سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 04 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

———————————-

محاولة في فهم خطاب أحمد الشرع/ وائل السواح

03.02.2025

لبّى الشرع (مجازاً) مطلبيّ بإلقاء خطاب، فعيّن نفسه رئيساً للبلاد، وتحدّث إلى السوريين للمرّة الأولى منذ سقوط النظام وفرار الأسد المهين. أتفق معه بعدد من النقاط، ولكنني سأتوقف عند نقاط ثلاث أختلف فيها معه…

كتبت قبل نحو أسبوعين في “درج” مقالة تساءلت فيها عن المنصب الذي يشغله الشرع، وقلت إنه مدين للسوريين بأن يتحدث إليهم. قلت: “نحن – الشعب – نريد أن نسمع من الحاكم الفعلي لسوريا، ومنه مباشرة في خطاب إلى السوريين، لا الترك ولا الغرب ولا العرب ولا الإسلاميين. ونريده حديثاً مباشراً من العقل والقلب، من دون فلترة أو تزويق، فنسمع فيه رؤية الشرع الحقيقية عن مستقبل سوريا وقضايا الحرية والديمقراطية وسيادة القانون ومسائل الحريات العامة والمواطنة المتساوية ودور النساء، وغير ذاك.

 نريد أن نعرف ماذا يقصد الشرع بالمؤتمر الوطني وما شروط المشاركة فيه، ولماذا تحتاج كتابة الدستور الى سنوات والانتخابات الى سنوات؟ وهل ستُجرى الانتخابات في ظل إشراف دولي أم لا، وكيف سيطبق مبدأ العدالة الانتقالية، وكيف سيبني الاقتصاد لتقف البلاد على رجليها وتنتفض كطائر الفينيق السوري، من الرماد”.

لبّى الشرع (مجازاً) مطلبيّ الاثنين، فعيّن نفسه رئيساً للبلاد، وتحدث إلى السوريين للمرّة الأولى منذ سقوط النظام وفرار الأسد المهين. لا أحد يمكن أن يؤكد إذا كان تعيين الشرع رئيساً مخططاً له أم لا. غالب الظن أن الخطوة جاءت بسبب تعثر عقد مؤتمر وطني شامل واقتراب فترة الحكومة المؤقتة من نهايتها. وغالب الظن أيضاً أن الشرع سيشكل مجلساً تشريعياً على قده ويكلف البشير بتشكيل حكومة انتقالية جديدة.

في وجه واحد على الأقل، ذكّرني خطاب الشرع بخطاب الرئيس المخلوع في 30 آذار/ مارس 2011، فكلا الخطابين كان قصيراً، ولم يشبع حاجتنا الى المعرفة، ولم يجب عن أسئلتنا. ولكنهما مختلفان في مناحي شتى. والحق أنني استمعت الى خطاب الشرع مرتين، وتأنيت في قراءته، كي لا أقع في غرامه أو أتحامل عليه. ووجدت الخطاب معتدلاً وأفضل مما كنت أخشى.

سأبدأ بما أتفق مع الشرع فيه. أحببت في الخطاب عدم احتكار النصر لنفسه أو جماعته، ونسْبه الفضل لنضالات جميع السوريين، وأحببت إردافه السوريات بالسوريين والمعتقلات بالمعتقلين، وأحببت  استخدامه عبارة “خادم للشعب،” وهو تعبير ما كان بالإمكان سماعه من صبي متعجرف من آل الأسد، وأحببت ذكره العدالة الانتقالية، التي تفترض العدالة ومنع الإفلات من العقاب، ولكن من دون الثأر.

3 نقاط خلافية

ولكنني سأتوقف عند نقاط ثلاث أختلف فيها معه.

الأولى تمَنُّعه عن ذكر كلمة الديمقراطية ولو لمرة واحدة في خطابه، والاستبدال بها كلمة “شورى”. ولا أحسب أنه قد غفل عن ذلك، بل أعتقد أنه إنما ينسجم مع عقيدة رافضة لمبدأ الديمقراطية بحكم الشعب نفسه بنفسه، والاستناد إلى مبدأ ضبابي، لا ضوابط له، مثل مبدأ الشورى.

وردت فكرة الشورى في القرآن مرتين فقط، الأولى: “والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون”. (الشورى 38) والثانية، ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فاذا عزمت فتوكل على الله. إن الله يحب المتوكلين”. (آل عمران 159)

ولو تأمّلنا في الآيتين بتجرّد وموضوعية، لما وجدنا في أي منهما معنى الديمقراطية. في الآية الأولى، لا يتحدث النصّ عن الحكم أو السياسية، بل يتحدث السياق عن الحياة الدينية والاجتماعية، كما هو واضح من الآية التي تسبقها أو تليها. فالآية التي تسبقها تقول: “والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون”. والآية التي تليها تقول: “والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون”. إذاً لا معنى للاستشهاد بهذه الآية لتأكيد أن النص القرآني يقوم على الشورى في السياسة والحكم.

الآية الثانية، في المقابل، يمكن أن ترد في سياق سياسي. ووفق ابن كثير، فإن النبي كان يشور المسلمين ويأخذ برأيهم أحياناً. ومع ذلك، الآية واضحة لا لبس فيها. أولاً هي طريق ذو اتجاه واحد، فالنبي (أو الحاكم) هو الذي يستشير الناس، ولكن الناس لا تشير عليه من دون أن يطلب منها ذلك. وهي ثانياً ليست وسيلة لاختيار الحاكم. وهي أخيراً ليست ملزمة، إذ سرعان ما يضيف النص القرآني مباشرة بعد “وشاورهم في الأمر” عبارة “فإذا عزمت فتوكّل على الله”. ووِفق ابن كثير، لما نزلت هذه الآية قال النبي: “أما أنّ الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يُعدم رُشداً ومن تركها لم يُعدم غيا”.

والنقطة الثانية التي أختلفُ فيها مع الشرع هي الطريقة التي وصف فيها مؤتمر الحوار الوطني. إذ قال إن الحكومة ستعلن “في الأيام القادمة عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني والذي سيكون منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول برنامجنا السياسي القادم”. أعتقد أن هذا الوصف ناقص. فبينما سيكون المؤتمر منصة مباشرة للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر، فهو أيضاً المكان الذي ستتحدّد فيه الأسس الذي ستقوم عليه سوريا القادمة. مؤتمر الحوار ليس ندوة ثقافية أو فكرية، بل هو هيئة سيادية معنية بوضع الأسس الدستورية والسياسية لسوريا المستقبلية، ومهمته ليست استشارية (شورى؟) بل مؤسسة للسلطات الثلاث والفصل بينها. ولا أحسب أن الشرع قد سها عن ذلك، ولكن التغاضي عنه ينسجم مع سياسته غير المعلنة، والقائمة على “أننا سنسمع منكم، فإذا عزمنا سنتوكل على الله”.

النقطة الثالثة هي أن الشرع، على الرغم من اعترافه بدور الجميع في تحقيق النصر، من حمزة الخطيب إلى الفصائل التي دخلت دمشق فاتحة، قصر مؤتمر النصر على الطرف الأخير فحسب. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى رغبة الزعيم الجديد في تنفيذ رؤيته هو ومن يواليه ويواليهم، وليس “كل السوريين والسوريات في الداخل والخارج لبناء مستقبلهم بحرية وكرامة من دون إقصاء أو تهميش،” كما وعد في كلمته.

أين القوى الديمقراطية؟

يسير الشرع بخطى واثقة، وهو يستند كما قلت في مقالتي السابقة، إلى قاعدته الصلبة المؤلفة أساساً من جمهور سنّي إسلامي، وإلى دعم تركيا والدول العربية وجزء لا يستهان به من الغرب. وهو بالتالي لا يأبه – إلا قولاً – لبقية السوريين من غير قاعدته. ولعلي لو كنت مكانه، لفعلت الشيء نفسه. فحين لا تجد أمامك من يعترض على ما تفعل، فلن تسعى أنت لتلبي رغباتهم نيابة عنهم. وأنا لا أعني بالاعتراض هنا، النشاط على فيسبوك ومجموعات واتسآب، فهذه لا تُغني ولا تسمن من جوع. قصدت بالاعتراض المعارضة المدنية الحقيقية القائمة على أسس سياسية منظمة، تعبر عن قوى اجتماعية محددة.

خير ما يمثلنا، نحن معشر السوريين من دعاة الدولة المدنية والعلمنة والديمقراطية وحقوق الإنسان عبارة “ظاهرة صوتية” التي اجترحها في السبعينات عبد الله القصيمي. اعتبر القصيمي أن الخطاب العربي ينوء تحت وطأة الشعارات والمفردات الرنانة التي تعبّر عن القوة والطموح، ولكنه يفتقر إلى الممارسات العملية أو القدرة على تحويل الأفكار إلى واقع.

وبينما لم يكن القصيمي طبعاً يخص المثقفين العلمانيين، ولكن هذا الوصف هو خير ما يميز العلمانيين، فهم يكتفون بالإشارة إلى الخطأ، من دون أن يُعنَوا بذكر الصواب، وهم يمتنعون عن سلوك سبيل معين، من دون أن يقترحوا طرح السبيل الآخر. العلمانيون السوريون، معظمهم، يكتفون بالانتقاد، من دون أن يطرحوا بديلاً أو سبيلاً سوى السبيل المطروح أمامنا. وخير ما يشرح الفكرة مَثل سوري دارج، يقول: “من لا يحضر ولادة عنزته، تخلّف له جروا”.

هل ثمة قوى سورية ديمقراطية علمانية حقيقية؟ نعم، لكنها مشتّتة وخَمول وشخصانية. نحن ناشطون جداً في القول ولنا صوت عال، ولكنه فارغ من أي محتوى، لأنه لا يستند إلى بشر حقيقيين، إلى سوريين يؤمنون بذلك ويناضلون في سبيل تحقيقه. فهل من العدل أن نقول إنه لا يوجد بالفعل سوريون يؤمنون بالديمقراطية والعلمانية؟

أحب أن أجيب عن السؤال بلا. فبين السوريين بالفعل شرائح عريضة تبتغي حكماً ديمقراطياً مدنياً، لأن في ذلك إحقاقاً للحق وضماناً لأنفسهم وحماية لمجتمعاتهم واحتراماً لتاريخ سوريٍّ عريق، يعود إلى ما قبل انقلاب البعث وحكم آل الأسد، ومتأصّلة في دساتير 1920 و1930 و1950، التي تحدّد جميعها ديانة رأس الدولة، من دون أن تحدّد ديانة الدولة نفسها، وتعتمد سيادة الشعب عبر مجالسه المنتخبة التي تسنّ القوانين والقرارات الملزمة.

وببعض التفصيل الذي لا بدّ من أن يصطبغ ببعض الطائفيّة، فإنني أعتقد أن جزءاً كبيراً من سنّة المدن وحوران يضافون إلى معظم المسيحيين والعلويين والدروز والإسماعيليين والكرد سيرغبون في نظام كهذا، يحمي حرياتهم وحقوقهم ويحميهم مما اسماه ألكسيس دي توكفيل “طغيان الغالبية” واعتبره واحداً من أخطر التهديدات التي تواجه الأنظمة الديمقراطية.

لكن، كيف بإمكان هذه النسبة الكبيرة من السوريين أن تشكّل رأياً عاماً ضاغطاً في غياب قوى سياسية ديمقراطية حقيقية ومؤثرة تمثّلهم وتقودهم وتتحدّث باسمهم؟

سيتعين على الشرائح الديمقراطية المدنية والعلمانية في سوريا، أن تعمل من دون تمثيل، ولعلّها تستهدي بهدي الفيلسوف والعالم السياسي الإيراني آصف بيات الذي تحدث عن هذه الحالة.

في كتابه ” الحياة كسياسة: كيف يغيّر الناس العاديون الشرق الأوسط”، يقدم آصف بيات منظوراً رائداً للتغيير الاجتماعي والسياسي في المنطقة. وخلافاً للتحليلات التقليدية التي تركز على الحركات المنظمة أو الثورات أو سياسات النخبة، يحوّل بيات العدسة إلى فاعلية الناس العاديين الذين يعيدون تشكيل مجتمعاتهم من خلال الممارسات اليومية. ويتحدى مفهومه المركزي “اللاحركة” Nonmovement كنقيض للحركيات السياسية Political movements المفاهيم التقليدية للنشاط السياسي، مقدماً رؤية دقيقة لكيفية حدوث التغيير في السياقات الاستبدادية والمقيّدة.

مفهوم اللاحركة

يعرّف بيات “اللاحركة” بأنها الأفعال الجماعية للأفراد الذين لا يُعرّفون بالضرورة كجزء من حركة منظمة، لكن أفعالهم المتكررة والمستمرة تؤدي إلى تحوّلات اجتماعية كبيرة. على عكس الحركات الرسمية ذات القيادة المنظمة والبيانات والمطالب الواضحة، تنشأ الحركات غير الحركية بشكل عضوي مع خوض الناس لنضالاتهم اليومية. هذه التحركات المتفرّقة والمترابطة في الوقت نفسه تغيّر تدريجياً المعايير الاجتماعية وتغير المساحات الحضرية وتتحدى السلطة.

ويرى بيات أن الحركات غير الحركية فعالة بشكل خاص في السياقات التي يُقمع فيها النشاطُ العلني. فهي تعمل من خلال ما يسميه “التعدي الهادئ للعاديين،” وهي عملية يطالب فيها الأفراد المهمشون بالحقوق والمساحة والموارد من دون مواجهة الدولة مباشرة. فالباعة المتجولون الذين يحتلون الأماكن العامة، والنساء اللاتي يتحدين قواعد اللباس التقييدية من خلال التحدي الخفي، والشباب العاطلون عن العمل الذين يستعيدون المساحات الحضرية كلها أمثلة على ديناميكيات اللاحركة.

يطبّق بيات نظريته على مجموعات اجتماعية مختلفة، ويوضح كيف تؤدي أفعالها التي تبدو غير سياسية إلى تحولات مجتمعية عميقة. وهو يدرس مواضيع من مثل كيف يعيد الباعة المتجوّلون والمستوطنون والعاطلون عن العمل تشكيل الحياة الحضرية من خلال الاستقرار والعمل في الأماكن بشكل غير رسمي رغم القيود الحكومية.

ويركز بيات على النساء في الشرق الأوسط، ويرى فيهن قوة للتغيير المجتمعي، من خلال نضالهن الذكي ضد المعايير الأبوية من خلال المقاومة اليومية بدلاً من الحركات النسوية التقليدية. وهو يعطي مكانة خاصة للنشاط الشبابي ويشرح كيف ينشئ الشباب في الأنظمة الاستبدادية مساحات من الحرية والتعبير عن الذات، غالباً من خلال وسائل ثقافية مثل الموسيقى والأزياء والشبكات الرقمية. وتسلط مقاربة بيات الضوء على فاعلية المحرومين من الحقوق، وتصوّرهم ليس كضحايا سلبيين، بل كفاعلين رئيسيين في التغيير يعملون ضمن قيود مجتمعاتهم.

جوهر القضية بالنسبة الى بيات هو انتقاده الميل إلى تطبيق الأطر التقليدية للثورة والنشاط المنظم على الشرق الأوسط، إذ يجادل أن التغيير في المنطقة غالباً ما يتبع مسارات مختلفة. وهو يرى أن الحركات غير الحركية تتحدى الفكرة القائلة بأن العمل السياسي الهادف يجب أن يكون دائماً صريحاً أو تصادمياً أو منظماً. بدلاً من ذلك، تُظهر هذه الحركات كيف يمكن للتحركات التدريجية واللامركزية أن تقوّض السيطرة السلطوية مع مرور الوقت.

في غياب حركة ديمقراطية مدنية منظمة في سوريا، لا يبقى أمامنا كسوريين سوى حراك “لا حركي،” غير مؤطر وغير منظم، تقوده قطاعات عريضة من سكان المدن والمجموعات الدينية والعرقية التي لا يمكنها التعايش مع أي نظام من لون واحد.

درج

————————–

سورية بين يوم التحرير وخطاب النصر/ عبد الجبار عكيدي

03 فبراير 2025

تحرّر السوريون من نظام الإجرام الأسدي بعد 54 عاماً، وكانت شمس يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 تعانق للمرّة الأولى ربوع البلاد السورية وهي خالية من آل الأسد، إلّا أن نشوة النصر، التي لا يزال السوريون يعبّون من عبقها، كانت ممزوجة بهواجس عديدة.

ربّما مبعث ذلك أن جميع ما حدث كان مباغتاً، بل بعيداً جدّاً من التوقّعات والتحليلات التي اعتاد الناس سماعها منذ 13 سنة، وربّما أيضاً ما فاقم تلك الهواجس غياب الجسور الإعلامية الرسمية، بين القيادة الجديدة والجمهور، الذي راح يستقي معظم الأخبار والمستجدّات اليومية من الإعلام الخارجي، ومن وسائل التواصل الاجتماعي، التي غالباً ما تسهم في التشويش. ومع الإقرار بجانب كبير من مشروعية تلك الهواجس لدى الجمهور العام، إلّا أن استمرارها، بل استمراء العامّة لها، بات يُفضي إلى مراكمة طبقةٍ من الوعي لا ترتقي إلى عظمة اللحظة التاريخية للمنجز السوري العظيم. ومن هنا، يمكن القول إن الخطاب الذي وجّهه الرئيس الجديد للبلاد أحمد الشرع، في مساء 30 يناير/ كانون الثاني 2025، بعد مرور 54 يوماً من تحرير البلاد، جاء ليجسّد حالةً جديدةً يمكن أن تكون امتداداً لمشاعر السوريين الأولى ليوم التحرير، إذ حمل هذا الخطاب المقتضب تكثيفاً شديداً لما ينتظره الناس، بعيداً عن الاسترسال والإنشاء، في حالة مفارقة بالمطلق لما اعتاد عليه السوريون حين كانوا يُجلَدون بالاستماع إلى خطابات رأس النظام المخلوع وبهلوانياته، التي لا تثير إلا السخرية والقرف.

ما يمكن تأكيده أن ثمّة منجزات سورية كانت ملازمة لعملية التحرير، ففي 8 ديسمبر (2024) تحقّق ما يلي: أولاً، اقتلاع نظام الأسد من جذوره، وهذا مطمح كان دونه خرط القتاد، نظراً إلى حالة الاستعصاء السياسي التي تكرّست بفعل التدخّلات الدولية، والدعم الذي لاقاه حاكم دمشق الهارب من حلفائه الروس والإيرانيين، إلى درجة دفعت معظم الأطراف الإقليمية والدولية، بل ربّما بعض القوى المحلّية أيضاً، إلى التفكير بإعادة التصالح مع النظام أو احتوائه، باعتبار بقائه بات أمراً واقعاً، ثم جاءت اللحظة التي شهد فيها الشعب السوري أن هذا النظام، الذي كان يحسبه كثيرون حديدياً، بات شديد الهشاشة أمام ضربات أبناء سورية، وسرعان ما تناثر كومةً من قشٍّ تذروها الرياح.

ثانياً، تحرير كامل التراب السوري، بطريقة تتسم بمزيد من السلاسة وبقليل من الدماء، لهو منجز عظيم، فضلاً عن سلوك الفصائل العسكرية المّتسم بكثير من المسؤولية، ويستلهم مرجعية أخلاقية وإنسانية شديدة الرقي، ولعلّ حرص المقاتلين السوريين على حضور البعد الإنساني في عملية التحرير كان له أكبر الأثر في طمأنة العديد من شرائح الشعب السوري ذات الأعراق والأديان المتعدّدة، الأمر الذي يجعل من قدرة السوريين واستعدادهم الكبير للتعايش أمرين قائمين بالفعل، وليس ضرباً من المثالية، كما يقول بعضهم.

ثالثاً، منذ تدخّلَ الروس عسكرياً في جانب نظام الأسد (30 سبتمبر/ أيلول 2015)، ومكّنوا حليفهم الأسدي من استعادة ما كان فقده من الجغرافيا السورية، وموازاةً مع حالة الانسداد السياسي وعزوف الاهتمام الدولي عن القضية السورية، بات الحديث عن تقسيم البلاد مسألةً شائعةً جدّاً، بل ربّما باتت هي المخرج من الأزمة كما روّج لها بعضهم، خاصّة أن مشروع التقسيم وجد من يدعمه إقليمياً (وإسرائيلياً)، فجاءت عملية ردع العدوان لتطيح هذا المشروع، وتؤكّد للجميع أن جذر المشكلة بالنسبة للسوريين هو نظام الأسد، والحلّ بزوال هذا النظام وليس بتقسيم البلاد.

جسّدت هذه المنجزات الثلاثة، التي لازمت عملية التحرير، مدخلاً سلساً لاستمرار القيادة الجديدة باستكمال مهامها نحو عملية بناء النظم الإدارية، والشروع في إعادة بناء المؤسّسات، وتلمّس باقي الخطوات ذات الصلة بطبيعة المشروعية التي يمكن أن تستند إليها قيادة البلاد.

ثمّة في خطاب الشرع خريطة طريق، صحيح أنها شديدة التكثيف، لكنّها شديدة الوضوح أيضاً، وقد كان لها أثر مباشر في نفوس مجمل السوريين، إذ خرج كثيرون من دوامة التساؤل والتخمينات عمّا ستقوم به الحكومة الجديدة، وعن خططها المستقبلية، وكثير من الأسئلة المتشابهة. لعلّ دعوة رئيس البلاد إلى تشكيل حكومة واسعة الطيف وشاملة، وتحديده معالم المرحلة الانتقالية ومرجعيتها الدستورية، ورؤيته للمؤتمر الوطني المزمع عقده مستقبلاً، والأكثر أهمية من ذلك، دعوته جميع السوريين للمشاركة في النهوض بالبلاد، ما يقطع مع مرحلة الانتظار والتساؤلات، ويشرع الباب واسعاً نحو انطلاقة الجميع للعمل والمشاركة، ولعلّ هذه الدعوة تجسّد وعياً عميقاً بأن عملية بناء الدولة لا يمكن أن تنهض بيدي فئة أو حزب أو جماعة بمفردها، بل لا بدّ من تضافر جهود الجميع، وهذا ما يدعو جميع السوريين أينما كانوا إلى العمل، ليس استجابة لنداء قيادة البلاد أو تجسيداً لولاء مجّاني، بل استجابةً لبناء وطن نزف كثيراً، وأثخنته الجراح العميقة، وبعد انتصاره آن له أن يتعافى.

العربي الجديد

————————-

حين تتحوّل العقوبات والمساعدات حروباً جديدة/ يقظان التقي

03 فبراير 2025

يُدخِل التوقّفُ المفاجئُ للمساعدات الأميركية، 90 يوماً، المنظماتِ غير الحكومية والوكالات الأممية في حالة من الفوضى، سيّما أن هذا القرار يهدّد ملايين الأشخاص في العالم، وقد تكون تداعياته مع آليات عقوبات مدمّرة كارثيةً على الشعوب التي تدعمها المنظّمات الإنسانية، في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث لا يزال كثيرون يعانون الجوع، والتزايد السكّاني، والارتفاع التضخّمي القوي الناتج من الحروب، وما أحدثته جائحة كوفيد – 19، والانهيار المالي.

يأتي القرار في وقت تتعرّض فيه الولايات المتحدة، والدول الغربية، لانتقاداتٍ عديدة في علاقاتها التي تقوم على أشكال من الهيمنة المقنّعة أو المخفيّة، التي تمسّ الحدّ الأدنى من الشعور بالسيادة الوطنية، وتعزّز قيوداً على مناحي الحياة في البلدان الفقيرة أو التي في طريق النمو، ولعدم قيامها بما يكفي للمساعدة في ٳنهاء الحروب والنزاعات الأهلية، التي تستمرّ سنواتٍ في دولٍ تحتاج ٳلى دعم مالي، ومساعداتٍ من أجل إعادة الإعمار، ودوران عملية الاقتصاد، التي تعاني مشكلاتٍ عديدة.

العقوبات (أو حجب المساعدات)، مادّيةً ومعنويةً، يجب ألا ترتبط بتحقيق أجنداتٍ جيوسياسيةٍ تفسد عمليات الانتقال السلمي، ولا بأيّ مواقف تتعلّق بسياسة خارجية تصرف الانتباه عن الأولويات التنموية الأكثر إلحاحاً، والمفروض أنها آلية دعم ومحاولة لتحقيق السلم والأمن الدوليّين، ما يساعد على تعزيز الأمن القومي للدول المانحة. في هذا الٳطار، تفهم طبيعة العقوبات الأميركية، وما تثيره من أسئلةٍ في تعارضها مع القانون الٳنساني الدولي، الذي حدّدته الأمم المتحدة للقضاء على الجوع 2030، وبنقضها التعهّدات قبل 20 عاماً. وهي لا تأخذ بالاعتبار النمو السكّاني السريع بحدود 2.5 مليار نسمة، ولا حدوث ظاهرة الاحتباس الحراري المتطرّفة، التي تجعل من أهداف التنمية المستدامة صعبةً، إذ تُستخدَم أداةً قويةً لبثّ الرعب في الدول، وحرمانها من التعبير عن سيادتها وقراراتها الحرّة.

تتفاقم أشكال العنف والفقر والهجرة أو النزوح في دول جنوب غرب آسيا وشرقها، وٳلى حدود ارتكاب الٳبادة الجماعية في السودان مرّة أخرى، بعد عقدَين، فيما تبقي ميانمار أكثر تعبيراً عن هشاشة الأوضاع، فتقدّر الأمم المتحدة عدد الذين يحتاجون مساعدات هذا العام في البلاد بنحو عشرين مليون شخص. أمّا دول مثل إثيويبا وكينيا وتنزانيا وأوغندا وموزمبيق فمحرومة من التمويل، ويُفوّض مصيرها ٳلى “التعاون الدولي”. مع ذلك، هذا في حدّ ذاته غير كافٍ، ويتقلّب وفقاً للصعوبات المالية التي يواجهها المانحون أو خياراتهم الأيديولوجية، وموقف الٳدارة الأميركية لن يكون محايداً، ما يعني مزيداً من أعمال العنف والشغب، المناهضة لارتفاع تكاليف المعيشة. تسلّط هذه الأمور الضوء على حجم الحروب الأهلية المندلعة، ولا تفعل الدول الغربية كثيراً لٳنهائها، بل تفسد عملية قيام هياكلَ سياسيةٍ عقلانيةٍ وموثوقةٍ اجتماعياً، ولا تهدف ٳلى ٳنهاء القمع الوحشي. لقد استغرق الأمر عشرة أشهر حتى يعيّن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن مبعوثاً خاصاً ٳلى السودان، وفشلت الجهود لٳجراء محادثات لوقف ٳطلاق النار، وقبل فرض عقوبات على القادة المتقاتلين وعلى شركاتهم المملوكة في الخارج، التي تزوّدهم بالأسلحة والمال. في أفغانستان، مستقبل الأوضاع، حتى حصول المرأة الأفغانية على الرعاية الصحية وإنعاش الأطفال والتعليم، هو أكثر من مُجرَّد مستقبل قاتم، وما عادت ليبيا، مع تفكّك الفصائل، ترسل رسائل مطمئنة.

في سورية، الخارجة من أتون الحرب الأهلية، يتدفّق المبعوثون الغربيون ٳلى دمشق للاحتفال بسقوط الأسد، ويصرّحون أثناء مغادرتهم على أنه من السابق لأوانه تخفيف العقوبات عن الاقتصاد السوري. مع ذلك، تبدو العواصم الغربية والعربية منفتحةً على رفع العقوبات، ويسعى الاتحاد الأوروبي ٳلى تخفيفها، مع الاحتفاظ بوسيلة ضغطٍ في حال لم تلتزم القيادة السورية الجديدة بحقوق حماية التعدّدية السياسية، فلم تتمكّن تلك الجماعات بعد من الحصول على مكانٍ لها في مرحلة ما بعد سقوط الأسد. الدول العربية المؤثّرة ترغب في رفع العقوبات الغربية، التي كان من المفترض أن تعاقب نظام الأسد، ولكنّها أدّت إلى إفقار المجتمع السوري. ومستقبل العقوبات والمساعدات في غموض، ٳذ يُنتظَر موقف الٳدارة الأميركية الجديدة، التي أصدرت عدة إعفاءات محدودة من العقوبات. تغيير بسيط كان محلّ ترحيب، ترخيصاً للشركات بالتعامل مع الحكومة السورية الجديدة، وتزويد البلاد بالكهرباء والوقود، ولا يزيل العقوبات، ويسمح لقطر وتركيا بٳرسال محطّات طاقة عائمة (من المنتظر أن تولّد 800 ميغاواط). وأجرت دول الخليج (قطر) محادثات لتمويل زيادة في أجور القطاع العام بنسبة 400%، وهو وعد مبكّر، بداية جيّدة للتعافي من الحرب الأهلية، وبتأثيرات فورية لفتح الباب أمام المناطق السورية لتبدأ العمل، ولكيانات كانت في حالة تدهور، في بلدٍ مزّقته الحرب، وقُطِعت عنه الاستثمارات الأجنبية.

تتمثل الأولوية الفورية في تأمين الخبز والماء والكهرباء والوقود بشكل كافٍ، لشعبٍ دُفع إلى حافَة الفقر، ما استدعى إنشاء لجنة لدراسة الوضع الاقتصادي والبنية التحتية في سورية، تركّز في جهود الخصخصة، بما في ذلك مصانع النفط والقطن والأثاث. “لا نريد أن نعيش على المساعدات الإنسانية، ولا نريد من الدول أن تمنحنا الأموال كما لو أنها ترمي استثماراتها في البحر” (أسعد الشيباني). ولا تزال أميركا وأوروبا تعتقد أن بعض القيود يجب أن تظلّ قائمة، وتستخدم العقوبات وسيلةً للضغط من أجل تشكيل حكومة شاملة في سورية، مع أن رفعها لن يؤدّي ٳلى فقدان هذا النفوذ، ومن الممكن دائماً ٳعادة فرضها، وكثيراً ما كان الأسد يعيّن النساء والأقلّيات في حكومته، لكنّه قتل شعبه بالغاز الكيماوي، وببراميل الموت.

يترك الغرب القرارات المهمة في سورية للرئيس دونالد ترامب، وسيحتاج الأمر وقتاً للحصول على تأثيره الإيجابي، ولن يكون مفيداً حين ترفع واشنطن العقوبات التي اتخذنها ٳدارة بايدن ضدّ المستوطنين اليهود المتورّطين بارتكاب أعمال قتل وأعمال عنف ضدّ الفلسطينيين، أو حين يستخدم ترامب المساعدات الخارجية لٳجبار مصر والأردن على قبول اللاجئين الفلسطينيين، فالدولتان تتلقّيان مليارات الدولارات الأميركية سنوياً. ومن الممكن أن يبدأ الاتحاد الأوروبي بتفكيك العقوبات المفروضة على عدد من القطاعات الأساسية في سورية، البنوك وشركة الطيران الوطنية، لكن رفع العقوبات سيكون محفوفاً بالمخاطر السياسية التي تترافق مع تجاذب القوى العالمية بشأن كيفية دعم الانتقال السياسي مع تزايد الانقسامات داخل مجلس الأمن، والجميع يضغط على القيادة الجديدة لتحقيق مصالحه، ممّا قد يعوق استقرار العملية الانتقالية.

سيشكّل رفع العقوبات حدثاً يغذّي الآمال في مناقشة التطلّعات المختلفة لٳعادة بناء سورية، وإنهاء عقود من العزلة، والأضرار التي لحقت بالبلاد ومواردها المالية بسبب النظام السابق، الذي أدار اقتصاداً اشتراكياً مغلقاً، وشمل ذلك اكتشاف ديون تبلغ 30 مليار دولار لحلفاء الأسد السابقين.

من المنتظر أن يتيح رفع العقوبات ٳطعام الناس، والإبقاء عليها يثير تحفّظاتٍ بشأن ملاءمتها جزءاً كبيراً من العوالم، التي تحاول أن تتحرّر منها. وينبغي للحكومات في المنطقة أن تجعل من مسألة رفعها أولويةً، وقد تحوّلت حروباً أخرى، وليس لتحرير الشعوب المتضرّرة ٳلى ما لا نهاية.

———————-

هل تغرق سورية في تفاصيل ما بعد تشكيل الحكومة؟/ سميرة المسالمة

03 فبراير 2025

تمنح الحكومة الانتقالية المرتقبة بعد أيام صورةً جديدةً لآلية الحكم في سورية، فيمكن لتنوّعها المأمول أن يحقّق الرؤية الطموحة للرئيس أحمد الشرع، التي أعلن عنها في خطابه المباشر الأوّل للشعب السوري (30/1/2025)، بدءاً من سدّ ثغرة الفراغ في السلطة التنفيذية على الأقل، إذ يعطي تنوّع الحكومة المثال العملي عن إزاحة حاجز “اللون الواحد”، أو ما سمّيت ضرورة انسجام فريق العمل في المرحلة الأولى، بعد تحرير سورية من منظومة الأسد الاستبدادية، أي الانتقال من منطق الإقصاء إلى المشاركة الفاعلة للسوريات والسوريين كلّهم. تتحمّل الحكومة مهام العمل الممنهج في إدارة الدولة بكامل أولوياتها التنفيذية، من الأمنية والإدارية والتعليمية والاقتصادية إلى المصالحة المجتمعية، وكذلك السياسية والدبلوماسية، ما يستوجب استنفار القوى السورية للمشاركة الفاعلة في إنجاح المرحلة الأولى من مسار طويل نحو الانتقال السياسي في البلاد، ووضع الأسس التي ستقودنا إلى استقرار قابل لإعادة البناء والتنمية، من خلال إعادة هيكلة النظام السياسي بما يتوافق مع تطلّعات الشعب السوري.

ومع التفاؤل الكبير الذي ساد في الأوساط السورية بأن مسار الانتقال بدأ يأخذ طريقه الطبيعي نحو الإنجاز، إلا أن ثمّة تساؤلات يثيرها غياب ربط الأهداف الكبيرة بجدول زمني واضح يحدّد مدّة الفترة الانتقالية، ومراحل تنفيذ الخطوات المهمّة التي رتّب أولوياتها الرئيس، فهل المرحلة الانتقالية تستمدّ مرجعيتها من قرار مجلس الأمن 2254، الذي يشدّد على ضرورة إجراء انتقال سياسي شامل في سورية، ضمن إطار زمني محدّد، يضمن أن جميع الأطراف السورية تشارك في العملية السياسية، ويُقترح أن تستمرّ المرحلة الانتقالية مدّة 18 شهراً، يُضمَن خلالها تشكيل حكومة شاملة، ووضع دستور جديد، وتنظيم انتخابات نزيهة تحت إشراف دولي، خاصّة أن الخطاب تضمّن المواضيع نفسها بصياغة مقاربة له، فالرئيس الشرع لم يُحدّد إطاراً زمنياً دقيقاً لإنهاء المرحلة الانتقالية، رغم تأكيده أهمية وضع دستور جديد كان سابقاً قد أشار إلى أنه قد يستغرق نحو ثلاث سنوات، تليها انتخابات يُفترض أن تكون نزيهة بعد أربع سنوات. وهذا يثير التساؤل: هل يُفترض أن تستمرّ المرحلة الانتقالية طوال هذه المدة، أم ينبغي إنهاؤها بمُجرَّد انتهاء الهيئة التشريعية، التي ستُعلَن، من صياغة الإعلان الدستوري، وانعقاد مؤتمر الحوار الوطني؟ وهل تحديد شكل الدولة ودستورها الدائم مهمّة موكلة إلى هذا المؤتمر، أم أنه مُجرَّد حوار يناقش مخرجات الجهة التشريعية منتجاً نهائياً مقرّراً وغير قابل للتعديل؟

المسألة الأساسية هنا تكمن في أن غياب التحديد الزمني قد يؤدّي إلى تمديد المرحلة الانتقالية بشكل مبرّر أو غير مبرّر، ما يجعلها حالة ممتدّة يصعب الخروج منها، وهذا ليس حالةً فريدةً في تجارب دول أخرى شهدت مراحل انتقالية طويلة، مثل رواندا، حيث استمرّت المرحلة الانتقالية بعد الإبادة الجماعية تسع سنوات تقريباً (1994 – 2003) قبل أن يُوضَع دستور جديد وتُجرَى انتخابات رئاسية. ورغم أن رواندا استطاعت تحقيق استقرار نسبي، ساهمت هذه المدّة الطويلة في تركيز السلطة في يد القيادة الحاكمة من دون تداول حقيقي للسلطة، وهو ما قد يكون أحد مخاوف المجتمع الدولي الذي يرصد ما يحدث في سورية بعين الريبة، أكثر من أنها عين ترعى تحوّل دولة من الخراب المميت إلى حالة من استعادة الحياة بعد 54 عاماً من القمع والقهر اللذين مارسهما نظامَا الأسد الأب والابن.

لذا، من الضروري أن تضع الحكومة الانتقالية في سورية إطاراً زمنياً واضحاً، يحدّد مواعيد واضحة لإنهاء أعمالها الموكلة إليها، وفقاً لرؤيتها، ولحالة التوافق الدولي الذي تحتاج إليه اليوم سورية لإنهاء ملفّ العقوبات عليها، وانسياب التمويل وإعادة الإعمار إليها، سواء بما يتماشى مع روح القرار الدولي، أو في حال تجاوزته وفقاً لما تراه ظروف خاصّة في سورية (الخصوصية السورية)، التي لا يمكن قياسها بمسطرة الأمم المتحدة أو الدول المعنية بالملفّ السوري.

ولعلّ اللافت هو الانتقال الاسمي لـ”المؤتمر الوطني”، المنوط به تحديد شكل الدولة، ليصبح مؤتمر “الحوار الوطني”، ما يفيد بأنه مُجرَّد مؤتمر لتبادل “المشورة”، بما ينطبق مع العنوان العريض الذي وضعه الرئيس السوري مفردةً بديلةً من الديمقراطية، والتي استخدم أدواتها من دون المرور إليها، فالانتخابات الحرّة النزيهة تمثّل حجر الزاوية وأداتها العملية، بعد تحقيق حياة كريمة وحقوق مواطنة كاملة للسوريين، والإقرار بتداول السلطة لا الهيمنة عليها، فالحكم بالعدل والشورى غير الحكم بالعدل والمشاركة لكلّ القوى المجتمعية والسياسية، فهل ستكون المرحلة الانتقالية حاضنةً للتشريع أحادي الهيمنة؟ أم أن المجلس التشريعي سيبدّد هذه المخاوف بحضور عادل للأطياف السورية بكامل مرجعياتها، ليكون محطّةً أوليّةً للانتقال من الشورى إلى الديمقراطية؟ وهو أحد شروط تحوّل مواقف الدول الغربية من الدولة السورية الجديدة.

في المحصلة، يبقى وجود إطار زمني محدّد للمرحلة الانتقالية، ولكلّ بنودها، ضمانةً لإنجاز الأهداف، لصالح كلا الطرفَين، الحاكم والمحكوم، فلا تسويف على حساب الشعب، ولا تمديد يهدر وعود الانتقال إلى سورية الدولة الموحّدة، معزّزاً فرصنا في التغيير السياسي المنشود.

———————

سورية الجديدة والتحوّلات في المحاور الإقليمية/سعيد زيداني

04 فبراير 2025

قديماً وحديثاً، لسورية، بهذه التسمية أو الحدود أو تلك، مكانةٌ مركزيةٌ في سياسات (وصراعات) الكيانات والقوى السياسية الفاعلة في المشرق العربي، وأبعد. بسبب تاريخها وثقافتها، كما بسبب موقعها وما يجاورها من دول، عربية وغير عربية، كما بسبب ما تنحاز إليه أو تجافيه من محاور السيطرة والنفوذ في الإقليم. وتبعاً لذلك، لا غرابة أن تكون للتحوّلات السياسية الجارية منذ الثامن من ديسمبر (2024) انعكاسات بعيدة المدى على دول المشرق العربي بخاصّة، وعلى الدول غير العربية المجاورة بعامّة. ولنقل: منذ هذا اليوم، تحرّك بندول التقارب والتباعد الجغرافي/ السياسي كثيراً. وجاءت حركات البندول باتجاهَين، داخلي وخارجي. للأول علاقة باقتلاع نظام حكم استبدادي من الجذور، نظام حكم قهر العباد وأفقر البلاد، نظام حُكم السجون والتعذيب والاغتيال والإخفاء القسري للمعارضين، نظام حُكمٍ يتحمّل المسؤولية عن تنزيح ما يقارب نصف سكّان البلاد وتهجيرهم. وخارجياً، وبين ليلة وضحاها، وفي قفزة كبيرة، ابتعدت سورية عن المحور الإيراني/ الشيعي بقدر ما انجذبت نحو المحور التركي/ الإخواني. ولهذا الابتعاد وذاك الانجذاب أصداء غير خافية في دول كثيرة في المنطقة، وعلى مستويات عديدة، وكان الصدى مباشراً ومدوّياً في لبنان.

صباح 8 ديسمبر، تنفّس السوريون حرّية حُرِموا من نسائمها الرطبة فترةً لا تقلّ عن جيلَين. صباح ذلك اليوم، هرب البطريرك بما حمل ونهب، وتداعى نظام حكم الاستبداد، الذي كرّسه بعد أن ورثه عن أبٍ ربّما كان أكثر ذكاءً، وإن لم يكن أقلّ ظلماً. في ذلك الصباح، رحل نظام حكم الاستبداد المطلق، وما يغذّيه ويتغذّى عليه من الفساد المطلق. وفرح السوريون، داخل البلاد وخارجها، بالخلاص من حكم البطريرك في خريفه. وفرح لهم بهذا الخلاص كثيرون من العرب وغير العرب. لكنّ هذا الفرح لم يكن بالطبع نقياً، إذ اختلط بمشاعر الحزن على فقدان الأقارب والرفاق والأصدقاء الذين سقطوا في الطريق، والخوف من هول تحدّيات الأيام التالية، تحدّيات ذات علاقة بإعادة بناء ما دُمِّر أو خرّب خلال السنوات الماضية، وفي مقدمتها إعادة بناء الجيش الوطني والاقتصاد الوطني والنظام السياسي الجديد، وإعادة النازحين إلى ما تبقّى من منازلهم، والمهجّرين إلى أحضان وطن أخذ يفتح ذراعيه لاستقبالهم. تحدّيات هائلة يحتاج الردّ المناسب عليها إلى كثير من الدعم الخارجي والتضامن الداخلي، وغير قليل من الوقت والمال والحكمة العملية في إدارة شؤون البلاد والعباد.

ولا تقلّ التحدّيات الخارجية، في هولها، عن التحدّيات أعلاه، وهي غير قابلة للانفصال عنها، فالدعم المالي اللازم لإعادة البناء لا يهبط على “طبلية من السماء” استجابة لدعاء أو رجاء من يحتاج إليه؛ والسلاح اللازم لإعادة بناء الجيش الوطني لا يُباع في الأسواق الحرّة، ومن احتل أرضاً سورية أو أقام قاعدة عسكرية فيها، لغرضٍ في نفس يعقوب، لن يهرع للانسحاب، لأن السوريين توّاقون لإعادة توحيد بلادهم، وممارسة السيادة الحصرية عليها. المال والسلاح ووحدة البلاد والسيادة الحصرية عليها أهدافٌ غير قابلة للانفصال عن طبيعة نظام الحُكم، الذي سيُعمل لإنجازه، تماماً كما هي غير قابلة للانفصال عن موقع الدولة السورية الجديدة وموقفها من محاور النفوذ والسيطرة المتنافسة أو المتصارعة في الإقليم وفي العالم الأوسع. ومع التسليم بانسحاب سورية الجديدة من المحور الإيراني/ الشيعي، تبقى هناك جملة من المعضلات/ الأسئلة ذات العلاقة بمدى التداني من (أو التجافي عن) المحاور الأخرى وتبعات ذلك:

أولاً، بقدر بعدها عن المحور الإيراني/ الشيعي، تقترب سورية الجديدة من المحور التركي/ الإخواني. ولهذا الاقتراب غير القابل للخطأ تبعات بعيدة المدى على المستويات المختلفة، السياسية والاقتصادية والديموغرافية، وربّما العسكرية أيضاً.

ثانياً، ومع بعدها عن المحور الإيراني/ الشيعي تقترب سورية الجديدة أيضاً من المحور المصري/ السعودي. ولكن درجة الاقتراب من هذا المحور هي الأهم هنا، فكلّما كان الاقتراب أكبر وأعمق حصلت سورية الجديدة على الدعم المالي اللازم لإعادة الإعمار من دول الخليج، وكلما ارتاحت علاقاتها مع الدول العربية المجاورة، الأردن ولبنان الجديد، وربّما العراق أيضاً. وفي المقابل، كلّما طغت غلبة الإسلام السياسي على المشهد السياسي السوري الجديد كان التداني مقيّداً ومحدوداً، ومثله الدعم المالي والاحتضان السياسي.

ثالثاً، ومن أين يأتي السلاح اللازم لإعادة بناء الجيش الوطني، وكذلك المال اللازم لذلك، إذا توتّرت العلاقات، “وتعطلّت لغة الكلام”، بين قيادة سورية الجديدة والقيادة الروسية؟ وفي غياب المصادر البديلة المتأهبة لتزويد الجيش السوري بالسلاح، السلاح اللازم أيضاً لمواجهة العدوان الإسرائيلي، هل تتجرأ القيادة السورية الجديدة على الطلب من روسيا التعجيل في تفكيك قواعدها العسكرية في سورية وإخلائها؟

رابعاً، يتعلق التحدّي/ السؤال الكبير بالنظام السياسي الذي يتوجّب السعي الدؤوب نحوه، ويتسنّى من خلاله تأكيد حماية الحقوق المتساوية للمواطنين السوريين جميعاً، من جهة، واحترام الحقوق الجماعية للأقلية الكردية، في إطار الدولة السورية، من جهةٍ أخرى، فاستبدال حكم عائلة الأسد الاستبدادي بحكم استبداد من نوع آخر، إخواني أو غير ذلك، لا يفي بأي غرض بعد الدمار المهول الذي حصل، والدماء الغزيرة التي سالت، خلال 14 عاماً؛ ونظام حُكم لا يقبل به الكرد السوريون يظلّ قاصراً عن تحقيق وحدة البلاد المشتهاة، أو تبديد الهواجس المعروفة لتركيا في هذا الشأن.

وإذا أخذنا بالاعتبار التحدّيات التي تواجهنا في سورية الجديدة، الداخلية منها والخارجية، وأيضاً فرح الغالبية الساحقة من السوريين، داخل حدود سورية وخارجها، بالخلاص من استبداد نظام الحكم الأسدي، لتوصلنا إلى استنتاج مفاده التالي: … سورية الجديدة، على الأرجح، في الطريق نحو التحوّل الديمقراطي، تحوّل تضغط من أجله النخب السياسية وغير السياسية السورية، التي لا تقبل التنازل عنه، تحوّل وعد به قادة المرحلة الانتقالية، ولا يستطيعون التنكّر له؛ وتحوّل ديمقراطي يفتح أبواب سورية أمام أوروبا والعالم الأرحب، ويبطل وصمها بالدولة المنبوذة أو المارقة. هذا الطريق نحو التحوّل الديمقراطي يواجه، بالطبع، عقبات ومطبّات وتعرّجات كثيرة، ولا يحدث عادة بالسرعة أو السلاسة المرجوة. ولكنّه، طريق الآلام الواعد والأقدر على تحقيق وحدة البلاد وحماية حقوق المواطنين، بغضّ النظر عن الجنس أو العرق أو المذهب. وربّما كان هو الطريق الأنسب أيضاً لمواجهة كثير من التحدّيات الخارجية المذكورة سابقاً.

كان فرح السوريين بالخلاص من نظام حُكم استبداد عائلة الأسد كبيراً، رغم اختلاطه بمشاعر الحزن على خسائر وآلام الماضي، والخوف من المقبل، وما قد يحمل في طيّاته من المخاطر. ولكن رغم ذلك الخليط من المشاعر فإن الشعور بالفرح يظلّ طاغياً. ولا غرابة أن يشاطر الفلسطينيون واللبنانيون، أكثر من غيرهم من العرب، هذا الفرح الكبير، لأنهم جرّبوا على لحمهم وجلدهم ما جلبه حُكم استبداد عائلة الأسد من الويلات على مدى نصف قرن. وهناك ما يبرّر الاعتقاد بأن شعباً انعتق من حُكم بطريرك مستبدّ لن يرهن حرّيته أو مستقبله بيد بطريرك مستبدٍّ آخر، حتى لو وعد “بقطف الشرف من القمر”.

العربي الجديد

————————————–

سورية الانتقالية والتحدّيات المتشابكة/ طارق عزيزة

04 فبراير 2025

بعد أقلّ من شهرين على هروب الرئيس المخلوع بشّار الأسد، وانهيار نظامه، بدأت المرحلة الانتقالية في سورية رسمياً، بإعلان إدارة العمليات العسكرية إلغاء دستور 2012، وحلّ مجلس الشعب والجيش وأجهزة الأمن والمخابرات، وتنصيب أحمد الشرع رئيساً انتقالياً بصلاحياتش واسعة غير محدّدة.

أثارت الطريقة التي اتُّخِذت بها هذه الإجراءات جدلاً واسعاً في أوساط السوريين، بين معترضين على صحّتها من الناحيتين القانونية والشكلية، ومرحبّين بها على أساس “الشرعية الثورية”، وما بينهما من الذين يثير شكوكهم تاريخ الشخصيات التي تصدّرت المشهد، وخلفياتهم الأيديولوجية، وما ظهر من استئثار الفصائل العسكرية، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام بالقرار، بعيداً عن أيّ شكل من المشاركة أو التشاور الجدّي مع هيئات المعارضة السورية المختلفة.

وبصرف النظر عن ملابسات ما سبق، والموقف منه، الحقيقة التي على الجميع التعامل معها أنّ رحلة وضع أسس الدولة السورية ما بعد زمن الخراب الأسدي المديد انطلقت، وستكون الأشهر المقبلة حاسمةً وبالغةَ الخطورة، لأنّ ما تحمله من أحداث وقرارات تحدّد الوجهة التي ستمضي فيها البلاد، أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ومهما كانت الاعتراضات والتحفّظات على أحمد الشرع، والقوى العسكرية التي نصّبته رئيساً، أو من هؤلاء على بقية الأطراف السياسية السورية، لا يمكن بغير نهج تشاركي جادّ وفاعل التعامل مع التحدّيات المهولة للتركة الثقيلة، والكوارث، التي خلّفها الأسد الهارب.

يصعب حصر الملفّات والأولويات التي على قيادة المرحلة الانتقالية معالجتها. ثمّة خطوات سياسية وتشريعية تعهّد بها الشرع في خطابه للشعب السوري، من تشكيل لجنة تُعيّن مجلساً تشريعياً مصغّراً، وأخرى تحضيرية مهمتها الإعداد لمؤتمر الحوار الوطني، وصولاً إلى إصدار إعلان دستوري مؤقّت. وفي الأثناء، ما زال ملايين اللاجئين والنازحين السوريين عاجزين عن العودة إلى قراهم وبلداتهم وأحيائهم المهدّمة، وعشرات ألوف العائلات تنتظر الكشف عن مصير ذويها المفقودين في سجون ومعتقلات النظام البائد، ومحاسبة المسؤولين عما جرى لهم. ومع الفراغ الدستوري الحاصل، من غير الواضح ما ستكون عليه أحوال الحرّيات الشخصية والعامّة، وحرّية الإعلام والرأي والتعبير، في ظلّ غياب أيّ إشارة إلى الديمقراطية والتعدّدية السياسية في خطاب الشرع. ولا يمكن إغفال مخاطر الخطوات العدوانية التوسّعية لقوات الاحتلال الإسرائيلي بعد 8 ديسمبر (2024).

ومع ذلك، تبدو مسألتا الأمن والاقتصاد الهاجسَ المؤرّق الأكثر إلحاحاً لدى السوريين كافّة. ينقسم الملف الأمني إلى شقّين: أوّلهما عسكري مرتبط بمعالجة الحالة القائمة في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، بصورة تجنّب البلاد المنهكة مغبّة الانزلاق في دوامة عنف جديدة هي في غنىً عنها، وبنجاح عملية حلّ الفصائل ودمج عناصرها وقياداتها ضمن مؤسّسة عسكرية وطنية، وهي مسألة أعقد من مجرّد قرارات وإجراءات تنظيمية وهيكلية. فالفصائل العسكرية، وإن انتمى معظمها إلى الطيف الإسلامي عموماً، ليست على منهج واحد في مرجعياتها، ولا في درجة الاعتدال أو التشدّد، كما أنّ ظروف تشكّلها وعملها خلال الثورة والحرب تختلف، بمثل اختلاف ارتباطاتها بهذه أو تلك من الجهات الخارجية الراعية والداعمة. وهناك آلاف الضبّاط والعسكريين المنشقّين خارج فصائل المعارضة، لم يتّضح بعد كيف ستُعالَج أوضاعهم. وفوق هذا، ما هو مصير عناصر الجيش والشرطة السابقين ممّن أجروا التسويات أصولاً، ولم يشاركوا في جرائم وانتهاكات ضدّ الشعب السوري؟

يرتبط الشقّ الثاني من الملف الأمني بالأمان المجتمعي، ويتفرّع منه جانب جنائي عادي، مناطه حماية الأفراد والممتلكات العامّة والخاصّة من الاعتداءات والسرقات، وهذا يتطلّب الإسراع في سدّ الفراغ الأمني الناجم عن حلّ أجهزة الشرطة السابقة. والجانب الأكثر صعوبةً يتعلّق بمساعي السلم الأهلي، لمنع ارتكاب جرائم وانتهاكات وممارسات خارج القانون بدافع الانتقام، وهذا لا يتحقّق من دون شروع السلطة الجديدة بمسار واضح للعدالة الانتقالية، يضمن محاسبة المتورّطين في جرائم بحقّ السوريين، وفق مسار قضائي يؤسّس لسيادة القانون، بالتكامل مع بقية إجراءات العدالة الانتقالية، كجبر الضرر وإحياء الذكرى والمصالحة.

لا يقلّ الملف الاقتصادي تشابكاً وتعقيداً، ويمكن تقسيمه بين مستويَين أساسَين، الأول إسعافي مباشر موضوعه تحسين الأوضاع المعيشية، من خلال العمل على زيادة الأجور، وتوفير السلع والخدمات الأساسية بأسعار تتناسب مع الدخل. والمستوى الآخر أكثر شمولاً وتفصيلاً، يركّز على تأهيل البنى التحتية وتأمين المواد اللازمة لتحريك عجلة الإنتاج في القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية. من المتوقّع أنّ المساعدات العربية والقرارات الأوروبية الأخيرة في شأن رفع العقوبات عن سورية ستساعد الحكومةَ في تجاوز التحدّيات العاجلة للمستوى الأول، وتساهم في تسريع البدء بالشقّ الثاني، الذي يندرج ضمن خطط إعادة الإعمار.

يتطلّب التعامل مع هذه المسائل المعقّدة خبراتٍ عسكريةً وسياسيةً وقانونيةً واقتصاديةً كبيرةً، كمّاً ونوعاً، ولن يكون بمقدور السلطة الانتقالية توفير الأطر اللازمة لها إذا اكتفت بمعايير الولاء والمصلحة الحزبية والفئوية. هذا يعني ألا تبقى دعوة الشرع جميعَ السوريين للمساهمة في بناء المستقبل شعاراً خطابياً، وتُترجَم عملياً من خلال هياكل حكم سياسية وإدارية تشاركية، تكون عماد دولة حديثة، تليق بتضحيات الشعب السوري وتطلّعاته.

