتسمياتها، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة تحفظ أمن المواطنين، كما تحل جميع الفصائل الثورية وتدمج بالدولة، واعتبر إعلان النصر الثامن من ديسمبر من كل عام يوماً وطنياً.
الخطاب الذي انتظره السوريون بفارغ الصبر يعد أول خطاب موجه للشعب السوري بصورة مباشرة على تطبيق “تيليغرام”، مما أثار استغرابهم عدم بثه مباشرة على الأقنية التلفزيونية، كما لوحظ الحضور العسكري البحت عدا شخصيات سياسية بالحكومة، ولوحظت أيضاً أمكنة فارغة خلال هذا الحدث فسرها مراقبون أنها قد تكون دعوات لشخصيات لم تحضر، وهذا ما يفسر أيضاً عدم حضور وفد من “قوات سوريا الديمقراطية” من الشمال والشمال الشرقي.
ملء الفراغ
وفسر الباحث في القانون الدولي فراس الحاج يحيى أن ما جرى “هو عملية ملء الفراغ الدستوري في سوريا منذ هرب بشار الأسد، وبالتالي هذا الإعلان أطلق الحياة الدستورية في سوريا، وعملية التنصيب تمت من جانب الفصائل العسكرية التي انتصرت في المعركة، وهي بمثابة مجلس عسكري موسع اختار شخصاً، ونصبه لقيادة المرحلة الانتقالية في سوريا ضمن عملية يمكن تسميتها بالشرعية الثورية المكتسبة من السيد الشرع والفصائل الأخرى”.
أضاف الباحث في القانون الدولي “عملية تنصيب الشرع كرئيس انتقالي لسوريا كان لها ثلاثة سيناريوهات، الأول ما شهدناه من جانب المجلس العسكري الثوري الموسع إن صحت التسمية، الثاني حضور شخصيات سياسية ومجتمعية ودينية وقانونية، والثالث حضور دولي، لكن تم اللجوء للسيناريو الأول تجنباً لأي انتقاد حول السيناريو الثاني قد يحصل من الشخصيات نفسها، وربما القوى التي قد لا تتم دعوتها، والثالث تم استبعاده خشية ألا يكون التمثيل السياسي على مستوى رفيع نتيجة الخوف من خروق أمنية قد تؤثر في سلامة الضيوف، وأيضاً الخشية ألا يكون الحضور على مستوى الحدث”.
انتهاكات وممارسات
في المقابل انتقد متابعون عدم إعلان الفترة الانتقالية وتحديدها بصورة صريحة وواضحة، مع خلو الخطاب مما يحدث في سوريا من انتهاكات وممارسات وصفتها الإدارة العامة بـ”الفردية”، وتوعدت المسلحين بالمحاسبة من دون أي ظهور علني لمجريات التحقيق حول أحداث حصلت في الساحل السوري وريف حمص، علاوة على ملاحظة أن الخطاب جاء بصورة عاجلة وغير محضر لها بالشكل الصحيح، وسبق وصول أول وفد رئاسي عربي، تمثل بزيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني العاصمة دمشق في الـ30 من ديسمبر الجاري.
ويمكن اعتبار الخطاب الأول لرئيس سوريا الانتقالي أنه أقرب إلى البيان رقم واحد الذي لم يلقه الشرع منذ وصوله إلى القصر الرئاسي، واقتصرت إطلالاته على استقبال الوفود العربية والأجنبية والمنظمات الدولية.
الجانب القانوني
وفسر الباحث القانوني الحاج يحيى الجانب القانوني للتنصيب قائلاً “القوانين والدساتير وضعت لتنظم العملية التشريعية في أوقات الاستقرار، وهي في حالة الثورات والنصر العسكري، كما حال سوريا، يمكن اللجوء للعرف القانوني والدستوري والقياس على السوابق التي حصلت في سياق مشابه، على سبيل المثال في فترة الانقلابات العسكرية في سوريا، منتصف القرن الماضي، كان يحصل كما حصل أخيراً لناحية الإجراءات والتدابير الدستورية الطارئة لسد الفراغ الدستوري”، وتابع الحاج يحيى “باختصار الخطوة التالية بعد تنصيب الرئيس الانتقالي هي تشكيل مجلس تشريعي، وتعزيز السلطات التنفيذية والقضائية مع العمل بصورة متوازية، على إعداد دستور دائم للبلاد لضمان الانتقال إلى مرحلة دستورية مستقرة”.
—————————
ما بدائل الدستور وسقف المرحلة الانتقالية في سوريا؟/ ضياء عودة
30 يناير 2025
القرارات التي صدرت ليلة الأربعاء من قصر الشعب بدمشق ترسم أولى ملامح خارطة الطريق التي ستمضي بها سوريا الجديدة ما بعد سقوط نظام الأسد، وتثير في المقابل عدة تساؤلات جوهرية تتعلق بالدستور والسقف الزمني للمرحلة الانتقالية.
هذه المرحلة سيقودها أحمد الشرع، ومن المقرر أن تكون جسرا تنتقل عبره البلاد من الضفة التي تركها عليها الأسد إلى الثانية التي طالما حلم ونادى من أجلها السوريون، بعد اندلاع ثورتهم في 2011.
وشملت قرارات قصر الشعب التي أعلن عنها من جانب “إدارة العمليات في سوريا” وبحضور قادة فصائل عسكرية من وسط وشمال وجنوب البلاد إلغاء العمل بدستور 2012 وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية.
وبعدما تم تكليف الشرع بمهام رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية تمت الإشارة إلى القرار المتعلق بحل جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، على أن “تدمج في مؤسسات الدولة”.
القرارات نصت أيضا على حل مجلس الشعب المشكل في عهد الأسد واللجان المنبثقة عنه، مع حل “حزب البعث العربي الاشتراكي”، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان.
كما تم أيضا اتخاذ قرار بضم جميع أصول الأحزاب المذكورة التي تم حلها إلى الدولة السورية.
هل من بدائل للدستور؟
مطلع الثورة السورية كان الدستور المعمول به في سوريا هو دستور عام 1973، والذي عُدل مرتين، الأولى عام 1981، والثانية عام 2000 لتعديل السن القانونية لرئيس الجمهورية من سن الأربعين إلى الرابعة والثلاثين.
وفي أكتوبر عام 2011 أصدر رئيس النظام المخلوع، بشار الأسد، مرسوما تشريعيا حمل رقم 33 وقضى بتأليف لجنة إعادة كتابة الدستور.
كانت هذه اللجنة مكونة حينها من 29 عضوا، وبعد تشكيلها صدر مرسوم جمهوري آخر في فبراير 2012 وقضى باعتماد الدستور الذي يعرف بدستور 2012.
وبموجب قرارات قصر الشعب، ليلة الأربعاء، لم يعد هناك أي عمل بالدستور المذكور، وينطبق ذات الإجراء على بقية القوانين الاستثنائية التي صدرت في عهد الأسد المخلوع.
ويرجح المحامي السوري، عارف الشعال، المقيم في دمشق أن يتجه الشرع إلى إصدار “إعلان دستوري” في المرحلة المقبلة بنفسه أو قد يكلف “المجلس التشريعي” بهذا الإجراء.
وتم تفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، ويتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ.
ومن ناحية أخرى لا يستبعد الشعال في حديثه لموقع “الحرة” احتمالا آخرا وهو أن لا يصدر الشرع أي إعلان دستوري بحسبان أنه قد يحدد ويحد من الصلاحيات الخاصة به.
وتوجد عدة خيارات كبدائل دستورية بعد إيقاف العمل بدستور 2012، وفقا للمحامي والقانوني السوري، مازن درويش.
من بين هذه البدائل “إعلان دستوري” تتعدد فيه المبادئ أو إصدار دستور مؤقت، وهو الأمر الذي يتطلب وجود المجلس التشريعي أو الهيئة التشريعية.
ويوضح درويش أن إعلان المبادئ الدستورية قد يكون بناء على دستور 1950 أو 1953 وقد يقتبس أيضا من المواد المعمول بها سابقا في دستور 2012.
ويضيف: “الخيارات كثيرة من الإعلان الدستوري، وصولا إلى الدستور المؤقت الذي قد تصدره الهيئة التشريعية” المراد تشكيلها.
ماذا عن المجلس التشريعي؟
ولا تعرف حتى الآن الآلية التي سيتم من خلالها اختيار أعضاء “المجلس التشريعي”.
ومع ذلك فوضت القرارات الصادرة الشرع بتشكيله.
ويقول المحامي الشعال إن الشرع “له تفويض مطلق بتعيين مجلس تشريعي بدون التقيد بعدد أعضاء أو مواصفات أو نسب تمثيل، أو غيره”.
وهذا المجلس يتولى مهمة إصدار القوانين أو إلغائها أو تعديلها، لكن وبرأي المحامي السوري “لا يحق له إصدار المراسيم التشريعية”.
أما بالنسبة للسلطة القضائية، وعملا بأحكام المادة 65 من قانون السلطة القضائية، يعتبر الشرع رئيسا لمجلس القضاء الأعلى وينوب عنه وزير العدل.
كما يوضح الشعال أن الشرع وفي ضوء بيان انتصار الثورة وفي ظل عدم وجود أية وثيقة دستورية تنظم أو تحدد سلطاته يعتبر رئيسا للسلطة التنفيذية، ويتمتع بكامل الصلاحيات لممارسة وظيفته.
وبالتالي له سلطة إصدار المراسيم التنظيمية أو الفردية، وله سلطة كاملة على الجهاز التنفيذي للدولة لجهة التعيين والإقالة بدءا من رئيس الوزراء والوزراء والسفراء، والمدراء العامون، وانتهاء بأصغر موظف في أية دائرة حكومية.
هل من سقف للمرحلة الانتقالية؟
ولا يمكن تحديد الفترة الانتقالية وقد تطول أو تقصر ولكنها تنتهي بإقرار الدستور الدائم ووضعه موضع التنفيذ كما ورد بالبيان أمس، كما يشير المحامي، عارف الشعال.
ويوضح المحامي السوري درويش أن الإدارة السورية الجديدة يمكن أن تلزم نفسها بمدة زمنية معينة، على صعيد السقف الخاص بالمرحلة الانتقالية.
ومع ذلك يقول إن “انتهاء المرحلة وبشكل عملي يجب أن يحصل عندما يكون هناك دستور وانتخابات”.
وقد تتحدد المرحلة الانتقالية من عامين إلى 4 سنوات.
وخلال المدة المذكورة من المفترض أن يكتب الدستور وتجرى الانتخابات على أساسه.
وتسود ضبابية في الوقت الحالي عن الجهة التي ستتولى كتابة الدستور الجديد لسوريا، وما إذا كانت ستظل موكلة للجنة الدستورية التي تم تشكيلها في 2018 أم لا.
ويعتقد درويش أن إحدى وظائف السلطة الانتقالية قد تكون إنتاج دستور جديد وبالتالي إقراره بعد عرضه على الاستفتاء الشعبي.
وعندما يعرض على الاستفتاء وتجرى الانتخابات فيما بعد تكون المرحلة الانتقالية قد انتهت بشكل فعلي.
وسبق وأن أشار الشرع في تصريحات سابقة إلى أن تنظيم انتخابات في البلاد قد يتطلب أربع سنوات، وقال أيضا إن عملية صياغة الدستور قد تحتاج “أطول مدة ممكنة”، وحددها بثلاث سنوات.
ضياء عودة
الحرة
—————————–
الشرع رئيسا لسوريا بغطاء عربيّ ـ إقليمي
تحديث 31 كانون الثاني 2025
فاجأ أحمد الشرع، قائد «الإدارة السورية الجديدة» السوريين، أول أمس الأربعاء، بخطاب يبدد الغموض فيما يتعلّق بخطط هذه الإدارة، فيما يخص الحقبة المقبلة، بعد إعلان تنصيبه رئيسا للجمهورية العربية السورية في المرحلة الانتقالية، كما كان قد فاجأهم في 8 كانون أول/ ديسمبر الماضي وخلال 11 يوما من بدء عملية «ردع العدوان» بإسقاط أحد أعتى الأنظمة الاستبدادية في العصر الحديث. قرار التنصيب لم يكن، مع ذلك، مستغربا فليس من طبائع التاريخ أن تسقط منظومة عسكرية ـ سياسية أخرى فيتخلى المنتصرون عن السلطة، وخصوصا عند سقوط نظام كان قد استولى على مؤسسات الدولة وأفرغها إلا من التبعية للعائلة الحاكمة.
حسم الخطاب، إذن، الأسئلة التي كانت معلقة حول نوايا السلطات العسكرية التي أسقطت النظام السابق، بالنسبة لمشروعها السياسي، وأوضح للسوريين، الاتجاه الذي تمضي فيه البلاد، بحيث تنتظم القضايا السياسية، ضمن سياق معلوم، وأولويات متوقعة، بشكل يسمح لمختلف الأطراف بتحديد مواقفها من خطط المرحلة القادمة، سلبا أو إيجابا، موافقة أو اعتراضا.
بإلقائه خطابه بعد «مؤتمر إعلان انتصار الثورة السورية» كرّس الشرع، بأسلوب شديد البراغماتية، فكرة الانتقال من صفة زعيم في «المعارضة الإسلامية الجهادية» إلى صفة «قائد الثورة» ضمن المسار الذي بدأه السوريون عام 2011، مما يكسب قراراته «الشرعية الثورية» بانتظار حصولها على «الشرعية الدستورية» لاحقا.
بعد تحقيق أولوية «ملء فراغ السلطة» أعلنت السلطات السورية تعليق الدستور وتشكيل مجلس تشريعي جديد، والأغلب أن يتبع ذلك تشكيل حكومة تلبي مطالب دولية وعربية، بالتزامن مع أولوية الحفاظ على السلم الأهلي، وبدء بناء مؤسسات للدولة، مما يساهم في التنمية الاقتصادية، ويعزز علاقات البلاد بالجوار والخارج.
بظهوره باللباس العسكري، وإلقائه كلمته أمام جمهور أغلبيته باللباس نفسه، قدّم الشرع قرار تعيينه رئيسا ضمن فكرة «الانتصار يحمل المنتصرين مسؤولية» إدارة البلاد، ولا يُستبعد أيضا أن يكون هذا الظهور رسالة أيضا إلى الفصائل المعارضة المسلحة الكثيرة التي أعلن حلّها، بما فيها «هيئة تحرير الشام» التي كان قائدها، لضمها، بالتالي، في جيش سوريّ موحد.
أعلن الخطاب أيضا حل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، وجميع الميليشيات التي أنشأها، وهو قرار محتوم لأن هذه الأجهزة والميليشيات كانت «عصب» اشتغال النظام السابق، ولما يمثّله تاريخها من عسف واضطهاد وقمع رهيب للمواطنين، كما أقر «حل جيش النظام البائد، وإعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية» وهو قرار إشكاليّ إذا أخذنا في الاعتبار ما حصل في العراق بعد إسقاط نظام «البعث» ولكن المنطق الذي قاد إليه، على الأغلب، هو أن ذلك الجيش، فقد مع كل مؤسسات النظام المخلوع معناه، بتحويل النظام له إلى جهاز أمني مخصص لمحاربة مواطنيه، بإبعاده عن الحدود مع إسرائيل وتوظيفه في القتل وإلقاء البراميل والأسلحة الكيميائية على السوريين، بل والتحالف مع جيوش أجنبية شاركت في القتل، ولاحقا، تشغيله في صناعة وتهريب المخدرات.
قدم قرار تنصيب الشرع، وإعلان خطط القيادة الجديدة، أيضا، «خريطة طريق» للمنطقة العربية والإقليم والعالم، والأكيد أن التعاطي الإيجابي السريع مع عدد من الدول العربية الوازنة مع التغيير الذي حصل، وتوافد ممثلي الدول الكبرى للقاء الشرع، وإعلاناتها عن قرب تخفيف العقوبات الاقتصادية والسياسية، وبدء هبوط الطائرات ورجال الأعمال في مطار دمشق، كان لها دور كبير في اتخاذ هذا القرار، والإيذان بخطوات دعم أكبر، ومنها زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، التي جرت أمس الخميس، لدمشق، ولقاؤه الشرع، «لمناقشة إطار شامل لإعادة إعمار سوريا» على حد قول وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، أمس.
تزامن ذلك أيضا مع زيارة وفد عسكري تركي «لبحث الأمن والدفاع ومكافحة الإرهاب» وإشارات إلى أن الشرع سيقوم بأول زياراته الخارجية إلى دولة (أو عدة دول) عربية قريبا، ولقاء الشرع بموفد عن روسيا، وكذلك وفد فلسطيني، مما يشير إلى أن الرئيس الجديد يحظى بغطاء عربيّ ـ إقليمي، وتشجيع أوروبي، ويتعامل مع الملفات الحساسة الكبيرة بواقعية شديدة.
القدس العربي
———————————-
«هامش الحرية»: هل يجب علينا إقناع الجماهير؟/ محمد سامي الكيال
تحديث 31 كانون الثاني 2025
عانت الفئات، التي تصف نفسها اليوم بـ»المثقفين المدنيين»، من ضعف كبير في الحضور الاجتماعي والسياسي، إذ يبدو أن الناس أو الشعب أو الجماهير، أو أي تسمية أخرى يفضلونها، لا تستمع إليهم كثيراً. واقتراحات تفسير ذلك كثيرة، يمكن تلخيصها في مقولتين أساسيتين: «الإسلام» و»التعالي». المقولة الأولى، أي «الإسلام»، تفترض أن الشعب يميل تلقائياً إلى المتدينين والخطاب الديني، باعتبار أنه مكوّن أساسي أو جوهر ثقافي. في أحيان أخرى تؤكد بعض التحليلات أن «الإسلام»، قدّم للجماهير في المنطقة، أو في «الجنوب العالمي»، أيديولوجيا مقاومة، عبر عقيدة اجتماعية أصيلة، تعبّر عن ردة فعلهم، أو مظلمتهم، من الاستعمار، وأنظمة الاستبداد المرتبطة به؛ فيما تؤكد المقولة الثانية بأن فكر وأقوال «المدنيين» فيها تعالٍ عن الجماهير، لأنها لا تأخذ ثقافتها بعين الاعتبار، أو لأنها تفرض عليها أفكاراً مستوردة، أو بسبب تعقيدها وصعوبتها. كل هذا يدفع كثيراً من المتداخلين في الشأن العام إلى جعل خطابهم «أليفاً»، أو «مبسّطاً»، أو أقل «صدامية»، إلى درجة أنه بات، في أغلب الأحيان، مجرد إضافات وشروحات على هوامش خطاب الإسلام السياسي، ولا يلعب دوراً أكثر من تخفيف طابعه الأيديولوجي/الديني، وإكسابه القدرة على الوصول إلى دوائر، خارج جمهور الأنصار العقائديين.
قد يمكن نقد هذه الطروحات من زوايا كثيرة، مثل نقاش ماهية «الإسلام»، الذي يُقدَّم هنا بوصفه مقولة تفسيريّة أوليّة، في حين أنه نفسه بحاجة لتفسير، باعتباره مفهوماً شديد التركيب، على كل المستويات، ولا يمكن اعتباره أوليّاً أو جوهرياً بأي حال من الأحوال. فضلاً عن أن نسخه المسيّسة، المعروفة حالياً، تكوين معاصر، مرتبط بدول ذات دين، ورواياتها المؤسِّسة، وسياساتها في التحديث؛ وبتنظيمات حزبية وميليشياوية، لا مثيل لها في أي تراث إسلامي. كما يَسهُل تبيان مدى التعالي والتعقيد في خطابات الإسلام السياسي، التي تقوم على إعادة إنتاج الوعظ المنبري سياسياً (والمنابر لا يمكن أن تكون إلا متعالية، فيزيائياً ومعنوياً)، والسيطرة الحيوية على أبسط تفاصيل حياة الأفراد؛ فضلاً عن لغتها الصعبة، ذات الحمولة التاريخية والعقائدية شديدة الثقل؛ ومفاهيمها الأيديولوجية، التي يجب عدم تتبّعها في المصنّفات التراثية فقط، بل تعود أصول بعضها، بطريق مباشر أو غير مباشر، إلى أعقد نصوص الفلسفة الألمانية، وأدبيات «اليسار الجديد».
مع ذلك، فإن الأجدى في هذا السياق نقاش فكرة «الجماهير» نفسها، التي يجب أن يصل إليها المدنيون، لكي يقنعوها بشيء ما، وإيصال طروحاتهم إليها بطريقة تناسب ثقافتها ووعيها. ما مصدر هذه الفكرة حقاً؟
مبدئياً يوجد هنا افتراض بأن «الجماهير» واحدة، أو يجب أن تكون واحدة، ومهمة المثقف هي الالتحام بذلك الكيان، دون أن يكون له الحق بوجود ذاتي مستقل، سواء بوصفه فرداً، أو عضواً في فئة، وإلا سيكون «متعالياً»، أو «جسماً غريباً»؛ الأمر الآخر أن من حق تلك «الجماهير»، أن تلفظ أو تنبذ كل الأجسام الغريبة، أي كل ما لا يتفق مع ثقافتها، المحددة سلفاً بوصفها معطىً بديهياً. فشل المدنيين في تحقيق الالتحام، يدفعهم للقبول بما يتعرّضون له من نبذ وقمع، ومحاولة خفض سقف تعبيرهم أكثر فأكثر، واللجوء بشكل أكبر إلى المجاملة والمواربة، باسم «الخطاب المتوازن»، علّهم ينالون بعض الاعتراف والقبول. يمكن بسهولة تخمين مصادر هذا التصوّر، التي لا تزيد عن قوميات فترة التحرر الوطني، بمفاهيمها الأحادية عن الأمة والشعب، ولكن يبقى السؤال: بماذا يجب أن نقنع «الجماهير»، إن وُجِدت؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟
كيانات حسّاسة
القول إن مفهوم «الجماهير» اصطناع سياسي، من عصر قوميات التحرر الوطني، لا يعني أنه مجرّد وهم، بل بناء اجتماعي وثقافي حديث، نشأ بالتدريج عبر ممارسات سياسية وأيديولوجية، تتضمّن كلّاً من العنف المُقونن، والاستثنائي، الذي تتيحه «طوارئ» القانون، أو يتمّ خارج أي إطار قانوني تماماً. تندر في الثقافة العربية الإسهامات المعنيّة بنقد «الجماهير»، وتفكيكها، وتَتبُّع الممارسات المنتجة لها، بل ربما أعيد تعزيز هذه المقولة مع انتشار الأيديولوجيا الناشطية عالمياً، ووصولها إلى الثقافة العربية، عبر المنظمات غير الحكومية، المموّلة غربياً غالباً، والتي، للمفارقة، جعلت الجماهير «سكاناً أصليين» أو «مسلمين مهمشين»، من ضحايا «الكولونيالية» و»الرجل الأبيض» و»الشمال العالمي»، أو حتى الحداثة والتنوير.
المهم هنا، وبعيداً عن التتبع التاريخي لنشأة «الجماهير»، يُقدّم هذا الكيان الغامض على أنه أصيل جداً، ويعاني جداً، وله روح واحدة، ويجب الانتباه لكل هذا عند التعامل معه. وأول نقطة يجب مراعاتها، أن ذلك الكيان لا يقبل أي وجود سياسي أو ثقافي يستفزّ مشاعره، أو يزعزع سيادته التامة. بالطبع، ليس هذا إلا انعكاساً لسيرة الدول القومية/الدينية، وممارساتها الإلغائية، التي أوصلتنا إلى هذه الصيغة من «الجماهير».
«المثقفون المدنيون» لم يخرجوا يوماً، على ما يبدو، من الأفق الأيديولوجي لقوميات التحرر الوطني، وبالتالي فخطابهم «المتوازن»، هو نفسه «هامش الحرية» الذي سمحت به دول المنطقة، والذي كان دائماً شديد الضيق، محاطاً بتعليمات الإعلام الرسمي، وتدخلات الأجهزة الأمنية والرقابية والدينية، وقوانين «ازدراء الأديان» و»الآداب العامة»، ومزاودة قوى الإسلام السياسي على كل هذا، في عصر «الصحوة» وما بعدها، والتي دفعت الدول إلى مزيد من تضييق الهوامش. لم يتمرّد «المدنيون» على ذلك، ليس فقط لأنهم كانوا ضحايا القمع السلطوي، فذلك القمع لم يمنع كثيراً منهم من الاستمرار في معارضتهم للحكومات القائمة، ودفع أثمان ذلك، بل لأنهم بدورهم يستبطنون المنظور نفسه، ويبتغون «الجماهير». أي يؤمنون بذلك الجسم القومي الواحد، الذي يحق له، ويجب عليه، أن يلغي كل ما هو غريب عنه.
الإصرار على «التوازن»، أي التعبير عن الذات، ورؤاها ومصالحها ورغباتها، بأخفض صوت ممكن، وبأكثر القوالب تزلّفاً، ضيّع أشكالاً تعبيرية كثيرة، كان من الممكن أن تثري اللغة والثقافة العربية المعاصرة، ومنها الهجاء والتهكّم والتجديف. إذ أن معظم ما نعتبره «أدباً ساخراً» أو متمرداً، لا يخرج عن أساسيات قومية التحرر الوطني، يستهدف العدو الخارجي، وعملاءه من «طغاة يجلبون الغزاة»، أو «مستبدين يُفقرون الشعب»، ولذلك فهو ليس خارجاً عن «الجماهير»، وثقافتها الواحدة، بل مزاودة في الراديكالية القومية، وتمرّد الابن الغاضب على دولته الأبوية، لتقصيرها في تطبيق المبادئ التي ربّته عليها.
ما الذي يجب أن نقنع الجماهير به إذن؟ إنه بالضبط ما تعرفه وتؤمن به سلفاً، أي كل الحمولة الأيديولوجية الثقيلة للأمة. والأهم أن علينا الحرص على صفتها بوصفها «الجماهير»، أي الكيان الإلغائي الحسّاس، الذي تستفزّه الآخرية. وبالتالي فـ»الخطاب المتوازن»، الذي تُلحَق به عادة صفة «العقلاني» أو «الواقعي»، هو غالباً أن لا نقول شيئاً فعلياً، وأن نتفنن بذلك.
الإقناع بالآخرية
يفترض إقناع «جماهير»، من النوع الموصوف أعلاه، حرص المتكلّم على أن لا يبدو مُستَفِزّاً، وبالتالي أن يحرص على إخفاء آخريته. هكذا نجد أقليات طائفية، تتحدث وكأنها «أهل كتاب» بالمفهوم الإسلامي؛ و»مثقفين تنويريين» من غير المؤمنين، يزاودون في «الإصلاح الديني»؛ وديمقراطيين ليبراليين ويساريين، يتطيّرون من لفظ «العلمانية»، ويعوّضونه بكلمات ليس لها معنى واضح، مثل «المدنيّة»؛ وضحايا للعنف الديني والذكوري، يحيّون ميليشيات، ارتكبت علناً انتهاكات بحق النساء والأقليات والمجموعات غير النمطية جنسانياً.
مهما فعل كل هؤلاء، فسيصعب عليهم إقناع «الجماهير». لماذا سيستمع الناس إلى خطاب مخفّف، يبدو متناقضاً، أو حتى منافقاً، بوجود الخطاب الأكثر صراحة ومباشرة، أي خطاب المتطرفين القوميين/الدينيين؟ الأهم أن التزلّف الدائم، في «الخطاب المتوازن»، سيعطي «الجماهير» سلطات أكبر في الإلغاء، وسيجعلها تطالب بمزيد من تقزيم الآخرين، مراعاةً لحساسياتها. ربما كان الأجدى أن يركز كل أولئك «المدنيون» على إبراز آخريتهم، والتعبير عنها بأوضح طريقة. هذا قد يكون بداية لإقناع «الجماهير» بما لم تتعوّد عليه، ولم تعرفه سابقاً: إنها لا تعيش وحدها. هنالك آخرون، متساوون في حق الوجود والمعتقد والتعبير، يصعب جداً إلغاؤهم.
إنتاج المشترك
قد يبدو التركيز على الآخرية طريقاً للتشتيت الفئوي، أو حتى الطائفي. وتدمير كل المشتركات الممكنة بين البشر، الذين يعيشون ضمن حدود بلد واحد. إلا أن هذا الانطباع غير صحيح غالباً، فالحديث عن «مشترك» يفترض أولاً وجود فئات، مُعتَرف بتعدديتها، وتمتلك الحد الأدنى من استقلالها الاجتماعي الذاتي. تُنتج، من خلال تواصلها، بما يحويه من نزاعات وجدل وتوافقات، نوعاً من المعايير والقيم، القابلة لأن تصبح مشتركاً وطنياً، مُدستراً في عقد اجتماعي، يؤمّن المساواة والمشاركة والتعددية. أما مبدأ «الجماهير» الحسّاسة، فلا علاقة له بالمشترك، بل هو بالضبط الحياة تحت التهديد، أي أن تضطر دائماً أن لا تكون، كي لا تُعتَبر آخر مريباً، أي «متعالياً»، أو «منفصلاً»، أو «مُزدرياً». تصبح الدعاية للأفكار ممكنة، عندما يُسمح أولاً بوجود أفكار متعددة، وذلك لا يكون إلا بإطار دستوري، يضمن حرية المعتقد والتعبير، في دولة ليست لمعتقد ديني معيّن. إطار كهذا لن يكون منحة أو مكرُمة من «جماهير» تم إقناعها، بل عبر فرض حق الوجود، والآخرية، الذي سيفكك مفهوم الجماهير القومي الأحادي، ويدفع البشر المتعددين إلى إيجاد صيغ جدّيّة للتعايش، وتداول الأفكار والحجج والمرافعات، ضمن حيّز عام ديمقراطي، يقبل بالتأكيد كل صيغ التعبير «غير المتوازنة»، بما فيها أكثرها تهكّماً وتجديفاً. تلك الصيغ ضرورية دائماً لنقض العقلانية والتوازن المزيّفين، أي محاولات التطبيع مع أوضاع غير عقلانية وغير متوازنة، تحوي قمعاً أو استغلالاً أو إلغاءً، عبر الحديث عنها بطريقة مواربة، لا تستفز السلطات التي تفرضها، وجماهيرها.
قد يؤمّن التعبير عن الآخرية، ما هو أفضل من إقناع «الجماهير»: إعطاء ملايين البشر الثقة والقدرة على اكتشاف حقهم في الوجود، خارج نظام التعبير السائد. أي أن يعرف كل من لا يشعرون بأنهم «الشعب» أو «الأمة» أو «الدين الأشرف» أن هنالك قولاً آخر، غير التقيّة والتزلّف، والبقاء في ذمة أغلبية مُفتَرَضة، لا تتبدّل. إعطاء صوت لهؤلاء، وما أكثرهم، وما أشدّ صمتهم وخوفهم، هو ما قد يوصلنا يوماً إلى المشترك، ويخلّصنا من «الجماهير» و»الأصليين»، الذين لا وجود اجتماعياً وسياسياً مستقلاً لهم، بل مجرّد حشد تابع لطرف متغلّب، وتهديد دائم بالإلغاء، وربما الإبادة.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————
إرث «الحركة التصحيحية»: أيّ جيش يُحلّ اليوم في سوريا؟/ صبحي حديدي
تحديث 31 كانون الثاني 2025
إلى جانب تولية أحمد الشرع رئاسة سوريا خلال المرحلة الانتقالية وتمثيل البلد في المحافل الدولية، أصدرت إدارة العمليات العسكرية سلسلة قرارات، هامة عموماً وبعضها لا يخلو من إشكالية، كانت غالبية الشعب السوري تتطلع إليها على مدى الـ54 سنة من نظام «الحركة التصحيحية» عموماً، و14 سنة أعقبت انطلاق الانتفاضة الشعبية في ربيع 2011 خصوصاً. بينها حلّ حزب البعث وجميع الأجهزة الأمنية، وأحزاب الجبهة الوطنية، و«جميع الفصائل العسكرية والأجسام السياسية الثورية والمدنية» مع دمجها في مؤسسات الدولة؛ كما تضمنت حلّ الجيش الذي زجّه نظام آل الأسد في حروب متعاقبة ضدّ الشعب السوري، فسقطت عنه الصفة الوطنية، خاصة خلال سنوات قمع الانتفاضة.
وهذه السطور حلقة أولى في نقاش القرارات الأخيرة، تتناول حال جيش النظام اعتماداً على تاريخه في ظلّ «الحركة التصحيحية» منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 وحتى انحلاله يوم 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، مع انهيار نظام بشار الأسد، وريث أبيه حافظ الأسد. ومن الإنصاف التنويه بأنّ النواة الفعلية لهذا الجيش بدأت قبل ذلك، في سنة 1963، مع «اللجنة العسكرية» الشهيرة التي ضمّت صلاح جديد، محمد عمران، عبد الكريم الجندي، أحمد المير، وحافظ الأسد؛ قبيل تصفية أمين الحافظ في انقلاب 23 شباط (فبراير) 1966، وصولاً إلى انقلاب الأسد الأب على رفاقه في حزب البعث.
وبعد أسابيع قليلة أعقبت انقلابه العسكري، سارع الأسد الأب إلى إعادة ترتيب الفرق الـ13 التي كان الجيش السوري يتألف منها (قرابة 325 ألفا، بين عامل وخدمة إلزامية واحتياط) فوزّع 9 منها على 3 فيالق تتبع لرئاسة الأركان، وأبقى 4 منها خارج هذا الترتيب:
ـ سرايا الدفاع: وأسند قيادتها إلى شقيقه رفعت الأسد، وتألفت من ثمانية ألوية مشاة ومظليين، وأسلحة ثقيلة تشمل الدبابات والحوامات والمدفعية الثقيلة، وامتيازات خاصة في الراتب والسكن والترفيع. وكانت تشكل ثلث كامل القوة البرّية في جيش النظام، ولعبت دوراً بارزاً في الدفاع عن النظام أثناء سنوات الصراع مع الإخوان المسلمين، 1979 ـ 1983، كما اشتُهرت بارتكاب العديد من الفظائع بينها مجزرة سجن تدمر الصحراوي في حزيران (يونيو) 1980 (تتراوح أعداد القتلى بين 800 إلى 1000 سجين). بعد محاولة الاستيلاء على السلطة، التي قام بها رفعت سنة 1984، حلّ الأسد الأب السرايا ووزّع عناصرها على الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والوحدات الخاصة.
