“المحاكمة”.. متاهة روائية تحمل أثقال البيروقراطية إلى السينما/ أسامة صفار
تحديث 02 شباط 2025
حين كتب “فرانتس كافكا” روايته “المحاكمة” (1962)، كان المخرج والفنان الأمريكي “أورسون ويلز” يبلغ من العمر 9 أعوام فقط، لكن ذلك الولد الصغير، قرر بعد رحيل “كافكا” بما يقرب من 38 عاما، أن يشتبك مع الروائي الغامض في “المحاكمة”، وقرر تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي.
خرج العمل حاملا ملامح أدب “كافكا” وأحزانه وقضاياه، ومغلفا بجماليات “أورسون ويلز” ولوحاته، التي لم تفقد قدرتها على إدهاشنا، حتى بعد مرور 60 عاما على عرضه الأول.
لم يكن “كافكا” روائيا معروفا، ولا رجلا ثريا، ولا فقيرا سعيدا، بل موظفا مريضا يعيش حياة مملة، ولم يلبث أن اشتد عليه المرض ورحل وهو ابن 40 عاما، تاركا أوراقا ولوحات مهملة، حتى إنه أوصى صديقه الوحيد بإحراقها، لكن الصديق أبى إلا أن يعرف العالم روايات الموظف الحزين، وقد غيرت وجه الأدب وتاريخ الرواية، غير أن “كافكا” لم يشهد نجاح أعماله، وشهد بؤس حياته فقط.
ظل “فرانتس كافكا” وترا مشدودا، كلما لامسته قسوة الحياة خرجت موسيقاه على الورق، فكتب حتى انتهى. وقد تُلامس مخالب المجتمع حين تُطبق على أي إنسان، فتنقض عليه وتحاكمه، وتحكم عليه وتقصيه، بل إنها قد تقتله.
رحل “كافكا” منذ 100 عام، بعد أن كتب رواية ” المحاكمة” التي نشرت في العام التالي لرحيله، ولم يتوقف الجدل حولها منذ ذلك اليوم، ولم تتوقف الاجتهادات النقدية حول ذلك النثر البسيط الذي يمكن أن يغرق القارئ في متاهة تشبه حياته، وعالم يشبه عالمه، لكنه لا يستطيع أن يثبت ذلك أبدا.
نبرة كابوسية واغتراب
يروي “كافكا” في روايته قصة رجل يعمل موظفا في أحد المصارف، ويدعى “جوزيف. ك”، لكنه يفاجأ ذات صباح باعتقاله من قبل عنصرين غير محددين، يمثلان مؤسسة غير محددة، وتهمة غير محددة.
المثير للدهشة أن “جوزيف” لم يعتقل فورا، بل تُرك طليقا، وطلب منه المسؤول انتظار بعض التعليمات، فبدأ يتابع قضيته، وبدأت تصبح محور حياته، ثم اكتشف أن بعض المحيطين به يعيشون الموقف نفسه، وقد لجأ لمحام ثم رسام، لكنه لم يصل لإجابة حول التهمة أو احتمال البراءة النهائية.
أحب المخرج “أورسون ويلز” رواية “كافكا”، وعدّها إحدى الأعمال الأدبية العظيمة في القرن العشرين، ورأى أوجه التشابه بين موضوعاتها، التي تتعلق بالبيروقراطية والاغتراب والرعب من الخضوع لتقييم المجتمع وأحكامه.
كيّف “ويلز” الرواية مع التركيز العميق على نبرتها الكابوسية، وصياغة لغة سينمائية تعكس أجواء “كافكا” القمعية، واختار “أنتوني بيركنز” بطلا لفيلمه، وكان قد أدى دور البطولة في فيلم “مختل” (Psycho) للمخرج “ألفريد هيتشكوك” (1960).
وقد أدى “بيركنز” دور “جوزيف” في فيلم “المحاكمة”، مجسدا مزيجا من الضعف والشدة، وتولى “أورسون ويلز” دور المحامي، وهو شخصية غامضة ومبهمة في العمل.
لغة بصرية تتحدى ضعف الميزانية
كعادته في كثير من أفلامه، واجهت المخرج “أورسون ويلز” صعوبات مالية، واضطر إلى إنتاج الفيلم بميزانية متواضعة، ودعم إنتاجي من جهات أوروبية شتى، واستطاع أن يحوّل قيود الميزانية إلى فرصة إبداعية.
فصوّر جزءا كبيرا من الفيلم في باريس، ولا سيما محطة قطار “غار دورسيه” المهجورة، فاتخذها مجموعة مركزية، وأضاف شكلها المتداعي لمسة إلى جمالية الفيلم المخيفة.
كان “أورسون ويلز” -وهو معروف بحلوله الإبداعية وبراعته- قادرا على ابتكار أشكال توحي بالخوف والقلق والتوتر، من خلال تصميمات وإضاءة ابتكرها بنفسه، بأدوات توفرت لديه في ظل ضعف الميزانية.
فاستخدم تناقضات صارخة بين الضوء والظل، والتركيز العميق، والعدسات ذات الزاوية الواسعة، لخلق عالم قمعي سريالي، حتى تجسد لغة الفيلم البصرية الطبيعة الوحشية المتشعبة، التي تسِم النظام القانوني المصور في رواية “كافكا”.
