“ديب سيك”… فقاعة صينية أم تهديد لأميركا؟/ ماركو مسعد
نجاح في ظل العقوبات الأميريكية
آخر تحديث 31 يناير 2025
شهد العالم في السنوات الماضية نقاشات حادة حول سباق الذكاء الاصطناعي، حيث تنافس الجميع لامتلاك الأدوات المالية والعلمية التي تضمن السيطرة على هذا المجال الحيوي. اليوم، أصبح هذا السباق واقعا ملموسا، مع تنافس شركات عالمية للتفوق في هذا المضمار، الذي يحمل تداعيات كبرى على قطاعات حيوية مثل الاقتصاد، والصناعات المدنية والعسكرية، وغيرها من المجالات.
وفي خضم هذا التنافس، لفتت شركة “ديب سيك” الصينية الأنظار بإعلانها نموذج ذكائها الاصطناعي الجديدR1، الذي تفوق على نموذج شركة “أوبن إيه آي” في العديد من المهام.
لكن الأكثر إثارة للاهتمام، التكلفة المنخفضة لتطوير هذا النموذج، التي لم تتجاوز ستة ملايين دولار، وهو مبلغ يعتبر زهيدا مقارنة بتكاليف نماذج أخرى. فعلى سبيل المثل، بلغت تكلفة تطوير نموذج “جيمناي” ما بين 30 و191 مليون دولار، بينما تراوحت تكلفة تطوير “تشات جي بي تي-4” بين 41 و78 مليون دولار، وفقا لدراسة حديثة من شركات أبحاث متخصصة في بحوث الذكاء الاصطناعي، التي أكد نتائجها الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن أيه آي” سام ألتمان حين قال إن تطوير نموذج شركته كلفها نحو 100 مليون دولار.
هذه التكلفة المنخفضة، بالإضافة إلى سرعة تطوير النموذج التي لم تتجاوز شهرين، وكونه مفتوح المصدر ومجاني الاستخدام، أثارت ضجة كبيرة في الولايات المتحدة، وفتحت الباب أمام تساؤلات عديدة؛ من بينها: هل نجحت الصين في التفوق على الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي؟ وهل البيانات التي قدمتها “ديب سيك” حول نموذجها دقيقة؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فما هي تداعيات ذلك على استثمارات الشركات الأميركية العملاقة السبع، التي تضم “آبل”، “مايكروسوفت”، “غوغل”، “ميتا”، “أمازون”، و”تسلا”، علاوة على “إنفيديا”، أم أن انفتاح النموذج ومجانيته يعنيان أن فوائده ستشمل الجميع؟
أحدث ظهور ذلك النموذج صدمة في الأسواق الأميركية، فعلى سبيل المثل فقدت شركة “إنفيديا” العملاقة نحو 589 مليار دولار من قيمتها السوقية في يوم واحد، بسبب اهتزاز الثقة في الاستثمارات الضخمة التي ضختها الشركات الأميركية في البنية التحتية ومشاريع الأبحاث والتطوير، إذ أصبح من الممكن تحقيق نتائج أفضل بتكاليف أقل.
بداية مبكرة
تبدأ قصة الشركة في فبراير/شباط 2016، حين شارك ليانغ ونفنغ المهتم بالذكاء الاصطناعي، في تأسيس شركة “هاي-فلاير”، وذلك بعدما كان يعمل في التداول منذ الأزمة المالية بين عامي 2007 و2008 أثناء دراسته في جامعة تشجيانغ.
وفي حلول عام 2019، أسس “هاي-فلاير” كصندوق استثماري يركز على تطوير واستخدام خوارزميات التداول القائمة على الذكاء الاصطناعي. وفي عام 2021، أصبحت الشركة تعتمد بالكامل على الذكاء الاصطناعي في عمليات التداول.