ـ الوحدات الخاصة: بدأت كفرقة مظليين محترفة، ولعبت دوراً في الهجوم على جبل الشيخ خلال حرب 1973، لكنها كانت أيضاً أحد أبرز الوحدات العسكرية المكلفة بالدفاع عن أمن النظام، خاصة في حصار مدينة حماة واقتحامها وتدميرها سنة 1982؛ كذلك لعبت دوراً محورياً ضمن قوات النظام المنتشرة في لبنان، وسُجّل ارتكاب ضباطها انتهاكات صارخة وإدارة شبكات نهب وتهريب. ظل اللواء علي حيدر قائدها طوال 26 سنة، وحرص على تشكيل أفرادها الـ25 ألف عنصر من أغلبية علوية، مطعمة ببعض الأقليات البدوية من ريف محافظة دير الزور. وعندما صدرت عن حيدر إشارات امتعاض على عمليات توريث بشار، سارع الأسد الأب إلى إعفائه من قيادة الوحدات، في سنة 1988.
ـ الفرقة الرابعة: وتألفت من 3 ألوية مدرعة ولواء ميكانيكي، لكن مستوى تسليحها لم يكن يُقارن بأي فرقة أخرى بالنظر إلى أنها صُمّمت لكي تكون وريثة سرايا الدفاع والدرع الأوّل في الدفاع عن النظام، ولهذا فإن أكثر من 80٪ من عناصرها (قرابة 70 ألف مقاتل) انتموا إلى الطائفة العلوية، والنسبة الباقية تتوزع على الدروز والقليل فقط من السنّة. ورغم أن قائدها الرسمي كان اللواء علي محمد درغام، إلا أن الآمر الفعلي ظلّ العميد ماهر الأسد شقيق بشار، الذي تولى رسمياً قيادة الفوج المدرع 42 داخل الفرقة. خلال السنوات الأخيرة تحولت حواجز الفرقة، المنتشرة في مختلف الأراضي السورية، إلى منابع نهب وأتاوات وتهريب ومصادرة، كما كانت الجهة الأبرز في إنتاج وتصدير الكبتاغون، بالتعاون مع مفارز تابعة لـ«حزب الله» اللبناني.
ــ الحرس الجمهوري: أسسه الأسد الأب في سنة 1976 لحماية المقرّات والمواكب الرئاسية، وأسند قيادته إلى عدنان مخلوف، ابن عمّ زوجة الرئيس، ولا تنتمي الغالبية الساحقة من عناصره إلى الطائفة العلوية فقط، بل يتم انتقاؤهم عشائرياً من داخل الفخذ الكلبي الذي تنحدر منه عائلة الأسد، مع استبعاد منهجي لأبناء العشائر الحدادية الذين ينحدر منهم صلاح جديد مثلاً. وبعد حلّ سرايا الدفاع أحيلت منها أعداد كبيرة إلى الحرس الجمهوري، وفي مطلع الانتفاضة الشعبية سنة 2011 باتت الفرقة تتألف من ثلاثة ألوية ميكانيكية وفوجين متخصصين في الأمن.
وخلال عمليات تحضير بشار للتوريث، حرص الأسد الأب على إجراء مناقلات واسعة بين ضباط هذه الوحدات الأربع، تضمنت إحالة بعضهم على التقاعد، ليس لكي يجلب بدلاً عنهم ضباطاً أكثر إخلاصاً لبشار وطاعة له وانخراطاً في سيرورة التوريث فقط، بل كذلك لاستبعاد الضباط الذين ما يزالون على ولائهم القديم لقادة تمّ إقصاؤهم (رفعت الأسد، علي حيدر، علي الصالح، شفيق فياض…). هنا، أيضاً، لم تلعب العوامل الطائفية والعشائرية دوراً بارزاً في تحديد صعود الضابط أو عزله فحسب، بل كان للعائلة دورها الكبير أيضاً: على سبيل المثال، خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة، تمّ إحصاء 43 ضابطاً من عائلة خضور، و18 من عائلة مخلوف، و14 من عائلة بركات؛ في مواقع قيادية عليا أو حساسة داخل الفيالق والفرق والأفواج.
ولقد اتضح، سريعاً في الواقع، أن هذه هي بالفعل الوحدات العسكرية النظامية التي يُنتظر تكون الأخلص في الدفاع عن النظام، والأشرس في قمع المعارضة، والأشنع في تنفيذ المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان، تماماً كما هندس الأسد الأب وظائفها ومهامها. لكنها، في ضوء انشقاقات الضباط السنّة وتفكك الأفواج والكتائب النظامية، لم تكن كافية لإنقاذ النظام، وتوجب بالتالي تشكيل ميليشيات مسلحة ذات بُعد طائفي ومناطقي صريح على شاكلة «الدفاع الوطني» أو تشكيل «قوات النمر» بقيادة سهيل الحسن، وكذلك استقدام مقاتلي «حزب الله» اللبناني، وعشرات ميليشيات الشيعة من العراق، وضباط «الحرس الثوري» الإيراني، وصولاً إلى استقدام الجيش الروسي وتمركزه في مطار حميميم، وفي قلب مناطق الطائفة العلوية.
ومنذ أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أي بعد 54 سنة على تنشئة جيش «الحركة التصحيحية» اتضح سريعاً أيضاً أنه لم يعد يمتلك من أسباب البأس والسطوة والشراسة والحوافز مقادير الحدّ الأدنى المطلوبة كي يواصل الدفاع عن القلّة القليلة المتبقية من قياداته العليا، ذات الصبغة الطائفية غالباً، والفاسدة عموماً، والمرتهنة لطهران أو موسكو، والمتاجرة بالكبتاغون؛ خاصة في الهرم الأعلى، حيث دائرة الأسد الأضيق. ومع انحسار/ انكسار شوكة مناصري النظام من «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» اللبناني والميليشيات المذهبية العراقية، وانشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا وإدراكها أكثر فأكثر أنّ الأسد يمارس ألعاب الحواة الهواة بين إيران والسعودية وروسيا وأمريكا في آن معاً؛ توجّب أن يتفكك ما تبقى من قوام هذا «الجيش» وأن يذوب سريعاً بلا قتال ولا مواجهة.
كان بعض إرث «الحركة التصحيحية» الذي آن أوان طيّ صفحته، ليس مع جحافل الفصائل الزاحفة نحو حلب وحماة وحمص والعاصمة فقط، بل أوّلاً مع طلائع شهداء درعا يوم 18/3/2011.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
——————————-
سوريا ودروس العراق ثانية!/ يحيى الكبيسي
تحديث 31 كانون الثاني 2025
حدث أول تفجير بسيارة مفخخة في بغداد بـ7 آب/أغسطس 2003، أي بعد ما يقرب من أربعة شهور من سقوط نظام صدام حسين، أعقبه تفجير مبنى الأمم المتحدة ببغداد يوم 19 أب/ أغسطس، ثم تفجير بالنجف بتاريخ 29 أب/ أغسطس وأودى بحياة رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.
لا تعمل التنظيمات المسلحة بطريقة ميكانيكية، بل هي تعتمد على التنظيم وتحتاج إلى وقت لذلك، لاسيما أنها تنفذ عملياتها في بيئة تتسم بالانقسامات المجتمعية الواضحة، وتاريخ من الصراعات ذات الحمولة الطائفية، البيئة التي حكمت الدولة والمجتمع في العراق وفي سوريا أيضا خصوصا بعد اندلاع الثورة السورية وتحصّن النظام بطائفته.
صدر أمس في دمشق بيان إعلان انتصار الثورة السورية في أعقاب اجتماع لما أطلق عليه «الفصائل العسكرية والثورية» والبيان يخلو من معلومات تفصيلية عن أسماء هذه الفصائل أو طبيعتها! وتضمن جملة من الإجراءات الانتقالية من بينها قرارات إشكالية مثل: إلغاء دستور العام 2012، وإيقاف جميع القوانين الاستثنائية، وحل الجيش، وحل جميع الأجهزة الأمنية والميليشيات المرتبطة بها، وحل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية ومنع إعادة تشكليها تحت أي مسمى آخر، وحل جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية ودمجها في مؤسسات الدولة، وتفويض رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية إلى حين إقرار دستور دائم.
كتبت مقالة بعنوان «عملية الانتقال: سوريا والدرس العراقي» بعد أربعة أيام فقط من سقوط نظام بشار الأسد، قلت فيها إن على الإدارة السورية الجديدة أن تتعلم من من درس العراق ومن الفشل في بناء النظام السياسي، وبناء الدولة، وبناء القوات العسكرية والأمنية. لكن الظاهر أن السوريين لم يتعلموا منه!
فإلغاء دستور عام 2012 يعني أنه ليس ثمة «نص» يحدد طبيعة الصلاحيات والمسؤوليات، وليس ثمة محددات لطبيعة العلاقة بين سلطات الدولة، وليس ثمة «إطار ناظم» للدولة ككل، وهذا محض عبث! كان يمكن الإبقاء على الدستور مؤقتا، وتعليق بعض المواد الحاكمة منه، فضلا عن إلغاء القوانين الاستثنائية بشكل محدد ودقيق، وليس بكلام مرسل، على أن يتم ذلك من خلال المجلس التشريعي المؤقت للمرحلة الانتقالية الذي أعلن عنه، إلى حين إقرار دستور دائم.
أما حل الجيش والأجهزة الأمنية فهو تكرار لخطئية حل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية القرار الذي لا يزال العراق يعاني من تبعاته حتى بعد مرور 22 عاما؛ فتحويل عشرات الآلاف من الضباط والمنتسبين المدربين على السلاح إلى عاطلين عن العمل في سياق مجتمع منقسم بحدة، مع وجود البعد الطائفي في تشكيل تلك القوات العسكرية والأمنية، يعني عمليا خلق جبهة مضادة، بمعزل عن طبيعة علاقتها بالنظام السابق، سيكون لديها القدرة على التحشيد بالضرورة لاسيما أن ذلك ارتبط بدمج الفصائل المسلحة ذات الطبيعة الطائفية أيضا، لتشكيل قوات مسلحة وأمنية جديدة، وهو ما سينعكس على طبيعة سلوك هذه القوات أولا، وعلى طبيعة تعاطي «الآخرين» غير الممثلين في هاتين المؤسستين، أو الممثلين فيها بشكل صوري دعائي!
أما حل الأحزاب، ومنع تشكلها مستقبلا، فهو استنساخ آخر لتجربة الفشل العراقية، وليس بعيدا أن يتبع هذا الحل «اجتثاث» لأعضاء تلك الأحزاب، وهو لن يكون اجتثاثا ذا طبيعة طائفية وحسب، بسبب الطبيعة الطائفية التي حكمت حزب البعث السوري، بل تحشيد مضاد للبعثيين المجتثين من الطائفة السنية نفسها. وظاهرة «اجتثاث» الأفكار أثبتت تاريخيا أنها فاشلة بامتياز!
أخيرا فإن «تفويض» رئيس الجمهورية بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، دون أي محددات أو التزامات (صحيح أن هذه الفكرة تجنبت مأزق الانتخابات في ظروف غير طبيعية التي كرست فشل الدولة في العراق) وفكرة التفويض نفسها، والتي سبق أن استخدمها السيسي أيضا بعد انقلابه العسكري، تعني عمليا سلطة مطلقة لرجل واحد في تحديد «ممثلي» المجتمع السوري ككل، وفي تشكيل مستقبل دولة بأكملها، وهذا عبث آخر، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة في النهاية.
كان يجب أن يناط تشكيل هذا المجلس التشريعي بلجنة موسعة تضم معظم القوة المعارضة، المسلحة وغير المسلحة، تحدد الآليات التي تحكم تشكيل هذا المجلس ومهامه وصلاحياته. فرغم من العقلانية التي أبداها السيد أحمد الشرع، على الأقل كما أظهره خطابه السياسي. وعدم تحول عمليات الانتقام إلى عمليات ممنهجة وواسعة حتى اللحظة، فما زالت عمليات الإعدام الميداني خارج إطار القانون، وحالات الإخفاء القسري، حالات فردية كما تظهر ذلك الأرقام الواردة من سوريا (وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان لم تزد الحالات الموثقة لهكذا جرائم عم 204 حالة موثقة) لكن السوريين عموما لم يستفيقوا بعد من صدمة/ نشوة سقوط نظام بشار الأسد، فالمشكلات في الساحل السوري، وريفي حمص وحماة، والمشكلات المتلعقة بالدروز ومآلاتها في سياق التمدد الإسرائيلي في جبل الشيخ وريف القنيطرة، والمعضلات المتعلقة بالكرد وقسد، لاتزال قائمة ولم تُحل، وهذا يعني أنه ما زال من المبكر الحكم على تجربة الإدارة الجديدة، بغض النظر عن الدعم العربي الواسع لها، والتعاطي الإيجابي الأمريكي والأوروبي معها، لكن القرارات التي صدرت يوم أمس تبعث الشكوك حول الرهان على هذه العقلانية، وتفتح المجال واسعا أمام كل إمكانيات الانزلاق الكامل إلى استنساخ تجربة الفشل العراقية!
قبل يومين، وفي استعراض قامت به القوات الأمنية العراقية الرسمية، رسم العلم السوري إلى جانب العلمين الأمريكي والإسرائيلي على الأسفلت، لتدوسه أقدام تلك القوات. بالتأكيد لم يكن هناك قرار رسمي من رئيس مجلس الوزراء العراقي، أو من وزير الداخلية، بهكذا تصرف شائن، لكن الشاهد هنا هو تصرف القوات العسكرية والأمنية التي تشكلت بمعايير غير مهنية وظلت مرتبطة بمرجعياتها الحزبية والعقائدية، وتتلقى أوامرها من جهات لا علاقة لها بمراجعها الرسمية، وهذا كان نتيجة مباشرة لقرارات دمج الميليشيات في المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية، ونتيجة مباشرة لتطييفها، وكنا نتمنى أن يتعلم السوريون هذا الدرس ليتجنبوه!
كاتب عراقي
القدس العربي
————————
سورية… بين الجريمة والعقاب/ عائشة بلحاج
31 يناير 2025
ما تلا موجة الفرح بسقوط نظام الأسد من تداعيات وتفاعلات يثبت أن التعامل مع إرثِ الماضي، بعد فترة وجيزة من تحوّله إلى ماضٍ، عملية مفخّخة بالألغام التي لا تكترث بالنيات، وأفدحها الطائفية التي أجّجها النظام، ورعتها جهات أجنبية كثيرة.
ولعل الانتقام أوّل ما يخطر ببال الناس، بعد أي ثورة أو انتقال سياسي من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة جديدة، لأنّهم خسروا بسبب أعوان النظام أرواحاً وبيوتاً ومستقبلاً. وحتى لو فرّ بعضهم، فكثيرون منهم لا يزالون هناك، فأي نظام مستبدّ يعتمد على شبكة متداخلة من أدوات السلطة، وعلى نظام متعدّد الطبقات من أجهزة الأمن وخلاياها، لإحكام السيطرة، والتغلغل في عمق فئات الشعب، لخدمة هدف رئيس هو بقاء نظام الحكم. وفي خلايا الحكم هذه، هناك مسؤولون وعسكريون وشرطة ومخبرون… ولا يمكن أن يفرّوا جميعاً.
لكن تجارب الانتقال الديمقراطي التي تلت سقوط أنظمة دموية في العالم، والتي نتمنّى أن تكون سورية نموذجاً منه، قامت على العدالة الانتقالية وليس على الانتقام. ورغم تداول مسألة المصالحة الوطنية بين أطراف سورية عدة، فإنها لا تحظى بإجماع. ولعلّ الخلاف ينبع من سوء فهمها؛ فهي لا تعني مسامحة المجرم، بل تقتضي تحقيق العدالة عبر محاكمة من ثبتت إدانتهم، بعيداً عن الثأر الشخصي، فانتقال السلطة من فئة مستبدّة إلى أخرى مُنتقِمة لا يؤدي إلا إلى ولادة استبداد دموي جديد.
وفي التجارب السابقة للعدالة الانتقالية، رأينا نماذجَ مختلفة للمصالحة الوطنية. ففي جنوب أفريقيا، نُقلت محاكمات أعوان النظام السابق عبر التلفزيون الوطني، فاستمع المواطنون إلى شهادات الضحايا ومعاناتهم. أمّا من لم تتوفّر أدلّة مادّية تدينهم بجرائم القتل أو التعذيب أو الاغتصاب، فقد اضطر كثير من الضحايا إلى تقبّل أنهم لن يُحاكموا أو يُسجنوا، لكن أصواتهم سُمعت، ووُثِّقت تجاربهم، في خطوة لإعادة الاعتبار إليهم، وتخفيف أحقاد الماضي.
في هذه المحاكمات العلنية تكشف شهادات الضحايا جرائمَ تشيب لها الرؤوس، ارتكبها مجرمون لا تخطر أفعالهم على بال الشيطان نفسه. فهؤلاء لا يطلب منهم النظام التفنّن في تعذيب الناس، بل حمايته، وهم يجتهدون في الباقي. في الأرجنتين، ما ارتكبه النظام العسكري شديد الفظاعة، من التعذيب والاعتقال السياسي إلى الإعدام بلا محاكمة، والاختفاء القسري لعدد هائل من الشباب والشابات. وما فعله نظام فرانكو بالإسبان، والحرب الأهلية التي اندلعت بسببه… هذا كلّه لم يمنع نشوء مجتمعات ديمقراطية قامت على تضحيات وعلى تنازلات من الأطراف كافّة التي ظلّت في الساحة بعد انهيار النظام السابق. سعياً إلى رأب الصدوع.
ربّما تختلف هذه التجارب، وقد لا تصل إلى ما فعله بشّار الأسد، الذي أضاف حدوداً جديدة في الأنظمة الدموية، لكنّها عائلة واحدة. كذلك، فالبدايات الجديدة لها قواعد عامّة، فلا بداية تقوم على الدم وتنتهي بشكل جيّد. فكم من أنظمة ديكتاتورية سقطت، لكن عمليات الانتقام التالية أدّت إلى انقسام المجتمع، وإلى الانتقال من عنف إلى آخر. وكلّ ما اختلف هو الجهة المعنّفة والجهة الضحية.
تواجه سورية الجديدة تحدّياً عاجلاً، وهو إعادة بناء أجهزة القضاء والشرطة، وتسريع إنشاء لجان العدالة الانتقالية، لإلقاء القبض على المجرمين بأسرع وقت، والمطالبة بتسليم الفارّين منهم من الدول المجاورة، لتخفيف حدّة الغضب الشعبي. مع الحرص على توفير شروط المحاكمة العادلة، وبدء عملية تعويض الضحايا، لا سيّما السجناء الذين لم يخرجوا من المعتقلات إلا بسقوط النظام، حتى يتمكّنوا من الاندماج في المجتمع، وعيش حياة كريمة قد لا تمحو آلام الماضي، لكنها تجعل الحاضر أقلّ قسوة. فأي دولة جديدة لا بد أن تقوم على إعادة بناء المجتمع جنباً إلى جنب مع مؤسّسات الدولة، لا أن تُؤجَّل هذه المهمة إلى ما بعد ترميم البنية الاقتصادية والاجتماعية. ورغم ارتباط هذه المجالات ببعضها، فإن الأولوية العاجلة هي احتواء الأثر الرجعي للانتهاكات، والحدّ من عمليات الانتقام الفردية، وتسريع تأسيس لجان المصالحة الوطنية. خاصّة أن العيون كثيرة على هذه التجربة، والأبواب التي تدخل منها الرّيح لا تنفكّ تنفتح.
العربي الجديد
————————-
في معنى زيارة أمير قطر دمشق/ معن البياري
31 يناير 2025
مما يلزَم أن يتكرّر قولُه إن التصوّرات الكلاسيكية عن أدوار الدول وفاعليّتها وأوزانها، عندما تُربط بالموقع الجغرافي والاتساع والثقل السكاني والنهوض الثقافي والامتداد التاريخي (والحضاري أحياناً)، صحيحةٌ في مراحل وسياقاتٍ سابقة، وما زال لها صحّتها في بعض أوجهٍ وبعض حالات، غير أنها لا تصحّ بالمطلق، ولا بالضرورة، فثمّة كثيرٌ يخرِمها، ويُبطِل الأخذَ بها نظريةً مسلّماً بها، وقاعدةً يُبنى عليها في التفسير والتعليل، فدولٌ عربيةٌ لا تُحرز هذه الخصائص (والمزايا)، صغيرة المساحة وقليلة السكّان وحديثة العمران، تتقدّم بفاعليةٍ في المشهد الإقليمي العربي، وتتصدّر في ملفّاتٍ كبرى، فيما دولٌ كبرى تنغلق في مُسبقاتٍ تعطّل حضورها وحركتها. … وهذه زيارة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، دمشق، أمس، لا تُقرأ خارج هذا المنظور، فسورية في حاجةٍ شديدة الإلحاح إلى روافع عربيةٍ تُساعدها على التعافي من أوضاع بائسة، ومقلقةٍ ربما. وزيارة قيادتِها، على هذا المستوى، في هذا الوقت، وغداة تدشين انعطافتها الحرجة إلى طوْرٍ انتقاليٍّ بالغ الحساسية، بادرةٌ عظيمة الإيجابية، معنوياً وسياسياً، فالعموم السوري يتلهّف إلى كل إسنادٍ لازمٍ من الدول العربية، على صعيد دعم إعادة بناء البلد، ليس فقط تنموياً واقتصادياً وللبنى التحتية ومرافق الخدمات، بل أيضاً لترميم الصلة الطبيعية بين سورية وأمّتها العربية أيضاً، بعد أن رهنها نظام بشّار للإرادتيْن الإيرانية والروسية.
إنْ يلزم أن نتذكّر أنّ قطر امتنعت عن إعادة العلاقات مع نظام الأسد، في غضون الهرولة العربية الواسعة إلى الزيارات وفتح السفارات وتعظيم العلاقات، لمّا تدهورت ذرائع العمل على تغيير سلوك ذلك النظام وكفّ شروره في تهريب الكبتاغون إلى الأردن والخليج، إنْ يلزَم هذا التذكير، وكذا بتسيير المعارضة السفارة السورية في الدوحة، فإنّ ما يلزم التأشير إليه أن الإسناد القطري لسورية الجديدة كان مبكّراً، ومُعلناً لا تأتأة فيه، وأن يكون الشيخ تميم أول زعيم (أو رئيس) دولة يزور دمشق بعد تحريرها من نظام الأسد، وبعد تسمية أحمد الشرع رئيساً للجمهورية العربية السورية، بعد أن كان رئيس الوزراء (ووزير الخارجية)، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أول مسؤولٍ بهذه المنزلة يؤدّي زيارة دعمٍ للسلطة القائمة في عاصمة الأمويين، فذلكما يعنيان ما يعنيانه في ما يتعلّق بأن قطر تؤكّد وجوب أن تتظلّل سورية بالغطاء العربي، فلا تكون ملعباً للآخرين، وفي ما يتعلّق بأن قطر تؤكّد دوراً لها، يلتقي مع جهود دولٍ أخرى، في سبيل أن تتخلّص سورية من عقوباتٍ ثقيلةٍ تعيق إقلاعاً اقتصادياً فيها. ولا يُغفل أن قطر تسيّر طائرات مساعداتٍ إنسانيةً إلى البلد المتعَب أسبوعياً، بالتوازي مع عملها على تأهيل مطار دمشق، وعلى تمكين مرافق صحيّة وتعليميّة. ومما يلزم عدم إغفاله أن الاتصالات القطرية السورية قائمةٌ منذ الأسبوع الأول لإنهاء نظام الأسد، فقد زار فيه مسؤولون دبلوماسيون وأمنيون دمشق والتقوا نظراءهم في الإدارة الجديدة، وينشط، في الغضون، طاقم السفارة القطرية هناك.
… ولكن كل جهدٍ قطريٍّ، بالتوازي مع جهود غير بلدٍ عربي، من أجل أن تعود سورية إلى مواطنيها، بعد أن خطفها نظام الأسدَين طويلاً، ومن أجل أن تنهض دولةً آمنةً ومُنتجة، لن يؤتي ثماراً له، من دون توافق ناسها ونخبتها وخبراتها وتشكيلاتها وقواها الحيّة على نظام حكمٍ رشيد، ومن دون أن تتمثّل في حكوماتها وفي السلطة المنشودة كل التلوينات الاجتماعية والسياسية والمناطقية، وهذه مهمّة السوريين وحدَهم، وليس أحدٌ في الخارج يؤدّيها. وعندما شدّد أمير قطر، في مباحثات قصر الشعب أمس مع الرئيس الشرع، على الحاجة الماسّة لتشكيل حكومةٍ تمثّل جميع أطياف الشعب السوري لتوطيد الاستقرار والمضي في مشاريع إعادة الإعمار والتنمية والازدهار، فإنه شدّد على ما يلزم ألّا تحيد عنه أعين السوريين جميعاً، في السلطة القائمة وفي السلطة التي ستأتي بها المؤسّسات قيد البناء قريباً. وعندما تسمع القيادة السورية من ضيْفها الكبير أن قطر “ستواصل وقوفها مع الأشقّاء السوريين لتحقيق أهدافهم التي ناضلوا من أجلها وصولاً إلى دولةٍ تسودُها الوحدة والعدالة والحرية، وينعم شعبُها بالعيش الكريم”، فذلك مما يُشيع اطمئناناً لازماً في سورية الجديدة، ويعني أن السوريين هم من سيواصلون العمل على تحقيق تطلّعاتهم، وقطر تساندهم بكل عوْن… والله الموفق.
العربي الجديد
——————————-
حزب الله العاجز عن استيعاب معنى سقوط الأسد/ شادي علاء الدين
2025.01.31
كان مشهد اندفاع أبناء القرى التي يحتلها الجيش الإسرائيلي للعودة إلى قراهم مع انتهاء هدنة الستين يوما لافتا في حيويته ومعانيه قبل أن يحاول حزب الله احتلاله وصبغه بملامحه وتفسيره على أنه يوم عودته إلى احتلال صدارة المشهد في البلد. برز التكليف الشرعي خلف واجهة الحدث ليلغي فورة الناس واندفاعهم ويعيد إدراج الحدث الباهر والجليل في سياقات محاولات الحزب المستميتة لإعادة احتلال الدولة من مدخل إحكام القبضة على الطائفة الشيعية. والذي لم يلقِ بالًا لسلامة الناس، بل قام بوضعهم في مواجهة عبثية مع آلة الحرب الإسرائيلية، ما أنتج حصيلة دموية من الضحايا الذين بلغوا الـ 22، بينهم جندي من الجيش اللبناني وسقوط عشرات الجرحى.
ولم ينتهِ هذا النهار حتى كانت مسيرات من الموتوسيكلات تجوب أحياء العاصمة بيروت، وتخترق لحظات التفاؤل التي سرت مع انتخاب رئيس جمهورية ورئيس حكومة مكلف، بالتهديد والتحريض الطائفي وهتافات “شيعة، شيعة”، قبل أن يعلن البيت الأبيض والرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استمرار السير في الهدنة إلى يوم 18 شباط، ويذعن الجميع، ويعلن الحزب عبر رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن موافقته التي يعتبرها شراءً للوقت لتنظيم الانقلاب على المسار الجديد الذي يحكم البلاد.
لم يستطع حزب الله استيعاب ما جرى في المنطقة بعد سقوط الأسد. قد يكون قادرا على التفاهم مع نهاية ارتباطه بعنوان الصراع مع إسرائيل، بعد أن فشلت كل محاولاته ليكون طرفا مفاوضا، على الرغم من كل التنازلات التي بذلها للجانب الإسرائيلي، والتي تُرجمت في اتفاقات ضحت بقسم كبير من ثروات لبنان النفطية وتفاهمات أمنية أبقت على صيغ صراع مسرحية، قبل أن تفرض الحسابات الإيرانية خوض حرب إسناد غزة، الذي كان فخا وقع فيه الحزب وعجز عن إدارته بالشكل المنضبط، فانفجرت الأمور في وجهه بشكل قلب كل المعادلات السابقة.
وكذلك قد يكون الحزب جاهزا للتعامل مع نهاية النفوذ الإيراني وشبكة الدعم التي كانت تؤمنها له إيران والتي تجعله ناطقا باسم محور عريض يمتلك مشروعا استراتيجيا وأيديولوجيا فاعلا وقدرات مالية وعسكرية مقرونة بولاء أيديولوجي عريض.
يعود ذلك إلى وجود البديل الذي طالما بقي جاهزا لتبرير كل مغامرات الحزب الانتحارية التي فرضتها عليه إيران، من المشاركة في دعم بشار الأسد ضد الشعب السوري، إضافة إلى حرب مساندة غزة. ليس ذلك البديل سوى بقاء سطوته على الدولة اللبنانية ومقدراتها والنطق باسمها، وتصوير هذا العنوان كثمن للتضحيات والدماء، وبيع فكرة فائض القوة والسطوة في الداخل للجماعة الشيعية للإبقاء على سطوته عليها والقدرة على توظيفها كقوة ديمغرافية تخدم مشروع السطوة وتدين له بالولاء وتؤمن استمرارية مشروعه في الداخل.
يتجلى وقع سقوط الأسد عليه بوصفه الضربة التي لا يمكن استيعابها. ويبرز ذلك جليا في التحولات العميقة في لغة حزب الله التي برزت في يوم العودة، من خلال مطالبة الدولة والجيش اللبناني بحماية الناس والحدود.
من هنا يفتح معركة السيطرة على الحصة الشيعية في الحكومة الجديدة عبر أسماء حزبية مباشرة وحقائب أساسية وسيادية، بينما يعلم تماما أن الجو لا يسمح بذلك، كما أن تولي شخصية مرتبطة به لحقيبة مثل المالية سيؤدي إلى حجب المساعدات الدولية وتعطيل مسار إعادة الإعمار وعودة الناس الفعلية إلى قراهم.
لا يزال يتصرف كما لو أن سقوط الأسد لم يحدث، مع أن أثره جلي وواضح وشامل، ونتائجه لا ترتبط بتقليص قدراته العسكرية وقطع خطوط الإمداد والتهريب والتمويل وحسب، بل في أنه أسقط العنوان الأخير الذي كان يستطيع من خلاله تصوير هزيمته الكبيرة أمام الجيش الإسرائيلي على أنها انتصار يمكن أن يُترجم في استمرار سيطرته على الدولة.
انهار مع سقوط الأسد ترشيح حليفه سليمان فرنجية للرئاسة، وفقد سطوته على رئاسة الحكومة، ولم يعد نبيه بري قادرا على إدارة المجلس النيابي على هواه. كما أن العنوان الأبرز والأكثر أهمية بالنسبة له يتمثل في ظهور مشروع الدولة كبديل عن المشروع الأيديولوجي والعقائدي وحتى المصلحي الذي كان يسيطر بواسطته على الطائفة الشيعية. نجاح العهد الجديد بعناوينه المرعية دوليا وعربيا من شأنه أن يسلبه السيطرة على الشيعة، وخصوصا أن مفاتيح الإعمار والإنماء والازدهار والاقتصاد بيد دول تعاديه وتتعامل مع العهد الجديد بوصفه المشروع الشرعي الواجب إنجاحه بكل السبل.
وما يعجز الحزب عن تمثله تماما أن سقوط الأسد طوى مرحلة كاملة انتقل معها الاستثمار في الأقليات، الذي كان مشروعا يضمن له التفاهم مع قوى خارجية فاعلة، إلى التفاهم مع الأكثريات ورعاية مصالحها. وتاليا فإن حلف الأقليات سقط في المنطقة ككل، ومشاريع التهدئة التي تمهد لإنتاج نظام عالمي جديد يتميز بتغليب الصراع الاقتصادي والتقني تفترض نهاية حاسمة لأزمنة الاضطراب والميليشيات والأنظمة لصالح عهود دول المؤسسات، ما يعني إخراج الحزب وأمثاله من كل المعادلات وبشكل حاسم.
يحاول الحزب التحايل على هذا الواقع عبر العنوان الشيعي، الذي يبدو عاجزا عن إدارته وتأمين متطلبات السيطرة عليه إلا من خلال عناوين البلبلة والصراعات، والتي لا يستطيع التحكم بنتائجها الكارثية عليه، والتي قد تسرّع من خروجه من الصورة. لقد أسقط سقوط الأسد زمان السطوة الميليشياوية على الدولة في سوريا وفي لبنان.
وعلى الرغم من الاضطرابات والصعوبات، فإن مجال العودة إلى الوراء وإلى ذلك الزمن صار مستحيلا، وليس أمام الحزب من سبيل للإبقاء على حد أدنى من الوجود سوى العودة إلى السياسة التي طالما فككها وألغاها والانخراط في دولة لطالما اجتهد في منع قيامها. وهذه الخيارات التي جعلتها مسيرته وبنيته العقائدية صعبة، ما لم نقل مستحيلة، تشكل مع سقوط الأسد النهاية المحتومة، والتي لا يستطيع تأجيلها سوى بصناعة مشهد كارثي أخير بدماء الشيعة ومزيد من تخريب البلد واستدعاء الحروب.
تلفزيون سوريا
——————————
إيران تُقايض مفاتنها البراغماتيّة بفصاحتها الثورية/ ندى حطيط
تحديث 31 كانون الثاني 2025
تقول وسائل إعلام بريطانيّة إن عَلَمَ الولايات المتحدة الأمريكيّة الذي رُسِم منذ سنوات طويلة على أرضيّة مدخل المجمع الرئاسي في العاصمة الإيرانيّة طهران – بحيث يضطر الداخلون والخارجون إلى الدّوس عليه كإهانة مستدامة للشيطان الأكبر – قد تمت إزالته بهدوء قبل أيّام من حفل تنصيب الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب رئيساً لولاية ثانية.
وأكدت الوسائل أن لا جهة رسميّة تطوعت بتقديم تفسير للقرار المفاجئ، الذي يبدو، وكأنّه رمز عميق المعنى لتحوّل نوعيّ مسّ منهجيّة طهران في ما يتعلق بالتعامل مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. فهل ابتلع النظام الإيراني فصاحته الثوريّة، وارتدى عباءة البراغماتيّة لعلّه ينجو بنفسه من تقاطع ترامب – نتنياهو القاتل؟
الشرق الأوسط أفق استراتيجي متغيّر
لم يخف مسؤولون إيرانيون في مستويات تأثير متعددة رغبتهم في تجنب بلادهم مواجهة سافرة تالية مع الولايات المتحدة بشأن المشروع النووي الإيراني، لا بل وتحدث بعضهم عن استعداد صريح لفتح الأبواب أمام صفقة شاملة مع الرئيس القديم / الجديد دونالد ترامب، تشمل في ما تشمله، شراكات في قطاعي النفط والغاز، بالإضافة إلى استثمارات مشتركة ممكنة في القطاعات الأخرى.