مواجهة بين ندّين بالكلمة والكاميرا
عندما قرر “أورسون ويلز” إخراج فيلم “المحاكمة” كان مخرجا وممثلا مخضرما، وكان معروفا بعمله الرائد في فيلم “المواطن كين” (Citizen Kane) الذي عُرض عام 1941، وغيره من الإنجازات السينمائية، لكنه كان أيضا فنانا متمردا يعمل أساسا في أوروبا، بسبب الصراعات الإبداعية مع أستوديوهات هوليود.
وقد كان قبل فيلم “المحاكمة” يمول مشاريعه تمويلا مستقلا ويتحكم فيها، ويعمل بميزانيات محدودة، ويعتمد على براعته لإضفاء الحياة على رؤاه.
وربما كانت مواهبه المتعددة سببا أساسيا لاكتفائه برؤيته، فقد كان فنانا تشكيليا وكاتبا وشاعرا وكاتب سيناريو وإذاعيا ذا صوت وحضور متميز، ومهندس ديكور، بالإضافة إلى كونه مخرجا. ومن الطبيعي أن تشكل كل تلك المواهب ملامح ذات “أنا” ضخمة.
لذلك واجه رواية “المحاكمة” بصلابة، مبدعا وموازيا وندا لواحد من أهم الروائيين وأعظمهم في التاريخ الروائي العالمي.
وبسبب إعجابه بها، فقد قدمها مغلفة بحالة “ويلزية” على مستوى الشكل والمضمون، وقدمها بصريا وأعاد صياغة الدراما والحركة والصورة فيها، وكتب الشعر، وأبدع مشاهد أقرب إلى الشعر، وأقام علاقات بين المُشاهد واللقطات، فجاءت أجمل مما يتوقع المشاهد لحالة كابوسية قدمها “كافكا” ببساطة وعمق ورقي.
“أمام القانون يجلس حارس البوابة”
تبدو رواية “كافكا” منفتحة على التأويل والتفسير، بحيث يمكن اتخاذ المحكمة مجازا عن المجتمع نفسه والبطل هو الفرد، ولذلك فإن قضية الرواية تصبح علاقة الفرد بمجتمعه وإخضاعه لضوابط هذا المجتمع، ويمكن تفسير الرواية أيضا على أنها انتقاد للبيروقراطية والنظام القانوني، كما يمكن تأويلها على أنها انعكاس لسيطرة السلطة.
اختار “أورسون ويلز” أن يعتنق تفسير رواية “المحاكمة” بوصفها نقدا لأنظمة السلطة والسيطرة الوحشية، واستخدم فيها الصور المتحركة من فصل “أمام القانون” الوارد في الرواية، ويفتتحه بالعبارة التالية: “أمام القانون يجلس حارس البوابة”.
يأتي إلى هذا الحارس رجل من الريف، يطلب منه الدخول إلى القانون، لكن حارس البوابة يقول إنه لا يستطيع منحه حق الدخول في الوقت الحالي. يفكر الرجل في الأمر، ثم يسأله هل سيسمح له بالدخول في وقت لاحق؟ فيقول: هذا ممكن، لكن ليس في الوقت الحالي.
جاءت البداية بالرسوم المتحركة، مرافقة للسرد الصوتي للحكاية، فكانت بمنزلة إضفاء للرهبة، وكشف لملحمية الأمر، وعدم اقتصار الحكاية على اتهام رجل بما لا يعرف والقضاء عليه.
الرعب البصري بين الضوء والظل
تشكل المؤثرات البصرية في فيلم “المحاكمة” جزءا لا يتجزأ من أجوائه المخيفة، فهي تلتقط بوضوح العالم السريالي والقمعي بالرواية، وقد استخدم المخرج “أورسون ويلز” تقنيات مبتكرة، لعرض موضوعات الاغتراب والارتباك والقوة الوحشية للبيروقراطية.
وربما كان استخدام التباين بين الضوء والظل في المشاهد الافتتاحية الأكثر وضوحا وقسوة، فتلقي الإضاءة القاسية ظلالا طويلة عبر شقة “جوزيف”، مما يرمز إلى تدخل النظام القانوني في حياته، وتستلقي الظلال بهيئة مخيفة فوق الشخصيات، كما ظهر في مشهد قاعة المحكمة، فيتضاءل “جوزيف” بسبب الجدران المظلمة والقضاة الشاهقين الذي لا وجوه لهم، ويمثل ذلك القوى غير المرئية التي تتحكم في مصيره.
ويأتي تصوير أغلب مشاهد العمل في محطة قطارات “غار دورسيه” المهجورة في باريس، بعد تحويلها إلى مكاتب وقاعات محكمة تشبه المتاهة، وذلك ما دعم الرؤية الفنية، وجاء مثالها الواضح في مشهد الاستجواب، إذ تخلق الممرات الضخمة المتداعية ذات الصفوف من المكاتب شعورا بالبيروقراطية التي لا نهاية لها.