العربي الجديد

————————

تحدّيات سورية الجديدة والآفاق الواعدة إقليمياً/ عبد الباسط سيدا

04 فبراير 2025

بصرف النظر عما قيل عن طريقة إعلان أحمد الشرع رئيساً لسورية في المرحلة الانتقالية، كان من المسلّم به أن يكون هو الذي سيتولّى المهمّة في هذه المرحلة الاستثنائية بكل المقاييس في التاريخ السوري، منذ تأسيس الدولة السورية قبل أكثر من قرن. فهناك من تحدّث عن أهمية حضور الضبّاط المنشقّين، وهناك من تحسّر لعدم وجود شخصيات وطنية، أو قوى وأحزب مدنية، ساهمت بفاعلية في الثورة، أو تشكلّت خلال سنوات الثورة الطويلة، وذلك لإضفاء مزيد من الشرعيّة على القرار، الذي كانت الحاجة إليه ماسّة.

كما تناول بعضهم، حتى من موقع العتاب، وليس النقد فقط، طريقة نقل الخبر إلى وسائل الإعلام، فالكلّ رأى أن حدثاً بهذا الوزن كان لا بدّ أن يعلن في مؤتمر صحافي في حضور وسائل الإعلام السورية والعربية والعالمية. وباعتبارنا غير مطّلعين على ما جرى، لا يمكننا أن نضيف جديداً في هذا المجال، إلا باعتماد ما سمعناه وقرأناه هنا وهناك، ولكن المهمّ اللافت في اجتماع الفصائل العسكرية الذي شهد القرار إعلان حلّ الفصائل وتوحيدها ضمن الجيش السوري، وهذا أمر حيوي بالغ الأهمية والضرورة لقطع الطريق أمام الصراعات والصدامات التناحرية الكارثية مستقبلاً.

وفي هذا السياق، أتذكّر أننا في بدايات تأسيس المجلس الوطني السوري (2012)، وكانت الحالة الفصائلية في بداياتها، كنا في زيارة برئاسة رئيس المجلس في حينه برهان غليون إلى نيويورك، حيث عقدنا بعض الاجتماعات في أروقة الأمم المتحدة مع الأشقاء والأصدقاء، التقينا بأعضاء البعثة الليبية وفي مقدّمتهم عبد الرحمن شلقم. وبعد تبادل الفِكَر والآراء، توجّه شلقم إلى غليون قائلاً: “أنصحكم بتعيين وزير للدفاع منذ الآن، حتى لو لم تكن لديكم حكومة، لضبط الفصائل، وإلا ستواجهون بفوضى عارمة”، كما هو الحال عندنا راهناً. وكان من الواضح أن الرجل لم يكن ينطق عن الهوى، لأنّنا واجهنا لاحقاً حالةً كارثية، لم تنفع معها محاولات وجهود التوحيد كلّها، رغم المشاريع الكثيرة التي حملت شعارات توحيد العمل العسكري، وضرورة أن يكون هذا العمل خاضعاً للقرار السياسي وملتزماً به.

ما نأمله أن ينفّذ القرار الخاص بالوحدة ضمن الجيش السوري بحذافيره هذه المرّة، وذلك سدّاً لسائر الذرائع والمفاسد، فالجيش الوطني الفعلي، لا الشعاراتي، يُعدّ مدرسةً وطنيةً جامعة، وبفضل هذا الجيش سيتمكّن شباب سورية من التعرّف إلى بعضهم، وسيمدّون الأواصر الوطنية في ما بينهم، الأمر الذي يساعدهم في مواجهة المخاطر بروحية وطنية، لا تتقاطع مع رغبات أصحاب النزعات الطائفية أو المناطقية التي أثبتت الوقائع أن استغلالها للجيش قد حوّل هذا الأخير أداةً للتسلّط، واللصوصية، والقمع والفساد. ويبدو أن المسؤولين في الإدارة السورية الجديدة، ومنهم الرئيس الشرع نفسه، قد انتبهوا إلى الثغرات التي كانت. لذلك كان القرار في اليوم التالي توجيه كلمة إلى الشعب السوري، وهي الأولى التي يوجّهها الشرع إلى السوريين منذ وصوله إلى دمشق، وهروب بشّار الأسد، وسقوط سلطة آل الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. وانتظر السوريون الكلمة بفارغ الصبر، لأن ما جرى ويجري يتعلّق بصورة صميمة بمصيرهم، ومصير أبنائهم وبناتهم وأجيالهم المُقبلة. ورغم قصر الكلمة، وهذا جيّد في جميع الأحوال، إلا أنها كانت أشبه بخريطة طريق للمرحلة الانتقالية المقبلة، المفترض إعلانها في القريب العاجل.

وممّا جاء في الكلمة أن الرئيس الشرع سيُعلِن حكومةً وطنيةً جامعةً، تمثّل التنوع السوري، لتقود المرحلة الانتقالية؛ كما ستُعلَن لجنةٌ تحضيريةٌ مهمتها تشكيل مجلس تشريعي مصغّر مؤقّت، من المفترض أن يعبّر عن التنوّع المجتمعي السوري، وعن التوجّهات السياسية لمختلف القوى التي عارضت سلطة الأسد، ودفعت ضريبةً باهظة لقاء مواقفها.

كما ذكر الشرع في خطابه، في الوقت نفسه، أنه سيُعلِن تشكيل لجنة تحضيرية في القريب العاجل للإعداد لمؤتمر وطني، لمناقشة مستقبل البلاد، والتوافق على ملامح المرحلة المُقبلة، وإصدار الإعلان الدستوري. وجدير بالذكر أن البيان الذي صدر عن اجتماع الفصائل العسكرية، وأُعلِن فيه تكليف الشرع الرئاسة المؤقّتة للبلاد في المرحلة الانتقالية، تضمّن قراراً بحلّ حزب البعث وسائر أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي كان حافظ الأسد قد شكّلها عام 1972، ليتمكّن من تدجين سائر الأحزاب المنضوية ضمن إطارها؛ كما جاء في البيان المعني قرارٌ بحلّ جميع الأجسام المدنية والعسكرية التي كانت تُحسب على الثورة السورية.

الظروف التي تمرّ بها سورية راهناً استثنائية بالمقاييس كلّها، فهناك تراكمات سلبية كثيرة تشكّلت نتيجة طول المدّة التي تحكّمت خلالها سلطة آل الأسد المستبدّة الفاسدة المُفسِدة بمفاصل الدولة والمجتمع والحياة الخاصّة للأفراد، ومن المتوقّع أن تظهر سلوكات غير سوية، وتجاوزات هنا وهناك، من مسؤولين كلّفوا بمهام الإدارة من دون تدقيق أو تأكّد من مؤهّلاتهم وخبراتهم، وحتى من مواقفهم على صعيد إمكانية التعامل الحيادي الموضوعي وفق القوانين. وهذا يوجب وجود إمكانية المساءلة والمحاسبة، لمعالجة سائر الأخطاء في الوقت المناسب، وقبل أن تتحوّل ظاهرةً لها من يحميها ويدافع عنها من موقع المُستفيد. ولبلوغ ذلك، لا بدّ أن تكون حرّية التعبير مصانةً بموجب مظلّة قانونية، يعبر الناس عن أفكارهم وهواجسهم وتطلّعاتهم بحرّية، من دون أيّ خوف أو انتهازية، للمحافظة على الفرح السوري الذي ساد في كل مكان بعد الخلاص من الطاغية، والعمل على استمرارية هذا الفرح عبر الإجراءات المطمئنة، لا المشاعر والعواطف والمجاملات العامّة، التي تفتقر إلى بُعدٍ ملموسٍ واقعيٍّ في الأرض.

وفي هذا السياق، لا يجوز فرض القيود على حرّية الاجتماعات واللقاءات، أو منعها بأوامر غير واضحة، كما لا يجوز منع تشكيل الأحزاب والتيّارات السياسية، ما دامت بموجب القوانين المُعتمَدة. فالأحزاب والأجسام السياسية التي تجمع بين أناس يتشاركون التوجّهات المتقاربة، والتطلّعات المتماثلة، تظلّ الأساس في أيّ نظام جمهوري يستمد مشروعيته من إرادة مواطنيه الأحرار، بموجب انتخابات نزيهة شفّافة.

وهنا، لا بدّ من تأكيد أهمية التوقّف عند البيان الذي صدر عن مجموعة من مفكّرين وكتّاب وفنّانين وحقوقيين سوريين، وهي مجموعة وازنة لها حضورها المحترم في الوسطين السوري والعربي، وهناك أشخاص منها لهم وزنهم على المستوى الدولي. والبيان يجسّد صوتاً وطنياً مخلصاً يحرص على الوطن وأهله بانتماءاته وتوجّهاته، وهذا كلّه يوجب قراءة البيان جيّداً، والتمعّن في الهواجس التي يحذّر منها، والمطالب التي يؤكّد أهميتها، فمثل هذا الأمر سيكون في صالح وحدة سورية وسلامة أهلها، الذين أبهروا العالم بشجاعتهم وتحمّلهم وصبرهم، دفاعاً عن حرّيتهم وكرامتهم، وتفانيهم في سبيل ضمان مستقبل أفضل لأجيالهم المُقبلة.

المرحلة التي تعيشها سورية بالغة الحساسية، وهذا لا يختلف فيه اثنان. وتشمل هذه الحساسية الوضع الداخلي السوري نفسه، والوضع الإقليمي، وحتى الوضع الدولي. ولكن الوضع الداخلي المتماسك يبقى خطّ الدفاع الأول لمواجهة التحدّيات الموضوعية القائمة حالياً في مختلف الميادين، وعلى مختلف المستويات، أو تلك المتوقّعة المحتملة مستقبلاً. وتعزيز التماسك الوطني يكون من خلال طمأنة سائر المكوّنات السورية والمواطنين السوريين، واحترام الخصوصيات والحقوق؛ وهذا كلّه لن يتحقّق من خلال شعارات وعبارات الانتهازيين والمكوّعين المنمّقة، التي تفتقر إلى أيّ مصداقية، ولا تلتزم بأيّ حرصٍ مسؤول على مستقبل البلد وأهله. كما لا يمكن تحقيق التماسك الوطني، أو بلوغ الوحدة الوطنية القوية على صعيد الأرض والشعب، بالعقلية الانتقامية، أو بالخطابات والتوجّهات الطائفية والعنصرية البغيضة، التي يروّجها بعضهم في منصّات التواصل الاجتماعي، وهي خطابات ونزعات تفرّخ الأحقاد وتكرّسها، وترسّخ الهواجس، وتروّج الكراهية. والأوطان كما نعلم جميعاً لا تُبنَى على الكراهية والأحقاد، ولا تصبح قويةً محصّنة ما لم نتمكّن من استيعاب الآخر المختلف، بل واحترامه، والقدرة على العمل المشترك معه لصالح سورية وشعبها راهناً ومستقبلاً، منفتحةً على محيطها العربي وجوارها الإقليمي والمجتمع الدولي. وفي هذا السياق، تجدر الإشادة بالزيارة التي قام بها أمير قطر إلى سورية لتهنئة شعبها وقيادتها الجديدة. وكذلك بالزيارة التي قام بها الرئيس السوري إلى السعودية لشكرها وتأكيد أهمية دورها المحوري. وما نأمله أن تندرج الزيارتان ضمن المؤشّرات الواعدة في طرق تبلور ملامح مشروع عربي، يعيد التوازن إلى المعادلات المختلّة على مستوى الإقليم، ما من شأنه المساهمة في وضع حدّ لمعاناة شعوبه المغلوبة على أمرها.

العربي الجديد

—————————

الخليج وحكام سوريا الجدد: تشريح أسباب التغيير/ عمرو حمزاوي

تحديث 04 كانون الثاني 2025

لقد أثار انهيار نظام بشار الأسد وصعود الإسلاميين إلى السلطة في سوريا في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 بعض ردود الفعل المتوقعة والعديد من ردود الفعل غير المتوقعة من دول الخليج العربي.

فقد تبنت قطر التغيير بسرعة ووعدت بدعم الحكام الجدد في دمشق. وانطلاقاً من توجهات دولة رفضت تطبيع علاقاتها مع الأسد عندما أعيد نظامه إلى جامعة الدول العربية في عام 2023، فإن مثل هذا الرد يتوافق مع الأولويات السياسية العامة لحكومة الدوحة. لم يكن هناك شيء غير متوقع في موقف قطر.

غير أنه كان لافتا تبني المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للتغيير في سوريا. فعلى النقيض من الدعم القطري لانتفاضات الربيع العربي، كرست حكومتا السعودية والإمارات سياساتهما لرفض الانتفاضات الشعبية والتغيير الذي أحدثته. عارضت كل من الرياض وأبو ظبي الحكومات التي يقودها الإسلاميون، والتي لم تثقا بها وصنفتاها على أنها تشكل مخاطر جسيمة على استقرارهما وأمنهما الوطني.

أما الانتفاضة السورية ضد نظام بشار الأسد في عام 2011 فقد استدعت عنفاً ممنهجاً من قبل النظام ضد المواطنات والمواطنين وهددت الاستقرار في بلاد الشام على نحو عام، وهو ما دفع كل من الرياض وأبو ظبي إلى تأييد بعض معارضي الأسد خاصة مع تنامي رعاية إيران لنظام الأسد. كانت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تراقبان النفوذ الإيراني المتوسع بالقرب من الخليج والممتد من العراق إلى سوريا ولبنان وتتحسبان لتداعياته. ومع ذلك، فإن انتشار العنف بين الحركات الإسلامية المتطرفة والتنظيمات الإرهابية وبين النظام السوري المتورط في إرهاب الدولة استفز الحكومتين السعودية والإماراتية للحد في نهاية المطاف من مشاركتهما في المشهد السوري وتدريجيا الانسحاب منه. أما قطر فقد استمرت، إلى جانب تركيا، في دعمها لجماعات المعارضة.

في مايو 2023، وافقت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب دول عربية أخرى مثل مصر والعراق والجزائر، على إعادة نظام الأسد إلى جامعة الدول العربية. لقد أدت الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان الجماعية التي ارتكبها النظام ضد السكان المدنيين إلى تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية في نوفمبر/تشرين الثاني 2011. ورغم أن قطر ظلت غير راغبة في تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، إلا أنها لم ترغب في أن تكون «عقبة» أمام «الإجماع العربي» بشأن إعادته إلى الجامعة. وعلى العكس من ذلك، تبنت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة التطبيع مع الأسد وتم استقباله بحفاوة في قمة جامعة الدول العربية التي عقدت في جدة في نفس الشهر. كما تم استقبال الأسد في صيف عام 2023 من قبل كبار المسؤولين الإماراتيين في زيارته لأبو ظبي ووعد بالمساعدات الإنسانية والمالية.

غير أن أحداث ديسمبر/كانون الأول 2024 في سوريا لم يتوقعها الكثيرون وضغطت على حكومات الخليج، شأنها شأن بقية حكومات الشرق الأوسط، لكي تطور ردا سياسيا. وكان الرد القطري، كما أشرنا سابقًا، متوافقًا مع سياسات الدوحة السابقة تجاه نظام الأسد. كذلك نظرت قطر إلى سياستها تجاه سوريا باعتبارها مسألة تنسيق شامل مع تركيا، وبالتالي أيدت هيئة تحرير الشام التي ترعاها تركيا.

أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، فبعد فترة أولية وجيزة أشارت فيها الرياض إلى انفتاحها تجاه الحكام الجدد في دمشق وكانت أبو ظبي مترددة بما يتماشى مع شكوكها القديمة بشأن الإسلاميين، تحركت الحكومتان للتخلي فيما خص سوريا عن سياستهما المناهضة لحركات الإسلام السياسي واحتضنت الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام. وقد تراكمت علامات هذه السياسة الجديدة في الأسابيع الأخيرة. فقد عقدت المملكة العربية السعودية اجتماعا بشأن سوريا في الرياض، ودعت وزراء خارجية الدول العربية الرئيسية، وتركيا، والاتحاد الأوروبي.

وتحدث رئيس الإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد، عبر الهاتف مع أحمد الشرع. كما زار وزير الخارجية السوري المعين حديثا، أسعد الشيباني، كل من الرياض وأبو ظبي وكذلك عواصم خليجية أخرى. في اجتماع 2025 للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، أشار الشيباني إلى «سوريا الجديدة» باعتبارها مستوحاة من رؤية السعودية 2030. ورد وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بالثناء، مشيرًا إلى «تفاؤل حذر» ومشيرًا إلى «فرصة عظيمة» لجعل سوريا تسير في «اتجاه إيجابي». ثم، قبل أيام قليلة، زار رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع السعودية في أول زيارة رسمية له.

فما هي الدوافع وراء احتضان السعودية والإمارات العربية المتحدة للحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام في سوريا؟

أولاً، ترى الدولتان أن التغيير في سوريا يمثل فرصة كبيرة لتقويض النفوذ الإيراني في بلاد الشام. وعلى الرغم من استئناف الرياض لعلاقاتها الدبلوماسية مع طهران بعد وساطة صينية ناجحة، وتعاون كل من الرياض وأبو ظبي مع الحكومة الإيرانية لتهدئة الأوضاع في اليمن وإنهاء الأعمال العدائية هناك، إلا أن السياسات الخارجية السعودية والإماراتية ظلت حذرة من الدور المدمر لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن. إن حقيقة أن العمليات العسكرية الإسرائيلية أضعفت حماس وحزب الله بشكل كبير، وبالتالي إيران إلى جانب خسارة حليف إيران الأسد، خلقت شيئا من الأمل بين دول الخليج في أن تحولات ما بعد حرب غزة يمكن أن تساعد في دفع إيران للخروج من سوريا وقطع مسارات نفوذها بين العراق ولبنان. وباحتضان الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام، يأمل السعوديون والإماراتيون في منع إيران من العودة إلى معقلها السابق في سوريا مرة أخرى. وقد أكدت حكومة هيئة تحرير الشام الآمال السعودية والإماراتية بالابتعاد التام عن إيران واعتماد العلاقات الجيدة مع تركيا ودول الخليج كخيار استراتيجي لها.

ثانيا، تعلمت أبو ظبي والرياض دروسا قيمة من أخطائهما السابقة خلال الأوقات المضطربة في العراق واليمن وهي الدروس التي توجه سياستهما تجاه سوريا ما بعد الأسد. في العراق، قررت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة عدم الانخراط بعد إزاحة صدام حسين في عام 2003، مما عني أن الأمريكيين والإيرانيين فقط اكتسبوا النفوذ في السياسة العراقية. في اليمن، اتبع الإماراتيون والسعوديون سياسة تجاهل الصراع بين عامي 2012 و2015 حتى استولت جماعة الحوثيين الممولة والمسلحة من إيران على شمال اليمن وخاضت حربا ضد مجموعات أخرى. حينها سارعت الرياض وأبو ظبي لقيادة تحالف عربي للإطاحة بالحوثيين، وكانت نتيجة الفعل المتأخر هي التورط في حرب دموية امتدت إلى ما هو أبعد من حدود اليمن. كان على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أن تدفعا ثمنًا سياسيًا وأمنيًا باهظًا بسبب ترددهما الأولي في الانخراط في اليمن. في سوريا، إذا، تسعى القيادات السعودية والإماراتية إلى دور أكثر نشاطًا ومنذ البداية لكي يتجنبوا مصائر مشابهة للعراق واليمن.

ثالثا، تشكل سوريا نقطة جوهرية في التحولات الجيوستراتيجية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط من جراء حرب غزة. فقد اتسع نطاق نفوذ إسرائيل خارج أراضيها وخارج الأراضي الفلسطينية المحتلة في حين تآكل نفوذ إيران، وهو الأمر الذي فتح الباب أمام حسابات جديدة فيما خص قضايا القوة والسلطة والسيادة في العراق وسوريا ولبنان. ويتطلب القرب الجغرافي لبلاد الشام من الخليج دبلوماسية نشطة من جانب السعودية والإمارات، ويستدعي الانخراط في البنية الجديدة للقوة والنفوذ التي تتبلور في بلاد الشام، إن لمنع سياسات إسرائيل التوسعية أو الحد من أحلام تركيا العثمانية الجديدة والتي تدفع حكام إسطنبول إلى تبني سياسات هيمنة على جوارها العربي. كذلك تريد كل من الرياض وأبو ظبي استبعاد إمكانية إعادة إيران تجميع وكلائها في بلاد الشام والعودة مجددا كراع لسوريا.

رابعا، جاء انخراط السعودية والإمارات في سوريا في الوقت نفسه الذي تحاول فيه الدولتان أن تكونا أكثر نشاطا سياسيا ودبلوماسيا في الشرق الأوسط. لقد أصبحت الدولتان تعطيان الأولوية للمشاركة الفعالة في جميع المسارح الإقليمية دون تردد، وتعملان على حماية مصالحهما في شرق أوسط يتسم بالصراع المستمر وعدم الاستقرار طويل المدى. إن سياسة الخارجية النشطة للسعودية والإمارات، والتي تتجلى بوضوح في غزة ولبنان والآن في سوريا، يمكن أن تجعل للرياض وأبو ظبي أدواراً أكثر بروزًا في قضايا الأمن الإقليمي ومن ثم أكثر أهمية للقوى العظمى المهتمة باستقرار الشرق الأوسط.

كاتب من مصر

القدس العربي

———————-

الخبر الأميركي السار في لبنان وسوريا/ طوني فرنسيس

استعادة الدولة داخل البلدين ومنع تهجير الفلسطينيين أولويتان عربيتان مع انطلاقة ترمب

الاثنين 3 فبراير 2025 1:00

تبني إدارة ترمب على الهزيمة الإيرانية في لبنان وسوريا وفلسطين وفشل ما يسمى بـ “محور الممانعة” للانطلاق نحو تعويم مشروعها الإقليمي الأكبر المعروف بمشروع “السلام الإبراهيمي”، لكن قبل الوصول إلى هذا الهدف الطموح عليها أخذ المشكلات القائمة بعين الاعتبار والمساعدة في إيجاد حلول ناجعة لها، فهي تعرف أن أولويات لبنان الراهنة تقوم على استعادة سلطة الدولة على أراضيها وقرارها.

تسير صفقة المخطوفين في غزة كما هو مقرر، وفي الأسبوع الطالع يفترض أن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية منها فيما يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أنهى محادثاته مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وستسير الصفقة إلى نهايتها حتى الإفراج عن معتقلي السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لدى منظمتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وإطلاق آلاف المعتقلين الفلسطينيين في سجون إسرائيل، ولن يعكرها شيء، لا الظهور المسلح لعناصر المنظمتين، فهو جزء من الاتفاق الذي وقعته إسرائيل لضمان حماية الإفراج عن مخطوفيها، ولا اعتراضات الوزيرين بن غفير وسموتريتش من الجانب الإسرائيلي على الصفقة من أساسها، والسبب في صمود الهدنة والصفقة المرافقة واحد، وهو قرار ترمب الذي يخطط كما يبدو لمرحلة جديدة تتعدى غزة ومشكلاتها وتتصل بمصير الشرق الأوسط ودور أميركا القيادي فيه.

لقد سعت إيران ومعها روسيا وتركيا، كلٌ ضمن حساباته ووسائله، إلى ضرب أو الحد من النفوذ والوجود الأميركي في هذه المنطقة، لكن جهود هؤلاء فشلت، وفشل خطط هذه الدول تحقق بالأساس على يد الجيش الإسرائيلي المدعوم بلا حدود من الولايات المتحدة، ومن سيقطف الجائزة الكبرى الآن هو ترمب الذي تعرف إسرائيل أنها من دونه لن يمكنها جني ثمار إنجازاتها العسكرية ولو احتلت الشرق الأوسط بأكمله، من دون الدخول في عملية سياسية لم تتضح كل معالمها بعد.

وقبل أن تحسم إسرائيل معارك غزة وتضرب “حزب الله” كفصيل إيراني متقدم في لبنان وتسهم في إخراج إيران من سوريا وتدمر بقايا جيش حليفها بشار الأسد وتفرض على روسيا مفاوضات من الصفر مع القيادة السورية الجديدة في محاولة للاحتفاظ ببقائها في سوريا، كانت إيران وتركيا وروسيا تخوض ألعاب نفوذ على مقاساتها من دون ترك كبير أثر في العملاق الأميركي، وفيما اعتقدت طهران أن وجودها في بلاد الشام بات راسخاً بمشاركة روسيا وتركيا، كانت موسكو تتناسى مسؤولياتها تجاه التسوية في سوريا وتستكمل ترسيخ حضورها في القوقاز الشمالي من جورجيا إلى القرم قبل أن تشن الحرب على أوكرانيا، وفي مرحلة ثانية تناغمت مع أذربيجان وتركيا في حربها ضد أرمينيا فأسهمت في تحقيق انتصار تركي حاسم جنوب القوقاز وعلى الحدود الإيرانية.

حقق الروس ما اعتبروه مكاسب في القوقازَيْن، وفعل الأتراك مثلهم وكانت إيران الخاسر الأكبر، وعندما شنت إسرائيل حروبها رداً على “طوفان الأقصى” الذي دعمته طهران خسرت هذه الأخيرة كل شيء، فضُرب وجودها على حدود فلسطين وأُخرجت من سوريا ولُويت أذرعها، بمن فيهم ذراعها الأقوى “حزب الله”، وفي الوقت نفسه صار النفوذ الروسي شرق المتوسط نقطة على بساط الشك، وزاد النفوذ التركي من دون أن يطرح تحديات مصيرية على الجانب الإسرائيلي أو المشروع السياسي الأمني الأميركي الأكبر.

من بوابة المشهد هذا يتقدم ترمب وتحاول إسرائيل نتنياهو التأقلم معه، ولا يخفي الرئيس الأميركي الذي اختار إدارة مطواعة ومطيعة لأهدافه أنه يريد البناء على “الانتصارات العسكرية” الإسرائيلية والتحولات الموضعية في المشرق والقوة الأميركية للانطلاق نحو تحقيق أهدافه، وتقول صحيفة “معاريف” الإسرائيلية إنه “ضغط لإقرار صفقة المخطوفين ووقف إطلاق النار ليس فقط، كما يهمسون في محيطه لأنه يريد الحصول على جائزة نوبل للسلام، بل يريد ذلك كي يدفع قدماً باتفاق إقليمي شامل بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية وأجزاء من العالمين العربي والإسلامي تحت المظلة الأمنية الأميركية”.

المدخل إلى هذا الاتفاق الإقليمي ليس في غزة فقط، بل هو بحسب مارك روبيو وزير الخارجية الترمبي عبر لبنان وسوريا أيضاً، فروبيو استعرض “الخبر السار” في الشرق الأوسط “إن لدينا في لبنان حكومة نأمل في أن تصبح أكثر قوة من ‘حزب الله’ وهناك وقف لإطلاق النار جرى تمديده، ولدينا في سوريا مجموعة استولت على الحكم” بعد أعوام من سيطرة الأسد وإيران وروسيا، ونحن “في حاجة إلى متابعة هذه الفرصة لإنشاء مكان (سوريا) أكثر استقراراً”، وكل هذا في الخلاصة الأميركية “يفتح الباب امام اتفاق بين إسرائيل والسعودية”، يشير الوزير الأميركي.

تبني إدارة ترمب على الهزيمة الإيرانية في لبنان وسوريا وفلسطين وفشل ما يسمى بـ “محور الممانعة” للانطلاق نحو تعويم مشروعها الإقليمي الأكبر المعروف بمشروع “السلام الإبراهيمي”، لكن قبل الوصول إلى هذا الهدف الطموح عليها أخذ المشكلات القائمة بعين الاعتبار والمساعدة في إيجاد حلول ناجعة لها، فهي تعرف أن أولويات لبنان الراهنة تقوم على استعادة سلطة الدولة على أراضيها وقرارها.

وفي سوريا أيضاً تحتل عملية إعادة بناء المؤسسات واستعادة وحدة البلاد وعودة مهجريها الأولوية، وفي فلسطين سيبقى الهدف إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، أياً تكن نتائج مغامرات “حماس” والحرب الإسرائيلية المدمرة بأهدافها التي تتراوح بين الإبادة والتهجير، وسيصعب تخطي هذه الأولويات مثلما سيكون مستحيلاً القبول بأفكار ترمب حول ترحيل مئات الألوف من أبناء القطاع، فمثل هذه الأفكار لن تخدم احتمالات السلام المأمول، لا الإبراهيمي ولا غيره، ولن تزيد الوقائع إلا سوءاً عبر دفعها المشاريع الإسرائيلية قدماً نحو مزيد من التطرف، وإعطاء الملالي الإيرانيين مادة خطابية إضافية مما يهدد حتى ما رآه روبيو من “خبر سار” في لبنان وسوريا وغزة.

لقد رأت القيادة الإيرانية في كل ما جرى انتصارات لغزة أولاً ولإيران ثانياً ولـ “حزب الله” والحوثيين ثالثاً، فيما جاءت أميركا في طليعة الخاسرين يليها “الكيان الصهيوني” ثم الدول الأوروبية، وصاحب هذا التصنيف هو أحمد خاتمي، خطيب جمعة طهران، ناقلاً تحليلات المرشد.

وبقدر ما يحمل هذا التحليل من مكابرة فإنه يتضمن رغبة بمواصلة السياسة الإيرانية نفسها التي تلاقي التطرف الإسرائيلي في منتصف الطريق، فأليس غريباً الاتفاق التام بين نتنياهو والملالي على رفض منظمة التحرير والدولة الفلسطينية ومبادرة السلام العربية؟

ومع ذلك ورغمه فالمنطقة مقبلة على تحول كبير هو جزء من تحول عالمي يقوده ترمب المنتظر على كل مفاصل الأزمات الدولية، وفي هذا التحول ستتعزز العلاقات الأميركية – الإسرائيلية وسيكون دور إيران بنداً أساساً في هذه العلاقات، مثله مثل مشروع السلام العربي – الإسرائيلي الذي يفكر فيه ترمب ولن يمكن لإسرائيل الهرب من الانضواء تحت لوائه.

وفي المقابل يصبح الاستعداد العربي لملاقاة التحولات الداهمة شديد الأهمية، ويمكن ملاحظة الاستعداد العربي المرن والمبدئي الذي تقوده السعودية على رأس المجموعة الخليجية وبالتعاون مع الدول العربية الأخرى لملاقاة القيادة الأميركية في رؤيتها للمنطقة والعالم انطلاقاً من المصالح العربية الأساس ومبادئ التعاون الدولي الراسخة، وأحد مظاهر الحضور العربي الدور الفاعل الذي تلعبه السعودية ودول الخليج في لبنان وسوريا، وموقفها الصلب في دعم مصر والأردن والفلسطينيين في مواجهة مشاريع تهجير الشعب الفلسطيني، والذي يشترط لتحقيق السلام الشامل السير في مشروع الدولة الفلسطينية، وهذا ما سيكون بنداً أساساً في المقاولات العربية مع الدولة الأميركية ورئيسها الجديد.

————————

نصيب هاني الراهب/ صبحي حديدي

2 – فبراير – 2025

هذه فقرة أولى تتوخى المقارنة بين زين العابدين بن علي وبشار الأسد: «إذا قام رأس النظام التونسي بالهرب من البلاد مع بداية الثورة التي اشتعلت في البلاد بعد أن أحرق البوعزيزي نفسه، فإن بشار الأسد أبى الهروب من سوريا إلا بعد حرقها وتدميرها مخلّفاً مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمفقودين والمغيبين، فضلاً عن تدمير بنيانها وترك ما بقي من الشعب بين مدمّر نفسياً أو مهجّر خارج بلاده في الدول العربية والأجنبية».

وهنا فقرة ثانية، تمتدح الأسد: «لقد أكد الحوار الأخير مع الرفيق الأمين العام للحزب [الأسد نفسه] عمق رؤيته ونفاذ بصيرته، ومعرفته العميقة بكثير من المشكلات التي ينبغي الوقوف عندها لإيجاد الحلول الجذرية لها (…) السيد الرئيس في هذا اللقاء كان المفكر العارف بوجع الناس ومعاناتهم، والحريص على وضع الحلول لكثير من المشكلات التي نعاني منها».

هل يعقل أنّ الشخص ذاته هو كاتب الفقرتين، وأنهما نُشرتا في المنبر الواحد إياه؟ نعم، يعقل جداً، بل لا يصحّ إلا أن يعقل، إذا كان الكاتب هو محمد الحوراني، رئيس ما يُسمى «اتحاد الكتّاب العرب» في سوريا؛ وإذا كانت فقرة المديح الثانية تعود إلى آذار (مارس) 2024، والثانية القدحية إلى 12 كانون الثاني (يناير) 2025، وكلتا الفقرتين نُشرتا في دورية «الأسبوع الأدبي» التي تصدرها قيادة الاتحاد.

«تكويعة» الحوراني هذه لا يُراد منها، هنا، إضافة مثال آخر على ما بات سوريون كُثر يطلقون عليه تسمية «البديع في فنون التكويع»، خاصة أنها بين الأشدّ ابتذالاً وهبوطاً وانبطاحاً؛ ولكنّ سيرة اتحاد الكتّاب تحثّ على استذكار أحد أبرز ضحايا هذه المنظمة الأقرب إلى مفرزة أمن: الروائي والمثقف والأكاديمي الكبير هاني الراهب (1939ـ 2000)، صاحب «المهزومون» و»بلد واحد هو العالم»، و»التلال» و»شرخ في ليل طويل» و»رسمتُ خطاً في الرمال»، و»الوباء»، وسواها.

حكايته تعود إلى عام 1985 حين شارك في مؤتمر الاتحاد، فأغلظ القول للمكتب التنفيذي، واعتبر أنهم أزلام للأجهزة الأمنية وشرطة رقابة على الأدب والأدباء. بعد أيّام معدودات، اعتُقل الراهب في مطار دمشق وهو في طريقه إلى اليمن حيث كان يعمل مدرّساً بالإعارة، وسُحب جواز سفره، كما فُصل على الفور من وظيفته كأستاذ للأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، وظلّ طيلة سنتين ممنوعاً من السفر. البطل الثاني في تلك الواقعة، أو لعلّه الأوّل في الواقع، كان أحمد درغام عميد كلية الآداب إلى جانب موقعه القيادي في الحزب الحاكم، والذي استحقّ لقب «جدانوف البعث» بسبب هوسه بممارسة الرقابة الثقافية والفكرية.

ولقد انفرد الراهب عن مجايليه في خصيصة واحدة، لعلها العلامة المشرّفة الأوضح خلال مساره الشخصي والإبداعي؛ هي تلمّسه المبكّر لمعنى ارتباط الاحتجاج بالحرّية، ومدى الحاجة إلى الديمقراطية على صعيد المجتمع العريض بأسره أوّلاً، ثم على صعيد المبدع بعدئذ واستطراداً. وثمة مغزى في التذكير بأنّ الحديث عن الديمقراطية بدون صفات لاحقة (مثل «الديمقراطية الشعبية» على سبيل المثال) كان في مطالع الستينيات أقرب إلى السبّة؛ لأنّ التبشير العقائدي في تلك الإيّام كان يدرج هذه المفردة في المعجم الإمبريالي وحده، وكان القائل بها يصنَّف فوراً في عداد الطابور الخامس.

وهكذا، ولأنّ درغام وعرسان صنّفاه في صفّ «عملاء الإمبريالية»، مُنع الراهب من الكتابة في الصحف السورية (مراراً، وبقرارات رسمية كانت تصدر عن وزراء الإعلام المتعاقبين)؛ ثم فُصل من جامعة دمشق كما سبقت الإشارة، وخُيّر بين التقاعد المبكّر أو تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس الثانوية (وهو الحائز على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، عن أطروحة متميّزة تناولت الشخصية الصهيونية في الرواية الإنكليزية). وبالطبع، اضطرّ الراحل إلى الاستقالة ومغادرة سوريا للتدريس في جامعة الكويت.

وهذه السطور تستذكر الراهب اليوم، بعد انهيار نظام «الحركة التصحيحية»، الأسد الأب والوريث وعصابات الاستبداد والفساد، لأنه كان أحد أبرز نماذج وعي إبداعي انشقاقي، تحلّى بسمات تكوينية وفلسفية وسلوكية مميّزة. وكان ابناً وفيّاً لتلك الأطوار التي شهدت ارتجاج الوعي بالهويّة الوطنية، والموقع الاجتماعي، والموقف الفكري، لمثقف من طراز الراهب: يساري غير ماركسي، قوميّ ولكنه وجودي شبه كوزموبوليتي، ريفيّ متحدّر من بيئات فقيرة، متحالف في الحزب أو الجامعة أو المقهى مع رفيق أو زميل أو صديق مدينيّ برجوازي صغير يشاطره الحساسيات ذاتها، قادم إلى الحاضرة الكبيرة (دمشق، بصفة أساسية) حاملاً عناصر اغترابه وتمرّده على «الحياة الأخرى» وتعطّشه إليها في آن معاً.

وكان العمل السياسي (في حزب البعث أو الحزب السوري القومي الاجتماعي، على نحو خاصّ)، هو بوتقة تعريف ذلك المثقف على الحياة الأخرى تلك؛ وكان أيضاً بوتقة انصهاره فيها أو انسلاخه عن أعرافها وشروطها، وخيرها وشرّها. البوتقة الثانية تمثّلت في العمل الإبداعي، ولم يكن مفاجئاً أنّ تكون الهزيمة الشاملة هي الموضوعة المركزية الطاغية في النتاج الأوّل لمعظم أبناء هذه الفئة.

للراهب، في يقين هذه السطور، نصيب من مناخات الحرّية التي تعيشها سوريا اليوم؛ تلك التي أتاحت للحوراني، أيضاً، فرصة تكويع صارخ، على عينك يا تاجر!

القدس العربي

——————-

في حلّ الجيش السوري/ معن البياري

03 فبراير 2025

فور الإجهاز على محاولة انقلاب رفعت الأسد الذي كان يقود “سرايا الدفاع”، وهذه يمكن عدّها جيشاً خاصاً، على أخيه الرئيس حافظ الأسد، في خواتيم 1983، زار وزير الدفاع في حينه، مصطفى طلاس، وحدات الجيش السوري، ليشرف على تسطير رُقَعٍ كان يجري التوقيع عليها بدماء الضبّاط والجنود على شعار “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد”. … كانت تلك الواقعة واحدةً من محطّاتٍ سابقةٍ ولاحقةٍ في مسار ترسيم الجيش في سورية حامياً شخص الرئيس ونظامِه وعائلته. وذلك مع تفشّي فسادٍ في هذا الجيش، بدأ مع دخول الأخير لبنان في 1976، حتى بلغ ذرىً مهولة، جعلته يحرزُ السمعة السيئة التي انحلّ، عملياً صباح 8 ديسمبر، ورسمياً مساء 29 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) وهو عليها. وليس عسيراً على من عايَن البهجة الشاسعة بين غالبيّة السوريين بقرارات السلطة القائمة في دمشق، المعلنة ذلك المساء، أن يرى قسطاً باهظاً من الفرح بواحدٍ من هذه القرارات، أي حلّ الجيش. … من دون أن يُكترَثَ بنواتج متوقّعة، أو غير مستبعدَة، لهذا الأمر، من قبيل ما ستصير عليه آلافٌ عديدةٌ من المجنّدين والعساكر وصغار الضباط، وقد فقدوا مورد عيشهم. فضلاً عن ألف سؤالٍ وسؤالٍ عن مدى قدرة قيادات الفصائل المسلّحة التي تتولّى بسط الأمن في البلاد منذ خلع نظام الأسد على بناء جيشٍ جديدٍ، مهنيٍّ، مدرّبٍ، مؤهّلٍ، على جهوزيةٍ في تأديته الوظائف المنوطة بأي جيش، تأمين الحدود وحماية البلاد من الاعتداءات الخارجية، وقادرٍ على تحديث كفاءاته وتنويع موارد تسليحه.

يُطرح هذان السؤالان، وغيرُهما، من دون إغفال كل أسباب الغضب المشروعة جداً لدى عموم السوريين من جيش بلادهم الذي حاربهم بوحشيةٍ، واستأسد على الناس في أريافهم وبلداتهم، وواجه الثوّار والمنتفضين، بعد مارس/ آذار 2011، بثأرية، إذ يكفي لأيّ عابرٍ في داريا (مثلاً) في ريف دمشق أن يقع على عقيدةٍ معاديةٍ ضد الشعب السوري متوطّنةٍ في هذا الجيش. يُطرح السؤالان، لعلّ ثمّة فسحة، ولو ضيّقة، لشيءٍ من الأخذ والردّ، أو بعض الجدل، بشأن ما إذا كان في الوُسع الاستعاضة عن فكرة الحلّ بفكرة إعادة الهيكلة، بمعنى “غربلة” هذا الجيش، المتداعي في الأول والأخير، وتعيين البريء من غير البريء فيه، وإبعاد الضبّاط الذين كانت العسكرية بالنسبة إليهم من وسائل النفوذ والاستقواء والسرقة واحتراف الرشاوى، وغير ذلك من صنوف اهتراءٍ مريعٍ جعلت جيش سورية، “العقائدي” كما وُصف في واحدٍ من أطواره في ستينيات القرن الماضي، عامل هدم للدولة السورية التي تعيّش مَن شايعوا بشّار الأسد على أوهامٍ بشأنها، وابتذلوا أنفسهم في رطانتهم عن وقوفهم إلى جانبها، فيما هم كانوا ينتصرون للأسد، ويتعامون عمّا ظل يقترفه هذا بالدولة التي ظنّوا وجودَها.

ولكن، لا بأسَ، ونحن على بهجتنا العظمى بتحرير سورية من حكم آل الأسد، من تمييزٍ بين أجهزة دولةٍ وأجهزة نظام، وإن اختلطت هذه بتلك، وإنْ يستعصي في كل واحدةٍ تبيّن المساحات لكلٍّ من تلك وهذه. لا بأسَ من القول إن في تسريح نحو 300 ألف مجنّد وضابط، من دون تعيين النابل والحابل فيهم، شيء من الإطلاقية التي قد تأتي بما لا يحبّه السوريون لا سمح الله. ومن التعسّف أن يُحاضِر واحدُنا في أهل مكّة الذين هم أدرى بشعابها، وأن يَغفل عمّا كان عليه الجيش المنحلّ من حمولاتٍ طائفيةٍ ومناطقية، ومن الجهل والجهالة أن يتسرّع قارئ الحالة السورية بأخْذهِا إلى مماثلةٍ مع تلك العراقية، فيَفترض أن كارثة بول بريمر في حلّه الجيش العراقي تُشابه قرار السلطة في دمشق حلّ الجيش السوري. ليست الأمور أبداً على هذا النحو، وإنما هو المُرتجى أن يذهب السوريون إلى النحو الذي يأملون، والذي يكون فيه جيش بلدِهم مغايراً لما كان عليه الجيش الذي لا يأسَفون على ذوبانه، حيث كانت القيادات المنتفعة، الفاسدة، التي ارتبطت ببطانة الرئيس الفارّ، وحيثُ الجيشُ على هامش فرقةٍ رابعةٍ وحرس جمهوري ورثا سرايا الدفاع سيئةِ الصيت، تقوى عليه أجهزة المخابرات والبوليس الدموية بالإمكانات والرعاية والمزايا.

القول، أو قُصاراه هنا، إن قرار السلطة في دمشق حلّ الجيش قد لا يكون في محلّه تماماً، ربما كان الأدْعى أن يسبقه درسٌ أوفى، وإحاطةٌ أكثر دراية بنواتجه. ربما كان الأسلمَ غربلةٌ تُهيكِلُه بما يُؤتي حسن المقاصد والنيّات. والله أعلم.

العربي الجديد

—————————

الاستقلال الثاني.. نحو سورية للجميع/ فوّاز حداد

03 فبراير 2025

المطلوب من الحكومة كثير جدّاً، أكثر ممّا في طاقة حكومة مُستقرَّة ووضع مستقرٍّ، فما بالنا بعهد يُواجه خراباً شاملاً في السياسة والاقتصاد والحالة المعيشية المتردّية إلى ما تحت الصفر. لا يعني هذا تبرير العجز، أو التأخّر، أو حتى التقاط الأنفاس، ولا الكفّ عن توجيه الانتقادات، وإنّما المبادرة إلى المساعدة. نحن في الجانب نفسه مع الذين كان لجهدهم وتصميمهم وتضحياتهم الإسهام في تحرير سورية.

إنّ إعادة بناء سورية تتطلّب إعادة بناء الاقتصاد من خلال خطّة طريق واضحة للإعمار، وخلق فرص عمل للملايين. يجب البدء بتنظيف الدولة من العمالة الزائدة والوهمية، ثمّ إعادة تشغيلهم في قطاعات ذات مردودية. كما ينبغي دعم الشركات المحلّية وتحفيز التنمية، والتشجيع على الاستثمار الدولي من خلال توفير بيئة آمنة، ما يُشجِّع على عودة اللاجئين والنازحين إلى مُدنهم وبلداتهم وقراهم بعد تهيئة الظروف المناسبة. لا بدّ كذلك من الاستثمار في التعليم والصحّة والزراعة، مع مراعاة تحقيق الأمن الغذائي. ولا يُمكن إغفال أهمّية تحسين البنية التحتية الأساسية، من شبكات المياه والكهرباء والطُّرق، إلى جانب توفير بيئة داعمة للمشاريع الصغيرة والمتوسّطة، بما يُعزِّز الإنتاجية ويخلق فرص العمل… والقائمة تطول، نحن إزاء بناء دولة.

نحن الآن في بداية “الاستقلال الثاني”، الذي يختلف جذريّاً عن الاستقلال الأوّل عن فرنسا التي تركت وراءها مؤسّسات قادرة على القيام بالكثير من الأعباء، مثل الجيش والمجلس النيابي (البرلمان)، بينما هذا الاستقلال جاء في سياق تجريد سورية من قدراتها المالية، وتركها غارقة في الفوضى وحالة فقر هائل. لذلك، تتوجّه السُّلطة الجديدة نحو الدول العربية والغربية لضمان تدفُّق المساعدات الإنسانية، وتأمين الكهرباء، والغاز، والوقود، مع ضمان سيادة وطنية غير منقوصة، بمغادرة جميع القوّات الأجنبية للأراضي السورية.

إنّ تحقيق السِّلْم الأهلي لا يتمّ إلّا من خلال تحقيق سيادة القانون بمنع الاعتقال التعسُّفي، وحظر الانتقام والثأر، واتّباع الإجراءات القانونية في التوقيف. كما يجب تقديم أولئك الذين ارتكبوا جرائم ضدّ الشعب السوري إلى العدالة، وفتح الباب أمام المصالحة الوطنية الشاملة. لا يُمكن تحقيق العدالة من دون بناء جهاز قضائي مستقلّ ونزيه، يعمل بعيداً عن الضغوط السياسية. هذا بالإضافة إلى أهمّية نشر ثقافة التسامُح والمصالحة بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري.

ومن المهمّ أن تترافق هذه الجهود مع صياغة دستور جديد يعكس تطلّعات جميع السوريّين، ويُؤسّس لنظام سياسي تعدُّدي يحترم حقوق الأفراد والجماعات. يجب أن تكون العملية السياسية شاملة، بحيث تُتيح مشاركة كل الأطياف، من دون إقصاء أو تهميش.

تتمتّع سورية اليوم بحُرّية لا يُمكن إنكارها، تتبدّى في انتقادات مسؤولة وغير مسؤولة، قد تكون طائشة وغير متوازنة. بين الذين يريدون الخير لسورية، أو الرغبة في عودة البلاد إلى سابق عهدها، وإظهار المخاوف من عودة الخلافة الإسلامية السلفيّة، ولا يجدون الحرّية إلّا في ضمان حرّياتهم الشخصية. كما هناك عُتاة متشدّدو العلمانية الذين يكرهون المظاهر الإسلامية ويشترطون اختفاءها. ومهما كانت المبالغات في المطالب، يجب أن يقبل السوريون بعضهم بعضاً، ولا خيارات، إذا كانت الحرّية، فالحرّية تشمل الجميع، من دون استثناءات أو تفضيلات.

تتطلّب الديمقراطية الحقيقية قبول التنوّع. ففي أوروبا، نجد مساجد ومآذن ونساء مسلمات محجّبات، وهذا التنوّع موجود أيضاً في سورية. يجب أن يلتقي الإسلام السياسي الجماعاتِ الديمقراطيةَ والعلمانية واليسارية في الشارع اليوم، وفي البرلمان غداً. هذا ليس بالجديد؛ ففي البرلمان السوري التاريخي اجتمع رجالات من مختلف الاتجاهات: شكري القوتلي من “الحزب الوطني”، ومصطفى السباعي من “الإخوان المسلمين”، ومعروف الدواليبي من “حزب الشعب”، وخالد بكداش من “الحزب الشيوعي”، وصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني من “حزب البعث العربي الاشتراكي”.

سورية اليوم في حاجة إلى أن تكون نموذجاً للتعايش والتعدُّدية، حيث يُمكن أن يُسهم كلّ فرد في إعادة بنائها. إنّها لحظة تاريخية تحتاج إلى تضافر الجهود والعمل بروح المسؤولية الوطنية. المستقبل يعتمد على قرارات تُتّخذ اليوم، وعلى قدرة السوريّين على تجاوز خلافاتهم تليق بطموحات بنائِه وبمكانته المستقبلية في العالَم.

في الواقع، لن تكون سورية إلّا كما كانت: وطناً للجميع. إن لم تكن كذلك، فلن تكون أبداً.

* روائي من سورية

العربي الجديد

——————————

سورية بين الثورة والدولة/ حسام أبو حامد

04 فبراير 2025

بعد 54 يوماً من سقوط نظام بشّار الأسد، وجّه أحمد الشرع، خطاباً إلى السوريين للمرّة الأولى، لا بوصفه قائداً لإدارة العمليات العسكرية، بل رئيساً انتقالياً أعلنه “مؤتمر انتصار الثورة”. وبعد إلحاح على ضرورة الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة، حسم “أهلُ الحلّ والعقد” الأمرَ لصالح الشرعية الثورية، لا الشرعية الدستورية، في مؤتمر خلا من الشفافية، حين كان اجتماعاً مغلقاً لم يُعلَن عنه مسبقاً، ولم تُعلَن الفصائل المشاركة فيه (هل شاركت قوات سوريا الديمقراطية والفصائل الدرزية وفيلق أحمد العودة؟)، ولا الآليات التي عُيّن الشرع بموجبها رئيساً، ما يترُك حالة من عدم اليقين بشأن ما إذا كانت هناك وحدة صفّ خلف مخرجات الاجتماع.

عُلّق العمل بدستور 2012، الذي يقطع الطريق على نائب الرئيس المخلوع، فيصل المقداد، لتولي الرئاسة في حال شغور المنصب، بحسب نصوص الدستور المُعلَّق، ولا قيمة لمجلس الشعب بعد تعطيل الدستور. وتبدو باقي مخرجات المؤتمر المذكور، من حلٍّ للجيش والأجهزة الأمنية وحزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية، تحصيل حاصل بعد سقوط النظام، والجديد تكريسه واقعاً بإعلان رسمّي، والسيطرة على أصولها، فلا الجيش قائم ولا الأجهزة الأمنية، ولا يؤمن معظم المنتمين لحزب البعث من السوريين به ولا بأيديولوجيته، ووجدوا أنفسهم فيه بحكم الضرورة أو الإجبار، و”الجبهة” شكلية، وأحزابها أيضاً. الهدم سهل، لكنّ العبرة في إعادة البناء، ولا نعلم الفرق بعدُ بين بناء الجيش على أسس وطنية وإعادة تجميع الفصائل العسكرية الموالية المنحلّة في فصيل واحد كبير يسمّى جيشاً (؟)، في ظلّ وجود فصائلَ رفضت التنازل عن سلاحها في الشمال الشرقي والجنوب. وعبر “حلّ جميع الأجسام الثورية”، تُغلَق جميع القنوات الأخرى التي قد تزاحم الشرع تمثيلاً أمام المجتمع الدولي والمنظّمات الأممية، لعلّ أولاها هيئة التفاوض السورية. جلّ مخرجات “مؤتمر انتصار الثورة” كان يُنتظَر أن يُعلنها مؤتمر وطني، أصبح مُجرّد مؤتمر للحوار.

عُيِّن الشرع رئيساً بنهج مركزي سلطوي، يتناقض مع دعوة الشرع السوريات والسوريين إلى المشاركة في البناء، أو يؤجّل المشاركة إلى أجل غير مسمّى، ويثير قلقاً بشأن الحرّيات العامّة، والشخصية، ولا ضمانات حقيقية لتقاسم السلطة، ولتعدّدية سياسية تطاول المكوّنات السورية كلّها. وفي خمس دقائق مصوّرة، زاحمت مقولاتُ الأخلاق ومثيراتُ العواطف مفاهيمَ السياسة وتفاصيلها، وحدّد الشرع أولوياته للمرحلة المقبلة، فعبر “ملء فراغ السلطة” يضفي طابعاً رسمياً على إدارته البلاد، باسطاً سلطته على كامل مساحتها تحت عنوانَي “توحيد سورية” و”حفظ السلم الأهلي”، ويعزّز قدرته في توقيع شراكات أمنية وعسكرية، واستثمارات اقتصادية، مع الخارج، في سبيل “بنية اقتصادية تنموية”، فتستعيد سورية “مكانتها الدولية والإقليمية”. لكنّه يمضي في مسار يلفّه الغموض: مدّة المرحلة الانتقالية، موعد مؤتمر الحوار، شكل الدستور ومن يتولّى كتابته، الآليات والمعايير التي سيشكّل الشرع بموجبها المجلس التشريعي الانتقالي (هل من مهامه مراقبة عمل الرئيس؟)، آليات العدالة الانتقالية… وباستثناء الإعلان لاحقاً النيّةَ في تشكيل حكومة انتقالية من تكنوقراط من مختلف المكوّنات، لا شيء أكثر وضوحاً سوى تكريس السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية بيد الرئيس.

الثورة حالة فوق دستورية، تستمد شرعيتها من ذاتها، ويقتضي مفهوم الشرعية الثورية أن تصبح أحكام القضاء والمواد الدستورية، ما قبل انتصار الثورة، غير ملزمة، ما دامت تتناقض مع شرعية الثورة، لكنّها شرعية مؤقّتة، تُستمَدُّ من إجماع (أو شبه إجماع) شعبي، لا من أنها سلطات أمر واقع، والإصرار عليها يهدّد انتقالاً ديمقراطياً، ولم نسمع كلمة ديمقراطية بين مفردات الشرع وأعضاء حكومته. والغريب أن تَغيب مبدأً أساساً بين “مبادئ” في بيان مثقّفين وازنين، رأوا أن من شأنها أن “تحصّن سورية الجديدة”.

لا تنتصر الثورة بمجرّد استبدال رئيس بآخر، بل بامتلاك السوريين دولةَ مواطنةٍ، هدفاً نادى به الشارع المنتفض على نظام الأسد، ولم تنادِ به معظم الفصائل المسلّحة التي تُصرّ اليوم على عقلية الثورة، بينما يريد السوريون استقراراً في دولة ديمقراطية، لا ثورةً دائمة.

العربي الجديد

——————————

عن معرض “سورية الجديدة” باللاذقيّة: كيف ننسى “سورية القديمة”؟/ أنور محمد

4 فبراير 2025

ثمة سطوحٌ وطبقاتٌ لونيةٌ ناعمةٌ وخشنةٌ مُغمَّسةٌ بعواطفِ ومشاعر الفنانين في معرض الفن التشكيلي الأوَّل “سورية الجديدة” في صالة جمعية العاديات في اللاذقية.