ولا بدّ أن رداء البراغماتية الذي تجتهد طهران كي تُرى وقد تلفعت به لم يتم نسجه بلا مبررات. إذا أن ضغوط الحصار الدّولى على النظام الإيراني – الذي تقوده وتراقب تنفيذه الولايات المتحدة – والممتد عبر عقود قد أنهك إلى حد بعيد بنيتها التحتيّة وأضعف قدراتها على استغلال موارد البلاد أو تلبية الاحتياجات المتزايدة لـ90 مليوناً من مواطنيها. كما أن المحادثات مع الغرب بشأن المشروع النووي الإيراني وصلت إلى حائط مسدود، ناهيك بالطبع من الانقلاب الصاعق لموازين القوى في الشرق الأوسط بعد الضربات المدمرة التي وُجهت إلى شركاء إيران الإقليميين في غزة ولبنان من قبل الدّولة العبريّة، وتدمير الطيران الإسرائيلي لأنظمة الدّفاع الجوي الإيرانية، بعد جولة قصف متبادل، لتصل التحولات ذروتها مع إسقاط نظام الأسد في دمشق ما قطع خط التواصل البري بين طهران وبيروت بشكل حاسم .
ولكن الأهم من ذلك كلّه شعور الارتعاد الذي يصيب المسؤولين الإيرانيين عندما يمر أمامهم شريط ذكريات علاقة طهران بواشنطن خلال ولاية الرئيس ترامب الأولى (2016- 2020).
طهران وترامب الأوّل: ذكريات مريرة
كان ترامب في ولايته السابقة قد تخلى عن الاتفاق النووي الذي وقعته طهران مع الغرب في عهد الرئيس الديمقراطيّ باراك أوباما العام 2015، وكثّف العقوبات الاقتصادية والدبلوماسيّة في إطار حملة لخنق النظام الإيراني وتجفيف موارده الماليّة، وكانت هناك مخاطر مرتفعة من إمكان تعرّض المنشآت النووية الإيرانية في أيّة لحظة إلى استهداف إسرائيلي / أمريكي مشترك، لا سيما بعدما أمر ترامب عام 2020 باغتيال الجنرال الإيراني المهم قاسم سليماني في بغداد، ولذلك كانت طهران من أشد عواصم العالم حبوراً عندما أسفرت الانتخابات الرئاسيّة نهاية عام 2020 عن سقوط ترامب وفوز متحديه الديمقراطي جو بايدن. ومع أن الأخير لم يكن كثيراً من الود للنظام في طهران، إلا أنّه خفف الضغوط على صادرات النفط الإيراني – التي يذهب أغلبها إلى الصين، وصمد أمام ضغوط مكثّفة من رئيس الوزراء الإسرائيلي لإطلاق هجوم استراتيجي إسرائيلي-أمريكي مشترك بهدف استئصال المشروع النووي بصفة نهائيّة.
هل يبرم ترامب صفقة العمر مع طهران؟
لم يكف النّظام الإيراني عن إرسال الإشارات الإيجابيّة إلى الغرب طوال الفترة الماضيّة، فتوافق مع المملكة العربيّة السعوديّة على نزع فتيل الخلافات بينهما وتوصلا إلى تسوية فتحت آفاق التنسيق إن لم يكن التعاون حول ملفات عديدة، وعظّم كذلك علاقاته بجاراته الخليجيات وبخاصة قطر والإمارات وعُمان، وأظهر حسن نيّة أيضاً عندما اضطر للرد على انتهاكات إسرائيليّة متكررة لسيادة البلاد من خلال هجمات محدودة الإيذاء ومحسوبة بدقة كي تتجنب إصابة المدنيين مع إعطاء إنذار مبكّر عبر القنوات الديبلوماسيّة مع الغرب، وتجنّب التورط في المعركة الأخيرة ضد النظام السوري وسحب قواته من هناك بسرعة قياسية، وهو الآن يتقصد إظهار مفاتنه البراغماتية لجلب أنظار ترامب تحديداً، مع إدراكه بأن الأوروبيين لن يكونوا في صف الإيرانيين هذه المرة – كما كانت الأجواء عشية توقيع الاتفاق النووي السابق- بل لديهم الآن قائمة شكاوى طويلة من سلوك النظام الإيراني تبدأ بالتوسع المستمر في النشاط النووي، ولا تنتهي عند مبيعاتها من الدرونات لروسيا، مروراً باتهامات من أطراف أوروبيّة عديدة بالتآمر لإثارة قلاقل في مجتمعاتها.
المفاجئ أنّ ترامب لا يبدو مستعجلاً هذه المرّة لفتح معركة مبكرة مع طهران، وثمة تلميحات من معسكره إلى أنه قد يكون على استعداد للمساومة، وقد كلف مبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف باستكشاف ما إذا كان توافق دبلوماسي مع إيران أمراً ممكناً، قائلا الأسبوع الماضي إنه «سيكون من الجيد حقا أن يتم حل (التوترات) مع إيران»، أي بشأن برنامجها النّووي. على أن آخرين يقولون إن تلك مناورة تستهدف إبقاء ورقة إيران في جيب ترامب بينما يدير الصراعات الرئيسيّة للإمبراطوريّة الأمريكيّة مع روسيا والصين. فإذا احتاج للضغط على نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقبول بتسوية ما تنهي الصراع في أوكرانيا فقد يلجأ إلى تقريب إيران مقابل تخليها عن العلاقة الخاصة بروسيا ما يزيد من عزلة موسكو، أو إذا قرر التصعيد مع الصين فسيخنق إيران لوقف صادرات النفط الرخيص التي تمد بها الصناعات الصينية بأقل من أسعار السوق.
صراع فيلة الشرق الأوسط: العرب في دور الحشائش
في موازاة الغزل الإيراني – الترامبي، ومع تمدد نفوذ تركيا في جوارها السوري والعراقيّ، وشعور إسرائيل بفائض من الثقة بعد تدمير قطاع غزة، وتفكيك المقاومات في الضفة الغربيّة، وتحجيم حزب الله في لبنان، وسقوط نظام الأسد في سوريا فإن الجليّ أن صراعات القوى المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط مستمرة وتجري تصفية حساباتها من رصيد الشعوب العربيّة التي تبدو أقرب دائماً للعب دور الحشائش في صراعات الفيلة. ولذلك فإن الدول العربيّة الفاعلة مطالبة الآن وأكثر من أي وقت مضى بأن تتخذ خطوات نحو بناء آليات تنسيق مكثف لتوحيد مواقف العواصم العربيّة تجاه الضغوط التي تتعرض إليها من مختلف الجهات والأطراف: حلفاء ومنافسين وأعداء. وبدون ذلك، فنحن مقبلون على أربع سنوات عجاف صعبة، وقد تتبعها أربع أو حتى ثمانٍ أخرى إذ أن الترامبيين يتعاملون وكأنهم باقون مطولاً ويريدون إعادة صياغة العالم وفق رؤيتهم الضيقة.
إعلامية وكاتبة – لندن
القدس العربي
——————————
حتى لا يكسر العدوان الإسرائيلي معنويات السوريين/ ياسر أبو هلالة
31 يناير 2025
كان لافتاً غياب القضية الفلسطينية، سواء في خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع في مؤتمر النصر أول من أمس، أو في خطاب القيادات العسكرية الأخرى التي مثّلت الشرعية الثورية التي نصّبته رئيساً. وهذا ليس مصادفةً، فمنذ دخول الثوار دمشق فاتحين في 08/12/2024، ورغم القصف الإسرائيلي الذي لم يتوقّف، والاعتداءات الإسرائيلية، والتصريحات الوقحة، ظلّ الصمت “السلاح” الوحيد الذي يردّون به.
شكّل الصمت مادّة خصبة لأنصار النظام الإجرامي المخلوع، وما يسمّى “محور المقاومة”، على اعتبار أن ما جرى في سورية مؤامرة أميركية إسرائيلية لكسر محور “المقاومة”، وهو ما ظلّ يُردَّد منذ انطلاق الثورة السورية. والواقع أن القضية الفلسطينية ظلّت تُستخدَم لقمع الشعوب العربية، وكأنّ سلب حرّيات الشعوب شرطٌ لتحرير الشعب الفلسطيني. لا يحتاج الشعب السوري، ولا الثوار الفاتحون، شهادةً لمعرفة موقفهم الحقيقي من القضية الفلسطينية. الشعب السوري تأسّس على أن قضية فلسطين هي قضية سورية، والمؤتمر السوري العام الذي عقد في دمشق وأسّس أوّل دولة سورية حديثة (الحكم الفيصلي) ضمّ بلاد الشام كلّها، وحضر ممثّلون عن فلسطين والأردن ولبنان المؤتمرَ السوري العام. وانخرط السوريون مبكّراً في أعمال المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتهم الشيخ عزّ الدين القسّام، ولم يتوقّف الشعب السوري عن المساهمة في المعركة، وشاركت قياداته السياسية في عام 1948 بكتائب مقاتلة، مثل المراقب العام للإخوان المسلمين مصطفى السباعي، وفوزي القاوقجي (جيش الإنقاذ)، وغيرهم. وبعدها في العدوان الثلاثي، برز اسم الاستشهادي جول جمّال.
كما استشهد سوريون مع المقاومة الفلسطينية من الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، مثل الشهيد عمر بلعة، ابن حماة، وغيره. حتى في ظلّ أسرة الأسد، لم يتردّد الشعب السوري في دعم القضية، وكما سمعتُ من الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، مباشرةً، إن أكبر دعم مالي من الشعوب العربية كان يصل من الشعب السوري.
وجدت الثورة السورية نفسها في مأزق، تماماً كما “حماس”، التي غادرت دمشق حتى لا تكون شاهدةً على جريمة بشّار الأسد، وحافظت على علاقاتٍ متوازنة مع إيران ومحور المقاومة. منذ اليوم الأول للثورة السورية، حُيّدت القضية الفلسطينية من النظام وداعميه من “محور المقاومة” ومن الثوار على السواء، وهذا كنتُ أشاهده بنفسي في المنطقة الجنوبية، التي كانت توجد فيها جبهة النصرة و”داعش” وفصائل الجيش الحرّ وحزب الله والمليشيات الإيرانية كلّها، فلم تكن لهم معركة مع إسرائيل. كانت القضية سورية، يريد الثوار تحرير سورية من النظام القمعي. وفي المقابل، كان النظام ومن سانده يريدون تطهير سورية من الثوار. وهنا لا علاقة لإسرائيل، فظلّت الجبهة مع الجولان نظيفةً بقرار الطرفَين.
حاولت إيران، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، إحياء الجبهة، لكنّ النظام كان قد اختار إسرائيل، كما كشفت مواقع إسرائيلية وأميركية كثيرة أن النظام السوري باع “محور المقاومة”، واختار المبادرة الإماراتية للدخول في المشروع الإبراهيمي. وهذا ما أكّدته صحيفة الأخبار المقرّبة من حزب الله في مقال لرئيس تحريرها إبراهيم الأمين. كما عرفتُ من قيادات في “محور المقاومة” أن الاتصال انقطع مع بشّار الأسد في آخر يومين، ولم يتمكّن الإيرانيون من العثور عليه، وانقطع الاتصال بينه وبين شقيقه ماهر، كونه انتقل إلى المربّع الروسي والتطبيع. واختار النظام نفسه ألا يخوض معركة “طوفان الأقصى”.
يسجّل للثوار أنهم اختاروا توقيت المعركة بعد أن وقّع حزب الله اتفاق وقف إطلاق النار، لم يطعنوا حزب الله في الظهر وهو يقاتل إسرائيل، مع أنه لم يتوقّف عن طعن الثوار في الظهر وهم يحرّرون بلدهم. تمكن مناقشة نظرية “تحييد إسرائيل” إلى أن تتمكّن من تحقيق أولوياتك، ولو افترضنا أن الثوار منذ دخلوا دمشق قالوا إن هدفهم استكمال المعركة مع العدو الصهيوني، فهل كانت النتيجة تحرير الجولان؟ أم ستكون نتيجة دخول الجيش الإسرائيلي مناطق استراتيجية، بما فيها مناطق النفط التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؟
اليوم، من خلال الأولويات الخمسة التي أعلنها الرئيس السوري الجديد، تبدو المعركة مؤجّلة، وليست معركةً ملغاة. هذا ما يتمنّاه الحريصون على الثورة السورية، فلا يمكن أن ينسى السوريون قضية فلسطين، تماماً كما لا يمكن أن ينسوا قضية الجولان، ومليون نازح من بينهم الرئيس الشرع. لا يمكن التفريط بمياه سورية، فشريان الحياة السوري مرتبط بجبل الشيخ وبحيرة طبريا.
الأولوية حالياً هي بناء سورية القوية، القادرة على تحصيل حقّها من العدو الصهيوني، لا يمكن خوض معركة قبل الاستعداد لها. خاض هؤلاء الثوار معركة التحرير ودخلوا دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول (2024)، لأنهم خطّطوا لهذا اليوم منذ سنوات. لا يمكن فتح معركة مع العدو في الوقت والمكان المناسبين للعدو، الذي يواصل يومياً استفزاز القيادة السورية الجديدة، ومماحكتها، سواء بالإجراءات في الأرض أم بالتصريحات. لا يريد العدو الصهيوني فتح صفحة سلام مع القيادة الجديدة، والعودة إلى “وديعة رابين” لحافظ الأسد، بقدر ما يريدون افتعال مواجهة كبرى يملكون فيها اليد العليا لتنفيذ مخطّطهم في تفكيك سورية، وإعادة تركيبها اعتماداً على حلف الأقليات. بكل وقاحة، تحدّث وزير الحرب الإسرائيلي كاتس عن التحالف مع “قسد” والدروز، وخرجت أصوات سورية علوية تطالب إسرائيل بالتدخّل لحماية السوريين من أبناء الطائفة.
ولعلّ أخطر وأوقح تصريح كان قبل يومين لوزير الأمن كاتس، نقلته هيئة البثّ الإسرائيلية، في أثناء زيارته قمّة جبل الشيخ: “جيش الدفاع الإسرائيلي سيبقى في قمّة جبل الشيخ وفي المنطقة الأمنية لفترة غير محدودة لضمان أمن سكّان دولة إسرائيل… لن نسمح لقوات معادية بالتمركز في المنطقة الأمنية جنوبي سورية من هنا وحتى محور السويداء- دمشق، وسنعمل ضد أي تهديد… سنحافظ على التواصل مع السكان الأصدقاء في المنطقة والتركيز على العدد الكبير من السكان الدروز”. وبهذا وسّعت دولة الاحتلال “منطقة نفوذها” حتى طريق السويداء – دمشق، وتهدّد بوقاحة الدولة السورية من أيّ تحرّك لبسط نفوذها ونزع السلاح في السويداء. قبل ذلك، وفوقه، شنّ العدو، مع رحيل المجرم الوضيع بشار الأسد، أكبر عدوان جوي له، فقد نفذ سلاح الجو الإسرائيلي في 11 ديسمبر/ كانون الثاني 2024 عمليةً جوّيةً واسعةَ النطاق في سورية، وُصفت بأنها “أكبر عملية في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي”، وشاركت فيها 350 مقاتلة استهدفت مواقعَ تمتدّ من دمشق إلى طرطوس. واستمرت عدّة أيام، وهذا كلّه رسالة واضحة: ممنوع تسلّح النظام الجديد.
تدرك القيادة الجديدة من دون تكرار أسطوانة النظام السابق (الردّ في الوقت المناسب) أن مهمتها الأساسية لتحرير سورية من نظام الاستبداد قد انتهت، وأن مهمّتها اليوم بناء الدولة السورية الجديدة من ركام المرحلة السابقة، والشرط لبناء سورية رفعها من قائمة العقوبات، وأيّ احتكاكٍ مع الجانب الإسرائيلي يعني بقاء العقوبات الأميركية على البلد برمّته من خلال عقوبات قيصر. ستكون استراتيجية الصمت والصبر والتجاهل صحيحةً من الدولة، رغم أن تصريحاتها في إطار القانون الدولي ليست ممسكاً عليها. في المقابل، ليس صحيحاً صمت أبناء الوطن الذين يستقوي بهم العدو. على المجتمع أن يتحرّك دعماً لوحدة دولته، تماماً كما حصل في قرى درعا التي حصلت فيها اعتداءات إسرائيلية. مطلوب وضروري أن تخرج أصوات درزية تدين وترفض التصريحات العدوانية، والاعتداءات في الأرض، وهذا يساعد الحكومة في استراتيجية الصمت.
أدق تعبير عن العدوان كان للوزير الأسبق فاروق الشرع الذي فاوض الإسرائيليين في عهد حافظ الأسد، عندما قال في اليوم التالي لهروب الأسد، لتلفزيون سوريا، إن هدف الاعتداءات غداة هروب بشّار: “كسر معنويات السوريين في هذه اللحظة الحسّاسة”، وأعتبر أحمد الشرع لاحقا أن لا “مبرر” بعد خروج القوات الإيرانية من سورية لهذه الاعتداءات. ودعا المجتمع الدولي إلى التدخّل وتحمّل مسؤوليته تجاه هذا التصعيد. وقال إن الوضع المنهك الذي خلّفه نظام بشّار الأسد لا يسمح بالردّ على هذه الاعتداءات، مؤكّداً أن الأولوية هي لإعادة البناء والاستقرار في البلاد.
يحفل أرشيف يوتيوب بتصريحات فيديو للقائد السوري عن تحرير الأقصى، وليس الجولان فقط، فضلاً عن حديث أرفع مسؤول شرعي في هيئة تحرير الشام الشيخ مظهر الويس عن “طوفان الأقصى”، ويدرك الإسرائيليون أن هذا لا يعبّر عن هيئة تحرير الشام فقط، بل هو إجماع سوري من أيّام الشيخ عزالدين القسام ابن جبلة. إذا كان الصمت خيار الدولة، فالمؤكّد أنه ليس خيار الناس.
العربي الجديد
————————
وقفة مع مناهج التعليم في سورية الجديدة/ فارس الذهبي
31 يناير 2025
اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي غضبًا بعد تسريب جزءٍ من التعديلات الرسمية على المناهج الدراسية للصفوف الابتدائية في سورية الجديدة، حيث وبعد أن كلّفت الحكومة المؤقتة السيد نذير القادري وزيرًا مؤقتًا للتربية والتعليم، بدأت الوزارة، وعلى الفور، بنشر مقارنات على موقعها للصفحات التي أجريت عليها التعديلات، فثارت ثائرة عدد كبير من المتابعين ومن الأهالي ضد هذه التعديلات الدراسية. في هذا السلوك وجهٌ صحيٌّ غاية في الجمال، حيث لم يك للجمهور السوري في العهد البائد، أو ما يسمى بالرأي العام السوري، أو الشعب، أي وجه من وجوه حق الاعتراض أيام عصابة آل الأسد، والتذمر أو الرفض، لأي تفصيل يمس حياتهم الخاصة والعامة، وبالتالي، فإن الاعتراض على تعديلات وزارة التربية والتعليم، هو تطور غاية في الأهمية.
في سياق متصل، انبرى عديد النشطاء لتبيانِ الفروق بين المناهج القديمة والمناهج الجديدة، علمًا أنه من نافل القول إن المناهج القديمة هي مناهج أيديولوجية عقائدية كرّسها نصفُ قرنٍ من قيادة حزب البعث للدولة والشعب، تم عبرها بعْثنة المجتمع بتفاصيله جميعها، بدءًا من الجيش، مرورًا بالوزارات والجامعات والنقابات، وصولًا إلى المناهج التعليمية وحتى اللباس الموحّد الذي يُفرض على الأطفال من سن السادسة وحتى تخرجهم من الجامعة. على كل حال، أَجرت حكومة النظام المخلوع عدّة تعديلات أيامنا اقتصرت على شكليات، مثل استثناء طلاب الجامعات من اللباس الموحّد أزرق اللون، مُكتفيةً بفرض اللباس الموحّد على طلاب الابتدائية والإعدادية والثانوية، وهو لباس عسكري زيتي اللون، مرفق بسدارة أو ما يعرف بِاسم (الطاقية العسكرية)، مع شارات الكتف الملوّنة لتمييز الصفوف، والحذاء العسكري شبيه الجَزمة، الذي نطلق عليه في سورية (بسطار)، والحزام العسكري.
وبعد إنجاز عسكرة الشكل واللون للطلبة السوريين، كان لزامًا، وفْقَ ذلك، ومِن وحيِه، عسكرة العقل، وتحويله من فكر إبداعيٍّ ابتكاريّ، إلى فكر ناقلٍ للمعلومة، يعتمد على تّكرار وحفظ وراء تكرار وحفظ وراء…، وصولًا إلى مرحلة تبلّد العقل الشاب، الذي ينبغي عليه أن يكون رافضًا متمردًا على كل سابق له، باحثًا عن كل جديد. مع وصول الأجيال السورية إلى مرحلة التبلّد المعرفي، عبر سنوات من التدجينِ التربويِّ والتعليميّ، المترافق مع كمٍّ هائلٍ من العنف والضرب والإرهاب، وصل حلم التغيير (الذي تحقق أخيرًا) إلى أمنية بعيدة المَنال تقترب من المُحال.
كل طالب سوري درس في مدارس الجمهورية العربية السورية خلال الفترة ما بين 1970 و2024، يعلم حجم العنف والعقوبات العسكرية التي كانت تطبّق على الطلاب السوريين، عبر ما يسمى بحصص التدريب العسكري، أو تلطيفًا ما أطلق عليه اسم “دروس الفتوّة”، حيث يطلب الأستاذ المُخصص للمادة (وهو عادة عسكريٌّ عاملٌ أو سابق)، من الطلبة أن يزحفوا/ يزحفن على بطنهم/ن مثل الجنود، أو يمشوا مشية البطة، أو أن يُمارَس بحقهِم/نّ إرهابٌ جسديٌ عبر إجبارِهم/نّ على قصِّ شعرهِم/نّ، أو وضع رأس الطالب/ة تحت حنفية الماء البارد، إذا سولت له/ا نفسه/ا أن يـ/تغير قصة شعره/ا أو أن يجعلها مختلفة عن رفاقه/ا أو عن القصة العسكرية التي سمح بها الحزب ومدرب الفتوّة العسكري. ولك سيدي القارئ أن تتخيل حجم الضرر النفسي والعقلي والسلوكي على الطلبة (ذكورًا وإناثًا)، الذين تعرضوا لمثل هذه الممارسات العنفية خلال مختلف مراحلهم/ن الدراسية، وصولًا للعام الأخير من المرحلة الثانوية، علمًا أن المنهاج الوحيد الذي رافق هذه المراحل جميعها هو منهاج الحفظ والنقل! حيث ركزت الامتحانات على فكرة حفظ المنهاج، ومن ثم إعادة كتابته حرفيًا فوق أوراق الامتحان. وعليه يتحصل الطالب على العلامات التي تزداد بمقدار حفظه للمنهاج وليس فهمه وإعادة تفسيره.
في التراث العربي يميز الباحثون بين مبدأيْن، النقل والعقل، حيث يقوم النقل على استعادة النص القديم الأساسي، ومحاولات تدويره وإعادة إنتاجه إلى ما لانهاية في تعطيل كامل لسلطة العقل والاجتهاد، حتى يبدو الإنسان مرددًا لأفكار غيره مثل الروبوت، أو الببغاء، حتى وإن كانت تلك الأفكار قد أُنتِجت قبل آلاف السنين، بينما يفتح تيارُ العقلِ الأبوابَ على مصراعيْها، فيُتاح له (أي العقل) أن يناقش ويفنّد كل فكرة وفاصلة وتفصيلة، بحثًا عن مطابقة زمنية للأفكار، والنظريات وحتى النصوص الدينية والسياسية والفكرية. لا مقدّس أمام العقل، فكل شيء يجب أن يمر عبر مبدأ الشك والتشكيك. بينما يرفض “أئمة النقل” هذه النظرية بشدة إلى درجة التهديد الوجودي عبر القتل والنفي في أقصاها، أو عبر العزل والتجفيف والتهميش في أدنى احتمالاتها. لأن الخيار الثاني يعني نهاية للخيار الأول. ولهذا تجد في البلاد التي تعبد الأيديولوجيا أشخاصًا يرددون أفكارَ غيرِهم من الساسةِ والمفكّرين وأقوالِهِم كأنّها كلام مقدس، يعدّلون حيواتِهم ومسالكَهم اليوميّة بناء عليها، ومنهم من يسمّيها ماركسية أو دينية أو ماوية أو بعثية. وهكذا صارت أقوال الرئيس السابق والد الرئيس المخلوع بشار الأسد أقوالًا مقدّسة تجد في سلم العلامات حظوة كبيرة. حيث يمكننا تتبع كلماته عبر السنين في المناهج السورية منذ الصفوف الأولى وحتى سنوات الجامعة الأخيرة.
بغض النظر عن كلمات (الأب القائد) وفراغها الروحي والفكري من أي معنى، تبدو المناهج السورية بالية وغير مجدية تكرّس عقلية النقل بشكل عبثي، فما هو جدوى تكرار مقولات الآخرين، أو حفظ طرق حل المعادلات الرياضية، أو تدريس كم هائل من المناهج لطلاب لن يجدوا فيها أي معنى، وقد لا تهمهم أو تثيرهم الهندسة، ولا تعنيهم مادة الجبر… أو علوم اللغة العربية، وهلمّ جرّا. فإن كان العالم قد وجد أجوبة للأسئلة الكثيرة المطروحة، فما حاجتنا للتعليم والبحث والتطوير والتجديد. ستجد على سبيل المثال حلًا واحدًا لمسألة فيثاغورس، التي بني عليها العالم، بينما قد تخفي عقول الأطفال لو قدر لهم حلولًا مختلفة قد تفتح آفاقًا جديدة في البحث على مستوى العالم، من أجل هذا تراجع ترتيب الجامعات والمدارس، واختفى الابداع في المدارس السورية، لأن القائمين عليها اكتفوا بما حققه الأولون.
حيث تبدى الصراع في تغيير الأسماء في المنهاج الجديد بعد سقوط النظام وكأنه كارثة، بينما أعتقد أن تغيير آلية التعليم في سورية هي تلك التي تحتاج إلى مراجعة، وتعليق، بأن تطلق العنان للتجريب وكسر التقليدي، وفسح المجال للطلاب لكي يتعلموا القواعد كي يكسروها لا كي يعبدوها، ويكرروها إلى ما لانهاية، فالابداع العلمي وليد التجريب.
لا أن يكتفي بتبديل جملة من مثل (عطاء الطبيعة) إلى جملة جديدة هي (عطاء الله)! أو استبدال أقوال الدكتاتور، بأقوال أي قائد آخر.
السوريون بحاجة ماسة إلى مراجعة أساليب التلقين وإيقافها، وإلى إتاحة المجال واسعًا لإِعْمال العقل لدى الطلبة، وحثّهم على المشاركة في تعليم أنفسهم، واختيار المواد التي يرغبون بتعلّمها، عبر هدم تلك الآلة الصمّاء المسماة جهاز التعليم، الذي أدى وعبر أزيدِ من ستين عامًا ماضية، إلى تصدّر مهنة الطب قائمة المهن المرغوبة في البلاد، بينما تحتاج السوق السورية إلى مهن ومهارات مختلفة، وعبر نسف عقلية التنافس والمنافسة على العلامات واعتبار (الشاطر) هو من يحصد أكبر عدد ممكن من العلامات، بينما يختفي الابتكار والابداع والاختلاف في الصفوف الخلفية.
أَسَرَت فكرة التلقين والنقل المجتمع بضوابط أنتجت خطوط إنتاج لا نهائية للأجيال وهو أمر يحتاجه المجتمع، بدون ادراك أن الاختلاف عبر إنتاج طفرات سيؤدي إلى حدوث تطور على المدى الطويل، وفرّخت مهندسين وأطباء وما إلى هنالك من مهن أساسية ولكنها تقليدية في النظام التعليمي، نظامٌ تعليميٌّ بائد، قوائمه العنف والحفظ دون إبداع، لم يكن يفسح المجال للتنافس إلا على أساس حصاد العلامات، بحيث تعود الجائزة الكبرى لمن يحظى بأكبر عدد ممكن منها، وهو أساس غير دقيق، والنقل والحفظ ليسا مقياس إبداعٍ، ولا عنوان شغفٍ، والفهم أوْلى من الحفظ الآليّ، والتأمّل والتدبّر أجدى من الانقياد القطيعيّ البليد. فرغبة الطالب في دراسة ما، قد تقوده إلى شغف قد يجعله مبدعًا فيها، أضف إلى ذلك عجز عدد غير قليل من الطلاب عن المنافسة في النقل والحفظ، ليحظوا بالعلامات، لأنهم ببساطة يعتمدون على الفهم وليس على الحفظ. إن عملية تعديل المناهج لا تعدو كونها عملية استبدال مفردات بمفردات.
في سورية الجديدة، فإن الحاجة تبدو ملحّة أكثر من أي وقتٍ إلى تغييرٍ كاملٍ في عقليةِ التّعاطي الرسمي مع المناهج التعليمية، واستبدالها جملة وتفصيلًا بمناهج قادرة على أن تواكب العصر والتكنولوجيا، وتعمل على تفعيل ميزة العقل والابتكار لدى الطلبة، لا أن تكرس أفكارًا مفروضة جبريًّا، مع ضرورة الاستفادة، طبعًا، من تجارب الآخرين على سبيل ضرب المثل لا اتخاذ القدوة، بحيث تعزز تلك المناهج الحديثة مفهوم الفرد والذات لدى الطالب وتركز على تفعيل عقله وتجربته الشخصية وما يراه من حلولٍ لأزمات الحياة. الإنسان هو ثروة المجتمع الحقيقية، فإن نهض، نهض المجتمع كلّه، وإن تبلّد تبلّدت حياة ذلك المجتمع. وليست المدارس والجامعات إلا مختبرات تُنتج للمجتمع روادًا وفاعلين فيه، مع ضرورة تعزيز المواد الإبداعية مثل الرسم والرياضة والموسيقى، لا التعامل معها على أساس أنها أوقات فراغ وساعات راحة. إن بناء العقل البشري هو أهم تحدٍّ تخوضه الحكومات القادمة، ولعلّه يتقدم أهمية كتابة الدستور نفسه، ولكن يبقى السؤال: كيف سيتمكن من خضع لآليات التعليم القديمة أن يقوم بِهدم تلك الآليات والمناهج وهي كانت سببًا في تكوين عقله؟ من هنا يأتي الجواب: إن الحرية ليست في القضاء على إرهاب الدولة السابق، بل هي تحرير العقل من كل شوائب الماضي، كي ينطلق نحو المستقبل.
ضفة ثالثة
——————————————
القطاع المالي السوري: مستقبل غامض تحكمه عوامل سياسيّة/ علي نور الدين
الخميس 2025/01/30
في كلام جميع المسؤولين السوريين، وخصوصًا أولئك المؤثّرين على المشهد الاقتصادي في البلاد، يمكن تلمّس التشخيص ذاته. لقد حُكمت سوريا لعقود، في حقبة الأسد الأب، بمنطق الاقتصاد الاشتراكي الموجّه. أي الدولة المركزيّة المهيمنة على عجلة الإنتاج والتوزيع. ولم تخرج من هذه الحقبة، في مطلع هذا القرن، إلّا لتدخل في منطق اقتصاد الأوليغارشية. أي اقتصاد القلّة المسيطرة، المحيطة بمركز الحُكم، التي تناهشت خيرات مرحلة “الانفتاح” المزعوم. أو بعبارة أخرى، احتلّت هذه النخبة الماليّة القطاعات الاقتصاديّة، في المساحة التي انسحبت منها الدولة، في عمليّة توزيع غنائميّة منظمة وممنهجة. هذا ما يحصده المجتمع حين يتم مزج اقتصاد السوق، ببيئة سياسيّة سلطويّة. أو حين لا يترافق “الانفتاح” الاقتصادي مع بديهيّات المفاهيم المؤسّسة لدولة القانون.
في كلام المسؤولين السوريين اليوم، الكثير مما يوحي بالارتداد عن الصيغة التي حكمت المرحلتين السابقتين، ولو لم نتلمّس بعد الترجمة العمليّة لتلك التصريحات. يمكن للمتابع بسهولة أن يلحظ تكرار العبارات نفسها اليوم: الاقتصاد المفتوح، اقتصاد السوق، فتح الأبواب أمام الاستثمار الأجنبي، انسحاب الدولة من عدد من القطاعات الاقتصاديّة، وغيرها من العناوين التي تذهب بالاتجاه نفسه. لسبب ما، ربّما سياسي، لا تُقال العبارة في تلك التصريحات. نحن نتحدّث عن اقتصاد “أكثر ليبراليّة”، وعن دولة أصغر وأقل هيمنة في السوق. قد لا يعني ذلك انسحاب الدولة من مهامها التنظيميّة، أو عن أدوارها في مجال الرعاية الاجتماعيّة. لكنّنا نتحدّث –في تلك التصريحات على الأقل- عن بيئة أكثر مرونة في التعامل مع القطاع الخاص.
مستقبل القطاع المالي السوري
يتّسع مفهوم القطاع المالي في أي دولة، ليشمل المصارف وشركات التأمين والشركات الاستثماريّة والبورصات وغيرها من المؤسّسات المعنيّة بتقديم الخدمات الماليّة. في سوريا بالتحديد، وتمامًا كما هو حال لبنان اليوم، يحتلّ القطاعان المصرفي والتأميني موقعًا محوريًا في هذا القطاع، لضعف أو شح الرساميل الموجّهة إلى سائر أنواع المؤسّسات الماليّة. وفي حالة سوريا، لم تكن البيئة السياسيّة أو الاستثماريّة -طوال العقود الماضية- ملائمة لنمو أنواع أخرى من المؤسّسات الماليّة.
من الناحية النظريّة، يُفترض أن تكون التحوّلات المستجدة، والنهج الاقتصادي الجديد (إذا صدقت التصريحات)، عامل إنعاش للقطاع المالي السوري في المستقبل، بما في ذلك القطاع المصرفي. فالقطاع المالي يعتاش أساسًا على حريّة حركة الرساميل، التي تتيح تكوين الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة، وتفتح باب الخدمات الماليّة والمصرفيّة على مصراعيها. لا يمكن تصوّر قطاع مالي مزدهر وفعًال، من دون الحد الأدنى من الانفتاح الاقتصادي، الذي تعد به أصلًا التصريحات التي يطلقها المسؤولون عن النظام الجديد في دمشق. ومن الناحية النظريّة أيضًا، ثمّة ما يتلاءم مع هذا المشهد المتفائل: تدفّق أموال إعادة الإعمار، وفتح الأبواب امام الاستثمار الأجنبي في القطاعات المتهالكة حاليًا، وانفتاح العديد من الأطراف الإقليميّة على النظام الجديد.