أطلقت “ديب-سيك” روبوت المحادثة الذكي الخاص بها كمصدر مفتوح، مما يعني أن شفرته البرمجية متاحة للجميع للاطلاع والتعديل والاستخدام، بالإضافة إلى إمكان الوصول إلى الوثائق التصميمية الخاصة به لأغراض التطوير.
وفقا لتقرير صادر عن “36Kr”، قام ليانغ بتجميع مخزون يضم 10,000 وحدة معالجة متقدمة من طراز “A100″، التي تُستخدم في تدريب الذكاء الاصطناعي، وذلك قبل أن تفرض الحكومة الفيديرالية في الولايات المتحدة قيودا على تصدير هذه الشرائح إلى الصين.
وفي أبريل/نيسان 2023، أطلقت “هاي-فلاير” مختبرا مخصصا لأبحاث الذكاء الاصطناعي العام، يعمل على تطوير أدوات ذكاء اصطناعي مستقلة عن أعمال الشركة المالية. وفي مايو/أيار 2023، تحول هذا المختبر إلى شركة مستقلة تحت اسم “ديب-سيك”، بمشاركة “هاي-فلاير” كأحد المستثمرين الرئيسيين. ومع ذلك، كانت شركات رأس المال الاستثماري مترددة في تمويل المشروع، نظرا الى عدم وجود فرصة لتحقيق عوائد سريعة منه.
بعد إطلاق “ديب-سيك V2” في مايو/أيار 2024، الذي تميز بأداء قوي وسعر منخفض، أصبحت الشركة محفزا رئيسا لحرب الأسعار في سوق نماذج الذكاء الاصطناعي في الصين. وسرعان ما أُطلق عليها لقب “بيندودو الذكاء الاصطناعي”، مما دفع عمالقة التكنولوجيا مثل “بايت دانس”، و”تينسنت”، و”بايدو”، و”علي بابا” إلى خفض أسعار نماذجهم لمواكبة المنافسة. ورغم التسعير المنخفض، كانت “ديب-سيك” تحقق أرباحا، في حين تكبد منافسوها خسائر.
والآن، تعمل “ديب-سيك” على البحث والتطوير دون خطط واضحة للتسويق التجاري، مما يسمح لها بتجنب بعض القيود التنظيمية الأكثر صرامة على الذكاء الاصطناعي في الصين، مثل الامتثال لرقابة الحكومة على المعلومات في التقنيات الموجهة للمستهلكين.
وتعتمد سياسة التوظيف في “ديب-سيك” على المهارات التقنية بدلا من الخبرة المهنية، مما أدى إلى أن معظم الموظفين الجدد إما متخرجون حديثون من الجامعات أو مطورون مبتدئون في مجال الذكاء الاصطناعي. كما توظف الشركة أفرادا من خارج تخصص علوم الحاسوب، بهدف توسيع نطاق فهم تقنياتها لمجالات معرفية أخرى، بما في ذلك القدرة على تأليف الشعر والتفوق في امتحانات القبول الجامعي الصعبة في الصين.
وتم تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بـ”ديب سيك” في ظل العقوبات الأميركية التي فرضت على الصين والهند، والتي هدفت إلى الحد من قدرة البلدين على تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة من خلال تقييد تصدير شرائح “إنفيديا”. ومع ذلك، نجحت الشركة في تجاوز هذه التحديات بفضل التخطيط الاستراتيجي وتخزينها لـ 10,000 وحدة معالجة رسومية (GPU) من نوع Nvidia A100 قبل فرض العقوبات.
نموذج مفتوح المصدر
أعلنت شركة “ديب سيك” إحدى المميزات الرئيسة لنموذجها R1، وهي كونه مفتوح المصدر، مما سمح للشركات الأميركية باستضافة النموذج على بنيتها التحتية الخاصة. على سبيل المثل، أعلنت شركة Groq، المتخصصة في تطوير معالجات الذكاء الاصطناعي (TPUs) التي تتميز بسرعتها الفائقة مقارنة بالمعالجات التقليدية، استضافة نسخة مصغرة من نموذج R1 ضمن إطار نموذج LLaMA-70B من شركة “ميتا”.