شارك في المعرض 18 فنَّانًا وفنَّانة بـ 30 لوحة من مدارس فنية مثل التعبيرية والتجريدية والانطباعية، ومن الفنانين المشاركين: حسين صقور، محمد أسعد الملقب بـ سموقان، ابتسام خدام، رانيا ريحاوي، لينا ديب… وآخرين. المعرض كما يبدو جاء على عجلٍ، والقرارُ بإقامته كان مُرتجلًا أو مُفتعلًا، إذ لا خيطَ يجمع بين المواضيع التي طرحها الفنانون، كأنَّ الفنانين يريدون الفرحَ بالحدث الذي كان صعبًا، بل، ومستحيلًا وقوعه بسقوط حكم العائلة الأسدية، وهروب الرئيس بشار الأسد فجر الثامن من كانون الأوَّل/ ديسمبر 2024 إلى موسكو.

مع هذا، فإنَّ لوحات الفنانين في معرض “سورية الجديدة” تحاول الاحتفال باللحظة/ الحدث المستحيل هذا، وفي المدينة التي يُحسب عليها – مدينة اللاذقية؛ والتي كانت غلَّته البشرية أو (بنكه) وخزّانه البشري الذين صرفَ أرواحَ ودماءَ غالبيةِ شبابها في الحرب الكونية عليه كما كان يُسميها ليبقى هو على رأس السلطة. من حقِّ المدينة أن تفرح وتصير لحظة سقوط العائلة الضِباعية مناسبةً سياسية واجتماعية وحقوقية وجمالية للسوريين، فسقوطها فَصَلَ بين زمانين “سورية القديمة” و”سورية الجديدة” التي أُقيم المعرض باسمها. فنذهب من الاستبداد إلى الديمقراطية كما نتصوَّر أو نتخيَّل أو يذهب إليه خيالنا، وبضغطةٍ على مفتاحٍ أو زرٍّ فَتَتَحوَّل حياة السوريين من الحرمان والجوع إلى الشبع، ومن الندرة إلى الوفرة.

صحيح أنَّ الفنون – كما في المعرض هذا- هي فعل ثقافي تهزُّ عروش الطغاة، ما يُذكِّرُنا بأوامر هتلر في عام 1938 الذي خاف من الفنون وتأثيرها بتجريد المتاحف من أعمال بابلو بيكاسو (1881-1973) وجورج رووه (1871-1958) وجورج براك (1882-1963) وبيعها بأبخس الأثمان، وتوعَّد الفنانين المعارضين بالسجن فَفُصلَ أوتو ديكس (1891- 1969) من وظيفته وتمَّ القبضُ عليه، وانتحرَ إرنست كيرشنر (1880 – 1938)، وهربَ أوسكار كوكوشكا (1886 ــ 1980) من تشيكوسلوفاكيا عندما دخلتها القوات النازية إلى بريطانيا، كما تعرَّض الفنَّان رولفز وكان عمره 89 عامًا للاضطهاد والتحقير، وكذلك الفنان إرنست بارلاخ (1870-1938) وآخرين كُثُر. إلاَّ في سورية، فلم يُخِفْ ولم يَهُز الرسمُ ولا الأدبُ ولا الموسيقى عروش أعضاء العائلة الأسدية الذين كانوا يرون أنفسهم أنَّهم فوق الثقافة وفوق الفنون وفوق العلم وفوق التاريخ، حتى إنَّهم يستغنون عن الناس/ البشر/ الشعب كونهم لا يخشون شيئًا أو أحدًا؛ وهذا ما عشناه مع الأب الأوَّل والطليعي الأوَّل والفلاَّح الأوَّل والعامل الأوَّل ومن ثمَّ مع وريثه الأوَّل؛ وحتى إنَّ مَقولة الوزير الألماني غوبلز: “عندما أسمعُ كلمة ثقافة أضع يدي على مُسدَّسي” صارت طُرفة أو نكتة مُبتذلة بالنسبة للرئيسين الأب والابن. فَهُما لا يخافان من الثقافة ولا من الفلسفة ولا حتى من الشعب إذا ثارَ، فما فعله الأب من مجازر في حماة وحلب وسجن تدمر، وفي غيرهم من المدن والسجون السورية، ضحايا قُدِّرت بعشرات الآلاف، كأنَّما كان يقوم بنزهة أو يؤدِّي مهمَّة ثقافية، كذلك ما فعله الابنُ برميه الناس بالبراميل المتفجِّرة بصفتهم جراثيم.

سورية الجديدة التي يريدها الفنانون في معرضهم هذا لن تقوم حتى تتمَّ تصفيةُ حسابات ودفع فواتير سورية القديمة؛ لِمَنْ قُتِلَ وسُحِلَ وشُرِّدَ وهُجِّرَ ودُمِّرَ بيته ومدرسته ومسجده وكنيسته وحديقته. فالفنون والآداب هي خزَّان الحكمة والشجاعة والعلم والإقدام؛ فسورية القديمة، كما الجديدة، ليست تاريخ الرؤساء والوزراء والعائلات التي حكمتها أو تحكمها، ولا تقوم حياة الأمم والحضارات على حياة رئيسٍ أو ملِكِ أو لصٍّ أو غازٍ. سورية، كما أيِّ دولة، عاشت الاستبداد والقهر السياسي والاقتصادي؛ إنَّما هي سورية الفنون والعلوم والآداب والحكمة التي تنشرها. فَحَوْلِياتُ البشر إنَّما تجدُ روحها في الرسم والشعر والفلسفة والرواية والمسرح والموسيقى التي لم تكن لتُحرِّك مشاعر أيٍّ من أفراد العائلة التي حكمت سورية القديمة بالسيف ثلاثةً وخمسين سنةً، فيما لم نكن لنحتمِل أن نعيش أو نجلس معها ثلاثًا وخمسين ثانيةً، وفيما كنا نُشوى على نارٍ حامية، كانوا هم يمضون أوقاتهم السعيدة بالاستمتاع بسماع أصوات صراخنا وأنيننا وطقطقة عظامنا فوق جمر النار.

هذا الألمُ الوجعُ الموتُ وقفَ ضِدَّه رسَّامون وشعراءُ وروائيون ومسرحيون وفلاسفة سوريون انتقدوا العائلةَ وأربابها، فزُجِروا ووبِّخوا وخُوِّنوا واعْتُقلوا وغُيِّبوا لأنَّهم حَوَّلوا لحظات/ سنوات الألم والقهر والخوف الذي عاشه السوريون في نصوصهم/ إبداعاتهم إلى مشاعل نور؛ فتمَّ الاعتداء بالضرب على الروائي والناقد نبيل سليمان الذي افتتحَ في منزله باللاذقية منتدى للحوار حول المجتمع المدني في سورية في الشهر الأوَّل من عام 2001 أدى إلى إصابات متعدِّدة في الرأس ورضوضٍ في الوجه والصدر، ثمَّ اعتدِيَ عليه ثانيةً في عام 2011، وكذلك تمّ الاعتداء على الفنان علي فرزات الذي رسمَ كاريكاتيرًا سَخِرَ فيه من الرئيس بشار الأسد بعد قيام ثورة الربيع العربي عام 2011 فقام أربعةُ أشخاص بضربه بالعصي داخل سيارته، وسحبوه إلى سيارتهم فكسروا إحدى يديه، وأصابوا الأخرى برضَّة، وفتحوا باب السيارة وهي تمشي بسرعة 30 كيلومترًا بالساعة ورموه على الطريق بالقرب من مطار دمشق الدولي، ومن ثمَّ اعتُقل الفنان المسرحي زكي كورديللو عام 2012 مع ابنه مهيار وشقيق زوجته عادل برازي وصديقه إسماعيل حمودة خلال مداهمة أمنية لمنزله في دمشق، ولم يُعرف مصيره حتى بعد سقوط نظام بشار الضبع.

لقد صادرَ الأبُ القائدُ والولدُ البائدُ القيمَ والمواثيقَ القانونية والعُرفية والاجتماعية والدينية والسياسية والجغرافية والتاريخية والفنية لسورية، وصيَّروها لخدمة غرائزهما الوحشية، واغتصبا الفضاء العمومي لسورية القديمة، وزَرَعا فيه/ غَرَسا صُوَرَهُما وتماثيلهما، لتُتابعَ بِدَوْرِها على مدى ثلاثة وخمسين عامًا، كما مُخابراته ومُخبريه لمراقبة وترهيب الناس وتخويفهم. لذا لا يمكن وبهذه السهولة استبدال سورية القديمة بسورية الجديدة؛ إذ كيف سننسى باني سورية الحديثة ووَلَدَه اللذين أتخما السوريين شَبَعًا بالشِعارات الثورية المُعادية لإسرائيل والامبريالية. كيف سننسى عصرَ وكبسَ وسحلَ وتذويبَ السوريين في السجونِ والمعتقلات وفي الشوارع؟ كيف ننسى يا سورية الجديدة؟…

ضفة ثالثة

—————————–

دمشق مدينة السبعة أبواب والكواكب السبعة/ أوس يعقوب 

2 فبراير 2025

على كتف جبل قاسيون تغفو أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، شاهدة على حكاية الكون الأولى قبل تسعة آلاف سنة قبل الميلاد أو أكثر، إنها دمشق التي تعاقبت على أرضها حضارات عريقة، وحكمها الآراميون والآشوريون والبابليون والفرس والإغريق والرومان والبيزنطيون والأمويون والعباسيون والعثمانيون والفرنسيون إلى أن عادت إلى حضن أبنائها السوريين سنة 1946.

أُطلق على المدينة عبر التاريخ الكثير من الألقاب كـ “الفيحاء”، و”جنة الأرض”، و”شامة الدنيا”، و”الدار المسقية”، و”مدينة الياسمين”، و”مدينة الأبواب السبعة”. واللقب الأخير هو الذي سنخصّص له هذه المقالة لنتعرّف على هذه الأبواب السبعة التي ربطها العديد من المؤرخين منذ القدم بالكواكب السبعة المعروفة في حينها؛ فكان الباب الشرقي يرمز إلى كوكب الشمس، وباب توما إلى كوكب الزهرة، وباب الفراديس (ويُعرف أيضًا بباب العمارة) إلى كوكب عطارد، وباب كيسان (ويُعرف أيضًا بباب بولس) إلى كوكب زحل، وباب الجابية إلى كوكب المشتري، والباب الصغير إلى كوكب المريخ. أما الكوكب الأخير فهو باب الجنيق، الذي يرمز إلى كوكب القمر، غير أنه أفل منذ زمن بعد سدّه بحجارة لا تزال تدل على مكانه في حارة تُعرف بالفرايين.

قلائل الذين يعرفون أن لدمشق عشرة أبواب رئيسية، إذ ارتبط الرقم سبعة بعدد أبوابها في الكتب عبر التاريخ، ويعزو البعض اعتبار أن للعاصمة السورية الخالدة سبعة أبواب فقط للمزج بين عدد أبوابها وعدد أنهارها التي تبلغ السبعة أيضًا.

وما زالت مدينة دمشق القديمة تحتفظ بأجزاء مهمة من سورها التاريخي الذي ما يزال يضرب حولها نطاقًا ظاهر المعالم، ويشكل مع القلعة أهم المعالم العسكرية للحضارة الإسلامية في دمشق، وهو أكبر المعالم الأثرية الباقية فيها حيث يصل طوله إلى 4500م.

أنشأ الرومان بعد دخولهم سورية سنة 64 قبل الميلاد بناء الأساسات الأولى لهذا السور، واستخدموا في بناء جدرانه أحجارًا كلسية بيضاء، وجاءت مداميكه كبيرة يقرب ارتفاع الواحد منها المتر، وجاء المسقط العام لذلك السور مستطيلًا طوله 1500، وعرضه 750م، وكان لهذا السور سبعة أبواب.

بحسب المصادر التاريخية، حافظ المسلمون على سور دمشق حتى سنة 132هـ/750م، ثم بدأ يتعرّض للتدهور، وأصبح عرضة للعوادي، فأخذ سورها ينهار ويفقد مميزاته العسكرية، وتتراكب عليه التعديات عبر المراحل التاريخية اللاحقة حتى سنة 549هـ/1154م عندما دخل السلطان نور الدين محمود بن زنكي دمشق، واتخذها عاصمة لدولته، وبدأ فيها نهضة معمارية لم تلبث أن شملت سور المدينة، حيث أعاد بناءه بالكامل، وبنى أبراجه، وأضاف عليه ثلاثة أبواب جديدة، هي: باب الفرج، وباب السلامة من الجهة الشمالية، وباب النصر من الجهة الغربية، الذي زال منذ سنة 1280هـ/1863م.

كما بنى نور الدين عند هذه الأبواب مآذن، وجعل لكل مئذنة مسجدًا، وبنى خلف كل باب باشورة لتسهيل حاجات الناس، والباشورة طريق منعرج متصل بالباب من خارجه وله بوابة ضخمة متينة، وسويقة بها حوانيت مملوءة بالبضائع، فاستغنى أهل كل باب من هذه الأبواب بما عندهم؛ مما زاد في تحصين هذه الأبواب.

واستمرت العناية بسور دمشق في العصر الأيوبي، فرُممت وجُددت بعض الأبواب، وشُيد برج الملك الصالح أيوب. وكذلك في العصر المملوكي قام نائب السلطنة بدمشق الأمير سنجر الحلبي بترميم السور وتحصينه سنة 658هـ/1259م. وفي سنة 717هـ/1317م جاء سيل هائل خسف جزءًا من السور، وحمل برجًا، فأُعيد بناؤه.

يشير المؤرخ الفرنسي جان بابليون، في كتابه “إمبراطوريات سورية”، إلى أن قادة الرومان سرعان ما أدركوا أهمية الموقع الإستراتيجي لمدينة دمشق بعد سيطرتهم عليها سنة 64 ق. م، فانشغل حكامهم المتعاقبون في تجهيزها دفاعيًا وعمرانيًا ومعماريًا بما يليق بمكانتها وموقعها الإستراتيجي ذاك. وقد تم بناء دمشق على طراز المدينة الرومانية وفق ما يُعرف بـ “التخطيط الشطرنجي”، وكانت الأبواب السبعة تشكل المداخل الوحيدة للمدينة، قبل أن تأخذ الأخيرة شكلها المعاصر وتتوسع خارج حدود السور الروماني.

الثابت في بطون كتب التاريخ أن عدد أبواب مدينة دمشق في غابر الأزمان سبعة فقط، وهي التي ارتبطت بالكواكب السبعة، ويعود تاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد، ويدل كل واحد منها على كوكب مختلف بحسب المعتقدات الرومانية، وهذا ما أكده المؤرخ الرحالة الإمام أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي في كتاب “تاريخ مدينة دمشق”، الذي يقول فيه عن دمشق: “بُنيت على الكواكب السبعة، وجُعل لها سبعة أبواب على كل باب صورة الكوكب…”.

باب شرقي

كذلك يذكر المؤرخ حسن البدري، في كتابه “نزهة الأنام في محاسن الشام”، أن لأبواب دمشق علاقة بالكواكب لذا وُضعت صور تلك الكواكب على هذه الأبواب، يقول البدري: إنه “وُضع رسم زحل على باب كيسان، ورسم الشمس على الباب الشرقي، والزهرة على باب توما، والقمر على باب الجنيق، وعطارد على باب الفراديس، وصورة المشتري على باب الجابية، أما المريخ فعلى الباب الصغير”.

تحتفظ المدينة اليوم بثمانية أبواب، ستة منها تعود للحضارات التي تعاقبت على دمشق قبل الميلاد، والتي رمزت للكواكب السبعة المعروفة حينها، وهي: باب شرقي، وباب توما، وباب الفراديس، وباب كيسان، وباب الجابية، والباب الصغير، وباب الجنيق.

أما الأبواب التي شيدها العرب المسلمون، والتي بقيت شاهدة على عراقة العمارة الإسلامية، فهما بابان فقط: باب السلامة، وباب الفرج.

باب شرقي: شاهد على روعة العمران الروماني

يقع هذا الباب في الجدار الشرقي لسور مدينة دمشق، وقد سُمي بذلك لوقوعه شرقي البلد، بناه الرومان أوائل القرن الثالث الميلادي، وهو من الأبواب الرئيسية الأصلية وأكثرها شهرة.

يتألف باب شرقي من ثلاث فتحات معقودة؛ أوسطها أكبرها، وعلى طرفيها فتحتان أصغر منها إلى الشمال والجنوب منها، وكان يُغلق على كل منها باب، وتنتصب بين الباب الأوسط والباب الجانبي الشمالي مئذنة ذات جذع مربع.

ولا يزال باب شرقي الوحيد الذي يحتفظ بعمرانه وهندسته الرومانية حتى اليوم. وكان يُطلق عليه في زمن السلجوقيين والرومان “باب الشمس”، ويرجع سبب هذه التسمية إلى أن الشمس تشرق عليه قبل غيره من الأبواب.

بحسب ابن عساكر، فإنه رُسم فوق قوس تاج الباب نقش نافر على حجر عبارة عن صورة لقرص الشمس تنبعث منه أشعة النور، واستمر وجوده طوال القرون الأولى الميلادية، وهو رمز مرتبط بالإله الإغريقي “هيليوس” راكبًا على عربة تجرها أربعة خيول وحول رأسه هالة مستديرة تنبعث منها حزم من النور.

وقد شهد باب شرقي أحداثًا تاريخية عدة، وله مكانة مميزة عند الدمشقيين وغيرهم من السوريين والعرب والمسلمين وأتباع الديانة المسيحية، كونه كان ممرًا للعديد من الشخصيات المؤثرة في تاريخ المنطقة. وتعتبر الرواية التاريخية التي تشير إلى مصادفة خروج القديس بولس الرسول من هذا الباب مبشرًا بالمسيحية إلى العالم في مثل اليوم الذي دخل فيه الصحابي خالد بن الوليد دمشق فاتحًا من الباب عينه بعد ستة قرون، واحدة من أكثر المرويات المثيرة حول تاريخ هذا الباب ومن مروا به داخلين أو خارجين من رحاب المدينة القديمة.

ووفقًا للمرويات التاريخية، فإن باب شرقي هو الباب الوحيد الذي فُتح بالسيف، بعد مرابطة خالد بن الوليد عند الباب من جهته الخارجية مدة أربعة أشهر قبل فتحه سنة 14 هجرية، ليدخل جيش الفاتحين حربًا من هذا الباب في آخر الشارع المستقيم، بينما دخلها الصحابي الفاتح أبو عبيدة بن الجراح صلحًا من باب الجابية الواقع في أول الشارع المستقيم، والتقى الجناحان في منتصف الشارع، أي في منتصف المدينة القديمة ليقسمها إلى قسمين شمالي وجنوبي، فهذا الشارع يمتد من باب الجابية غربًا إلى باب شرقي شرقًا بطول 1500 متر، وبدرجة استقامته العالية التي لا يشوبها أي اعوجاج، وهذا هو سبب تسميته بالشارع المستقيم، كما سُمي شعبيًا باسم السوق الطويل.

باب توما: كوكب الزهرة الشامي المنسوب للقديس توما

بُني باب توما في العصر الروماني، ونُسب إلى كوكب الزهرة، ثم حمل اسم “توما” نسبة إلى القديس توما أحد تلاميذ السيد المسيح. وهو يقوم في الجهة الشمالية الشرقية من سور المدينة.

نزل عليه الصحابي عمرو بن العاص في سنة 14هـ/634م. وقيل بل شرحبيل بن حسنة، أحد الصحابة البارزين وأمراء الأجناد الذين بعثهم أبو بكر الصديق لفتح الشام.

وفي العهد الأموي شيد عبد الله بن دراج، كاتب الخليفة معاوية بن أبي سفيان، عند الباب برجًا، عُرف باسم “برج الدراجية”، زالت آثاره مع مرور الزمن، وأثناء الحصار العباسي لمدينة دمشق نزل على هذا الباب القائد العسكري العباسي حميد بن قحطبة.

باب كيسان

وفي العصر السلجوقي قام السلطان نور الدين بترميم هذا الباب سنة 536هـ، وأقام عنده مسجدًا، ورفع فوقه مئذنة، ثم قام الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى الأيوبي سنة 625هـ/1228م بإعادة بناء هذا الباب على طراز إسلامي مبتكر، كما جُدد في زمن السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون بإشارة الأمير تنكز نائب الشام في سنة 734هـ/1333م؛ كما يُذكر في النقش الكتابي الموجود على عتبة الباب من الخارج.

وفي ثلاثينيات القرن العشرين، إبان فترة الاستعمار الفرنسي لسورية، عمل المهندس المعماري ومخطط المدن الفرنسي، ميشيل إيكوشار، على إزالة المسجد والمئذنة!

باب الفراديس: أثر آرامي يحاكي أساطير الإغريق

يُعد باب الفراديس من الأبواب السبعة الأصلية لدمشق، وهو من أبواب الجهة الشمالية للسور، يُسمى اليوم باب العمارة، بُني على أنقاض باب آرامي من قِبل اليونان وبعد تهدمه أعاد الرومان تشييده، ونُسب لكوكب عطارد، وهذا الكوكب في أساطير الإغريق هو رسول الآلهة عند اليونان، واسمه لديهم هرمس (Hermes). وهو أيضًا إله الفطنة والحيلة والفصاحة واللصوصية والموازين والمقاييس وأحرف الهجاء واختراع الأدوات الموسيقية، ويقابله لدى الرومان الإله ميركوري (Mercury).

سُمي باب الفراديس بهذا الاسم نسبة إلى محلة كانت قبالته خارج السور تسمى الفراديس، وكانت هذه المنطقة مليئة بالقصور والحدائق والبساتين، لكنها احترقت وتهدمت أثناء فتنة القرامطة والفاطميين سنة 363هـ، بحسب ما ذكر ابن عساكر في كتابه “تاريخ دمشق”. وعند الفتح العربي الإسلامي لدمشق دخل منه عمرو بن العاص، وفي عهد نور الدين زنكي رُمم الباب والسور المحيط به، وربما كان المسجد الموجود عنده من عهد نور الدين الذي بنى مسجدًا ومئذنة عند أغلب الأبواب. وقد أُعيد إنشاؤه وترميمه في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 639هـ/1241م.

وهو باب مزدوج، الداخلي منه على حذاء السور الأصلي قبل أن يُدفع إلى الشمال نحو ضفة نهر بردى، وهو باب بسيط معقود، والخارجي باب ضخم مستطيل، بُني بحجارة ضخمة قديمة، وعلى عتبته من الخارج كتابة طُمست، وتفتتت أطراف عضادتيه، ورُكبت فوقه الدور.

باب كيسان: عودة القديس بولس الرسول

يقع باب كيسان في الجهة الجنوبية الشرقية، بالقرب من دوار المطار وجامع بلال الحبشي، يلاصقه من الشرق كنيسة القديس بولس. ونُسب قديمًا إلى كوكب زحل.

نزل عليه الصحابي يزيد بن أبي سفيان عند حصار الفاتحين المسلمين لدمشق؛ إضافة إلى نزوله على الباب الصغير في الوقت نفسه، سُمي بذلك على اسم مولى الصحابي معاوية بن أبي سفيان “كيسان”.

وقد بقي الباب مستخدمًا إلى القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي عندما سده السلطان نور الدين لخوفه من سهولة دخول الأعداء منه، وبقي هذا الباب مسدودًا طوال العصر الأيوبي إلى أن أعاد فتحه الأمير سيف الدين منكلي بغا الشمسي نائب السلطنة في العصر المملوكي بالشام سنة 765هـ/1364م، وجُدد في داخله مسجد كان مهجورًا، ويُعرف بمسجد الشاذوري، وعُقد عنده جسر فوق الخندق، وفي سنة 1925م جُدد الباب، وأُدخلت عليه تعديلات كما تشير اللوحة المؤرخة عنده.

وفي عهد الاستعمار الفرنسي- وتحديدًا سنة 1939م، وبتخطيط مهندس فرنسي يُدعى “دولوري” أُقيمت عند مدخل الباب كنيسة على اسم القديس بولس الرسول، تخليدًا لذكراه وحادثة تهريبه من السور في القرن الأول الميلادي، فأصبح الباب الأثري مدخلًا للكنيسة!

باب الجابية: بين السريانية والميثولوجيا الرومانية

يقع في الجهة الغربية من المدينة القديمة وهو من الأبواب السبعة الأصلية، بناه الرومان ونسبوه لكوكب المشتري، وسُمي بباب الجابية نسبة إلى قرية الجابية الواقعة في الجولان جنوبي سورية؛ لأن الخارج إليها كان يخرج منه. وقيل إن اسم هذا الباب اشتُق من اللغة السريانية الشرقية أو اللغة العربية. وقيل كذلك إنه تحوير لاسم جوبيتر ملك الآلهة الرومانية، وإله السماء والبرق في الميثولوجيا الرومانية.

وكان الباب قديمًا ذا ثلاثة أبواب؛ الأول كبير في الوسط، وكان مخصصًا للمشاة، والآخران بابان صغيران، خُصص أحدهما لمن يشرق بدابته، والآخر لمن يغرب بها، وهو يتصل بباب شرقي عبر الشارع المستقيم.

عند الفتح العربي الإسلامي لدمشق دخل منه الصحابي أبو عبيدة بن الجراح، وقد أعاد نور الدين بناء هذا الباب ورمم السور المحيط به سنة 560هـ/1165م، وبنى حوله باشورة. ثم تلته ترميمات أخرى أبرزها ترميم الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى في العصر الأيوبي. وهو مبني بالحجارة الضخمة، ومدخله معقود، ويعلو فتحة بابه عتب مستقيم، ويُدخل منه لمساحة مغطاة بقبوين، وقد حُفر على الحجر أعلى الباب نقش كتابي يفيد أن السلطان نور الدين أمر بعمارة الباشورة والقبو سنة 567هـ/1171م.

الباب الصغير: نُسب إلى كوكب المريخ

يقع الباب الصغير في الجهة الجنوبية لسور دمشق، وسُمي بهذا الاسم لأنه كان أصغر أبواب المدينة، وعُرف في العصر العثماني بباب الحديد؛ لأنه كان مدعمًا بصفائح الحديد، ونُسب قديمًا إلى كوكب المريخ. وقد نزل عليه يزيد بن أبي سفيان في حصار دمشق، وجدده الملك المعظم عيسى الأيوبي سنة 623هـ/1226م، ومنه دخل الإمبراطور المغولي تيمورلنك سنة 803هـ/1402م عندما نهب دمشق وأحرقها.

وقد عُرف الباب بمدخله المعقود والمغطى بعقد نصف دائري، وأمامه باشورة، وعلى بابه مسجد يُسمى اليوم مسجد الباشورة.

باب الجنيق: أثرٌ بعد عين

كان باب الجنيق واحدًا من أبواب مدينة دمشق السبعة، غير أن أثره زال حاليًا. ونُسب هذا الباب إلى القمر وتمثله ربة القمر سيلين (Selene) يقابلها عند الرومان ربة القمر لونا (Luna). وكان القمر يُعبد عند العرب، وله أسماء عديدة: منها: سن وسين وشين وسوين. وعند العرب الآراميين كان اسمه شهر أو سهر. وعند التدمريين كان اسمه عجلبول، وأُطلق عليه قديمًا باب الميلاد تيمنًا بميلاد السيد المسيح.

باب الفراديس

وجاء ذكر باب الجنيق سنة 684هـ/1285م حينما عدد المؤرخ عز الدين ابن شداد في القرن السابع الهجري أبواب دمشق فذكره ضمنها، والجنيق تسمية لم يُعرف معناها.

باب السلام: أجمل أبواب المدينة

يُطلق على باب السلام أيضًا، باب الشريف، وباب الفراديس الصغير، وهو يقع بين باب توما وباب الفراديس، وتتضارب الروايات حول تاريخ تشييده، حيث تذكر مصادر أن نور الدين زنكي أحدثه في القرن السادس للهجرة، وأن فوقه عتبة طويلة هي بالأصل عامود روماني. وتعود تسميته بهذا الاسم لتفاؤل الناس به؛ لأن القتال مع الأعداء كان يصعب عليهم من ناحيته لما وراءه من الأشجار والأنهار، وهو أجمل أبواب المدينة على الإطلاق، وكتلة مدخله مشابهة لباب توما الحالي من حيث شكل العقد والمزاغل والرواشن التي تعلوه، ويعلو فتحة الدخول عتب عليه نقش كتابي ورد فيه أن الملك الصالح أيوب أمر بتجديد عمارته سنة 641هـ/1244م. وعلى عضادة الباب الشمالية التي يجري النهر من تحتها مرسوم مملوكي طُمست أكثر حروفه. وله قوس عربية مدببة، وقد قامت مديرية الآثار بدمشق بترميمه في أربعينات القرن العشرين.

باب الفرج: تفاؤل بعد الفتح

يقع باب الفرج في شمال دمشق غربي باب الفراديس. بناه نور الدين زنكي، وسُمي بهذا الاسم تفاؤلًا بالفرج بعد فتحه. وهو باب مزدوج، جاء الداخلي محاذيًا للسور، وعلى عضادته اليسرى نقش مؤرخ بشهر رمضان 639هـ، حينما جدده الملك الأيوبي الملك الصالح أيوب.

وجاء الباب الخارجي ملاصقًا لنهر بردى، وقد أُعيد بناؤه في القرن الخامس عشر، في العهد المملوكي. وهو ضخم ومستطيل، فوقه عتبة وكتابة مطموسة. وأمام الباب عضادتان يعلوهما قوس، سقطت من مكانها. وعلى كل من العضادتين يوجد شعار مملوكي نُقشت فيه زهرة الزنبق، التي كانت شعار السلطان نور الدين. وقد جدد سيف الدين أبو بكر بن أيوب هذا الباب سنة 606هـ.

وعُرف باب الفرج في العهد العثماني باسم “باب البوابجية” لوجود سوقين لصنع البوابيج (جمع بابوج/ الخُف) هناك. وحاليًا يُدعى “باب المناخلية” وفيه سوق تحمل نفس الاسم.

وكان أمام الباب الخارجي جسر باب الفرج على نهر بردى، بُني أيام المماليك سنة 736هـ. وبين الباب الخارجي والداخلي توجد طاحونة باب الفرج. وجداراها الشمالي والغربي من جسم السور نفسه، وفيها مرامٍ للسهام.

وإلى جانب الباب الخارجي، يوجد مسجد باب الفرج. وكان فوق مدخله مرسوم سلطاني. ولم يبقَ من بناء المسجد الأصلي سوى قوس حجرية وجزء من جداره الغربي والشمالي وأجزاء من المحراب الأصلي. ويوجد في زاويته الجنوبية الغربية سبيل للماء.

مراجع:

    موقع الموسوعة العربية https://arab-ency.com.sy/

    موقع موسوعة الآثار في سورية https://arab-ency.com.sy/archeology/

    موقع اكتشف سورية https://www.discover-syria.com/

شارك هذا المقال

ضفة ثالثة

————————–

الشارع لِنا”/ عبير داغر إسبر

الإثنين 2025/02/03

إن أردتَ أن تذبح مدينة، إقطع أوردتها. ووريد المدن شوارعها، شبكة شرايينها المعقدة التي تحمل الأوكسجين المدمّى لقلبها وتبعثها حيّة. في لعبة السلطة، لطالما تم التنازع على الفضاء العام بمعناه الأولي البدائي، والآخر المجازي المحمّل بالرموز. يحوّل المحتجون الشارع إلى ملكية مستحقة يسعون لتحريرها فعليًا ومجازيًا من هواء فاسد، ومن فكرة غير أصيلة. يقيمون فيه المتاريس، يعيدون تركيب مفاهيمه وتحويله إلى بيان إعلاني عن الوجود، جاعلين من أرصفته سجلًا ناطقًا بشعاراتهم ورسائلها. وبطبيعة التطور العضوي للمفاهيم، يتحول التنازع على الشارع من صراع على الإسفلت، إلى اصطراع متواتر على من يكتب التاريخ.

في ثورة 25 يناير، حضرت مفردة الشارع ببهائها، رُفعت كشعار، وترسخت كمطلب. هتف الشباب المصريون، الشابات خصوصاً، محتفيات بفعل غنائي لمنجز لم يكن حقوقيًا أو سياسيًا فقط، بل أسمى وأكثر علواً. وغردن بعاميتهن المحببة “الشارع لِنا”، وقد كان. في تلك الأيام، تمددت شوارع القاهرة كأوردة تنبض بالحشود، تقودهم نحو ميدان التحرير حيث يهتز التاريخ تحت أقدامهم. من قصر العيني، تصاعدت الهتافات أمام البرلمان، بينما تحول محمد محمود إلى ساحة حرب، غارقًا في الدخان والرصاص. عبر طلعت حرب وعبد المنعم رياض، تدفقت الجموع، تصدت لـ”موقعة الجمل”، فكان ما حدث من ملهاة، هو اختصار شديد التكثيف لصراع حداثة ومخيلة ولغة. ومن رمسيس، اندفع السائرون كالنهر، يعبرون الجسور برمزيتها ليصلوا الأمكنة قبل أن تقطع أوصالها. كانت الشوارع تكتب التاريخ بوقع الأقدام، وأدت كل الطرق إلى التحرير.

في كتابه الملهِم The Production of Space (إنتاج الفضاء)، يشرح هنري ليفبفر بأناة وبإتقان شديدين كيف أن الفضاء لم يكن مرة محايدًا. إنه نتاج معقد، شديد التركيب من العلاقات الاجتماعية وصراعات القوة والخيال الجمعي. ويحضر هذا الدور ويتأكد خلال وأثناء الثورات، فيستعيد المهمشون والمضطهدون والمحرومون الشوارع. فهي متراس مقاومتهم، وحضورهم في تلك الشوارع يمارسونه بإصرار وبقصدية كحق في الوجود، مستشهدين بحضور هذه المفردة العمرانية بعمقها السيسيولوجي في وجدانيات كومونة باريس، ومسيرات حركة الحقوق المدنية في أميركا، معيدين على الدوام إنتاج المفاهيم حول الشارع كمكان للتحدي. بينما يصر دون ميتشل، في كتابه The Right to the City (الحق في المدينة)، على تدوير هذه الفكرة ويعطيها امتدادًا أكثر ثورية، مذكّرًا أن الشارع، الحاضر في مروية الأمكنة، هو مناسبة ملائمة لإقرار القوى وقوة حضورها في الحياة العامة. فعندما يملأ المتظاهرون الشوارع، فإنهم لا يحتلون مساحة مادية فحسب، بل يعيدون تشكيل السلطة. ويتلاعبون بديناميكيتها ويؤسسون بروتوكولات مغايرة لتبادل تلك السلطة بينهم وبين من يحكم، حيث يصبح الشارع اسكتشًا واقعيًا لشكل الحكم ومكوناته.

في الدول ذات الديموقراطيات العريقة، أو حتى الديكتاتوريات اللاعنفية إن صح التعبير، قد يصبح الشارع مسرحًا كبيرًا، يمارس فيه الثوار دورًا لِعبياً بمعناه “المُتعَوي”، حيث قد يصبح النزول إلى الشارع، عملية لجس النبض، ومقياسًا حقيقيًا لرسوخ الأنظمة وثقتها في مؤسساتها. قد يرتدي المحتجون الأزياء – سواء الكوفية التي يرتديها النشطاء الفلسطينيون في أوروبا وأميركا، أو السترات الصفر التي يرتديها العمال الفرنسيون – مغالين في طقوس التنكر ذاك. إذ يوقنون ويعلمون تمامًا، أن الشارع هو المكان الذي لا تُخاض فيه الثورة فحسب، بل حيث تُبث رموزها وإيماءاتها إلى العالم. إنه المكان الذي تصبح فيه علامة الغرافيتي بيانًا سياسيًا، ويصبح الرصيف مكانًا للقاء وتبادل الهتافات كصرخة موحدة ضد طغيان تم الاتفاق حوله منبعه، فيحمل الشارع رمزية مضافة، حيث يتم تنفيذ وتضخيم البعد الحكائي للفعل الانقلابي على السلطة.

لكن في الثورات على الأنظمة فضائحية الهمجية والعنف، تدفع تلك الحكومات تجاه صراعات أكثر تعقيدًا من أن يتحملها الشارع. ففي حصار سراييفو مثلًا، في الفترة من 1992 إلى 1996، نشأ مفهوم عمراني سمّاه الدارسون Warchitecture وهو مصطلح يدغم بين كلمتي العمارة والحرب، حيث التدمير المتعمد للمباني يعتبر سمة مميزة للحرب. وباعتباره مزيجًا من الحرب والعمارة، فإن المصطلح يتحدث عن أكثر من مجرد الدمار المادي للمدن – فهو يجسد الطريقة التي تعيد بها الصراعات تشكيل المناظر الطبيعية العضوية المدينية، ومحو الذاكرة الثقافية، وإعادة تعريف لوظائف المساحات المعمارية. بحيث لا يتم تعقب ما دمرته الحرب في نسيج المدينة بل الأمكنة والفضاءات التي حُولت وظيفتها بشكل نهائي.

في تاريخنا القريب، تم تمييز نوعين من الاحتلالات لفكرة المدينة/ الشارع. حيث في قلب سراييفو، انقلبت الطرق إلى مسرح للموت. القناصة سيطروا على مداخل المدينة، وأصبحت كل خطوة تجاه الشارع لعبة روليت روسية. المدينة المحاصرة، التي كانت تحتفي بتاريخها وتنوعها، تحولت إلى مكبّ للنفايات البشرية. استبدل الشارع برمزيته المعلنة كطريق يصل بين الأمكنة، إلى أنفاق وخنادق لا مرئية، لم يعد للشوارع وظيفة معلنة سوى كونها “مناطق حظر”. في دمشق، الأمر كان مختلفًا. فالحصار لم يكن خارجيًا بل تم تفكيك نسيج المدن، حتى التهتك، لتناسب حجم الرعب المتبادل. لذا عند استشعار التهديد، تُقطع أوصال المدينة، ليعاد ذبحها مرة بعد مرة.

يحب السوريون وأنا معهم أن يضعوا الماضي وراءهم، يحبون استعادة ما خسروا. وما خسره السوريون هو ممارسة إنسانية لحق لا نقاش فيه، أن تقول لمن ظلمك: قد ظلمتني هتافًا وصراحة ووبعلو الصوت. لكن في بلدنا شديد الجمال، شديد الحساسية، شديد التفجّر بالاختلاف وسوء الفهم، المعبأ بتراكمات فضلاتية للطائفية التي دفعوا إليها دفعًا، حرم السوريون شوارعهم، حرموا من التنفس، لم يكن هناك من وجه لعبيّ، ولا “مُتعَوي” للثورة. حضر الدم سريعًا وحول حياتنا إلى تراجيديا “مملة” شديدة الواقعية.

أحب أن أصدق أننا نقف الآن على أبواب الحرية، فهل هناك من أمل بعد ذهاب العتمة لاستعادة فضاءاتنا المنهوبة، لاستعادة شوارعنا؟

المدن

——————————

فلسطينيو سوريا لن يعودوا قريباً/ أحمد الحاج علي

الثلاثاء 2025/02/04

تبدو أبواب عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى سوريا من لبنان، والذين قدموا منها خلال سنوات الحرب، موصدة تقريباً، وإن أصبحت احتمالات عودتهم قائمة منذ الإطاحة بنظام الأسد، بانتظار ظروف ملائمة، حسبما تحدث عدد منهم لـ “المدن”، وبدت العودة فردية غالباً، وللاستطلاع فقط.

الأعداد الرسمية والمتداولة

يُقدّر الباحث الفلسطيني السوري المقيم في لبنان ظاهر صالح، عدد الفلسطينيين القادمين من سوريا في لبنان بحوالي 23 ألفاً، وكانت الأونروا قد قدرت عددهم في تشرين الثاني عام 2014 بحوالي 44.5 ألف لاجئ، لكن العدد تناقص بسبب الهجرة إلى أوروبا وكندا. وخلال العدوان على لبنان عاد إلى سوريا حوالي 1400 فرد منهم، لكن ما لبث معظمهم أن رجع إلى لبنان.

هذا هو العدد الرسمي المتداول، لكن هناك أرقاماً غير رسمية تضيف عدداً يقارب 10 آلاف فلسطيني، وهم الذين قدموا إلى لبنان بعد عام 2018، نتيجة الأزمة الاقتصادية في سوريا، حين اتخذت الأونروا قراراً بعدم توفير بدل مأوى وغذاء لأي فلسطيني يغادر سوريا إلى لبنان، وهم لا يُمنحون إقامة في لبنان، مما يجعلهم عرضة للاستغلال في العمل.

فئة مارست التشبيح

يستبعد يوسف سخنيني، القادم من مخيم النيرب عام 2013، أن تكون هناك عودة فلسطينية واسعة إلى سوريا، لاعتبارات عديدة، أبرزها حسب رأيه، الوضع الاقتصادي الضاغط في سوريا، فلا دخل يتوازى مع الاحتياجات المالية، وهناك الانقطاع شبه التام للكهرباء، والمخاوف الأمنية الحاضرة “وفي هذا الإطار تبرز الفئة التي مارست تشبيحاً خلال الأزمة السورية، ثم فرّت إلى لبنان بعد سقوط النظام، ولا يُعرف عددها، وهذه الفئة من المستحيل أن تعود إلى سوريا”.

ويضرب مثلاً بلواء القدس، الذي يتألف من 3500 عنصر، حوالي الخمسمائة منهم فلسطينيون، وهؤلاء شاركوا بتعفيش مناطق قريبة بمخيم النيرب، وربما يحاول بعض سكان تلك المناطق الانتقام، إضافة إلى أن ذوي الفلسطينيين الذين قُتلوا تحت التعذيب سيحاولون الثأر، حسبما يعتقد كثيرون، ويُقدّر عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في سجون النظام بحوالي 4000 شخص.

محمد عوّاد، هو من الفلسطينيين السوريين القلائل الذين يتحضّرون للعودة إلى مخيم العائدين في حماه. ويقول إن وضعه الاقتصادي كان جيداً قبل الحرب، فهو لا يعتمد كلياً على مهنة التعليم، فلديه محالّ تجارية يقوم بتأجيرها، لكن الملاحقات الأمنية، نتيجة تقارير عن انتقاده للنظام، دفعته للهرب إلى لبنان. كما يشير إلى أن أبناءه يستطيعون العمل في سوريا دون تمييز بعد تخرجهم من الجامعات. ويُبرز مقطعاً مصوّراً لرفع صورة كبيرة عند مدخل مخيم حماه، تظهر أسماء 79 معتقلاً من المخيم قضوا تحت التعذيب في سجون النظام، رغم أن المخيم كان بعيداً نسبياً عن الأحداث. كما يسمّي بعض أسماء “شبيحة المخيم” الذين فروا إلى لبنان بعد سقوط النظام.

رحلة استطلاعية

تواصلت “المدن” مع عصام الخالدي المتواجد في مخيم خان الشيح، والذي كان قد فرّ منه إلى مخيم الجليل في بعلبك عام 2013، لكنه أكد أنه عائد للبنان، ووصف رحلته لسوريا بالاستطلاعية. وشدد على أنه يمكن له الاستقرار في سوريا، إذا تحسنت الظروف الاقتصادية، أو حين يهمّ أبناؤه بالالتحاق بالجامعة، فستكون سوريا الخيار الأمثل بسبب التكاليف البسيطة. ويقرّ بأنه سلك طريقاً غير شرعية، لتفادي منعه من العودة إلى لبنان.

معظم من التقت بهم “المدن” يعزون بقاءهم في لبنان إلى الوضع الاقتصادي المتردي في سوريا، مما يجعل المساعدة البسيطة التي تقدمها الأونروا للفلسطينيين القادمين من سوريا ذات جدوى. فالأونروا تقدّم لهذه الفئة مساعدة قيمتها 25 دولاراً شهرياً للفرد بدل غذاء، و50 دولاراً للعائلة بدل مأوى. وحاولت إيقافها منتصف شهر كانون الأول 2021، لكن الاحتجاجات الواسعة حينذاك دفعتها للتراجع عن القرار.

الغالبية الساحقة من الفلسطينيين في سوريا استطاعت تحمّل الأعباء الاقتصادية بفضل التحويلات المالية. وأقاربهم في لبنان، ورغم ضيق الحال، يقتطعون جزءاً من إيراداتهم، ويرسلونها إليهم. وإن كانت معظم التحويلات تأتي من الفلسطينيين السوريين في أوروبا، والذين يُقدّر عددهم بحوالي 120 ألفاً، حسب الباحث محمد شاويش. وقدّر سابقاً مدير شؤون الأونروا في سوريا أمانيا مايكل إيبيي أنه يعيش 4 من كل 5 لاجئين من فلسطينيي سوريا في حالة فقر.

ما يعيق عودة البعض أن معظم الفلسطينيين السوريين في لبنان هم من مخيم اليرموك الذي دُمّر منه حوالي 20 بالمائة، و40 في المئة من بيوته بحاجة للترميم. وتشير إحصائيات الأونروا إلى أن 91.46% من اللاجئين الفلسطينيين السوريين في لبنان لجؤوا من مناطق دمشق حيث يقع مخيم اليرموك. كما تعرضت مخيمات أخرى إلى التدمير الجزئي، مثل حندرات في الشمال ودرعا في الجنوب وغيرهما.

اللافت أن بعضاً ممن عايشوا السجون يرفضون العودة لأسباب نفسية. فعبد رحال (اسم مستعار)، لم يغادر مخيم برج البراجنة منذ ثلاث سنوات بسبب الحالة النفسية التي تنتابه عند مدخله، وذلك يعود إلى أن النظام السوري اعتقله عند مدخل مخيم اليرموك، وتعرّض بعدها لأشهر طويلة من التعذيب الشديد، اضطره أن يتناول المهدئات بشكل دائم.

اتخذت السلطات اللبنانية بعد سقوط النظام السوري قراراً يمنع تجديد الإقامات للفلسطينيين السوريين، وكان قبل ذلك يجري التجديد كل ستة أشهر. وتتعامل السلطات اللبنانية مع الفلسطينيين السوريين، منذ لجوئهم، بصفتهم سائحين وليس نازحين مما يسقط عنها واجب الحماية، كما لا تسمح لهم بالعمل بصورة شرعية. وفي الخلاصة فإنه يصعب الحديث عن عودة واسعة للفلسطينيين السوريين إلى سوريا، إلا بعد تحسن الوضع الاقتصادي هناك.

——————————-

بداية الطريق/ سلام الكواكبي

الإثنين 2025/02/03

منذ أيام، خرج علينا أحد المؤثرين، والذي نشط إعلاميًا خلال سنوات الثورة السورية لتغطية أخبار ومآسي المناطق، التي كانت تتعرّض للقصف العشوائي من قبل جلاوزة النظام الحاكم، كمواطن/صحافي، بشريط فيديو يهنئ من خلاله السوريين بإلقاء جهاز الأمن العام القبض على سفاح درعا، ابن خالة بشار الأسد، العميد عاطف نجيب. ولقد “اشتهر” ابن الخالة هذا، إضافةً إلى فساده، وهي الصفة التي تقع على رأس أولويات النظام السابق لضمان الولاء، بوحشية إدارته للأيام الأولى من الثورة السورية. إضافةً، فقد صدر عنه تصرّف غير أخلاقي تجاه وجهاء درعا اعتُبِر سببًا مباشرًا لإشعال فتيل الثورة في 15 آذار/مارس من عام 2011.

تجاوز المؤثِّر شديد الشعبية وواسع الانتشار، بتأثّر واضح، حدود التعبير الطبيعي والمشروع والمحمود عن الفرح بوقوع مجرم من هذا العيار “الرفيع” في يد العدالة. فقد قام بتزيين شريطه المصوّر بعبارات التشفي والعنف اللفظي، متصوراً بأن المجرم هذا موجودٌ الآن في مكانٍ حيث أن “بكرات ظهره تطقطق”. وبأن “الكفّ على وجهه يرنّ رنًّا”. أي بتعبير آخر، فقد اعتبر المؤثّر أنه من الطبيعي للغاية أن يكون هذا المجرم في هذه الأثناء، وبعد اعتقاله، يتلقى الضرب المبرح بحيث تُصدر وجنتاه نغمة الأوجاع، وكذلك تضرب فقرات ظهره طبول الانتقام. كما اعتبر بأن “الزمن يُعيد نفسه، ولكن مع تبديل الأدوار”. أي يمكن ترجمة هذه “الإعادة” بالتالي: في الزمن الماضي، كان أطفال درعا وشبابها الثائر هم من يتعرضون للصفعات والضرب وتكسير الفقرات من قبل هذا المجرم وزبانيته. وأتى اليوم يوم الحساب، ليتلقى المجرم ما كان يُذيقه لضحاياه من قبل “شباب الأمن العام” كما ورد في حديث صاحبنا المؤثّر.

وسرعان ما تنبّه المتحدث -الذي يتلقى البعض كلامه وكأنه مثال على ما تُصدّره الثورة من أخلاقٍ وقيم- إلى أن في حديثه تغيب بعض العبارات الأساسية، مثل “العدالة”. فسارع إلى الإشارة إلى أن المجرم سيُقدم للعدالة لكي يُجيب عن جرائمه ويُحكم بما يستحق وفق القانون (…). وعوضًا عن إنهاء كلامه بهذه الإشارة العقلانية، عاد في نهاية الحديث إلى ممارسة العنف اللفظي وكأنه طرفة ظريفة مشيرًا إلى أن الحكم العادل سيصدر بحق هذا العميد المجرم “إذا بقي منه شيئًا حتى المحاكمة، لأن الشباب الرايج والجاي يضرب فيه”. متوقعًا ألا يصل موعد محاكمة المجرم عاطف نجيب إلا ويكون قد قضى على يدي “الشباب” الذين سيشفون غلّهم فيه.

من المؤكّد إلى أنه، ومن موقعي الباريسي، لن يستساغ مني أن أُعطي دروسًا باردة، كطقس باريس، في كيفية تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، كما وعن ضرورة احترام حقوق الإنسان، وأخيرًا، التأكيد على اعتبار بأن إعمال القانون هو الأسلوب الأكثر نجاحًا في إحقاق العدل مهما بلغت جريمة المتهم قدرًا رفيعًا في قذارتها. ومن الطبيعي أن أكثر من خمسة عقود من الإجرام المادي والمعنوي الذي مورس بحق الشعب السوري يمكن أن يؤدي بالضحايا أو بأقربائهم، أو حتى بمن لم يكن قد تعرّض لقمعٍ مباشر، ولكنه ذو حسٍّ إنساني طبيعي يُميّز بين الخير والشر، للبحث عن طريقة انتقام لفظي غير مباشر غالبًا، أو جسدي مباشر أحيانًا. وهذا ينجم عن طبيعة الأشياء. لن أفاجأ مثلاً بقيام عنصر أو أكثر، عانوا هم او عائلاتهم بشكل مباشر، بصفع المجرم فور اعتقاله، رغم عدم قانونية هذا الفعل في المطلق. وإنما هو رد فعل بشري لسنا في معرض تحليل دوافعه وانتقاد الانحياز له. بالمقابل، على صنّاع الرأي، وفي عصرنا الحالي، “المؤثرين والمؤثرات” ومن في حكمهم هم في مقدمتهم، أن يعلموا بأن عصرنا المجنون يُقدِّمهم على أصحاب الفكر والقلم والنص. هم إذًا يلعبون أدوارًا على درجة عالية من الأهمية ومن الخطورة لتأثيرها في تفكير وتصرفات المتلقي. وهذا يفرض عليهم، إن كانوا أصحاب قضية مشروعة وعادلة كمؤثرنا المعني، أن يتنبهوا إلى خطورة وأثر ما ينطقون به.

إن مجرمًا بمستوى المعني بهذا الشريط المصوّر يستحق أن يحاكم رغم أن إدانته واضحة، وأن يدان فيما بعد، وأن يُنفّذ فيه الحكم المناسب حسب القانون. إن اعتبار ان الزمن دوّار وبأن مجرم الأمس هو ضحية اليوم، كما يُفهم من أقوال المؤثّر حول تبادل الأدوار، هو أمرٌ خطيرٌ جدًا. إنه مؤشّر إلى استطاعة الضحية في أن يتقمّص شخصية الجاني ومنطقه. وفي هذا التقمّص فقدانٌ تامٌ لمبادئ ثورة قامت علىى أسس العدالة والكرامة والحرية.

منذ عدة سنوات، وعندما شرحت أمام ضباط شرطة منشقين عن النظام السوري ومتبنين لفكرة الثورة على الظلم والقمع، مبادئ الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1984، عبّر بعضهم على عدم اقتناعهم بالامتناع عن تعذيب المتهمين، لأنه وبرأيهم، لا يمكن بحال من الأحوال الحصول على اعترافات من المجرمين من دون اللجوء الى التعذيب، ولو في حدوده الدنيا. عرفت حينذاك، وبعد طول لأيٍ لم يصل معهم الى درجة الاقتناع، بأن الطريق ما زال في بدايته.

المدن

—————————

في “معضلة” ارتفاع الليرة السورية/ إياد الجعفري

الإثنين 2025/02/03

بخلاف المتوقع، شكّل الارتفاع القياسي في سعر صرف الليرة السورية، بالأيام الخمسة الفائتة، إرباكاً كبيراً لمعظم السوريين. فسعر الصرف في السوق الموازية ارتفع منذ الأربعاء الفائت بصورة متسارعة ليصبح دون حاجز الـ10 آلاف مقابل الدولار، لأول مرة منذ نحو سنتين. وهو ما عزّز حالة الإرباك المعيشي المتشكّلة خلال الشهر الحالي، جراء الانخفاض المستمر في سعر صرف الدولار، بصورة منفصلة عن أسعار السلع والخدمات الأساسية.

وفيما لقِيَ ارتفاع سعر صرف الليرة السورية ترحيباً كبيراً، في الأسابيع الأولى بعد سقوط نظام الأسد، جراء تزامنه مع انخفاض ملحوظ في أسعار السلع وصل إلى نسبة 50% في بعض الحالات، انفصل ارتفاع سعر صرف الليرة عن أسعار السلع في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، وعكّر مشاعر الفرح والتفاؤل التي كانت قد شاعت بصورة كبيرة بعيد سقوط النظام السابق. تزامنت الحالة الراهنة، مع شح كبير في السيولة من الليرة السورية، وركود أو توقف معظم قطاعات الإنتاج، مع انفتاح الأسواق على السلع التركية المستوردة، رخيصة الثمن، وعالية الجودة، مقارنة بنظيرتها السورية، وتحوّل عدد كبير من العمالة إلى عاطلين، ينشطون في سوق بسطات انفلت تماماً عن أية سيطرة، وأصبح مصدر إزعاج وفوضى في المدن الكبرى.

وقد زادت قفزات سعر صرف الليرة في الأيام الخمسة الفائتة من تعقيد هذا المشهد. فالليرة ارتفعت بنحو 17.40% منذ يوم الأربعاء الفائت. مما خلق معضلة لدى شريحة كبرى من السوريين، من زاويتين: الأولى، تتعلّق بمدخراتهم من الدولار، التي راكموها على مدار السنوات الماضية، والتي باتوا يضطرون للتخلي عنها بأسعار بخسة، مقارنة بالأسعار التي اشتروها بها، ويخشون –مع شح السيولة من الليرة- أن يضطروا لخسارتها كاملة، ومن ثم يعاود الدولار الارتفاع، فتكون حصيلة إدخارهم للتحوّط من تقلبات الزمن، قد ذهبت سدى. ومن يملك منهم احتياطي دولار مريح بصورة أكبر، يواجه تحدّياً، هل يبيعه الآن، قبل أن ينخفض أكثر فيخسر فيه أكثر مما خسر؟ أم يصبر بانتظار ارتداد السوق بالاتجاه المعاكس؟ أما الزاوية الثانية من المعضلة، فتتمثّل بالشريحة الكبيرة من السوريين التي تعتاش على حوالات أقاربهم في الخارج، والتي انخفضت قيمتها الشرائية، جراء انخفاض الدولار، مع ثبات أسعار معظم السلع والخدمات. فمن كانت تكفيه حوالة بـ300 دولار شهرياً، بات يحتاج إلى 400 دولار. وهو ما أدى لانخفاض مستوى معيشة معظم من يعتاش على الحوالات الخارجية. وهي نسبة قد تصل إلى نحو ثلثَي السوريين.