في كلام حاكمة المصرف المركزي السوري ميساء صابرين ما يعد أيضًا بتحوّلات في طريقة إدارة النظام المالي. كثير من الكلام عن تعزيز استقلاليّة المصرف المركزي، وإعطاء المصرف هامشًا أوسع في اتخاذ القرارات المتصلة بالسياسة النقديّة، بل وثمّة كلام أكثر جرأة عن إعداد إصلاحات تشريعيّة متصلة بعمل المصرف وصلاحيّاته. ما تقوله صابرين هنا، يعيدنا إلى نفس المشهد الذي ترسمه سائر تصريحات المسؤولين السوريين: المزيد من الهامش الممنوح للقطاع المالي، الذي يمثّل المصرف المركزي ركيزته الأولى في دولة مثل سوريا. والمزيد من انكفاء السلطة السياسيّة عن التدخّل في عمل هذه الأسواق. “فصل السياسة النقديّة عن التدخّلات الحكوميّة المباشرة”، كانت عبارة واضحة في تصريحات صابرين لوكالة رويترز.
لا حاجة للقول إنّ في كلام صابرين “انقلابًا” على المفاهيم التي حكمت عمل المصرف المركزي في زمن حزب البعث. لقد أقرّت سوريا عام 2001 قانونًا لإنشاء المصارف التجاريّة الخاصّة، بعدما كان القطاع العام المهيمن الوحيد على القطاع المصرفي السوري. وفتحت المجال أمام تأسيس 14 مصرفًا سوريًا خاصًّا منذ ذلك الوقت، منها 7 مصارف تأسست بمساهمات لبنانيّة. غير أنّ القطاع ظلّ خاضعًا طوال تلك الفترة لابتزاز أزلام النظام، الذي دخلوا مباشرةً أو مواربة برساميل تلك المصارف، ونهشوا من خيرات نموّها. لم يكن القطاع “حرًّا”، تمامًا كما لم يكن الاقتصاد السوري “حرًا” أو “منفتحًا”، وفق العناوين السابقة التي صاحبت وصول الأسد الإبن إلى السلطة. مجددًا: هكذا يكون “الانفتاح” الاقتصادي من دون “دولة القانون”.
تحديات السياسة والمستقبل الغامض
غير أنّ التفاؤل بالعناوين والتصريحات، تقابله كتلة من التحديات التي تنبع تحديدًا من الواقع السياسي، وعدم اليقين الذي يخيّم حول مستقبل الوضع السوري. وكي لا ننسى مجددًا، لقد جاءت مرحلة الأوليغارشية السوريّة، منذ مطلع هذا القرن، تحت عناوين مشابهة تحدّثت عن التجديد والانفتاح والإصلاح. ولم تكن انتكاسة هذا التحوّل إلا بفضل المتغيّرات السياسيّة، التي طبعت لاحقًا السياسة الاقتصاديّة بصورة مختلفة تمامًا عن العناوين التي يجري الترويج لها.
فعلى سبيل المثال، وقبل أن تتحدّث صابرين عن تعديلات تشريعيّة، ثمّة أسئلة عديدة حول الجهة التي ستملك حق إجراء هذه التعديلات، خصوصًا بعدما تمّ تعليق العمل بالدستور السوري وفقًا لآخر تعديلاته. وثمّة أسئلة أكثر حول شكل السلطة التنفيذيّة في سوريا، ومدى قدرتها على إحكام قبضتها الأمنيّة على كامل الجغرافيا السوريّة، قبل الحديث عن طبيعة السياسات الاقتصاديّة التي ستعتمدها. وأخيرًا، ثمّة أسئلة حول قدرة هذه السلطة على فرض رؤى قائمة على مفاهيم “دولة القانون”، التي سترعى عمل الاقتصاد المحلّي، بمعزل عن إرادة التغيير التي تملكها.
ثمّة قائمة أخرى من الأسئلة حول العوامل الخارجيّة، وخصوصًا تلك المرتبطة بالعقوبات على سوريا. حتّى اللحظة، لم تشمل الإعفاءات التي أقرّتها وزارة الخزانة الأميركيّة المصرف المركزي السوري نفسه، ولو أنّها سمحت بالتحويلات الشخصيّة المباشرة إلى سوريا بالدولار الأميركي. والمضي قدمًا في الانفتاح الاقتصادي، سيستلزم أولًا الرفع الكامل للعقوبات الغربيّة المفروضة على سوريا، لطمأنة الرساميل المتجهة إلى نظامها المالي. هل سيكون ذلك متاحًا؟ وإذا اشترط الغرب ترتيبات معيّنة تشمل إقصاء روسيا –ووجودها العسكري- من سوريا، هل سيفعلها النظام الجديد؟ وإذا فعل، هل سيكون لذلك تبعات على الوضع الأمني في سوريا؟
مسألة العقوبات على سوريا، ستكون المتغيّر السياسي الأوّل الذي سيحكم قدرة النظام الجديد على استقطاب الاستثمارات، وتثبيت التوازنات النقديّة الهشّة. لقد انخفض إنتاج سوريا من النفط الخام من 400 ألف برميل يوميًا قبل الثورة إلى 40 ألف برميل فقط خلال العام الماضي. واستعادة القدرة الإنتاجيّة، ومن ثم استعادة التدفقات النقديّة بالعملات الأجنبيّة، سيحتاج أولًا إلى استثمارات كبيرة في هذا القطاع. وهذا ما سيصعب تحقيقه قبل الرفع الكامل للعقوبات، ومن ثم استقطاب الشركات الأجنبيّة القادرة على تفعيل الإنتاج المحلّي. هذا الوضع، ستحكمه التحوّلات السياسيّة وحدها.
المدن
——————————-
هل يدير “أبو القعقاع” مؤسسات الدولة السورية الجديدة ؟/ ميساء بلال
31.01.2025
شخصية أبي القعقاع مع تنوّع الألقاب، صارت مديراً وحاكماً بأمره على رأس المؤسسات والإدارات الحكومية، تفكفك هذه الشخصية الفذّة مفاصل الدولة. وإذا كانت غاية هذه المهمة محاربة الفساد، فإن ذلك يتم بشكل صبياني لا يليق بنظام بيروقراطي تمّ تطويره على مدى سنوات عمل طويلة.
يهبط المساء برويّة على المدينة المترقّبة، دمشق.
أشاهد من وراء الزجاج عند مدخل المؤسسة الحكومية قبالة منزلي ثلاثة شبان مسلّحين، أكبرهم في العشرينات، رشّاش أوتوماتيكي على الكتف، يتبادلون بضع كلمات ويتّجهون نحو مدخل السوق المركزي. بضع طلقات سُمعت من بعيد وقطعت الصمت، ثم سكن الليل.
العتمة ما زالت سيدة ليالي دمشق الشتوية الطويلة. كل الوعود بإنارة الشوارع، كل أفراح سقوط نظام الإجرام، نظام الأسد، بدأت تنقشع عن بلد مهدّم، منهوب ولا يدري أحد إلى أين تتّجه به الأقدار.
وبعيداً من السياسة والطائفية وحملات التطهير ووقفات التنديد والمطالبة بالحقوق وتظاهرات التأييد، نعيش في أجواء تتشابك فيها في كل لحظة مشاعر الرعب مع الفرح العميق.
دخل الثوّار إلى دمشق وأُعلن سقوط النظام من وسيلة إعلام خارجية، لم نكن نحن في الداخل بحاجة الى انتظار لحظة السقوط، فقد سبقتها أصوات التكبير الحي من كل الشوارع وحركة توزيع المسلّحين على مرافق الدولة.
هكذا أخذتنا الهستيريا الجماعية الى حالة تتراوح بين الخوف والغبطة، سامحين لأنفسنا بالانجرار إلى تصديق حلم كان ينتظر في أعماق كل فرد منا، وها هو ينجلي أمام أعيننا بين يوم وليلة.
اختفت صور الرئيس المستفزّة، وسقطت تماثيله وتماثيل أبيه وأخيه بمشاهد متتالية متشابهة، وكأنها فيلم سينمائي في بلاد أخرى.
ها نحن نعبّر عن دواخلنا بكل صراحة من دون أي رقيب. أليس هذا الشعور وحده يستحقّ أن نتنفّس بحريّة ونحتفل؟ لكن فجأة، يخرج علينا شبيه شخصية أبي القعقاع من أعماق مسلسل تاريخي بذقنه غير المشذّبة وشاربه الحليق، بدشداشته البنية وشعره المرسل حتى الكتفين، ويعلن دمشق ولاية أموية.
شخصية أبي القعقاع مع تنوّع الألقاب، صارت مديراً وحاكماً بأمره على رأس المؤسسات والإدارات الحكومية، تفكفك هذه الشخصية الفذّة مفاصل الدولة. وإذا كانت غاية هذه المهمة محاربة الفساد، فإن ذلك يتم بشكل صبياني لا يليق بنظام بيروقراطي تمّ تطويره على مدى سنوات عمل طويلة.
وجود الفاسدين لا يعني اعتبار الجميع فاسداً حتى تثبت استقامته ، بل أن يُدان الفاسد حين يثبت فساده. لقد تعرّض قطّاع الموظفين لظلم شديد بتوقيف رواتبهم والبدء بالتحقق من وثائق تعيينهم الأصلية في عملية ماراثونية طويلة لا يحتملها وضعهم الاقتصادي الهشّ. والأخطر شريحة المتقاعدين الذين ما زالوا حتى هذه اللحظة ينتظرون صرف رواتبهم ويُطالَبون أيضاً يتقديم أوراق اعتمادهم وكل ما يخص تعييناتهم من جديد.
ما هكذا تورد الإبل يا أبا القعقاع!
نحن بصدد تغيير إيجابي، لا نريد أن نصدّق عكس ذلك، ولكن كيف تقنع مسنّاً بعمر الثمانين أن حرمانه من دخله الشهري لثلاثة أشهر متتالية، لا يعني أنه مدان ومخوّن، وأن عمله الذي أفنى شبابه فيه يتعرّض للمساءلة والانتهاك؟
فساد النظام السابق كان العنصر الأهم في تفكّكه ذاتياً في الأيام الأخيرة. ومع ذلك، فقد كان لدخول قوات جبهة تحرير الشام إلى المدن بطريقة سلمية وانضباط عناصرها، أكبر الأثر في الرضى عن السلطة الجديدة.
ترافق ذلك مع الامتنان لتخليص هذا البلد من حكم استبدادي ما زال يتربص بكوابيسنا الليلية حتى الساعة. لكننا لا نستطيع إلاّ أن نرتعب من نمطية شكل الدولة الجديدة وممثليها.
بدأت مخاوفنا تأخذ أشكالاً عدّة، بدءاً من تعيينات الحكومة المؤقتة لوزراء تربطهم صلة قرابة بالسيد أحمد الشرع أو من بطانته المقرّبة، مع الاستغناء عن أي خبرات موجودة في موقعها، مروراً بتسريح عناصر الشرطة وترك البلاد في حالة فوضى عارمة.
هذا عدا عن السرقات التي ارتبطت باقتحام ممنهج لمقرّات المنظمات وبيوت المسؤولين والضباط السابقين ومباني الأمن وتبديد وثائق مهمّة وسرّية ، وانتهاءً بما يسمّى “الحوادث الفردية”، وهي تجاوزات طائفية من قتل وتنكيل لم يعد يُخفى على أحد أنها ليست فردية على الإطلاق، وأن إدارة البلاد تغضّ النظر حين حدوثها وتعود لتعتذر عنها في ما بعد.
اجتمع ضبّاط الفصائل وراء الأبواب المغلقة، واحتفلوا بانتصار الثورة. ثم عيّنوا قائدهم رئيساً وحلّوا الدستور، حلوا الجيش، حلوا الأمن، حلوا الأحزاب، حلّوا مفاصل الدولة . ثم انضمّوا في جسم واحد بغضّ النظر عن تناحرهم والدماء التي سالت بينهم سابقاً معلنين ولاءهم للقائد.
هكذا أُضفيت عليهم الشرعية الثورية وتوضّح لنا بكل ديبلوماسية أنهم أسياد قرارهم وأن لهم الفضل في تعيين رئيس الجمهورية، مثلهم مثل أصحاب كل انقلاب عسكري مرّ على سوريا منذ فجر تاريخها السياسي الحافل بالانقلابات.
تبيّن أننا لا ننتمي إلى هذه الثورة ولا أهلية لنا للاحتفال معهم بانتصار ثورتهم. فقد تابعنا احتفالهم وقراراتهم على القنوات الإعلامية على شكل أخبار عاجلة، ثم انتظرنا خطاب الرئيس المقتضب ليبثّ بعد منتصف الليل، وبعدما يئسنا من محاولة العثور على مصدر ينقل لنا ما يحدث مباشرة.
يقول المثل الشعبي: “شربنا البحر وما حنغصّ بالساقية”. بمعنى أن من تحمّل الأهوال تحت حكم عائلة الأسد لن يستصعب إشكالات بسيطة كالسابقة.
التنوع الإثني في مجتمعات المدن السورية ومعظم قراها لن يسمح بتمدد دولة إسلامية متشدّدة، ولا يمكن أن تكون المظلومية السنية والتي امتدّ ظلّها على عقود مضت، وسيلة لفرض دولة ذات لون واحد ، مهما حاولت الألسن إثبات أحقيتها، ونحن ما زلنا هنا صامدين.
درج
————————
الشرع رئيسًا لسوريا.. التحديات والفرص/ سمير العركي
31/1/2025
بإعلان حسن عبد الغني، الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية السورية، تولي أحمد الشرع “رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية” والقيام بـ “مهام رئاسة الجمهورية العربية السورية، وتمثيلها في المحافل الدولية” وتفويضه “بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية، يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ” تكون الثورة السورية قد خطت خطوة كبيرة ومهمة صوب إعادة مأسسة البلاد عقب سقوط نظام بشار الأسد.
تنصيب الشرع رئيسًا لسوريا، جاء خلال احتفالية شهدها قادة الفصائل العسكرية، الذين شكلوا الجبهة العريضة للثورة على مدار قرابة 13 عامًا، إذ مثل هذا الحضور العسكري المكثف لمشهد التنصيب، رمزية لا تخطِئها العين، في كون القرار معبرًا عن تلك الفصائل.
أما ثاني أهم القرارات التي تم الإعلان عنها فهو حلّ “جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة”، فيما لم تكن بقية بنود الإعلان سوى تعبير عما تقرر بالفعل على أرض الواقع منذ دخول قوات الثورة في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 – الذي تقرر أن يكون يومًا وطنيًا من كل عام – مثل إلغاء العمل بدستور 2012، وحل مجلس الشعب المشكل في زمن بشار، وحل الجيش وجميع المؤسسات الأمنية، إضافة إلى حل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية… إلخ.
إعلان الشرع رئيسًا لسوريا، لم يكن فقط عنوانًا لمرحلة جديدة، بل حمل في طياته جملة من التحديات والفرص للرئيس الجديد، تحتاج إلى بناء رؤى إستراتيجية مستبصرة للعبور بسوريا الدولة والشعب من هذه المرحلة الحساسة.
التحدي الأول.. إعادة بناء الدولة
فالحقيقة التي يدركها الجميع الآن، أن نظام الأسد دمر المقومات الأساسية التي يجب توافرها لأي دولة، وأن واجب الوقت الآن هو إعادة بناء هذه المقومات من جديد.
فنحن إزاء مساحة جغرافية ذات حدود معترف بها دوليًا، يقطنها شعب ضارب في أعماق التاريخ، إضافة إلى وجود حكومة جاءت من رحم الثورة، وتوجت بإعلان الشرع رئيسًا للبلاد. لكنها تحتاج الآن إلى تدعيم سيادتها الداخلية والخارجية.
من هنا فإن الشرع سيحتاج إلى عدد من الإجراءات لتدعيم هذه السيادة وأبرزها التالي:
أولًا: إعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية جامعة متسقة مع أهداف الثورة، وقد وضع بيان “النصر” اللبنة الأولى في ذلك البناء، بالإعلان عن حل الفصائل العسكرية ودمجها في وزارة الدفاع، وفي تقديري أن تلك الخطوة تعد من الأهمية بمكان، إذ حمت سوريا من أي صراع فصائلي مدمر، مثل الذي شهدته أفغانستان عقب سقوط نظام محمد نجيب الله في أبريل/نيسان 1992. لكن تظل المتابعة لازمة لمنع نشوء أي حركة تمرد مسلحة.
ثانيًا: إعادة بناء المؤسسات المختلفة، وفي مقدمتها المؤسسات الأمنية والمجلس التشريعي، إضافة إلى المؤسسات التعليمية والإعلامية والاجتماعية وغيرها من المؤسسات التي تعمل على تدعيم السيادة الداخلية، وربط الشعب بالدولة الجديدة.
ثالثًا: لا يمكن الزعم بتحقق السيادة الكاملة دون بسط الحكومة سيطرتها على كامل أجزاء الدولة، ما يعني ضرورة إنهاء سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على المناطق التي تحتلها شرق الفرات، وتسليم سلاحها للدولة أسوة ببقية الفصائل.
رابعًا: ضرورة التوصل إلى رؤية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للجولان المحتل، ومع الاعتراف بصعوبة تلك المهمة في هذه المرحلة، لكن لا يمكن ترك “العربدة” الإسرائيلية شبه اليومية في الجنوب السوري دون حساب، لذا يمكن للشرع استهلال ولايته الرئاسية بالمطالبة بضرورة تنفيذ اتفاق “فض الاشتباك” الموقع عام 1974، ريثما تتهيأ الظروف للمطالبة بضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الجولان.
التحدي الثاني: دعم الاقتصاد السوري
ويمثل الاقتصاد تحديًا لأي حكومة مستقرة في العالم، إذ يعد بوصلة التحسن المعيشي، وبالتالي نيل الرضا الشعبي، وحدوث الاستقرار المجتمعي، فما بالنا بالوضع في سوريا، إذ تعرض الاقتصاد السوري لهزات عنيفة بسبب سنوات الحرب، أدت إلى تراجع الناتج القومي، وانعدام الاستثمارات الخارجية تقريبًا.
لذا فالتحدي أمام الشرع الآن يتمثل في إعادة تشغيل عجلة الاقتصاد، وتوفير البيئة الملائمة لجذب الاستثمارات، وهذه البيئة تشمل البنى التحتية من كهرباء وإنترنت وطرق ومواصلات وخلافه، كما تتضمن تهيئة بيئة آمنة ومستقرة.
كل هذه الإجراءات ستحتاج إلى مزيد من ضخ الأموال والمساعدات، الأمر الذي سيفرض على الشرع تعزيز حضوره الإقليمي والدولي، لجذب داعمين ومستثمرين في عملية إعادة الإعمار وتعافي الاقتصاد.
التحدي الثالث.. الهوية السورية الجامعة
تتميز سوريا بتنوعاتها العرقية والطائفية في ظل وجود أغلبية عربية “سنية”، فكيف يمكن بناء هوية جديدة لسوريا “ما بعد الأسد” تعبر عن هذا التنوع دون المساس باستقلالها أو خصائصها التاريخية المميزة لها؟
ففي الطريق إلى إعادة تشكيل هوية الدولة، سيواجه الشرع تحديات كبيرة تطمح إلى “دسترة” أي انفصال مستقبلي، إذ تطمح بعض المكونات العرقية والطائفية إلى كتابة دستور يعبر عن تطلعاتها، ولو على حساب الشعب السوري ووحدة وسلامة أراضيه.
فهوية سوريا “الجديدة” يجب أن تظل مرتكزة على الخصائص الدينية والثقافية واللغوية التي شكلت سوريا تقليديًا، مع عدم إنكار الخصائص المميزة لأي مكون آخر.
أيضًا فإحدى أهم خصائص هذه الهوية هي “سوريا الواحدة” غير المجزأة تحت أي لافتة من لافتات التجزئة المستترة مثل “اللامركزية” والتي يتم رفعها من أكثر من مكون، فيما لا يزال بعضها مثل قوات “قسد” محتفظًا حتى اللحظة بلافتة “الإدارة الذاتية”!
كما يجب ألا تغفل هوية سوريا “الجديدة” قيمًا أساسية وجامعة وأهمها العدالة والحرية والتوزيع العادل للثروة وغيرها من قيم ناضل من أجلها الشعب السوري طويلًا، وقدم تضحيات عظيمة لتكون عنوانًا لدولته الجديدة.
فرص يجب اقتناصها
في مقابل التحديات – التي أشرنا إلى أبرزها – توجد فرص مع “إعلان الشرع رئيسًا” لسوريا:
أولًا: التوافق التركي الخليجي
فمنذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد كان واضحًا أن هناك توافقًا تركيًا قطريًا سعوديًا على ضرورة دعم ومساندة الدولة السورية الجديدة.
وفي تقديري أن إعلان الشرع رئيسًا، لا بد أنه حظي بدعم ومساندة الدول الثلاث، داخل الإقليم أو على المستوى العالمي.
وهذا الدعم لا يعني بأي حال من الأحوال أن الشرع قد تم فرضه على الشعب السوري.
فالشرع ذو تاريخ معروف في الثورة، وقاد عملية ردع العدوان إعدادًا وتنفيذًا، ونجحت قواته في الدخول إلى دمشق بأقل الخسائر البشرية والمادية.
كما نالت رؤيته وإجراءاته التنفيذية رضا واستحسان معظم أطياف الشعب السوري، وبدت تصرفاته كرجل دولة مسؤول أكثر منها قائدًا عسكريًا منتصرًا.
من هنا فإن إعلانه من قبل الفصائل العسكرية، رئيسًا للبلاد إنما هو انعكاس لإرادة سورية خالصة.
لكن هذه الإرادة تحتاج إلى دعم للتسويق الخارجي، وهذا ما تقوم به الدول الثلاث المشار إليها. الأمر الذي يعدّ فرصة كبيرة يجب أن يستثمرها الشرع في تعزيز الحضور الخارجي سواء على مستوى الدول أو على مستوى المنظمات الدولية والإقليمية، بما يعود بالنفع على الداخل.
كما يجب أن يبني رؤيته المستقبلية على تحويل سوريا إلى شريك فعال لهذه الدول الداعمة، حتى لا تتحول بمرور الوقت إلى عبء عليها.
ثانيًا: امتلاك جماهيرية كبيرة
أظهرت ردات الفعل العفوية من الشعب السوري على “إعلان الشرع رئيسًا” امتلاك الرجل حضورًا جماهيريًا كبيرًا، عزز من شعبيته التي اكتسبها عقب دخوله دمشق.
هذه الجماهيرية الواسعة، تعد فرصة أمام الشرع، لتعزيز التماسك الداخلي من ناحية، عقب سنوات طويلة من الانقسام والحرب.
كما تعد فرصة للانطلاق بقوة صوب تحقيق برامجه ورؤيته، خاصة إذا نجح في تشكيل مجلس تشريعي من شخصيات سورية وازنة تمثل أطياف المجتمع وفئاته المختلفة.
ثالثًا: تعزيز حضوره “الإسلامي”
مني التيار الإسلامي بهزيمة فكرية وقيمية كبيرة إثر إخفاقه السياسي في تجربة الحكم عقب ثورات الربيع العربي 2011، الأمر الذي ترك آثارًا سلبية على التيار الواسع بجميع أطيافه.
ويمثل إعلان الشرع رئيسًا لسوريا، فرصة تاريخية لتعزيز حضوره الشخصي داخل التيار الإسلامي، وذلك عقب أدائه السياسي المميز، الذي تخلص به من أخطاء الإسلاميين الإستراتيجية، وأهمها التنظيماتية، وعدم المرونة السياسية، وافتقاد الرؤى الإستراتيجية.
وأيضًا نجاحه في بناء تحالفات إقليمية سريعة ومهمة، وذلك على عكس توقعات كثيرين بسبب خلفيته “الجهادية”، إذ استفاد من الظروف الإقليمية والدولية، في إعادة تموضعه مع دول مهمة ومؤثرة مثل تركيا، وقطر، والسعودية، وبدا حريصًا منذ اللحظات الأولى على تأصيل فكرة عدم تصدير الثورة، واعتبار سوريا داعمًا أساسيًا للأمن الإقليمي والعربي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
———————————
منطقة الجزيرة سلة غذاء سوريا وخزانها النفطي/ عطية خلف العطية
دير الزور والرقة والحسكة تضم 50% من النفط و64% من المياه و55% من القمح و78% من القطن
31 يناير 2025
تقع منطقة الجزيرة السورية في الجهة الشرقية من البلاد، وهي محصورة جغرافيا بين نهري الفرات غربا ودجلة شرقا، وتضم ثلاث محافظات، دير الزور والرقة والحسكة، وهي المحافظات المعروفة بالمحافظات الشرقية، وتبلغ مساحتها نحو 76 ألف كيلومتر مربع، ما يوازي 41 في المئة من مساحة سوريا. وتشكل منطقة الجزيرة جزءا مهما من الحدود الدولية السورية مع العراق شرقا، وتركيا شمالا، وكان استخدام اسم “الجزيرة” في سوريا محصورا، حتى خمسينات القرن المنصرم، للدلالة على محافظة الجزيرة، التي بدل اسمها الزعيم السوري فوزي سلو إلى محافظة الحسكة، وعلى محافظة الفرات التي قسمت قسمين، محافظة دير الزور ومحافظة الرقة.
وبلغ عدد سكان محافظة الحسكة قبل عام 2011، مليونا و593 ألف نسمة، وهو في تزايد بمعدل نمو سنوي 2,46 في المئة. ويشكل سكان الحسكة ما نسبته 7 في المئة من إجمالي سكان سوريا، وتبلغ نسبة سكان الريف 64 في المئة وسكان الحضر 36 في المئة من مجموع سكان المحافظة. ووفق تقدير المكتب المركزي للإحصاء في سوريا في منتصف عام 2014، بلغ عدد سكان المحافظة مليونا و277 ألف نسمة، ويقدر عدد النازحين من مناطق أخرى بنحو 148 ألف نسمة، كما بلغ عدد من غادروا المحافظة إلى خارج سوريا نحو 263 ألف نسمة.
ألقاب “الجزيرة السورية”
عُرفت منطقة الجزيرة السورية عموما، ومحافظة الحسكة خصوصا، خلال فترة حكم آل الأسد التي امتدت 54 عاما، وفي كل المحافل الرسمية والمحلية والمراسلات الحكومية، بأسماء عديدة، في مقدمتها “سلة غذاء سوريا وخزانها النفطي” و”الجزيرة الخضراء” و”أرض الخير والعطاء” و”عاصمة القمح السوري” وغيرها من العبارات الرنانة. ويطلق عليها في الوقت نفسه، في المفاضلات الجامعية والتوظيفية، اسم “المحافظة النامية”، وكذلك محافظتا دير الزور والرقة.
بقيت محافظة الحسكة مهملة ومهمشة دون أي خطط فعلية للتنمية والاستثمار وتعاني قصورا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية منذ وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم في عام 1970، في سياق ما تسميه أدبيات “حزب البعث” المنحل، بـ”الحركة التصحيحية المجيدة”، بما فيها من زراعة وثروة حيوانية كبيرة ومصادر للمياه ومنبع للنفط والغاز.
فهي محافظة حقول وآبار النفط لكن بدون مصفاة للنفط أو محطات لتوليد الطاقة والكهرباء، وهي محافظة زراعة القمح والشعير والقطن، لكن بدون معامل للصناعات الغذائية أو الأعلاف والأسمدة أو مصانع للألبسة القطنية، وموطن للثروة الحيوانية لكن بدون معامل لصناعة الألبان والأجبان وغيرها، حيث تُنقل كل خيراتها إلى المحافظات الأخرى.
كما تعتبر الحسكة أغنى الأقاليم السورية بالثروة المائية، لا سيما السطحية منها، إذ تقدر ثروتها السنوية بنحو 64 في المئة من مجموع مياه سوريا.
وفي ظل عدم وجود مشاريع فاعلة في هذا المجال المهم وغيره من المجالات، تغيب منطقة الجزيرة عن الخريطة الاجتماعية والاقتصادية السورية، مع ما يعنيه ذلك من تأثير على استمرارية سوريا كدولة على الصعد كافة.
الجزيرة السورية بيضة القبان
لم تسلم الجزيرة من الثورة السورية منذ بدايتها في عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، والتي كانت تركز في مجمل مطالبها على تحسين الوضع المعيشي والتطور الصناعي والاقتصادي والاجتماعي، وما نجم عنها من رد فعل السلطة باستخدام السلاح والمواجهة العسكرية لردعها واجهاضها، وما تخللها من تدمير للبنى التحتية وقطع الطرق العامة، وتوقف الإنتاج، ودخول دول عظمى على خط الصراع السوري، حيث كانت الجزيرة السورية بيضة القبان في هذا الصراع من حيث القيمة الاقتصادية والثروات، مما زاد معاناتها بشكل كبير، وتعرض المنشآت النفطية للتخريب والنهب وخروج مساحات واسعة عن الانتاج الزراعي وجفاف الكثير من ينابيع المياه وتوقف عشرات المشاريع عن العمل والانتاج.
فعلى سبيل المثل، بلغ إنتاج منطقة الجزيرة من القمح 2,15 مليون طن (55 في المئة من مجموع الإنتاج السوري) عام 2011، شكل إنتاج الحسكة منه أكثر من 50 في المئة. في حين مثل إنتاج الجزيرة من القطن نحو 523 ألف طن (78 في المئة من إنتاج سوريا الإجمالي ذلك العام)، وقد أنتجت محافظة الحسكة وحدها 35 في المئة من إنتاج سوريا الإجمالي من القطن.
عاصمة الزراعة في سوريا
يقول الدكتور عبدالله الفارس، الأستاذ في العلاقات الاقتصادية الدولية في جامعة حلب الحكومية، وابن محافظة الحسكة، إن المحافظة تتميز بكونها منطقة تعتمد بشكل أساس على القطاع الزراعي في شقيه النباتي والحيواني، بالإضافة إلى قطاع النفط والغاز. ويشكل القطاع الزراعي الركيزة الاقتصادية الرئيسة في المحافظة نظرا الى مساحات الأراضي الزراعية الواسعة وتنوع محاصيلها، خصوصا الاستراتيجية منها، وأعداد العاملين فيها، حيث تصل نسبة العاملين في القطاع الزراعي إلى نحو 85 في المئة من نسبة السكان (عاصمة الزراعة)، فضلا عن تأمينها حاجة العديد من المنشآت الصناعية الإنتاجية من المواد الأولية والمواد الخام، مما جعل القطاع الزراعي يشكل موردا مهما من الموارد الاقتصادية ويساهم بنحو 27 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السوري، ويؤمن حاجة الأسواق المحلية من المنتجات الزراعية والغذائية والسلع الاستراتيجية كالقمح والقطن والمواشي.
وتمتاز المحافظة بالمناخ والبيئة الملائمين للزراعة، كما تعد الشريان الأهم في إمداد البلاد بالقمح، المادة الأكثر حضورا في غذاء السوريين، حيث تشير الإحصاءات إلى أن المحافظة تنتج أكثر من 40 في المئة من حجم الإنتاج الكلي في سوريا فضلا عن الشعير والقطن، حيث وصل انتاج المحافظة من القمح عام 2011 إلى نحو مليون و700 ألف طن، في حين لم يتعد الانتاج في عام 2018 نحو 240 ألف طن فقط.
ووفقا للفارس، فإن أهم أسباب تراجع الإنتاج الزراعي خلال سنوات الحرب المنصرمة، الجفاف وانخفاض منسوب المياه نتيجة انخفاض منسوب الامطار، ونزوح الفلاحين من أراضيهم بسبب العمليات العسكرية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وتراجع المساحات المروية نتيجة ارتفاع تكاليف الوقود وانقطاع التيار الكهربائي، وعدم توفر الأسمدة وتراجع جودة البذور، ليشكل ذلك فجوة في الطلب المحلي على القمح الذي يعتبر الأهم بالنسبة الى ا لسوريين.
الثروة الحيوانية 37 في المئة من الإنتاج الزراعي
يشكل قطاع الثروة الحيوانية أهمية في الاقتصاد السوري حيث وصلت نسبته قبل بداية الثورة في البلاد إلى أكثر من37 في المئة من الإن تاج الزراعي في سوريا، وقدرت قيمته بـ3,17 مليار دولار عام 2012. ويتميز القطاع أيضا بجودة ونوعية المنتج فيه وبكونه يؤمن حاجة السوق المحلية من اللحوم والحليب ومشتقاته من جهة، ويمد العديد من الصناعات بالمواد الأولية كالصوف والجلود والشعر من جهة ثانية. كما يعتبر من القطاعات الواسعة الانتشار التي تشغل نسبة كبيرة من الأيدي العاملة وتعتبر مصدر دخل لغالبية السكان.
وهو يساعد في توفير العملة الأجنبية للخزينة، إما من خلال تصدير منتجاته، أو تقليل استيراد العديد من المواد الأولية التي يوفرها للقطاع الزراعي أو الصناعي وللسوق المحلية.
وتتميز محافظة الحسكة بارتفاع نسبة الثروة الحيوانية فيها نتيجة ارتفاع النشاط الزراعي. ويوجد في المحافظة أكبر قطيع للأغنام في سوريا بلغ حجمه قبل سنوات الأزمة أكثر من 3 ملايين رأس غنم وشكل 18 في المئة من عدد الأغنام في سوريا، وفقا للدكتور عبدالله الفارس.
منبع النفط والغاز
على الرغم من محدودية الإنتاج النفطي في سوريا، فإنه يساهم في دعم الناتج المحلي الإجمالي، حيث بلغ حجم الإنتاج السوري من النفط نحو 380 ألف برميل يوميا في عام 2011، وكانت سوريا تصدر نحو 180 ألف برميل يوميا. ويقدر إنتاج محافظة الحسكة من النفط بنحو 200 ألف برميل يوميا، أي نحو نصف إنتاج سوريا من النفط.
يوضح الفارس أن تراجع الإنتاج النفطي السوري بشكل عام، يعود إلى الصراع القائم، وشكل النفط والسيطرة على حقوله أهم اسباب الصراع المسلح في المنطقة. وباتت معظم الحقول النفطية في محافظة الحسكة خارج سيطرة النظام السوري، وانتقلت إدارتها إلى قوات “الإدارة الذاتية” التي يرأسها “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” المعروف باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي سيطرت على آبار وحقول مديرية نفط الحسكة في الرميلان والسويدية، في حين سيطر “تنظيم الدولة الإسلامية – داعش” على الحقول النفطية في منطقة الشدادي جنوب محافظة الحسكة (مديرية حقول نفط الجبسة بالشدادي). ولكن بعد طرد “داعش” من قبل قوات “الإدارة الذاتية”، وبدعم مباشر من قوات “التحالف الدولي”، أصبحت جميع الموارد النفطية تحت سيطرة قوات “قسد”.