أما المثال الثاني فهو مكتب المحامي، بتصميماته الداخلية المزدحمة المكتظة بالكتب والأوراق، وهي ترمز إلى التعقيد الهائل وعدم جدوى العملية القانونية.
حركة الكاميرا.. اضطراب يعكس ارتباك الشخصية
لم يكتفِ “أورسون ويلز” بالإضاءة والأثاث والمواقع في تصوير الحالة الكابوسية، بل دعم كل ذلك باستخدام قلق ومتحرك وغير تقليدي للكاميرا، لا سيما في مشهد استجواب “جوزيف”، فنرى الكاميرا وهي تتحرك وتميل.
يعكس ذلك ارتباكه وجنونه المتزايد، وساعدت العدسات ذات الزاوية الواسعة في تشويه المنظور، وتصوير المعني المراد توصيله كما في مشهد تجول “جوزيف” عبر مساحة تشبه الكهف، وتمتلئ بالآلات الضخمة والأشكال البعيدة، فيجعله يبدو صغيرا وغير مهم أمام آلية العدالة.
ومع جماليات التصوير التي برع فيها “أورسون ويلز”، جاء استخدامه للأنماط البصرية طوال الفيلم لترمز إلى طبيعة للنظام، كما يظهر في مشهد الصفوف التي لا نهاية لها من المكاتب المتطابقة في قاعة المحكمة، مما يوحي بحالة بيروقراطية يتشابه فيها الجميع.
ولم تكن الأزياء القليلة التي استخدمت في العمل نتيجة لعجز الميزانية، بل نتيجة للرغبة في تصوير أناس عاديين تماما، يمكن للمشاهد أن يجدهم في محيطه، وهو ما تؤكده بدلة “جوزيف” السوداء البسيطة، فهي تعكس مكانته بوصفه رجلا عاديا وسط عالم سريالي، أما المحامي فتعكس ملابسه الرسمية القاتمة وقامته المهيبة دوره الغامض في المحاكمة.
“منحنا طريقة جديدة للنظر إلى الأفلام”
لم يكن فيلم “المحاكمة” أول فيلم من أفلام “ويلز” يختلف النقاد حوله، لكنه أُنصف وعُد من أهم الأفلام العتيقة في السينما العالمية، وربما كان سبب نقد أفلامه يعود إلى أنه كان سابقا لعصره بنصف قرن على الأقل، ذلك أن التقنيات التي استخدمها في الدراما وفي الاقتباس وفي استخدام الإضاءة والكاميرا، أصبحت فيما بعد أدلة للمخرجين من الأجيال التالية.
كان عدد من النقاد قد أشادوا بأسلوبه البصري وأدائه، ووجده آخرون تجريديا للغاية تصعب متابعته، وقد كتب الناقد “روجر إيبرت” أن الفيلم “هو قبل كل شيء إنجاز بصري، واستخدام مفرط لوضع الكاميرا والحركة والإضاءة المبتكرة”.
وعلى المستوى الجماهيري، كان العمل صعبا للغاية بسبب السرد المعقد والعرض السريالي، الذي انحرف عن السينما السائدة يومئذ، وبمرور الوقت، أعاد النقاد والعلماء تقييم “المحاكمة”، وحصل على تقدير لتصويره السينمائي المبتكر، وتمثيله الدقيق لموضوعات “كافكا”.
وقال عنه المخرج الأيقوني “مارتن سكورسيزي”، إن الفيلم قد “منحنا طريقة جديدة للنظر إلى الأفلام”، وترك أثرا ثقافيا واضحا على صناع الأفلام، ولا سيما أولئك الذي يرغبون في الاقتباس من عمل روائي.
ويعد الفيلم الآن أحد الأفلام الرائدة في نوع الإثارة النفسية الحديثة، وهي تستكشف موضوعات الاغتراب والقمع المنهجي، وقد دُرست اختياراته الأسلوبية لمساهمتها في اللغة البصرية بالسينما، وذلك عبر أكاديميات السينما في العالم.
حساسيات مشتركة بين مبدعَين
اشترك الروائي “فرانتس كافكا” والمخرج السينمائي “أورسون ويلز” في شغفهما باستكشاف الحالة الإنسانية تحت وطأة الأنظمة القمعية، واستخدم كل منهما وسائطه للتعبير عن القلق الوجودي.
ويشكل اقتباس “ويلز” من الرواية تقاربا مثاليا لحساسياتهما المشتركة، فقد جمع الفيلم بين رؤية “كافكا” الأدبية وفن “ويلز” السينمائي، لخلق تصوير عميق للعزلة الحديثة.
ومع أن الوسيط الإبداعي مختلف، فإن “كافكا” و”ويلز” يبدوان في “المحاكمة” مرآة لبعضهما، وتتضح المشتركات من خلال الفيلم وقصة صناعته، والرواية وقصة نشرها.
ومن تلك المشتركات موضوعات الاغتراب، والقمع البيروقراطي، والأجواء السريالية، والكابوسية والوجودية، والحالة الإنسانية، والتمرد على البنى التقليدية، والصراع مع السلطة، والعلاقات المعقدة مع جمهورهم.
الجزيرة