ومن عوامل تعقيد هذه المعضلة، ثبات سعر الصرف الرسمي الصادر عن المصرف المركزي عند 13000 ليرة للشراء، وذلك منذ 5 كانون الثاني/يناير الفائت، مما يعزز الاعتقاد بأن سعر الصرف الموازي، الذي بات بنحو 9500 ليرة، مؤقت، وأن دولار السوق سيرتد للارتفاع قريباً جداً. من جانبه، يساهم المركزي في تعقيد هذه المعضلة، عبر امتناعه –برفقة البنوك- عن تصريف الدولار أو شراء الليرة، بصورة مطلقة. في الوقت ذاته، الذي يمكن فيه، التقاط مؤشرات حبس للسيولة من الليرة من جانب المركزي، عبر تجميد حسابات عدد كبير من السوريين، بذرائع مختلفة، أو تحديد سقوف متواضعة للسحب اليومي والأسبوعي. وهو ما دفع بعض المراقبين للتخمين بوجود شح بالسيولة من الليرة لدى المركزي ذاته، يصعب تحديد أسبابه –البعض يتحدث عن سرقات كبيرة من الليرة تعرض لها المركزي وفروعه بالمحافظات، في الساعات الأولى التي تلت إعلان فرار بشار الأسد-. وفي ظل الغموض غير البنّاء، الذي يعتمده المركزي، يزداد تعقيد المعضلة. فمع تأخير صرف الرواتب، وجمود حركة الإنتاج، والشح الكبير بسيولة الليرة في الأسواق، أصبح السوريون مضطرين لتصريف ما لديهم من الدولارات، للحصول على الليرة، للإنفاق على احتياجاتهم الأساسية.

ويدور حديث مكثّف حول طبيعة من يتحكم بالسوق الموازية للصرف في سوريا. إحدى أبرز الأسئلة: من يقف خلف منصة “الليرة اليوم”، التي تعد أبرز المواقع المؤثرة في تحديد سعر الصرف الموازي؟ وفيما يتهم الكثيرون ثلة من تجار السوق بالتحكم بالأسعار، وخفض الدولار بغية لمّه بسعر منخفض قبل ارتفاعه مجدداً، يُطرح تساؤل جدّي حول مقدار وجود “تجار كبار” قادرين على التحكم بالسوق، في ظل هذه الكثافة غير المسبوقة لأعداد العاملين في تصريف العملة والإتجار بها، حتى أصبح هذا النشاط يشمل أصحاب البقاليات.

وتبدو العلاقة في سوريا، اليوم، بين السوق الموازية –السوداء- وبين المصرف المركزي، فريدة من نوعها، وغير معتادة. ليس فقط في ذاكرة السوريين القريبة، بل أيضاً، قياساً بتجارب دول مجاورة. ففي المعتاد، تضغط السوق الموازية على المركزي لخفض سعر صرف العملة المحلية. وهذا ما كان يحدث في سوريا في 14 سنة الأخيرة. لكن اليوم، تضغط السوق الموازية بالعكس. الأمر الذي يجعل التحليل الفني لمسار سعر الصرف في الفترة المقبلة، صعباً للغاية، مع فرادة المشهد الذي تعيشه سوق الصرف السورية، اليوم.

إحدى الأسئلة التي تُطرح من جانب المتخصصين، هل ستلتزم الحكومة بإعلانها رفع الرواتب بنسبة 400%، مطلع شباط/فبراير الحالي. حتى الساعة، لا يوجد ما يؤكد ذلك. فإن لم تلتزم الحكومة بهذا القرار، فسيُفسّر ذلك بأنه تأكيد للهواجس عن شح السيولة من الليرة، لدى المركزي ذاته. أما إن التزمت الحكومة بقرارها، فإن ضخ هذه السيولة الضخمة من الليرة في الأسواق، بعد فترة من الشح وجفاف السيولة، سيشكّل صدمة ستدفع سعر صرف الليرة في السوق الموازية إلى الهبوط بصورة دراماتيكية، ليتجاوز –على الأرجح- نظيره الرسمي.

من جانب السلطات، لا يوجد مخرج لهذه المعضلة، إلا توافر دعم خارجي بالقطع الأجنبي. وهو ما يجري الحديث عنه كثيراً، عن “وديعة” بالمركزي، في طريقها للوصول قريباً، من جانب قطر أو السعودية. وفي حال تحقق ذلك، يكون السبب النفسي الذي أدى إلى ارتفاع الليرة بصورة كبيرة في الأيام الأخيرة، قد تحوّل إلى واقع. فتحسّن الليرة منذ الأربعاء الفائت، ارتبط بصورة خاصة بزيارة أمير قطر إلى دمشق، ومن ثم، زيارة أحمد الشرع إلى السعودية. والتصريحات الإيجابية التي رافقت اللقاءين، والتي أوحت بدعم اقتصادي كبير آتٍ من هاتين الدولتين.

وفي حال توافرت سيولة من القطع الأجنبي جراء الدعم الخارجي، لدى المركزي، فسيكون من السهل على هذا الأخير، إخراج السوريين من معضلة ارتفاع الليرة الأخير، عبر ضخ الدولار في الأسواق بالتوازي مع الإفراج عن سيولة أكبر من الليرة. ويجب أن يتم ذلك بنسب مدروسة –ضخ الدولار والليرة- كي لا ينخفض سعر صرف الليرة السورية مجدداً، وبصورة تحدث صدمة جديدة بالاتجاه المعاكس.

أما إن لم يتوفر الدعم الخارجي قريباً، فسنرى ارتداداً دراماتيكياً في سعر الصرف بالسوق الموازية، بصورة تشكّل خسارة كبيرة لكل من باع الدولار في الأسابيع القليلة الفائتة. لذا، قد تكون النصيحة الأمثل، لمن يملك الدولار الآن، أن يتريّث في بيعه، وألا يخرج منه، إلا على قدر مصاريفه قريبة الأجل.

المدن

———————————-

سوريا بلا جيش.. لحسن الحظ أم لسوئه؟/ عمر قدور

الثلاثاء 2025/02/04

قبل أسبوع أجرى ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، محادثات في دمشق، قيل أنها جيدة، وكانت تتويجاً لتصريحات إيجابية متبادلة بين موسكو والإدارة الجديدة في سوريا. في أصداء تلك الزيارة، انصبّ اهتمام المتابعين على مصير القاعدتين الروسيتين في طرطوس وحميميم، وعلى مصير المخلوع اللاجئ في روسيا، بشار الأسد، وبدرجة أقل على الديون الروسية، وما إذا كانت ستُلغى مقابل عدم مطالبة السوريين بتعويضات عن الجرائم التي ارتكبتها القوات الروسية أثناء دعمها الأسد.

إثر محادثاته في دمشق، نوّه بوغدانوف بـ”الطبيعة الودية، تقليدياً، للعلاقات منذ حصول سوريا على الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية”. وإذا تجاوزنا الصياغة الدبلوماسية للعبارة السابقة، يصحّ القول أن العلاقة الودية بعد استقلال سوريا قامت في المقام الأول على الجانب العسكري، إذ كانت روسيا الوجهة الرئيسية المتاحة للحصول على أسلحة للجيش السوري، بالإضافة إلى مشتريات أقل شأناً من بلدان كانت منضوية في المعسكر السوفياتي آنذاك.

يمكن الجزم، بلا تردد، بأن الجيش هو كلمة السر في العلاقة بين سوريا وروسيا. ومشتريات الأسلحة هي التي تسببت بالديون لموسكو، ثم كان للديون أثر في نشوء علاقات أكثر تشابكاً. وبالطبع كانت الصلات ضمن المنظور الاستراتيجي لروسيا بوصفها قوة دولية، على ألا يؤدي هذا التوصيف إلى الإعلاء من القيمة الاستراتيجية الراهنة لسوريا، وإلى اعتبار الوجود الروسي فيها مكسباً يعزّ التفريط به.

حالياً، هناك وضعية مشابهة لتلك التي كانت مع مستهل الاستقلال، فبعد حلّ الجيش صارت سوريا في مرحلة تأسيس جيش جديد من الصفر تماماً. التغيير الأول في تشكيل الجيش كان داخلياً، وبدل الجيش العقائدي (البعثي) السابق نصّت القرارات الجديدة على خضوع المتطوعين في الجيش الجديد لدورة شرعية (دينية)، لتستبعد بطبيعة الحال متطوعين من غير السًنّة لا يريدون الخضوع لها.

المتطوعون الجدد سينضمون إلى عشرات الألوف من مقاتلي الفصائل التي يُفترض أنها بحكم المنحلة، وهكذا سيكون للجيش الجديد كتلة بشرية ضخمة، ومن مقاتلين مدرّبين بغالبيتهم، بل من المؤكد أنهم أشدّ استعداداً للقتال من مقاتلي الجيش المنهك المنحل. وإذا تجاوزنا مجيئهم من فصائل متعددة المشارب، وصعوبة تأهيلهم من هذه الناحية، فهم سيسدّون الفراغ البشري الذي خلّفه حلّ الجيش السابق، إلا أنهم في أحسن الأحوال لن يكونوا بمثابة جيش نظامي بالمعنى المعهود، وبالطبع لن يكونوا بمثابة جيش حديث.

عقب سقوط الأسد، قام الطيران الإسرائيلي بعمليات قصف واسعة، استهدف بها مستودعات العتاد والذخيرة العائدة إلى الجيش السابق؛ تلك كانت الضربات الأخيرة ليصبح الجيش المنحل كأنه ذكرى بلا أثر. الأسلحة التي دمّرتها إسرائيل لا خطورة لها على أمنها، وقصفها هو من قبيل زيادة المكاسب بجعل مهمة تكوين جيش سوري أصعب مما لو بقي في حوزته ذلك العتاد المتقادم.

من جهة إسرائيل، يبدو الأمر حالياً كما كان مع عهد الاستقلال، فالغرب لن يساعد سوريا على تكوين جيش حديث، ولن يمدّ هذا الجيش بأسلحة فيها أدنى خطورة على أمن إسرائيل. المختلف هذه المرة أن الحكم الجديد في سوريا ليس في وارد الدخول في حرب مع إسرائيل، والإشارات الصادرة عن أعلى المستويات تصب في هذا المنحى، ولو أتت في سياق عمومي من الحديث عن أن سوريا لن تكون مصدر تهديد لجيرانها. إلا أن هذه التعهّدات لن تساعد الحكم بالحصول على أسلحة غربية ذات وزن، على الأقل لن يحدث هذا قبل توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل.

سيكون طريفاً، وواقعياً في آن، القول أن الحكم الجديد قد لا يجد مورِّداً للسلاح، بشروط “مقبولة”، سوى روسيا. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو عن طبيعة الجيش الجديد ومهامه، بما أنه لن يكون معدَّاً لقتال إسرائيل، وبما أن القوة العسكرية الأخرى المجاورة هي القوات التركية، ومن المعلوم أن الجيش التركي عضو في حلف الناتو، ويضعه بعض التصنيفات العالمية المتخصصة في المرتبة الثامنة بين أقوى الجيوش في العالم. أي أن الجيش النظامي الجديد، في أحسن أحواله، لن يكون قادراً على التصدي لإسرائيل أو تركيا، وبالطبع لا يُتوقع مجيء التهديد العسكري من الأردن أو لبنان.

منطقياً لا يبقى من مبرر لإنشاء جيش، بإمكانيات ضعيفة أو متوسطة، إلا استخدامه في الداخل. السوريون خبروا هذا جيداً منذ الاستقلال، فالجيش تورط في العديد من الانقلابات على الديموقراطية الناشئة، وصولاً إلى انقلاب الضباط البعثيين في عام 1963، ثم انقلاب وزير الدفاع حافظ الأسد في عام 1970. وإذا أخذنا الحقبة الأسدية، وهي الأطول منذ الاستقلال، فقد كانت ترتيبات الحكم قائمة على أجهزة المخابرات في الأوقات الاعتيادية، ثم على تدخل القوة الضاربة للجيش عندما تفشل المهمة الاستباقية للمخابرات.

قسم الأسد الجيش إلى قسمين؛ قوام الأول منهما التجنيدُ الإلزامي، وهو الجيش الذي صار يُدعى بين عموم السوريين بـ”جيش أبو شحّاطة”. التسمية كانت أيضاً لتمييزه عن قوات النخبة، وقوامها الأساسي من المتطوعين، وهي أشبه بالميليشيات، وكان لها الدور الأبرز في ترهيب السوريين وارتكاب المجازر، على غرار مجزرة حماة 1982، ثم المجازر التي ارتكبها الأسد الوريث بعد اندلاع الثورة.

ومن المعلوم أن الحكم الجديد حلّ الجيش القديم، وألغى التجنيد الإلزامي، وللإجراءين شعبية واسعة بين السوريين، فوق ضرورتها. لكن فكرة وجود الجيش من الأساس لم تُطرح في نقاش سوري عام، رغم التجربة المريرة مع الجيش منذ الاستقلال. هكذا مرّت الأخبار الخاصة بحل القديم، وإنشاء الجديد كجيش محترف ضخم، بلا اكتراث، باستثناء ندرة من الانتقادات التي وُجّهت إلى الطابع الإسلامي السُني الذي حلّ مكان التوجيه العقائدي البعثي-الأسدي.

هناك فكرة سُلِّم بها ولم تأخذ حقها من النقاش، تقضي بضرورة وجود جيش قوي بما يكفي لتوحيد البلاد وفرض النظام. وهذا تسليم غير مباشر بكون مهمة الجيش الجديد داخلية أولاً وأخيراً، ما يفضي إلى أن العقيدة الباطنية للجيش لم تتغير، وما تغيّر هو الشكل والشعارات فقط. ثم إن التعويل على الحزم والجيش لإخضاع البلاد لا بدّ أن يؤدي إلى تغليب منطق القوة والهيمنة، وإلى الاعتياد على التلويح بالعصا واستخدامها.

المسألة ليست كما قد يُظن لجهة احتساب الخطأ سابقاً في التطبيق، أي النظر إلى الجيش القوي كمطلب بديهي، مع الثقة (التي لا سند لها) بالقدرة على تجاوز الكوارث التي كان الجيش طرفاً فيها منذ عهد الاستقلال. يعزز من الخشية أن فصائل المعارضة، عماد الجيش الجديد، لم تكن ذات تجارب مشرقة في التعامل مع السكان في مناطق سيطرتها، ومجمل هذه التجارب ولّد القناعة بأن عدم وجود عسكر هو الأفضل.

خلاصة القول إن الجيش مطابق للنظام السياسي، وهذه كلها أفكار لا تخص فقط المرحلة الانتقالية الحالية، بل تنصرف إلى تأسيس سوريا الجديدة، وعلاقة الجيش بشكل الحكم وبالسوريين، إذا انعقدت النوايا على بناء الجديد.

المدن

—————————

محاذير تطبيق “علاج الصدمة” على اقتصاد سوريا الجديدة/ أحمد بورزان

04.02.2025

عنوان أي تحوّل اقتصادي في سوريا يجب أن يكون على أساس التدرّج في ظل الشراكة بين القطاع العام والخاص، لتحقيق أهداف التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية، وليس الانزلاق من عمىً أيديولوجي ابتدأ في ستينيات القرن الماضي إلى عمىً أيديولوجي آخر سيكون أكثر كارثيةً.

 في أعقاب تحرّر سوريا، يدور النقاش حول مستقبل نظامها الاقتصادي. وسط تعدّد الأصوات، تتّجه حكومة الإدارة الحالية وفق تصريحات بعض مسؤوليها إلى نحو اقتصاد حر، يشمل رفع الدعم عن الخبز والمواد الأساسية، وتحرير التجارة والأسعار.

تثير ضبابية تصريحات الإدارة الحالية عن طبيعة النظام السياسي وإجراءات العملية الانتقالية القلق، خصوصاً في ما يتعلق بشرعية صلاحياتها. ولكن، سنتجاوز هذا النقاش نظراً الى أهمية الملف الاقتصادي وإلحاحه.

لا يمكن وصف النظام الاقتصادي السابق بالنظام الاشتراكي المغلق. إذ ابتعد تدريجياً عن هيمنة القطاع الحكومي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي. مع رداءة الأداء الاقتصادي للنظام السابق، يبدو أنّ التوجّه الاقتصادي الجديد ليس مبنياً على الواقع ورؤية اقتصادية ناضجة وإنما كردّ فعل على صورة ماضية للنظام السابق تخلّى عنها ذاته منذ عقود عدة.

يذكّر الحديث عن تحرير الأسعار والخصخصة وتحرير التجارة بتوافق واشنطن وما يسمّى بعلاج الصدمة الذي طُبّق في دولة الكتلة الشرقية إبان انهيار الاتحاد السوفياتي كمسار للتحوّل الاقتصادي لدول الكتلة الشرقية الاشتراكية. ويُعرَّف كتحرير سريع داخلي وخارجي للأسواق والأسعار ومعها حركة التدفقات المالية والتجارية، لتمكين السوق من تخصيص موارد الاقتصاد وفق آلياته من دون تدخل الدولة.

 يتناسى دعاة أصولية السوق، الآثار التدميرية لعلاج الصدمة على بلدان الكتلة الشرقية. مع التفاوت في الأداء بين الدول، لم تبدأ اقتصادات دول علاج الصدمة بالنمو، في المتوسط، إلا بعد مرور عشر سنوات على بدء التحول. ولم تستعد حصة الفرد من الناتج المحلي إلا بعد 17 سنة.

مع 90 في المئة من سكان يعيشون تحت خط الفقر وبنى تحتية مهلهلة وقاصرة، فإن البلاد لا تحتمل أن تكون عرضة لتجربة جلبت سنين طويلة من الكساد والآثار الاجتماعية التخريبية التي شهدتها دول تعرّضت لعلاج الصدمة وفقاً لبيانات كتاب –التأمل في الصدمة-.

فقد تضاعفت معدّلات الفقر والحرمان في العشر سنوات الأولى للتحوّل. وبقيت نسبة الفقر -من يعيش على 5.5 دولار أو أقل- في 2015 أعلى مما كانت عليه سنة 1989 في دول كجورجيا وبلغاريا، ورومانيا، وكرواتيا، ولاتفيا. بالإضافة إلى تراجع مؤشرات ديمغرافية أخرى كمتوسط العمر المتوقع، ومعدل الوفيات. كما أشارت دراسة البنك الأوروبي الى إعادة التعمير والتنمية إلى تراجع طول القامة لمن وُلدوا في فترة تحرير الأسعار في الكتلة الشرقية، بمقدار 1 سم مقارنة بمن ولدوا قبلهم أو بعدهم. هذا كله يشي بعمق سلبية التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للتحوّل بعلاج الصدمة.

إجمالاً، نتجت الآثار السلبية الاقتصادية والاجتماعية لعلاج الصدمة من تفكّك قطاعات الإنتاج وتدهور شبكات الدعم الاجتماعي الناتج من التضخم، البطالة المرتفعة، رفع الدعم الحكومي عن المنتجات الأساسية للاستهلاك والإنتاج، والأزمات المالية كالتي شهدتها روسيا في أواخر التسعينيات.

ما هو أكثر إشكالية في الدعوة إلى تحرير الأسواق، هو عدم مراعاة الظرف الاقتصادي المحلي لدولة كسوريا غير حصينة ضد هزّات انكماش تدفّق النقد الأجنبي الضروري لتوفير احتياجاتها الضرورية من المستوردات والالتزامات النقدية مثل كالديون الخارجية.  

فكما أوضح كبير مهندسي علاج الصدمة جفري ساكس في مراجعاته لتوصياته في تسعينيات القرن الماضي، فإن الدول الوحيدة من الكتلة الشرقية التي لم تعان سلبياً من التحوّل الاقتصادي بعلاج الصدمة على المدى الطويل، كانت إما ذات ثروات باطنية أو كانت ذات أهمية جيوستراتيجية مكّنتها من الاستفادة من الدعم الغربي. وأشار إلى أهمية دعم الصندوق الدولي والدول الغربية لتوفير دعم نقدي واقتصادي كافٍ لتسيير عملية التحوّل الاقتصادي واستقرارها. فمثلاً، تم دعم دول أمثال بولندا التي أراد الغرب إدماجها في منظومته، بعكس روسيا التي أراد إضعافها واحتواءها. 

 تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ أهم عرّابي علاج الصدمة من مؤسسات واشنطن -مؤسستا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- انزاحوا عن أدبيات “توافق واشنطن” بعد الضربات التي تلقتها وصفات التوافق إثر سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي صاحبت تحرير الاقتصاد وفق وصفات “توافق واشنطن” في عقد التسعينيات وأوائل الألفية، كالأزمة الأسيوية 1997 وأزمات المكسيك 1994، وروسيا 1998 والأرجنتين 2001.

هذه الأزمات دفعت مؤسستي “توافق واشنطن” إلى البحث عن توصيات ما بعد هذا التوافق، الذي ضمّت توصياته تراجعاً نسبياً عن أصولية السوق نحو تبني دور أكبر للدولة يولي أهمية لبناء الرأسمال البشري ومسائل توزيع الدخل والفقر والإنفاق الاجتماعي كمعزز للتشغيل واستقرار الدخل وحماية السكان من الصدمات الاقتصادية. تعزّز هذا التوجّه في أعقاب الأزمة المالية 2008 وأزمة كوفيد. وأصبح صندوق النقد الدولي يرحب بتقييد التدفقات المالية الأجنبية للحفاظ الاستقرار الاقتصادي. 

 تباعد المؤسسات الدولية عن توافق واشنطن جاء معه أيضاً تراجع الإدارات الأميركية نفسها عن توجهات التجارة الحرة، وصل في عهد بايدن إلى المزيد من تعزيز دور الدولة في الاقتصاد مع صعود أدبيات تقليل المخاطر-derisking– في دوائر القرار الغربية.

في الحالة السورية التي لا يملك اقتصادها حتى البنى التحتية الكافية لدعم قطاع خاص قادر على توفير فرص عمل ذات دخول كافية لحياة كريمة، يجب مقاربة الملف الاقتصادي بشكل واعٍ للواقع ولتجارب الدول المشابهة لسوريا ومحقّق لحدّ مقبول من العدالة الاجتماعية، تقوم فيه الدولة بمهامها التنموية والتضامنية، بخاصة أن الأمن الغذائي والاقتصادي يلتصق بالأمن الاجتماعي الممهد لمناخ آمن لبناء الدولة بعيداً من اضطرابات وفرص للتدخل الخارجي الذي يسرّه انتشار الجوع والعوز.

عنوان أي تحوّل اقتصادي في سوريا يجب أن يكون على أساس التدرّج في ظل الشراكة بين القطاع العام والخاص، لتحقيق أهداف التنمية المتوازنة والعدالة الاجتماعية، وليس الانزلاق من عمىً أيديولوجي ابتدأ في ستينيات القرن الماضي إلى عمىً أيديولوجي آخر سيكون أكثر كارثيةً.

درج

———————-

حملة عراقيّة منسّقة تنسبْ سقوط الأسد إلى “تقاربه مع الخليج

مجتمع التحقق العربي

03.02.2025

نشطت حسابات عراقية في حملة منسّقة ربطت سقوط الأسد بتقاربه مع دول خليجية في السنوات الأخيرة من حكمه، مشيرة إلى أن العراق لن يواجه سيناريو مشابهاً نتيجة ارتباطه بـ”محور المقاومة”. وقد ضخّم القائمون على الحملة هذه الروايات من خلال الاستعانة بحسابات وهمية ومحتوى مكرر تتخلّله معلومات مضلّلة.

منذ سقوط النظام، نشطت وسوم عدة؛ مثل #العراق_ليس_سوريا و#الارهاب_استباح_سوريا و#العراق_هزم_الإرهاب، التي جمعت أكثر من 20 ألف تدوينة عبر منصة “إكس، شٌوهدت نحو 1.5 مليون مرة على الأقل، بحسب إحصاءات Meltwater.

في المنشورات المتداولة على الوسوم، تم الترويج إلى أن العراق يختلف عن سوريا، نظراً الى ما يمتلكه من “قوة حشدية عقائدية مستعدة للتضحية”.

ونتجت من هذه المنشورات قرابة 42 ألف حالة تفاعل في صورة (إعجابات، إعادة مشاركة، تعليقات). كما وصلت الوسوم إلى حالات الذروة مرات عدة، أعلاها كانت في وقت انهيار نظام الأسد، 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بأكثر من ثمانية آلاف تدوينة في هذا اليوم وحده.  

فترات نشاط الوسوم الثلاثة – Meltwater

من يتصدّر الحملة؟

ساهمت 9,278 حساباً في تنشيط وسوم الحملة، في حين تشير مؤشرات عدة إلى انخراط ملحوظ لمؤيدي ميليشيا عصائب أهل الحق، بزعامة قيس الخزعلي، بشكل رئيسي في الحملة الحالية بشأن الوضع في سوريا.

يعتمد الكثير من حسابات أنصار الجماعة المدعومة من إيران صور قيس الخزعلي في مساحاتها التعريفية، وتروّج بشكل مكثف لدعاية سياسية مركّزة لصالحه.

وسبق أن شاركت قوات من “عصائب أهل الحق” في الحرب الأهلية في سوريا لصالح النظام السوري السابق على الرغم من نفي خزعلي ذلك.

وأشار تقرير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في نيسان/ أبريل 2021، إلى أن الميليشيا وطدت علاقاتها مع محور المقاومة التابع لـ “فيلق القدس” في “الحرس الثوري”، وأرسلت وحدة للقتال في الحرب الأهلية السورية تحت السيطرة العملياتية لـ “فيلق القدس”. وذكرت تقارير أن الميليشيا كانت تقاتل في حلب ودمشق.

فيما وضعت حسابات أخرى صوراً تعريفية لقادة فصائل ومجموعات شيعية عراقية وإيرانية وإقليمية؛ مثل أبو مهدي المهندس، نائب ميليشيا الحشد الشعبي السابق، الذي قُتل مع قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في غارة أميركية على بغداد في مطلع 2020، وصورة الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني، حسن نصرالله، والمرشد الإيراني، علي خامنئي.     

ضربة البداية وعبور المنصات… علامات على التنسيق

تشير مؤشرات عدة إلى وجود نشاط منسق، إذ عملت حسابات الحملة بوتيرة موحدة على نقل رسائلها، سواء من خلال تزامن  النشر وتوقيته، أو تكرار نبرة الخطاب، أو طبيعة المحتوى المتداول في المنشورات.

في الساعة 3:33 بتوقيت غرينتش من مساء الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، أوعز حساب “بنت المهندس” – H__PLKM@، المنشأ في نهايات عام 2022، بقرب بدء موجة التدوين، بتدوينة تقول “الكل تنطلق بعد دقائق“، مشيرة إلى وسوم الحملة.

جاءت التدوينة عقب منشور نشره حساب المحامية زينة الخفاجي – @zena_shaker1988، الذي أعرب فيه عن استيائه من مشاهد يزعم أنها من داخل حرم السيدة زينب في دمشق، مشيراً إلى أنها تعرضت لهجوم من “العصابات الإرهابية”، ووصف الحادثة بأنها “هجوم بني أمية على مرقد السيدة زينب”.

يمتلك الحساب المنسوب إلى المحامية نسخاً مشابهة على منصات اجتماعية مختلفة، وينشر دعاية ترويجية، على غرار حساب “بنت المهندس”، لصالح زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي.

انتقلت بعض المنشورات بين المنصات المختلفة. على سبيل المثال، نشر حساب “الأمة العميقة”، الذي أُنشئ على منصة “إكس” في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، منشوراً مطولاً في البداية على قناته في تلغرام، التي تضم 1,592 مشتركاً، قبل أن يعيد نشره على “إكس”، مرفقاً بوسم #العراق_ليس_سوريا.

في منشوره، قدم الحساب تقييماً للوضع بين سوريا “الجديدة” والعراق، إذ تناول النظام السياسي، وتشكيل الحكومة والجيش، وصولاً إلى ما وصفه بوجود “قوة عقائدية ذات نواة صلبة صنعت ملحمة تحرير وطنية كبرى”، في إشارة إلى الحشد الشعبي بوصفه الجيش الرسمي الرديف.

وختم الحساب المنشور بالإشادة بـ”شيخ شجاع حكيم استراتيجي التفكير والعمل اسمه الشيخ الأمين، وهو رمح الأمة كونه وريث الحظ والبخت الذي مثله السيد نصر السماء والجنرال المثقف المخلص والمهندس المقاوم النبيل مؤسس الحشد الشعبي المقدس”، ثم أرفق صورة لقيس خزعلي.

على النهج ذاته، كان الفارق دقيقة واحدة بين عبور منشورات حساب “حروف سومرية” (@alijahied) من موقع “إكس” إلى “تلغرام”. في الساعة 4:36 مساءً من 8 كانون الأول/ ديسمبر، نشر تدوينة مصحوبة بتصميم عالي الجودة كُتب عليه “الإرهاب انتصر في سوريا… انهزم في العراق”، مع عرض راية تنظيم داعش، وعلم الاستقلال السوري، الذي تبنته المعارضة، في حين تظهر يد تحمل راية الحشد الشعبي.

في الدقيقة التالية (4:37)، نُشرت التدوينة في قناة “حروف سومرية” في “تلغرام”، التي تضم 5751 مشتركاً. 

كانت التدوينة تقول: “فرق كبير بين العراق بقادته ورجاله وصمودهم الأسطوري وسوريا ببشار وجيشها الذين سلموا سوريا للإرهاب على طبق فروري. عن العراق وشجاعته نحدثكم”.

على مدار السنوات الأخيرة، لعب الحساب دوراً مؤثراً في الترويج لمواقف ومصالح المجموعات الشيعية الموالية لإيران، إضافة إلى المشاركة في حملات التأثير المرتبطة بها.

ورصد “مجتمع التحقق العربي” تكرار نشر التصميم نفسه على مدار الأيام التي أعقبت انطلاق الحملة، مصحوباً بعبارات نصية تكرر نشرها عبر حسابات مختلفة.

يمكن استكشاف هذه النصوص والتصميمات عبر البحث عن العبارة التالية في موقع إكس: “العراق لن يسمح بتكرار المأساة السورية على أرضه، لأنه يمتلك قيادة وشعباً أقوى من كل التحديات والمؤامرات”.

يمكن ملاحظة أن الكثير من الحسابات الناشرة تظهر عليها مؤشرات قوية إلى كونها حسابات وهمية، سواء من حيث ضعف عدد متابعيها، قلة تفاعلاتها، وطبيعة نشاطها المركّز على الدعاية لقيس الخزعلي.

كما ساعدت حسابات أخرى، يقتصر نشاطها على الريتويت/إعادة المشاركة، في تضخيم انتشار الوسوم؛ من بينها حساب @Pearlbh2، الذي يتخذ من علامة الريتويت صورة تعريفية للحساب، وهي لفتة شائعة لدى الحسابات التي تتولى هذه المهمة خلال الحملات الإلكترونية.

يقول من يدير الحساب إنه ينشط من البحرين، ويعرض أعلام إيران والدول التي تدعم مجموعات مسلّحة فيها. يمتلك الحساب أكثر من 278 ألف تدوينة منذ إنشائه في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وهو معدل قياسي نادراً ما تظهره الحسابات التي تعود لأشخاص طبيعيين، ما يسلط الضوء على استخدامه لأهداف موجّهة. وقد بث الحساب 57 تدوينة فقط في الوسوم المتعلقة بالحملة موضوع التحليل.

جغرافياً، جاء العراق في مقدّمة البلاد التي صدرت منها تدوينات على الوسوم بإجمالي ثلاثة آلاف تدوينة، وحلت السعودية ثانية بـ 239 تدوينة، ولبنان (179)، والولايات المتحدة (156)، واليمن (137).

في المقابل، كانت هناك نحو 16 ألف تدوينة صادرة من حسابات غير معروف موقعها الجغرافي؛ أي ما يقارب 76 في المئة من إجمالي التدوينات. وهذا يشكل مؤشراً آخر إلى وجود تلاعب ونشاط غير تلقائي عبر الوسوم.

معلومات مُضلّلة وخطاب طائفي

بدت المقارنات الواردة في محتوى الوسوم بين حال العراق وسوريا وكأنها محاولة لطمأنة أنصار المجموعات العراقية بعدم تكرار السيناريو السوري، مؤكدين أن “العراق لن يسمح بتكرار المأساة السورية”. كما تم تبرير غياب إيران، حليفة الأسد في حربه ضد المعارضة، بإلقاء اللوم على سياسات الأسد “الخاطئة”، التي “دفع الشعب السوري ثمنها”، وجعلت “سوريا فريسة سهلة للجماعات الإرهابية’. إضافة إلى ذلك، تم تأكيد أن الأسد “اختار الابتعاد عن محور المقاومة والارتماء في أحضان السعودية والإمارات”.

وقد صاحب ذلك نشر معلومات مُضلّلة وخطاب طائفي من شأنه تعزيز التوتر بين أصحاب المذاهب الدينية المختلفة، لا سيما بين الشيعة والسنة.

وروّجت حسابات في الحملة مزاعم بوقوع انتهاكات، ونشر مقاطع فيديو قديمة على أنها حدثت في عهد النظام الجديد في سوريا؛ منها مقطع فيديو صاحبته رواية تقول إنه “من يتخلّف عن صلاة الجمعة في حكم سوريا (الإرهابي) الجديد يُعاقب بـ 25 جلدة أمام الناس”.

وتبين أن المقطع قديم، ونُشر للمرة الأولى في آذار/ مارس 2016، ويصور عنصراً في تنظيم داعش وهو يجلد رجلاً عقاباً له على عدم حضوره صلاة الجمعة.

واحتوت منشورات على كلمات ذات نبرة طائفية، وتحمل خطاب كراهية ضد أصحاب المذهب السني، بوصفهم بـ”المخربين والفاسدين والإرهابيين، المفخخات السنية الوهابية، مجاميع التخريب، الدونية السفلة”.

نشطت الحسابات نفسها في مهاجمة أحمد الشرع -الذي كان يُعرف بـ “أبو محمد الجولاني”- بعد إعلان إدارة العمليات العسكرية في سوريا في 29 كانون الثاني/ يناير 2025، توليه رئاسة البلاد خلال المرحلة الانتقالية.

وذهب بعضها إلى حد القول إن “اقتلاعه (الشرع) من المشهد السياسي السوري ضرورة دولية لما يمُثله من نظام إسلامي متشدد محظور دولياً، ولما سيعطيه من عذر شرعي لقيام ثورة سورية مضادة تقتلعه من الحكم”.

درج

———————————

عائد إلى دمشق…/ ماجد كيالي

03.02.2025

وصلت إلى بيتي في دمشق غير مصدق، على رغم أنني كنت مرنت نفسي على احتمال هذه اللحظة، وكان ذلك الاحتمال المستحيل يبدو كمغامرة، وأمراً غير صحي، لا ينبغي التعلق به، بحسب أصدقاء كثر.

لم أعرف دمشق من النظرة الأولى التي شاهدتها فيها، بعد غياب 13 عاماً، كان قلبي خلالها يرنو إليها يومياً، إذ لم أفقد إيماني بإمكانية العودة إليها، كنت دائماً أقول، أو أعزي نفسي، بأنه ربما تأتي لحظات تختصر الزمن، وإن لكل شيء نهاية، ولا شيء للأبد، وهذا ما حصل، بفرار الطاغية، بطريقة خسيسة، واستعادة السوريين أنفاسهم، وأصواتهم، وصورتهم، على رغم كل ما مرّ بهم.

هكذا بدت لي دمشق التي شاهدتها في النظرة الأولى، في البشر والأماكن والفضاء العام، مختلفة، إذ بدت متعبة ومختنقة ومتّسخة وشائخة ومهترئة وكئيبة، كأنها تنوء تحت حمل إرث ثقيل الوطأة لـ 55 سنة من القهر والحرمان والاستنزاف، ضمنها تركة 14 سنة حرب إبادة، بكل معنى الكلمة، شنّها رئيس وضيع، بالغ الرثاثة، والبله، على شعبه، أدت إلى خراب عمرانه، وتدمير اقتصاده، وتقويض بناه التحتية، ونهب موارده، وفوق ذلك كله تشريد نصف هذا الشعب، في أنحاء الدنيا.

كانت مشاهدة مدينة دمشق، بالنسبة إلي، بمثابة صدمة، كفرح بطعم الحزن، وحماس بطعم الإحباط، وتفاؤل بطعم التردد، وبدت لي دمشق كمدينة خارجة من حرب مدمرة، كأن حرباً عالمية مرت من هنا، وهو ما تلمسه من وجوه الناس، ونظراتهم المؤسية، وطريقة حركتهم المستعجلة، ومن زحمة السيارات والبشر والبسطات والموتوسيكلات والصرافين والمطاعم والباحثين عن عمل أو عن لقمة خبز.

كان ثمة شيء في عيون الناس، وأحاديثهم، يوحي بأن ما حصل هو أمر غريب، ومدهش، ولا يصدق، فثمة أجيال عاشت في زمن نظام الأسد، ولا تعرف غيره، إلا أن سوريا نفضت عنها هذا الزمن فجأة، وبسرعة، وبأقل أثمان ممكنة، وذلك كله كان من المستحيل تصديقه، أو حتى تخيله، لا في اليقظة ولا في أحلام المنام.

منذ لحظة دخولي سوريا، في الطريق إلى الشام، عرفت أن سوريا خلعت، أو مزقت،  ثوبها القديم، الذي علق بها، أو حبسها، لعقود، إذ لم تعد تماثيل وصورة الطاغية الأب أو الابن موجودة، وهي كانت تحتل الفضاء العام للسوريين، كمخبر يتلصص على همساتهم وسكناتهم وأنفاسهم في الحدود والشوارع والأسواق والساحات والمدارس والمؤسسات والمحلات، إلا كقمامة تملأ الشوارع، فقد ذهب زمن الأسد إلى الأبد، مع ذلك فإن الغصّة تبقى في أن الرئيس الفار ذهب، بعدما حرق ودمر ونهب البلد وشرّد شعبه.

وصلت إلى بيتي في دمشق غير مصدق، على رغم أنني كنت مرنت نفسي على احتمال هذه اللحظة، وكان ذلك الاحتمال المستحيل يبدو كمغامرة، وأمراً غير صحي، لا ينبغي التعلق به، بحسب أصدقاء كثر.

 ظللت في البيت أياماً عدة، لا أخرج منه، كأنني أريد أن أصدق أنني بت حقاً في بيتي في دمشق، كنت أتأمل كل ركن وزاوية في البيت، كي أستعيد تفاصيل الحياة التي كانت لي، ولعائلتي، قبل 13 سنة، وكدت أنساها مع الزمن، ساعدني ألبوم لأفراد العائلة على استعادة بعض الذكريات. لم أكتفِ بذلك، إذ ذهبت إلى خزانة الثياب، كي أتذكر كل واحد من أولادي، في طفولتهم، وقد أضحوا شباباً الآن، مع حياة أخرى في بلاد الله الواسعة. تفحصت مكتبتي لأتذكر كل كتاب، متى اشتريته ومتى قرأته، وماذا استفدت منه، وضمن ذلك استرجاع ملامح الشخص الذي كنته، والحياة التي عشتها، والظروف التي اختبرتها واختبرتني.

البيت في ذلك كله ليس مجرد مكان، إنه تاريخ متكامل، كل حائط عليه لوحة، أو ذكرى، كل باب أو نافذة، كل مقعد أو كرسي، كل وسادة، في كل واحد مما ذكرت بعض من الحكايات والأحاسيس التي تعيد صياغة الماضي، أو الحياة التي كانت، والتي حرمت، كما ملايين السوريين والفلسطينيين السوريين، منها.

بعدما استعدت أنفاسي، خرجت إلى مخيم اليرموك، حيث ولد أبنائي الأربعة، لينا وسلام ونوار وعبد الرحمن، وتعلموا في مدارسها الابتدائية والإعدادية، وحيث بيت أهلي وأخوتي، فلم أجد المخيم، ولا مدارس، ولا بيوت، ولا محلات أو دكاكين، ولا شوارع ولا حتى حياة، إذ كان المخيم مجرد خرابة، بكل معنى الكلمة، كما كثير من مناطق المدن السورية، في دمشق وحلب وحمص، كأن عاصفة متفجرة مرت به، فهذه نكبة بحالها.

كانت ثمة بنايات طُحنت، لأخذ الحديد منها، بعدما سُحبت أنابيب المياه، وأسلاك الكهرباء، وخُلعت الأبواب والشبابيك، إضافة إلى العفش طبعاً، ممن يسمى عن حق جيش “التعفيش”، الذي تسمع روايات غريبة عنه، إذ تأسس على شراكات ضباط، كل واحد منهم يختص، أو يحتكر، تعفيش سلعة أو مادة معينة في هذه المنطقة أو تلك.

باختصار، المخيم لم يعد موجوداً، لكن بعض الفلسطينيين رجعوا للسكن فيه، على رغم ظروفه تلك، لتدبر حياتهم بعيداً من بيت بالإيجار لا يستطيعون تحمّله، وهو كان المكان الأكثر حيوية في دمشق، من كل النواحي كمكان للتلاقي والأنشطة، نسبة الى خصوصيته الفلسطينية، كما كان من أهم المناطق التجارية في العاصمة دمشق.

الأهم من ذلك هو ضياع، وغياب، مجتمع الفلسطينيين في المخيم، فمنهم من غادر إلى المنافي، ومنهم من نزح إلى مناطق أخرى في دمشق أو غيرها من المدن السورية. وفي ذلك كله، آلمني شعور الفقد، فقد المكان المتمثل بالمخيم، وفقد الأصدقاء الذين كانوا.

هكذا، فإن دمشق التي كانت في خاطري، كمدينة متخيلة، ظللت أحلم بها طوال 13 عاماً، لم أجدها، إذ بدت لي كمدينة ضائعة وحائرة ومستنزفة، في ظل خراب العمران، واهتلاك البني التحتية، واهتراء الشوارع، وافتقاد ساعة أخرى من الكهرباء، وغلاء الأسعار.

من جانب أخر، ومع كل ما تقدم، فقد لمست أن كثراً من السوريين، يميلون إلى التعبير عن نوع من الارتياح، إذ تمت إزاحة الصخرة الثقيلة التي جثمت على صدورهم لـ 55 عاماً، وبأقل أثمان ممكنة، وبالطبع فهو ارتياح مشوب بنوع من التساؤل عن المستقبل، وعن الاتجاه الذي ستذهب إليه سوريا مع العهد الجديد.

هنا يطيب لي التصريح بأنني كنت طوال تلك السنوات أحتفظ بمفتاح بيتي (كعادة فلسطينية) في شنطة السفر، لعله يحصل الأمر فجأة، ما يتطلب أن يكون المفتاح في جيبي في أي مكان أكون فيه، وإنني كنت دائماً أقول إن هذه الأعوام الثمانية أو العشرة أو الـ 13 ليست محسوبة من عمري، وإنني طوال غربتي في أماكن متعددة لم أشعر بالاستقرار يوما.

في يوم عودتي، أتذكر الأعزاء ميشيل كيلو وعلي الشهابي وسلامة كيلة ورزان زيتونة ويوسف سلامة وسميرة الخليل وحسين العودات وريم البنا ومنصور الأتاسي وعماد رشدان وأيمن ابو جبل، وشهداء مخيم اليرموك ومنهم: أحمد الكوسى وفياض الشهابي وغسان الشهابي وجعفر محمد وخالد البكراوي ومهند عمر وموعد الموعد ومحمد طيروية وأخي صالح كيالي… وكل شهداء فلسطين وسوريا، مع التقدير والعرفان لكل الذين عانوا في سجون الطاغية من أجل حرية  شعبهم وكرامته.

تلك انطباعات أولية سريعة من عائد إلى دمشق بانتظار عائد إلى حيفا.

درج

————————

حملة إيرانيّة على سوريا… عبر العراق/ خيرالله خيرالله

زيارة أحمد الشرع للسعودية التي تلتها زيارة لتركيا لم تكن سوى خطوة أخرى على طريق اكتمال الصورة الجديدة للمنطقة تحت عنواني: التوازن الإقليمي الجديد وبداية النهاية للمشروع التوسعي الإيراني.

الأربعاء 2025/02/05

خطوات مدروسة بدقّة متناهية

توجد نقطتان يبدو مفيدا التوقف عندهما. تتعلق النقطة الأولى بحرص الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع على أن تكون زيارته الخارجية الأولى للمملكة العربيّة السعودية، وذلك تمهيدا للتوجه إلى تركيا. أمّا النقطة الأخرى فتتعلق بالحملة العراقيّة على سوريا، وهي حملة إيرانيّة، تولاها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي المعروف بتزمته وتعصبه ذي الطابع المذهبي. تكشف الحملة العراقيّة مدى التضايق الإيراني من الخروج من سوريا بعدما كان هناك رهان لدى “الحرس الثوري” على نجاح في إحداث تغيير ديموغرافي دائم يشمل مناطق سورية معيّنة، خصوصا في دمشق ومحيطها وعلى طول الحدود مع لبنان.

من خلال زيارته للرياض يتبين أنّ الرئيس السوري الجديد يعرف ما الذي يريده تماما ويعرف أهمّية السعودية في مساعدته على تحقيق أهدافه. في مقدّم هذه الأهداف رفع العقوبات الأميركية والدولية عن سوريا في أسرع وقت. ليس أفضل من السعودية للمساعدة في ذلك. من هذا المنطلق بدا طبيعيا الوصول إلى تفاهم في شأن الحصول على دعم سعودي لسوريا، بما في ذلك لمشاريع إعادة الإعمار، عبر المحادثات بين أحمد الشرع والأمير محمّد بن سلمان ولي العهد السعودي.

تعكس الزيارة التي قام بها الشرع للسعودية رغبة في تأكيد البعد العربي للنظام الجديد من جهة وأن سوريا تغيّرت كلّيا من جهة أخرى. لم تعد دولة تابعة لإيران ولم تعد تصدّر الإرهاب كما يدعي المسؤولون العراقيون. كذلك، لم تعد مصدرا للمخدرات التي تهرّب إلى دول الخليج العربي كما لم تعد مصدرا لتهريب أسلحة إلى الأردن من أجل ضرب الاستقرار في المملكة. أكثر من ذلك، لم تعد سوريا قاعدة عسكريّة إيرانية ينتقل عبرها السلاح إلى “حزب الله” في لبنان، كما لم تعد تمارس سياسة الابتزاز تجاه معظم دول العالم، خصوصا الدول العربية، خدمة للمشروع التوسعي الإيراني في المنطقة.

تبدو كلّ خطوة من الخطوات التي يقوم بها أحمد الشرع مدروسة بدقّة متناهية، بما في ذلك خطوة الذهاب إلى السعودية قبل التوجه إلى تركيا. هناك مليونا سوري يعملون في السعودية أو يقيمون فيها. لكن يبقى الأهمّ من ذلك كلّه أنّ الزيارة تأتي في ظلّ توازن جديد في المنطقة وصورة جديدة لها. لم يكن ممكنا ذهاب أحمد الشرع بالطريقة التي ذهب بها إلى الرياض لولا هذا الانقلاب الكبير الذي غيّر المنطقة وسيغيرها أكثر في المستقبل.

ليس سرّا وجود علاقة أكثر من جيدة بين النظام الجديد في سوريا من جهة وكلّ من تركيا وقطر من جهة أخرى. لكنّ ذلك لا يمنع، أقلّه ظاهرا، وجود حضور سوري مختلف في المنطقة خارج الإطار التركي – القطري، خصوصا أنّها المرّة الأولى منذ 59 عاما يحصل هذا التحوّل الكبير في هذا البلد وبما يتجاوز حدوده، خاصة إلى لبنان. لماذا 59 عاما وليس 54 عاما أي منذ احتكار حافظ الأسد للسلطة في ضوء الانقلاب الذي نفّذه على رفاقه البعثيين في 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970؟ يعود ذلك إلى أنّ سيطرة الطائفة العلوية على سوريا بدأت عمليا مع الانقلاب الذي نفذه الضابطان العلويان صلاح جديد وحافظ الأسد في 23 شباط – فبراير 1966. بعد نحو أربع سنوات نفّذ حافظ الأسد انقلابه على صلاح جديد وأسّس في 1970 لنظام تتحكّم به العائلة وتوابعها على وجه الخصوص.

ما حصل في سوريا تغيير كبير، بل انقلاب، على الصعيد الإقليمي ستبدأ تفاعلاته في الظهور شيئا فشيئا، خصوصا إذا استطاع الشرع إثبات أنّه قادر على الابتعاد عن التزمت والاعتراف بالتنوع السوري بالأفعال وليس بمجرد الكلام.

يشير الانفتاح السعودي على سوريا إلى فهم عميق للحدث وانعكاساته، خصوصا مع خروج إيران وميليشياتها من سوريا للمرّة الأولى منذ العام 1980 عندما بدأ تعاون عسكري واستخباراتي في العمق بين دمشق وطهران مع بدء الحرب العراقية – الإيرانية التي وقف فيها حافظ الأسد إلى جانب “الجمهوريّة الإسلاميّة” طوال ثماني سنوات. ذهب حافظ الأسد إلى حد العمل على تمكين إيران من الحصول على صواريخ بعيدة المدى، كانت تمتلكها ليبيا، من أجل قصف المدن العراقيّة، بما في ذلك بغداد والبصرة. يفسّر ما قدمه النظام السوري لإيران في عهدي حافظ الأسد وبشار الأسد كلّ هذا الحرص الإيراني على استعادة سوريا كما يفسّر تلك الحملة العراقية على أحمد الشرع، وهي حملة لا تقتصر على نوري المالكي، بل ليس مستبعدا أن يكون رئيس الوزراء الحالي محمّد شيّاع السوداني مباركا لها.

بات في الإمكان القول إنّ المنطقة كلّها دخلت مرحلة جديدة في ضوء خسارة إيران لسوريا. ثمة من يرفض تصديق ذلك وثمّة من بدأ يستوعب أنّ الهزيمة التي لحقت بـ”حزب الله” في لبنان على يد إسرائيل ما كان ممكنا أن تأخذ كلّ هذا البعد والحجم من دون سقوط بشّار الأسد ونظامه في سوريا. هذا يجعل في الأفق صورة تحتاج إلى أن تكتمل. لم تكن زيارة أحمد الشرع للسعودية، التي تلتها زيارة لتركيا، سوى خطوة أخرى على طريق اكتمال الصورة الجديدة للمنطقة تحت عنواني: التوازن الإقليمي الجديد وبداية النهاية للمشروع التوسعي الإيراني في الشرق الأوسط والخليج.

يبقى سؤال: هل في استطاعة إيران إعادة عقارب الساعة إلى الخلف في المنطقة العربيّة وفي سوريا تحديدا؟ الجواب أنّه سيكون على “الجمهوريّة الإسلاميّة”، التي ترفض إعادة النظر في مواقفها وسياساتها، الاهتمام الآن بالدفاع عن بقاء النظام واستمراره في عالم تغيّر مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

بالنسبة إلى سوريا نفسها، ستكون الأيام والأسابيع المقبلة فرصة لمعرفة هل يستطيع أحمد الشرع أن يكون في مستوى التنوع الذي تتميز به سوريا؟ الأكيد أنّ نوري المالكي وآخرين في العراق يستطيعون إعطاء دروس في كلّ شيء، خصوصا في مجال ممارسة التعصب المذهبي… لكن ليس في مجال التنوع وإدارته.

إعلامي لبناني

العرب

—————————

ظاهرة “الضفدع” في الثورة السورية/ ياسر القادري

4/2/2025

تداول ناشطون على مواقع التواصل في الأيام الماضية مقطعاً يُظهر اعتقال الأمن العام السوري للشيخ بسام ضفدع في الغوطة الشرقية، بتهمة العمالة للنظام البائد، ليدور بعد ذلك جدالٌ حول دور هذه الشخصية خلال الثورة السورية.. فما قصة الشيخ ضفدع؟ وما هي الظاهرة التي تُنسب إليه؟

في الأشهر الأولى من انطلاق الثورة السورية، اتخذت غالب الشخصيات العامة من مشايخ وتجار ومثقفين ووجهاء موقفها النهائي من الثورة؛ ففي حين بادر عدد من المشايخ والشخصيات العامة إلى الثورة باكراً، فتصدَّروا صفوفها وانخرطوا بين كوادرها، انحاز البعض الآخر إلى تأييد النظام بصورة سافرة. إلا أنَّ عدداً من الشخصيات تردد خلال السنوات الأولى من الثورة، ويمكن القول إنه -وبعد بدء معارك التحرير- حسمت جميع الشخصيات العامة خياراتها، وتموضعت في أحد الجانبين، أو لازمت الحياد السلبي على الرغم من وجودها في أحد الجانبين، حتى أصبح من النادر أن تجد تغيراً جذرياً في المواقف بعد عام 2013.

بعد التدخّل الروسي لإنقاذ نظام الأسد في أيلول 2015، شنَّت قوات الأسد حملات إبادة واجتياحات متتالية لعدد من المناطق الثائرة المحاصرة، اعتمدت خلالها على الغطاء الجوي الروسي، وعلى الزخم الميداني لمليشيا إيران، لتتمكن من السيطرة على مناطق الثورة تباعاً. هنا بدأت تظهر دعوات لرِدّةٍ صريحةٍ عن الثورة، وإعادة التماهي مع النظام، وتسهيل سيطرته على المناطق الثائرة، من خلال شخصيات عامة من مشايخ ووجهاء، تصّدروا المشهد وقادوا عملية الانقلاب على الثورة من داخل مناطقها، بالتنسيق مع الجيوش التي تجتاحها من خارجها، وهي الظاهرة التي صارت تُنسب فيما بعد إلى الشخصية الأبرز في هذا الدور.

“بسام ضفدع” أحد الوجوه المشيخية في بلدة كفر بطنا بغوطة دمشق الشرقية، درس الفنون الجميلة في دمشق، ثم درس العلوم الشرعية في معهد الفتح الإسلامي، وفي عام 2007 ترشَّح “ضفدع” لعضوية مجلس الشعب لكنه فشل في النجاح، ولما قامت الثورة السورية وجد “ضفدع” نفسه وسط بحر من الثوار، فقد كانت الغوطة الشرقية من أهم معاقل الثورة العتيدة، فغاب عن المشهد واعتزل الناس، واكتفى ببعض الحلقات الضيقة مع خلَّص طلابه.

شهدت الغوطة الشرقية خلال عام 2016 عدة حملات عسكرية، أدّت إلى تقليص مساحة الغوطة المحررة بعد خسارة الثوار للعديد من المناطق فيها، وفي هذه المرحلة بدأ “بسام ضفدع” يظهر مجدداً في ساحة التأثير، ولأنَّه كان مفتقداً للمصداقية لعدم مشاركته في الثورة، ولموقفه المشهور حين رفض أن يصلي على شهداء الجمعة العظيمة في نيسان 2011؛ فقد بحث “ضفدع” عن غطاءٍ يواري به نفسه، فصار يلقي الدروس ويحضر اللقاءات متدثراً بالهيئة الشرعية في دمشق وريفها دون أن ينتسب إليها، بعد أن حاول بعض مشايخ الهيئة احتواءه لمنعه من التشويش وإثارة الشبهات المتعلقة بأحقية الثورة، لكنه مع ذلك استمر بتجنّبه أي حديث عام عن الثورة!