ويقدر الإنتاج النفطي اليومي بنحو 90 ألف برميل، يتم إرسال نحو 20 ألف برميل منها إلى الحكومة السورية عبر الطرق البرية بواسطة شركة وسيطة تابعة لعضو مجلس الشعب السوري السابق حسام قاطرجي، فيما يتم بيع باقي الإنتاج إلى محطات تكرير بدائية (بسعر نحو 20 دولارا للبرميل)، وإلى إقليم كردستان العراق ومناطق درع الفرات ونبع السلام الواقعة تحت النفوذ التركي شمال سوريا.
أما بالنسبة الى الغاز، فتقدر الكمية الموجودة في المنطقة بنحو 13 في المئة من إجمالي الغاز المكتشف في سوريا، ويوجد معملان لإنتاج الغاز المنزلي، الأول في رميلان، وتصل طاقته الإنتاجية إلى نحو 12 ألف جرة غاز (تباع الجرة بـ 8 دولارات)، وتدير المعمل “الإدارة الذاتية الكردية”، والثاني في منطقة الشدادي وتديره الإدارة نفسها.
الإدارة السورية الجديدة تعتزم رفع مستوى إنتاج الطاقة عبر تطوير البنية التحتية والمصافي، مع التركيز على تأهيل مصفاة بانياس وزيادة قدرة الإنتاج.. هل ستتمكن #سوريا من استعادة عافيتها في قطاع الطاقة بعد سنوات من التراجع؟#اقتصاد_الشرق pic.twitter.com/VVuMrqNrGe
— Asharq Business اقتصاد الشرق (@AsharqBusiness) January 24, 2025
وتشكل الموارد النفطية أحد أهم أسباب الخلاف الاستراتيجي بين السلطة السورية الجديدة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بسبب أهمية النفط كمورد استراتيجي للدولة السورية، ومساهمته في دعم الناتج المحلي الإجمالي، والموازنة العامة، والحاجة الماسة اليوم من قبل الحكومة السورية للموارد الاقتصادية، لتمويل عملية إعادة الأعمار.
مورد اقتصادي لحكم الأسد
تعامل النظام السابق بقيادة حافظ الأسد مع الجزيرة على أنها مورد اقتصادي فقط، ولم تنعكس الإيرادات الكبيرة للمحافظة على تطوير المشاريع والتنمية والبنية التحتية. ويمكن تلخيص هذه السياسة في اتجاهين:
الاتجاه الأول، القطاع الزراعي، حيث بدأ الاهتمام بدعم القطاع الزراعي وتوفير مدخلاته من خلال منح القروض لحفر الآبار والانتقال من الزراعات البعلية إلى الزراعات المروية. وحدث هذا الانتقال مع بداية التسعينات وتوفر الموارد اللازمة بعد رفع الحصار الاقتصادي عن سوريا، والانفتاح على دول الخليج بعد المشاركة في تحرير الكويت، بالإضافة إلى الاكتشافات النفطية في دير الزور التي رفعت الإنتاج في سوريا إلى نحو 650 ألف برميل يوميا. ومن أهم الملاحظات على هذا الدعم:
أولا: التركيز على دعم زراعة القطن واعتباره محصولا استراتيجيا. وهذا لم يكن صحيحا من الناحية العملية، إذ إن كل كيلوغرام من القطن يحتاج إلى نحو 4 أمتار مكعبة من المياه، وقد ساهم ذلك بشكل كبير في تراجع مخزون المياه الجوفية والتأثير على استدامتها باعتبارها المصدر الوحيد للمياه في المنطقة.
ثانيا: النجاح في رفع الكميات المنتجة من القمح التي وصلت إلى نحو مليوني طن تقريبا، واستطاعت سوريا في حينها تكوين مخزون من القمح يكفي لنحو 4 سنوات.
وفي الاتجاه الثاني، القطاع النفطي، حيث لم ينعكس الإنتاج النفطي على الواقع الخدمي لمحافظة الحسكة، وبقيت تصنف على أنها من المحافظات النامية. حتى فرص العمل التي كان يوفرها هذا القطاع بدأت تغلق أبوابها في وجه أبناء المنطقة مما دفعهم إلى الهجرة إلى لبنان وباقي المحافظات للبحث عن فرص العمل خلال سنوات الجفاف التي بدأت بعد منتصف عقد التسعينات.
وعود “أسدية” على الورق
زار بشار الأسد خلال فترة حكمه محافظة الحسكة مرتين في عام 2002 وفي 2011، أي قبل اندلاع الثورة ضده بأيام قليلة. كما أطلق مشروعا حكوميا باسم “تنمية المنطقة الشرقية”، ووضع حجر الأساس لإطلاق مشروع جر مياه دجلة.
ويقول الفارس إن الحديث عن تنمية المنطقة الشرقية بدأ في الخطة الخمسية العاشرة للدولة. وتبين نتيجة تحليل مؤشرات التنمية البشرية في حينها، أن المنطقة الشرقية (دير الزور والرقة والحسكة) تعتبر من المناطق الأقل نموا، ولديها أعلى معدلات الفقر في سوريا، 11 في المئة بالنسبة الى الحضر، و18 في المئة لسكان الريف، فيما كانت في باقي المناطق السورية 4 في المئة.
ومن أهم أهداف هذا المشروع، زيادة فرص الاستثمار والناتج المحلي الإجمالي للمنطقة وخفض نسبة البطالة والفقر وزيادة معدل الالتحاق بالتعليم وكذلك نسبة الإنتاج الزراعي بحدود 30 في المئة وإنتاج الطاقة الكهربائية بنسبة 90 في المئة، وتنمية التجمعات البشرية لتصبح مركز خدمات فاعلا على الحدود السورية التركية.
على الرغم من كل الوعود التي أطلقها الأسد لتنمية المنطقة الشرقية، لم ينفذ شيء منها، بل على العكس، دفعت المنطقة ثمنا كبيرا لسياسات إلغاء الدعم على المنتجات النفطية وخصوصا للقطاع الزراعي، حيث قامت الحكومة برفع سعر ليتر المازوت من 7 ليرات سورية إلى 25 ليرة سورية، أي نحو 50 سنتا أميركيا، مما دفع المزارعين إلى التوقف عن ري المزروعات بسبب تكلفتها الكبيرة.
آمال المنطقة من الإدارة الجديدة
يقول الفارس إن سنوات الأزمة السابقة كشفت افتقار الجزيرة إلى كل المشاريع الاستراتيجية على الرغم من توفر مقوماتها كافة. وتمثل ذلك بعدم وجود محطة توليد طاقة كهربائية تعمل على الغاز، حيث تحتاج محافظة الحسكة تقريبا إلى نحو 800 ميغاواط، والمحطة الموجودة لم تكن تنتج أكثر من 100 ميغاواط في ذروة عملها، وتعرضت لضرر كبير بسبب القصف التركي.
كذلك، تحتاج الجزيرة إلى دعم مدخلات الإنتاج الزراعي من خلال المصرف الزراعي الذي توقف عن العمل منذ بدء الثورة السورية، وتفعيل عمل مؤسسة إكثار البذار لتوفير أصناف جيدة للمحاصيل الزراعية. كما تحتاج إلى إنشاء محطة ومصفاة تكرير للنفط لتوفير احتياجات المحافظة، ويمكن تأسيسها في البادية لتقليل آثارها على المناطق الزراعية، والاهتمام بقطاع المواصلات وربط المنطقة ببقية مناطق سوريا عبر طرق وسكك حديد بمواصفات عالمية، وإعادة إحياء مشروع جر مياه نهر دجلة الذي لم ينفذ، لما له من دور في تغذية المياه الجوفية، وري المحاصيل الزراعية. بالإضافة إلى الحاجة لتأهيل المدارس وإقامة جامعة خاصة في محافظة الحسكة والعمل على توحيد المناهج الدراسية، ووضع خطة استراتيجية لرفع معدلات الالتحاق بالتعليم بعد التسرب الكبير الذي حصل خلال سنوات الثورة السورية.
المجلة
——————————-
أوان التحوّل .. القطاع غير الحكومي السوري بُعيد سقوط نظام الأسد/ سلطان جلبي
30 كانون الثاني 2025
بعد إسقاط نظام الأسد زالت الحواجز التي كانت تفصل بين المنظمات العاملة في شمال غرب سوريا والمنظمات في باقي المناطق السورية التي كانت تحت سيطرة النظام البائد، وبدأ مشهد جديد للمجتمع المدني السوري بالتشكل فما ملامح هذا المشهد وما أفاقه في المستقبل القريب؟
في دراسة حول المجتمع المدني السوري في العام 2022، تمّ التركيز على انقسام الفضاء المدني السوري إلى عدّة مجالات جغرافية منفصلة عن بعضها البعض تبعًا لخارطة السيطرة العسكرية التي سادت بين 2019 حتى نهاية 2024. بيّنت الدراسة أنّ هناك مجموعات منفصلة من منظمات المجتمع المدني تنشط في كلّ من مناطق سيطرة المعارضة في شمال غرب البلاد، ومناطق سيطرة نظام الأسد ومناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا. رغم وجود هامش صغير لمنظمات كانت تنشط في أكثر من منطقة سيطرة في نفس الوقت وإن بشكل غير معلن، إلا أنّ الغالبية بقيت تعمل ضمن ظروف سياسية، حوكمية، وأمنية مختلفة وهو ما طبع تكوينها ومسار تطوّرها. بعد إسقاط نظام الأسد زالت الحواجز التي كانت تفصل بين المنظمات العاملة في شمال غرب سوريا والمنظمات في باقي المناطق السورية التي كانت تحت سيطرة النظام البائد، وبدأ مشهد جديد للمجتمع المدني السوري بالتشكل فما ملامح هذا المشهد وما أفاقه في المستقبل القريب؟
شكلت المخاوف من بطش السلطات المختلفة وعدم القدرة على التنقّل بين مناطق السيطرة مانعًا لأيّ تعاون أو ارتباط مؤسّسي بين منظمات المجتمع المدني في المناطق الثلاث. تهم الإرهاب والخيانة كانت تلاحق أيّة منظمة مرخصة عند النظام البائد، تفكّر في العمل في مناطق المعارضة، كذلك الأمر في مناطق السيطرة الأخرى، وإن بدرجات أقلّ حدة. كان نظام الأسد يسيطر على حوالي 60% من الأراضي السورية بما فيها كبرى المدن كدمشق وحلب وغيرها، وبلغ عدد المنظمات غير الحكومية التي نشطت في تلك المناطق في العام 2022، حوالي 1300 بحسب بيانات وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة النظام البائد، في تصريح سابق لجريدة البعث (تصريح مسؤولة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل على وسيلة إعلام محلية، تلفزيون البعث، 2022. الرابط اليوم لم يعد موجودًا). عملت تلك المنظمات تحت ثلاث طبقات من الرقابة من قبل الأجهزة الأمنية أولًا، ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ثانيًا، ومن منظمات غير حكومية يديرها النظام كالأمانة السورية وللتنمية والهلال الأحمر السوري ثالثاً. لذلك بقي دور تلك المنظمات وتأثيرها محدودًا ولم تحظ بفرص كبيرة للتطوّر التنظيمي.
أمّا مناطق سيطرة المعارضة في شمال وشمال غرب البلاد، فكانت مقسّمة بين حكومتين محليتين هما حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام في إدلب، والحكومة السورية المؤقتة التابعة لائتلاف قوى الثورة والمعارضة، والتي تدير مناطق شمال حلب من عفرين إلى جرابلس بالإضافة إلى مناطق حدودية من محافظتي الرقة والحسكة، وذلك تحت النفوذ التركي. يشير المسح الميداني الذي نفذه الدفاع المدني السوري في العام 2024 أنّ هناك حوالي 500 منظمة غير حكومية تعمل في تلك المناطق. حظيت المنظمات في هذه المنطقة بفرص أكبر للتأثير والتطوّر في درجة أكبر من الاستقلالية، خاصّة أنّ الكثير منها مسجّل في تركيا أو دول أوروبية ما أعطاها وصولًا دوليًا أكبر.
يقول أسامة الحسين، وهو ناشط مدني ورئيس سابق للمجلس المحلي في مدينة سراقب أنه “منذ العام 2019 كان الدعم الإنساني يمرّ عبر المنظمات غير الحكومية المحلية لكلّ قطاعات العمل الإنساني، وكالات الأمم المتحدة والمنظّمات الدولية عملت عبر الحدود بالاعتماد على الشركاء المحليين وبالحد الأدنى المُمكن من التنسيق مع مؤسسات الحكم المحلي المرتبطة بسلطات الأمر الواقع”. وضع هذا الظرف الجيوسياسي منظمات شمال غرب سوريا في وضع أفضل من نظيراتها في المناطق الأخرى وتشكّلت هناك منظّمات كبرى من حيث الحجم والموارد والتطوّر المؤسساتي.
أخيرًا، في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وإدارتها المعروفة الممتدّة على أكثر من ربع مساحة البلاد، لا توجد إحصائيات حول أعداد المنظمات، لكن حسب قاعدة بيانات منصّة منظمات المجتمع المدني في شمال وشمال شرق سوريا يوجد 171 منظمة نشطة. هناك أيضًا تبدو قبضة السلطة أكثر شدّة على المنظمات المحلية حيث هناك المراقبة الأمنية، ومراقبة مكتب الشؤون الإنسانية، إلى جانب وجود منظمات مجتمع غير حكومية مرتبطة بالسلطة.
يقول مدير منظمة محلية في الحسكة لسوريا ما انحكت (فضّل عدم ذكر اسمه): “عام 2021 أسس مستشار سابق لقوات سوريا الديمقراطية ما يعرف بتحالف المنظمات غير الحكومية في شمال وشرق سوريا وضمّ إليه كلّ المنظمات العاملة في المنطقة تقريبًا، وهذا الكيان اليوم لديه نفوذ كبير على عمل المنظمات”.
ملامح المشهد الجديد
“الأكيد أنّ مشهد العمل الإنساني والمدني في سوريا كما نعرفه سيتغيّر بشكل جذري لكن لا أحد يعرف بالضبط بأيّ اتجاه تسير الأمور”، يقول أسامة الحسين. سقوط نظام الأسد يعني زوال النموذج الحوكمي الذي أوجده، والذي اعتمد على القبضة الأمنية والفساد، فقد حُلّت الأجهزة الأمنية وتمّ تجميد أعمال الأمانة السورية للتنمية التابعة لأسماء الأسد. في حين أنّ الهلال الأحمر السوري يبدو مستمرًا في العمل بعد تعيين رئاسة جديد له من قبل حكومة تصريف الأعمال. حالياً تضطلع المنظمة اليوم بمهمة استلام وتوزيع المساعدات الإنسانية التي تأتي جوًا إلى دمشق من السعودية وقطر ومصر. ذلك يعني أنّ نموذج حوكمة القطاع غير الحكومي الذي طبّقته حكومة الإنقاذ في إدلب والقائم تحت إشراف وزارة التنمية لم يُنقل بالكامل إلى دمشق بل سيُصار إلى خلق نموذج جديد.
يقول أسامة الحسين أنه “منذ عام 2018 حاولت هيئة تحرير الشام وحكومتها في إدلب السيطرة على المنظمات غير الحكومية وفشلت في ذلك، ومع الوقت تعلّمت الهيئة التعامل بمرونة مع المنظمات المحلية والدولية وإعطائها هامشًا من الاستقلالية في العمل حتى لا تحرم مناطق سيطرتها من الموارد التي تقدّمها تلك المنظمات”. من مؤشّرات تلك المرونة هو تأسيس ما يعرف بمكتب تنسيق العمل الإنساني الذي طرح نفسه أواخر عام 2023 كوسيط مستقل بين المنظمات الإنسانية وسلطات حكومة الإنقاذ، وذلك لتجنيب المنظمات حرج الاحتكاك المباشر مع المؤسسات التابعة لحكومة الإنقاذ في إدلب. اليوم بطريقة أو بأخرى، تلك الحكومة أصبحت حكومة تسيير الأعمال الرسمية في البلاد، وعلى وقع هذا التغيير الكبير في الموقع وموازين القوى، هل ستحافظ على مرونتها المذكورة أم ستستغل موقع القوّة التي هي فيه وتطالب بهيمنة أكبر على القطاع غير الحكومية ونصيب أكبر من المساعدات؟
يشير التعميم الذي أصدره مكتب تنسيق العمل الإنساني في 29 كانون الأول/ديسمبر الماضي إلى أنّ الأمور تسير نحو مزيد من المركزية ومن تدخل السلطة الجديد في العمل الإنساني والمدني، فهو يطالب المنظمات في سوريا بالتقدّم للحصول على ترخيص من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي يرأسها حاليًا وزير التنمية السابق في حكومة إدلب المهندس فادي القاسم. ثم على المنظمات التقدّم للحصول على “موافقة مشروع رسمية لكلّ مشروع أو نشاط تقوم به” من مكتب تنسيق العمل الإنساني الذي لديه صلاحية الإشراف على تلك المشاريع. بمعنى أنّ هناك نوع من الدمج بين نموذج وزارة التنمية في إدلب والحلة الجديدة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في دمشق.
توجيه التعميم إلى كلّ المنظمات غير الحكومية يتجاهل أنّ غالبيتها مسجل مسبقًا، إما عند وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حال كانت عاملة في مناطق سيطرة النظام البائد، أو لدى وزارة التنمية في حال كانت عاملة في إدلب. يعبّر أسامة عن حيرته بالقول “هناك عدة نقاط غير مفهومة بخصوص هذا التعميم فما هي العلاقة التنظيمية بين الوزارة ومكتب تنسيق العمل الإنساني؟ وحيث أنّ المكتب ليس مديرية تابعة للوزارة، كيف سيمارس سلطة متابعة عمل المنظمات ورفع التقارير إلى مديريات الشؤون الاجتماعية، ومنها إلى الوزارة.. ما زلنا ننتظر توضيحات إضافية من الوزارة”.
أُرفق مع التعميم التعليمات التنفيذية المتعلّقة بترخيص المنظمات، والذي يوضح أنه بإمكان المنظمات التقدّم بها عبر المديريات الفرعية التابعة للوزارة في مراكز المحافظات، إلا أنّ قرار منح الترخيص أو عدمه يبقى بيد الإدارة المركزية في دمشق. هذا النزوع نحو المركزية يثير مخاوف محقة في أوساط ناشطي القطاع غير الحكومي. لكن بغضّ النظر عن مشروعية إصدار مثل هذا التعميم في الوقت الحالي، يبدو أنّ هناك ما يبرّر وجود دور أكبر للحكومة الحالية في نظام الاستجابة الإنسانية الذي يُعاد تشكيله حاليًا.
إعادة التفكير في الأدوار
في مقابلة تلفزيونية من ساحة الأمويين في دمشق قال الدكتور محمد كتّوب، وهو ناشط وخبير في الاستجابة الإنسانية، عاد إلى سوريا بعد عشر سنوات من العمل في المنفى، أنّ المنظمات السورية بحاجة لمراجعة الأدوار التي لعبتها خلال الـ 13 عامًا الماضية والتعلّم من تلك التجربة. وفي حديثنا معه لاحقًا قال “إنّ حالة إنهاك المنظمات غير الحكومية بأعباء تقديم الخدمات الأساسية كبديل عن الحكومة يجب أن تنتهي، تلك كانت حالة فرضها المانحون وسياساتهم التي أرادت الحد الأدنى من التعامل مع السلطات ومؤسساتها الحكومية. اليوم لم يعد ممكنًا الاستمرار في العمل بهذه الطريقة فقد بات لدينا حكومة جديدة وعلى المنظمات أن تعي الحاجة للتكامل مع أدوار مؤسسات الحكومة”.
تغيّرت كذلك أولويات الاحتياجات، بالانتقال من الاستجابة الطارئة إلى مرحلة التعافي ما بعد النزاع، حيث يصبح دور الحكومة في تصميم سياسات تنموية متسقة ضرورة ويصبح دور المنظمات مكملًا لأدوار المؤسسات الحكومية. إيجاد نقطة التوازن في العلاقة بين المنظمات غير الحكومية والحكومة الجديدة عملية جارية الآن، يقول بهجت حجار، وهو المؤسّس المشارك والمدير التنفيذي لوحدة دعم المجالس المحلية من دمشق، مضيفًا: “أعتقد أن المرونة في التعامل ستبقى السياسة المتبعة من قبل الحكومة تجاه المنظمات، فرغم صدور التعميم الداعي للترخيص، مازلنا نعمل في دمشق وكذلك تفعل مئات المنظمات المحلية وتلك القادمة من الشمال ومن الخارج. كما أن الإطار الإداري المتمثل في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أو مكتب تنسيق العمل الإنساني لا يملك القدرات الإدارية الكافية للتعامل مع مئات طلبات الترخيص التي دعت إليها على سبيل المثال فما بالك بإدارة كاملة للقطاع… على الأرجح التعميم هو إشارة مبكرة لأمر يراد تحقيقه في المستقبل”.
يخبرنا عدي الحسين، وهو ناشط في وحدة دعم المجالس المحلية انتقل من إدلب للعمل في دمشق، وشارك في اجتماع ضم أكثر من عشرين منظمة غير حكومية مع وزير الشؤون الاجتماعية والعمل الجديد فادي القاسم وفريقه أواخر كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، يقول “ما خرجت به من الاجتماع هو أنّ الوزارة لا تملك رؤية واضحة لشكل علاقتهم معنا، طرحنا الكثير من الأسئلة لنفهم دورنا في المرحلة القادمة، هل سنكون شركاء حقيقيين للحكومة في البناء أم أنها ستحاول إعادة إنتاج حالة التبعية التي كانت قائمة في زمن النظام، وكل ما حصلنا عليه هو وعودة بأنّ كلّ شيء سيكون على ما يرام”.
يمكن النظر إلى عدم وجود رؤية محسومة لدى الحكومة كنقطة لصالح المنظمات كما يرى محمد كتوب، موضحًا “ذلك يعني أن المنظمات مازال لديها فرصة للمبادرة والمشاركة في بلورة الرؤية المنشودة لعلاقة متوازنة بين الحكومة والمنظمات بحيث لا تؤدي إلى إضعاف أيّ منهما أكثر من اللازم. إنّها مرحلة المبادرة على كلّ المستويات وعلى المنظمات السورية أن تكثّف التنسيق مع أجهزة الحكومة”.
في نفس الاتجاه ثمّة حاجة ملحة لاستئناف برامج دعم المؤسسات الحكومية مرّة أخرى بعد إزالة العقبات القانونية، حسب ما يقول أسامة، فتلك المؤسسات في حالة هشة وتعاني صعوبات مالية وبشرية وتقنيّة مما يعيق جهود استعادة الخدمات الأساسية.
أولويات مدنية في المرحلة الانتقالية
العديد من مجالات العمل المدني التي كان من غير الممكن تنشيطها بشكل حقيقي خلال سنوات النزاع، باتت اليوم متاحة، بل وفي قمّة سلم الأولويات حسب ما يرى محمد كتوب، مبينًا أن “هناك احتياجات جديدة تبرز في مجال تعزيز السلم الأهلي وملاحقة ومحاسبة مجرمي الحرب، والتوسط في الحوار بين المجتمعات المحلية من جهة وبينها والسلطات من جهة أخرى… خلال وجودي في دمشق لاحظت حيوية قلّ نظيرها في عمل المنتديات والمبادرات المحلية بعد سقوط النظام، الناس بات لديها آمال تسعى لتحقيقها، هذه القوى المدنية يمكن التعويل عليها كقوى خارج الأطر التقليدية والانقسامات المجتمعية في سوريا، وكرافد للتحوّل السياسي في البلاد”.
أخيراً، يحتاج المجتمع المدني السوري إلى التعامل مع انقسامه الداخلي خاصة مع توافد عشرات المنظمات من الشمال ومن خارج البلاد للعمل في دمشق بشكل أساسي، ومدن أخرى بدرجة أقل. ثمّة حاجة لإعادة الاندماج بين هذه المنظمات القادمة وتلك الموجودة سابقًا في مناطق سيطرة النظام البائد.
يقول بهجت حجار إنّه “على المانحين أخذ هذه المسألة بجدية حتى لا يحدث تهميش لمنظمات لحساب أخرى، كون المنافسة على المنح غير عادلة بين منظمات الشمال والخارج التي حظيت بفرص عديدة للتطوّر في مقابل المنظمات في المناطق الجديدة التي حظيت بفرص أقل”.
يؤكّد هذه الفكرة أيضاً عدي الحسين بالقول “طول السنوات الماضية كنا نعتقد أننا المحاصرون في إدلب، لكن بعد سقوط النظام اكتشفنا أنّ الناس في دمشق وحلب وغيرها هم الذين كانوا محاصرين فعليًا، نحن حظينا بفرص للسفر إلى تركيا وإلى دول أوروبا وشاركنا في أنشطة دولية وتعلمنا، معظم من بقي في دمشق كان منقطعًا عن كل ذلك العالم”. بالتالي ثمّة حاجة لتشجيع الشراكات بين منظمات الداخل ومنظمات الشمال والخارج سعيًا لردم الفجوات بينها، جهود يمكن أن تشمل أيضًا المنظمات النشطة في مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا.
صحافي وباحث اجتماعي سوري مقيم في تركيا، مهتم بقضايا التغير الثقافي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية في سوريا.
حكاية ما انحكت
————————————–
قراءة في خطابَي الشرع وخطوات إدارته… طمأنة الخارج دون الداخل؟/ عمار جلّو
الجمعة 31 يناير 2025
في خطابه للسوريين، أمس الخميس، بدّد رئيس الجمهورية بالوكالة، أحمد الشرع، مخاوف كثر منهم من إدارة المرحلة الانتقالية السورية وصولاً إلى انتخابات حرّة ونزيهة: “سنعمل على تشكيل حكومة انتقالية شاملة تعبّر عن تنوع سوريا، للوصول إلى انتخابات حرّة نزيهة”، قال.
أيضاً، ذكر أنه “سيتمّ الإعلان عن لجنة تحضيرية لاختيار مجلس تشريعي مصغّر يملأ فراغ المرحلة الانتقالية. وخلال الأيام القادمة، سيتم الإعلان عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر حوار وطني يشكّل منصةً مباشرةً للمداولات والمشاورات والاستماع إلى وجهات النظر المختلفة حول برنامجنا السياسي القادم”، وبعد ذلك “سيتم إصدار إعلان دستوري ليكون مرجعاً قانونياً للمرحلة الانتقالية”.
وعن أولويات المرحلة، قال الشرع، إنها ستركّز على تحقيق السلم الأهلي، والعدالة الانتقالية، وإتمام وحدة الأراضي السورية، بجانب بناء مؤسسات قوية، وإرساء دعائم اقتصاد قوي يعيد لسوريا مكانتها الإقليمية والدولية.
قبلها، وخلال مؤتمر عقدته فصائل إدارة العمليات العسكرية في دمشق، يوم الأربعاء الفائت، وسمّت خلاله الشرع رئيساً، أشار الأخير إلى أنّ “النصر تكليف، فمهمة المنتصرين ثقيلة ومسؤوليتهم عظيمة، وما تحتاجه سوريا اليوم، أكثر مما مضى، والواجب هو العزم على بنائها وتطويرها”، مضيفاً: “الصفة المتعارف عليها في الحرب هي الخراب والدمار وسفك الدماء، غير أنّ نصر سوريا تحقق وملؤه الرحمة والعدل والإحسان عند القدرة”.
خطوة جراحية
تعليقاً على مخرجات الحوار، يقول المحلل السوري عقيل حسين، لرصيف22: “ما جرى في مؤتمر النصر خطوة تأسيسية مهمة تمنح الشرع حرية التصرف كحكومة انتقالية مكتملة الأركان والصلاحيات، يستطيع بموجبها صياغة إعلان دستوري وتوقيع اتفاقيات مع إقرار السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية خلال المرحلة القادمة”.
يضيف حسين، لرصيف22: “مخرجات المؤتمر أعلنت عن بداية جديدة لبناء الفضاء السياسي السوري، وذلك عبر تنازل قادة هذه الفصائل عن حصتهم من الدولة، وحلّ جميع المجالس والأجسام السياسية الثورية وسواها من مكونات كانت تحت هيمنة نظام الأسد”، نافياً “قدرة أيّ إدارة جديدة على فرض هيمنتها على هذا الفضاء مستقبلاً، إن افترضنا جدلاً أنّ لدى هذه الإدارة عقلية الهيمنة على مؤسسات الدولة الوليدة خلال هذه المرحلة”.
بدوره، يذكر رئيس تحرير موقع “الحل نت”، الصحافي السوري رامز الحمصي، أنّ تنصيب الشرع رئيساً جاء بعد اجتماعات عدة مع قادة الفصائل بهدف تأسيس مؤسسة عسكرية واحدة، لكن تصلّب بعض الفصائل حيال الاندماج في المؤسسة الوليدة، مع مطالبتها بشروط تمييزية، دفعا نحو الذهاب باتجاه هذه الخطوة الجراحية، نظراً إلى فراغ السلطة الذي يعتري الدولة، وطول المدة المتوقعة أمام أي نتائج قد يتمخض عنها المؤتمر الوطني الموعود. مع ذلك، أصرّ الشرع، على التأكيد على الصفة الانتقالية لرئاسته، بغية تطمين الآخرين.
وينبّه الحمصي، في حديثه إلى رصيف22، إلى ضرورة الالتفات إلى المدد الزمنية في خطاب الشرع (خطاب الأمس)، إذ إنّ غياب المدد الواضحة، سيعني أننا ذاهبون إلى هامش مجهول في المرحلة الانتقالية.
لا يغني الانتصار العسكري عن عملية سياسية مستدامة لإحلال السلام، حسب مركز مالكوم كير-كارنيغي، تضمّ أكبر عددٍ ممكن من المجموعات المنتصرة والمهزومة، وتعجّل في صياغة دستور جديد يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من سرديةٍ تجمع بين مكوّنات سوريا الجديدة، ويعبّر عن تطلّعات غالبية الشعب، ويخاطبها بوضوح وفعالية.
يضيف مركز كارنيغي: “حديث الشرع عن أربع سنوات للانتخابات منطقي، فالتعجيل بها قد يشكل مصدراً إضافياً للتوترات والخلافات، لذا لا بد من وقت كافٍ لصياغة الدستور وإجراء تعداد للسكان ووضع القوائم الانتخابية”.
ولبناء شرعية من دون انتخابات، يمكن تأسيس هيئة حوار وطني تضمّ متطوّعين يتطابقون مع تركيبة المجتمع السوري، وتمثّل تركيبة الدولة، وتقوم بمناقشة قضايا وطنية مهمة، كالعدالة الانتقالية، ومستقبل الأقليات، وإعادة الممتلكات إلى أصحابها ودفع التعويضات، ودور الدين في الدولة، وسُبل ضمان حقوق الإنسان، بحسب كارنيغي.
خلال المرحلة القادمة، قد يتمّ ترخيص أحزاب تشارك في انتخابات محلية، ولاحقاً في انتخابات نيابية وبعدها انتخابات رئاسية، حسب الحمصي، الذي يعتقد بإمكانية أن تطول المرحلة الانتقالية لعشر سنوات (أعمار الدول أطول كثيراً من أعمار الأشخاص، وعشر سنوات مدة قد تكون عاديةً بالنظر إلى تعقيدات الحالة السورية وتقيّحاتها السابقة)، فالأحزاب المتوقعة يلزمها وقت لنشوئها وترخيصها واستقطابها جمهورها، ومن ثم المشاركة في الانتخابات المذكورة ضمن مدد متقطعة. ويتوقع الحمصي، “استبدال الحكومة الحالية خلال الأشهر الستة القادمة، نتيجة ضعف خبرات أعضائها، وهو ما يعيه الشرع، جيّداً”.
العدالة الانتقالية
إلى الآن، لم تبدِ السلطة الناشئة في دمشق اهتماماً كبيراً بالبدء بأولى خطوات تطبيق قضية “العدالة والمحاسبة”، قال ناشطون لموقع الحرة في وقت سابق، بجانب تباطؤ “في توجيه خطاب واضح في أنه سيتم العمل على إطلاق مسار واضح للمحاسبة عن الجرائم والانتهاكات، ضمن برنامج للعدالة الانتقالية”، مع “تراخٍ في التوجه بخطاب واضح إلى المجتمع السوري عموماً”، إذ تقصر القيادة المؤقتة خطاباتها على تطمين المجتمع الدولي دون الشعب السوري، حسب معهد واشنطن. ويشير المعهد، إلى وجوب أن يكون دور لجميع السوريين في هيكل الحكم الجديد، الذي ينبغي أن يكون شاملاً وتمثيلياً وديمقراطياً، يركّز جهوده على إنشاء هيئة مستقلة للحقيقة والعدالة، مع ضمان حرية التعبير وتمكين المجتمع المدني من المشاركة في حكومة متنوعة. لكن المخاوف الخاصة بغياب رؤية سياسية واضحة وخريطة طريق لهذه الأهداف لا تزال قائمةً.
لم يكن مبرراً عدم مخاطبة الشعب السوري لغاية الآن/ الأمس، حسب رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، حيث تقدّم التقنيات الحالية خيارات تتخطى العقبات الفنية، كتعطّل التلفزيون السوري، وذلك عبر بثّ مباشر من صفحة فيسبوك الخاصة بالتلفزيون مثلاً، منبّهاً إلى أنّ حديث الشرع عن العدالة الانتقالية، ولأول مرة خلال خطاب “مؤتمر النصر” وخطاب الأمس، هو تقدّم إيجابي وجيّد، وخطوة في الاتجاه الصحيح، برغم تجنّب الدخول في التفاصيل، إذ يحتاج ذلك إلى خطاب خاص.
وخلال حديثه إلى رصيف22، يشير عبد الغني، إلى أنّ الإدارة الحالية تسعى إلى المركزية بهدف ضبط الأمور وتسيير البلد بواقعه المنهار. لكن كان الأجدى أن تتعدد السلطات، مع ضبط ومركزية في الأماكن التي تحتاج إلى مركزية، كوحدة الجيش والتراب السوري وحلّ الفصائل، لتلافي الاقتتال بينها، مع قطع الطريق أمام من تمتلك أجندةً خارجيةً منها، في مقابل إبقاء التعددية في سواها.
“لعل الأنسب تشكيل مجلس حكم برئاسة الشرع، لتلافي حكم فرد يمتلك السلطات الثلاثة فعلياً، يشارك أعضاؤه في الحكم بفاعلية، ويتم تشكيله بعد مشاورات، ليتولى بعدها تشكيل برلمان يقوم ببعض الأدوار غير التشريعية، كتعديل أو إلغاء قوانين سابقة مجحفة في حق السوريين. هذا إلى جانب تعزيز استقلالية القضاء، بألّا يكون الشرع رئيس مجلس القضاء، بصفته رئيساً للجمهورية، أو سواه من أعضاء مجلس الحكم المفترض، أو وزير العدل”، يضيف عبد الغني.