هذا المزج بين النموذجين أدى إلى تعزيز قدرات R1 في حل المشكلات المعقدة وتسريع عمليات التفكير، حيث يتميز النموذج بقدرته على “التفكير بصوت عالٍ”، أي مشاركة خطوات تفكيره وصولا إلى الحلول، على عكس النماذج التقليدية التي تقدم إجابات مباشرة دون شرح للعمليات المنطقية التي تقف خلفها.
كما أعلنت “مايكروسوفت” إمكان استخدام نموذج R1 عبر منصتها Azure AI Foundry، مما يتيح للشركات الاستفادة من قدرات النموذج في تطبيقاتها الخاصة. جاء ذلك في ظل اتهامات من “أوبن أيه آي”، الشريك الوثيق لـ”مايكروسوفت” بأن شركة “ديب سيك” الصينية قد سرقت حقوق الملكية الفكرية الخاصة بها وانتهكت شروط الخدمة.
رغم ذلك؛ لا تزال “مايكروسوفت” تُظهر اهتماما واضحا بنماذج “ديب سيك” الجديدة، وتعمل على دمجها بالكامل في منصتها السحابية. هذا التعاون المثير للجدال يسلط الضوء على التوترات التنافسية في عالم الذكاء الاصطناعي، حيث تتنازع الشركات الكبرى على الريادة في هذا المجال الحيوي.
وقد أعلنت “مايكروسوفت” توفر نموذج R1، المعروف باسم “نموذج الاستدلال” من “ديب سيك”، على منصتها السحابية Azure AI Foundry التي تجمع تحت مظلتها مجموعة من خدمات الذكاء الاصطناعي الموجهة الى المؤسسات، مما يسمح للعملاء بالوصول إلى أحدث التقنيات في هذا المجال. ووفقا لـ”مايكروسوفت”، خضع نموذج R1 لتقييمات أمنية صارمة، بما في ذلك اختبارات “الفريق الأحمر” ومراجعات السلامة الشاملة، للتأكد من سلوكه الآمن وتخفيف أي أخطار محتملة.
اتهامات غربية
أشارت “مايكروسوفت” أيضا إلى أن العملاء سيتمكنون في المستقبل القريب من استخدام إصدارات “مقطرة” من R1 للتشغيل محليا على أجهزة Copilot +، وهي العلامة التجارية لأجهزة Windows التي تلبي متطلبات الاستعداد للذكاء الاصطناعي. هذا التكامل يُظهر ثقة “مايكروسوفت” في قدرات النموذج، على الرغم من الاتهامات الموجهة إلى “ديب سيك”.
بالإضافة إلى ذلك، أشار أرفيناد سرينفاس، الرئيس التنفيذي لشركة Perplexity الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، عبر منصة X، إلى خطوات مماثلة لدمج النموذج في حلولهم.
على الرغم من هذه الإيجابيات، أثار نجاح “ديب سيك” تساؤلات حول كيفية تطوير النموذج. فقد أشار يان ليكون كبير الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي بشركة “ميتا”، عبر منصة “لينكد إن”، إلى أن “ديب سيك” استفادت من نماذج ومكتبات مفتوحة المصدر مثل PyTorch وLLaMA، مما يعني أن النموذج لا يمثل تفوقا صينيا على التقنيات الأميركية، بل هو نتاج تراكم معرفي يعتمد على أدوات متاحة للجميع.
ولا تزال هناك شكوك حول تفاصيل تطوير النموذج. فقد أشارت تقارير إلى أن “ديب سيك” ربما استفادت من بيانات خاصة بشركة “أوبن أيه آي” وهو ما أثار جدالا حول مدى شرعية هذه العملية. وقد علق ديفيد ساكس مستشار البيت الأبيض للذكاء الاصطناعي، على هذا الأمر خلال مقابلة مع “فوكس نيوز”، مشيرا إلى أن “ديب سيك” قد تكون نقلت المعرفة المعقدة من نماذج الشركة الأميركية إلى نماذج أصغر وأبسط، مما قد يشكل انتهاكا لسياسات “أوبن أيه آي”.