بدأت روسيا في الثامن عشر من شباط 2018 اجتياحاً برياً على الغوطة الشرقية، هو الأعنف في تاريخ الثورة السورية، فقد سبق الاجتياح البري قصفٌ جويٌ مكثفٌ متواصل، تم خلاله ارتكاب أفظع المجازر بالأسلحة الحارقة والارتجاجية والكيماوية. عند هذه اللحظة خلع “ضفدع” لباس الدرويش وارتدى لباس الشيطان، ليقود انقلاباً على الثورة من داخل الغوطة، منتهزاً انشغال الثوار بالقتال على الجبهات لصدِّ الجيوش الغازية، ومستفيداً من حالة الفوضى التي سادت آنذاك، لتسهيل دخول قوات النظام السوري والاحتلال الروسي إلى الغوطة الشرقية.

ففي السابع من آذار تسرب مقطع صوتي له، وهو يطلب من الناس أن يرفعوا علم النظام في بلدات الغوطة، وأن يتظاهروا ضد الفصائل الثورية، ليخرج بعض الشبان في اليوم التالي ويرفعوا علم النظام في كفر بطنا وحمورية، ثم لم تلبث تلك الدعوات أن تحوّلت لمليشيا مسلحة، حيث التفَّ حول “ضفدع” العشرات، الذين سيطروا على مربع سكني في محيط بيته، لتنضم لهم مجاميع أخرى انشقت عن الثوار، بعد أن أقنعهم “ضفدع” بتعهّد النظام بعدم المساس بهم، وعدم سوقهم للخدمة الإلزامية خارج بلداتهم، وهو ما أوهن من عزائم الناس. عندئذ تحركت الفصائل العسكرية لاعتقاله، فدارت اشتباكات قتل خلالها العديد من الثوار قنصاً واغتيالاً، ليتم بعدها تطويق المنطقة وحصارها من الثوار.

مع وصول قوات النظام إلى المناطق السكنية من الجهة الشرقية للغوطة، بعد سيطرتها على المناطق المفتوحة، بدأت القوات الغازية تتكبد خسائر كبيرة بسبب انتقال المواجهة إلى أسلوب حرب المدن، هنا انتقل بسام ضفدع إلى المرحلة التالية بالتنسيق مع نظام الأسد؛ حيث بدأ هجومه من داخل كفر بطنا ليوقع الثوار بين فكَّي كماشة، وليكشف ظهر الثوار بفتح الطريق أمام قوات النظام من بساتين الزور، ليرتقي عشرات الشهداء، وليضطر الثوار -ومعهم آلاف المدنيين- إلى الانسحاب بصورة مفاجئة من بلدات جسرين وسقبا وكفر بطنا، قبل وقوعهم بالحصار، وأثناء هذه المذبحة كان ضفدع وأتباعه يهاجمون مقرات الثوار، ويسيطرون على مواقعهم.

بعد هذه الخيانة لم يبق أمام فصائل القطاع الأوسط من الغوطة الشرقية سوى التفاوض مع الروس، بعد أن تم حصارهم مع آلاف العائلات ومئات الجرحى في بلدتي عربين وزملكا، وجزء من حزة وعين ترما وجوبر، لتختم آخر فصول الصمود الأسطوري للثورة في الغوطة الشرقية بتهجير عشرات الآلاف من الثوار وعائلاتهم إلى الشمال السوري.

ظهر “ضفدع” عقب دخول قوات النظام إلى الغوطة منتشياً في تسجيلٍ مصورٍ، يخاطب فيه بشار الأسد قائلاً: “سيدي الرئيس؛ لكم الفضل في بناء الوطن وحمايتنا، كنا نتوقع أن النصر سيكون حليفكم وأنكم على حق وقد حصل”، معتبراً أن ما جرى في سوريا كان تحريضاً، وليس ربيعاً عربياً، بقوله: “كنا متمسكين برأينا، والأحداث أثبتت هذه الحقيقة”!

لا شك أنَّ “ضفدع” لم يكن السبب الرئيسي في سقوط الغوطة الشرقية، لكنّه كان أحد أبرز هذه الأسباب.. وهكذا بات مصطلح “الضفدع” سائداً في الأوساط الثورية، للدلالة على كل من يقوم بالخيانة أو بعملية “التسوية” مع النظام السوري للطعن بالثورة، وأصبحت هذه الظاهرة تُعرَّفُ على أنها اختراق النظام السوري أمنياً وعسكرياً واجتماعياً لفصائل ومجتمعات الثورة السورية، عن طريق شخصيات وواجهات وأعيان محلية، مهمتها قيادة خلايا نائمة تتحرك في الوقت المناسب لإمالة كفة الأمور لصالح الأسد.

لقد اعتبر نظام الأسد أن “ضفدع” بطل وطني بعد نجاح مهمته الموكلة إليه، فكان ملهماً للنظام الذي استلهم تجربته وكررها في مناطق أخرى، فلم يكد “ضفدع” يتم دوره الوظيفي في الغوطة حتى ظهرت “ضفادع” جديدة في مناطق أخرى، منها جنوب دمشق مثلاً، حيث ظهر “أنس الطويل” الذي كان إماماً في ببيلا ورئيساً للجنة المصالحة، للترويج لفكرة التسوية مع النظام السوري، والدعوة لحلٍّ سني-شيعي في منطقةِ احتكاكٍ اجتماعيٍ على أسس طائفية، وأحياءٍ محاصرة شهدت حصاراً خانقاً وظروفاً معيشيةً صعبةً، فاستطاع بها تياره الانتصار على حساب تيار الثورة، ليشهد جنوب دمشق مصيراً مماثلاً لمصير الغوطة الشرقية؛ الحافلات الخضراء لسكانه الذين هجروا إلى الشمال السوري، مقابل دخول النظام وإنهاء الوجود الثوري في جنوب دمشق.

لقد ترافقت هذه الظاهرة دائماً مع سقوط المناطق وتهجير أهلها، بالإضافة إلى غدر النظام بعدد كبير من أولئك الذين قاموا بالتسويات معه. وبالطبع لم تقتصر الظاهرة على المشيخات المحلية، فقد شملت إلى جانبهم وجهاء وتجاراً وقادة مدنيين وآخرين عسكريين، شكّلوا نواةً لشبكة يمكن إعادة تشكيلها تحت وطأة القصف الرهيب والأرض المحروقة، ما يسهل على هذه الشخصيات أن تقوم بدورها، وتقنع أعدداً متزايدةً من الناس للالتفاف حولها والانقلاب على الثورة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

عضو رابطة العلماء السوريين

          الجزيرة

———————————-

بين خطاب وخطابات!/ فراس السقال

4/2/2025

لقد قدم ديننا الفعل على الكلام، قال ربنا عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. وقال رسول الله ﷺ: “ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل”. حتى المنطق والعقل قدما العمل والإنجازات على الكلام والخطابات. ومع ذلك فخير الكلام ما قل ودل، وخير الكلام ما كانت الأعمال دليلا عليه وتصديقا له.

وقد أطل بالأمس القريب الرئيس أحمد الشرع، رئيس الجمهورية العربية السورية، بخطاب لشعبنا السوري بعد اختياره رئيسا رسميا لمرحلة انتقالية يوم الأربعاء 29/01/2025. وهذا هو اختصار كلمة الرئيس:

وجه الرئيس الشرع كلمة إلى شعبنا، مؤكدا أن سوريا تحررت بعد عقود الاستبداد، بفضل تضحيات الثوار والشهداء. وأعلن عن بدء مرحلة انتقالية تقوم على العدالة والمشاركة وبناء دولة قوية، كما شدد على ضرورة تحقيق السلم الأهلي، ومحاسبة مرتكبي الجرائم عبر عدالة حقيقية، واستعادة وحدة الأراضي السورية تحت سلطة واحدة. وأكد العمل على بناء مؤسسات جديدة خالية من الفساد، واقتصاد قوي يحسن المعيشة ويوفر فرص عمل؛ وأعلن عن تشكيل حكومة انتقالية، ومجلس تشريعي مصغر، وعقد مؤتمر للحوار الوطني، تمهيدا لوضع إعلان دستوري يؤسس لانتخابات حرة ونزيهة. واختتم بدعوة جميع السوريين للمشاركة في بناء سوريا جديدة، تقوم على العدل والاستقرار والازدهار، وتكون منارة للعلم والتقدم.

    المخلوع بشار فقد استمد شرعيته من الوراثة والقمع، ولم يعترف يوما بأن الشعب هو من يقرر، ولم يتحدث عن أي انتقال سياسي حقيقي، بل كان يرفض ذلك دائما

وللمقارنة بين خطاب الشرع وخطابات المخلوع بشار الأسد يتبين لدينا:

    من جهة اللغة والأسلوب: الشرع استخدم لغة مباشرة وبسيطة وصادقة وعاطفية، تميل إلى التواصل مع مختلف فئات الشعب، فيها معان وعبارات تحمل طابعا إنسانيا؛ فقد بدأ حديثه عن الجرحى والمهجرين والمعتقلين والشهداء، وأكد على تضحيات شعبنا. وقد لمست في خطابه التفاؤل والعزيمة والأمل في بناء مستقبل جديد.

أما خطابات المخلوع بشار الأسد، فقد كانت متكلفة مليئة بالإنشاء والاستطراد، كما كان يستخدم مصطلحات فضفاضة، مثل: (المؤامرة، الثوابت الوطنية، السيادة)، دون أي خطوات ملموسة. وكان يكثر الإنكار والتبرير، ويستخدم نبرة متعالية ومتعجرفة، تجعله منفصلا عن الواقع. وكانت خطاباته موجهة إلى أنصاره فقط، فكثرت فيها التهديدات الضمنية لكل من يخالفه ويعارضه.

    ومن الناحية القانونية والتشريعية: أوضح الرئيس الشرع أنه تسلم المسؤولية بعد مشاورات قانونية لضمان الشرعية، وأكد أن المرحلة انتقالية، ودعا إلى مشاركة جميع السوريين، ما يعكس رؤية شاملة وديمقراطية. وكذلك أعلن عن خطوات واضحة مثل حكومة انتقالية، ولجنة تشريعية، ومؤتمر للحوار الوطني، وإعلان دستوري.

أما المخلوع بشار فقد استمد شرعيته من الوراثة والقمع، ولم يعترف يوما بأن الشعب هو من يقرر، ولم يتحدث عن أي انتقال سياسي حقيقي، بل كان يرفض ذلك دائما. وكانت وعوده للمراوغة فقط، ككلامه المتكرر عن الإصلاحات لتخدير شعبه، وما هي إلا ادعاءات وهمية لم يسع لها أبدا.

    وبالنسبة للرؤية المستقبلية: فقد تحدث الرئيس الشرع عن سوريا جديدة، تقوم على العدل والشورى والاقتصاد القوي والمؤسسات النزيهة، وركز على الوحدة الوطنية، والقضاء على الفساد، وبناء مؤسسات حديثة؛ فهو يرى أن سوريا منارة للعلم والتقدم والرخاء، وقد دعا جميع أبناء سوريا للمشاركة في صنع المستقبل.

أما عن رؤية المخلوع بشار الأسد للمستقبل، فقد كان يرى أن سوريا بخير، و”سوريا الله حاميها”، رغم كل الدمار والفساد اللذين سببهما، وكان يكرر أن الوضع تحت السيطرة. ولم يتحدث عن إصلاح جوهري وعملي، بل كان يصر على أن النظام باق كما هو. وكذلك كان يربط استقرار الأوضاع في البلد ببقائه في السلطة، وبات يكيل الاتهامات للمعارضة بالسعي لتدمير سوريا وتعاونها مع الأعداء.

    لو أننا قمنا بعملية استقرائية أوسع من هذه للمقارنة بين خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع أمس، وبين جميع خطابات المخلوع الهارب بشار، لوجدنا فروقات كبيرة وكثيرة، هذا إن صحت المقارنة بينها

    وبالنسبة للتعامل مع الجرائم والفساد: فقد أكد الرئيس أحمد الشرع على تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاكمة المجرمين الذين ارتكبوا مجازر بحق السوريين. وتحدث عن مصالحة وطنية تقوم على العدالة والمحاسبة، وعدم الإفلات من العقاب.

أما المخلوع بشار، فقد كان ينكر أي جرائم ارتكبها نظامه وأتباعه، بل يبررها بحجج واهية، مثل “محاربة الإرهاب”. ولم يذكر أبدا أي محاسبة لمجرمي الحرب، بل كان يحميهم ويدعمهم ويقربهم. كما قال فرعون للسحرة: {قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين}. وكذلك لم يكن لديه أي حديث عن عدالة انتقالية، أو مصالحة حقيقية، إنما هي دعوات “للعفو” المشروط بالولاء المطلق لنظامه المجرم.

    وأما بالنسبة للشعب والثورة: فإن الشرع اعترف بتضحيات الثوار الأبطال، وحركة المتظاهرين، ودماء الشهداء، وآهات المعتقلين. واعتبر أن الثورة كانت حراكا شرعيا أدى إلى التحرر من الاستبداد. وخاطب جميع شعبه -وفيه المعارضة والمهجرون- ودعاهم للمشاركة في بناء الوطن.

بينما كان سفاح سوريا يسمي الثورة أزمة، مؤامرة، إرهاب، مندسين، سلفيين، وهابيين، إخوان، عملاء، عراعير… وينكر مشروعيتها، ويرفض الاعتراف بمعاناة الشعب، بل كان يتهمه بالخيانة إذا احتج أو طالب بالتغيير. ولم يكن يعتبر نفسه مسؤولا أمام الشعب بل فوقه، فالشعب بالنسبة له خادم له ولعائلته فقط.

    بناء الدول والحضارات وازدهارها، وعملية التطور والتمدن والتقدم للشعوب والبلاد، ذلك كله لا يحصل من خلال كلام وخطاب وأسلوب ونبرة وشخصية، بل يقوم على العمل الجاد الواضح، والإخلاص التام

ولو أننا قمنا بعملية استقرائية أوسع من هذه للمقارنة بين خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع أمس، وبين جميع خطابات المخلوع الهارب بشار، لوجدنا فروقات كبيرة وكثيرة، هذا إن صحت المقارنة بينها.

وأخيرا، فبناء الدول والحضارات وازدهارها، وعملية التطور والتمدن والتقدم للشعوب والبلاد، ذلك كله لا يحصل من خلال كلام وخطاب وأسلوب ونبرة وشخصية، بل يقوم على العمل الجاد الواضح، والإخلاص التام، والتضحية والمصداقية، والصبر والحب والعدالة والحرية، واستثمار الخبرات، ووضع كل حجر في مكانه الصحيح، والتعاون مع جميع فئات الشعب. ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:

ولا خير في قول إذا لم يكن له .. فعال فيصدقه بالموضع الفعل

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

أستاذ جامعي في جامعة تركية، ماجستير في العلوم الإسلامية والعربية

          الجزيرة

————————–

سوريا جديدة… وجيش جديد/ إبراهيم حميدي

أحمد الشرع وحل الفصائل المسلحة

آخر تحديث 04 فبراير 2025

بعد مرور نحو شهرين على إسقاط نظام الأسدين، بدأت تظهر ملامح سوريا الجديدة، حيث حدد أحمد الشرع، في أول خطاب بعد إعلانه رئيسا خلال المرحلة الانتقالية، برنامج المرحلة المقبلة وأولويات رئاسته.

ولا شك أن من أهم الأولويات، حل الفصائل المسلحة وتشكيل جيش سوري جديد. وعليه، اخترنا أن تكون قصة غلاف “المجلة” لشهر فبراير/شباط، عن الرئيس أحمد الشرع و”توحيد البندقية”. وهذه ليست مهمة سهلة في ضوء الواقع الميداني ووجود كتل عسكرية عديدة بعد 14 سنة من الصراع، وسط تدخلات خارجية وانتشار عسكري من قوى إقليمية ودولية بينها أميركا وروسيا وتركيا، إضافة إلى التوغلات الإسرائيلية في الجنوب.

في هذا العدد، نبدأ بتفسير مرجعية القرارات الكبرى التي اتُّخذت في “يوم النصر” 29 يناير/كانون الثاني. خلال الشهرين الماضيين، كان هناك رأيان إزاء الشرعية التي يجب أن تبنى عليها سوريا الجديدة:

ورأي آخر اقترح “الشرعية الثورية”، بحيث يجتمع قادة “هيئة تحرير الشام” والفصائل المسلحة التي أسقطت الأسد لاتخاذ قرارات كبيرة، تطوي صفحة نظام الأسد ومؤسساته وأجهزته، وتضع لبنات المرحلة المقبلة، وفي مقدمها إعلان الشرع رئيسا خلال المرحلة الانتقالية، وتكليفه بتشكيل هيئة تشريعية، تعلن دستورا مؤقتا، إضافة إلى تسمية لجنة تحضيرية للمؤتمر الوطني وتعيين رئيس للحكومة الانتقالية.

وبعد مشاورات، حُسم القرار باتجاه الخيار الثاني، وألقى الشرع- بصفته رئيسا- خطابا في اليوم التالي. وبعد ذلك توجه إلى السعودية في أول زيارة خارجية، ثم زار تركيا، بعد استقباله أمير قطر في دمشق، لتحديد خيارات السياسة الخارجية لسوريا الجديدة.

واقع الحال أن “يوم النصر” أعطى إشارات واضحة إزاء مواقف قادة الفصائل من الاندماج في الجيش و”توحيد البندقية”… في العدد، نرسم خريطة الفصائل المسلحة. عددها، انتشارها، هيكلتها، وموقفها من خطة وزارة الدفاع لتشكيل الجيش.

وفي مقابل تأييد معظم الفصائل لقيادة “الهيئة” وتصوراتها، فإن فصائل الجنوب بقيادة أحمد العودة أخذت موقفا مواربا، إذ إن العودة أرسل نائبه لتمثيله. كما أن قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لم يُدع ولم يشارك، ما ترك الباب مفتوحا أمام احتمالات كثيرة لمستقبل العلاقة سلما أو حربا بين “قسد” ودمشق. وهنا، نرصد التطورات الفكرية والعسكرية التي طرأت على “الهيئة” عبر سنوات من جهة، وتصورات ومواقف “قسد” من جهة ثانية.

وفي خضم الورشة التي تشهدها سوريا لمواجهة تحدياتها على أنقاض حكم الأسد، تسعى دول عربية وإقليمية لدعم القيادة الجديدة فيها، لأسباب سورية وأخرى إقليمية تخص ملء فراغ انهيار النظام السوري وخسارات حليفيه الروسي والإيراني. إذ تسعى موسكو لفتح علاقة مع الشرع للتفاوض على مستقبل الوجود العسكري الروسي في حميميم وطرطوس. أما طهران، فهي الخاسر الأكبر.

لا شك أن “الهلال الإيراني” تعرّض إلى ضربات، ولعل أبرز ضربتين هما: انهيارات “حزب الله”، وتلاشي نظام الأسد. وكان أحد التجليات اللبنانية لأفول “الهلال”، انتخاب الجنرال جوزيف عون رئيسا.

المجلة

——————————

خريطة الفصائل… عددها ومستقبلها/ عباس شريفة

هل يمكن صهر الفصائل في جيش جديد؟

آخر تحديث 04 فبراير 2025

انتهى المشهد العسكري في سوريا بعد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 إلى عدد من التشكيلات العسكرية التي تتقاسم السيطرة على الجغرافيا، فقد بدت إدارة العمليات العسكرية تسيطر على 60 في المئة، بينما لا تزال “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) تسيطر على شمال شرقي البلاد. وهناك فصائل متنوعة في درعا والسويداء ومنطقة التنف (الجنوب)، وفي الشمال هناك “الجيش الوطني السوري” التابع للحكومة المؤقتة و”الجبهة الوطنية” التابعة شكليا لـ”الجيش الوطني”، لكن بعد سقوط الأسد دعت إدارة العمليات بقيادة “هيئة تحرير الشام” لصهر الفصائل في جيش موحد تابع لوزارة الدفاع.

في “مؤتمر النصر” بدمشق يوم 29 يناير 2025 حضرت جميع الفصائل ما عدا “قسد” وفصائل السويداء، وخرجوا بقرارات مصيرية أهمها: تسمية أحمد الشرع رئيساً في المرحلة الانتقالية ما يعني أن هذه الفصائل باتت تشكل المشهد السياسي الانتقالي عبر الشرعية الثورية وليس فقط المشهد العسكري.

أولا: المشهد العسكري في الشمال

“الجيش الوطني السوري”

تشكيل عسكري يضم عددا من الفصائل المعارضة لنظام الأسد، تأسس عام 2017 بدعم تركي، وهدف إلى دمج جميع فصائل المعارضة السورية تحت قيادة واحدة. قاتل “الجيش الوطني” تنظيم “داعش” و”قوات سوريا الديمقراطية” في عفرين ورأس العين وتل أبيض، ويبلغ عدد أفراد “الوطني” نحو 29 ألف مقاتل بحسب التقديرات مع عدم وجود أعداد رسمية.

ويتشكل “الجيش الوطني” من ثلاث فيالق أساسية، وهناك هيكل تنظيمي لوزارة الدفاع التي يرأسها العميد حسن حمادة التابع للحكومة المؤقتة التي يرأسها عبد الرحمن مصطفى والتي تتبع بدورها “الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة”.

الفيلق الأول- “الجيش الوطني”

يبلغ عدد مقاتلي الفيلق الأول نحو 9 آلاف مقاتل وينتشرون في مناطق شمال حلب وعفرين ومناطق رأس العين وتل أبيض وجرابلس والباب. يقود الفيلق العميد معتز رسلان وكل فصائل الفيلق انضمت لوزارة الدفاع التابعة لدمشق وأبدت استعدادها للدخول في ترتيب وزارة الدفاع.

الفيلق الثاني- “الجيش الوطني”

يبلغ عدد الفيلق الثاني نحو 14 ألف مقاتل تقريبا وينتشر في مناطق الراعي وعفرين والباب ورأس العين. يقود الفيلق فهيم عيسى ويضم عددا من الفصائل كلها التقت بوزارة الدفاع في دمشق وأبدت رغبتها بحل نفسها ضمن الوزارة والترتيب والتنسيق معها.

الفيلق الثالث- “الجيش الوطني”

يبلغ عدد الفيلق الثالث التابع لـ”الجيش الوطني” نحو 6 آلاف مقاتل وينتشر في مدينة أعزاز ومحيطها ومدينة الباب ومارع في ريف حلب شمال سوريا.

اكسيل رانغل غارسيا/المجلة اكسيل رانغل غارسيا/المجلة

قائد الفيلق عزام الغريب وكل فصائله، أعلنت عن رغبتها في الانحلال ضمن وزارة الدفاع التابعة لإدارة دمشق دون أي تحفظ كما حضر كل قادته “مؤتمر النصر” الذي عقد في دمشق في 29 يناير/كانون الثاني 2025.

“الجبهة الوطنية للتحرير”

هي جماعة سورية مسلحة تابعة لـ”الجيش الوطني السوري” شكليا. أسست المجموعة في مايو/أيار 2018 من قبل 11 مجموعة في شمال غربي سوريا وتم الإعلان عنها رسميا في 28 مايو 2018. تم تعيين العقيد فضل الله الحجي، من “فيلق الشام” قائدا عاما للمجموعة، والرائد محمد منصور من “جيش النصر” رئيسا للأركان.

يبلغ عدد عناصر “الجبهة الوطنية” نحو 25 ألف مقاتل في محافظة إدلب وريف حلب الغربي وكل هذه الفصائل على تنسيق عال جدا مع إدارة العمليات وأبدت استعدادها للانحلال ضمن وزارة الدفاع في الإدارة الجديدة كما حضر كل قادتها “مؤتمر النصر”.

“هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها

تشكلت “هيئة تحرير الشام” في 28 يناير/كانون الثاني 2017، باندماج كل من “فتح الشام” و”حركة نور الدين زنكي” (التي انفصلت عنها لاحقا) و”جبهة أنصار الدين” و”لواء الحق”.

وكانت “الهيئة” مع حلفائها قد سيطرت على منطقة شمال غربي سوريا وأنشأت إدارة مدنية هي “حكومة الإنقاذ” واستغلت فترة وقف إطلاق النار من عام 2020 حتى عام 2024 في إنشاء ألوية عسكرية مقاتلة بلغت 18 لواء.

وخططت مع بعض الفصائل المتحالفة معها مثل “الحزب الإسلامي التركستاني” و”أجناد القوقاز” و”أنصار التوحيد” و”جيش العزة” و”صقور الشام” و”أحرار الشام” لعملية “ردع العدوان” التي انطلقت في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وانتهت بسقوط نظام الأسد ودخول إدارة العمليات العسكرية إلى دمشق يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2025.

واضح أن “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها هي الأكثر انضباطا واستعدادا لحل نفسها ضمن وزارة الدفاع التابعة للإدارة الجديدة في دمشق ومن دون أي تحفظ. كما حضر كل قادتها “مؤتمر النصر” في دمشق.

ثانيا: المشهد العسكري في منطقة الشمال الشرقي

“قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)

الهيكل والانتشار والعدد

تأسست في خريف 2015، وذلك في مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة، إحدى المناطق الحدودية في شمال سوريا التي تسكنها أغلبية كردية، وكانت المسرح الرئيس لعمليات “قسد”.

منذ البداية، عُرف عن “قسد” أنها مدعومة بشكل مباشر من الولايات المتحدة، وأنها تشكلت لتصبح الشريك المحلي لقوات التحالف الدولي المناهض لتنظيم “داعش”. فمنذ إعلان تشكيل التحالف في سبتمبر/أيلول 2014، عملت قواته على دعم مجموعات وهيئات مسلحة في سوريا والعراق.

ووفقا لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، كان الأكراد يشكلون 40 في المئة من “قسد”، بينما العرب يمثلون 60 في المئة في مارس/آذار 2017، رغم أن مصادر أخرى تشير إلى أن نسبة المقاتلين العرب كانت أقل من ذلك. ومع ذلك، هناك إجماع على أن القيادة في “قسد” تعود للعنصر الكردي.

القوى المشكلة لـ”قسد”

1-      “وحدات حماية الشعب”. وهي قوة مسلحة كردية وتشكل قواتها العمود الفقري لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، وهي قوات شُكّلت من قبل “الوحدات” وحظيت بدعم عسكري أميركي. وقد أنشئت “الوحدات” في سنة 2014 بوصفها الجناح المسلح لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي اليساري وهو الفرع السوري لـ”حزب العمال الكردستاني”ـ وتنتشر في مناطق مختلفة من محافظة الحسكة ويبلغ تعدداها التقريبي نحو 20 ألف مقاتل.

2-      “وحدات حماية المرأة”. وهي الجناح النسائي من “وحدات حماية الشعب” وتمثل جزءا من “قوات سوريا الديمقراطية”.

3-     “المجلس العسكري السرياني”. وقد نشأ في مدينة القامشلي ويقدر عدد مقاتليه بنحو 70 مقاتلا.

4-     “قوات الصناديد”. وهي قوة عشائرية من عشيرة شمر منتشرة في الحسكة ويبلغ عددها حوالي 2000 مقاتل يقودها نور حميدي الجربا.

5-     “ثوار الرقة”. وعددهم نحو 1500 مقاتل وهي قوة عشائرية من أهل الرقة أغلبهم من عشيرة الولدة يقودهم أحمد العثمان بن علوش المعروف بـ”أبو عيسى الرقة”.

6-      “المجلس العسكري لدير الزور”. ويبلغ عددهم 15000 مقاتل من عشيرتي العكيدات والبكارة يقودهم إياد تركي الخبيل.

المكون العربي في “قسد” لا يجمعه مع القوات الكردية فيها سوى الجغرافيا ومظلة الدعم الأميركي، وبالتالي فإن الرؤية السياسية للمكون العربي مختلفة تماما عن رؤية “وحدات حماية الشعب” التي ترفض حتى الآن الدخول إلى وزارة الدفاع إلا كجسم عسكري له خصوصيته المكانية والتنظيمية في شمال شرق الفرات وهو الأمر الذي ترفضه الإدارة الجديدة في دمشق.

لكن هناك الكثير من الضغوط على “قسد” والتي قد تدفعها للموافقة على الانضمام لوزارة الدفاع مثل الامتعاض العربي والتهديد بالاجتياح التركي واحتمال الانسحاب الأميركي من المنطقة إضافة لعدم تمثليها لكل المكون الكردي وسيطرة “الجناح القنديلي”، (أي قيادة “حزب العمال” في جبال قنديل). هذه الأسباب قد تدفع لحصول تفاهم بين الشرع وعبدي لحل مشكلة شرق الفرات وترتيب وضع “قسد” داخل وزارة الدفاع. لكن غياب “قسد” عن “مؤتمر النصر” اعتبر سلبيا.

ثالثا: المشهد العسكري في الجنوب السوري

فصائل درعا بقيت بعد التسوية مع روسيا على أثر الاجتياح الروسي لمحافظة درعا عام 2018، والاتفاق بين موسكو وواشنطن وعمان.

درعا

أهم الفصائل بعد 2018 ودخول روسيا للمنطقة بعد التسوية هو “اللواء الثامن” الذي يقوده أحمد العودة وكان يعمل مع “الفيلق الخامس الروسي”. اللواء ينتشر في بصرى الشام والحراك وخربة غزالة وهناك المجموعة الواقعة في المنطقة الشرقية لمحافظة درعا والمحاذية لمحافظة السويداء. يبلغ عدد الفصيل حوالي 800 مقاتل.

منذ إعلان وزارة الدفاع في الإدارة السورية الجديدة دعوتها لدمج الفصائل المسلحة ضمن جيش وطني موحد، لم يُظهر أحمد العودة استعدادا واضحا لتسليم سلاحه أو حل تشكيله العسكري والانضمام للإدارة الجديدة ولم يصرح برفض فكرة الانضمام لوزارة الدفاع أيضا.

في المنطقة الغربية هناك “اللجان المركزية” وهم “جماعة أحرار الشام” سابقا يقودهم أبو حيان حيط والذي يسيطر على المنطقة الغربية بشكل كامل من نوى إلى طفس إلى اليادودا إلى منطقة حيط ومزيريب الذي عمل سابقا مع “الأحرار”. وهناك “جيش المعتز”، يقودهم أبو مرشد بردان موجودون في طفس ومجموعات صغيرة تابعة لهم. وهناك فصائل درعا البلد وإن كانت فصائل صغيرة لكن لديهم سلاحا ثقيلا وبينهم تكتل وتضامن وتنسيق جيد.

اكسيل رانغل غارسيا/المجلة اكسيل رانغل غارسيا/المجلة

يعتبر الجنوب من أكثر المناطق القلقة رغم تمدد إدارة العمليات العسكرية إلى درعا واستلامها للمخافر هناك ولمؤسسات الدولة، أغلب هذه الفصائل لا يرغبون في دخول مواجهة مع إدارة العمليات العسكرية و”هيئة تحرير الشام”. ويبدو أن الامتناع عن الدخول في وزارة الدفاع من قبل “اللواء الثامن” هو لتحسين شروط التفاوض مع الإدارة الجديدة وعدم رضا البعض عن الشخصيات التي أرسلتها إدارة العمليات إلى درعا. ومع ذلك حضرت جميع فصائل درعا “مؤتمر النصر” في دمشق حتى أحمد العودة أرسل نائبه للمؤتمر.

السويداء

أهم الفصائل في السويداء: “رجال الكرامة” بقيادة الشيخ بوحسن يحيى الحجار، و”قوات شيخ الكرامة” بقيادة ليث البلعوس، و”تجمع أحرار الجبل” بقيادة الشيخ سليمان عبد الباقي، و”قوات مكافحة الإرهاب” كانت سابقا ذراع “حزب اللواء” مالك أبو خير وأعلنوا انفصالهم عنه ولكن ليس مؤكدا أن الانفصال فعلي حتى الآن.

وهناك “لواء الجبل” قائده السابق كان مرهج الجرماني الذي اغتيل ولم يسمَّ قائد بديل عنه حتى الآن. وهناك “قوات العليا” في صلخد والريف الغربي تابعة لـ”لواء الجبل”.

 تعداد هذه الفصائل غير معروف خصوصا أن الحالة الفصائلية في السويداء هي ظاهرة اجتماعية لحماية المنطقة وهذه الفصائل منتشرة في السويداء ومناطق في دمشق مثل جرمانا وصحنايا (في ريف دمشق) لحماية المناطق ذات الأغلبية الدرزية ورد اعتداءات تنظيم “داعش” ومواجهة الموالين للنظام السوري.

جميع هذه الفصائل يرفعون علم الثورة ويتبنون أهدافها وهم يتبعون المرجعية الروحية لشيخ العقل حكمت الهجري.

لكن حتى الآن ترفض هذه الفصائل الانضمام إلى وزارة الدفاع وتسليم السلاح رغم أن البعض منها زار دمشق والتقى بالقيادة الجديدة مثل سليمان عبدالباقي، لكن الشيخ الهجري أعلن رفضه الدخول في وزارة الدفاع قبل كتابة الدستور الذي يضمن حقوق السويداء وتشكيل الدولة المدنية كما اشترط أن يكون الجيش جيشا وطنيا غير فئوي، كما شكل غياب فصائل السويداء عن “مؤتمر النصر” علامة استفهام حول موقفها، خصوصا أن الدعوات وصلت لهم من إدارة دمشق.

البادية والتنف

“جيش سوريا الحرة”

في عام 2015، ظهر لأول مرة ما يعرف بـ”جيش سوريا الجديد”، أو “جيش مغاوير الثورة”، بدعم وتدريب أميركي وأردني، بهدف محاربة “داعش” وقوات النظام السوري وكذلك مواجهة التحركات الإيرانية في سوريا٬ متخذا من “قاعدة التنف” الأميركية الحدودية مع الأردن والعراق مركزا له.

ترجح تقديرات مختلفة بأن أعداد مقاتلي “جيش سوريا الحرة” هو 2500 من المقاتلين من أبناء العشائر في تلك المنطقة، والذين يتم تدريبهم من القوات الأميركية بشكل مستمر. وفي عام 2022 تم إطلاق اسم “جيش سوريا الحرة” على الفصيل مع تعيين قائد جديد له هو فريد قاسم الذي تم عزله عام 2024 وتم تعيين سالم العنتري بدلا منه، وهو الرجل الذي يقود الفصيل حتى اليوم.

عقد “جيش سوريا الحرة” عدة لقاءات مع الإدارة الجديدة ومع وزير الدفاع مرهف أبو قصرة وتم الاتفاق النهائي على تبعية “الجيش” لوزارة الدفاع والإدارة الجديدة في دمشق، وحضر قادة التشكيل “مؤتمر النصر” وأيدوا كل مخرجاته.

خلاصات

من الواضح أن الإدارة الجديدة في دمشق وعلى رأسها “الهيئة” ستواجه الكثير من التحديات لصهر المجاميع العسكرية ضمن منظومة عسكرية دفاعية موحدة وعقيدة قتالية وطنية واضحة والانتقال من مشهد فصائلي معقد ومثقل بالحمولات والسرديات إلى منظومة جيش وطني موحد، وبالتالي فإن عملية التحول لن تكون سهلة خصوصاً مع “قوات سوريا الديمقراطية” التي تتبنى مشروعا سياسيا مختلفا وربما بشكل أقل فصائل الجنوب.

 أما في حالة “الجيش الوطني” و”الجبهة الوطنية”، فمن الواضح أن الطريق سيكون أسهل خصوصا أن الداعم التركي في الشمال وجههما للترتيب مع دمشق.

 بالعموم فإن كل الفصائل المقاتلة تبدي استعدادها ورغبتها التامة للانخراط ضمن وزارة الدفاع والدولة الجديدة لكن ضمن اشتراطات سياسية تضمن للبعض الخصوصية القومية أو الدينية وهو ما ترفضه الإدارة الجديدة حتى الآن. لكن من المتوقع أن تفرض الإكراهات السياسية والجغرافية والخوف على المصير جميع الأطراف على تقديم التنازلات في سبيل إتمام المشروع، خصوصا إذا تبددت المخاوف لدى الأطراف المتحفظة.

المجلة

————————

الميليشيات… قوى متقلبة في دول ممزقة/ ستيف هويت

وترمز الميليشيات إلى حقبة سبقت نشوء الدول القوية وكل ما يرتبط بها

آخر تحديث 04 فبراير 2025

الميليشيات تعود إلى الواجهة مجددا مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا على يد قوات المتمردين التابعة لـ”هيئة تحرير الشام”(HTS) في ديسمبر/كانون الأول. يثير هذا الحدث تساؤلات عديدة حول مستقبل استقرار البلاد. إذ تسيطر ميليشيات كثيرة، بما في ذلك تلك التي يديرها الأكراد، على مناطق مختلفة من سوريا. لكن ما هو النمط التاريخي المرتبط بالميليشيات؟ هل تمثل هذه الكيانات قوة للاستقرار داخل الدولة، أم إنها تشكل تحديا جوهريا لاستقرارها؟ السجل التاريخي معقد، ولكنه يشير إلى نمط متكرر بازدهار الميليشيات في فترات ضعف السلطة المركزية أو غيابها.

ترمز الميليشيات إلى حقبة سبقت نشوء الدول القوية وكل ما يرتبط بها، بما في ذلك الجيوش النظامية. وتستند ولاءات الميليشيات إلى روابط القرابة أو فئات اجتماعية أخرى، وليس إلى الدولة الوطنية. ومن خلال القوة العسكرية، غالبا ما تتحدى قوات الدولة القائمة، لكنها في أحيان أخرى تخدم مصالح الدولة، سواء بتعزيز الأمن الداخلي أو تحقيق مصالح خارجية.

الميليشيات، مصطلح مشتق جزئيا من الكلمة اللاتينية التي تعني “الجندي”، تحمل في طياتها تاريخا طويلا يمتد عبر قرون. يمكن تتبع جذورها إلى مقدونيا في القرن الخامس قبل الميلاد، حيث ظهرت ككيانات عسكرية تطورت بمرور الزمن. في أوروبا خلال العصور الوسطى، أصبحت الميليشيات جزءا أساسيا من الحياة اليومية، حيث كان القادة المحليون يفرضون على الرجال البالغين القادرين على القتال أداء الخدمة العسكرية لفترات محددة.

في بريطانيا، قبل عام 1066، برزت ميليشيا “فيرد” خلال الحقبة الأنغلوسكسونية، وكانت وظيفتها الدفاع عن البلاد ضد غارات الفايكنغ. ومع ذلك، شهدت العصور الوسطى بداية تراجع دور الميليشيات مع صعود الجيوش المحترفة، وهو اتجاه تعزز عبر القرون، خاصة في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع ظهور الدول الحديثة التي عززت من تنظيمها العسكري.

ورغم هذا التراجع التدريجي، لم تختفِ الميليشيات بالكامل، بل استمرت في لعب أدوار محورية في محطات تاريخية مفصلية. على سبيل المثال، خلال الثورة الأميركية (1775-1783)، كان للميليشيات دور رئيس في مقاومة الاستعمار البريطاني. في أميركا الاستعمارية، ظهرت الميليشيات بداية كتنظيمات محلية في البلدات، ثم تطورت إلى تشكيلات أكبر على مستوى المقاطعات. وقد كان من الصعب على المستعمرين تحدي الملك جورج الثالث وقوة بريطانيا العظمى دون تدخل هذه الميليشيات، خاصة في المراحل الأولى من الصراع، حين كانت القوات القارية الأميركية تفتقر إلى التدريب والتجهيز الكافيين. ومن بين أبرز المجموعات التي شاركت في تلك الحقبة، برزت ميليشيا “مينوتمن”، التي لعبت دورا جوهريا في السنوات الأولى من الكفاح الأميركي ضد البريطانيين.

شهد القرن العشرون تحولات جوهرية في الحروب، إذ أصبح الاحتراف العسكري سمة بارزة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومع ذلك، استمرت الميليشيات في الظهور بأدوار جديدة في سياقات الاضطراب، لا سيما خلال فترات إنهاء الاستعمار وإعادة تشكيل الدول القومية في أعقاب الحربين العالميتين، ثم مع نهاية الحرب الباردة. وظلت هذه التشكيلات العسكرية فاعلة في الكثير من النزاعات التي أعادت تشكيل المشهد السياسي العالمي.

برز “حزب الله” كواحد من أبرز الميليشيات في العصر الحديث، نتيجة للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والذي استهدف منظمة التحرير الفلسطينية  وزعيمها ياسر عرفات. نشأ “حزب الله”، بدعم مباشر من الحكومة الإيرانية، ليمثل شريحة واسعة من السكان الشيعة في لبنان، وأُعلن عن وجوده رسميا في عام 1985 كتنظيم متعدد الأوجه يجمع بين الأدوار السياسية والعسكرية.

ورغم انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، تمكن “حزب الله” من الحفاظ على ميليشيا  تطورت لتصبح قوة عسكرية تضاهي الجيش اللبناني. وقد برز دوره العسكري بشكل لافت خلال حرب عام 2006 مع إسرائيل، حين خاض مواجهة استمرت شهرا كاملا، أظهر خلالها مقاتلو “الحزب” صمودا أمام الجيش الإسرائيلي، مما عزز مكانته كقوة إقليمية فاعلة.

مع تزايد قوته العسكرية، توسع نفوذ “حزب الله” إلى ما يتجاوز الحدود اللبنانية. فقد أرسل مقاتليه لدعم نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، في خضم النزاع الداخلي الذي اندلع عام 2011 على خلفية أحداث “الربيع العربي”. وقد ساهمت هذه التحركات في تعزيز مكانة “الحزب” العسكرية والإقليمية، لكنها في الوقت نفسه جعلته هدفا رئيسا لإسرائيل. وخصصت إسرائيل موارد كبيرة لاستهداف “حزب الله”، وهو ما أدى إلى إلحاق أضرار كبيرة بالبنية العسكرية للحزب، لا سيما خلال العمليات الأخيرة.

لم تقتصر الاضطرابات التي تزدهر فيها الميليشيات على لبنان وحده، بل امتدت لتشمل مناطق أخرى مثل يوغوسلافيا السابقة والسودان وسوريا. وأدى تفكك يوغوسلافيا السابقة عام 1991، بالتزامن مع نهاية الحرب الباردة، إلى إطلاق موجة واسعة من الأنشطة الميليشياوية القائمة على أسس عرقية، شملت قوى صربية وكرواتية ومسلمة. تمتلك تلك المنطقة تاريخا طويلا مع أنشطة الميليشيات، أبرزها خلال الحرب العالمية الثانية، حيث انخرطت جماعات عسكرية متعددة تعكس الانقسامات العرقية والسياسية العميقة في صراعات إلى جانب أطراف الحرب.

مع انهيار يوغوسلافيا، اندلعت صراعات عرقية مسلحة شاركت فيها الميليشيات بفاعلية، وارتُكبت خلالها فظائع واسعة النطاق. استمر دور الميليشيات لاحقا في النزاع حول إقليم كوسوفو بين عامي 1998 و1999.

ومؤخرا، شهد السودان نزوح ملايين الأشخاص نتيجة الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 2023. وتُعد “قوات الدعم السريع” الخصم الرئيس الذي يقاتل الجيش السوداني في هذا الصراع. تأسست هذه القوات عام 2013 على يد عمر البشير، رئيس السودان آنذاك، كقوة لمكافحة التمرد تستهدف الجماعات الانفصالية في إقليم دارفور.

وعلى مر السنوات، نمت “قوات الدعم السريع” في القوة والنفوذ، متجاوزة دورها الأصلي كمجرد قوة أمنية، لتتحول إلى كيان عسكري قوي يهدد بقايا الدولة السودانية.

والولايات المتحدة تقدم نموذجا فريدا ينبثق من إرثها التاريخي والأسطوري. خلال الثورة الأميركية، لعبت الميليشيات الشعبية دورا رئيسا في مقاومة الحكم البريطاني، ما رسّخ صورة الميليشيات كجزء من الهوية الوطنية. في العقود الأربعة الماضية، شهدت أميركا نموا  ملحوظا  للميليشيات اليمينية  المتطرفة، مستفيدة من هذا الإرث التاريخي. وبرزت هذه الجماعات بشكل لافت عام 1995، بعد تفجير مدينة أوكلاهوما الذي أودى بحياة 168 شخصا. وتبيّن أن المسؤولين عن الهجوم حضروا اجتماعات جماعة تعرف باسم “ميليشيا  ميشيغان”.

وأظهرت أنشطة  الميليشيات نمطا متذبذبا يعتمد على الأحداث السياسية الداخلية. فخلال الإدارة الأولى لترمب، حظيت الميليشيات اليمينية المتطرفة، مثل “حراس القسم” و”الثلاثة في المئة”، باهتمام غير مسبوق في أميركا، حيث تُعد حيازة الأسلحة حقا وليس امتيازا. وقد استمدت المجموعة الأخيرة اسمها من الادعاء المشكوك فيه بأن ثلاثة في المئة فقط من المستعمرين الأميركيين حملوا السلاح ضد البريطانيين خلال الثورة الأميركية.

يُظهر النمط التاريخي للميليشيات أنها تمثل عرَضا أكثر من كونها سببا لعدم الاستقرار. فالميليشيات تنشأ عادة في ظل غياب السلطة المركزية أو ضعفها أو فقدانها للشرعية. هذه الديناميكية تنطبق بشكل كبير على السياق السوري اليوم. فاستمرار وجود الميليشيات القوية هناك يُعد مؤشرا واضحا على عمق الانقسامات الداخلية.

المجلة

————————–

حماة 82: أربعة مشاهد: تَذكُّر من أجل طيّ صفحة الماضي بالعدل/ رولا الركبي

        المشهد الأول

03-02-2025

        أصوات الرصاص تَصمُّ الآفاق، صدى الصراخ، أو كما نقول بالحموي «ولاويل»، يكاد يفجّرُ الحجر. من نافذة المنزل، وبمعونة منظار بعدسةٍ مكبّرة، أحد الأدوات القليلة التي امتلكها العُزَّل وسط المعركة الدامية، ظهرت خيالات مسلحين يجرّون جثة شاب، تسيل دماؤه مُحوِّلة رُخام الدرج الأبيض إلى لون أحمر مسوّد. كان صوت ارتطام رأسه بالرخام البارد أقوى من صوت الرصاص. دقائق، ثم اختفى وكلاء الموت، وأخذوا معهم جثة كرم، ابن السادسة عشرة، الرياضي المتفوق في دراسته، الشاب الوحيد في منزل مأهول بالنساء الشجاعات. صوت أمه مزَّقَ ظلام الليل، مرفقاً بهدير ماء غريب. خرج الجيران، تقدَّموا بضع خطوات، ثم توقّفوا مذهولين: كانت أمه وخالاته يغسلنَ درج المنزل، يُزلنَ آثار دم ولدهنَّ بالماء والدموع الغزيرة.

        المشهد الثاني

        انتشر الجنود على أسطح كتف الشْريعة، وبدأوا بتفتيش المنازل المطلة على البساتين، مقتنعين بأن هذه المنازل تؤوي الثوار. لم تستطع عمتي النوم في تلك الليلة، فقد سمعت حركة غريبة قرب سور البيت. ومع أول خيوط الفجر، تدثرت بشالها الصوفي وخرجت لترى ما يجري. كان هناك خط مُتعرِّجٌ من الدم يمتد من طريق البساتين حتى باب منزلنا، وعلى العتبة كوفية مغطاة بالدم. أصابها الذعر: ماذا لو كان أحدهم قد تسلّل إلى الحديقة؟ أيقظت جميع من في المنزل، لم يكن هناك رجال؛ فإما معتقلون أو قتلى. أما أبي فقد أقام في مشفاه ولم يغادره حتى انتهاء الحصار. كانوا أربع نساء بالغات، صبية في الخامسة عشرة، وطفلة في السادسة. بدأنَ بتفتيش المنزل، بحثاً عن أي أثر. وعندما لم يعثروا على شيء، قرّرت عمتي شطف الرصيف وإزالة آثار الدماء قبل أن يعود الجنود.

        في المساء، عاد الجنود وقرروا التخييم أمام المنزل. كانوا يطرقون الباب طالبين بعض الطعام، إذ كانوا جياعاً مثل باقي سكان المدينة. وكانت نساء المنزل يقتسمنَ معهم ما تبقى من المؤن. وفي إحدى جولات التفتيش، لمح أحد الجنود صبية جميلة خلف الباب، فسألها إن كانت مخطوبة، فأجابت بالنفي. ابتسم بعينين تلمعان وقال: «شو، الشباب ما عندهم نظر ببلدكم؟».

        اجتمعت النساء مجدداً واتخذنَ قراراً سريعاً: يجب أن تغادر أمي مع ابنتيها فوراً، قصصُ الاغتصاب كانت مفجعة، تمت بعض الاتصالات، وقرَّرنَ السير مع الفجر إلى الجسر المؤدي إلى طريق السلمية، حيث يمكنهنَّ تدبّر أمرهنّ. تلحّفت أمي وبناتها بملاءات سوداء، وخرجنَ في عتمة الليل والصقيع، وأصواتُ الرصاص تلاحق خطواتهن.

        المشهد الثالث

        أوقفَ الجنود رجالَ وشباب حيّ الدباغة المتواجدين داخل منازلهم عند حائط البناء، وأطلقوا النار عليهم دون أن يسألوهم عن أسمائهم وهوياتهم، رموا الجثث في دكّان مقابل. بعد أيام، سمع أحد المارة أنيناً من الداخل، فاقتربَ بحذر وسط رائحة الموت التي ملأت المكان. ناداه صوت واهن، طالباً منه الاتصال بالدكتور فيصل ليخبره أن أخاه ما زال حياً.

        كانت المدينة ما تزال تحت حظر التجول. طلب والدي سيارة إسعاف لنقل عمي، وبعد مفاوضات طويلة، تمكَّنَ من إرسال دبابة إلى المكان. حملته إلى مشفى حمص، حيث تبين أنه نجا بأعجوبة رغم بقائه في الدكان لأيام بلا طعام أو علاج، ظل حياً بفضل ماء كان يتسرب من العلية، لكنه لم يكن قادراً على الحركة بسبب إصابة ساقه. بعد انتهاء الحصار، عاد عمي إلى البيت بساق واحدة، إذ اضطروا لبترها بسبب الغرغرينا. أمضى بقية حياته يصارع شبح الألم في ساقه المبتورة.

        المشهد الرابع

        اصطفّت وردة ونساء الحي أمام أبواب بيوتهن المفتوحة، وبدأنَ (بالزلاغيط) فور سماعهنَّ خبر وفاة باسل الأسد في حادث سيارة. وردة فقدت سبعة شباب اعتُقلوا فيما سُمي بالخميس الأسود، حيث تم رميهم في خندق وتصفيتهم جميعاً. لم تصدق خبر استشهادهم، وبقيت متعلقة بحبل الأمل. كانت تصلها أخبار كاذبة عن أن أحدهم شوهد في سجن تدمر. قضت السنوات الأخيرة من حياتها متنقلة بين القرى والمدن بحثاً عن أبنائها، تدفع القليل ممّا تجنيه من خدمة المنازل مقابل أي معلومة يمكنها الحصول عليها، وعندما سمعت بوفاة باسل، بعد اثني عشر عاماً، خلعت السواد مع نساء مكلومات مثلها، رغم أنهنَّ لم يستلمنَ جثامين أحبائهن أو أي وثيقة رسمية تؤكد وفاتهم. لكن شعورهن بأن «الله يمهل ولا يهمل» كان برداً وسلاماً على قلوبهن.

        لم تستطع وردة المسامحة ولا النسيان. لم يُحاكَم أي مجرم، لم يَعرف أحدٌ الحقيقة، لم يعتذر منهم أحد، ولم تعوضهم السلطات عن الأذى النفسي والمادي الذي حلَّ بهم. هُمِّشت المدينة، وصار كل حموي وحموية إرهابياً حتى يثبت العكس.

        لم أكن في حماة حينها. تابعتُ القليل من الأخبار عبر أصدقاء خارج المدينة، إذ قُطعت الاتصالات بالكامل، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة. لم تتمكن وسائل الإعلام من التواجد بسبب الحصار، كان القلق والخوف موجعَين. بعد شهرين، زارني أهلي في الرياض، وبرفقتهم أختي الصغيرة كنانة، التي عايشت المجزرة. أتذكرُ انكماشها وخوفها، كانت طفلة جميلة تروي القصص وتبتكر الشخصيات من وحي العائلة. عبر عينيها، فهمتُ معنى الخوف وحقيقة ما جرى.

        * * * * *

        مع بداية حكم بشار الأسد، ذهب وجهاء المدينة للقائه، مُقترحين طيَّ صفحة حماة 82 والبدء من جديد، بشرط الاعتذار وجبر الضرر. رفض قائلاً: «أنا بشار الأسد، ولست حافظ، وما حصل لا علاقة لي به». لكن الأقدار شاءت أن تقع الثورة في عهده، ويُعيد ارتكاب المجازر بحق الشعب السوري على امتداد البلاد.

        تأخرت حماة في التظاهر، فجراحُها لم تندمل بعد. اجتمعَ عقلاء المدينة وما تبقى من قياداتها السياسية، وقرروا تبني أي حراك سلمي يقوم به الشباب، شريطة عدم استعمال السلاح داخل المدينة، من يريد حمل السلاح فليخرج منها، المدينة أخذت نصيبها من التوحّش؛ وهكذا كان. شهدت المدينة أكبر تظاهرات سلمية مُنظَّمة عمّت سوريا.

        اليوم تشهد سوريا بداية حقبة جديدة، ومن المؤكد أن الطريق طويل وصعب كي نصل إلى دولة المواطنة، ودستور ديمقراطي عصري. تركةُ الدولة الوحشية ثقيلة جداً، من خراب البنى التحتية إلى خراب المنظومات الاجتماعية والعائلية والثقافية الناظمة للمجتمع، الفقر والحصار الاقتصادي، الفكر الشمولي وما يتبعه من فساد؛ لكنها فُرصتنا نحن السوريين والسوريات لبناء وطن حر ديمقراطي مُوحَّد، يقوم على العدالة والتشارُك، وهذا يستلزم إطلاق مسار العدالة الانتقالية كي نُعيد لحمة المجتمع، ويستلزمُ محاسبة الجناة حتى لا نسمح بتكرار ما جرى، وحتى لا يصبح السوريون والسوريات استنساخاً لوردة التي رحلت عن هذا العالم بحسرةِ عدم معرفة الحقيقة؛ رحلت وردة وبقي مصير أولادها السبعة في غياهب أقبية المخابرات والظلم.

موقع الجمهورية

——————————

لماذا يختلف التعاطي مع العدالة خلال فترات التحولات الكبرى؟: الالتفات إلى الوراء (1)/ مصطفى حايد

04-02-2025

        ملاحظة الكاتب: تم استخدام النجمة الجندرية (*) للإشارة إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المُستخدمة في هذا المقال.

         *****

        بينما أشاهد وأسمع وأقرأ وأتحدثُ مع الأصدقاء* عن ماضينا الرهيب وحاضرنا المفتوح على كل الخيارات، تَحضرُني قصيدة غونتر غراس «لا تمضِ إلى الغابة»، وتحديداً عبارتها الختامية «لا تلتفت إلى الوراء…». فغالباً ما نسمع هكذا نصيحة، «لا تطلّع لورا»، حين نخرج من علاقة ما أو عمل ما أو مأساة. تنطلق هذه النصيحة من مبدأ أن المضي إلى الأمام يتطلّب عدم الالتفات إلى الوراء لأنك «ستَعلَقُ» في ذلك الماضي.