وفي هذا السياق، يقول موقع سوريا في مرحلة انتقالية، نقلاً عن مطّلعين، إنّ نوع الدولة الجديدة سيعتمد على رؤية الشرع الشخصية، والأخير تنصبّ عنايته على إحباط ثورة مضادة، بعد أن دفعه الانهيار السريع لنظام الأسد إلى دور قيادي وحيد. ولتجنب ذلك، يقوم بتأسيس دولة عميقة جديدة ترتكز على أربع ركائز رئيسية: السيطرة على الجيش، وعلى قوات الأمن، والاقتصاد، والعلاقات الدولية. وينبّه الموقع، إلى أنّ تعيين رئيس وزراء حكومة الإنقاذ السابق، علي كده، وزيراً للداخلية في حكومة تسيير الأعمال، يشير إلى أهمية إنشاء قوة شرطة ملتزمة أيديولوجياً وتنظيمياً بالحفاظ على النظام الجديد.
ووفقاً للحمصي، للشرع هدف مزدوج من تبريد مسألة العدالة الانتقالية، هو طمأنة المحيطَين المحلي والإقليمي بعدم وجود فوضى أو قتال وثارات. لكن على المدى الطويل سيعمل على هذه المسألة، لكن وفق أسس قانونية دقيقة، بمعنى أنّ من عليه أدلة يمكن محاكمته، لكن من دون فوضى الثأر والاتهامات.
المؤسسة العسكرية الموحدة… الاختبار الصعب
يبقى تشكيل المؤسسة العسكرية من أصعب مهام القيادة الجديدة، حسب مركز شاف للدراسات المستقبلية، فهي ليست عملية دمج تنظيميةً، بل تحوّل شامل يتطلب العديد من الدعائم لتحقيقه، بما في ذلك إدارة حوار وطني شامل يجمع كل الفصائل ويراعي مصالحها، مع صياغة عقيدة عسكرية جامعة تتجاوز الانقسامات والولاءات والأيدولوجيات المختلفة. وبحلّ هذه المعضلة، تثبت القيادة الجديدة قدرتها على بناء دولة موحدة ومستقرة.
لكن الفصائل ليست على رأي واحد، حسب شاف، إذ لدى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، رغبة في الحفاظ على مكتسباتها العسكرية، ومنها قوتها المقدّرة بـ100 ألف عنصر، مع ترسانة أسلحة أمريكية متطورة. لذا تسعى إلى الحفاظ على بقائها واندماجها في وزارة الدفاع ككتلة عسكرية موحّدة، خاصةً أنّ الإدارة الجديدة لم تقدّم خطّةً واضحةً للتعامل معها، وتحديداً في ما يتعلق بضمان تمثيلها وتولّيها مواقع حساسةً داخل الجيش.
إلى ذلك، تختلف الفصائل في موقفها من عملية الدمج، ومن مطالب باعتماد نموذج الكتل العسكرية، مع إشكالية دمج المقاتلين الأجانب والمنشقّين عن قوات النظام السابق، وتبعية بعضهم لقوى خارجية، والاختلاف الأيدولوجي والعرقي والإثني، ما يصّعب للغاية عملية التوحيد والدمج.
“قانونياً، تم إنهاء وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية بموجب مخرجات مؤتمر النصر”، حسب المحلل العسكري والإستراتيجي، العقيد السابق في الجيش السوري، أحمد الحماده، “إلا أنّ تأسيس وزارة دفاع جديدة ليس بالأمر السهل، فهناك تحديات كبيرة جداً، لا سيما مع رغبة بعض الفصائل في الحصول على امتيازات ومراكز نفوذ داخل الوزارة الجديدة، كحال قسد”.
يضيف الحماده في حديثه إلى رصيف22: “بجانب صعوبة هيكلة الفصائل في وزارة وطنية، هناك نقص كبير في التمويل، كما أنّ تشكيلها يقتضي إشراك الجميع، نظراً إلى ارتباطها بالعقيدتين الأيديولوجية والعسكرية، وتعداد الجيش، والرؤية السياسية ووظيفة الوزارة المأمولة. كما أنّ هيكلتها تحتاج إلى رؤية واضحة وكوادر فنية، مع إعادة الضباط المنشقين وتفعيل الأكاديميات والمدراس العسكرية، لتأهيل العسكريين الراغبين في الانتساب إلى الجيش”، مشيراً إلى قرارات تم اتخاذها من قبل الإدارة الحالية لم يكن لها سبب قانوني، كإنهاء إلزامية الخدمة العسكرية بجانب منح الرتب والترقيات الاستثنائية، لا سيما لغير السوريين.
وكانت حكومة تصريف الأعمال، قد اتخذت قرارات من اختصاص الحكومات الرسمية، كترفيع ضباط أو تغيير مناهج دراسية وغير ذلك، برغم إعلانها المبكر بأنّ مهمتها ضبط الأمن وتقديم الخدمات الأساسية وتسيير أعمال الدولة لتجنّب انهيار المؤسسات خلال مدة تنتهي في أول آذار/ مارس القادم، ويتم خلالها انعقاد مؤتمر حوار وطني يتبعه تشكيل حكومة تكنوقراط أو حكومة انتقالية.
إلى ذلك، أعلن وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، خلال جلسة حوارية في مؤتمر دافوس، عن اعتزام الإدارة الجديدة خصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة، وتشمل الخطط خصخصة مصانع النفط والقطن والأثاث، واستكشاف شراكات بين القطاعين العام والخاص لتشجيع الاستثمار في المطارات والسكك الحديدية والطرق.
وفي هذا السياق، يشير الباحث غير مقيم في معهد “نيولاينز” الأمريكي، الأكاديمي الاقتصادي السوري، كرم شعار، إلى مجموعة من الخطوات التي لا يجوز لحكومة تسيير الأعمال اتخاذها على الصعيد الاقتصادي، كونها قرارات محوريةً وأسئلةً كبيرةً تحتاج إلى توافق، كطبيعة النظام الضريبي، أو طبيعة العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، فالنظام الضريبي هو عماد العقد الاجتماعي في الدول المتقدمة.
يضيف شعار: “نسمع تصريحات من قبل الحكومة الحالية بأنّ النظام الضريبي بشكله الحالي مرفوض بالكامل، وهو ما يثير هواجس حيال إمكانية اتخاذ قرارات كبيرة بشأنه، وهذه القرارات يجب أن تكون تمثيليةً. وفي ما يخص خصخصة بعض القطاعات، هناك اختلاف بين المدارس الاقتصادية حول حجم ودور الدولة في الاقتصاد، وليس هناك خطأ أو صواب في الآراء المختلفة، فجميعها قد تؤدي إلى نتائج جيدة أو سيئة. والمحدد ليس وضعها الأيديولوجي، بل تطبيقها الصحيح، كعدم وجود الفساد في تطبيقها”.
ويؤيد شعار، دوراً محدوداً للدولة في الاقتصاد، وألا تتدخل في السوق كفاعل أساسي، مع ضرورة تفعيل دورها الاجتماعي، بالقضاء على الجوع وتأمين العلاج لمواطنيها. مع ذلك، تثير الخصخصة في الظروف الحالية، مخاوفه لسببين؛ أولهما الحاجة إلى مساحة مقبولة للتوافق، وثانيهما الأسعار الزهيدة للمؤسسات المراد عرضها للاستثمار، نتيجةً للفساد المتفخم والوضع الاقتصادي المزري اللذين خلّفهما نظام الأسد.
رصيف 22
—————————-
كيف ينظر السوريون إلى “خطاب النصر”؟/ زينة شهلا
الخميس 30 يناير 2025
مساء الأربعاء 29 كانون الثاني/ يناير 2025، تسمّر السوريون أمام شاشات التلفاز، مترقّبين مجريات إلقاء “خطاب النصر”، من قبل قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع، في حضور ممثلي الفصائل العسكرية المشاركة في عملية “ردع العدوان” التي أطاحت بنظام بشار الأسد قبل شهر ونصف.
في تمام الساعة الثامنة، وبينما كان من المفترض أن يتوجّه الشرع لأول مرة منذ توليه إدارة البلاد، بخطاب مباشر إلى المواطنين، مرّت الدقائق ولم يحصل السوريون إلا على مقتطفات من العبارات والتصريحات المنسوبة إليه، وذلك عبر قنوات مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي.
فماذا جاء في هذه التصريحات؟ وما هي أبرز القرارات المعلنة؟ وكيف تفاعل معها السوريون في الداخل والخارج؟ هذا ما يسعى هذا التقرير إلى الإجابة عنه.
عن “الخطاب الأوّل” للشرع
تضمّنت هذه التصريحات حديث الشرع، عن “النصر الذي تحقق دون خراب ودمار وسفك دماء وإنما بالرحمة والعدل والإحسان عند القدرة”، و”العزم على بناء سوريا وتطويرها”، محدّداً أولويات سوريا بـ”ملء فراغ السلطة، والحفاظ على السلم الأهلي، وبناء مؤسسات الدولة، والعمل على بناء بنية اقتصادية تنموية، واستعادة سوريا مكانتها الدولية والإقليمية”.
كما تحدّث وزير الخارجية أسعد الشيباني، عن السياسة الخارجية التي تهدف إلى “طمأنة الخارج وتوضيح الرؤية وكسب الأصدقاء وتمثيل الشعب السوري في الداخل والخارج، وخفض التوتر وإرساء السلام”.
كذلك، ألقى المتحدّث باسم إدارة العمليات العسكرية، العقيد حسن عبد الغني، “بيان إعلان انتصار الثورة السورية”، واعتبار الثامن من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، عيداً وطنياً. كما أعلن عن مجموعة من القرارات التي تتمثّل في إلغاء العمل بدستور عام 2012، ووقف العمل بجميع القوانين الاستثنائية، وحلّ مجلس الشعب واللجان المنبثقة عنه، وحلّ جيش النظام وإعادة بناء الجيش السوري “على أسس وطنية”، وحلّ جميع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام بفروعها وتسمياتها المختلفة، وجميع الميليشيات التي أنشأها، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة تحفظ أمن المواطنين، وحلّ حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان، وحظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، على أن تعود جميع أصولها إلى الدولة السورية، وحلّ جميع الفصائل العسكرية، والأجسام الثورية السياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة الجديدة.
وتضمّن هذا الإعلان في النهاية تولّي أحمد الشرع، رئاسة البلاد، خلال ما سُمّيت بـ”المرحلة الانتقالية”، بما يشمل قيامه بمهام رئاسة الجمهورية العربية السورية، وتمثيلها في المحافل الدولية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقّت للمرحلة المشار إليها، بحيث يتولّى هذا المجلس مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخول هذا الدستور حيّز التنفيذ، دون تحديد إطار زمني لهذه الإجراءات.
إلى ذلك، أثارت هذه القرارات المعلنة وطريقة طرحها ردود فعل شديدة التباين بين السوريين، فالبعض رأى فيها “تأسيساً لدكتاتورية عسكرية جديدة” في البلاد، و”استخفافاً بكل التضحيات والخسارات التي تكبّدها ملايين السوريين” طوال السنوات الأخيرة، وآخرون رأوها “منطقيةً ومتوقعةً” في المرحلة الحالية، وإن كانوا يفضّلون أن تعلَن بـ”طريقة أفضل”. ونزل فريق ثالث إلى ساحات بعض المدن السورية، بعيداً عن صخب النقاشات على مواقع التواصل، واحتفلوا بترديد الهتافات والأغاني ورفع الأعلام السورية وحتّى إطلاق الرصاص حتّى ساعات متقدّمة من الليل، عادّين ما يحصل “إيذاناً بمرحلة بدء الاستقرار والرخاء” التي طال انتظارهم لها.
قلق وخيبة أمل
خلال ساعات ما بعد “خطاب النصر”، عبّر سوريون كثير عن خيبة أملهم على مستويات عدّة، لعل أولها طريقة الإعلان ومخاطبة السوريين بشكل غير واضح وغير مباشر، وكأنهم ليسوا معنيين بكل ما يحصل والهدف هو فقط إخبارهم لا اعتبارهم شركاء في مستقبل بلدهم، وهو جدل لم يبدأ مع الخطاب الأخير، إذ وُجِّهت انتقادات عديدة إلى القيادة الجديدة على مدار الأسابيع الأخيرة بسبب عدم توجّهها نحو فئات كثيرة من الشعب السوري وتركيزها على مخاطبة الخارج والوفود الأجنبية.
خيبات أخرى تعلّقت بمحتوى الإعلان والخطاب، والذي تجاوز كونه يتحدّث فقط عن “النصر”، ليتضمّن مجموعة إجراءات تمنح الشرع وحده مستوى عالياً من الصلاحيات وفي مقدّمتها تشكيل جسم تشريعي جديد بطريقة غير واضحة، ما قد ينذر بفوضى تشريعية، فضلاً عن تمكينه من تولّي الرئاسة بصلاحياتها كلها، في حين كان من المرتقب انتهاء فترة الحكومة الانتقالية التي أعلن عنها سابقاً مفيداً بأنها ستكون لثلاثة أشهر، والإعلان عن موعد لمؤتمر الحوار الوطني، وهو أمر تأجّل أكثر من مرة، فيما لم يعد معروفاً الآن إن كان سيُعقد أم لا.
بالإضافة إلى ما سبق، جاء الإعلان عن هذه القرارات “المصيرية” في حضور قادة الفصائل العسكرية فحسب، من دون أي حضور للأجسام المدنية الفاعلة، وكذلك من دون أي وجود نسائي، ومن دون وضوح مصدر “شرعية” القرارات، الأمر الذي يثير المخاوف من تأسيس حكم عسكري مستبدّ والاستئثار بالسلطة دون الاستعداد مستقبلاً لتسليم السلطة للمدنيين، وهو أمر يناقض كليّاً ما كان يأمله السوريون منذ إسقاط نظام الأسد، وكانوا يعملون لأجله بشكل حثيث. وهذا يذكّر ربما بالطريقة التي استلم بها بشار الأسد، السلطة بعد وفاة والده عام 2000، حين تم تغيير الدستور بـ”جرّة قلم”.
من الأمور المثيرة للقلق أيضاً، من وجهة نظر بعض السوريين، عدم وضوح انضواء الفصائل العسكرية كافة العاملة على الأراضي السورية، والتي تمتلك توجّهات وانتماءات مختلفةً للغاية وأحياناً تصادميةً، تحت راية جيش سوري واحد، خاصةً عند الحديث عن الفصائل الموجودة في جنوب سوريا، في محافظتَي درعا والسويداء تحديداً، وأيضاً قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي. فهل ستقبل جميعها العمل تحت راية واحدة؟ وهل ستنتهي الحالة الفوضوية وغير المريحة لانتشار السلاح غير المنضبط في سوريا؟ هذه الأسئلة وغيرها لم تحظَ بعد بإجابة واضحة.
خطاب “مقبول ومتوقّع”
سوريون يحتفون بـ”خطاب النصر”
في الجهة المقابلة، رأى فريق آخر من السوريين أن ما حصل في “خطاب النصر” كان متوقعاً وغير مفاجئ وفق “شرعية الانتصار العسكري”، ومشابهاً لسيناريوهات الانقلابات التي شهدتها سوريا في خمسينيات القرن العشرين، بل عدّوا ذلك “مطلوباً” كشرط من شروط المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها البلاد، ولطيّ صفحة المرحلة السابقة بكل رموزها، خاصةً مع وضوح دعم معظم القوى الإقليمية والدولية لهذا المسار. وبرغم “الإخراج” السيئ لهذه القرارات، تبقى هناك العديد من النقاط الإيجابية التي يمكن استثمارها في المرحلة المقبلة، بحسب ما يرى هذا الفريق.
من هذه النقاط، قرب انتهاء “كابوس” سيطرة عشرات الفصائل العسكرية المختلفة على بلد يضم تنوّعاً هائلاً مثل سوريا، بكل ما يمكن أن يحمله ذلك من عنف وفوضى قد يصعب ضبطها وقد توصّل إلى مرحلة لا تُحمد عقباها، وبدء مرحلة دستورية جديدة مع وجود الكثير من الأسئلة حولها، والتي لها علاقة بالمجلس التشريعي المرتقب ومدى تمثيله لكل السوريين واحتمالية إصدار إعلان دستوري جديد وغيرها من النقاط.
أيضاً، تشير بعض الآراء “البراغماتية”، إلى أنّ نجاح التجربة اليوم في سوريا ليس رهناً بالإدارة الجديدة والقيادات العسكرية فحسب، وإنما بكل السوريين الذين ربما ما عادوا يملكون الكثير من الخيارات بعد الإرث الثقيل الذي خلّفه النظام السابق، سوى دعم القيادة وتوجيهها حيث أمكن، ومحاولة مساندتها على كل المستويات لئلا تنهار الدولة بكل ما فيها، خاصةً أنه بات جليّاً أن معظم القيادات المدنية الجديدة لا تمتلك الخبرة الكافية لإدارة دولة متكاملة، فهؤلاء جاؤوا من خلفية عمل ثوري و/ أو جهادي طارئ في معظم الأحيان، وعلى مستوى محلي فحسب.
لكن ذلك لا يعني في أي حال من الأحوال التوقّف عن نقد الأخطاء، والإشارة إلى الانتهاكات حين حدوثها، خاصةً أنّ صانعي القرار الجُدد يبدون اليوم مستوى “مقبولاً” من المرونة والانفتاح.
ما المطلوب اليوم؟
منذ إسقاط نظام الأسد، بات لافتاً انخراط الكثير من السوريين من مختلف الشرائح والأعمار والانتماءات في مستوى معيّن من العمل السياسي والمدني والمجتمعي، وضمن جوّ غير مسبوق من الانفتاح والحريات، مع الإقرار بأنّ المشهد ليس وردياً على الإطلاق، والتخوّف من عدم استمراره على هذه الحال في الأشهر المقبلة.
لا تزال هناك اليوم الكثير من الأولويات، على رأسها تحسين الوضع الاقتصادي، والشعور بمستويات أعلى من الأمان، والالتفات إلى السلم الأهلي وتطبيق آليات العدالة الانتقالية، خاصةً في المناطق التي لا تزال تشهد حوادث عنف وانتقام غير منضبطة، إلى جانب ملفّات ضخمة مثل إعادة بناء المؤسسات ومكافحة الفساد وعودة المهجرين وإعادة الإعمار والقلق من التوغل الإسرائيلي جنوباً وغيرها.
في الوقت ذاته، يبحث سوريون كثر، خاصةً من جيل الشباب، عن مساحة أكبر للاشتباك مع مختلف القضايا، والمزيد من التنظيم، والثقافة السياسية التي كانت غائبةً عنهم طوال عقود، وصولاً إلى دولة مواطنة وقانون يحلم بها الجميع، وهو عمل تراكمي يتطلّب وقتاً طويلاً.
ووفق ما أعلنته الوكالة السورية للأنباء “سانا”، سيلقي أحمد الشرع، خطاباً موجّهاً إلى الشعب السوري، مساء الخميس 30 كانون الثاني/ يناير الجاري، فهل يستفيد من الانتقادات البنّاءة لفحوى “خطابه الأول”، ويكون خطابه الثاني على قدر التوقعات والآمال؟ فلننتظر ونرَ.
رصيف 22
————————————
“لن أربّي بعبعاً تحت سريري مجدداً”… سوريون ونقاش “من يحرّر يقرّر”/ رؤى ناصر
الجمعة 31 يناير 2025
بعد جلاء سنوات ابتلع فيها السوريون ألسنتهم رغماً عنهم، ومع هروب “البُعبع”، علت أصوات بعضها ناتج عن خوف قديم، وبعضها عن آخر جديد، مرددةً عبارات تتناقض كلياً مع ما يأمله السوريون لبلدهم في حاضره الجديد ومستقبله.
اللافت هنا، قدرة السوريين هذه المرة على الانتقاد والرفض والحديث عن مخاوفهم بصوت مرتفع، ولسان حال البعض منهم يقول: “لن أربّى بعبعاً تحت سريري مجدّداً”، بعدما لم تعد هناك “آذان للحيطان”، لذا وجبت المصارحة وحان وقت الحوار.
في هذا السياق، تحوّل سجال “من يحرّر يقرّر”، إلى هاشتاغ رائج على مواقع التواصل الاجتماعي، تارةً في إطار جادّ وتارةً أخرى في إطار ساخر. لكن هل “من يحرّر يقرّر” فعلاً؟ وما هي دلالات هذه العبارة في سياق التطوّرات الأخيرة في سوريا؟ وهل تحوّل التندّر عليها إلى سجال جدّي حول من يحقّ له اتخاذ القرارات في “سوريا الجديدة”؟ وإلى أي مدى تضحيات السوريين/ ات خلال العقود الماضية من حكم آل الأسد، مقدّرة بما يخوّل إليهم حق المشاركة بقوة في تقرير مستقبل بلادهم؟ هذه هي الأسئلة التي نسعى في هذا التقرير إلى الإجابة عنها.
“استبدال رأس نظام بآخر”؟
“صحيح أنّ ‘من يحرّر يقرّر’، لكنه لا يقرّر وحده، وعواقب قراراته وردود الفعل عليها معنيّ بها السوريون، وهذا ما يعقّد المسألة، ويجعل العبارة فارغةً بحد ذاتها ولا تتعدّى كونها هبّةً تواصليةً اجتماعيةً”؛ هكذا يقول يزن* وهو لاجئ سوري في فرنسا، لرصيف22.
يرى يزن، أنّ “التحرير” لم يأتِ على يد هيئة تحرير الشام التي استأثرت -وفق قوله- بحكم البلاد راهناً، مشدّداً على أنه “نتاج سنوات طويلة من نضالنا على اختلاف انتماءاتنا ووسائلنا، وجاء بعد نصف قرن من الظلام، في لحظة استهلك فيها نظام الأسد كل أوراقه، وفقد ثقة محوره، هذا المحور الذي انكشف ضعفه ومدى تخلّفه تقنياً وعسكرياً وأخلاقياً على جميع الجبهات من أوكرانيا إلى غزّة”.
ويلفت يزن، إلى أنّ القرارات كافة التي تُتّخد حالياً، “تعنينا جميعاً، لأنها طويلة الأثر وستُحدّد ما إذا كنا سنبقى في عزلتنا الدولية وقلة حيلتنا أو لا”. ولا يستبعد اللاجئ السوري في فرنسا، أن تعترض جماعات جهادية أخرى، وربما دول مجاورة، على بعض مواقف وقرارات الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، خاصةً في ظل ما يصفها بـ”وصفات مطبخ قطر-تركيا”.
كما ينبّه إلى أنه لن تكون أيّ قرارات ذات شرعية إلا إذا اتخذتها حكومة تضمّ سوريين من مختلف الانتماءات والتخصّصات، يجمعهم عنصر الكفاءة، مضيفاً: “أرى أنه على أيّ حكومة انتقالية ألا تنشغل بهذا التفكير، وأن يكون هدفها الوحيد الوصول بنا إلى برّ الأمان، لا توطيد حكم آخر”.
من ألمانيا، يعارض كريم* ابن محافظة درعا، عبارة “من يحرّر يقرّر”، كلياً، إذ تحمل برأيه دلالةً إقصائيةً بحصرها حق القرار في فئة “من حرّروا”، لكنها من ناحية أخرى “تندرج تحت مسمى اتخاذ القرار في الوقت الحرج من تحرير سوريا”, ويشرح: “تجب الاستعانة بذوي الخبرة في إدارة القطاعات الحرّة بعيداً عن مخلّفات النظام الساقط إلى حين استقرار البلد أكثر وكتابة الدستور وبعدها تدخل جميع فئات البلد في تسيير أعمال الدولة”.
يفضّل كريم، عدّها “تعبيراً عن المسؤولية الجماعية للّذين شاركوا بشكل مباشر في التحرير، لإشراك الآخرين في اتخاذ القرارات”، فعلى حد تعبيره، “غير وارد أن يتحوّل هذا النقاش إلى سجال وطني، وإنما هو مجرد سجال ودّي. فالتوافق الوطني مهم في هذا القرار، وهو ضروري لبناء سوريا جديدة”.
مخاوف من تكريس عقيدة الطاغية
ومن حماة، تقول منار*: “توحي هذه العبارة بالإقصاء المباشر بغض النظر عن الخوض في نقاش ‘من المسؤول عن عملية التحرير؟’، فمن كان يتابع على الأرض ما يحدث من عمليات قتالية منذ تحرير حلب، وحتّى الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، يعلم جيداً أنه لم يجرِ قتال حقيقي بين طرفَي الصراع، وإنما عملية تسليم واستلام للمناطق والمدن، وأوامر بإفراغ المؤسسات الأمنية والعسكرية والشرطية دون حمل السلاح”.
وتتخوّف منار، من أن يكون ما يحدث “استبدال رأس نظام بآخر قد لا يختلف عنه في شيء”، بإعادة تكريس “عقيدة الطاغية السابق ‘أنا أو لا أحد'”، فـ”النصر الحقيقي للثورة يكون ببناء دولة مواطنة للجميع تكون على مسافة واحدة من الجميع”، مشدّدةً على “تضحيات السوريين الكثيرة، والتي لم تبدأ في عام 2011، وإنما تعود إلى أكثر من 45 عاماً مضت”.
معيارنا الوحيد: الحقيقة
الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو “الآمن”، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في “لململة الفضيحة”، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.
وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.
لا تخشى/ ي الحقيقة!
لا ترى منار، أنّ هذه التضحيات مقدّرة بالشكل الكافي، حيث “لم يتم الاعتراف بها إلى اليوم، وإنما تمّ إبداء التعاطف لا أكثر، وهذا ما يبدو جلياً في طريقة التعامل مع قضايا المفقودين والمغيّبين قسراً كما النازحين واللاجئين. إنّه إقصاء من لم يرغب في أن يكون وقوداً لحربٍ الضحايا فيها سوريون”.
وتعبّر سعاد*، من بلدة عين الفيجة في ريف دمشق، عن تفهّمها للمخاوف من أن تكون هذه العبارة مقدّمةً للترويج لـ”حكم إسلامي متشدد”، قائلةً: “بحسّ سبب هالأسئلة هو الخوف من فرض حكم إسلامي، وكلنا منعرف لو بدّن هالشي كان من أول يوم انفرض. بس بدنا نعرف نفرّق بين الإسلام وداعش. بنصير بأحسن حال”. وتقترح “إما ترك الأمر لـ’من حرّر وحطّ روحه على كفّه’، أو سوف نضطر إلى الإتيان بطرف ثالث يحكم ‘على نظيف’؟”.
في المقابل، ومن وجهة نظر علمانية من حمص، يرى صحافي وخبير في الشأن السياسي السوري -فضّل التصريح ياسم “مواطن سوري”- أنّ عبارة “من يحرّر يقرّر” متناقضة في الحديث عن البلاد، فالمحرِّر برأيه هو “من يجعل البلاد حرّةً”، وهذا “لا يتحقّق إلا عندما تكون البلاد ملكاً لشعبها حتى يقرّر هو مصيره ومصيرها”.
ويعدّ الصحافي السوري، أنّ خطورة المصادقة على هذه العبارة تكمن في جعل الشرعية لصاحب القوة، موضحاً: “هذا ينطبق على ثورة البعث في الثامن من آذار/ مارس 1963، التي استمدت شرعيتها في الحكم من قوتها الشعبية وسيطرتها على الحكم وعلى أساسه قرّر ‘البعث’ عن السوريين لخمسين عاماً أودت بنا إلى خراب كبير”.
ويسترسل قائلاً إنّ “المشكلة الثانية في هذه العبارة هي تحديد المحرِّر للبلاد، فهل هو سلطةٌ حاربت الأسد منفردةً وهزمته بلا أي مشاركةٍ من قوى أخرى؟ هذا إجحاف كبير بحق الشعب السوري الذي دفع مئات آلاف الشهداء والمعتقلين وأربعة عشر عاماً من حياته وأمانه ليثور على نظام الأسد بشرائحه ومنطلقاته الأيديولوجية كافة”.
ويتفق كرم* من اللاذقية، ورايا* من السويداء، ومحمود* من حلب، مع هذا الرأي. يقول محمود: “هي الجملة بتُستخدم بالمعارك وإذا بدنا نكون موضوعيين هي صحيحة، ولكن التحرير يلي جاي من الثورات (وليس المعارك) مختلف، لأن بالثورات يكون هناك أهداف وأهم شي لما تنتصر تتحقق هي الأهداف، وبالثورة السورية كان الهدف هو الحرية والعدالة والكرامة، فإذا بدنا نطبّق ‘من يحرّر يقرّر’ من مبدأ المعارك والحروب والغزوات نكون نسينا هدف الحرية”.
من ناحية أخرى، يشير محمود، إلى “عقدة الناجي”، موضحاً: “أغلب من كانوا في الداخل تحت حكم النظام، يحكون بهذه الطريقة، أو من يرون أنهم لم يكن لهم دور في الثورة والتحرير. والمشكلة أننا شعب عاطفيّ جداً، لذا يمكن القول إن الفئة التي تشعر بظلم كبير لديها حالياً شعور بالاستحقاق أكثر من غيرها، وهذا نوعاً ما مُتفَّهم”.
“ليست ثنائيةً ولا مجرد تبديل لون”
“من يحرّر هو جزء لا يتجزأ من المعادلة، تماماً كما أنّ كل السوريين جزء منها. ولو أنّ من يحرّر يقرّر فعلاً، لكنّا بقينا تحت حكم النظام السابق، ولا داعي لكل هذا النقاش”؛ هكذا يفتتح المحامي وقائد حركة البناء الوطني أنس جودة، حديثه إلى رصيف22، معرباً عن أنّ هذا المنطلق يقودنا إلى مستوى أعمق من التحليل، هو المستوى الإقليمي. فبرأيه، لو طبّقنا هذا المبدأ، لكان القرار بيد الدول الداعمة للعملية العسكرية، وتالياً لكان السوريون محرومين من حقّهم في تقرير مصيرهم، مضيفاً: “هذا الكلام لا يمكن أن يؤدّي إلى سلام مستدام، بل إلى مزيد من الصراعات والانقسامات”.
المشكلة الجوهرية في سوريا من منظور جودة، هي احتكار القرار من قبل طرف واحد، وعودة الاحتكار ستؤدي حتماً إلى تجدّد الصراع والعنف، فـ”هذه المعادلة واضحة في التاريخ السوري، وهي اليوم أكثر وضوحاً وأكثر خطورةً بسبب التشتت المجتمعي والصراع الداخلي الذي نعيشه”، حسب تعبيره.
من زاوية أخرى، يرى جودة، أنّ التضحيات التي قدّمها بعض السوريين لا تمنحهم حقاً حصرياً في تقرير مستقبل البلاد. فكل فئة سوريّة لديها سردية خاصة بها، وكلها تعرضت للمظالم، مركّزاً على خطورة هذه الجزئية بقوله: “يجب أن تكون السردية الجامعة هي محاسبة من أجرم بحق السوريين، لا مجموعة بعينها تُقصى من دائرة اتخاذ القرار”.
ثم يسترسل: “توجد لدينا عدالة انتقالية لأشخاص محددين، وهؤلاء الأشخاص عابرون وليسوا من جهة واحدة. كما أن الجميع له حق في تقرير مستقبل سوريا لا جهة واحدة على حساب أخرى. هذا هو الموقف الذي كنا ندافع عنه عندما كان النظام في السلطة، ولا يزال هو الموقف الصحيح اليوم”.
ويختم: “المنطق ليس ثنائياً بين نظام سقط ومعارضة استلمت. هناك قوى أخرى على الساحة، مثل الإدارة الذاتية، ولا يمكن للقيادة العسكرية التي حرّرت مناطق معيّنةً، أن تدّعي لنفسها حقاً مطلقاً في تقرير مصير البلاد. الأمر لا يتعلق بطهرانية أو بغيرها. لا يمكن لبناء أي دولة أن يتم على أنقاض الآخرين”.
“إقصاء مباشر”
قبل الإجابة عن أسئلة رصيف22، تتساءل الناشطة السياسية المنخرطة في المجتمع المدني، تيما عيسى: “من الذي حرّر؟ وماذا سيقرّر؟ كيف لهذه الثورة العظيمة أن تكون بلا هدف ولا مطالب؟ وكيف تمكّنت من خلع النظام إذاً؟ هل كان الأمر نتيجة قرار سياسي أو شيء من هذا القبيل؟”، ثم تجيب: “القرار اتُّخذ منذ لحظة نزول أول سوري إلى الشارع، وهو يهتف بحنجرته المرتجفة، وهتافات الثورة كانت تحدّد شكل الدولة التي يُطالِب بها الثوار؛ دولة تخلو من ثلاث قضايا أسست لطغيان النظام وجعلت منه فرعوناً، هي: احتكار القرار السياسي، ومركزية السلطة، والانقسام المجتمعي”.
وبينما ترى في هذه العبارة “إقصاءً مباشراً”، تعدّ أنّ “الخصومة السياسية هي أهم رقيب ومحفز للعمل الحكومي والسياسي وأرقى حالات الشراكة المجتمعية”، مردفةً أنّ “الثورة لم تنتهِ بسقوط نظام الأسد، إنما هي مستمرة لتحقّق أهدافها في تأسيس دولة متعددة ديمقراطية، تحفظ كرامة جميع السوريين وتعدّل القوانين وتمنحهم دستوراً عادلاً وسياسات تنفيذيةً تطال الجميع، ولا يتطاول عليها أحد”.
إلى ذلك، تؤكد عيسى، أنّ “المخطوفين، والأسرى، والمعتقلين، والمغيّبين قسراً، والصابرين، والجائعين، والمكلومين، والمقموعين، والثوار… والسوريين كلهم، ذكوراً وإناثاً، شاركوا في التحرير”. وتختم تيما: “سوريا الجديدة يجب أن تخلع عنها معطفها القديم لا أن تغيّر لونه فحسب”.
“حمّالة أوجه”
بدوره، يصف الباحث السياسي سامر ضاحي، لرصيف22، فكرة “من يحرّر يقرّر” بأنها حمّالة أوجه قد يُراد منها تسويق فكرة الحكم الثوري لتبرير سيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة في سوريا خلال الفترة الانتقالية التي تتضمّن تشكيل مستقبل البلاد، باعتبارها جهةً قادت عملية إسقاط النظام السابق.
ويؤكد سامر، أنّ هذا غير صحيح فعلياً، حيث أنّ الثورة التي اندلعت في 2011، لم تكن سوى “ثورة حرية وكرامة”، وأنّ جميع التنظيمات العسكرية والقوى التي تشكّلت بعدها وتم تصنيفها على لائحة الإرهاب الدولي، “قاتلت النظام وليس فقط هيئة تحرير الشام”، شاملاً بحديثه القوى المدنية والمعارضة التي “ناضلت سياسياً ضد الأسد”.