وعلى الرغم من الإشادة بقدرات R1، إلا أن هناك مخاوف تتعلق بدقته وموثوقيته. وفقا لاختبار أجرته منظمة NewsGuard، وهي منظمة مختصة بتحليل موثوقية المعلومات، قدم النموذج إجابات غير دقيقة أو غير كافية بنسبة 83% من الوقت عند سؤاله عن موضوعات متعلقة بالأخبار. بالإضافة إلى ذلك، وجد اختبار منفصل أن R1 يرفض الإجابة عن 85% من الأسئلة المتعلقة بالصين، مما قد يعكس تأثير الرقابة الحكومية الصينية على نماذج الذكاء الاصطناعي المطورة في البلاد.
قيود أميركية
بدأت القيود الأميركية على الصين في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة تأخذ شكلا أكثر وضوحا في السنوات الأخيرة، وخاصة مع تصاعد التوترات الجيوسياسية والمنافسة التكنولوجية بين البلدين. في عام 2018، كانت البداية الفعلية لهذه القيود عندما أقرت الولايات المتحدة قانون مراقبة الصادرات الإصلاحي (ECRA)، الذي وسع نطاق مراقبة الصادرات ليشمل التكنولوجيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية. وفي عام 2019، أدرجت الولايات المتحدة شركات صينية كبرى مثل “هواوي” على قائمة الكيانات المقيدة، مما منعها من الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية، بما في ذلك شرائح “إنفيديا” و”إنتل” المتقدمة.
مع دخول عام 2020، تصاعدت القيود بشكل ملحوظ. أعلنت الولايات المتحدة قيودا جديدة على تصدير شرائح “إنفيديا” وAMD المتقدمة إلى الصين، التي تُستخدم بشكل أساسي في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. كما تم إدراج المزيد من الشركات الصينية على قائمة الكيانات المقيدة، مما حد من قدرتها على الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية. وفي عام 2021، أصدرت إدارة بايدن أمرا تنفيذيا يحظر الاستثمارات الأميركية في شركات صينية تعمل في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة.
في أكتوبر/تشرين الأول 2022، أعلنت الولايات المتحدة حزمة قيود شاملة تهدف إلى الحد من قدرة الصين على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة. وشملت هذه القيود حظر تصدير شرائح “إنفيديا” المتقدمة مثل A100 وH100 إلى الصين، بالإضافة إلى تقييد تصدير معدات تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة. كما فرضت قيودا على تصدير البرمجيات والأدوات المستخدمة في تصميم وتصنيع شرائح الذكاء الاصطناعي.
شرائح متقدمة
مع دخول عام 2023، واصلت الولايات المتحدة توسيع نطاق القيود. أضافت المزيد من الشركات الصينية إلى قائمة الكيانات المقيدة، وفرضت قيودا على تصدير تقنيات الحوسبة السحابية التي يمكن أن تستخدمها الصين لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي. وفي أغسطس/آب 2023، أعلنت الولايات المتحدة قيودا جديدة على الاستثمارات الأميركية في قطاعات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات في الصين، بهدف منع نقل التكنولوجيا المتقدمة.
لكن؛ وخلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول 2022 إلى أكتوبر/تشرين الأول 2023، استغلت الشركات الصينية، بما في ذلك “ديب سيك”، هذه الفجوة الزمنية لتخزين الشرائح واستخدامها في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي. لكن، رغم امتلاك الصين مخزونا كافيا لعملية التدريب والتطوير، فإن كميات الشرائح لم تكن كافية لتوسيع نطاق استخدام النماذج على مستوى واسع.