        اليوم، ونحن على أبواب المضي إلى الأمام في سوريا، بدأ البعضُ بالحديث عن المستقبل من مبدأ فكِّ ارتباطه بالماضي، وهو مبدأ مصيبٌ في جزء منه. لكننا لا نتعامل هنا مع ماضٍ «بينتسى» ليكون الفيل الذي سيراه كلّ مَن في الغرفة باستثنائنا، لذلك سأتحدث في هذه السلسلة من المقالات الخمس عن ضرورة الالتفات إلى الوراء، والتعلُّم من البلدان التي التفتت إلى الوراء ثم مضت إلى الأمام، كما عن تلك التي علقت في ورائها وراكمت المزيد منه.

        * * * * *

        تواجه سوريا اليوم تركةً ثقيلة تمتدُّ لأكثر من خمسة عقود من الجرائم الكبرى والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وعلى البلاد، التي تنتظر مستقبلاً بسيناريوهات تتوزع أطيافها بين إمكانية تحول جذري نحو الحريات والحقوق أو فصل دموي آخر واحتكار جديد للسلطات والحريات، أن تواجه خياراتها العديدة الممتدة ما بين الصفح والمُساءلة أو عدم فعل أي شيء.

        وأياً يكن السيناريو الذي ستتخذه البلاد، سيُسهم التعاملُ مع هذه التركة بشكل جوهري في تشكيل مستقبلها وإعادة سرد ما حصل، أملاً في معرفته والإقرار به والتعامل معه لتفادي حدوثه مجدداً، أو لتجاوزه والتعامل مع تبعاته.

        ربما يبدو مصطلح العدالة الانتقالية مبهماً أو معقداً حين نتحدث عنه، لكنه في جوهره ليس أكثر من محاولة لفهم الماضي بكل ما فيه من آلام، والعمل على شفاء الجراح. هذا بالضبط ما تحاول المجتمعات فعله عندما تنتقل من أزمنة ظالمة إلى مستقبل أكثر عدلاً.

        العدالة الانتقالية مصطلحٌ هجين، حديثُ العهد، يشيرُ إلى عملية متكاملة وشاملة تهدف إلى تحقيق العدالة خلال فترات التحوّل الكبيرة في البلدان. كما هو الحال في سوريا، التحول من «سوريا الأسد» إلى «سوريا للجميع». وبسبب التعقيدات التي تحدث في هكذا تحولات كبرى، وأيضاً بسبب حجم وطبيعة الانتهاكات والجرائم، وكذلك الأعداد الكبرى لمُرتكبيها وضحاياها، فإن المقاربة التقليدية للعدالة في التعاطي مع هذه الجرائم، خلال وقت حسّاس وهشّ من عمر البلاد، لن تكون كافية أو فعالة، مما يتطلّب خليطاً فريداً من الأدوات والآليات، سواء كانت قضائية أو غير قضائية، التي تستخدمها الدول لمعالجة هذا الإرث الضخم من الجرائم والانتهاكات الجسيمة. وقد تشمل هذه الآليات المحاكمات، أو لجان الحقيقة، أو حتى برامج التعويض والإصلاح، وكذلك نزع السلاح والتسريح وسواها. وإذا نظرنا إلى هذه العملية من حيث النتائج، نجدها تشمل المحاكمة والعقاب (كالمُساءلة والمحاسبة والتسريح) والتكريم (كالتعويض والاعتذار وجبر الضرر) والتعافي (كلجان الحقيقة وتخليد الذكرى والغفران وإصلاح المؤسسات ونزع السلاح).

        هناك شعوبٌ كثيرة مرّت بتجارب مأساوية مشابهة، ودخلت في مراحل انتقالية مُقارِبة لما نحاولُ القيامَ به اليوم. بلدانٌ كثيرة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ووسط أوروبا. وبالتالي ليس علينا كسوريين* إعادة اختراع العجلة كلّها هنا، وإنما إعادة تشكيلها بما يتناسب مع تركتنا ومواردنا أولوياتنا. ولكن رغم ذلك، لا يجب أن ننظر إلى عملية العدالة الانتقالية كوصفة جاهزة. هي أشبه بمائدة مستديرة يجتمع حولها المجتمع، وكل شخص يضع* على الطاولة ما يراه* ضرورياً للشفاء: البعض يطالب* بالمساءلة، والبعض الآخر بالمصالحة ونسيان الماضي، وآخرون* يبحثون* عن اعتراف بالماضي ومحاسبة مُجرميه.

        مهما تكن الإجراءات التي «نقرّر» اتخاذها، ونون الجماعة هنا هي في غاية الأهمية لأن فاعلية هذه العملية تكمن في كُليتّها وشمولها، فعلينا ضمان أن ما سنقوم به سيكسرُ دورات العنف والانتقام، ولكن أيضاً الإفلات من العقاب.

        في سيراليون، على سبيل المثال، جمعت الدولة بين المحاكم الخاصة لمعاقبة المسؤولين عن الجرائم الكبرى، وبين لجان الحقيقة التي سمحت للضحايا بسرد قصصهم في أجواء داعمة. وفي البيرو، قدمت لجان الحقيقة شهادات مؤثرة ساعدت الناس على فهم ما حدث والتعلُّم منه. وقامت تشيلي بعد حكم بينوشيه بإنشاء لجان الحقيقة، ليس فقط للكشف عن الجرائم، بل أيضاً لكسر دورة «مَن يفلتُ من العقاب اليوم سيعودُ غداً» أو سيعود غيره غداً. وهو ليس حالاً غريباً في سوريا؛ الإفلات من العقاب أصبح قاعدة شبه يومية.

        العدالة الانتقالية يجب أن تهدف إلى كسر هذه الحلقة، لذلك من المهم أن تكون هناك محاكمات عادلة وعلنية وشفّافة. لكن النظام القضائي السوري الحالي، إضافة إلى كونه لا يتمتّع بسمعة حسنة بين السوريين*، فهو غير مؤهل للتعاطي مع الجرائم الكبرى مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (سنشرح طبيعة وتعقيدات هذه الجرائم في مقال آخر)، وكذلك مع حجم الجرائم والمتورطين* فيها.

        أغلب الدول التي مرّت بتجارب مشابهة كان نظامها القضائي غير مؤهل أو غير قادر، تنظيمياً أو مادياً أو من ناحية الخبرات، على النظر بكل القضايا ذات الصلة. لذلك تباينت تجارب الدول بهذا الشأن؛ بعضها أنشأ محاكمَ خاصة مثل محاكم رواندا التي حاكمت المسؤولين عن الإبادة الجماعية؛ وبعضها تبنى أسلوباً هجيناً يتضمّن محاكم وطنية ودولية، وأخرى اعتمدت كلياً على المحاكم الدولية.

        المساءلة والمحاكمة تُعَدّ العمودَ الفقري للعدالة الانتقالية، وهناك أمثلة متعددة من العالم يمكن أن تُلهِمَ سوريا. ففي الأرجنتين، وبعد عقود من الحكم العسكري، أُجريت محاكمات وطنية لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وعوقِبَ قادة بارزون في المجلس العسكري. في سوريا، يمكن للمحاكم الوطنية أن تلعب دوراً مهماً في ذلك إذا ما أُعيد بناء النظام القضائي ليكون مستقلاً ونزيهاً.

        وفي سيراليون، تم إنشاء محكمة مختلطة تضمّنت قضاةً دوليين ووطنيين لمعالجة الجرائم التي وقعت خلال الحرب الأهلية. هذا النموذج قد يكون مناسباً لسوريا، حيث يمكن الجمعُ بين العملية الوطنية والخبرات الدولية. أما في كمبوديا، فأُنشئت محاكم خاصة لمحاكمة قادة نظام الخمير الحمر المسؤولين عن الإبادة الجماعية. كانت هذه المحاكم مدعومة دولياً، لكنها جرت ضمن النظام القضائي الكمبودي. وقد يكون هذا الحل أيضاً مناسباً في سوريا لمعالجة بعض الجرائم الكبرى ومحاسبة كبار المسؤولين.

        إضافة إلى ذلك، تُعتبر المحكمة الجنائية الدولية (ICC) لاعباً مهماً في مجال المساءلة الدولية. حيث حاكمت قادة مُتّهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مثل الرئيس السوداني السابق عمر البشير. ويمكن لسوريا أن تستفيد من مثل هذه الآليات لضمان قيام عملية فاعلة وشفافة وشاملة.

        التعويض وجبر الضرر واستعادة الكرامة أيضاً أمورٌ بالغة الأهمية في سياق العدالة الانتقالية. وهنا يجب الانتباه إلى أن التعويض لا يجب أن يكون مادياً فقط، رغم أهميته ووجوب أولوية حدوثه، بل يجب أن يشمل الإقرار بما حدث للضحايا والاعتراف تفصيلياً بكيفية حدوث ذلك ولماذا، ومَن كان متورطاً فيه. هذا الإقرار في غاية الأهمية للضحايا والمجتمع، ومن أجل المضي قدماً. إذا لم نعترف ولم نقرّ بما حدث، ولم نعتذر عنه ونعالج جذور المشكلة، فلن نضمن عدم تكراره. كما يجب أيضاً جبر الخواطر واستعادة كرامة الناس وتكريمهم*، وحتى تقديم الدعم النفسي للناجين*. بلدانٌ مثل المغرب مثلاً، وبعد سنوات من القمع، أطلقت برامج لتعويض الضحايا مالياً ومعنوياً، وأسست صندوقاً وطنياً لتعويض الضحايا. وفي البوسنة والهرسك، بعد الحرب، أُعيدَ بناء المنازل التي دُمِّرت، وأُعيدَ توطين النازحين. وفي جنوب أفريقيا، تضمّنت برامج التعويض تقديم منح تعليمية لأبناء* الضحايا. يمكن لسوريا أن تتعلّم وتستلهم من هذه البرامج لدعم الفئات الأكثر تضرراً.

        وللقيام بما سبق، لا بد من مؤسسات لا تشبه تلك التي كانت موجودة وفاعلة في الانتهاكات، وخاصة المؤسسات الأمنية والعسكرية. الإصلاح المؤسساتي يضمن عدم عودة الأجهزة التي أساءت استخدام سلطتها، وبالتالي عدم قدرتها على فعل ذلك مجدداً. إعادة هيكلة المؤسسات وإعادة النظر بوجود بعضها أمرٌ مُلحّ، لكن يجب التعاطي معه بحذر شديد. في العراق مثلاً أدت هذه العملية إلى تغذية دورات العنف بدلاً من كسرها، وأغرقت البلاد في صراعات ما زالت تحت وطأتها إلى اليوم. أما ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، فأعادت بناء المؤسسات الحكومية على أُسس تحترم حقوق الإنسان، ونجحت إلى حدٍّ ما في فتح فصل جديد في البلاد. وفي كولومبيا، أُجريت إصلاحات كبيرة في الأجهزة الأمنية لضمان احترامها لحقوق الإنسان.

        أما في مجال المصالحة فالأمثلة كثيرة، أبرزها ما حدث في جنوب أفريقيا، حيث جلس الضحايا والجناة وجهاً لوجه ضمن جلسات علنية نظّمتها لجان الحقيقة والمصالحة. ورغم صعوبة هذه التجربة، ساعدت، إلى حدٍّ ما، في تهدئة النفوس وبناء مستقبل مشترك. هل تشكيل هذه اللجان خطوة ممكنة في سوريا؟ وهناك بالمقابل مثالٌ آخر من لبنان، حيث اجتمع قادة الطوائف اللبنانية في السعودية واتّفقوا على ما بات يُعرَف باتفاق الطائف، الذي تمت من خلاله محاصصة المناصب السيادية على أسس طائفية.

        التحديات وكيفية التعامل معها

        كل ما ذُكر هو أفكار من تجارب طوّرتها بلدان تقاربت أحداثها في بعض أجزائها مع ما عايشناه في سوريا. بعض هذه التجارب مُلهمٌ وبعضها الآخر مقلق ويُشكِّلُ فرصة للتعلم منها وعدم تجريب «المجرّب». لكن مهما كانت خياراتنا في هذا المجال، سيكون أمامنا تحديات كبيرة يجب أخذها بالحسبان أيضاً.

        تُعاني سوريا اليوم على كافة المستويات. البنية التحتية شبه مدمرة، وأعداد اللاجئين* والنازحين* داخلياً بالملايين، وعدد البيوت والمدارس التي دُمّرت كلياً أو جزئياً مَهول. إضافة إلى ذلك، مواردُ سوريا المادية محدودة جداً. هذا التحدي سيؤثر على إنشاء المحاكم أو دفع التعويضات أو تمويل لجان الحقيقة وغيرها من آليات العدالة الانتقالية التي ذكرناها. لكن يمكن تجاوز بعض هذه التحديات من خلال الدعم الدولي، ففي سيراليون، على سبيل المثال، موّلت الأمم المتحدة محكمة خاصة. قد تستفيد سوريا من الدعم الدولي، ولكن يجب التركيز على المبادئ والأولويات الأساسية.

        سوريا بلد متنوع، وهذه ميزة لكنها قد تكون تحدياً أيضاً. فالانقسامات القومية والطائفية والاجتماعية والسياسية يمكن أن تُعرقِل عملية العدالة الانتقالية إذا لم تُدار بحكمة. في البوسنة، على سبيل المثال، كان التحدي الأكبر هو بناء الثقة بين المجتمعات المختلفة بعد الحرب. لذلك على سوريا أن تتبنى مقاربات محلية تُشرِكُ جميع الأطراف بطريقة شاملة وعادلة.

        ويُشكّل الانتقام تحدياً آخر، سواء كان انتقاماً فردياً أو على مستوى الدولة. ففي العراق، وبعد سقوط نظام صدام حسين، تحوّلت بعض المحاكمات إلى أدوات انتقام سياسي وطائفي. ولتجنُّب حدوث ذلك في سوريا، يجب أن تكون العدالة الانتقالية نزيهة وأن تُبنى على الشفافية والحياد. ويمكن لإشراك أطراف دولية كمراقبين أن يكون وسيلة لضمان نزاهة هذه العملية.

        في كثير من الأحيان، يكون جمع الأدلة والشهادات صعباً بسبب الخوف أو غياب الثقة. في الأرجنتين مثلاً، استغرقَ جمعُ شهادات ضحايا الحكم العسكري عقوداً. لذلك علينا التفكير والعمل على بناء الثقة وتوفير الحماية لتجنب هكذا تحدي. ومن الممكن للجان الحقيقة أن تعمل بسرية في البداية لضمان حماية الشهود وكسب الثقة وتشجيع الناس على المشاركة.

        الثقة مفقودة بين المواطنين* ومؤسسات الدولة في سوريا، وسنحتاجُ إلى وقت وجهد لإعادة بنائها. يمكن لسوريا أن تتعلم من جنوب أفريقيا، حيث كانت لجان الحقيقة والمصالحة وسيلة لإعادة بناء هذه الثقة تدريجياً من خلال الشفافية والمشاركة المجتمعية.

        هذه التحديات هي غيض من فيض، ويجب أن ندرك أن هذا الدرب طويل وشاقٌّ ومُكلِف، لذلك من المهم أن نؤمن بأهمية هذه العملية لتجاوز هذه الصعاب.

        معالجة الماضي المؤلم ليست مجرد قضية قانونية فحسب، فهي تتعلق أيضاً بالصحة النفسية والاجتماعية للمجتمع. في رواندا، كان الدعم النفسي للناجين* جزءاً أساسياً من العدالة الانتقالية. وفي سوريا، يجب توفير مساحات آمنة للضحايا للتعبير عن آلامهم* وتلقي الدعم اللازم.

        العدالة الانتقالية ليست مجرد شعار، هي رحلة شاقة لكن ضرورية نحو بناء مجتمع يفهم ما حصل ويتعلم منه ويتجاوزه ويضمن عدم تكراره. هي العدالة التي تجمع بين الحاضر والماضي لتؤسِّسَ لمستقبل أكثر إنصافاً، وبالتالي هي ليست فقط عملية انتقالية، بل أيضاً عدالة تحوليّة. ومن خلال الاستفادة من تجارب الدول الأخرى، يمكن للسوريين* إيجاد نموذجهم* الخاص الذي يُناسب تحدياتهم* وأحلامهم*.

        ومن هذا المنطلق، فإن الالتفات إلى الوراء بغرض التعلُّم والمُساءلة والمصالحة، قد يكون الخطوة الأولى نحو طريق الأمل والتعافي.

مصطفى حايد: ناشط حقوقي في مجال حقوق الإنسان والمُساءلة والعدالة الانتقالية. عمل كاستشاري دولي مع هيومن رايتس ووتش ومكتب المستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية ومسؤولية الحماية. كتب دليلاً لتدريب المدربين، وحَرَّرَ كتباً وتقارير خاصة بالعدالة الانتقالية منذ العام 2012.

موقع الجمهورية

——————————

سوريا بعد الأسد: إشكاليات إعادة البناء بين النخب والتدخلات الخارجية/ شيار خليل

2025.02.04

مع سقوط نظام الأسد وتولي إدارة جديدة مسؤولية قيادة سوريا، تتصدر المشهد السياسي إشكاليات معقدة تتجاوز حدود التغيير السلطوي لتتصل بمسألة إعادة إنتاج الدولة في سياق ما بعد الاستبداد، إذ إن تفكيك منظومة الحكم القائمة لا يعني بالضرورة تبلور نظام سياسي مستقر، بل قد يفضي—كما شهدت تجارب سابقة—إلى حالة فراغ استراتيجي تعبئه قوى غير مؤهلة لإدارة الدولة، أو مراكز نفوذ تنسج تحالفاتها على أسس انتهازية تُعيد إنتاج الفوضى بصيغ مغايرة. وعليه، فإن النقاش حول مستقبل سوريا لا يمكن أن ينحصر في البنية المؤسسية للدولة الجديدة فحسب، بل يجب أن يمتد ليشمل توازنات النخب، طبيعة المبادرات السياسية والاقتصادية، وتقاطعات النفوذ الإقليمي والدولي التي ستحدد مآلات التحول.

يُعدّ الدور الذي ستلعبه النخب في سوريا بعد الأسد حاسمًا في رسم ملامح الدولة الجديدة، لا سيما أن النخب السورية، بكل تبايناتها، عاشت خلال العقود الماضية تشرذمًا بنيويًا جعلها غير قادرة على بلورة مشروع وطني مشترك، فمن جهة، هناك نخب تقليدية، سواء داخل النظام أو في معارضته، كرّست وجودها عبر أنماط الولاء الشخصي أو الارتباطات الإقليمية، دون أن تنجح في تقديم رؤية سياسية قادرة على استيعاب التحولات العميقة التي شهدتها البلاد. ومن جهة أخرى، برزت نخب شبابية جديدة خلال سنوات الثورة والصراع، لكنها وجدت نفسها معزولة عن دوائر القرار أو مستبعدة بفعل اصطفافات أيديولوجية عطّلت إمكانية تحقيق توافق وطني شامل.

هذه الأزمة البنيوية للنخب تفرض إشكالية مزدوجة: فمن جهة، تحتاج سوريا الجديدة إلى كوادر مؤهلة تدير المرحلة الانتقالية وتحقق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي، لكن هذه الكوادر إما مرتبطة بامتيازات الماضي أو غير قادرة على إدارة شؤون الدولة بفعل افتقارها إلى الخبرة المؤسساتية، ومن جهة أخرى، فإن الشرعية السياسية لأي نخب جديدة ستكون موضع نزاع بين مختلف الفاعلين المحليين والدوليين، ما يهدد بإعادة إنتاج أنماط من التبعية السياسية تجعل سوريا رهينة حسابات خارجية أكثر من كونها تعبيرًا عن إرادة وطنية جامعة.

تُبرز التجربة العراقية بعد 2003 خطر المقاربة الراديكالية التي تفترض أن تفكيك أجهزة الدولة القديمة هو المدخل الوحيد لإعادة بناء النظام السياسي، فالتعامل مع مؤسسات الدولة على أنها مجرد أدوات للقمع والإقصاء قد يؤدي إلى حالة من الفوضى، حيث تفقد الدولة قدرتها على توفير الحد الأدنى من الخدمات، ما يخلق فراغًا تستغله الجماعات المسلحة أو القوى الإقليمية لتعزيز نفوذها. في سوريا، سيكون التحدي الأكبر هو كيفية تحقيق القطيعة مع النظام السابق دون الوقوع في مأزق الهدم الكامل للمؤسسات، خاصة أن العديد من أجهزة الدولة، رغم فسادها وتغوّلها خلال العقود الماضية، تظل ضرورية لضمان استمرارية الحكم وتوفير الاستقرار.

إن إعادة هيكلة المؤسسات يجب أن تخضع إلى منطق سياسي متوازن، بحيث يتم تطهيرها من عناصر الولاء الأعمى للنظام السابق، دون أن يؤدي ذلك إلى فراغ إداري وأمني، فالفشل في تحقيق هذا التوازن قد يدفع سوريا نحو سيناريوهين كلاهما كارثي: إما أن تنهار الدولة وتدخل البلاد في حالة من الفوضى كما حدث في ليبيا، أو أن تتم إعادة إنتاج النظام القديم بصيغ جديدة، ما يفضي إلى إحباط تطلعات التغيير السياسي الحقيقي.

ملف إعادة الإعمار.. أحد أبرز التحديات التي ستواجه سوريا بعد الأسد

إن أحد أبرز التحديات التي ستواجه سوريا بعد الأسد هو ملف إعادة الإعمار، الذي سيكون ساحة لصراع معقد بين شبكات المصالح المحلية والدولية، فكما شهد العراق، فإن التحول من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام يتطلب رؤية واضحة تُوازن بين الحاجة إلى الاستثمار الأجنبي، ومتطلبات السيادة الاقتصادية التي تحول دون ارتهان الدولة لرأس المال الدولي. وفي الحالة السورية، سيكون هناك ضغط متزايد لإعادة هيكلة الاقتصاد بما يتجاوز نموذج الريع والاعتماد على شبكات المحسوبية التي غذت الفساد خلال العقود الماضية.

لكن إشكالية إعادة الإعمار لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية فحسب، بل تمتد إلى الأسس السياسية التي ستوجه هذا المسار، فالنخب السياسية والاقتصادية التي ستشرف على هذه العملية ستحدد ما إذا كانت سوريا ستتحول إلى دولة ذات اقتصاد ديناميكي قادر على تحقيق الاستقلالية المالية، أم أنها ستصبح رهينة لعقود استثمارية تمنح الدول والشركات الأجنبية نفوذًا سياسيًا طويل الأمد، وبالنظر إلى أن القوى الإقليمية والدولية التي انخرطت في الصراع السوري لها مصالح اقتصادية مباشرة، فمن المرجح أن تتحول عملية إعادة الإعمار إلى أداة لفرض أجندات خارجية، ما لم تكن هناك إرادة سياسية وطنية قادرة على ضبط هذه التفاعلات بما يخدم مصلحة السوريين أنفسهم.

تلفزيون سوريا

—————————

أوجلان يشرب الكأس الصعب/ فارس الذهبي

2025.02.04

قبل أسابيع من دخول قوات إدارة العمليات العسكرية إلى دمشق العاصمة، دعا رئيس حزب الحركة القومية التركي دولت بهشلي، رئيس حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان إلى القدوم إلى البرلمان التركي وإعلان حل حزبه، والانخراط في عملية سياسية تعيد الأخوة التركية الكردية بعد عقود طويلة عجافٍ من القتال والدمار.

تأتي مبادرة بهشلي بعد ربع قرن من السجن قضاها أوجلان في سجن جزيرة إيمرلي الذي خصص له بالكامل بعد إلقاء القبض عليه في عملية استخبارية شاركت بها دول كبرى منها الولايات المتحدة بمساهمة من المخابرات السورية التي طلب منها تحريكه من مكامنه والخروج من سوريا تحت طائلة التهديد بالاجتياح العسكري سنة 1998. ومنذ ذلك الوقت يعيش أوجلان في سجنه بهدوء بينما يشتعل الإقليم بحروب تبدو لا نهائية، كان حزبه أحد أطرافها، الـPKK، الذي يختفي زعماؤه في جبال قنديل الوعرة بين العراق وإيران، وتأتمر بقراراته الحركات الكردية اليسارية في سوريا نافيةً عنها طوال الوقت تلك التبعية، لكنها في الوقت ذاته ترفع صوره، وتشيد له النُّصب والتذكارات في كل مدينة تدخلها.

عناصر حزب العمال قاتلوا الحكومات التركية منذ عقود طويلة وأسسوا لمفهوم “المعارضة الكردية المسلحة” بينما تعتبرهم الحكومة التركية إرهابيين وطالبت العديد من الدول بإدراجهم ضمن قائمة الإرهاب وهو ما حصل. ولعل أخطر فعل قام به الحزب تحالفه البراغماتي مع إيران (الإسلامية) وهو الحزب اليساري المتطرف!.

لكن السياسة التركية المعتدلة التي تهدف إلى طي ملفات كانت لتبدو غاية في التعقيد، عمدت إلى تغييرات حاسمة في الجغرافيا السياسية لدول الجوار، بدأتها مع مساعدتها أذربيجان في استعادة أراضيها من جارتها أرمينيا، التي تلقى دعماً كبيراً من إيران وروسيا. وأتبعتها بدعم لهيئة تحرير الشام في معركة إسقاط الأسد الذي يعد نظامه واحداً من أشد المتلاعبين بالملفات الإقليمية وخصوصاً ملف الميليشيات والجماعات الخارجة عن القانون الدولي، بدعمها مالياً وعسكرياً وحتى إعلامياً. والآن تعمد السياسة التركية في خطوة جريئة إلى إنهاء ملف الصراع الكردي التركي، الذي سيلقي بظلاله على الملف الكردي السوري، بعد أن وصلت المفاوضات بين دمشق والقامشلي إلى نقطة دوران في المكان، لا تقدم فيها ولا تراجع. عمدت أنقرة إلى محاولة إنهاء هذا الملف بإبطال مفعوله من الداخل، حيث تم تسريب أخبار كثيرة عن مفاوضات أجراها وفد برلماني تركي مع عبد الله أوجلان في سجنه من أجل الوصول إلى حالة بيضاء تنهي سنوات دامية من الصراع التي لم تؤتِ أكلها أبداً. بناء على ما تقدم، وافق أوجلان على حل الحزب وإيقاف الصراع العسكري، والتحوّل إلى العمل السياسي، في مقابل صفقات سيعلن عنها لاحقاً، وستمكنه من الخروج من محبسه والعودة إلى صفوف حزبه الذي سيتم ترخيصه في تركيا كحركة سياسية غير عسكرية. الكل، إذاً، ينتظر يوم الخامس عشر من شباط عبر شاشات التلفزوين وفي بث مباشر من السجن لمعرفة ما سيقوله الرجل، أما بقية التفاصيل فستأتي لاحقاً.

تبدو عمليات الانفراج السياسي التي تتالى على المنطقة فاتحة ذراعيها لمستقبل جديد لشعوب المنطقة، مقلقة إلى حد ما، فانتقال القوى السياسية والكيانات المدعومة مسبقاً من إيران وروسيا، إلى الضفة المقابلة هو أمر خطير إن لم يُدرس بشكل جيد، زمن الميليشيات انتهى، والقرار الدولي بإعادة إيران إلى حدودها وفسخ عقود تدخلها بدول الجوار قد اتخذ. والحلقة الكردية بارتباطاتها السورية/ التركية، والعراقية/ الإيرانية، هي جزء أساسي منها. تبقى مصلحة الشعب الكردي بوصفها عاملَ استقرار وطني في المنطقة هي المسألة الأشد إلحاحاً في هذه المرحلة، فالأكراد عامل مهم في الواقع السياسي التركي والسوري على حد سواء، دون ذكر لأسماء كبيرة جداً أسهمت في العمل السياسي الوطني في كلا البلدين طوال عقود ربما آخرها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الذي لا يفسر قوميته إلا بوطنيته. ووزير الخارجية السوري الجديد ضمن الحكومة المؤقتة أسعد الشيباني الذي يتردد في الأوساط السياسية ويقال إنه من أصول كردية من مدينة رأس العين في الحسكة، الذي سبق له أن غرّد أكثر من مرة باللغة الكردية مخاطباً السوريين الأكراد بلغة وطنية.

حزب العمال الكردستاني لا يمثل كامل الطيف السياسي الكردي، لكنه حزب أساسي في الصراع فهل سيكون حزباً أساسياً في السلم؟ وهل هو قادر على بناء هيكلية سياسية مدنية بعيدة عن التنظيم العسكري السري الذي اعتادت عليه كوادره خلال عقود؟

في مختلف الأحوال، تتوفر فرصة مصالحة تاريخية قد تُدخِل المنطقة في مرحلة بناء تاريخية، وتشكّل بوابة لِولوج تركيا إلى سياق ديمقراطي جديد لعله ينعكس تعدداً وتنوّعاً في المنطقة برمّتها، وهي خسارة حاسمة للمعسكر الإيراني الذي بدأت انكساراته تنعكس تنمية على عموم المنطقة.

تلفزيون سوريا

—————————

حكومة التكنوقراط في سوريا ما بعد الثورة: فرصة أم تحدٍّ؟/ نبراس إبراهيم

2025.02.04

تتطلب المرحلة المقبلة في سوريا نموذجًا حكوميًا قادرًا على تجاوز تداعيات أكثر من أربعة عشر عامًا من الدمار والتشرذم السياسي والاقتصادي الذي خلفه النظام متعمدا. في هذا السياق، تبرز حكومة التكنوقراط كخيار استراتيجي يُمكن أن يعيد بناء الدولة، عبر إدارة تعتمد على الكفاءة والخبرة بعيدًا عن الاستقطابات الأيديولوجية. فهل يمكن لهذا النموذج أن يكون مفتاح الخلاص لسوريا في مرحلة بناء سوريا جديدة بعد انتصار الثورة التي قدم فيها السوريون الكثير؟ وما المعايير والمهام التي ينبغي أن تضطلع بها حكومة تكنوقراط حقيقية؟

لطالما لجأت الدول التي خرجت من نزاعات مدمرة إلى حكومات تكنوقراط لإدارة المرحلة الانتقالية، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والعراق عقب 2003، وإيطاليا خلال أزماتها الاقتصادية. هذه الحكومات، التي تعتمد على متخصصين غير مسيّسين، نجحت في إعادة ضبط مسار الدولة وإطلاق عجلة التنمية. في الحالة السورية، حيث تسببت الحرب في انهيار البنية التحتية، وانقسام المجتمع، وتراجع الاقتصاد إلى مستويات غير مسبوقة، تصبح الحاجة إلى حكومة تكنوقراطية أكثر إلحاحًا، لتكون بمنزلة جسر بين الفوضى والاستقرار.

ينبغي أن تتمتع الحكومة التكنوقراطية السورية بعدة خصائص أساسية، أبرزها الاستقلالية في القرار بحيث تكون غير خاضعة لأي تيار سياسي أو عسكري لضمان حيادها وفعاليتها في إدارة المرحلة الانتقالية. كما يجب اختيار شخصيات ذات خبرة عملية في قطاعات الاقتصاد والإدارة والقانون والإعمار، دون محاصصة حزبية أو طائفية. إضافة إلى ذلك، لا بد من منحها صلاحيات تنفيذية حقيقية بعيدًا عن التجاذبات السياسية التي قد تعطل عملها، مع ضمان تمثيل متوازن لجميع المكونات الاجتماعية والمناطقية، بما يعزز الوحدة الوطنية.

تقع على عاتق هذه الحكومة مهام جوهرية لإعادة بناء الدولة السورية، بدءًا من إعادة الإعمار وإنقاذ البنية التحتية عبر وضع خطة شاملة تعتمد على الأولويات والتمويل المتاح، وإعادة تشغيل المرافق الأساسية مثل الطاقة والمياه والمواصلات، والاستفادة من الشراكات الدولية دون المساس بالسيادة الوطنية. أما على الصعيد الاقتصادي، فيجب أن تعمل الحكومة على تحفيز الإنتاج المحلي، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وضبط الأسواق، وتعزيز قيمة العملة الوطنية، وإصلاح النظام المصرفي، فضلًا عن مكافحة الفساد والاحتكارات التي تعيق التعافي الاقتصادي.

فيما يتعلق بالمصالحة الوطنية وإعادة اللحمة المجتمعية، يتوجب على الحكومة تبني سياسات عدالة انتقالية عادلة، ومعالجة آثار النزاع، وإعادة دمج النازحين واللاجئين ضمن برامج مستدامة، وإشراك المجتمع المدني في بناء عقد اجتماعي جديد. كما أن إصلاح مؤسسات الدولة يُعد ضرورة ملحة، بدءًا من إعادة هيكلة القضاء لضمان استقلاليته، وإصلاح الأجهزة الأمنية وفق معايير حقوق الإنسان، والتحضير لانتخابات شفافة تكرّس التعددية والديمقراطية.

يتطلب تشكيل حكومة تكنوقراط سورية فعالة آلية اختيار شفافة عبر لجنة مستقلة محلية ودولية لضمان النزاهة وعدم فرض شخصيات جدلية، إضافة إلى إطار قانوني يحمي استقلالها عبر منحها تفويضًا خاصًا يمكّنها من تنفيذ مهامها دون عوائق سياسية. كذلك، تحتاج هذه الحكومة إلى دعم إقليمي ودولي لمنع التدخلات الخارجية التي قد تُحبط جهودها، مع ضرورة تحديد جدول زمني واضح لعملها بحيث تكون حكومة انتقالية تمهد لتأسيس نظام ديمقراطي مستدام.

إن تشكيل حكومة تكنوقراط في سوريا ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية لا غنى عنها في مرحلة ما بعد النزاع، والدمار الممنهج الذي خلفه النظام البائد خلال فترة الثورة، وحتى العقود التي حكم فيها البلد. فالإدارة القائمة على الكفاءة لا يمكنها فقط إعادة بناء ما دمرته الحرب، بل أيضًا وضع أسس جديدة للحكم الرشيد. لكن نجاح هذا النموذج يتوقف على التزام وطني ودولي بدعمه، وضمان استقلال قراراته بعيدًا عن الحسابات الضيقة. فهل يمكن للسوريين تجاوز خلافاتهم، وتوحيد جهودهم خلف مشروع إنقاذ وطني؟ الإجابة ستحدد مستقبل البلاد لعقود قادمة.

تلفزيون سوريا

————————–

أين الشوام في الشام؟/ أحمد جاسم الحسين

2025.02.03

سبق أن سمعتُ هذا السؤال في أمستردام، أين الأمسترداميون في أمستردام؟ كذلك يمكن أن تسأل عن الأتراك في إسطنبول بخاصة في منطقة الفاتح، حيث صدقت البلدية هناك هذا السؤال، وباتت تغير أسماء المحال بحيث إنك ربما بتَّ تجد حروفاً عربية في أمستردام أكثر مما تجدها في إسطنبول مثلاً؟

وجدتُ هذا السؤال كذلك في دمشق من صديق عربي، وهو يبحث عن رجال ونساء مسلسل باب الحارة في دمشق، وكانت بالمصادفة تجلس معنا صديقة شامية قائلة: الشام “تريفنت” منذ مطلع الستينات من القرن الماضي على مراحل!

مفهوم المدن في سوريا يختلف اختلافاً كبيراً عن مفهوم المدن في مصر، فالنقل الطرقي والتواصل بين المحافظات السورية في الخمسين سنة الفائتة يختلف عما قبله، لذلك باتت المدن الكبرى في سوريا بخاصة دمشق وحلب مكاناً للتنوع البشري السوري. وهو من علامات زوال الحذر بين السوريين، يمكن لكتاب سوري أن يحتوي على آلاف القصص إن أراد تدوين سرديات أبناء الأرياف السوريين في زياراتهم للمدن السورية وما مروا به من تجارب أولى، وعلى الرغم من ذلك تبقى كثير من المدن السورية أقرب إلى أرياف كبيرة بالمفهوم العمراني إن قارناها بمفهوم المدن الكبرى في العالم.

ثورة 2011 في سوريا كانت سبباً رئيسياً لأول مرة في التاريخ السوري لكي يتعرف السوريون إلى بعضهم بعض، بمعنى من المعاني عجنت السوريين وتعرفوا إلى بعضهم خارج إطار الصور النمطية التي شكلوها عن الآخر السوري.

السؤال يريد أن يقول: لماذا لا يجلس أبناء كل منطقة في منطقتهم، أو يقضون حاجاتهم الخدمية أو الطبية في دمشق ثم يعودون إلى بلداتهم ومدنهم؟

الإجابة متشعبة جداً، إذ إنني أحسب أنه لو توفرت الخدمات في سوريا وكان هناك نظام رقمي وحكومة إلكترونية ووجدت مشاف كافية في كل منطقة أو محافظة لما وجدت هذا الكم من السوريين في دمشق أو حلب، حيث إن قدومهم إلى دمشق يعني مصاريف زائدة أقلها تكاليف السفر والإقامة والطعام.

 من جهة أخرى يعني كذلك حركة تشغيلية للمطاعم والأسواق والفنادق في دمشق، بمعنى أنه هناك قطاع في دمشق أو سواها من مدن أخرى سورية يعيش على وجود هؤلاء القادمين!

قد يحمل السؤال دلالة أخرى: هناك كثيرون اليوم في دمشق ينامون تحت الجسور وفي مداخل عدد كبير من البنايات وسط المدينة (المرجة وما حولها مثلاً)  بمعنى آخر: هؤلاء لا يحركون الاقتصاد بل يخربون صورة المدينة حيث يقومون بالشحاذة أو انتظار فضلات الأطعمة!

البلد خرج من حرب طويلة، اقتصاد منهك، وشعب مدمرة بيوته، والسؤال: من سيترك أهله وحيه وقريته ليذهب للعيش في مدينة أخرى على الأرصفة إن لم يكن ظرفه صعباً؟ أو ربما استسهال نمط العيش؟ لقد سمعت من كثيرين قطنوا دمشق وريفها أنهم لن يعودوا لأن نمط الحياة في دمشق “غير”! وقد تعبوا من نمط الحياة في قراهم هناك حيث تقيدهم الحياة العائلية أو العشائرية بقيود كثيرة أو تفرض عليهم واجبات كبيرة لا يستطيعون تحملها اليوم!

هنا دور منتظر كبير للدولة والمبادرات الأهلية، نحو إيجاد حلول دائمة، والبحث عما دفع أولئك السوريون نحو هذا المنحى المعيشي.

في هولندا يوجد 33 ألفاً من المشردين، لكن الدولة تؤمن لهم مبيتاً، ولديها “داتا” عنهم بحيث لا يشكل أولئك خطراً على المجتمع وكي لا يكونوا جزءاً من مافيا أو جريمة منظمة، هل هناك فكرة بإيجاد “داتا” أو طريقة ما لكي نحصي ممن ليس لديهم بيوت أو ينامون على الأرصفة؟ علينا ألا ننتظر دائماً جهود الدولة، يمكن للمبادرات المدنية أن تسعى لتحقيق ذلك.

لا عودة للمدن في سوريا وسواها إلى حالة “الصفاء المكاني” بحيث يعود أبناء كل محافظة إلى محافظتهم، لأن السوريين اليوم ارتبطوا بعلاقات جديدة بعد ما حدث من حالة عجن وخبز في مرحلة الثورة، كذلك يرتبطون بمصالح اقتصادية واجتماعية ودراسية وطبية وخدمية وسواها مع واجبات اجتماعية أقل!

لعله من الطبيعي إنْ تحدثتَ عن دمشق العاصمة ألا تتحدث عن حالة صفاء ديموغرافي”وبرة السور وجوة السور” لأن السور السوري اليوم هو الحدود الخارجية، خاصة بعد أن جرب معظم السوريين تجربة الهجرة واللجوء، وتعرفوا إلى ألوان إنسانية مهمة في كيفية التعامل مع الضحية اللاجئ من قبل مجتمعات لا تعرف عنا شيئاً، ولا ترتبط معهم بأي رابط غير الرابط الإنساني!

أين الشوام في الشام؟ قد نحتاج إلى تغيير دلالات السؤال، لندعو الشوام في الشام وغير الشام باستثارة جوانبهم الإنسانية وتجربتهم في إدارة المدينة نحو مبادرات اجتماعية تنظف واجهات البنايات وتعيد إحياء التجارب الأهلية في “حفظ النعمة” وسواها وتبحث عن حلول تقف إلى جانب الدولة في هذا الظرف العصيب الذي تمر فيه.

من جهة أخرى تحتاج جهات المحافظة الإدارية إلى إعادة التنظيم الأرصفة والفضاء العام، كي نخفف من العشوائية وعدم التنظيم الذي بات يعيق مسار الحياة اليومية.

كثير من العواصم في مدن العالم تفتخر بأنها مدن كوزموبوليتية، بمعنى متعددة ومتنوعة بجنسيات وأعراق مختلفة، لكنها قبل الوصول إلى ذلك التنوع العالمي كانت مكاناً لتعدد مواطني بلدها، وأحسب أن ما تمر به دمشق اليوم مرحلة كانت تحتاجها منذ زمان، كقدر تعيشه العواصم.

أين الشوام في الشام؟ سؤال يمكن تعميمه في كل المحافظات السورية ويمكن الوقوف عنده في إدلب مثلاً: أين الأدالبة في إدلب؟

ما حدث إبان الثورة السورية أعاد تشكيل كثير من المفاهيم والمعلومات والثوابت لدى السوريين، وفي حواراتي مع عدد كبير من الشباب والصبايا السوريات في دمشق وجدت أن لديهم مرونة كبيرة في قبول بعضهم، بغض النظر عن خلفياتهم الديموغرافية.

لعل من حسنات الثورة السورية، وحسناتها لا تنتهي، أنها ساعدت السوريين في التعرف إلى بعضهم، ليس كلقاءات عابرة في مقهى، بل بالتجربة والعمل المشترك في تحقيق النصر، وكذلك في ساحات المعارك وساحات الألم واللجوء والمخيمات والتعب والتنكيل والمعتقلات.

في هولندا اليوم، من يريد أن يعيش مع مشابهين له غالباً ما يذهب إلى الريف، أما في المدن فهو يقول لك: طبيعة المدينة وبنيتها الاقتصادية والعمرانية تقوم على التنوع والتعدد والتداخل، فلماذا أبحث عن شيء يبدو بعيد المنال، ليس على المدن أن تتغير لتناسبني، ربما أنا من يجب أن يتغير أو أنزوي في قريتي، هذا خياري!

هناك من يطرح سؤال: أين الشوام في الشام؟ أو أين الحلبيون في حلب؟ على سبيل الإشارة الطبقية أو افتقاد سمات ومقاسات محددة وضعها في رأسه لمدينته أو حيه أو حارته، وهو الذي يجوب بالعالم ويرى التعدد والتنوع وأثرهما في إغناء التجارب.

أسئلة السوريين اليوم كثيرة، وهم يكتشفون أنماطاً جديدة من التفكير والعيش والحب والتواصل ويخرجون عن قوالب تفنن النظام السابق في صنعها ورعايتها أكثر من نصف قرن وكذلك كانت تعجب أجيالاً سابقة حرصت عليها كحاجة للحماية أو المحافظة على مفاهيمها القديمة، واعتادوا عليها، لذلك فإن الخروج إلى أنماط حياتية جديدة يحتاج إلى تدرب وإعادة اندماج، كأن قدرهم في العقود الأخيرة أن يخرجوا من اندماج ليدخلوا في اندماج جديد!

كانت العرب قديماً إذا أرادت إحداث اندماجات أو تحالفات بين قبائل عدة تلجأ إلى الزواج، فيتزوج شيخ قبيلة أو ابنه أو أحد وجهائها من قبيلة أخرى، ربما كان بينهما عداوة!

 ولعل أحد أبرز ألوان كسر الجمود الاجتماعي بين السوريين يكمن “بالحب راح بنعمرها” والزواج، وكذلك معطيات جديدة فرضتها الظروف المعاصرة ذات أبعاد اقتصادية وتبادل مصالح وتعاون، ويمكن للأحزاب الجديدة في سوريا أن تلعب مثل هذا الدور، وأن لا تبحث عن المتشابهين جغرافياً أو إثنياً بل عن التمثيل الديموغرافي الجغرافي والفكري وضرورة استقطاب المختلفين كي لا يكون حوارنا أو تواصلنا مع من نتفق معهم، وبالتالي سنفتقد المرايا العاكسة والمحدبة والصقيلة والمكسرة.

قد يصعب قبول كثير من أفكار الاندماج السوري الجديد وتحولات الهوية السورية لدى الأجيال التي تقدم بها العمر من السوريين، لكن بالتأكيد بات قبولها أسهل بالنسبة للأجيال الشابة الجديدة التي عاشت تجارب مختلفة فيزيائياً أو من خلال العالم الرقمي والسوشالميديا حيث بات لدينا قاطنون يسكنون قارة الإنستغرام وقارة الفيسبوك وقارة السناب شات وقارة التك توك، وما أحوجنا جميعاً أن نكون مواطنين نقبل بعصنا في مدننا وحاراتنا ونتعرف على بعضنا بعض بعيداً عن حواجز قديمة عاشها أهلنا، إذ يمكننا اليوم أن نكسر السور ونتجاوز حدوده، على الرغم من صعوبة ذلك!

تلفزيون سوريا

————————-

مرتكزات انتخابات حرة ونزيهة في سوريا الجديدة/ عبدالله تركماني

2025.02.03

لم يعرف الشعب السوري انتخابات حرة ونزيهة وتعددية منذ أربعٍ وخمسين عاماً، إذ كان القانون الانتخابي مصمماً لضمان احتكار السلطة من قبل رأسي سلطة حافظ وبشار الأسد، على المستويات كافة (التشريعية والتنفيذية والقضائية). وبعد عملية التغيير والدخول في مرحلة انتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، يُعَدُّ إجراء انتخابات من الخطوات الأكثر أهمية لتأسيس السلام الأهلي الدائم، وذلك من خلال إيجاد بيئة ديمقراطية، من شأنها دفع الأطياف السياسية والاجتماعية إلى التنافس ضمن الحلبة السياسية وصناديق الاقتراع.

مهام المرحلة الانتقالية لترسيخ النظام السياسي الجديد

بعد قرارات اجتماع المجلس العسكري في 29 كانون الثاني/يناير، وإعلان رئيس الجمهورية يوم 30، فإنّ دور المجلس التشريعي والإعلان الدستوري المؤقتين في المرحلة الانتقالية ومؤتمر الحوار الوطني مهمة للانتقال من “الشرعية الثورية” إلى الشرعية الدستورية”، أي من الثورة إلى الدولة، خاصة بعدما قال الرئيس “حتى نصل إلى انتخابات حرة ونزيهة”، بما يفرضه ذلك من إصدار مجموعة قوانين ممهدة لإجراء هذه الانتخابات منها: قانون تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وقانون انتخابي، وتشكيل هيئة مستقلة للإشراف على كل مراحل الانتخابات. كل ذلك من أجل ضمان إجراء انتخابات تعددية، تمثل مختلف المكوّنات المجتمعية والسياسية، انطلاقاً من أنّ السيادة للشعب، ولا يجوز لفرد أو جماعة أو حزب احتكارها، يمارسها عبر الانتخابات الديمقراطية التي يضمنها قانون انتخابي عادل، يعتمد التمثيل النسبي الذي يضمن أوسع مشاركة سياسية واجتماعية.

وتلعب المؤسسات الانتقالية دوراً بارزاً في ترسيخ النظام السياسي التعددي الجديد الدائم، خاصة قدرتها على تشجيع تشكيل ائتلافات وطنية عريضة لمختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، من خلال نظام انتخابي يساعد على تشاركية الجميع، عبر تمثيل نسبي، في إعادة بناء سوريا المستقبل. ذلك لأنّ السنوات الأربعة عشرة لثورة الحرية والكرامة أظهرت الاستقطابات الحادة في المجتمع السوري، بل الشروخ القومية والطائفية، مما يجعلنا نبحث عن أفضل السبل لضمان تمثيل عادل لمختلف الأطياف.

ومن أهم مؤسسات المرحلة الانتقالية، ذات الصلة بضمان انتخابات حرة ونزيهة:

• هيئة الحكم الانتقالي بقيادة رئيس الجمهورية: تقوم بتهيئة المشهد الوطني، سياسياً وإعلامياً وأمنياً، لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية التي تنقل سوريا إلى الحالة الدستورية. أي يتمثل دورها في الإشراف على إنشاء المؤسسات الانتقالية، لوضع الدولة على طريق الاستقرار، الذي ينتهي إلى مرحلة ترسيخ النظام السياسي الديمقراطي. ومن أجل الوصول إلى هذه المرحلة يجدر بهيئة الحكم الانتقالي أن تحرص على تشكيل ائتلافات واسعة لمختلف الأطياف السياسية والاجتماعية.

• مجلس تشريعي مؤقت، يشكله رئيس المرحلة الانتقالية من أصحاب الخبرة القانونية والاقتصادية والرموز الاجتماعية والسياسية، بشكل توافقي يراعي وجود كافة مكوّنات المجتمع السوري. ويكون من مهامه العمل على إعداد إعلان دستوري انتقالي، وأيضاً إعداد دستور دائم يعرض للاستفتاء الشعبي، وقانون انتخابي على أساس تقسيم جغرافي للدوائر الانتخابية على قاعدة التمثيل النسبي يضمن أوسع مشاركة في الانتخابات، وصياغة قانون تشكيل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وقانون الإعلام، على أن يتم إقرار كل القوانين السابقة من قبل المجلس التشريعي.

• هيئة مستقلة للانتخابات: يشكلها المجلس من قضاة ومحامين وناشطين في الشأن العام، المشهود لهم بالنزاهة والمصداقية والكفاءة والوطنية، تشرف على كل مراحل الانتخابات، بدءاً من سجل الهيئة الناخبة إلى عملية فرز الأصوات وإعلان النتائج، طبقاً لقانون الانتخابات المقر من قبل المجلس، بحيث يكون مركز مجلسها التنفيذي في العاصمة دمشق ولها فروع في كامل المحافظات السورية.

معايير ومؤسسات ضمان انتخابات حرة ونزيهة

إنّ التوافق على نظام انتخابي جديد يتطلب الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة السورية، بعد سنوات المقتلة التي أودت بحياة مئات آلاف السوريين، إضافة إلى تشظّي البنى الاجتماعية. والهدف هو التمثيل النسبي للمكوّنات كافة في هياكل السلطة المختلفة، على قاعدة المصالحة الوطنية، إضافة إلى الأداء الحكومي الفعّال. ومن أجل ضمان ذلك يجب أن تتوفر المعايير التالية:

1 – التمثيل النسبي، إنّ لتصميم المعايير الانتخابية أثر إيجابي على السلم الأهلي في مجتمعات ما بعد الصراع، وتظهر أدبيات الانتقال الديمقراطي إجماعاً كبيراً على أنّ نظام التمثيل النسبي يُعَدُّ نظاماً ذا أفضلية، لما ينطوي عليه من إمكانية إعادة إحياء الحياة السياسية، وبالتالي زيادة نسب المشاركة في الانتخابات، وإنتاج سلطة تشاركية تضمن لكل الأطراف مشاركة في عملية اتخاذ القرار، مما يولّد توازناً ضرورياً تتمخض عنه سياسات معتدلة ومجدية. وبناء على ذلك، فإنّ تبنّي التمثيل النسبي سيساعد سوريا على بداية جديدة، ليس في الحياة السياسية والتنمية المستدامة وإعادة الإعمار فحسب، وإنما في تجاوز العثرات البنيوية التي اتسمت بها دولة آل الأسد، والتي أدت إلى الحراك الشعبي من أجل الحرية والكرامة في آذار/مارس 2011.

إنّ نظام التمثيل النسبي يضمن حصول كل قائمة انتخابية على عدد من المقاعد يتناسب مع عدد الأصوات، التي حصلت عليها في صناديق الاقتراع في الدائرة الانتخابية التي تجري فيها الانتخابات. ويساعد هذا النظام في تمثيل أكبر عدد من الأحزاب والمكوّنات الاجتماعية في المؤسسة التشريعية، إضافة إلى أنه يسهم في جذب الناخبين على التصويت. وما أحوجنا في سوريا إلى عودة السياسة إلى المجتمع، بعد ديمومة التصحر السياسي لعقود من الزمن. بينما يؤدي نظام التمثيل الأكثري، أو نظام الأغلبية، إلى استحواذ من يحصل على أغلبية الأصوات على جميع المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابية، مما يفرض قيوداً على مشاركة الأحزاب الصغرى، ويقلّل من الإقبال على صناديق الانتخاب، وربما تكون له الأفضلية بعد استقرار النظام السياسي الجديد.

ومن مزايا مبدأ التمثيل النسبي أن يكفل التعددية، ويفسح في المجال لقوائم المستقلين عن الأحزاب، إذ تشير لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في تفسيرها للمادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلى أنّ “حق الأشخاص في الترشح للانتخابات لا ينبغي أن يقتصر بشروط غير معقولة، بأن يكونوا أعضاءً في أحزاب أو أحزاب بعينها”. وهكذا، يتميز نظام التمثيل النسبي بأنه يفتح في المجال لمشاركة كل مكوّنات الشعب السوري، إضافة إلى الأحزاب الصغيرة والناشئة، وهو يحفّز على قيام التحالفات السياسية. 

2 – نزاهة الانتخابات، وهي مرتبطة بمراقبة تنظيمها في مراحلها المختلفة، بحيث يجب ألا يتولى موظفو الدولة الإشراف عليها، أو المشاركة في تعداد وفرز أصوات الناخبين. ويعتبر التلاعب في الانتخابات أحد معوّقات التحوّل الديمقراطي، وبالتالي العودة إلى النظام الاستبدادي. ومن أجل منع ذلك يجب الحرص على: الشفافية، والدقة، والمساءلة في كل مراحل العملية الانتخابية.

ومن أجل ضمان حرية ونزاهة الانتخابات يجب الالتزام بالمعايير الدولية المتعارف عليها، ومنها:

    إقرار الحق في الترشح والتصويت لكل المواطنين.

    سرية الاقتراع ووضع ضمانات لذلك.

    وجود إدارة مستقلة للانتخابات.

    توفير الرقابة المستقلة على كل مراحل العملية الانتخابية من قبل منظمات المجتمع المدني، المحلية والإقليمية والدولية، بما فيها إشراف هيئة الأمم المتحدة.

3 – المبادئ التوجيهية لإدارة الانتخابات، حيث يُعتبر قانون الانتخابات هو الإطار القانوني الذي ينظم العملية الانتخابية بكافة مراحلها، الذي تعتمده الهيئة السورية المستقلة للانتخابات في كل مراحل العملية (تسجيل المرشحين والناخبين وإعداد بيانات اعتمادهم، تحديد الدوائر الانتخابية، إنشاء صناديق الاقتراع، توزيع الصناديق على الدوائر الانتخابية، التصويت، الفرز، التدقيق).

ومن أجل ضمان كل المراحل السابقة، كي تكون الانتخابات حرة ونزيهة، يجب الحرص على تمكين المواطنين السوريين، في كل أماكن وجودهم، من المشاركة في إنجاز الانتخابات على كافة المستويات: البلدية، والبرلمانية والرئاسية.

تلفزيون سوريا

—————————

 قراءة في دلالات تصريحات قائد “جيش سوريا الحرة”/ إياد الجعفري

2025.02.03

تلفت تصريحات قائد ما يُعرف بـ”جيش سوريا الحرة”، قبل أيام، إلى حجم التعقيد الذي يحيط بملف توحيد “البندقية” في الداخل السوري، في حين يُضيف صدور هذه التصريحات، من خلال صحيفة إماراتية ناطقة بالإنكليزية، مؤشراً آخر على حجم التأثير الخارجي على هذا الملف الشائك. وهو ما يتطلب روية طويلة الأمد لتفكيك تعقيدات أخطر ملف يهدد شكل “سوريا المستقبل”، واستقرارها، وفاعلية “دولتها”.