يتابع الباحث السياسي: “لم يقُم بالثورة كيان موحّد له جناح عسكري، ما يجعل هذا المبدأ مردوداً على أصحابه، وتالياً لا بدّ من إشراك مختلف القوى التي قاتلت النظام إذا أردنا صياغة حكم ثوري”، ولا يستبعد “أن نشهد صراعات وتنافسات جديدةً حول من يمثّل الشعب ومن يحق له اتخاذ القرارات”.
ولا يستبعد إمكانية أن يتحول السجّال حول هذه العبارة إلى تنافس حقيقي وصدام جدّي حول من يحق له اتخاذ القرارات في “سوريا الجديدة”، كما لا يستبعد احتمال “أن يشعر السوريون الذين عانوا من حكم نظام الأسد لعقود، بأنّ تضحياتهم تمنحهم حق المشاركة الفعالة في تقرير مستقبل بلدهم”، إذ يركّز على أنّ الواقع السياسي المعقّد في سوريا اليوم يزيد صعوبة تحديد صاحب الشرعية الحقيقية بسبب تعدد القوى العسكرية وغير العسكرية التي كانت تتنافس على النفوذ.
وختاماً، يؤكد سامر، أنّ تقدير التضحيات التي قدّمها جميع السوريين والسوريات هو “العمق الحقيقي للحوار الوطني”، ويعيد تقديرها إلى صياغة مستقبل البلد بمشاركة الجميع حيث “لا يمكن بناء ‘سوريا الجديدة’ من دون توازن حقيقي بين القوة العسكرية والشرعية الشعبية، لنضمن أن تكون بلداً يحترم حقوق الإنسان، في مستقبل مستقرّ وعادل للجميع”.
“مسمار في نعش” من يفكر هكذا
من جهتها، تتّفق المتخصصة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية خلود معلّى، مع سامر ضاحي، في أنّ عبارة “من يحرّر يقرّر”، “لم تلبس ثوب الحرية وإنما هي امتداد لفكر النظام السابق، الذي سقط شعبياً وعقائدياً أولاً، وثانياً باتفاق دولي على رحيله عن السلطة بعد أن توقّفت الدول الداعمة له عن مساعدته”.
وترى خلود، أنّ الثورة “لم تكن ثورة فتوحات وإنما ثورة حريات وحقوق، ثورة رأي ومعرفة، لكنها حتى الآن، لم تقم بتحرير سوريا وإنما أفرزت حكومة أمر واقع”، واصفةً التمسّك بفكر “من يحرّر يقرّر”، بأنه “مسمار في نعش أي فئة تخوّل لنفسها التفرّد في السلطة في الأيام القادمة”، إذ تعتقد أن تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية، هو الأولى في الوضع الراهن، لضمان حقوق جميع الأطراف ومحاسبة المجرمين وفقاً للقانون.
كما تشير إلى أنّ “هذا ما سيحقن الدماء، ويهيئ البنية الأساسية لبناء نظام جديد قائم على الديمقراطية، كونها مفهوماً واسعاً وفضفاضاً، يحتاج إلى الكثير من المعرفة والتقبّل والمرونة لتطبيقه بشكله الصحيح والصحي”. لكن مرحلة التحوّل الحقيقة برأيها، تقع على عاتق المثقفين والأكاديميين الذين لديهم خبرة سابقة في المجالات المتنوعة وخلفيات قانونية واقتصادية وسياسية، ليقودوا بدورهم في المرحلة القادمة عملية التحوّل السياسي، مشيرةً إلى ضرورة “التشبيك والتنظيم بين جميع المنظمات ذات الشأن للمشاركة في صياغة دستور ونظام حكم قائم على التعدّدية السياسية والمنافسة والمشاركة والشفافية مع مراعاة التنوّع السوري”.
وتختم خلود: “في كل الأحوال، من المبكّر الحكم اليوم، وعلينا أن ننتظر الحكومة الانتقالية وتأسيس مؤتمر وطني يضم أشخاصاً ذوي خبرة أكاديمية”.
في المحصّلة، يمكن اعتبار حالة السجال والنقاشات وحتّى الانقسامات في الآراء الحالية -بما فيها تباين الآراء في مبدأ “من يحرّر يقرّر”- شكلاً من أشكال الحراك السياسي الذي افتقده السوريون على مدار 54 عاماً تحت القمع والحكم الدكتاتوري.
*فضّل المتحدثون الاكتفاء بالاسم الأول أو بأسماء مستعارة.
رصيف 22
———————————
” النظام وصّل لمرحلة هو مخوفك بدون ما يحكيك”… سقط النظام فهل تحررت الكتب؟
—————————-
عن اللقاء مع السيد أحمد الشرع/ طه بالي
عندي نفور عام من السلطة يقترب من اللاعقلانية، إضافة لتحفظات خاصة بهيئة تحرير الشام لأسباب معروفة، رغم تحسن أداءها الملفت بالآونة الأخيرة. مشان هيك ما كان بديهي لما أتيحت فرصة اللقاء أن أنضم، بس بعد تفكير ونقاش مع مجموعة صغيرة من الناس اللي بثق برأيهم قررت أن فائدة الموضوع أكبر من ضرره.
يمكن كل حدا بينظر للموضوع بشكل مختلف بس شخصيا ممكن فكر ب ٤ أمور دفعتني باتجاه الذهاب:
١- محاولة إيصال أصوات متنوعة أكتر كل ما توسعت دائرة الحضور
٢- قرار مسبق بالكتابة عن التجربة بهدف الشفافية ونزع الغموض demystification عن علاقة “الشعب” و”الحاكم” ما أمكن
٣- اعتقادي بضرورة الاشتباك السياسي مع كافة الأطراف السورية اللي منتفق معها واللي منختلف، الشيء اللي حرمنا منه النظام السابق لنصف قرن
٤- سبب أناني وهو فضول معرفي/تاريخي شديد صعب المقاومة، وربما أعوض عنه بكتابة هالبوست ومشاركة التجربة
ممتن للدكتور طارق كتيلة @tarekktelehmd
والدكتور منذر يازجي وآخرين على تنظيم الموضوع وإتاحة هالفرصة النادرة. ترتيب وتنظيم رحلة مجموعة (بعض) السوريين الأميركيين تم على عجالة خلال الأسبوعين الماضيين، والإضافة كانت سهلة على القائمة حسب تجربتي، فالقائمة توسعت تدريجيا وبشكل عضوي على إحدى مجموعات الواتساب. الفكرة كانت سفر مجموعة سوريين أميركيين ولقاءهم مع سياسيين وإعلاميين بالإمارات ثم قطر ثم سوريا (بحالتي انضميت في سوريا فقط)، ومن ثم حضور مؤتمر UOSSM الطبي في دمشق. موضوع اللقاء مع الشرع بالذات تم تأكيده قبل عدة ساعات، مساء الخميس، وأنا شخصيا اضطريت اشتري جاكيت رسمي من القصاع صباح الجمعة (شكرا أيتها الفسيفساء السورية)
هدف اللقاء الأساسي عمليا كان تبادل آراء وتشاور حول ما يمكن فعله لتحسين العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة، وواقعيا النقطة الأهم هي رفع العقوبات الاميركية (اللي مستبعد جدا يصير قبل وصول ترامب للسلطة)
اجتمعنا قبل ساعات من اللقاء للتفكير بما يمكن قوله ولترتيب الأفكار والأدوار. الاجتماع والنقاش كان بمكان مفتوح (لوبي فندق الشيراتون)، يعني ما شعرنا للحاجة بالتكتم حول أي تفاصيل
الاجتماع استمر ساعة زيادة عن المخطط له. أحمد الشرع كان برأس القاعة والى جانبه وزير الخارجية، والحضور حوالي ٢٥ شخص، رجال وسيدات، بعضهم أصدقاء قدامى وبعضهم تعرفت عليهم بنفس اليوم. الغالبية أطباء (كالعادة) ولكن ليس الجميع، ومع توجهات فكرية مختلفة
إدخال الموبايلات كان ممنوع. ما حدا طالبنا بعدم الحديث عن ما جرى باللقاء، فرح حاول انقل انطباعاتي وما أذكره ما أمكن.
بدأت الجلسة بمداخلة للشرع ١٠-١٥ دقيقة، بشكل أساسي تحدث عن سعادته بالعودة إلى دمشق (“اللي ما في بلد أحلى منها” او بما معناه)، بكلام نبرته أدبية ووجدانية لدرجة بعيدة. ومن ثم انتقل للكلام عن الوضع البائس للمدينة حاليا التي “لم تتغير من ٢٥ سنة” وللبلد عموما ولمؤسساته، ولاعتماد النظام على تقنيات عتيقة جدا وغرق الحكم الجديد بالورقيات وصعوبة سحب بيانات مؤتمتة منها، ومن ثم عن العقبات اللي بتشكلها العقوبات الاميركية أمام بناء البلد الخ
انتقلنا بعدها للأسئلة، دقيقتين تقريبا لكل شخص. ١٠-١٥ تحدثوا من اصل ~٢٥. أغلب الحديث كان عن السياسة الاميركية وصورة سوريا باميركا، والعكس. اكتر من مداخلة كانت عن أهمية تحسين الأداء الإعلامي وإيجاد مصدر موثوق يعطي تحديثات دورية
مداخلتي شخصيا كانت عن أهمية توضيح تفاصيل المرحلة الانتقالية وخطها الزمني بما يشمل العدالة الانتقالية التي يجب أن لا تتوقف عند محاسبة انتهاكات النظام (ولو كانت هي الغالبية العظمى). سألت سؤال تاني شوي خارج سياق الجلسة، وبسبب تجربتي اليوم السابق عند مدخل فرع المخابرات الجوية، عن أهمية المبادرة لحفظ الوثائق بفروع الأمن وتوثيقها
الجواب كان طويل ومفصل وبشكل أساسي تمحور حول الصعوبات اللوجستية المحيطة بموضوع تنظيم انتخابات بشكل فوري، مثل تواجد ملايين السوريين خارج البلد وكثير منهم يعاني من “انقطاع قانوني” مع سوريا، ومثل عدم دقة المعلومات الإحصائية الموجودة حاليا. أيضاً حديث طويل عن أهمية الدستور كوثيقة تكتب مرة كل عدة أجيال، وعن تعقيد الوضع القانوني والاحتمالات المختلفة للتعامل مع الدستور الحالي. الجواب عن حفظ الوثائق كان إيجابي بدون تفاصيل، وتذكير بقصر الفترة الزمنية منذ سقوط النظام (“ما كان هالشهر يخلص”؛ ساعتها انتبهت أن اللقاء صادف كونه بالذكرى الشهرية الأولى لانطلاق ردع العدوان)
لهجة الحديث السياسية كانت توفيقية وتوافقية سواء مع الخارج أو الداخل.
خارجيا، تكلم عن أهمية تخفيف وتجاوز المشاكل مع دول المنطقة، بما فيها ايران التي جاءت إلينا ولم نذهب إليها. وذكر عدة دول إقليمية التواصل معها إيجابي بما فيه الإمارات ومصر والعراق. ١
———————————-
مشوار العتمة ../ بسام قطيفان
بتلويحة لهنا واقبال ,وكانتا تعبران حديقة كلية الاداب , غادرتُ انا ومنير البوابة الحديدية الصغيرة التي تؤدي الى بداية اتوستراد المزة ..
– هل نركب الى البرامكة أم نسحبها مشياً.. سألت منير الذي رحب بالسير على الاقدام , اذ أنه كان الخيار الأمثل لأسباب كثيرة , فالجو الربيعي اللطيف أغرانا من جهة , وتوفير قيمة اجرة النقل _على قلتها_سبب آخر …
بقينا على الرصيف الأيمن بمحاذاة السياج المعدني للآداب, حيث تجاوزنا مقر إدارة التدريب العسكري الجامعي وبدأنا نمر بالحرس المدجج بالسلاح والمعتمرين قبعات حمراء يقفون غير متباعدين لحراسة مبني القضاء العسكري ..
– لو يقطعو هالشارع مش أحسن للمواطنين ؟.. قلتُ بامتعاض
– لا هيك افضل .. بيظل أقرب من النزول الى ساحة الامويين وبعدها الإكمال الى الجامعة والبرامكة ..
رد منير بلهجة توافقية بينما نحن بشكل لا شعوري ،نزلنا عن الرصيف الى عرض الشارع, كي نبتعد عن الحرس الذي قد يستفزنا بأي كلمة أو تصرف ودون أي سبب ,فقد لا يعجبه تسريحة شعر أحدنا مثلاً, او “يغار” من لباسنا المدني أو أو .. المهم أننا بتنا نسير في عرض الطريق ..
نقترب من ذوي القبعات الخضراء والذين يبدون أكثر لطفاً وأقل شراسة .. إنهم حرس مبنى الإدارة السياسية الذين لا يمانعون أحياناً في أن يمشي المواطنين على الرصيف المحاذي لسور الإدارة المرتفع كسور سجن ..
كان على الجهة المقابلة محطة وقودقديمة, و كانت تتوسطها شجرتي كينا كبيرتين تصنعان ظلالاً تخفف من لهيب أيام القيظ للمنتظرين لباصات النقل الداخلي الذاهبة الى المزة, وللمواطنين المنتظرين للمكروباصات الشحيحة المتوجهة عبر اتوستراد المزة الى معظمية الشام وقطنا والقنيطرة ,وكانت هذه المحطة ( الكازية ) تحاذي سور محطة عسكرية مسورة , تزود سيارات القصرالجمهوري وضباط الأمن ومن لف لفيفهم بالوقود المجاني “بدفتر قسائم”..
عند نهاية سور الإدارة السياسيةحيث كنت أنا ومنير، تصادفنا بخالد ذيبان زميلنا في الدراسة .. توقفنا للسلام عليه .. فنبهنا الحرس- أبو طاقية خضراء – بلطف لكن بحسم :
– ممنوع الوقفة هون يا شباب ..
-ماشي ولا تآخذنا , طيب يا علي , نراك غداً في الكلية ..
تركنا علي وتابعنا عبور الشارع الذي يدخل يميناً الى دمشق المرعبة .. حراس بملابس مدنية لكن جعب ذخيرتهم ليست كمن مررنا بهم , انهم الأكثر جاهزية للهجوم والقتال أو أي أوامر تعطى لهم .. كانوا يفتحون ويغلقون بأياديهم بوابات وحواجز معدنية, لها عجلات صغيرة , و تستطيع أن ترى خلفها فروع أمن ومقرات مخابرات وإدارات عسكرية ما أنزل الله بها من سلطان , لا نطيل النظر في ذاك الاتجاه ,نعم هكذا تعودنا كلما مررنا من هنا ..
يتناقل الناس أخباراً وحكايات أن تحت هذه الأبنية المرتفعة والمكتظة ، أقبية بطبقات هائلة .. مليئة بالمعتقلين من كل الأصناف والألوان والجنسيات ..
-انشالله ما بتزور هالمنطقة لابخير ولا بشر يا أبو النور ، أداعب منيربصوت خفيض , فيدفعني بكوع يده كازاً على أسنانه :
– امشي وانت ساكت يستر على عرضك …
ضحكة خفيفة من كلينا وقد صرنا على موقف باصات النقل الداخلي التي تتوجه لداخل المدينة , وهذا الموقف طالما كان مكتظا معظم الاوقات ..
موظفين ومراجعين , كبار وصغار .. وكثيرا ما ترى جنسيات مختلفة كالأفارقة وآسيويين وحتى أوروبيين ووو , وقد يكون بين هذا الحشد أيضا متلصصين ,وقد يكون بينهم مفرج عنهم .. أو سجانين وجلادين عائدين الى بيوتهم بعد نوباتهم القذرة , و مؤكد ان بينهم أمهات وأخوات وآباء لم يستطعوا الحصول على موافقة أمنية لزيارة عزيز غيب عنهم أو لايعرفون مصيره…المكان يحتمل أي حالة تخطر في البال فهوعلى مدخل ومخرج هذه القلعة الأمنية المرعبة والتي تُحكم منها البلاد .
اقترب منير من الكشك الثابت وشبه الأبدي والذي تزين زجاج واجهته المتسخة صورا للتركية سيبلكان والمغنية سهام ابراهيم وكاسيتات لإبراهيم صقر وفؤاد غازي وأبوعلي التلاوي والعراقي حسين نعمة و و ..
اشترى علبة سجاير رسمت عليها رسوم مضلعة زرقاء وكحلية ,وكتبت كلمة (cedars)عليها بلون ذهبي..
مزق منير الغطاء الورقي لعلبة السجائر المهربة من لبنان بالمصادفة عندما كنا نعبرمن أمام مدخل مرآب إدارة الجمارك العامة , وهو مدخل يعتبر بلا حراسة مقارنة بما سبق. .مدّ منير علبة السجائر باتجاهي يضيفني. فشكرته:
– لا حبيبي .. أنا من جماعة الثقيل .. الحمراء ، تعال الى حيث النكهة, أجود انواع التبغ القاتل .. قلتها ساخراً بصوت كمذيعي الإعلانات , وضحكنا بينما كانت سيارة بيجو – استيشن – تتوقف على الرصيف المقابل لنا أمام مبني الأمن الجنائي ويهبط منها عناصر مسلحين يدفعون شخصين ضخمين مقيدان ( بكلبشات ) لها سلاسل معدنية ,ثم غابوا داخل المبنى عندما انتبهنا أننا وصلنا الى ساحة الجمارك , توقفنا قليلاً لتنتهي موجة السيارات الآتية من جهة الأمويين , ثم عبرنا الساحة لنمر بجوار تلك اللوحة التي تثير الضحك والمنصوبة في وسط الميدان وفيها توصية من أقوال (الرئيس المناضل حافظ الاسد) أنه اذا رأينا سائقاً يخالف قانون السير فيجب أن ننظر إليه بازدراء .. وكأن ذلك السيد الرئيس لايعرف أن رجاله وزبانيته هم الوحيدين الذين يخالفون قانون السير , أما نحن ومعنا شرطي السير أيضاً ،فلا نستطيع أن ننظر تلك النظرة التي يطلبها منا الرئيس أبداً ..
هنا انتهت المنطقة المدججة بالسلاح ودخلنا المنطقة التي يختفي بها السلاح نسبياً.. فنبدو وكأننا ندخل الى حيث الحياة والجمال ..
عبرنا الشارع الى جهة الرصيف الشمالي المحاذي لسور كليتي الهندسة المدنية والعمارة .. حيث كانت الشمس الدافئة تشجع على انتشار الشبان والصبايا في الساحة أمام المبنى المختلف عما حوله وهو مبني كلية هندسة العمارة, فمنهم من يتدربون على أدوات المعايرة المركبة على حواملها الثلاثية وتبدو مثل كميرات التصوير , ومنهم من يبدو عليه الهيام والغرام .. و آخرين يبدو العبث واللهو هو طريقة حياتهم ..كنا نتبادل أنا ومنير عبارات الإعجاب عن بعد، بل نستغرق في اعطاء المواصفات لفتاة لفتت انتباهنا , إنه الجمال الذي نفتقر إليه في كلية الآداب ..وبالمقابل كان طلاب الهندسة . يهرعون الى الآداب لسهولة وجاذبية الأجواء فيها, وجمال فتياتها … يبدو لا أحد يرضى بنصيبه يا أبو النور ..
انتبهت لصوت حسام وصديقته فاطمة يسيران عكس اتجاهنا على الرصيف المقابل : حجي !! هتف لي..
وصرنا نتخاطب عن جانبي الشارع المؤدي من الجمارك الى البرامكة ..حيث صاح على طريقة الفلاحين
– حجي …وين يا مهون ؟؟
– والله عالصيد .. أجبته بنفس الطريقة وأنا أشوّح بيدي ,وأكملنا نكتة الطرشان التي نلعبها معاً كلما التقينا ..
– والله فكرتك رايح عالصيد ..
ابتسامة فاطمة الخجولة من صوتنا المرتفع في هذا المكان ازدادت وهي تمسك ذراعه ليخفف من الصياح , فأحببت ان أنهي حرجها ..
– وين طريقكم ؟
– عالمدينة الجامعية .. أوصّل هالأمانة ( يقصد فاطمة) وبعدين فاضي .. عندك شي ؟
– مر لعندي المسا ..امرق لعند منى وجيبها معك ..
-ماشي حجي .. سلام ..
كانوا يخاطبونني بالحجي لكثرة مناقشتي في أمور الدين, ولسبب آخر ..
سألني منيرعمن تكون الفتاة التي برفقة حسام , الذي سبق و التقاه أكثر من مرة في بيتي, فشرحت له قصة الحب التي تجمعهما منذ سنوات ويبدو أنهما على نية الزواج.
وصلنا باب كلية الهندسة حيث محرس للحرس الجامعي..تجاوزناه الى الرصيف الآخر حيث كافتريا الوليد التي يتجمع فيها رفاقنا الفلسطينيين.. فصاحبها ابو الوليد رجل فلسطيني خمسيني , شكله يوحي أن له تاريخ نضالي قديم ..كان كثيرين من رواد الكافيتريا لا يدفعون ما عليهم فورا, بل بعد ان يأتيهم الدعم المالي من أهلهم سواء داخل البلد او من الخارج ..كان أبو الوليد قريبا من الجميع ,و كانت الأجواء في تلك الكافيتريا عائلية حميمة وسياسية، وكانت كثير من الأفكار والقضايا تناقش هنا , فتعلو الأصوات ويعلو الصراخ والقبضات بين أبناء التنظيمات المختلفة والمتخالفة الذين يتجمعون هنا, وتهدأ الخلافات برجاءات أبي الوليد و”مونته” على معظم الحضور ..
كان العديد من الطلبة لا يدخلون إلى المحاضرات إلا للضرورة ,أو عند اقتراب الإمتحانات .. وخصوصاً أولئك الذين أمضوا في الكلية سنوات رسوب جعلتهم من “العتاولة” , حتى أن منهم من صار عمره أكبر من أعمار المحاضرين والأستاذة ..
المكتبات التي تحيط بالكافيتريا تغطي واجهاتها أوراق تعلن عن تخفيضات في التغليف أو التصوير أو النسخ أو تأمين بيع المشاريع الجاهزة ” لمن يرغب”.. وعروض أدوات يحتاجها طلبة الهندسة ..
نثرثر أنا ومنير مع بعض الرفاق .. ونتابع طريقنا بين سلام من هنا وتحية من هناك , ونعود لتجاوز الشارع ابتعاداً عن الأتربة والغبار التي تنتشر من الورشات التي لا تكاد تنتهي في المنطقة المقابلة لكلية العلوم – أصبحت فيما بعد كلية الاقتصاد و التجارة – نسير مع سور كلية العلوم وبعدها نتجاوز الكشك الذي أمامها.. ليبدأ الرصيف الأعرض في كل البرامكة.. وإن كان ليس طويلا فهو يمتد من مدخل كلية العلوم حتى تقاطع الجامعة\ برامكة , أي أنه يمتد على طول كلية الحقوق والشريعة فقط , وهو المبنى الأساسي لجامعة دمشق..
صار مبنى وكالة سانا يعلو فوقنا على الجهة المقابلة , وتكاثر الباعة الذين يبسطون بضائعهم المهربة من لبنان على طول الرصيف بين الأكشاك المتقاربة على طرفي الشارع , والتي تكاد كلها تبيع ذات السلع من لوازم العسكريين كالقبعات والأحزمة والرتب , وبعض القرطاسية طبعاً بالإضافة الى ركن الكاسيتات التي تتحف المارة غالباَ بضيج أصوات أصحابها التي لا يجرؤ أحد على الاعتراض عليها..
وصلنا عند ناصية الجامعة حيث يمتد حبلين مربوطان بجدار الكشك من جهة وبحديد سور الجامعة من الجهة الاخرى , نُشرت عليهما الصحف اليومية السورية الثلاث ,والباقي كانت صحفاً ومجلات لبنانية حصراً.. تصفحنا العناوين , واشتريت العدد الاخير من بيروت المساء مضحياً بما في الجيب اليوم ,وسألت منير عن وجهته القادمة فقال أنه يجب أن يعود الى البيت الآن .. إذن أنا سـأتوجه الى التكية السليمانية لأداعب البط في بركة الجامع قليلاً واقرأ ما تيسر من بيروت المساء .. غادر منير باتجاه مبنى سانا .. وعبرت الشارع المليء بالفوضى للرصيف المقابل باتجاة مشفى التوليد .. اصطدمت ببعض الأجسام المسرعة في عبور الشارع إلا أنني عندما هممت باعتلاء الرصيف رفعت قدمي لأتعثر بجسد انسان جعلني أهوي بكامل جسدي .. فأمسكتني العديد من الايادي قبل ان أرتطم بالأرض …صرخ أحدهم بذاك الذي تعثرت به مؤنباً :
– شو باك يا زلمة , مانك شايفوعم يمشي ؟؟
رد ذلك الرجل وكأنه يعتذر : والله ما عاد أقدر أكف رجلي أكثر .. اكثر من ساعة وأنا كاففها , مديتها من الوجع ففشكلّتْ الأستاز ( يقصدني ) ..
فك أحدهم العصابة عن عينيّ بعدما قلت:
-خلص خلص .. معليش بيكفي لهون اليوم ..
فركت عيني المجهدتين من أثر العصابة والإغماض , لأعود لغرفة السجن الصغيرة , وبدأت استرجع بصري أكثر فأكثر , وعاد السجناء كل الى مكانه وأراحو سيقانهم المكفوفة ، فقد انتهت حصة اليوم من اللعبة..
لعبة تواطأ السجناء معي على الخروج الى شوارع دمشق كل يوم برغم بوابات وجدران وحراس المعتقل ,فيفسحون لي في المكان المكتظ العفن ممراَ صغيراً لأتمكن من المشي فيه وأخذهم وهم مغمضين معي الى كل تفاصيل أي مكان يحبون “الذهاب” إليه , فأسرد ما يجود به خيالي وأنا معصوب العينين , مفتوح الروح ..
عاد الصمت سيد المكان, الى أن جاء صوت أحدهم من عمق الزنزانة:
– بكرة وين راح تاخدنا يا استاذ ؟..
الفيس بوك
——————————–
“ما يُقرأ ولا يُلفظ”/ فارس البحرة
لفتني لدى تناولي للموضوع الطائفي على وسائل التواصل أن كثيراً من الردود المتعاطية معه، سواء اتفقت مع الطروح المقدمة أو لا، تميل للغرق في ذاتها، في نماذج مسبقة عن الذات والآخر وعن الحوار، حيث يسود لونان فقط: الأبيض والأسود، إما معي أو ضدي، فأنت إما أن تحاكي أنماطاً جاهزة في رأسي أو تجافيها..
فقلما جرى نقاش الأفكار المطروحة، بل سرعان ما يتحول الحوار إلى مونولوجات منيعة كتيمة على الآخر متصادمة… فإذا تكلمنا عن مسؤولية جمعية مثلاً، جرى تأويل ذلك بأننا نتكلم بالضرورة عن ذنب، ونطالب باعتذار، وعندما نتكلم عن تساكت واسع وتوافق أو مهادنة لغايات المجرم، فنحن نتكلم عن مشاركة فعالة بالجريمة، وعندما نسمّي طائفة باسمها الصريح، فكأننا ندعو إلى إفنائها وتهجيرها!
تعليقات تشي بالرعب والغضب، ادعاءات بأن الكلام يثير مشاعر القرف والاشمئزاز، شخصنة، محاولات إثارة مشاعر الخجل عند الآخر أو جعله يتشكك في نواياه، ادعاء بمعرفة صرفة لهذه النوايا،،شتائم، استفزاز مفرط، محاولات حثيثة للاشتباك وصرف النظر عن الموضوع المتناول عبر تحويله إلى صدام شخصي
وأمام سؤال محدد، قد يستجاب بفتح عشرات الملفات المختلطة بمخاوف شديدة وملامات، ولدى مقاربة أي من هذه الملفات، يجري فتح أخرى، فيبقى الموضوع الطائفي مقترناً بالخوف والقلق والتشتت بما يوحي باستحالة التركيز، وكأن الموضوع المتناول يحيل بطبيعته إلى انعدام التواصل وتفكك الروابط، ما يتمظهر بالفراغ الداخلي، وتقافز في الأفكار يصعب ضبطه…
يضاف إلى ذلك الموقف الواثق بصوابية لا تتزحزح بأن الخيار الأخلاقي ههنا مطابق للرفض المتشدد لمناقشة الموضوع الطائفي: رفض يبدو لأصحابه ملتبساً بالموقف العَلماني، بل وبالحياد العِلمي أيضاً… بينما هو من حيث الممارسة أقرب ما يكون للموقف الرسمي للنظام البائد، الذي مارس أبشع أشكال الطائفية، وعاقب بشدة من يتناول الموضوع الطائفي بالكلام، كما لو كان لسان حاله: الطائفية للممارسة لا للكلام، للأفعال لا للأقوال!…
ما تُرجم كتعميم للَبس خطير يوحي من جهة بأن الكلام عن الطائفية إن هو إلا ممارستها، ويعني أيضاً من الجهة الأخرى أن الامتناع عن تناول الطائفية بالكلام العلني مطابق لغيابها…
وقد جرت معاقبة أي انحراف عن هذا التعريف الطائفي-اللغوي عقاباً شديداً ومتصلاً بشكل مباشر أو غير مباشر بالقتل عن طريق التعذيب، لما يستند إليه هذا الانحراف من تعبير عن وعي واضح بأن النظام يعتمد الطائفية ويمارسها في بنية حكمه، ويمتنع عن الافصاح عن ذلك رسمياً.
فالطائفية ظاهرة محورية في بنية النظام الأمني، جرى تطوير آليات مركبة في مجالات عدة لحمايتها بوصفها ضرورة وجودية للنظام، إذ تربط قاعدة هرم السلطة بذروته والعكس، بروابط عشائرية-عائلية تبدو مقارنة مع روابط الفساد والمصلحة المباشرة، على أنها الأكثر نبلاً وإيجابية، وتلعب دوراً رمزياً استثنائياً، يشير إلى توافق على النظام يمتد عمودياً بشكل عابر للطبقات، يدركه الجميع، في نفس الوقت الذي يعاقب بشدة من يتلفظ بما يدركه، لتصير الطائفية بذلك مطابقاً لهيبة النظام ومهابته، ومتصلة بينابيعها الشعبية والأسطورية.
بسبب هذا الإرث ما زال أي طرح المسألة للطائفية قادراً على إثارة زوابع الرعب والغضب والعدوانية والتلعثم والضياع..
بأساليب بافلوفية جرى تدريب الجيش والأمن والمنظمات الشعبية والنقابات وأحزاب الجبهة وما إلى ذلك من هيئات أحكمت عليها أذرع أخطبوط النظام على الامتثال لهذه الرمزية التي تُكتب ولا تُلفظ وإعادة تمثيلها! وأساليب أكثر تركيباً وتفذلكاً جرى تمثلها في الخطاب السياسي المعلن المترفع والمتظاهر بالعلمانية العابرة للطوائف، وفي الخطاب الإعلامي ولأكثر من خمسين عاماً، وبشكل أكثر تشوهاً وتشويهاً وارتباكاً وأقل جدوى وقدرة على الاقناع في الأعوام ال١٤ المنصرمة.
كل ذلك يجعل من الصدق والخروج عن الصمت، المواجهات وعدم الهروب من الحقائق والمراجعات العاطفية الفردية والجمعية، الشجاعة وعدم تهيب آراء الآخرين وأفكارهم المسبقة وادعاءاتهم بامتلاك معارف أخلاقية مطلقة، اللامبالاة بالصوت العالي ومحاولات إثارة مشاعر الخجل والترهيب، عدم الخوف من الحزن الذي نخشى أنه ينتظرنا إن نظرنا في أنفسنا، ومواجهة المسؤولية ومشاعر الذنب، البوح ووعي الفرق المرجعي بين الكلام عن الطائفية وممارستها العملية مداخل لا غنى عنها لترسيخ السلم الأهلي، ولتفكيك إرث النظام الطائفي ولغمه المجتمعي، وللانعتاق الفعلي من سلطة النظام المعنوية على أرواحنا.
الفيس بوك
————————
لا شيء مفاجئ، هكذا يكون البيان رقم واحد في جميع الانقلابات/ يعرب العيسى
يعلق العمل بالدستور، يحل الأجسام السياسية والعسكرية للحكم السابق، يحل البرلمان، ينصّب واحداً من قادته رئيساً (انتقالياً، مؤقتاً، لمجلس الثورة، للمجلس العسكري، للضباط الأحرار.. أياً كانت تسميته).
ثم يسابق قادة الانقلاب الجديد الزمن لتثبيت أقدامهم، ومحاولة تشبيك علاقات مع القوى العسكرية والسياسية والاجتماعية، ومع الدول الفاعلة، لضمان استمرار هذه المرحلة الانتقالية للأبد، وخلق مؤسسات وسنّ قوانين تحيّد خصومهم المحتملين، وتحصر عناصر القوة في يدهم.
وتبدأ قوى المجتمع الاخرى بتنظيم نفسها، وخلق كيانات تجمعها. تبني شبكة علاقاتها الداخلية والخارجية، ترسل بعضاً منها إلى داخل القطار (نعاجاً بين الذئاب).
هذا ما جرى في سوريا وحدها سبع مرات من قبل، وللعلم فقد دام حكم حسني الزعيم أربعة أشهر وعشرة أيام، وحكم سامي الحناوي أربعة أشهر وأربعة أيام، وأديب الشيشكلي في انقلابه الأول (سمى فوزي سلو رئيساً للدولة) عامين، وأديب الشيشكلي في انقلابه الثاني ثمانية أشهر. ثم جاءت انقلابات الفصائل (البعثية) على بعضها، فحكم لؤي الأتاسي أربعة أشهر، وأمين الحافظ ثلاث سنوات، ونور الدين الاتاسي ثلاث سنوات، وحافظ الأسد ثلاثين.
الطبيعي أن نكون قد سمعنا هذا الكلام حرفياً في الثامنة من صباح 8 كانون الأول. وتأخر لخمسين يوماً لزيادة رقعة الدول الاقليمية غير المعادية، ولأن الفصائل لم تكن موافقة جميعها على حل نفسها والاندماج بجسم واحد (وهو سبب أرجح أنه ما زال قائماً، وتم اليوم تسكينه على تلة قلقة). ولأن من وصل أولاً إلى مينى النلفزيون في ساحة الأمويين هم مجموعة من مقاتلي أحمد عودة الذين لا يعرفون شيئاً عن تاريخ الانقلابات العسكرية، ولا يعرفون معنى البيان رقم واحد، ولا يعرفون ان الثورات بطبيعتها انقلابية، وأن ملايين السوريين الذين يهتفون منذ 2011: “الشعب يريد إسقاط النظام” كانوا يعلنون انقلاباً، حيث لم يقل أحد منهم: “الشعب يريد إسقاط النظام بموجب المواد 83 ـ 114 من الدستور).