تهدف القيود الأميركية على الصين إلى منعها من الوصول إلى المنتجات التكنولوجية الأميركية الحساسة، خاصة تلك المتعلقة بتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وأهمها بالطبع الشرائح المتقدمة، مثل شرائح “إنفيديا”. ووفقا لورقة بحثية نشرتها “ديب سيك”، فقد استخدمت الشركة نحو 2000 شريحة متقدمة من طراز H800 من “إنفيديا”. لكن الأخطر من ذلك، هي التقارير المتداولةعن امتلاك الشركة لشرائح “إنفيديا” الأكثر تقدما، H100.
وقد أكد ألكسندر وانج، الرئيس التنفيذي لشركة ScaleAI، أن “ديب سيك” حصلت على ما يقارب 50 ألف شريحة من طراز H100، وهو ما تحاول الشركة إخفاءه تجنبا للمشاكل القانونية مع الولايات المتحدة.
فالأمر لا يتعلق فقط بفشل سياسة الولايات المتحدة في تعطيل الصين ومنع تصدير المنتجات الأميركية إليها، بل يكشف أيضا عن خلل في سلاسل التوريد، حيث قد تكون الصين استغلت ثغرات في عملية التوريد إلى حلفاء الولايات المتحدة للحصول على هذه الشرائح.
ردت الصين على هذه القيود بإجراءات عدة لتعزيز قدراتها التكنولوجية. قامت بتعزيز الاستثمار المحلي في صناعة أشباه الموصلات وتطوير بدائل محلية لشرائح “إنفيديا”. كما شجعت الشركات الصينية على الاعتماد على التكنولوجيا المحلية وتقليل الاعتماد على الواردات الأميركية. بالإضافة إلى ذلك، عملت الصين على تطوير نماذج ذكاء اصطناعي تعتمد على موارد محلية، مثل نموذج DeepSeek-R1.
تجلّت آثار القيود الأميركية بوضوح؛ إذ مكّنت الصين من تطوير نماذج مثل R1، لكنها لم تكن كافية لدعم انتشار واسع النطاق لهذه النماذج. كما أن تأثير قيود 2023 ظهر عندما حاولت “ديب سيك” التوسع عالميا، وهو ما تزامن مع إعلانها عن هجوم سيبراني مزعوم تسبب في منع المستخدمين من تنزيل تطبيقاتها أو تسجيل الدخول إليها، رغم غياب أدلة واضحة على وقوع الهجوم. ويرجح أن الأزمة الحقيقية تكمن في أن الشرائح المتاحة كانت كافية لتدريب النماذج، لكنها غير كافية لدعم الملايين من المستخدمين، خاصة أن تطبيق “ديب سيك” تصدر قوائم التطبيقات الأكثر تحميلا في بعض المتاجر الرقمية.
لم تفشل السياسة الأميركية تماما في فرض قيود على تصدير التكنولوجيا إلى خصومها، وفي مقدمتهم الصين، لكنها وحدها لا تكفي لضمان استمرار التفوق الأميركي، الذي يبدو هشا أمام التقدم الصيني المتسارع. ومع ذلك، لا يعني ذلك أن الصين قد حققت قفزة كبيرة على حساب الولايات المتحدة، كما لا يمكن اعتبار الاستثمارات الضخمة التي ضختها الشركات الأميركية في البنية التحتية والأبحاث مجرد إهدار لرأس المال دون جدوى.