ورغم أن سالم تركي العنتري يقود بضع مئات من المقاتلين، وفصيله لم يتمتع بفاعلية حاسمة في أيٍّ من الملفات التي تصدى لها — مكافحة تهريب المخدرات إلى الأردن، ومكافحة خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية (داعش)” — إلا أنه استطاع الترويج لدوره الوظيفي بشكل جيد عبر إطلالته الإعلامية الأخيرة. فقد أشار إلى تضاعف المساحة التي تتعامل معها مجموعته المسلحة ثلاثة أضعاف بعد سقوط نظام الأسد، متكئاً على المخاوف من انتعاش “داعش”، بدفعٍ من الفراغ الأمني والعسكري في مواقع شاسعة من البادية السورية، ومحذّراً من عواقب الانسحاب الأميركي من سوريا على مكافحة التنظيم المتطرّف، مع خسارة التكنولوجيا العسكرية المتفوقة للولايات المتحدة الأميركية، والتي لعبت الدور الحاسم في استهداف خلايا التنظيم ولجم انتعاشها على مدار السنوات الفائتة منذ هزيمة “دولة التنظيم” في العام 2019.

بالنسبة للكثيرين، تُعدّ “داعش” فزّاعة تلوّح بها القوى السورية المدعومة أميركياً خشية خسارة هذا الدعم مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. والرئيس الأميركي العائد إلى السلطة كان من أبرز المتحمسين لسحب قوات بلاده من سوريا في ولايته الأولى قبل نحو خمس سنوات. وبالإضافة إلى “جيش سوريا الحرة”، تستخدم “قوات سوريا الديمقراطية – قسد” ذات “الفزّاعة”، لكن بفاعلية أكبر، خاصة مع دورها الحاسم في إنهاء “دولة التنظيم” قبل خمس سنوات، بدعم أميركي، وإمساكها اليوم بملف مسجوني التنظيم الخطرين. لكن، هل “داعش” مجرد “فزّاعة” فقط؟

يُجيب قائد “جيش سوريا الحرة” على ذلك بصورة غير مباشرة عبر الإشارة إلى كفاح السلطات الجديدة في دمشق للسيطرة على الأمور في البلاد، ويومئ إلى تنسيقه معها، في الوقت ذاته الذي يقول فيه إنها تبذل قصارى جهدها، لكنها لا تملك “عصا سحرية”، في إحالة جليّة إلى عجزها عن السيطرة على كافة الملفات الأمنية–الميدانية المعقّدة على كامل التراب السوري.

وفي هذه الأثناء، يتصدر ملف “فلول نظام الأسد” الأولويات من الناحية الأمنية–الميدانية بالنسبة لإدارة العمليات العسكرية التابعة للسلطات في دمشق. وتبدو أنها منغمسة بصورة كبيرة في هذا الملف، الأمر الذي يعزز حجّة العنتري المشار إليها أعلاه.

في الوقت نفسه، يبدو بحث قوى محلية سورية عن أدوار وظيفية مشفوعاً برغبة أطراف إقليمية. قد تكون الإمارات، التي تحدث العنتري عبر إحدى صحفها، واحدةً من هذه الأطراف، لكنها ليست الطرف الوحيد، إذ إن هناك إسرائيل أيضاً، وبدرجات أقل، الأردن. ومع أن انهيار النفوذ الإيراني في سوريا أدى إلى خلق مكسبٍ استراتيجي–أمني لهذه الأطراف الإقليمية، إلا أن ملء الفراغ المتولّد عنه تركياً يستفز الأطراف ذاتها، وإن بدرجات متفاوتة. وتبحث كل من هذه الأطراف عن ذريعة للارتكاز عليها في تبرير مساعيها للتأثير في عملية “ولادة سوريا المستقبل”.

بعض تلك الذرائع، من قبيل “حقوق الأقليات” التي ارتكزت إليها إسرائيل، قد لا تكون مقنعة في ظل أداء الإدارة السورية الجديدة الذي لا يوحي باستهداف هذه “الأقليات”. لكن ذريعة أخرى، من قبيل الخشية من انتعاش “داعش” في ظل انشغال الإدارة الجديدة بملفات أكثر أولوية كملف “فلول النظام”، قد تصبح أكثر قدرةً على الإقناع في مداولات مسؤولي الاستخبارات والسياسة الخارجية الممثلين للقوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري.

بدورها، تحاول تركيا نزع ذريعة “داعش” من قبضة الأطراف الإقليمية المتمترسة بها، وهو ما يتضح من دعوة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، من بغداد، إلى شنّ معركة مشتركة للقضاء على تنظيمي “داعش” و”العمال الكردستاني” في كلٍّ من سوريا والعراق. ومن المرتقب أن يحاول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إقناع نظيره الأميركي، دونالد ترامب، بقدرة تركيا على تولّي هذا الملف — “داعش” — في سوريا، بالارتكاز إلى قدرات تركيا العسكرية والتقنية المتقدمة، بوصفها ثاني أكبر جيش في حلف الناتو.

وبالاستعانة بالفصائل السورية المدعومة منها. لكن يبقى السؤال: إلى أيّ حدّ سيتقبّل ترامب التخلي عن قوى محلية محسوبة لسنوات على الولايات المتحدة الأميركية، بصورة تجعل واشنطن بلا تأثير مباشر على الأراضي السورية؟ وإلى من سينصت ترامب: إلى تركيا أم إلى إسرائيل وقوى إقليمية أخرى مقرّبة من واشنطن في تقرير شكل التدخل الأميركي في سوريا؟ وكيف تقيّم المنظومة الأمنية–العسكرية الأميركية جدوى الوجود المباشر في سوريا اليوم، بعد أن كانت السبب في دفع ترامب للتراجع عن الانسحاب من سوريا في ولايته الأولى؟

تبقى تلك الأسئلة معلّقة اليوم. لكن مؤشرات أولية إيجابية، من حيث تعاطي “الدولة” الأميركية مع “هيئة تحرير الشام” بعد سيطرتها على السلطة في دمشق، تجعل الكفّة تميل نسبياً لصالح القائلين بالانسحاب الأميركي من سوريا داخل الدوائر القريبة من مؤسسات صنع القرار بواشنطن. إلا أنه من المرجّح أن الإدارة الأميركية الجديدة لن تتخلى عن حلفاء واشنطن بصورة صادمة وفجائية، بل ستعمل جاهدة على حجز موقع لهؤلاء في تشكيلة الحكم المستقبلية لسوريا. وتبقى العقدة في طبيعة هذا الموقع.

فأبرز عامل للقوة في “سوريا المستقبل” سيكون في “جيش موحّد”. والجميع في الداخل والخارج يتفقون — نظرياً — على هذا المبدأ: الجيش الموحّد. لكن الخلاف هو في تفاصيل تشكيله. فـ”قسد” تطالب بكتلة خاصة بها داخله، وفصائل أخرى، منها تلك التي في الجنوب والتي في الشرق تماطل في الاندماج الفوري بغية تحسين الشروط لصالحها.

وفيما يشكّل تأسيس جيش غير متماسك، ومتعدّد الولاءات، ومخترق من أطراف خارجية، وصفة لهشاشة الدولة في “سوريا المستقبل”، فإنه في الوقت نفسه يتطلّب تحقيق الحالة الإيجابية النظيرة درجةً عاليةً من الصبر، ومقداراً كبيراً من التدرّج. فتشكيل جيش متماسك، ولاء أفراده الوحيد لقيادته التابعة بشكل حصري للدولة السورية، يحتاج إلى مسار طويل من التفاوض بين الفرقاء السوريين، يجب أن يتخلّله تقدّمٌ نوعيّ على صعيد التأسيس لعملية سياسية تحظى بمشاركة شعبية مرتفعة من مختلف المكونات والأطياف.

فهذا المدخل هو الأمثل، وهو الذي يمنح ضمانةً أكبر لانتقال سلميّ آمن، باتجاه تفكيك تدريجيّ لمختلف الذرائع والأدوار الوظيفية التي تستند إليها أيّة قوى ذات مطالب فئوية ضيّقة، تدور في فلكٍ آخر خارج فلك “دولة قوية” تمثّل عموم السوريين.

تلفزيون سوريا

——————–

الدمار السكاني خلال سنوات الحرب في سورية: مدينة دير الزور نموذجًا (مقارنة ما بين عامي 2010 و2024)/ ماسة الموصلي، بتول حديد

3 شباط/فبراير ,2025

ملخص تنفيذي

سقط نظام بشار الأسد في 8/12/2024 بعد حربٍ شنها وحلفائه” إيران وروسيا” على الشعب السوري منذ أن بدأت الاحتجاجات على نظامه في آذار من عام 2011، وكانت نتيجتها الدمار المادي والسكاني لسورية، حيث عانى السوريون خلال تلك السنوات من عنف شديد مورس بحقهم أدى إلى تهجيرهم نصفهم واعتقال مئات الآلاف، فضلاً عن أكثر من نصف مليون قتيل وعشرات الآلاف من المفقودين، عدا عن افقار السكان وتجويعهم نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية حيث أصبح متوسط دخل الفرد مطلع 2024 لا يتعدى 25 دولار ولا يغطي ربع احتياجات الأسرة الغذائية.

كانت مدينة دير الزور من ضمن المدن الثائرة التي تعددت القوى التي سيطرت عليها خلال سنوات الحرب، وكان الجيش الحر قد حرر غالبية أحياء المدينة من سيطرة النظام في عام 2012، وفي عام 2014 استطاع تنظيم الدولة الإسلامية إبعاد فصائل الجيش الحر إلى خارج المدينة والسيطرة عليها، وخلال تلك الأعوام شهدت دير الزور قصفًا شديدًا لأحيائها ومعارك عنيفة وحصار طويل، واستمر الصراع والمعارك حتى استولى عليها النظام السوري منتصف عام 2017.

استندت فكرة هذه الدراسة على إجراء مقارنة لسكان مدينة دير الزور ما بين عام 2010 قبل بدء الاحتجاجات، وعام 2024، وذلك لاستيضاح التركيبة السكانية لمدينة دير الزور قبل الحرب، وأوضاع السكان المعيشية والاقتصادية، والعوامل التي دفعتهم إلى التظاهر ضد النظام السوري، ورصد التغييرات السكانية التي حصلت خلال سنوات الحرب، والوقوف على التهجير الذي حصل نتيجة التغير في القوى المسيطرة على المدينة وأسبابه، ورصد الدمار الكبير الناتج عن القصف في الأحياء، والذي يعتبر عاملاً من عوامل عدم عودة السكان المهجرين إلى بيوتهم، ومن ثمّ رصد الدمار في البنية الاقتصادية و الكوادر العلمية والمهنية، وصولاً لأرقامٍ تقديرية تبين مقدار الدمار السكاني الذي وصلت له عام 2024، وذلك عن طريق آخر بيانات سكانية عن المدينة صادرة عن المكتب المركزي للإحصاء، ومقاربتها مع ما جاء في البيانات التي وصلنا لها من خلال الاستبانة التي وزعت على سكان مدينة دير الزور في الداخل، وأخرى على المهجرين من سكان المدينة في دول اللجوء، وأيضًا المقابلات التي أجريت مع عدد من مثقفي المدينة والناشطين.

وقد أوضحت النتائج أن غالبية سكان مدينة دير الزور هم من العرب السنة ومن أصول عشائرية متعددة، إلا أن طابع الحياة المديني هو الغالب على تعاملاتهم المعيشية الأسرية واليومية، كما كان يعيش في المدينة وقبل اندلاع الاحتجاجات نسبة قليلة من السكان المسيحيين، ومن ضمنهم المهاجرين الأرمن الذين احتضنتهم المدينة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914.

وتبين أن المدينة فقدت 41% من تعداد سكانها عام 2010 البالغ بحسب التقديرات قرابة (239.196) ألف نسمة، في حين أن عددهم التقديري عام 2024 هو (173,727) ألف نسمة، وأن هنالك تغييرًا في التركيبة السكانية نتج عن هجرة ونزوح سكان المدينة وقدوم سكان جددٍ إليها من الأرياف خاصة.

كما بينت أن عمليات التهجير لم تتوقف بعد سيطرة قوات نظام الأسد على المدينة منتصف عام 2917، بل على العكس اتسمت المرحلة ما بين عامي 2017 و2024 باستمرار الهجرة وتحولت إلى هجرة اقتصادية بحثًا عن ظروف حياة أفضل خاصة لشريحة الشباب وذلك بسبب الفقر الشديد وانعدام الأمن الغذائي والصحي، وانعدام الأمان، وعدم وجود فرص عمل، إضافة لتفضيل الشباب الذكور للهجرة على الالتحاق بالتجنيد في جيش نظام الأسد، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن جمع بيانات الدراسة قد تم ما بين بداية شهر أيلول ونهاية شهر تشرين الأول من عام 2024 ، قبل سقوط نظام بشار الأسد، وانتهى العمل عليها مع بدء المرحلة الجديدة من التغيرات العسكرية والسياسية التي حصلت على الأرض السورية نتيجة تحريرها من نظام الأسد على يد فصائل هيئة تحرير الشام في 8/12/ 2024.

يمكنكم قراءة البحث كاملًا من خلال الضغط على علامة التحميل أدناه:

 تحميل الموضوع

https://www.harmoon.org/wp-content/uploads/2025/02/%D8%AF%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%B1-%D9%85%D9%84%D9%81.pdf

———————

التعرفة الجمركية الجديدة في سورية وانعكاساتها على الاقتصاد

3 شباط/فبراير ,2025

مقدمة:

أثار إصدار المديرية العامة للجمارك في حكومة تصريف الأعمال تعرفة جمركية جديدة، في 11 كانون الثاني/ يناير 2025، بديلة عن التعرفة السابقة التي كان معمولًا بها حتى تاريخه، ردّات أفعال ومواقف ناقدة، بعضها معترضة (المصدّرون الأتراك) وأخرى مرحّبة. وشملت التعرفة الجديدة نحو 6 آلاف سلعة ومادة، سواء أكانت أولية أو نصف مصنّعة أو مصنّعة للأغراض المختلفة المستوردة والمصدرة. ويبدأ العمل بالتعرفة الجديدة، منذ تاريخ صدورها 11 كانون الثاني/ يناير 2025، ومن الملاحظ أن هناك سرعة في الإعلان عن التعرفة وفي مباشرة العمل بها، لأنّ وضع تعرفة جديدة يتطلب دراسات ومساهمات من خبراء ومختصين وبرمجيات لمعالجة التعرفة الجديدة وفق منهجيتها.

تقدّم هذه الورقة بعض الأسباب التي تبيّن خلفية المواقف المتعددة، بين الاعتراض والترحيب، التي عبّر عنها المستهلكون والمنتجون والباحثون في الاقتصاد والحكومة التركية، كما تقدّم بعض المقترحات التي نرى أن لها الأولوية في الوقت الحاضر، في ضوء الواقع الاقتصادي الإنتاجي والخدمي في سورية.

 الوظائف المعتادة للتعرفة الجمركية

من المتعارف عليه أن للتعرفة الجمركية مجموعة من الوظائف في أي نظام اقتصادي، وثمة مدارس مختلفة في فلسفة التعرفة الجمركية وتصميمها.

    الوظيفة المالية: وغايتها تحقيق إيراد مالي للخزينة العامة، وتلجأ وزارات المالية عادةً إلى فرض رسوم مرتفعة لزيادة إيراداتها، في حين يميل المستورد إلى جعلها منخفضة. وثمة قاعدة تبيّنها التجربة أنه كلّما ارتفعت معدلات الرسوم الجمركية، انخفضت إيراداتها وزادت عمليات التهرّب الجمركي والتهريب عبر الحدود، وقد كانت الجمارك السورية ساحة واسعة للفساد والإفساد.

    وظيفة حماية بعض قطاعات الاقتصاد الوطني: وهي ترتبط بالسياسة التجارية للبلد، حيث تعفي الرسوم الجمركية وسائل الإنتاج (معدات ومكنات وأدوات)، كما تعفي المواد الأولية الداخلة في الصناعة، وتفرض رسومًا منخفضة على السلع نصف المصنّعة، وتفرض رسومًا جمركية مرتفعة على المنتجات المستوردة المماثلة للمنتجات التي تُصنّع محليًا، ولكن دون منع المستوردات المشابهة، وذلك لتشجيع الصناعة المحلية، ولكن المبالغة بهذه الرسوم تُعدّ أمرًا سلبيًا، لأنها تقدم حماية مفرطة للمصنّع المحلي، على حساب المستهلك المحلي. وقد كان النظام السابق يمنع استيراد المنتجات المماثلة للمنتجات المحلية. ويُعدّ هذا الأمر أحد الموضوعات الشائكة والخلافية، وهو موضوع صراع بين الصناعيّ والتاجر، ويتم تنظيمه عادة بين الدول عبر اتفاقيات تجارية واتفاقيات مناطق التجارة الحرة، وقد وضعت اتفاقية منظمة التجارة العالمية WTO قواعد لتنظيم استخدام الحماية.

    وظيفة المساهمة في تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية: حيث تخفض التعرفة الرسومَ على ما يسمّى السلع الاستهلاكية الأساسية الشعبية، ولا سيّما الأغذية الأساسية للشعب، مثل الشاي والسكر والزيت والأرز والبرغل أو اللحوم والألبان والأجبان وغيرها، وعلى مختلف الأدوات والملبوسات الشعبية، وذلك من أجل خفض تكاليف المعيشة، وتفرض رسومًا مرتفعة على ما يُسمّى السلع الكمالية. وقد مارس النظام السابق هذا التفريق على نحو مبالغ به، إذ بلغت رسوم السيارات المستوردة نحو 400%، ومنع استيراد السيارات منذ منتصف ستينيات القرن العشرين حتى نهاية القرن العشرين، مع السماح باستيرادها خلال بضع سنوات في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وعاد بعدها لمنع استيرادها، وفتَح التسجيل على السيارات، حيث قامت الدولة باستيراد 25 ألف سيارة سنة 1983. ونتيجة لهذه السياسة، أصبحت سورية تعمل بسيارات قديمة كثيرة الأعطال، وأدى ذلك إلى توسيع سوق تصليح السيارات واستيراد السيارات الكسر من أوروبا، ولا سيّما ألمانيا، لاستعمال قطعها المستعملة في إصلاح سيارات سورية القديمة.

    وظيفة حماية المجتمعات المحلية: تلجأ التعرفة الجمركية للنصّ على منع استيراد الأسلحة، وحصر استيراد الأسلحة الحربية بوزارة الدفاع، وتُخضع استيراد الأسلحة الخفيفة وأسلحة الصيد لموافقات خاصة، وتمنع استيراد المخدّرات، أو استيراد المواد منتهيّة الصلاحية، وغير ذلك. وفي بعض الدول، يُمنع استيراد المشروبات الروحية ولحم الخنزير، وكل المنتجات الغذائية التي يدخل فيها الدم أو منتجات من الخنزير، وقد اعتمدت التعرفة السورية الجديدة هذا المبدأ، بالرغم من أن في سورية مكونات ومجموعات واسعة تستهلك المشروبات الروحية ولحم الخنزير، وفي هذا خرقٌ لمبدأ المعاملة العادلة للجميع.

ومن المعروف أن وضع أي تعرفة جمركية جديدة يجب أن يكون بعد دراسة هذه الوظائف، كي تسهم التعرفة في أداء دورها المطلوب. ومن المبكّر الحكم على نتائج قرار التعرفة الجديدة وتقييمها، ومعرفة آثارها على الاقتصاد والمجتمع، إذ إن نتائج ذلك تحتاج إلى مدة زمنية حتى تظهر.

في إصدار التعرفة الجمركية الجديدة

أكّدت دساتير سورية السابقة والحالية كافة أنه لا يجوز فرض ضريبة أو رسم إلا بموجب نص قانوني، ولا تعدّ حكومة تصريف الأعمال مخوّلة دستوريًا بسنّ قوانين أو تطبيق قوانين غير مقرّة دستوريًا، وموضوع التعرفة الجمركية موضوع كبير ومهمّ، ويمسّ مصالح وطنية واسعة، ومن ثم يجب أن توضع التعرفة الجمركية من قبل خبراء في التعرفة وفي المالية والاقتصاد والاجتماع، وأن تُدرس التعرفة القائمة بتأن، وتحدّد نقاط ضعفها وقوتها، ومن ثم توضع تعرفة جديدة، ويناقشها أصحاب المصلحة قبل إصدارها وإقرارها، والسبب أن للتعرفة الجمركية مجموعة من الوظائف.

بعض الملاحظات على التعرفة الجديدة

تضمّنت قائمة التعرفة الجديدة ما يزيد على 6000 بند، وألغت الإدارة الجديدة للمديرية العامة للجمارك أيضًا أكثر من 10 رسوم إضافية (في تعاميم داخلية إلى المعابر والموانئ)، كما ألغت التعرفة الجمركية السابقة المبنية على نسبة من السعر بالليرة السورية، وأحلّت مكانها مبلغًا مقطوعًا بالدولار للوحدة (NMB) ( LTR) ( KGM)، مثلًا (50 دولارًا عن طن المشتقات النفطية، و27 دولارًا عن طن الأرز)[1]، وتؤدي التعرفة الجديدة، بحسب تقديرات المديرية العامة للجمارك، إلى تخفيض الرسوم الجمركية، بين 50 و60% من قيمتها مقارنة بالتعرفة الجمركية.

لم تتضح بعدُ آثار هذه التعرفة وانعكاساتها على قطاعات الإنتاج وقدرتها التنافسية ومستوى أسعار المستهلك، وعلى الإيرادات العامة للدولة، ومع ذلك كانت ردة فعل المصدّرين الأتراك والحكومة التركية سريعة* ، والسبب الكامن خلف هذه الاعتراضات هو أن الرسوم التي كانت تفرضها إدارة المعابر الحدودية على البضائع القادمة من تركيا إلى سورية، هي رسوم محدودة القيمة لا ترقى إلى اعتبارها رسومًا جمركية، وهي في الواقع رسوم خدمات[2]، وفضلًا عن ذلك كانت تلك الرسوم تُخفّض بنسبة 30% إذا كانت البضائع من منشأ تركي، في حين إن التعرفة الجديدة هي تعرفة موحّدة، في المعابر الدولية كافة، على جميع البضائع بغض النظر عن بلد منشئها.

ونتيجة لذلك، يفقد المصدرون الأتراك الأفضلية التنافسية التي هيأت لهم الحصة الأكبر من السوق السورية، وقد وجدوا خلال فترة وجيزة من تطبيق التعرفة الجديدة تحوّلًا في اتجاه الطلب، نحو منتجات دولية منافسة، حيث حذّر نهاد أوزدمير، مالك مجموعة ليماك، وهي مجموعة إنشاءات كبرى، من أن تطبيق الرسوم الجمركية المعلن عنها سيؤدي إلى زيادة الرسوم الجمركية على الإسمنت الذي نصدّره إلى سورية، من 27 دولارًا على الطن، إلى 50 دولارًا.

من الإجراءات المثيرة للقلق عدم وضع تعرفة للمستوردات من لحم الخنزير والمشروبات الكحولية، بما يوحي بعدم استيرادها، في حين إن التصريحات المتكررة لمسؤولي إدارة المرحلة الحالية تشير إلى أنه لن يكون هناك تمييز أو مساس بحرية الأفراد والجماعات في ممارساتهم الخاصة وحياتهم اليومية، وأنّ أي قرار يقارب هذه المسائل لن يُتّخذ إلا من خلال القوانين التي يُقرّها الشعب السوري، وهذا ما يثير حفيظة فئات من المواطنين.

أنجزت المديرية العامة للجمارك التعرفة الجمركية لما يزيد عن 6000 بند جمركي، خلال مدة قياسية أقل من 20 يوم عمل (حسب تصريح مدير عام الجمارك)، وفي هذا السياق ثمة مسائل عدة تحتاج إلى تبيين: هل أنجزت المديرية دراسةً لكلّ بند وموقعه في الاقتصاد الوطني، من حيث الإنتاج والاستهلاك ونمط الاستهلاك وأثر التعرفة على التكلفة الإجمالية وتأثر الإنتاج الوطني المماثل وقدرته التنافسية؟ وهل أخذت التقديرات بالاعتبار الظروف الخاصة التي يمرّ بها الاقتصاد السوري وقطاعاته الإنتاجية؟ وهل دُرست نتائج تخفيض التعرفة على الخزينة العامة والموازنة والتزامات الإنفاق الجاري في الدولة؟ إن التعرفة الجمركية تستحق اهتمامًا خاصًا، لأن القطاع الخارجي (الصادرات والواردات)، رغم التراجع الكبير في الصادرات والواردات نتيجة سنوات الحرب، قد شكّل ما يزيد على 52% من قيمة الناتج المحلي لسورية عام 2023[3].

تحدد التعرفة مبلغًا مقطوعًا ثابتًا، قد تتغير قيمته الفعلية نتيجة التغيّر المستمر في أسعار المنتجات والسلع المختلفة والتغيّر في سعر الصرف للعملة المستخدمة، وإنّ استخدام الدولار والحديث عن حرية التبادل بالدولار في السوق المحلي يُهدّد بدولرة الاقتصاد الوطني، وتعرّضه لفوضى سعرية نتيجة تعدد التقديرات والتباين في سعر الصرف وتعدد الأسواق (أسواق دولارية وأسواق بالعملة المحلية، أسواق منتجات محلية، وأسواق مستوردات)، ما ينعكس على قطاعات الإنتاج بتغيّر التكاليف والأسعار، ويعزز مخاوف المستثمرين نتيجة عدم الوثوق بالعملة الوطنية والخشية من قرارات متغيرة نتيجة ذلك.

العوامل المرتبطة بالظروف الاستثنائية التي تمرّ بها سورية

    أدّت الحرب المستمرة منذ نحو 14 عامًا في سورية إلى دمار واسع في قطاعات الإنتاج جميعها، ونتيجة ذلك تقلّص الناتج المحلي الإجمالي، مما يعادل 61 مليار دولار أميركي عام 2010، إلى ما يقارب 8 مليار دولار عام 2023، أي أن الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023 لا يزيد على 13% من الناتج المحلي لعام 2010[4]، وتقلصت المساحات المزروعة والإنتاجية في القطاع الزراعي، وشكّل الناتج الصافي للقطاع عام 2021 نحو 38.5% من ناتج القطاع عام 2010[5]، وأصبح إنتاج النفط والغاز في معظمه خارج سيطرة الدولة، وتقلّص الإنتاج الصناعي إلى نحو ما يقارب 25% من مستوى إنتاجه عام 2010، وهذا يعني وجود نقص كبير في القدرة على تلبية الاحتياجات الإنتاجية والاستهلاكية للمجتمع، وفاقم هذه الحالة هروبُ الرساميل وشحّ الاستثمار، وسوف تستمر آثار ذلك مدة زمنية طويلة نسبيًا.

    حسب تقديرات البنك المركزي في سورية، تراجعت الصادرات السورية، من نحو 8.8 مليار دولار عام 2010، إلى نحو 1 مليار دولار عام 2023، في حين تراجعت الواردات من نحو 17.5 مليار دولار عام 2010، إلى ما يقارب 3.2 مليار عام 2023[6]. وتوضّح هذ الأرقام حجم التراجع الكبير في القدرة الإنتاجية، والعجز الكبير في ميزان المدفوعات (الصادرات تغطي فقط نحو 31% من الواردات)، ما يعكس وجود تراجع مطرد في قيمة العملة الوطنية، كما يعكس القدرة الاستيعابية والقدرة المحدودة على تمويل المستوردات.

    شكّلت العائدات الجمركية عام 2010 نحو 4.2% من إجمالي موارد الموازنة لذلك العام، بالرغم من الفساد والتهرّب الضريبي، ويمكن زيادة هذه الإيرادات من دون الحاجة إلى زيادة التعرفة الجمركية بالحدّ من الفساد والإعفاءات الجمركية. ويمكن أن تتحوّل الإيرادات إلى دعم بعض السلع الأساسية للفئات الاجتماعية الأوسع، أو لتوفير إيرادات أكبر للموازنة بشكل عام، فالفساد والتلاعب في البنود الجمركية يؤديان إلى تقليص الرسوم إلى الحدود الدنيا، كما أن بعض قرارات الإعفاء من الجمارك أو التهرّب من دفع الرسوم، نتيجة نفوذ بعض المسؤولين، يحرمان الموازنة العامة موارد كبيرة. ولو أخذنا تجربة لبنان مثلًا لوجدنا أنّ عائد الرسوم الجمركية شكّل عام 2010 نحو 9.86% من إيرادات الموازنة العامة لذلك العام، والتي كانت  تُقدّر بما يقارب 5.477 مليار دولار[7]، فضلًا عن أن معدّل التعرفة في سورية قد كان أعلى من معدلها في لبنان، وكمية الواردات أكبر. ومن جانب آخر، يمكن للتعرفة الجمركية أن تقوم بدور إيجابي بتوفير مستلزمات الإنتاج برسوم جمركية مخفضة، تقلّصُ تكاليف الإنتاج وتعزز تنافسية القطاعات الإنتاجية.

    تتخذ التعرفة الجمركية أهمية خاصة في جميع الدول، وذلك للحفاظ على قطاعاتها الإنتاجية وحمايتها من العوامل “الضارة”** في الأسواق المفتوحة والتجارة الدولية، وقد طبّقت جميع الدول الصناعية المتقدمة، في مدة زمنية طويلة نسبيًا، “سياسات حمائية”، تجاه مختلف الدول الأخرى، وحتى الحرب العالمية الثانية، كانت جميع الدول الصناعية المتقدّمة تطبّق سياسات جمركية تتصف بالحمائية، وعلى إثر الحرب وضرورات إعادة الاعمار، تمت الدعوة إلى الاتفاق حول تخفيضات جمركية متبادلة بين الدول في الأمم المتحدة، واستمرت المفاوضات حتى عام 1946، حيث تم إنشاء الاتفاقية العامة للتعرفات الجمركية والتجارة (الغات)، وفق مؤتمر جنيف ذلك العام، وكانت سورية عضوًا مؤسسًا للاتفاقية منذ عام 1947، ولكنها في المنظمة الجديدة “منظمة التجارة العالمية” التي أنشئت عام 1995، قُبلت كعضو مراقب في 2001.

    ترتبط سورية مع عددٍ من الدول العربية باتفاقية “منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى” التي دخلت حيز التنفيذ عام 2005، وترتبط مع تركيا باتفاقية منطقة تجارة حرة 2005، دخلت حيز التنفيذ عام 2007[8]. وتفرض اتفاقيات المناطق الحرّة تخفيض الرسوم الجمركية، وإلغاءها في مبادلات أطراف الاتفاقية، وهذا يحول دون حرية الدول الأعضاء في استخدام التعرفة الجمركية كأداة حمائية، وتشكّل الاتفاقيات المنشئة لمنظمة التجارة العالمية لعام 1994 المرجعيةَ لتلك الاتفاقيات، وهي تنصّ على حق الدول الأعضاء في الاتفاقية بطلب وقف مؤقت لسريان بعض بنود الاتفاقية، أو طلب حماية بعض القطاعات الاقتصادية التي ترى أن هناك ضررًا يلحق بها نتيجة الإجراءات التي تنصّ عليها الاتفاقية، ويمكن للدول الأعضاء في الاتفاقية طلب استثناءات وإعفاءات من تطبيق بعض البنود، عند التعرض لكوارث طبيعية أو أزمات من أنواع أخرى، وتنصّ اتفاقية المنطقة الحرة، بين سورية وتركيا، في المادة رقم 3 من الاتفاقية، على أنه “في حالة وجود صعوبات خطيرة، بالنسبة إلى منتَج معين، يجوز للجنة الرابطة مراجعة الجدول الزمني المطبق بموجب الفقرة (2) أعلاه بالاتفاق المشترك، على أساس أنه لا يجوز تمديد الجدول الزمني في ما يتعلق بمنتج معين إلى ما بعد الفترة الانتقالية القصوى البالغة 12 سنة. في ما يتعلق بالمنتج المعني بعد الفترة الانتقالية القصوى البالغة 12 سنة. وإذا لم تتخذ لجنة الرابطة قرارًا، في غضون ثلاثين يومًا من تقديم سورية طلبًا لمراجعة الجدول بالنسبة إلى منتج معين، يجوز لسورية تعليق الجدول المعني مؤقتًا لفترة لا يجوز أن تتجاوز العام”. وتشير المادة الخامسة: “التعديل الهيكلي”، إلى أنه “يجوز لسورية أن تتخذ تدابير استثنائية محدودة المدة، تخرج عن أحكام المادة 3 في شكل زيادة أو إعادة فرض رسوم جمركية خلال الفترة الانتقالية (12 عامًا من بدء سريان الاتفاق)” [9]، ومن ثم، يمكن للجانب السوري طلب تجميد اتفاقية منطقة التجارة الحرة بين البلدين، نتيجة الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها سورية، كما أشرنا أعلاه، على مجموعة من منتجات الصناعات المحلية والمنتجات الزراعية لحمايتها، وطلب إعادة النظر في التعرفة الجمركية السورية الجديدة لنحو 269 مادة مصدرة من تركيا إلى سورية (حسب تصريح وزارة التجارة الخارجية التركية)[10]، ولدى سورية جميع المبررات التي تسمح لها باستخدام حقوقها المنصوص عنها في الاتفاقيات الموقعة، سواء مع تركيا أو مع الدول العربية الشريكة في منطقة التجارة الحرة، وبما يتوافق مع اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، ولا سيما في الظروف التي تمرّ بها سورية والصراعات الدائرة عالميًا حول التعرفات الجمركية وانتعاش “الحمائية” في العديد من الدول.

ختامًا؛ كان من الأجدى عدم إصدار التعرفة الجديدة، قبل أن تتشكل سلطات دستورية، ويمكن مؤقتًا إعداد قائمة بالتعديل على التعرفة الجمركية لعام 2018، تخفيضًا أو زيادة، بما يتوافق مع الأهداف المرحلية، سواء بتخفيض أسعار السلع الأساسية، أو حماية المنتجات الوطنية، أو غيرها من أهداف، وذلك إلى حين وضع التعرفة الجمركية الجديدة، وإعادة الاعتبار للتعرفة الجمركية كعامل مساعد في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى كونها مصدرًا مهمًا لإيرادات للخزينة العامة.

[1] – تصريح مدير معبر نصيب “خالد البراد” إلى تلفزيون العربي، في 13 كانون الثاني/ يناير 2025، الرابط: https://www.facebook.com/watch/?v=1636288666961612

*- حذر جلال كادوغلو، رئيس رابطة مصدري الحبوب والبقول والبذور الزيتية ومنتجاتها في جنوب شرق الأناضول، من “أن القرار يعرّض العديد من القطاعات -لا سيما الحبوب والبقول والبذور الزيتية والمنتجات الغذائية الأخرى، والتي تشكل حصة كبيرة من صادرات تركيا إلى سوريا- لخطر التعرض لخسائر فادحة. ” Turkey Today- By Newsroom Jan 27, 2025 2:35 PM

[2] – تصريح ” خالد البراد”، مرجع سابق.

[3] – Syria Economic Monitor Conflict, Crises, and the Collapse of Household Welfare. Spring 2024, World Bank, p.10

[4] – تقديرات للناتج لعام 2023 حسب المصرف المركزي المذكورة في المرجع السابق وبيانات المكتب المركزي للإحصاء عام 2011، للناتج المحلي الصافي بتكلفة عوامل الإنتاج وأسعار عام 2000 الثابتة

– [5] Net domestic product at factor cost by sector , 1963, 1970 – 2010 ( At constant prices of 2000, in million Syrian pounds ) and NET DOMESTIC PRODUCT AT FACTOR COST BY SECTOR 2000-2021, (Basic Year 2000)(Value: Million S.P.). Central Bureau of Statistic, Damascus.

[6]– Syria Economic Monitor Conflict, Crises, and the Collapse of Household Welfare. Spring 2024, World Bank, p.10

[7] – Economic Accounts of Lebanon 2010, Compiled and published under the direction of Robert Kasparian LEBANESE REPUBLICPRESIDENCY OF THE COUNCIL OF MINISTERS ECONOMIC ACCOUNTS MISSION

**- من العوامل الضارة، المنافسة غير المشروعة، سياسات الدعم للمنتجات المحلية، دعم التصدير، التلاعب في أسعار الصرف، القيود غير الجمركية وغيرها.

[8] – THE ASSOCIATION AGREEMENT ESTABLISHING A FREE TRADE AREA BETWEEN THE REPUBLIC OF TURKEY AND THE SYRIAN ARAB REPUBLIC. signed on 22 December 2004 in Damascus

[9] -ibid. .p.p 4 and 5

[10] – Turkey Today- By Newsroom Jan 27, 2025 2:35 PM

تحميل الموضوع

https://www.harmoon.org/wp-content/uploads/2025/02/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9.pdf

مركو حرمون

——————————–

بعد أن اختار السعودية وجهة أولى، هل يبحث الشرع عن معادل للدور التركي؟/ عبدالله سليمان علي

تحديث 04 كانون الثاني 2025

هذا الميل المبكر لإظهار الحياد عن سياسة المحاور، ما زال عرضة لتجاذبات وضغوط داخلية وخارجية من غير المستبعد أن تفرض عليه الجنوح إلى هذا الطرف أو ذاك وفقاً للمصالح الآنية للسياسة السورية، بخاصة في ظل افتقار البلاد إلى مقومات التعافي بعد 14 عاماً من الحرب.

سوريا أحمد الشرع إلى المملكة العربية السعودية، الأحد، في أوّل زيارة رئاسية له للخارج، وذلك بعد يومين من استقباله أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني في دمشق وهي الزيارة الأولى لزعيم عربي بعد تكليف الشرع رئاسة الجمهورية من فصائل “مؤتمر النصر”.

لم يغب طيف تركيا عن هذه الأجواء، إذ تم الإعلان عن زيارة سيقوم بها الشرع اليوم الثلاثاء إلى أنقرة للقاء الرئيس رجب طيب أردوغان.

وتحاول خريطة تحركات الشرع في أيامه الأولى في الحكم -على ما يبدو- خلق نقطة توازن تقف عليها دمشق كي لا تحسب على طرف دون آخر. غير أنّ هذا الميل المبكر لإظهار الحياد عن سياسة المحاور، لا يزال عرضة لتجاذبات وضغوط داخلية وخارجية من غير المستبعد أن تفرض عليه الجنوح إلى هذا الطرف أو ذاك وفقاً للمصالح الآنية للسياسة السورية، بخاصة في ظل افتقار البلاد إلى مقومات التعافي بعد 14 عاماً من الحرب.

وفي ظلّ وجود تحديات جسيمة لا تزال تعاني منها البلاد، لا سيما بعض الملفات ذات الامتداد الخارجي، مثل ملف “قوات سوريا الديموقراطية” والمناطق التي تسيطر عليها، وكذلك ملف التوغل الإسرائيلي في القنيطرة، إلى جانب ملف السلم الأهلي الهشّ والقابل للانفجار في أي وقت، والانهيار الاقتصادي الذي فاقمه تجميد عمل معظم مؤسسات الدولة السورية، فإن من غير المتوقع أن يكون ثمة خيار لحاكم سوريا الموقت برسم بعض السياسات، بل الأرجح أن دوره سوف يقتصر في العديد منها على إدارة تداعيات هذه الملفات بما يقنع الدول المعنية بكل ملف أن مصالحها مرعية.

وقد يكون العامل الذي يطغى على تحديد صورة التحرك وتوصيفه هو العامل الداخلي وليس الخارجي، إذ إن معظم الدوافع التي تحرك الإدارة الجديدة إنما تنطلق من واقع الاحتياجات التي لا بد للإدارة من تأمينها كي تستطيع الاستمرار في الحكم، لذلك يبدو أن إحياء “الخيار السعودي” الذي طالما وجّه بوصلة دمشق نحو الرياض تاريخياً، أصبح بحكم الضرورة في هذا التوقيت، وذلك لسبين: حاجة دمشق إلى إنعاش اقتصادي ملحّ لدفع الرواتب وتأمين الحد الأدنى من الخدمات. والثاني تأمين غطاء عربي لعملية الانتقال السياسي المفتوحة على أجل غير محدد وسط إحساس الإدارة الجديدة بمدى خضوع هذه العملية لرقابة شديدة من بعض الدول لأسباب ومصالح مختلفة.

وإلى جانب الإنعاش الاقتصادي وتوفير مظلة للمرحلة الانتقالية، قد تكون لدى الشرع أهداف أخرى معلنة وغير معلنة من وراء اختيار الرياض لتكون محطته الخارجية الأولى.

ومن بين الأهداف المسكوت عنها يبرز التعقيد الذي سوف يواجه إدارته في حال لم تنجح المساعي السياسية والمفاوضات في حل استعصاء “قسد”، لأن حليفه التركي يضغط باتجاه حلّ المسألة عسكرياً، وهو ما يضع الشرع أمام تحديات داخلية خطيرة، خاصة بعد قرار حلّ الفصائل المسلحة في “مؤتمر النصر”، ما يعني أن الشرع بصفته القائد العام للجيش الجديد سيكون هو المسؤول عن قرار السلم والحرب، وليس فصائل مسلحة تعمل بأمر من تركيا.

ومع اتخاذ قيادة “قسد” موقفاً رافضاً لمقررات “مؤتمر النصر” الذي كلف الشرع رئاسة البلاد وشكل الجيش الجديد، سيعني إخفاق المفاوضات انزلاق البلاد نحو خيار التقسيم.

ونتيجة غموض الموقف التركي من هذا الخيار، رغم تصريحات المسؤولين الأتراك بشأن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، تتجلى مدى حاجة الشرع إلى قوة إقليمية عربية يمكنها كبح جماح حليفه التركي في حال قرر الذهاب بعيداً في مواجهة “قسد”.

ومن بين هذه الأهداف أيضاً تأتي مسألة رفع العقوبات المفروضة على سوريا كبلد أولاً، وعلى “هيئة تحرير الشام” كتنظيم ثانياً، وعلى الشرع كشخص ثالثاً. وبسبب العلاقة المتينة بين الرياض وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يصبح من غير المنطقي ألا تحاول دمشق الاستعانة بها للتوسط لدى واشنطن من أجل قضايا كثيرة من أهمها موضوع الانسحاب الأميركي وتأثيره على شرق الفرات، وكذلك في مسألة تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا بما يمكنها من تأمين مستلزمات إدارة المرحلة الانتقالية، وتوفير ما يمكنها من سد نفقات الخدمات الضرورية للبلاد والمواطنين.

وليس بين يدي سوريا حالياً أي أوراق قوة تخوّلها التأثير في سياسات الدول إزاءها. وقد تكون المفارقة أن خشية بعض الدول من عودة المشهد السوري إلى التدهور، هي ورقة دمشق الرابحة الوحيدة، لكن اللعب بهذه الورقة أو التلويح بها قد ينقلب في أي لحظة بما يجعله ينعكس بشكل مباشر على وحدة وتماسك الأراضي السورية تحت وطأة أجندات داخلية وخارجية لدول عدة تنظر إلى التقسيم كخيار احتياطي في حال أخفقت خياراتها الأخرى لتحقيق مصالحها.

النهار العربي

————————-

الشّرع من إدلب إلى الرّياض: الحج السياسيّ/ محمد قواص

تحديث 04 كانون الثاني 2025

أن تسارع السعودية، منذ اللحظة الأولى، إلى احتضان التحوّل السوريّ، فذلك يكشف تبصّراً في قراءة ما هو مباغت غامض في المفترقات التاريخية الصعبة. غير أنّ رعاية المملكة السعودية المواكبة ساعة بساعة للحدث منذ يوم سقوط النظام السابق، ومواكبتها يوماً بعد يوم لسوريا الجديدة، تحيلاننا إلى مواعيد سابقة في تاريخ المنطقة في السنوات الأخيرة كانت الرياض سبّاقة في ملاقاتها والتعامل معها وإعادة إنتاجها أصلاً يُضاف إلى حساب الأرباح لا الخسائر في موازين المنطقة. لاقت الرياض اللحظة السورية على عجل. قال مصدر سعودي: “لو لم نسارع لعمّت الفوضى”.

في 8 كانون الأوّل 2024 دخل أحمد الشرع دمشق معلناً سقوط نظام حكم سوريا طوال 52 عاماً. بعد أقلّ من شهرين، في 29 كانون الثاني الماضي، أختير رئيساً للبلاد. وفي الأوّل من شباط توجّه إلى السعودية، الوجهة الخارجية الأولى له رئيساً للبلاد. بدا أنّ في تلك الحكاية منطقاً، يكاد أن يكون غير مفاجئ، يعيد الأمور إلى نصابها. ترجع سوريا إلى الجغرافيا قبل التاريخ، ويرى رئيسها في السعودية، التي وُلد فيها، “حجّاً” سياسيّاً له معانيه السوريّة الخالصة، ويسلّط مجهراً على بوصلة دمشق الجديدة، إذ تتخلّص من هيمنة مشؤومة، وتتحرّر داخل حاضنة واسعة تملك الرياض مفاتيحها.

قبل أسابيع أبدى مصدر سعودي مراقب إعجابه بعزّة النفس السوريّة وفريقها الحاكم الجديد. لاحظ أنّه على الرغم من “النكبة” التي تعيشها البلاد إثر حرب مدمّرة، معطوفة على نهب ممنهج مارسه النظام المخلوع طوال عقود، لم ينتهج الشرع وفريقه أيّ لهجة يُشتمّ منها ضعفٌ أمام العالم واستدرار لعطفه. لا يتعلّق الأمر بطباع كِبَر فقط، بل بإدراك قادة سوريا الجدد لأهمّية بلدهم في تاريخ المنطقة، ديناً وثقافة وتقاليد وتراثاً، ولأهمّية البلد في التوازنات الجيوستراتيجيّة في الشرق الأوسط. والأرجح أنّ في تلك الخصال ما دفع الرياض من دون تردّد إلى تقديم الدعم جوّاً وبرّاً، وحمل “قضية” سوريا إلى محافل العرب والعالم.

يمثّل اللقاء إعلان تحوّل نهائي في موازين القوى في الشرق الأوسط، ويحتاج إلى تموضع مشترك تلتحق به بلدان المنطقة

معجب برؤية 2030

يُسجّل للشرع أنّه عرف سريعاً، وهو الذي ما برح يتوجّه لمكّة قبلة المسلمين في صلواته منذ صغره، أنّ الرياض هي أولى قبلاته السياسية ورقم أساسيّ في معادلة بناء سوريا وإعادة تموضعها على خارطة العالم. عبّر في مناسبة تلو أخرى عن إعجابه برؤية 2030 التي أُطلقت في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز برعاية وقيادة وليّ عهده الأمير محمّد. لم تكن تلك المواقف تندرج داخل “ألفباء” دبلوماسيّة، بل باتت عُدّة شغل للحكومة المؤقّتة، تلهمه وفريقه التحرّر من جوف الأيديولوجيّات، والالتحاق بالعالم وواقعه وفق قواعد النموّ والتطوّر والمصالحة الكاملة مع شروط العصر.

السعودية

حدثُ استقبال وليّ العهد السعودي للرئيس السوري في الرياض ليس خاتمةً لمسار مواكبة سعودية لحدث ما زالت عواصم قريبة وبعيدة تنظر إليه بحيرة وتحفّظ. يمثّل اللقاء إعلان تحوّل نهائي في موازين القوى في الشرق الأوسط، ويحتاج إلى تموضع مشترك (وفق معادلة سين – سين التي ابتكرها اللبنانيون) تلتحق به بلدان المنطقة، لإعادة وضع نقاط جديدة على الحروف. فهمت طهران ذلك الجديد في المنطقة باكراً. وتسعى موسكو إلى إيجاد مكان لها على رقعة اللعب الجديدة. وأدركت أوروبا، غير البعيدة عن سوريا، جدارة التحوّل، وتسابق الوقت للمساهمة في رفده وصيانته داخل المشهد الدولي العامّ.

الانطلاق من بوّابة الرّياض

من بوّابة الرياض جال قبل أسابيع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في عواصم عدّة في المنطقة. ومن بوّابة الرياض اجتمع وزراء خارجية من تركيا وبلدان عربية وأوروبيّة في 12 كانون الثاني في مؤتمر يتعلّق بسوريا حضره الشيباني. ومن بوّابة الرياض تطلق السعودية في لقاء وليّ العهد والرئيس السوري أجنحة جديدة لسوريا ورئيسها، وتؤكّد واقعاً، بات عربيّاً، أماطت اللثام عنه برقيّات زعماء المنطقة التي تهنّئ الشرع بتعيينه رئيساً لبلاده، وتثمّن ما أعلنه من أجندة طريق لنقل سوريا من طور إلى آخر.

أن تسارع السعودية، منذ اللحظة الأولى، إلى احتضان التحوّل السوريّ، فذلك يكشف تبصّراً في قراءة ما هو مباغت غامض في المفترقات التاريخية الصعبة

سيُبنى على زيارة الشرع للسعوديّة. بات الرئيس السوري يتمتّع باعتراف إقليمي (تركي – سعودي – قطري خصوصاً) يضاف إلى شرعية داخلية يَعِدُ ببنائها مع كلّ المشارب السورية وفق أجندة واضحة المفاصل. سيُضاف الملفّ السوري إلى أولويّات المملكة على طاولة التداول مع القوى الكبرى في العالم، وفي مقدَّمها الولايات المتحدة في ظلّ إدارة الرئيس دونالد ترامب. كان الأخير قد التفَّ على سؤال بشأن بقاء قوات بلاده في سوريا، وهو الذي عبّر مراراً عن توق لسحبها من ذلك البلد. قال: “سنتّخذ قراراً”.

عشيّة سقوط دمشق كان نصح إدارة بايدن بعدم التدخّل، فهي “ليست حربنا”. بات اليوم يحتاج إلى معطيات جديدة، ودمشق تنتظر من الرياض نقل تلك المعطيات التي تحرّر واشنطن وترامب معاً من عقائد قديمة، وهو ما من شأنه تحرير سوريا من قبضة عقوبات يفترض أن ترحل برحيل المتسبّب بها.

لم يكن الاستقبال السعودي هو الأوّل للشرع في الأوّل من شباط 2025، فذلك تفصيل بدا حتميّاً في مسار أراد الأمير محمد بن سلمان أن يدفع به من دون تردّد. خرج أبو محمد الجولاني من إدلب باتّجاه دمشق في 27 تشرين الثاني 2024. مرّ وصحبه عبر حلب وحماة وحمص قبل دخول دمشق في 8 كانون الأوّل. وحين وصل عاصمة سوريا، كان بيان سعودي رسمي يستقبله “مرحّباً” بالتحوّل الكبير. كان ذلك قبل أسابيع من استقبال أحمد الشرع رئيساً لبلاده في عاصمة المملكة “من جديد”.

أساس ميديا

————————

 لا يمكن الاستخفاف بأحمد الشرع/ خيرالله خيرالله

تحديث 04 كانون الثاني 2025

إلى الآن لا يمكن الكلام عن أخطاء ارتكبها أحمد الشرع الذي يشفع به الدور الذي لعبه في إخراج عصابة آل الأسد من السلطة. لا يمنع ذلك وجود أسئلة كثيرة ما زالت تفرض نفسها.

ما الذي ستفعل به السلطة بعد أن تذوّق طعمها؟

توجد عناوين كثيرة تستدعي التوقف عندها في الخطاب الأول الذي ألقاه أحمد الشرع بعد أقل من 24 ساعة على توليه موقع رئيس الدولة في سوريا. يظلّ العنوان الأبرز الوارد في الخطاب القصير الذي ألقاه قوله “سنشكل حكومة شاملة تعبّر عن تنوع سوريا.” كذلك، شدّد على أن “لا إقصاء” لأحد وسنعمل من أجل الوصول إلى “مرحلة انتخابات حرّة ونزيهة.” وعد بـ”استعادة الهوية المفقودة لسوريا،” وهي هوية عمل نظام آل الأسد على تغيير طبيعتها جذريا طوال ما يزيد على نصف قرن.

يرتدي الكلام الصادر عن الشرع أهمّية خاصة، كونه صادرا عن شخص بات يتحدّث عن “تنوع سوريا” بعدما ارتبط اسمه في الماضي بالإرهاب والتطرف الديني، بل كان طوال مرحلة في تنظيم ارتبط بـ”القاعدة”.

ليس سهلا تمكّن شخص من إعادة تأهيل نفسه بالطريقة التي فعلها أحمد الشرع الذي يبدو واضحا أنّه يمتلك صفات استثنائية. مكنته هذه الصفات من إدراك أنّ النظام في سوريا في حاجة إلى الاهتمام بالبلد وبجميع السوريين بعيدا عن الشعارات الطنانة التي رفعها النظام المخلوع الذي كان همّه الأوّل والأخير التنكيل بالسوريين وتصدير أزماته إلى خارج الأراضي السورية.

كان يفعل ذلك حماية لنفسه أوّلا وأخيرا. كان نظام آل الأسد يعترض على أي معاهدة سلام توقعها هذه الدولة العربيّة أو تلك مع إسرائيل. لكنّ ما تبيّن لاحقا أنّ نقاط التفاهم مع إسرائيل التي توصل إليها حافظ الأسد في العام 1974، مع هنري كيسنجر كانت أكثر من استسلام سوري وقبول باحتلال الجولان. كانت ضمانات سورية للأمن الإسرائيلي في مقابل المحافظة على النظام العلوي في دمشق.

يبدو أن الرئيس السوري الجديد الذي لديه ما يسمّى “شرعية ثورية”، قابلة في مفهومها للنقاش، يعرف تماما أنّه يكفيه إسقاط نظام آل الأسد كي تكون هناك أكثرية شعبية تؤيده. يساعده في تكريس شرعيته كونه يعرف تماما ما الذي يريده. يؤكد ذلك خريطة الطريق التي تضمنها خطابه. حدّد الخطاب مراحل عدّة، من بينها انعقاد مؤتمر للحوار الوطني وصدور إعلان دستوري بغية الوصول إلى انتخابات عامة شفافة تليق بسوريا والسوريين وتحظى بدعم المجتمع الدولي.

استطاع أحمد الشرع فرض نفسه في سوريا بعدما حقّق ما يشبه معجزة، معجزة التخلص من نظام أقلّوي متحالف عضويا مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي خرجت من هذا البلد العربي المهمّ. من هذا المنطلق، منطلق التغيير الكبير على الصعيد الإقليمي، لا مفرّ من توقع انعكاسات للمشهد السوري على كلّ جيران هذا البلد الذي عاد أخيرا إلى الحضن العربي. الأكيد أنّه لا يمكن الاستخفاف بالدور التركي الذي أدى إلى هذا التغيير. كذلك لا يمكن تجاهل الدور المحوري لقطر. ليس صدفة أن يكون أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد أوّل القادة العرب الذين يزورون دمشق وأن تأتي زيارته في اليوم الأول لمباشرة أحمد الشرع مهماته الرئاسيّة.

من الطبيعي وجود تحديات عدة ستواجه أحمد الشرع. يبدأ ذلك بتحدّ مرتبط بطبيعة البشر عموما. ما الذي ستفعل به السلطة بعد تذوقه لطعمها؟ هل يستطيع فعلا إثبات أن أحمد الشرع غير “أبومحمد الجولاني” وأنّ “هيئة تحرير الشام” جزء من الماضي الذي لا بدّ من تجاوزه والاكتفاء بالاستفادة من تجاربه؟

اللافت أنّ الرجل الذي يعتمد شعار “لكم دينكم ولي ديني” يتحدث في لقاءاته مع زواره لغة عصرية تأخذ في الاعتبار أهمّية إنشاء “مناطق حرة” في كلّ أنحاء سوريا وأهمّية الصناعات التحويلية. باختصار شديد، لم تحل العلاقة الخاصة بين أحمد الشرع مع الثنائي التركي – القطري دون التركيز على أهمّية التعاطي في العمق مع المملكة العربيّة السعوديّة. وقد ينسحب ذلك على دولة الإمارات العربيّة المتحدة في مرحلة لاحقة.