من المبكر علينا كسوريين أن نحلم بإنقلابي من نوع عبد الرحمن سوار الذهب، الضابط السوداني الذي قاد انقلاباً عسكرياً تام الأركان، ثم سلم الحكم لصندوق انتخابات لم يترشح إليه. ولكن من المستعجل والملح والضروري والوطني، ألا نخاف، وألا نعتبر الأفعال المبنية للمجهول من قبيل (تمت تسمية، وتكليف…) أقداراً نهائية لبلادنا. وأن ننزل منذ صباح الغد إلى الحياة وإلى العمل وإلى بعضنا، لنجعل من هذه المرحلة الانتقالية جسراً نعبر به نحو البلاد التي نريد، سواءً بأحمد الشرع أو دونه.
الفيس بوك
—————————————
اجتهاد/ حازم السيد
لا أعتقد بأن على السياسة التحررية بأن تضع الديمقراطية التمثيلية على رأس جدول أعمالها، بل ولا أعتقد بأنها ينبغي أن تحاول استنزاف طاقاتها بالتفكير بسؤال الصراع على السلطة برمته. تأخذ السلطة اليوم شكلها وفقاً لصراع أجنحتها ومكوناتها وعلى إيقاع اشتباكها مع النظام الإقليمي العالمي أولا، ومع المجتمع المحلي وتعبيراته “الصلبة”، ولا يوجد الكثير مما يوحي برغبة سلطات الأمر الواقع التخلي عن سلطاتها ولا نمتلك من الأدوات ما يسمح بإجبارها على ذلك.
من جهة ثانية، في ظل ظروف سوريا والإقليم بل العالم اليوم، أعتقد بأنه لا يمكن للديمقراطية التمثيلية أن تتحول لدينا إلا إلى ديمقراطية انتخابية قائمة على فكرة الصندوق وغلبة الجماعة، بالمعنى الأهلي لمقولة الجماعة، وهو ما قد يطلق دينامية انتخابية لا تقود إلا إلى تصدير الزعامات القادرة على الحشد السريع، أي الزعامات الجهوية أساساً، أملا بالتأثير في اللحظة الحاسمة المسماة بالانتخابات. كي تتحول الجماعات الصلبة إلى جماعات سياسية واعية بمصالحها، لا مجرد وسيلة لوصول زعمائها إلى سدة السلطة، وكي تتحول الديمقراطية التمثيلية إلى رافعة سياسية ضامنه للحيوية وإلى تمثيل العميق للمجتمع، لابد من أن يصاحبها اقتصاد قوي ودولة قانون، ولا بد من أن يقوم المجتمع ببناء مؤسساته وأن يفصل بينها، ولا بد من أن يقوم بتكريس تقاليد ديمقراطية قد يكلف تكريسها الكثير من الصراعات، ولا بد من سلطات مضادة، ولا بد من أشياء أخرى كثيرة، تتطلب جميعها الكثير من النخب والتاريخ والحظ.
لا أعتقد بأننا نمتلك أي شيء يذكر من هذا، ولا أن دولة القانون قريبة في سوريا، بل وأعتقد بأن الديمقراطية التمثيلية إن حصلت، لن تقود الى تغييرات إيجابية وازنة وعميقة، بل وقد تحول سوريا الى فراخة للديوك، من أشباه الدغري وأبو دباك، وإلى مثال على الفوضى.
قد يبدو هذا الكلام غريباً، ولكن تعقيدات المشهد وغرابته قادت بعض أنبهنا وأكثرنا نزاهة واجتهاد إلى الدعوة إلى “ديكتاتورية وطنية” في واحدة من لحظات التدهور التي عاشها السوريون في العقد الماضي.
لا أعتقد أننا يجب أن ننتظر تحقق هذا الاحتمال أو أن نعول عليه، بل ولا أعتقد بأن سقوط النظام يخفف التعقيدات كثيراً بل ويضعنا ذلك السقوط في لحظة تشكل صفريتها تعقيداً جديداً.
بالمناسبة، يوحي بعض أداء الهيئة وتحويلات زعيمها الجولاني وخطابه باحتمال “ديكتاتورية وطنية” ولو قليلاً، وهو على ما أعتقد بعض ما يثير حماسة طيف واسع من السوريين تجاه هذه السلطات الجديدة، وبعض أسباب توهج هذه اللحظة. الهدوء والدعم الإقليمي يوحيان بأنه يمكن أن تتمخض هذه السلطو فعلاً عن “دكتاتورية وطنية”، والذي قد يكون من حظ سوريا، بشكل من الأشكال.
حتى لو أفرطنا بالتفاؤل وتحقق ذلك فعلاً، يبقى بأنني وكثر غيري، لا يمكن أن نكون جزءا من هكذا مشروع، ولا أن نقبل بالتواطئ معه. ما قد يسمح بخيارات أخرى، مختلفة عن استهلاك الاخبار مساءاً، هو الحلم والعمل على إخراج رأس السياسة من صندوق الديمقراطية التمثيلية الذي يأسر خيالها لتفكر بابتكار نموذج مختلف، في هذا الوقت المستقطع. نموذج لا يقطع مع الديمقراطية بكل تأكيد، بل ويتبناها كمقولة كبرى وفلسفة في الحياة والوجود، وإنما يحاول استبدال مقولة النخبة، الرثة وغير الموجودة تقريباً، والتي يعتمد عليها هذا الشكل من الديمقراطية، بمقولة الأقلية الفعالة والذكاء الجماعي والأخوة، بما يحوّل القلة التحررية المبعثرة إلى جماعة، أقلية فاعلة، قادرة على التواصل مع الآخرين، الذين لا يرغبون بأن يجري اختزالهم في الأغلبية الحاكمة، والذين يشكلون الأغلبية الحقيقية في البلد وفي أي بلد، ليكون الهدف التحول إلى قوة اجتماعية قادرة على بث الإيقاع في الحياة السياسية وعلى تحديد بعض الخطوط الحمر للسلطات الجديدة، وعلى المضي في مشوار بناء دولة القانون والديمقراطية.
أعتقد أيضاً بأن هذه الأقلية الفعالة ليست صغيرة، وبأننا كنا مستنقعات صغيرة راكدة وفاقدة لاتصالها ببعضها، كما أعتقد أيضا أن تواصلنا في فضاء لا سلطوي أو ذو تقاليد كارهة للسلطة، أو ميزاركية، ممكن بل وقد يحولنا الى تيار، يمكن أن يساهم في ري أرض البلد العطشى، وأن يتدفق الى أعماقها فيخصّبها ويتحول إلى بعض أعذب ينابيعها. تواصلنا مع بعضنا ممكن، إن تحلى القليل منا بالمزاج العالي وروح المبادرة والخبرة التنظيمية، والذكاء الاجتماعي أو الحس السياسي. تواصلنا مع الناس العاديين، الأغلبية الحقيقية، إن تمكننا من العمل على لغة وخطاب يسمحان بتواصل بسيط عميق وشفاف وتشاركي، أكثر من ممكن بل ومشتهى من قبل الأغلبية الساحقة من هؤلاء فمن لا يرغب بسياسة تحسن أحواله وتصالحه مع وجوده لتمنحه طيب العيش والكثير من المرح.
الفيس بوك
———————————–
رؤساء سوريا في 100 عام… من استقالة صبحي بركات إلى أحمد الشرع/ سامي مبيض
بعضهم لم يمارس مهامه وبعضهم الآخر تسلم الصلاحيات دون تسميته
آخر تحديث 30 يناير 2025
ما هو رقم الرئيس أحمد الشرع، في تسلسل رؤساء سوريا؟
الجواب إشكالي وغير متفق عليه، فبعضهم كانوا رؤساء دون أن يمارسوا مهامهم الرئاسية، وهناك من تسلّموا الصلاحيات الرئاسية دون تسميتهم رؤساء. الكثير من الناس يخطئون القول بأن محمد علي العابد هو أول رئيس سوري بعد انتخابه سنة 1932، ولكن قبله كان هناك رئيسان للدولة في عشرينات القرن العشرين، أحدهما جاء بالانتخاب، والثاني بالتعيين. علينا الاتفاق على عدد لمعرفة ما رقم رئيس سوريا المقبل بعد الإطاحة ببشار الأسد، ونفيه خارج البلاد.
الرئيس الأول صبحي بركات (1922-1925)
الرئيس الأول هو– ومن دون أدنى شك- صبحي بركات، ابن مدينة أنطاكية الذي انتخب رئيساً لدولة الاتحاد السوري في 11 ديسمبر/كانون الأول 1922. وعند انتهاء الحكم الفيدرالي في سوريا يوم 1 يناير/كانون الثاني 1925، أصبح رئيساً لدولة سوريا حتى استقالته من المنصب في 21 ديسمبر 1925، احتجاجاً على قصف فرنسا لمدينة دمشق قبلها بشهرين. كان أول رئيس يستقيل من المنصب طوعياً وقد لحقه كثيرون.
الرئيس الثاني أحمد نامي (1926-1928)
سمّي بعده الداماد أحمد نامي، صهر السلطان عبد الحميد الثاني، رئيساً للدولة وللحكومة معاً بقرار من المفوض السامي هنري دي جوفونيل، من 5 مايو/أيار 1926 ولغاية 8 فبراير/شباط 1928 يوم أجبر على الاستقالة بعد انسحاب معظم وزرائه. كان أول وآخر رئيس من العرق الشركسي، وثاني رئيس يستقيل من منصبه بعد صبحي بركات وقد حكم من دون دستور أو مجلس نيابي وشهد عهده أعنف معارك الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي.
العابد أول رئيس للجمهورية السورية (1932-1936)
غاب منصب رئيس الدولة من بعدها، وتولّى زمام الحكم الشيخ الدمشقي تاج الدين الحسني، بصفته رئيساً للحكومة في السنوات 1928-1931. وفي سنة 1932 تحولت “الدولة السورية” إلى جمهورية، بعد إقرار الدستور وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية. ترشح الوجيه الدمشقي محمد علي العابد ضد رئيس الدولة الأسبق صبحي بركات، وحاكم دولة دمشق الأسبق حقي العظم، وبعد فوزه عليهما أصبح أول رئيساً للجمهورية في 11 يونيو/حزيران 1932. درس العابد في جامعة السوربون العريقة وكان سفيراً سابقاً للدولة العثمانية في واشنطن، وأكبر رئيس سوري حتى ذلك التاريخ، وهو في الخامسة والستين من عمره. كان أول رئيس يحكم بشرعية الدستور والمجلس النيابي معاً، علماً أن فرنسا عطّلت المجلس في عهده، وبقي العابد في المنصب لغاية استقالته في 21 ديسمبر 1936.
الرئيس الثاني للجمهورية (1936-1939)
بعد استقالة العابد انتخب الشيخ الجليل والزعيم الوطني هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية نهاية عام 1936، وكان عهده دستورياً وبرلمانياً، ولكنه استقال من المنصب في 8 يوليو/تموز 1939 بسبب رفض المجلس الوطني الفرنسي المصادقة على معاهدة عام 1936 التي كان من المفترض أن توسّع من صلاحيات الحكومة السورية، وتمهّد الطريق أمام الاستقلال التدريجي. بعد أقل من شهرين على استقالة الرئيس، اندلعت الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وفرضت الأحكام العرفية على سوريا، مع حل المجلس النيابي، وتعطيل الدستور.
الرئيس الثالث للجمهورية (1941-1943)
وفي 16 سبتمبر/أيلول 1941، أصبح رئيس الحكومة الأسبق تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية، بقرار من قائد قوات فرنسا الحرة الجنرال شارل ديغول. رفض أن يأتي بالتعيين، وطلب إلى ديغول دعوته لتولي المنصب، فوافق الأخير، ولكنه قال بوضوح إنه لن يكون هناك انتخابات في سوريا ولا عودة إلى الدستور قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في عهد الشيخ تاج دمجت جبال العلويين وجبل الدروز بالوطن الأم، ونالت سوريا استقلالها عن الانتداب ولكن الفرنسيين الأحرار قالوا إنهم لن ينسحبوا عسكرياً من سوريا قبل انتهاء الأعمال القتالية في أوروبا.
تاج الدين الحسني
كان الشيخ تاج أول رئيس جمهورية يأتي بالتعيين، وأول رئيس يتوفى في سدّة الحكم يوم 17 يناير 1943. خلفه رئيس الحكومة جميل الألشي رئيساً بالوكالة لغاية 25 مارس/آذار، يوم تعيين الوجيه الدمشقي عطا الأيوبي رئيساً للدولة وتكليفه بالإشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة.
الرئيس الرابع والخامس (1943-1949)
شهد عام 1943 أربعة رؤساء في سوريا، أولهم الشيخ تاج، ثانيهم جميل الألشي، ثالثهم عطا الأيوبي، ورابعهم شكري القوتلي الذي انتخب في 17 أغسطس/آب 1943. شهد عهد القوتلي منجزات عدة، منها مشاركة سوريا في تأسيس جامعة الدول العربية، وحضورها مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية في 30 أبريل/نيسان 1945. وكان القوتلي أول رئيس سوري يُسافر خارج البلاد وهو على رأس عمله، إلى بيروت للقاء نظيره اللبناني بشارة الخوري، وإلى السعودية حيث حل ضيفاً على الملك عبد العزيز آل سعود، وإلى مصر للقاء الملك فاروق وحضور أول قمة عربية في مدينة أنشاص في مايو/أيار 1946. وفي عهده أيضاً وقع العدوان الفرنسي على دمشق يوم 29 مايو 1945، تحقّق جلاء سوريا التام عن الانتداب الفرنسي في 17 أبريل 1946. وشهد عهده تأسيس الجيش السوري يوم 1 أغسطس 1945 ودخول سوريا في حرب فلسطين منتصف شهر مايو 1948. وكان أول رئيس يعدّل الدستور، للسماح للقوتلي بولاية ثانية سنة 1948.
حسني الزعيم أول جنرال يحكم سوريا
بدأت مرحلة تمادي العسكريين على الحكم المدني في أعقاب حرب فلسطين وفي 29 مارس 1949 كان الانقلاب الأول على الرئيس القوتلي، بقيادة قائد الجيش حسني الزعيم. فرض الزعيم الأحكام العرفية، وعطّل العمل بالدستور والمجلس النيابي، وحل كل الأحزاب، واعتقل رئيس الجمهورية. بعد حصوله على استقالة القوتلي رشّح نفسه للرئاسة، وفاز دون منافسة في 26 يونيو 1949. أسّس لحكم العسكر في سوريا وكان أول من نظّم استفتاء شعبياً بدلاً من الطريقة المتبعة من قبل كل أسلافه التي كان يجري فيها انتخاب الرئيس بالتصويت داخل مجلس النواب.
دخل في مفاوضات مع إسرائيل، منها العلني لأجل التوقيع على اتفاقية الهدنة بعد حرب 1948، ومنها السري لإقامة سلام دائم مع ديفيد بن غوريون. كان الزعيم أول من يعتقل رئيساً منتخباً، وأول مع يتعدى على الدستور والسلطة التشريعية، ولكن عهده لم يستمر طويلاً، وأطيح به بموجب انقلاب عسكري قاده اللواء سامي الحناوي في 14 أغسطس 1949. وكان حسني الزعيم أول رئيس سوري يُعدم رمياً بالرصاص بتهمة “الخيانة العظمى”.
عودة الحياة البرلمانية
مع سقوط الزعيم ومقتله، خرج الرئيس الأسبق هاشم الأتاسي من اعتزاله السياسي، وعاد إلى الحكم بعد عشر سنوات من استقالته الأولى، رئيساً للوزراء من 14 أغسطس ولغاية 14 ديسمبر 1949، ثم رئيساً للدولة لغاية انتخابه رئيساً للجمهورية في 8 سبتمبر 1950. أشرف الأتاسي على انتخاب جمعية تأسيسية مهمتها وضع دستور جديد بدلاً من دستور عام 1928 الذي عطّله حسني الزعيم. واجه تحديات جمّة من تمادي العسكريين على الحكم، وقيامهم بانقلابين في عهده، الأول على قائد الجيش نهاية عام 1949 والثاني على رئيس الحكومة معروف الدواليبي يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1951. ورفض التعاون مع صانع الانقلابين العقيد أديب الشيشكلي وفي 3 ديسمبر 1951، قدّم استقالته من الرئاسة، للمرة الثانية في حياته، موجّها إلى المجلس النيابي لا إلى أديب الشيشكلي.
إشكالية سعيد إسحاق
بموجب الدستور، كان من المفترض أن يتولّى رئيس المجلس النيابي ناظم القدسي مقاليد الحكم خلفاً للرئيس الأتاسي. ولكنه اعتُقل أيضاً من قبل الشيشكلي، وذهبت رئاسة البرلمان إلى نائب رئيس المجلس سعيد إسحاق. بعضهم عدّه رئيساً لمرحلة انتقالية، ولكن سعيد إسحاق لم يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية ولم يوقع على أي مرسوم رئاسي، ولم يدخل القصر الجمهوري لأنه مسيحي، وذلك ما يتعارض مع المادة الثالثة من الدستور التي تنص على أن يكون الرئيس السوري مسلماً.
العودة إلى حكم العسكر
لم يتسلّم أديب الشيشكلي بشكل مباشر في البداية بل عيّن صديقه اللواء الدمشقي فوزي سلو رئيساً للدولة من سنة 1951 ولغاية 11 يوليو 1953. في هذه الأثناء حكم الشيشكلي من خلف الستار، وأشرف على تقارب كبير مع الولايات المتحدة والسعودية ومصر بعد نجاح انقلاب الضباط الأحرار على الملك فاروق سنة 1952.
شهد عهده ازدهاراً اقتصادياً غير مسبوق، وكان الأنضج بين كل من حكم سوريا من العسكريين. كان أول رئيس حموي، وأول من أطلق حزباً خاصاً به باسم “حركة التحرير العربي”. وقد دعا الشيشكلي إلى استفتاء شعبي على طريقة حسني الزعيم، أوصله إلى رئاسة الجمهورية سنة 1953، مع وضع دستور جديد للبلاد، وانتخاب برلمان جديد، غابت عنه كل الأحزاب التقليدية.
إشكالية مأمون الكزبري
سقط الشيشكلي بموجب انقلاب عسكري، واستقال من منصبه في 25 فبراير 1954. جاء في كتاب الاستقالة الذي بثّ عبر أثير إذاعة دمشق أن قرار التنحي جاء تجنباً لسفك دماء السوريين، وتداعى السياسيون الكبار، وطلبوا إلى الرئيس المستقيل هاشم الأتاسي العودة إلى الحكم. ولكنه لم يصل دمشق إلّا في 1 مارس 1954، وفي أثناء المدة الفاصلة بين خروج الشيشكلي وعودة الأتاسي، ذهبت الرئاسة الأولى دستورياً إلى رئيس مجلس النواب الدكتور مأمون الكزبري، أستاذ القانون في الجامعة السورية، ولكنه لم يمارس صلاحيات رئاسية، ولم يدخل قصر المهاجرين، ولذلك يسقط اسمه عادة من قوائم رؤساء الجمهورية.
عودة الأتاسي والقوتلي مرة ثالثة
عاد هاشم الأتاسي إلى الرئاسة لإكمال ما تبقى من ولايته الدستورية المنقطعة بسبب انقلاب سنة 1951. عدّ الأتاسي أن عهد الشيشكلي لم يمر على سوريا، وأعاد العمل بالدستور القديم والمجلس النيابي القديم، وأبطل معظم قراراته. أشرف على الانتخابات النيابية والرئاسية التي تنافس فيها الرئيس الأسبق شكري القوتلي مع رئيس الحكومة الأسبق خالد العظم. فاز القوتلي على العظم، وصار أول رئيس سوري ينتخب ثلاث مرات، الأولى سنة 1943، والثانية 1948، والثالثة 1955.
هاشم الأتاسي
وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة في تاريخ سوريا التي يسلّم فيها الحكم بشكل سلمي وديمقراطي، دون انقلاب أو وفاة مفاجئة أو مقتل أي من الرؤساء. سلّم الأتاسي الحكم إلى القوتلي في 5 سبتمبر 1955، وعاد إلى مسقط رأسه في حمص حيث توفي سنة 1960.
وقد حكم القوتلي سوريا في مرحلة عصيبة من الحرب الباردة، وكان أول رئيس يزور الاتحاد السوفياتي سنة 1956، وفي عهده أقيمت أول صفقة سلاح مع موسكو، وعلاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية. أراد الأميركيون الإطاحة به، واتهموه بالتعاطف مع المعسكر الشرقي، وقد رتبوا لانقلاب عسكري أجهض من قبل المخابرات السوري ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية، وسحب السفير السوري من واشنطن. وفي عهده أيضاً قطعت العلاقات مع بريطانيا وفرنسا رداً على العدوان الثلاثي على مصر، قبل أن يستقيل طوعياً عند ولادة جمهورية الوحدة مع مصر في فبراير 1958.
شكري القوتلي
الوحدة والانفصال (1958-1961)
كان جمال عبدالناصر أول شخص غير سوري يصل إلى القصر الجمهوري بدمشق، علماً أن رئيس الدولة أحمد نامي كان لبنانياً سنة 1926 وكذلك رئيس حكومة المديرين بهيج الخطيب سنة 1939 (وهو مصطلح بديل عن مجلس الوزراء اعتمدته فرنسا مدة قصيرة أيام الانتداب). حقق عبدالناصر جماهيرية واسعة منقطعة النظير، ووعد بأن تستمر دولة الوحدة 100 عام. ولكنه خذل الطبقة الاقتصادية من صناعيين ومصرفيين وتجّار وملاك، بسبب قانون الإصلاح الزراعي سنة 1958 وقرارات التأميم سنة 1961 التي طالت معظم المصارف وكبرى الشركات الصناعية.
أسس لدولة بوليسية عبر المكتب الثاني (شعبة المخابرات العسكرية)، وسقط بانقلاب عسكري يوم 28 سبتمبر 1961. أراد بعض العسكريين دعوة شكري القوتلي للعودة إلى الحكم واستكمال ولايته التي قطعت سنة 1958، تماماً كما فعل هاشم الأتاسي بعد سقوط الشيشكلي، ولكن القوتلي رفض ذلك، وأجريت انتخابات رئاسية نهاية عام 1961، فاز بها الدكتور ناظم القدسي، خريج جامعة جنيف ورئيس الوزراء الأسبق.
إشكالية لؤي الأتاسي
كان القدسي أول رئيس حلبي في تاريخ سوريا، ولكن فترة حكمه كانت قصيرة، وقد عطّلت مرتين، الأولى في أعقاب انقلاب فاشل قاده عبد الكريم النحلاوي في مارس 1962. واعتقل الرئيس وأعضاء مجلس النواب والوزراء ورئيسهم، قبل تمرد قائد الجيش على النحلاوي في 1 أبريل 1962. وأطلق سراح القدسي، ثم جاء انقلاب البعث في 8 مارس 1963 ليعتقل مرة ثانية ويجبر على الاستقالة، منهياً آخر عهد ديمقراطي في سوريا. بقي القدسي في السجن لغاية 30 نوفمبر 1963، وفرض قادة الانقلاب الأحكام العرفية، وحظروا كل الصحف والأحزاب السياسية، وأسسوا مجلساً لقيادة “الثورة” على غرار التجربة المصرية سنة 1952، وسموا الفريق لؤي الأتاسي رئيساً له، طبعاً بعد تعطيل الدستور والمجلس النيابي واعتقال معظم السياسيين القدامى وعزلهم مدنياً أو نفيهم خارج البلاد.
لؤي الأتاسي
لم يكن لؤي الأتاسي رئيساً للجمهورية، ولكنه تمتع بصلاحيات رئاسية محدودة. اليد العليا في سوريا يومها كانت للجنة العسكرية لحزب “البعث”، ولم يكن الأتاسي عضواً فيها لأنه لم يكن بعثياً بالأصل بل وحدوياً ناصرياً.
حاول استعادة الوحدة مع مصر، ولكنه لم يفلح بسبب رفض عبد الناصر التعامل مع البعثيين. وقد استقال لؤي الأتاسي من منصبه بسبب خلافات مع حزب “البعث” ورفضه التوقيع على قرار إعدام بحق رفاقه الناصريين الذين حاولوا الانقلاب على العهد يوم 18 يوليو 1963.
رؤساء البعث
شُكّل بعدها مجلس رئاسي مؤلف من شخصيات عدة، ذهبت رئاسته للفريق محمد أمين حافظ، الرئيس الحلبي الثاني في سوريا بعد ناظم القدسي. في عهد الحافظ جاءت قرارات تأميم جائرة بحق الصناعيين والتجّار، كانت أقسى وأشمل وأكثر ظلماً من قرارات عبد الناصر. ولكن الخلافات الحزبية أطاحت به يوم انقلاب اللواء صلاح جديد عليه وعلى القادة المؤسسين لحزب “البعث” في 23 فبراير 1966.
حافظ الأسد
اعتقل أمين الحافظ في 1 مارس وسمّي الدكتور نور الدين الأتاسي رئيساً للدولة. تخوف صلاح جديد من تولّي الرئاسة بنفسه لكونه من الأقلية العلوية، ولذلك قرر أن يحكم عن طريق الأتاسي المسلم السني وهو من أعرق عائلات سوريا. كان الأتاسي ثالث رئيس من عائلة الأتاسي، وأول مدني يصل إلى الحكم في عهد “البعث”، وأصغر رئيس في تاريخ سوريا.
في عهده كانت حرب يونيو سنة 1967، وفيها احتلت هضبة الجولان. وفي 16 نوفمبر 1970، انقلب عليه وزير الدفاع حافظ الأسد، وأمر باعتقاله مع صلاح جديد. ظلّ جديد سجيناً حتى الممات سنة 1993، ولم يطلق سراح الرئيس نور الدين الأتاسي إلا قبل أسابيع قليلة من وفاته سنة 1992.
وفي الأشهر الأولى من انقلاب الأسد، لم يتسلّم الرئاسة بشكل مباشر واكتفى برئاسة الحكومة، وعيّن المدرس البعثي الدمشقي أحمد الخطيب رئيساً للدولة اعتباراً من 18 نوفمبر 1970. وحكم الأسد من خلاله حتى 22 فبراير 1971، وبعد أن أصبح رئيساً للجمهورية عيّن الخطيب رئيساً لمجلس الشعب، ليكون ثاني رئيس بعد صبحي بركات يتسلّم منصباً سياسياً بعد خروجه من القصر الجمهوري. وحكم الأسد الأب سوريا بقبضة من حديد، وفي عهده أصبح “البعث” “قائداً للدولة والمجتمع” بموجب دستور عام 1973.
الحكم الوراثي
في عهده كانت مجزرة حماة سنة 1982، وهو أول زعيم عربي عمل جدياً على التوريث، ما شجّع معمر القذافي على تهيئة ابنه سيف الإسلام لحكم ليبيا، وحسني مبارك على التفكير بجعل ابنه جمال وريثاً له في مصر، وعديّ صدام حسين خليفة لأبيه في العراق. جميعهم لم يفلحوا إلا حافظ الأسد، الذي حضر ابنه البكر باسل ليكون خليفة له وبعد وفاة الأخير بحادث سير سنة 1994، بدأ التحضير لثاني أبنائه بشار. وعند وفاة حافظ الأسد في 10 يونيو 2000 اجتمع مجلس الشعب فوراً، وعدّل الدستور السوري لأجل بشار الذي لم يكن يحقق شرط الأربعين من العمر ليصبح رئيساً. ورُفّع الأسد الابن إلى رتبة فريق، متجاوزاً كل المراحل العسكرية النظامية في أكبر إهانة لكل الضباط والعسكريين.
إشكالية عبد الحليم خدام
كان من المفرض أن يتسلم عبد الحليم خدام، النائب الأول لرئيس الجمهورية، الحكم بشكل مؤقت بعد وفاة حافظ الأسد ولكن بشار منعه من ذلك. كل القرارات التي وقعها في المرحلة الانتقالية كانت بصفته نائباً للرئيس وليس رئيساً، ويخطئ بعضهم عندما يضعونه في قائمة الرؤساء.
عهد بشار الأسد وسقوطه
تولّى بشار الأسد الحكم في 17 يوليو 2000 وحكم البلاد بالحديد والنار والسجون والمعتقلات. وأجهض ربيع دمشق سنة 2001 وشارك في مقتل رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري سنة 2005، قبل قمعه للمظاهرات السلمية التي اندلعت في أعقاب الربيع العربي عام 2011. جر البلاد إلى حرب أهلية، وباعها للميليشيات الطائفية الإيرانية، قبل سقوطه المدوي وهروبه إلى موسكو في 8 ديسمبر 2024، منهياً بفراره 61 سنة من حكم “البعث” و54 سنة من حكم عائلة الأسد.
أحمد الشرع
ويوم الإربعاء 29 يناير/ كانون الثاني، أعلنت إدارة العمليات العسكرية في سوريا إسناد منصب رئيس البلاد في المرحة الانتقالية إلى أحمد الشرع.
وأعلنت الإدارة أيضا تفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية وتعليق الدستور ضمن مجموعة من القرارات صدرت خلال “مؤتمر إعلان انتصار الثورة السورية” في دمشق بحضور قادة الفصائل المسلحة الأعضاء بإدارة العمليات العسكرية.
وقال الشرع في كلمة أمام المؤتمر “أولويات سوريا اليوم هي أولا أن يملئ فراغ السلطة بشكل شرعي وقانوني”.
كما دعا إلى الحفاظ “على السلم الأهلي من خلال السعي لتحقيق العدالة الانتقالية ومنع مظاهر الانتقام وبناء مؤسسات الدولة وعلى رأسها (المؤسسات) العسكرية والأمنية والشرطية”.
وأضاف أن من بين الأولويات أيضا هي تشييد “بنية اقتصادية تنموية”.
وأفاد الإعلان “بتولية السيد القائد أحمد الشرع رئاسة البلاد في المرحلة الانتقالية” وأضاف أن الشرع ” سيقوم بمهام رئاسة الجمهورية العربية السورية، ويمثلها في المحافل الدولية”.
وشملت القرارات المعلنة حل مجلس الشعب الذي انتخب في عهد الأسد على أن يقوم المجلس التشريعي المؤقت بتولي مهامه لحين إقرار دستور دائم ودخوله حيز التنفيذ.
كما شملت القرارات “حل حزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان” وكذلك “حل جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية” مع دمجها في مؤسسات الدولة.
ودوت أصوات إطلاق نار في وسط دمشق تعبيرا عن الاحتفال بعد وقت قصير من الإعلان.
رؤساء سوريا
1- صبحي بركات (أنطاكيا – رئيساً للدولة)
المدة: 11 ديسمبر 1922 – 21 ديسمبر 1925 (3سنوات)
2- أحمد نامي (بيروت – رئيساً للدولة)
المدة: 5 مايو 1926 – 8 فبراير 1928 (سنة و9 أشهر)
3- محمد علي العابد(دمشق – رئيساً للجمهورية)
المدة: 11 يونيو 1932 – 21 ديسمبر 1936 (4 سنوات و6 أشهر)
4- هاشم الأتاسي (حمص – رئيساً للجمهورية)
المدة: 21 ديسمبر 1936 – 8 يوليو 1939 (سنتان و7 أشهر)
5- تاج الدين الحسني(دمشق – رئيساً للجمهورية)
المدة: 16 سبتمبر 1941 – 17 يناير 1943 (سنة و4 أشهر)
6- جميل الألشي (دمشق – رئيساً للجمهورية بالوكالة)
المدة: 17 يناير – 25 مارس 1943 (65 يوما)
7- عطا الأيوبي (دمشق – رئيساً للدولة)
المدة: 25 مارس – 17 أغسطس 1943 (5 أشهر)
8- شكري القوتلي (دمشق – رئيساً للجمهورية)
المدة: 17 أغسطس 1943 – 29 مارس 1949 (5 سنوات و7 أشهر)
9- حسني الزعيم (دمشق – رئيساً للجمهورية)
المدة: 26 يونيو – 14 أغسطس 1949 (137 يوما في الحكم، شهر و19 يوما في الرئاسة)
10- هاشم الأتاسي (حمص – رئيساً للدولة ثم للجمهورية)
المدة: 14 ديسمبر 1949 – 3 ديسمبر 1951 (سنتان)
11- فوزي سلو (دمشق – رئيساً للدولة)
المدة: 3 ديسمبر 1951 – 11 يوليو 1953 (سنة و7 أشهر)
12- أديب الشيشكلي (حماة – رئيساً للجمهورية)
المدة: 11 يوليو 1953 – 25 فبراير 1954 (7 أشهر و14 يوما)
13- مأمون الكزبري (دمشق – رئيساً للجمهورية بالوكالة)
المدة: 25 فبراير – 1 مارس 1954 (3 أيام)
14- هاشم الأتاسي (استكمال ولاية)
المدة: 1 مارس 1954 – 5 سبتمبر 1955 (سنة و6 أشهر)
15- شكري القوتلي (دمشق – رئيساً للجمهورية)
المدة: 5 سبتمبر 1955 – 21 فبراير 1958 (سنتان و5 أشهر)
16- جمال عبد الناصر(رئيساً للجمهورية)
المدة: 21 فبراير 1958 – 28 سبتمبر 1961 (3 سنوات و7 أشهر)
17- ناظم القدسي(حلب – رئيساً للجمهورية)
المدة: 14 ديسمبر 1961 – 8 مارس 1963 (سنة و3 أشهر)
18- لؤي الأتاسي (حمص – رئيساً لمجلس قيادة الثورة)
المدة: 27 مارس – 27 يوليو 1963 (4 أشهر)
19- أمين الحافظ (حلب – رئيساً للدولة)
المدة: 27 يوليو 1963 – 23 فبراير 1966 (سنتان و7 أشهر)
20- نور الدين الأتاسي (حمص – رئيساً للدولة)
المدة: 1 مارس 1966 – 16 نوفمبر 1970 (4 سنوات و8 أشهر)
21- أحمد الخطيب (دمشق – رئيساً للدولة)
المدة: 18 نوفمبر 1970 – 22 فبراير 1971 (3 أشهر)
22- حافظ الأسد (القرداحة – رئيساً للجمهورية)
المدة: 22 فبراير 1971 – 10 يونيو 2000 (29 سنة و7 أشهر)
23- بشار الأسد(القرداحة – رئيساً للجمهورية)
المدة: 17 يوليو 2000 – 8 ديسمبر 2024 (24 سنة و5 أشهر)
24- أحمد الشرع ( 29 يناير 2025- )
* نشر المقال في 17 ديسمبر 2024 وتم تحديثه في 30 يناير 2025
المجلة
—————————————
=====================