مفارقة جيفونز
لا تزال تكلفة تطوير نموذج R1، التي أعلنتها “ديب سيك” وتقدر بنحو 6 ملايين دولار، محل نقاش وبحث. وحتى تتضح نتائج هذا البحث، هناك احتمالان، أولهما أن تكون “ديب سيك” صادقة في شأن التكلفة المعلنة، بحيث تشمل جميع مراحل تطوير النموذج، وليس فقط المراحل النهائية من التدريب أو الأجزاء الناجحة من العملية. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يشير إلى طرق تكنولوجية جديدة تتيح تحقيق أقصى استفادة من البنية التحتية والشرائح المتاحة. بمعنى آخر، إذا تمكنت “ديب سيك” من تطوير هذا النموذج باستخدام شرائح غير فائقة التطور ودون الحاجة إلى مراكز بيانات ضخمة، فإن الولايات المتحدة، بفضل بنيتها التحتية القوية واستثماراتها الهائلة، قد تكون قادرة على تحقيق إنجازات أكبر بكثير. وهذا بدوره يطرح تساؤلا حول كيفية إعادة توجيه الموارد بشكل أكثر كفاءة لتعظيم الاستفادة من الإمكانات المتاحة.
أما الاحتمال الثاني فهو أن تكون “ديب سيك” لم تكشف عن التكلفة الحقيقية لتطوير النموذج، وهذا ما يدعمه العديد من رواد الأعمال، بمن فيهم إيلون ماسك. وإذا تأكد ذلك، فسيكون دليلا إضافيا على صحة توجه الشركات الأميركية نحو ضخ استثمارات ضخمة في الذكاء الاصطناعي، باعتباره السبيل الوحيد للوصول إلى ما يُعرف بـ”انفجار الذكاء”—وهو المفهوم الذي تناوله الباحث ليوبولد أشنبيرجر في ورقته البحثية “تقييم الموقف”. وفقا لأشنبيرجر، فإن جوهر المنافسة بين الصين والولايات المتحدة لا يكمن في تكلفة الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام أو الفائق، بل في من يصل إليه أولا.
رغم أهمية نموذج R1 في دفع عجلة تطوير الذكاء الاصطناعي، إلا أن العامل الحاسم يكمن في اكتشاف طرق جديدة لتعزيز كفاءة البنية التحتية واستغلال الشرائح المتقدمة لتحقيق تقدم سريع وملحوظ. وفي كلتا الحالتين، تستفيد الولايات المتحدة من هذا التنافس الشديد بين الشركات، وهو ما يُعرف بـ”مفارقة جيفونز”، حيث يؤدي تحسين كفاءة المنتج وتقليل تكلفته إلى زيادة الطلب عليه، مما يعزز تفوق الشركات الأميركية التي تمتلك بنية تحتية متقدمة وموارد علمية تفوق نظيرتها الصينية.
لكن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في امتلاك الموارد، بل في استخدامها بذكاء وفعالية. وهو ما أشار إليه الرئيس التنفيذي لشركة “مايكروسوفت” ساتيا ناديلا عندما علّق عبر منصة “إكس” بأن “مفارقة جيفونز حقيقية وعادت الى الظهور”.
وفي الوقت الذي تتصاعد فيه المنافسة بين الولايات المتحدة والصين إلى مستويات غير مسبوقة، يقف الاتحاد الأوروبي موقف المراقب، حيث تعيق التشريعات الصارمة قدرة الشركات الأوروبية على مواكبة الابتكار في هذا المجال. فقد ركزت أول حزمة تشريعات أوروبية لتنظيم الذكاء الاصطناعي على جوانب السلامة والتأكد من عدم تسببه في أضرار، وهو هدف نبيل بلا شك، لكنه قد يحد من قدرة أوروبا على الاستفادة من هذا السباق التكنولوجي. ربما يكون النهج الأكثر فاعلية هو الانخراط بقوة في المجال أولا، ثم تنظيمه لاحقا بعد ضمان التفوق فيه.
يمثل إعلان “ديب سيك” تطوير نموذج R1 خطوة مهمة في عالم الذكاء الاصطناعي، لكنه لا يعني أن الصين قد تفوقت على الولايات المتحدة، كما أنه لا يقلل أهمية الاستثمار والتوسع المستمر في هذا المجال لضمان الريادة المستقبلية.
المجلة