كذلك، لا يتجاهل الشرع دور المرأة في المجتمع… على الرغم من أنّه لا يصافح النساء. لا يتجاهل أيضا أهمّية البرامج التربوية، أي أهمّية التعليم. يتصرّف الرئيس السوري الانتقالي بطريقة توحي بأنّه يعرف الكثير في السياسة الدولية. لذلك نراه استقبل وفدا روسيا برئاسة ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجيّة. صحيح أنّ بوغدانوف ليس مهمّا في التركيبة الروسيّة لكن الوفد الكبير ضمّ شخصيات لها تأثيرها في موسكو كونها تمتلك علاقة مباشرة بالرئيس فلاديمير بوتين.

يعرف أحمد الشرع أهمّية روسيا ويعرف نقاط ضعفها. لذلك فرّق بينها وبين “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. لعلّ أهمّ ما يعرفه أنّه معروف ماذا تريد روسيا، في الظروف الراهنة، من سوريا. تريد الخروج بأقلّ مقدار ممكن من الخسائر، لذلك يمكن الأخذ والردّ معها في شأن أموال بشار الأسد وأفراد عائلته وأملاكهم في موسكو وسوتشي ومناطق روسية أخرى. قد يكون باكرا عقد صفقة بين دمشق وموسكو، لكنّ لدى أحمد الشرع ورقة مهمّة تتمثل في حاجة روسيا إلى قاعدة حميميم في اللاذقية وميناء طرطوس.

ما ينطبق على روسيا لا ينطبق على إيران التي لم تسع إلى إبقاء بشّار الأسد ونظامه في دمشق فحسب، بل سعت أيضا إلى تغيير طبيعة المجتمع السوري على غرار تغييرها لطبيعة المجتمع الشيعي في لبنان تمهيدا للسيطرة على مؤسسات الدولة اللبنانيّة.

إلى الآن، لا يمكن الكلام عن أخطاء ارتكبها أحمد الشرع الذي يشفع به الدور الذي لعبه في إخراج عصابة آل الأسد وتوابعها من السلطة. لا يمنع ذلك وجود أسئلة كثيرة ما زالت تفرض نفسها. من بين هذه الأسئلة هل أحمد الشرع عصيّ على إغراءات السلطة وهل كل ما فعله ويفعله حاليا لا هدف سوى الإمساك بالسلطة لا أكثر؟

وحدها الأيام ستجيب عن مثل هذا النوع من الأسئلة، لكن الأمر الأكيد الوحيد أن ليس في الإمكان الاستخفاف برجل اسمه أحمد الشرع لا تزال أمامه امتحانات كثيرة عليه اجتيازها!

العرب

———————–

فنّ “الستاند أب” في “سوريا الجديدة”… هل من حدود للكوميديا؟/ زينة شهلا

الثلاثاء 4 فبراير 2025

بعد أيام من إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، وفي ظلّ محاولات استيعاب التغيير الكبير الذي طرأ على البلاد برمّتها، لم يكن تفكير الثلاثيني الدمشقي شريف الحمصي، الذي أسّس قبل عامين أول فريق “ستاند أب كوميدي” أو الكوميديا الارتجالية في سوريا، مقتصراً على معرفة ما قد يؤول إليه وضعه على الصعيد الشخصي، إذ انصبّ اهتمامه وجزء من مخاوفه على مصير فريق “ستيريا” الذي شكّل تجربةً فريدةً من نوعها على مستوى “سوريا الأسد”.

“صرت أتساءل: هل يمكن أن نكمل عملنا كما في السابق؟ وهل يمكن أن نستفيد من مساحة جديدة متاحة وأماكن لم تعد مغلقةً في وجهنا؟ ورحت أفكر أيضاً في أنني لا أرغب في أن توضع لنا حدود جديدة كما كان الحال في السابق، وفي أنني أريد على الفور أن أشتبك مع ‘الخطوط الحمراء’ كي لا تبقى حمراء”، يقول الحمصي في لقاء مع رصيف22، على هامش أحد عروض “ستيريا” الأخيرة في دمشق.

يُقدّم الفريق المكوّن من أكثر من عشرة شبان وشابات، عروضاً دوريةً ومساحات لتجريب الكوميديا في العاصمة والعديد من المدن السورية دون انقطاع منذ تأسيسه نهاية عام 2022، وقد استمدّ اسمه من جمع كلمتَي “سوريا” و”هستيريا”.

المواضيع التي كان متاحاً تناولها في هذا القالب الكوميدي، قبل إسقاط النظام السوري وهروب رأسه بشار الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، كانت محدودةً بعشرات “الخطوط الحمراء” والمحاذير، خاصةً في ما يتعلّق بالمحرّمات الأساسية: السياسة والدين والجنس. لكن أعضاء الفريق برعوا في التحايل على كثير من هذه القيود، وقدّموا ساعاتٍ من الضحك للجمهور حول تفاصيل حياة السوريين اليومية ومخاوفهم ومعاناتهم وآمالهم، سيّما عندما يتعلّق الأمر بجيل الشباب، لتكون عروضهم بمثابة فسحة التجأ إليها سوريون كُثُر بعيداً عن ضغوط الحياة.

اليوم، هناك آمال في أن تحمل المرحلة الجديدة انفتاحاً أكثر على هذا الفن، وأن تعطيه مساحةً أكبر للحديث والتعبير. وخلال العروض الأولى لفريق “ستيريا”، في الأيام التالية لإسقاط النظام، والتي حضرها المئات في مقاهٍ وصالات متنوعة في دمشق، احتلّت السخرية من رموز النظام الساقط، بمن فيهم “بشار” والأفرع الأمنية و”مملكة الخوف” التي كان السوريون يعيشون فيها، مساحةً كبيرةً من مضمون الدعابات، إلى جانب الواقع الجديد والقلق من المرحلة المقبلة. فتناول الكوميديّون مثلاً صور بشار الأسد التي كانت منتشرةً في كل مكان من البلاد سابقاً، وأجهزة المخابرات التي كانت “تحسب لكل مواطن عدد أنفاسه”، و”ليلة السقوط” وما رافقها من مخاوف وفوضى، وسخروا من ألبومات صور آل الأسد التي تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي.

يقول الحمصي: “كنا دائماً نقول إننا إن استطعنا الضحك معاً، يمكننا الحياة معاً، وما زلت أقول إنه علينا أن نكون ‘ضحكة البلد’، وعلينا مسؤولية تقديم محتوى ملائم للجمهور الآن وفي كل وقت”.

“علينا تفعيل الرقيب الداخلي”

منذ عام 2001، يعمل رامي جبر، في مجال المسرح، وبعدها في صناعة المحتوى. وقبل نحو عام ونصف العام، انضمّ إلى فريق “ستيريا”، ليكون واحداً من أبرز وجوهه. قبل نحو سنة، تعرّض جبر (43 عاماً)، لملاحقة من قبل أحد الأفرع الأمنية سيئة السمعة في سوريا، بسبب عرضٍ قدّمه وتحدّث فيه عن واقع المدارس السورية مقارناً بين حال المدارس الحكومية والخاصة، وهو اليوم يأمل ألّا تتكرّر مثل هذه المواقف التي توحي بمستوى شديد من الرقابة، لا يمكن للكوميديا الارتجالية العمل ضمنه بأريحية.

شارك جبر، خلال الأسابيع الفائتة، في عشرات العروض التي تحدّث خلالها عن مشاهد مختلفة عاشها و/ أو كان شاهداً عليها في سوريا بعد إسقاط النظام، وكيف تعامل السوريون مع الأمر بين محتفلٍ ومشكّكٍ ومتخوّفٍ، مع الحديث بشكل نقدي وفكاهي عن السلطات الجديدة، مثل المقارنة بين الرئيس السابق بشار الأسد، ورئيس السلطة الجديدة أحمد الشرع.

يقول جبر لرصيف22: “مع توقّف مؤسسات الرقابة والقمع، أرى المشهد الكوميدي مفتوحاً على مصراعيه. فالجميع يُعبّر دون قيود أو ضوابط، ولا نعلم بعد ما هي ‘الخطوط الحمراء’ للمرحلة الجديدة. نبدو كمن يحاول الاقتراب من النار ليجرّب إن كان سيحترق أو لا، وهو أمر جيد حتّى الآن. لكن العمل في مجال الكوميديا يشبه قيادة سيارة من دون مكابح، لذا يجب تفعيل الرقيب الداخلي أولاً، حتّى لا ينجرّ المشهد إلى السخرية والتجريح والتنميط والغوغائية”.

ويرى جبر، أنّه “لا توجد كوميديا من دون رقابة، وإلا أصبحت فنّاً منفلتاً لا تهدف إلّا إلى الكوميديا بحدّ ذاتها، وتفقد دورها النقدي والفكري. فكلمة رقابة لا تحمل دوماً معنى سلبياً، وهناك رقابة مجتمعية وذاتية نفرضها نحن على أنفسنا بحكم مهنتنا، وهي ضرورية”.

في غضون ذلك، يأمل الكوميديان المنحدر من مدينة حمص، أن تتوسّع مساحة عمل هذا الفن، وأن يكون المشهد المقبل أكثر حريةً، “كي نتكلم ونبوح أكثر كما نحتاج فعلاً، وتكون بوصلتنا الحقيقية هي الناس والبلاد”.

“التحديات أكبر اليوم”

بالنسبة لماري عبيد، وهي أول فتاة تخوض تجربة “الستاند أب كوميدي” في سوريا، وقد انضمّت إلى “ستيريا” منذ بداياته، فإنّ المشهد اليوم بكل تأكيد أصبح مختلفاً. “بدايةً، لمست هذا التغيير كواحدة من جمهور عروض الكوميديا الارتجالية، خاصةً أنني لا أخوض كثيراً في السياسة. كما أنني كمؤدّية شعرت بالراحة لأنّ الحدود التي كانت مرسومةً لنا أصبحت أقلّ بكثير. إلى جانب ذلك، زخم الأحداث بعد إسقاط النظام أتاح لنا مادةً دسمةً لنكتب عروضنا، فأصبحنا كما لو أننا ضمن مسلسل نُحضّر حلقةً جديدةً منه كل يوم”، تقول لرصيف22.

تشير الشابة العشرينية وهي طبيبة أسنان أيضاً، إلى أنّه في الأيام الأولى بعد “السقوط”، كان هناك إحساس عام لدى الفريق بأنّ العمل سيكون أسهل مع قدرة الأعضاء كلهم على التعبير بأريحية عن “الماضي”. لكن السؤال الملحّ كان يكمن في مدى القدرة على الحديث عن المستقبل، وحتّى في استمرار السماح بهذه العروض. تتابع: “أشعر بأنّ التحدّي أكبر من قبل، كما أنّ الجمهور بات حسّاساً أكثر، وهناك من يُحتمل أن يعارضوا كل ما نقوم به في حين أنّ آخرين يمكن أن يناصروا أي تجربة جديدة”.

يشمل التحدّي الذي تُشير إليه ماري، أيضاً، “الانطباع الخطأ” لكثيرين عن فنّ “الستاند أب”، إذ يحصرونه في كونه “نمطاً هابطاً هزلياً”، ناهيك عن وجود فتاة تخوض غمار هذا العالم، وهو أمر لا يزال جديداً على المجتمع العربي عموماً والسوري خصوصاً، وتالياً قد تلقى معارضةً لا يُستهان بها.

“الخوف من الفشل موجود، وأحاول أن أكون قريبةً من الجمهور وألا أثير حفيظة أي فئة، لأنّ ‘الستاند أب’ هو فن شارع، ويجب أن يصل إلى الجميع ويلمسهم بطريقة ما، ولديّ في الوقت ذاته آمال كثيرة للمستقبل، أولها أن يصبح هذا الفن قائماً ومعترَفاً به كغيره من أنواع الفنون من قبل الكيانات الرسمية كوزارة الثقافة، وأن يحصل تبادل وتعاون بيننا وبين ‘كوميديانز’ آخرين في بلدان مثل لبنان، فنقدّم عروضنا هنا وهناك. كما آمل أن يكبر فريقنا مع الوقت، كوسيلة للتعبير عن أنفسنا وعن الناس بشكل إيجابي”، تختم ماري.

كوميديا “الداخل والخارج”

خلال السنوات العشر الأخيرة، لم يتمكّن طارق بالي، وهو كوميدي سوري مقيم في ألمانيا منذ عام 2013، من القدوم إلى سوريا نتيجة الظروف السياسية والأمنية. بعد نحو عشرة أيام من إسقاط النظام، عاد إلى دمشق وعلى الفور قرّر التواصل مع فريق “ستيريا”، وبالفعل شارك في تقديم عدد من العروض معهم.

يقول بالي، الذي يعمل مهندس اتصالات أيضاً، لرصيف22: “قبل نحو عامين بدأت في مجال ‘الستاند أب’ في برلين وأوروبا عموماً، وكنت أتابع فريق ستيريا عن بعد وأتواصل مع مؤسسيه في محاولة لفهم الخطوط التي يعملون ضمنها. كانت لافتةً بالنسبة لي الرقابة الشديدة خاصةً في ما يتعلق بالمحتوى السياسي، وأقل منه ربما الاجتماعي، وتالياً كانت لديهم مهمّة صعبة للغاية في الحديث عمّا يريدون دون ‘استفزاز’ السلطات، فكانوا يعملون على التلميح أكثر من التصريح، وكانوا بحاجة إلى الكثير من الدهاء لإيصال أفكارهم، بعكسنا إذ كنا أحراراً في الحديث في ما نرغب بشكل مباشر وبتعابير واضحة”.

“هل تخيّلتَ يوماً أن ترى نفسك تؤدّي عرضاً مع فريق ستيريا في دمشق؟”؛ نسأل طارق، فيبتسم ويجيب: “كنت أعتقد أنني سأموت قبل أن تُتاح لي هذه الفرصة. بمجرد أن حجزت رحلتي من برلين، تواصلت مع شريف، كي أكون معهم في أول عرض تجريبي”. ويضيف بالي، أنّ الأمر سبّب له توتراً مشابهاً لما شعر به حين قدّم عرضاً لأول مرة، إذ يرى أداءه أمام “السوريين الفعليين” كما وصفهم، أي من يعيشون داخل البلاد وليس الجمهور الذي اعتاد عليه في برلين، “اختباراً كبيراً”. “كان تحدّياً هائلاً، فهنا جمهور عاش فعلاً كل التجربة السورية، ولا أريد أن أبدو وكأنني سائح قادم لإضحاكهم فحسب، دون فهم سياق حياتهم، فلا يمكنني مثلاً الحديث عن الحياة في أوروبا، وكان عليّ كتابة نكات جديدة تماماً”، يُردف.

إلى ذلك، يرى بالي، في الواقع الراهن “فرصةً نادرةً” لتطوير مشهد “الستاند أب” في سوريا، إذ يمكن أن يفتح أفقاً للتعاون بين من هم داخل البلاد ومن هم خارجها، ويشير إلى أنّ كثيرين من “الكوميديانز” السوريين المغتربين يتهيأون للعودة إلى سوريا. وعلى صعيده الشخصي، باتت لديه أفكار جديدة مع انفتاحه على ما يحدث في الداخل، ومحاولته فهم مزاج الناس وما يمكن أن يُضحكهم فعلاً.

وبينما “الخطوط الحمراء” ستتغير دون شك، يبقى السؤال: هل يمكن أن تُلغى تماماً؟ وهو ما يُجيب عنه بقوله: “لا أعتقد، اليوم ننتقد السلطات الجديدة لكن ببعض من الحذر، في حين أنّ الحديث عن النظام السابق كان ممنوعاً تماماً. حدود الانتقاد ليست واضحةً تماماً حتّى الآن، ولا تزال قيد الاختبار، وفي نهاية المطاف ستبقى الكوميديا ملاذاً للتعامل مع كل ما نمرّ به من تجارب صعبة أينما كنّا، وآمل أن يبقى الوضع مستقرّاً دون تدخّل يومي في شؤون الناس وما يقولونه ويفعلونه”.

“نريد أن نحلم كما نشاء”

بالعودة إلى شريف الحمصي، يقول إنه اعتاد خلال السنوات الماضية كتابة عشر نكات، وتقديم نكتتَين أو ثلاث منها فقط والاحتفاظ بالبقية لنفسه. يسترسل: “كنّا نعمل في ظلّ نظام الأسد الذي كان ربما الفعل الأصعب على الإطلاق. اليوم بالتأكيد نحن نخاف من المجهول وهو أمر ‘طبيعي’ في ظلّ أيّ تغيير سياسي بهذا الحجم، وكأننا وسط رمال متحركة فلا يسعنا الحركة كثيراً وبسرعة. حتّى اليوم، لم نتعرّض لأيّ مضايقات من السلطات الجديدة، ونأمل أن يستمر الوضع هكذا، وأن نتابع عروضنا بحرّية”.

ويعتقد الحمصي، أنّ التغيير الحاصل في سوريا قد يفتح الباب لأعضاء فريق “ستيريا”، نحو أفق جديد، سواء في المحتوى المقدّم، أو بإعطائهم فرصاً لتطوير عملهم وأدائهم من خلال السفر والانفتاح على العالم، وهو أمر لم يكن متاحاً لمعظم السوريين/ ات في السنوات الأخيرة، ما خلق فجوةً كبيرةً بين أولئك المقيمين داخل البلاد وخارجها. لكن الكوميدي السوري يأمل في أن تساعد المرحلة المقبلة في “ردم هذه الفجوة”، وحتّى الحديث عمّا كان يعيشه السوريون داخل سوريا، لجمهور مقيم خارجها.

ويختم: “كان هناك محرّك أساسي يمنعنا من الحلم، والآن اختفى. أتمنى أن نكون من الآن فصاعداً قادرين على أن نحلم كما نشاء، وأنا بشكل شخصي أطمح إلى أن أكتب عرضاً كاملاً خاصّاً بي وأقدّمه أمام الجمهور في كل مكان”.

رصيف 22

—————————

مسؤولون سابقون في نظام الأسد في واجهة الإعلام… اعترافات أم تبرؤ؟/ هند الشيخ علي

الثلاثاء 4 فبراير 22025

ظهر خلال الفترة الماضية، ثلاثة مسؤولين عملوا تحت حكم الأسد حتى اللحظة الأخيرة قبيل سقوط النظام، ممن تحدثوا عبر منصة “مزيج” التابعة لقناة العربية، عن الساعات الأخيرة التي شهدوا عليها، تزامناً مع دخول فصائل المعارضة المسلحة دمشق وفرار رئيس البلاد إلى روسيا.

أحدث ظهور هؤلاء عبر وسائل إعلام، موجة من ردود الأفعال المتباينة، لا سيما وأن معظمهم تبرأ من حكم الأسد، وعبّر عن مواقف رافضة للطريقة التي كانت تُدار على أساسها البلاد خلال الحرب، الأمر الذي طرح تساؤلات حول ما إذا كان هؤلاء يحاولون إزاحة المسؤولية عن كاهلهم، عبر ظهورهم على الإعلام مباشرةً بعد سقوط النظام، أم أنهم بالفعل لم يكونوا راضين عن حكم الأسد، وكانوا مجرد أدوات تنفيذية للقرار، وبعيدين عن القضايا الحساسة وكواليس الأحداث الأمنية والسياسية.

في هذا التقرير يلقي رصيف22 الضوء على أبرز ما جاء في مقابلاتهم، ودلالاتها وسياقاتها، ونستعرض كيفية تفاعل الرأي العام السوري معهم، وكيف تتعاطى معهم الإدارة الجديدة.

كامل صقر… مدير المكتب الإعلامي والسياسي في رئاسة الجمهورية سابقاً 

بحسب ما تم رصده من ردود أفعال حول مقابلة مدير المكتب الإعلامي والسياسي في رئاسة الجمهورية سابقاً، كامل صقر، على منصة “مزيج” التابعة لشبكة العربية، استنكر البعض أن تتاح المنابر الإعلامية لشخصية بمنصب صقر، حلّت محل “ماكينة إعلام الحرب في سوريا”، لونا الشبل، وطالب آخرون أن تتم محاسبة من هم بموقعه وتحويلهم للقضاء، فيما اعتبر آخرون أن صقر قد يكون لديه مخزون هام من المعلومات عن الفترة التي عمل فيها مع النظام، ومن المفيد البقاء على تواصل معه خلال المرحلة الحالية. 

من زاوية أخرى، قد يكون ظهور كامل صقر علناً بعد سقوط النظام الذي كان هو أحد أهم أركانه -نظراً لمنصبه- بحد ذاته تكنيكاً إعلامياً يخلّصه من مواقف محتملة قد تدينه أو تحمله مسؤولية من نوع ما لاحقاً، لا سيما وأن معظم من كانوا يعملون في مواقع مشابهة اختفوا أو فرّوا خارج البلاد.

الظهور بدلاً من الهرب أو الاختفاء، قد تكون “”خدعة إعلامية” إذن، أو كأنها رسالة للإدارة الجديدة وللرأي العام مفادها: ما الذي قد يدفع المسؤول والسياسي في ظروف مشابهة للهرب أو الاختفاء إن لم يكن متورطاً بجرم حقيقي؟ وفي حال فعل ذلك، ألا يدينه هذا بشكل مباشر حتى ولو لم تُثبَت بحقه قضايا فساد أو جرائم من نوع ما؟ 

لا يشغل صقر منصباً حكومياً بمهام معلنة وأدوار يحدّدها الدستور والقانون، ويبدو أنه لم يكن شخصية معروفة للكثيرين، على الرغم من مضي أكثر من خمسة أعوام على توليه هذا المنصب في القصر الرئاسي، على عكس لونا الشبل، التي قيل إن كامل صقر جاء بديلاً عنها، أو بحسب البعض “منافساً”، ولكن بحسب دلالات حديث صقر، فإنه لم يلعب الدور الذي لعبته الشبل، ولم يكشف خلال المقابلة عن حقائق ومعلومات غير متداولة ولا يعرفها الناس، ما جعل البعض يطرح تساؤلات عما إذا كان الرجل صادقاً في حجم المعلومات التي هي بحوزته، ومساحة اطلاعه الضيقة على السياقات المختلفة للقضايا والأحداث من القصر الرئاسي، أم هي محاولة للتهرب فحسب، لا سيما وحساسية المنصب الذي يشغله!

المُلفت هو عدم التطرق خلال المقابلة إلى دور المكتب الإعلامي والسياسي الحقيقي في القصر بشكل واضح، وما إذا كان عمل مديره يتعدّى مجرد تحرير الخبر الصحافي الذي يُنشَر عبر المنصات الرسمية لرئاسة الجمهورية السابقة، كما لم يتم الحديث عن علاقة صقر بالرئيس الأسد أو زوجته، وما إذا كان التواصل معهما يتم عبر وسطاء أو بشكل مباشر، وما هي الملفات التي يتدخل بها القصر على المستوى الإعلامي، وما دور صقر تحديداً بها.

كلها أسئلة بقيت خارج سردية المقابلتين اللتين أجراهما صقر في الفترة اللاحقة لسقوط النظام، بينما اقترب حديثه في معظمه إلى الأسلوب التحليلي، ما يوحي وكأنه متلقٍ للأحداث، وليس شاهداً عليها أو صانعاً لها.

وصل صقر إلى القصر الرئاسي، بحسب ما تم تداوله خلال فترات سابقة، برعاية واهتمام أسماء الأسد، وقد اتهمه الإعلامي شادي حلوة في بثّ مصور عبر “تيك توك” أنه مسؤول، هو وأسماء الأسد، عن الحرائق التي تسببت بأضرار وخسائر كبيرة في عدة قرى ضمن الساحل السوري خلال العام 2020، حيث كان هذا الملف، بحسب ادعاءات حلوة، السبب الرئيس في صعود صقر إلى القصر الرئاسي فجأة.

وقال شادي حلوة في نفس البثّ، الذي جاء بعد أيام فقط من ظهور كامل صقر عبر منصة “مزيج”، إن الأخير كان يتحكم بعدد كبير من المنصات والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف نشر محتوى إعلامي موجّه، دون أن يكشف -أي حلوة- عن ماهية المواضيع التي كانت تُنشَر، كما قال إن صقر نفسه تواصل معه أكثر من مرة لنشر مواد مكتوبة، معدة مسبقاً للنشر، عبر الوسيلة الإعلامية التي يديرها، في إشارة منه أن كامل صقر كان يتحكم بالخطاب الإعلامي، ويفرض أجندات على منصات ووسائل الإعلام في سوريا.

محمد الجلالي… رئيس الحكومة السابق 

على العكس منه، قدم محمد الجلالي رئيس الوزراء السابق اعتذاراً للشعب السوري، معترفاً أنه كان “خائفاً”، وأنه لم يكن في موقع يسمح له بالتغيير أو المصارحة، قائلاً إن المعارضة في الداخل لم يكن بمقدورها إبداء الرأي واتخاذ المواقف المعارضة للحكم كمن هم في الخارج، في إشارة أو تبرير أو توضيح ربما للعجز الذي كان يشعر به بعض المسؤولين الذين عملوا تحت حكم الأسد.

لم يكن مضى على تولي محمد الجلالي رئاسة الحكومة في عهد بشار الأسد سوى شهرين فقط قبل سقوط النظام، ولكن رئاسة الحكومة لم تكن المنصب الوحيد الذي شغله الجلالي في النظام السوري، فقد كان وزيراً للاتصالات في العام 2014، ومعاوناً في العام 2008، أي قبل اندلاع الثورة السورية. 

خلال حديثه في حلقتين، لمدة تتجاوز الساعة لكل منهما، مع الإعلامي حسين الشيخ، عبر ذات المنصة “مزيج”، كشف الجلالي عن الساعات الأخيرة التي شهد عليها بحكم منصبه قبل سقوط النظام، وكيفية تعاطي الحكومة آنذاك مع الأحداث المتسارعة منذ نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2024، عندما سيطرت المعارضة المسلحة على حلب، وحتى لحظة السقوط، إضافة إلى عناوين أخرى، مثل كيفية وصوله لرئاسة مجلس الوزراء، وكواليس خروجه لإلقاء بيان عبر صفحته الشخصية على مواقع التواصل لحظة السقوط.

كان مستغرباً أن تحمل الحلقة الثانية مع الجلالي عنوان “كيف يفكر بشار الأسد”، نظراً لأن الحلقة الأولى تكشف بشكل جلي عن أن رئيس الحكومة السابق لم يمتلك الكثير من المعلومات بحسب أجوبته، ربما بسبب الفترة القصيرة التي أمضاها في منصبه، وعندما كان وزيراً للاتصالات في وقت سابق.

وبحسب ما أفاد به، فهو لم يكن مقرباً من الرئيس الأسد، وطريقة تواصله معه، وحتى لقاءاته، كانت تتم عبر قنوات غير مباشرة ووسطاء.

في هذا السياق، كانت أولى الملاحظات البارزة في حديث الجلالي هي تصريحاته حول طبيعة تواصله مع بشار الأسد خلال الساعات الأخيرة قبل السقوط، حيث أوضح أن اتصالاته مع الرئيس كانت تتم عبر مقسم الهاتف في القصر الرئاسي، ما يسلط الضوء على فشل التنسيق المباشر بين الرئيس وأعلى سلطة تنفيذية في البلاد في لحظات حساسة كهذه، ومستوى الانفصال بينه وبين أجهزته الحكومية في الأوقات التي كانت تشهد أكبر التحولات العسكرية والسياسية. 

وفيما يتعلق بمسؤوليته كأحد الأشخاص الذين حملوا العبء التنفيذي في الفترة السابقة، بدا الجلالي كشخصية تنفيذية أكثر منه صانع قرار، ما يطرح تساؤلات حول كيف كانت تجرى الأمور بالفعل في الحكومة، ومن كان مسؤولاً عن اتخاذ القرارات وعن كيفية صناعتها وإقرارها، ومدى صلاحيات رئيس الحكومة.

في هذا السياق، قال الجلالي إن قرارات مجلس الوزراء، حتى لو تمت الموافقة عليها بالإجماع من قبل المجلس، فهي لم تكن قابلة للإقرار بشكل رسمي إلا بعد موافقة الأسد واطلاعه عليها.

لكن ما أثار تفاعلاً كبيراً مع حديث الجلالي بين الجمهور، كان لحظة انهمار دموعة أثناء حديثه عن موقفه من البيان الذي نشره بعد سقوط النظام. بدت هذه اللحظة من الضعف العاطفي بعيدة عن صورة السياسي القوي، إذ أظهر الجلالي أن هناك جزءاً إنسانياً وراء التصريحات السياسية، حيث رأى البعض أن هذا البكاء على الشاشة كان مؤشراً على ندمه على ما آلت إليه الأوضاع في بلاده، بينما رأى آخرون أن البكاء لا يغسل ما قبله.

حبيب سلمان… المدير العام السابق في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون 

روى حبيب سلمان تفاصيل الساعات الأخيرة في مبنى التلفزيون قبل سقوط النظام، وكيفية تعاطي الإعلام الرسمي السابق مع مجريات عملية “ردع العدوان” منذ انطلاقها في حلب، وحتى وصول فصائل المعارضة إلى ساحة الأمويين في دمشق، بالقرب من مبنى الهيئة، حيث كان سلمان لا يزال متواجداً في مكتبه، بعد ساعات من اتخاذه قراراً فردياً، دون مشورة أحد، بعدم نقل أي أخبار عن الجيش وغيره على التلفزيون، والاكتفاء ببث بعض الأغاني الوطنية، لا سيما بعد انقطاع التواصل مع أي مسؤول أو مصدر رسمي يمكن من خلاله معرفة ما يجري، بحسب ما أفاد به سلمان.

ما عدا ذلك، لم تكن الدقائق اللاحقة في مقابلة سلمان ذات محتوى مهم، على غرار مقابلتي رئيس الحكومة ومدير المكتب الإعلامي والسياسي في رئاسة الجمهورية السابقة، واستندت في محاور عديدة منها إلى استعراض آراء وانطباعات شخصية عن مواقف وقضايا تتصل، بطريقة أو بأخرى، بالإعلام الوطني الرسمي، إضافة إلى رواية بعض الأحداث السابقة التي كان سلمان شاهداً عليها، وقد اتخذ منها بصفة شخصية موقفاً وصفه بـ “الجريء”.

عُرف حبيب سلمان في حادثة شهيرة في العام 2017، حين صدر قرار تعيينه بمنصب مدير عام الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، لمدة ساعة ونصف فقط، قبل أن يُطوى القرار بتوجيه شخصي من لونا الشبل، ليعود في العام 2021 إلى تسلم ذات المنصب. في هذا العام بالذات، جرى الحديث عن تقلص الدور الذي كانت تؤديه الشبل في القصر الجمهوري، وصراعها الخفي مع سيدة القصر الأولى.

لم يكن حبيب سلمان عموماً، شخصية مؤثرة في صناعة القرار أو المشهد الإعلامي في سوريا، في ظل أن وزارة الإعلام نفسها لم تكن لديها الصلاحيات والمساحات اللازمة لصناعة تغيير حقيقي أو جذري، يعيد بناء الثقة بين الجمهور والمؤسسات الإعلامية الرسمية، ومع ذلك، تعرض برنامج الإعلامي حسين الشيخ لانتقادات كبيرة على خلفية استضافته لأشخاص محسوبين على النظام، خصوصاً بعد عرض المقابلة التي استضاف فيها الشيخ المدير العام في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون سابقاً، حبيب سلمان.

كيف يتعامل مسؤولو الإدارة الجديدة معهم؟ 

حتى الآن، لا يوجد ما يشير إلى نية الإدارة الجديدة في سوريا باتخاذ إجراءات قانونية أو غيرها ضد مسؤولي الصف الأول في حكم بشار الأسد. حُل النظام بشكل شبه كامل، واستُبعد عدد من المسؤولين بطبيعة الحال، دون أولئك الذين اختفوا أو فرّوا خارج البلاد، فيما تجري الآن إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وعدد من المؤسسات غير الحكومية وفق معايير جديدة.

في الأيام الأولى بعد سقوط النظام، نشرت قناة وزارة الإعلام في حكومة تسيير الأعمال عبر “تلغرام” بياناً مقتضباً أعلنت فيه أنها ستسعى لمحاسبة الإعلاميين الحربيين الذين شاركوا في آلة الحرب والدعاية لنظام الأسد، وساهموا، بشكل مباشر أو غير مباشر، في الترويج لجرائمه، مع إضافة عبارة: “ومحاسبة كل من تورّط في انتهاكات جسيمة بحق أبناء الشعب”. لم يتبع البيان أي توضيح، ولم يصدر تعليق من أي مصدر رسمي آخر، ما جعل البعض يعتقد أن هذا البيان يحمل رسائل مباشرة وغير مباشرة، قد توسع دائرة المحاسبة لتشمل فئات أخرى خارج من استهدفتهم الوزارة، وقد طرح هذا الأمر تساؤلات كبيرة حول مصير هؤلاء المسؤولين: هل ستتم محاكمتهم؟ أو هل ستُقدم استثناءات لبعضهم لعودتهم إلى العمل السياسي والحكومي؟ 

تُطرح هذه الأسئلة في ظل التحديات التي تواجهها الإدارة الجديدة في محاولة إعادة بناء سوريا، حيث تتصاعد المطالب بإجراء محاكمات عادلة، تحقيقاً لمرحلة العدالة الانتقالية.

تختلف الآراء بين من يرى أن أهمية هؤلاء تأتي من امتلاكهم لمعلومات مهمة قد تساهم في كشف المزيد من الحقائق عن النظام السوري السابق، وبين من يطالب بمنعهم من العودة إلى بيئة العمل السياسي والحكومي مع ضرورة محاسبتهم، وبين من يراهم أدوات تنفيذية.

في سياق آخر، ظهر عدد من المسؤولين المنشقين عن النظام السوري على منصات ووسائل إعلام مختلفة بعد سقوط بشار الأسد، غالبيتهم كانوا من فئة المعارضين القدامى الذين غادروا البلاد قبل اندلاع الثورة السورية في عام 2011، لكن التفاعل الأكبر كان مع ظهور الدبلوماسي جهاد مقدسي، الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السورية من تشرين الأول/أكتوبر 2011 حتى كانون الأول/ ديسمبر 2012.

ظهر مقدسي في مقابلة من جزئين عبر “التلفزيون العربي”، بعد ابتعاده لسنوات عن الساحة السياسية والإعلامية، وكشف فيها للمرة الأولى كواليس الأحداث التي عايشها وكان شاهداً عليها. أبرز هذه الأحداث كانت مجزرة الحولة، والبيان الشهير الذي اعترفت فيه الحكومة السورية بحيازتها أسلحة كيميائية.

التفاصيل التي قدمها مقدسي بشأن هذين الحدثين توضح إلى حد ما طريقة تعاطي النظام مع القضايا والأحداث التي تستدعي التدخل الإعلامي وصناعة الخطاب، كما توضح جانباً من علاقة الأسد مع مسؤولي نظامه الأقربين ورؤيته لهم، فقد كشف مقدسي عن تصريحات أسر بها الأسد له حول فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية السوري آنذاك، وليد المعلم، حيث وصف الأسد المقداد بأنه غير قابل للتطوّر وأرفق ذلك بوصف غير لائق، بحسب قول مقدسي، كما تحدث الأخير عن أن الأسد وبّخ المعلم بسبب كواليس بيان الأسلحة الكيميائية، وقاطعه لمدة تزيد عن عشرين يوماً، بحسب حديثه.

رغم أن مقدسي أمضى فترة قصيرة نسبياً في وزارة الخارجية، إلا أن المعلومات التي قدمها تظهر كيف وأين بدأت الأمور تتجه نحو مسار يصعب الرجوع عنه، كما كشف عن كيفية تعاطي النظام والكيانات التي شكلها مع الأحداث الأمنية والعسكرية التي كانت تجري في البلاد آنذاك، مشيراً في حديثه إلى ما يسمى باللجنة الأمنية، والتي ضمت كلاً من فيصل المقداد، وعلي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، ولونا الشبل، المستشارة الإعلامية في القصر الجمهوري، بالإضافة إلى مسؤولين في الأمن العسكري. والتي انضم إليها مقدسي آنذاك بقرار من الأسد، في محاولة لإشراكه بصناعة المعلومة.

استخدم مقدسي كلمة “الرئيس” عند الحديث عن بشار الأسد، وعندما سُئل عن سبب استخدام هذه الكلمة رغم أنها قد تثير انزعاج البعض، أوضح مقدسي أنه رجل دبلوماسي ويعبر عن الأمور كما هي، وأن بشار الأسد كان رئيساً في فترة عمله ضمن منظومته. وعلى الرغم من أن العديد من المسؤولين الذين عملوا مع النظام حتى اللحظة الأخيرة أكدوا أن الأسد لم يكن يستمع لأحد ويتخذ قراراته بنفسه، أشار مقدسي إلى أن الأسد كان يستمع للآراء قبل أن يتخذ قراره، ما اعتبره البعض اعترافاً جريئاً من مقدسي.

قد تؤثر معطيات المرحلة التي عاصرها مقدسي، وشكل دوره آنذاك، على نوعية الملفات والأحداث التي كان شاهداً عليها ودرجة حساسيتها، وهذا ما قد يفسر إلى حد ما الاختلاف الكبير بين وزن المعلومات التي أفاد بها مقابل تلك التي أدلى بها مسؤولون عملوا مع النظام خلال السنوات السابقة وحتى اللحظة الأخيرة.

قد يفسر ذلك أيضاً بأن المسؤولين الذين بقوا مع النظام حتى النهاية قد يتجنبون الكشف عن تفاصيل حساسة يمكن أن تدينهم، خاصةً أنهم لم يتخذوا موقفاً منها واستمروا في العمل مع النظام حتى اللحظة الأخيرة.

في المقابل، قدم مقدسي استقالته بعد فترة قصيرة من توليه المنصب الذي استدعاه الأسد شخصياً له من لندن، ليغادر بعدها البلاد ويُصبح جزءاً من المعارضة، قبل أن يبتعد نهائياً عن الساحة السياسية والإعلامية. 

رصيف 22

————————

في غياهب الجبّ السوري… أطفال ما زالوا عالقين/ نور السيد

الاثنين 3 فبراير 2025

قد يبدو يوم 11 آذار/ مارس عام 2013، تاريخاً عادياً، إلّا أنه كتب رحلة شقاء تمتد حتّى اليوم لعائلة سورية، إذ طال الكابوس ليتّسع قضيةً إنسانيةً تمسّ طفولة بريئة يندى لها جبين العدالة، طبيبة الأسنان وبطلة الشطرنج السورية رانيا العباسي (المولودة عام 1970)، وأطفالها الستّة بالكامل؛ غُيّبوا قسراً في معتقلات بشار الأسد، بعد يومين فقط من اعتقال زوجها عبد الرحمن ياسين.

عائلة وأطفال رانيا العباسي.

وثّقت منظمة العفو الدولية تفاصيل حادثة الاعتقال وملابساتها. كما طالبت نظام الأسد بالكشف عن مصير العائلة، حملة “دونما وجه حق” Without Just Cause الأمريكية، وهي حملة أطلقتها وزارة الخارجية الأمريكية من أجل السجناء السياسيين في العالم. كانت سكرتيرة رانيا، مجدولين القاضي (المولودة عام 1984)، في المنزل لحظة الاعتقال، وغُيّبت هي أيضاً مع الأسرة قسراً ولا يزال مصيرها مجهولاً.

تقول شقيقة رانيا، الطبيبة نائلة العباسي، لرصيف22، إنّ كل ما استطاعوا معرفته عن مصير أختها بعد الاعتقال، هو احتجازها في “الفرع 215” سيئ السمعة، وهو ما أخبرت به العائلة طبيبةٌ تزامن اعتقالها مع اعتقال رانيا، موضحةً أنها سمعت اسمها وسمعت أصوات أطفالها قبل أن تخرج من ذاك الفرع.

مارَس “الفرع 215” التابع للأمن العسكري (المخابرات العسكرية)، الذي عُرف بـ”سرّية المداهمة”، أقسى عمليات التعذيب، بحسب تقرير نشرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان عام 2014، وصفت فيه ما يحدث في الفرع بـ”الهولوكوست السوري”، علماً أنّ التقرير عن لقاءات مع ناجين من ذلك الفرع شهاداتهم موثوقة.

تقول نائلة: “دفعنا الكثير من النقود لمحامين ورجال أمن علّنا نصل إلى أي معلومة عن شقيقتي وأطفالها، إلّا أنّ جميع المحاولات باءت بالفشل. بعد ذلك، توجّهنا إلى منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية التي أرسلت خطاباتٍ رسميةً لبشار الأسد وبشار الجعفري (الدبلوماسي السوري وممثل سوريا الأسبق لدى الأمم المتحدة)، طالبت فيها بالكشف عن مصير رانيا، ولم تحصل على أي استجابة حتّى أنه في محادثات أستانة تقدّم مبعوث الأمم المتحدة آنذاك ستيفان دي ميستورا، بطلبٍ مباشر إلى الجعفري للكشف عن مصير العائلة، إلّا أنّ الأخير أنكر وجودها في سجون النظام”.

أهوال معتقلات الأسد ومصير عائلة رانيا

عادت الأخبار والمطالبات بجلاء مصير عائلة رانيا العباسي، إلى الواجهة، مع تصدّر مشاهد فتح سجون ومعتقلات نظام الأسد الساقط يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، التي خرج معتقلون منها بذاكرة ممسوحة، وطالبت عائلات بفحص الحمض النووي لمن اشتبهت في أنهم أبناؤها لشدّة تغيّر ملامحهم تحت التعذيب، ومشاهدة أمهات يحفرن بأيديهنّ للوصول إلى أقبية سرّية مُتَخَيّلة، علّهنّ يجدن أي أثر يعود إلى أحبّائهن أو يدلّهنّ عليهم. كما تحتفظ برادات مشافٍ بجثث معتقلين مع “أرقام”، لا أسماء، على الصدر أو الجبهة، مع ملامح غائبة.

ووفق المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو منظمة حقوقية غير حكومية، بلغت حصيلة المقابر الجماعية المكتشفة التي وثّقها المرصد، منذ إسقاط الأسد وحتّى 29 كانون الثاني/ يناير 2025، 15 مقبرةً جماعيةً، احتوت على رفات 1،608 ضحايا، بما في ذلك أربع مقابر جماعية في كل من ريف دمشق، وحمص، ودير الزور والبوكمال، بالإضافة إلى مقبرتين جماعيتين في درعا، ومقبرة جماعية واحدة في حماة.

“اغتصبوا امرأةً أمامي… وقطّعوا شابّاً بساطور”

قد يعجز العقل عن تصوّر ما ربما يكون قد تعرّض له أطفال رانيا الستة (ديمة 14 عاماً، وانتصار 11 عاماً، ونجاح 9 أعوام، وولاء 8 أعوام، وأحمد 4 أعوام، وليان عام ونصف العام)، في جحيم معتقلات نظام الأسد. شاركت رنيم عودة (30 عاماً)، شهادتها مع رصيف22، وهي شهادة ربما تعطي لمحةً بسيطةً عن معنى أن يعيش طفل في معتقلات الأسد.

تؤكد رنيم، التي كانت معتقلةًً داخل “فرع الأمن العسكري 235″، أو ما يُعرف بـ”فرع فلسطين” سيئ السمعة الذي وثّقت جهات حقوقية محلية ودولية عشرات الشهادات لمعتقلين/ ات سابقين/ ات فيه، وجود أطفال داخل السجون والفروع التي تنقّلت بينها طوال مدة اعتقالها. “حين كنتُ في ‘فرع فلسطين’، اعتُقِل طفل عمره ست سنوات مع والدته وجدّته شهراً كاملاً، كان يأكل خلاله من طعام السجن الرديء، ويسمع انتهاكات لفظيةً تُوجّه إلينا نحن المعتقلات، ويرى وضعنا المزري بعد جلسات التعذيب”، تشرح.

وتضيف رنيم أنه “بعد شهر، استبدّ مرض السرطان بوالدة الطفل، فجاء عنصر أمن لأخذه مدّعياً أنه سوف ‘يُسلّمه لجدّه’. ذهب الطفل ولم ندرِ حقاً إن كان قد وصل إلى أقاربه”. تُتابع المعتقلة السابقة، وهي فلسطينية سورية، أنها التقت داخل “فرع فلسطين” بشقيقتين تنحدران من الجولان، هما غُفران (14 عاماً)، وسماح (16 عاماً)، وقد تحدثتا إليها عن شقيقهما محمد (17 عاماً)، الذي اعتُقل معهما من أمام الفرن الآلي، وذلك بتهمة “إسقاط طائرة تابعة للنظام برشاش الدوشكا”.

تروي رنيم: “أمضى الأخوة تسعة أشهر في الاعتقال، بدايةً في ‘فرع الخطيب’، ثم ‘أمن المنطقة’ وانتهى بهم الحال في ‘فرع فلسطين’ حيث جاءت معتقلة، وتفاجأت بأنهم على قيد الحياة، وأخبرت الفتاتين بأنّ عائلتهما أقامت للأشقاء الثلاثة مجلس عزاء بعد أن تسلّموا بطاقاتهم الشخصية من الأمن على أنهم متوفّون”.

تقول رنيم، إنها شهدت ضرب امرأة حامل في شهرها الرابع على ظهرها وبطنها خلال اعتقالها في “فرع فلسطين”. تضيف: “لا أدري إن كانت قد اعتُقلت وهي حامل، أو حملت داخل السجن نتيجة اعتداء جنسي خلال مراحل تعذيبها. كل ما أعرفه أنها نزفت بشدّة بعد أن فقدت جنينها”.

تتكرّر التكهّنات عن أنّ بعض حالات حمل المعتقلات حدثت في سجون ومعتقلات نظام الأسد، جرّاء الاغتصاب كشكل من أشكال التعذيب والتنكيل. وهناك وثائق سُرّبت حديثاً لحالات إلحاق أطفال بدور الرعاية، بعدما حدث الحمل داخل السجون، كان قد نشر واحدةً منها حسان العباسي، عبر حسابه على فيسبوك.

تعقيباً على سؤال رصيف22، حول توثيق أيّ من هذه الادعاءات (حدوث ولادات جرّاء حالات اغتصاب ضمن معتقلات النظام الساقط)، يقول مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومقرّها لاهاي، فضل عبد الغني، إنّ أيّ وثيقة تصلهم بهذا الشأن لا تُعدّ صحيحةً إلا بعد التحقّق منها، واصفاً عملية التحقّق بأنها “عملية معقّدة، لا نزال نعمل عليها إذ إنّ لكل وثيقة كودات وشيفرات تحتاج إلى فكّها”.

يتابع فضل: “المثبت لدينا أنّ العدد الإجمالي للأطفال يشكّل نسبةً تتجاوز 2% من العدد الكلي للمعتقلين وهي نسبة مرعبة. وهناك روايتان لاعتقالهم؛ قسم اعتُقل مع ذويه، وآخرون اعتُقلوا وحدهم بتهمة أنهم شاركوا في مظاهرات أو نشاطات إغاثية وغير ذلك”.

بسؤال رنيم عمّا إذا كانت قد شهدت على حالات اغتصاب داخل السجون، تقول لرصيف22: “في غرفة منفصلة، تناوب أربعة عناصر على اغتصاب معتقلة أمامي بهدف ترويعي، حيث طالبوني بتزويدهم بـ400 اسم من الإرهابيين وكانوا قد اتهموني بأني ناشطة إعلامية أتعاون مع ضباط منشقّين، وزعم العناصر الذين اعتقلوني بأني تسلّلت إلى المخيم لأُفجّر سيارةً هناك”.

مع ذلك، تعدّ رنيم، الاغتصاب “أمراً بسيطاً مقارنةً بما شهدتْ” من صنوف التعذيب داخل معتقلات الأسد. وتسترسل: “إلى اليوم لا أستطيع أن أمحو صورة ذاك الشاب من كوابيسي… عرّضوه لصدمات كهربائية كما تعرّضت أنا، إلا أنهم رشّوه فوراً بالماء، ففارق الحياة. بعدها، توجّه الضابط نحوي وقال: ‘ما بدّك تحكي؟’، ثم أمر عنصراً بأن يأتي بالساطور. قطّعوا جثّة الشاب أمامي كوسيلة حرب نفسية عليّ لأُعلِمهم بالأسماء التي طلبوها”.

تقول رنيم، إنها اعتُقلت في 14 أيلول/ سبتمبر عام 2013، بينما كانت تمشي داخل مخيّم اليرموك استهلاكاً للوقت في انتظار تصوير وإرسال أوراق ثبوتية تخصّ شقيقها في مصر داخل مكتبة حيّ الزاهرة القريب. كان شقيقها ينتظر الأوراق بعدما اعتزم ركوب البحر إلى بريطانيا. “نقلوني إلى ‘القيادة العامة’ بعد أن أخذوا الموافقة هاتفياً من أحمد جبريل (زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة الذي اشتُهر بـ’جزّار طرابلس واليرموك’)، الذي أوصاهم بالاتصال بسهيل الحسن (قائد القوات الخاصة الذي اشتُهر بـ’جندي الأسد المفضّل’)… ضُربتُ بوحشية وعلّقوا رقبتي بكابل وجرّوني بهدف قتلي إلا أنّ الكابل قُطع. بعدها اقتادوني مدماةً إلى فرع فلسطين، وهناك بدأت رحلة عذاب لن أنساها في حياتي!”، تروي رنيم وتشدّد على أنّ عناصر الأمن اقتلعوا أظافر قدميها، وجعلوها تسجد لصورة بشار الأسد حين رأوها تصلّي.

“دفعت عائلتي ما يُعادل 200 ألف دولار أمريكي، حتى أخرج بعد اعتقال دام خمسة أشهر ونصف”، تختم رنيم.

“اعتقلوا والدي وحوّلوا منزلنا إلى ثكنة عسكرية”

خيط آخر يخوّف ذوي رانيا العبّاسي، على مصيرها ومصير أطفالها. كان حليم أبو كاظم، من عناصر فرع الأمن العسكري في نقطة جسر الوزّان في مشروع دمّر، وهو معروف بارتكابه وعناصره، العديد من الانتهاكات المروّعة بحق المعتقلين/ ات، وهو من اعتقل الأسرة، وفق ما أخبر به الجيران عائلتها لاحقاً.

عن إجرام كاظم، يشارك عبد الكريم غنام، رصيف22، محنة عائلته التي بدأت في السابع من آذار/ مارس 2013، حين اعتُقل والده عبد العلي (المولود عام 1944)، من منزلهم في منطقة دمّر قرب حاجز الوزّان في دمشق، من قِبل عناصر أمن تابعة لـ”السرية 215″.

لم تجد العائلة للأب المُغيّب قسراً، أثراً إلّا مع تداول صور قيصر المسرّبة. كان أحد الضحايا، وقد ظهرت آثار التعذيب جليّةً على جسده. يقول عبد الكريم: “اعتُقل أبي بتهمة تمويل الإرهاب. اعتاد أن يمدّ يد العون لفقراء المسجد والحيّ. فرضت ‘السرية 215’، نفسها على أرجاء بيتنا الكبير حيث عمل والدي لدى عائلة الوزّان الكويتية، وسكننا في قصرهم بعد أن سافروا بتفويض من الورثة. كان أبي مُسالماً مع عناصر الأمن الذين بقوا يسرحون ويمرحون ضمن حديقة القصر قبل أن يأتي المدعو حليم أبو كاظم، ويعتقله من فراشه بطريقة مهينة”.

يضيف عبد الكريم، أنّ هذا حدث “بعد أن هربت شقيقتي من المنزل حيث حاول العناصر اعتقالها أيضاً. بعدها تحوّل بيتنا الكبير إلى ثكنة عسكرية، وهُجّرت العائلة بين القلمون الشرقي والشمال السوري وتركيا وكذلك أوروبا”.

عاد عبد الكريم، من إدلب بعد إسقاط النظام ليجد المنزل شبه مدمّر مع الكثير من الفوضى والوثائق العسكرية التي سلّمها إلى هيئة تحرير الشام التي انبثقت منها الإدارة الجديدة في سوريا.

أطفال رانيا يفضحون إجرام الأسد

بالعودة إلى رانيا العباسي، يقول شقيقها المهندس حسان العباسي، المقيم في كندا، لرصيف22: “اعتُقلت رانيا، بعد يومين من اعتقال زوجها من مقرّ إقامته في دمّر بالقرب من حاجز الوزّان. أُخذت مع أطفالها الستة وسكرتيرتها من قبل المدعو حليم أبو كاظم، المسؤول عن الحاجز بتهمة تمويل جهات إرهابية، فقط لأنها قدّمت مساعدةً إنسانيةً بقيمة تعادل 65 دولاراً أمريكياً، لشابِِ من محافظة حمص يقطن في المبنى ذاته اقترح ووالدته تزويد العائلات الهاربة من قصف الأسد في حمص إلى دمشق بسلال غذائية خلال شهر رمضان”.

يتابع حسان: “كانت حفنة الدولارات تلك جريمةً غُيّبت بسببها عائلة كاملة في سجون الطاغية، وقد اقتاد عناصر الأمن الشاب وهو مدمّى حتّى يرشدهم إلى بيت رانيا، حيث اعتقلوا زوجها المولود عام 1970، ثم جاءوا في اليوم التالي واستولوا على مصاغ من ذهب وأجهزة حاسوب محمولة وسيارتين. وفي اليوم الثالث، اعتقلوا رانيا والأطفال والسكرتيرة”.

تشغل اليوم قضية رانيا العباسي، الرأي العام المحلي والدولي، إذ إنه بعد إسقاط النظام طفت فوق السطح قضية أطفال العباسي الذين غيّب التعذيب أباهم الطبيب عبد الرحمن ياسين، الذي عُثر على صورته ضمن قائمة “صور قيصر” بعد عام من اعتقاله، ويُعتقد من خلال آثار التعذيب وهندام ثيابه أنه قضى بعد أيام قليلة من تغييبه، بحسب صهره حسان. تحفّظ آل العباسي الذين تواصلنا معهم عن نشر الصورة رفقاً بعائلة ياسين.

إلى ذلك، تخبرنا نائلة العباسي، أيضاً، بأنهم تلقّوا اتصالاً عام 2014 يؤكد وجود أربعة من أطفال أختها داخل “قرى الأطفال SOS”. كذلك هناك من أكّد لهم هذه المعلومات في عام 2021، منبّهاً إلى أنّهم نُقلوا بعدها، وتحديداً عام 2022، إلى جهة مجهولة.

تأسّست “جمعية قرى الأطفال SOS” في سوريا عام 1975، وافتُتحت أول قرية في البلاد عام 1981، في العاصمة دمشق. وتُعدّ الجمعية أحد فروع الاتحاد الدولي لقرى الأطفال ومقرّه في النمسا، وينتشر في 136 دولةً حول العالم.

توفّر فروع الاتحاد الرعاية الأسرية طويلة الأمد للأطفال الأيتام والمحرومين من الرعاية الأسرية. غير أنه في سوريا هناك الكثير من الشبهات حول عملها وعلاقتها بعائلة الأسد.

في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2024، أصدرت SOS، بياناً قالت فيه إنها تعاونت مع ممثل عن عائلة رانيا العباسي، لبحث اتهامات حسان العباسي، بأن الجمعية تحتفظ بعدد من أبناء شقيقته تحت أسماء غير حقيقية، وخلصت إلى أنه “ليست لدينا أي معلومات عن ذويهم”.

وبعد بضعة أيام، نشرت الجمعية بياناً آخر، اعترفت فيه بأنّ النظام الساقط أدخل قسراً إلى المؤسسة أطفالاً “فُصلوا عن أسرهم خلال النزاع دون توثيق لأصولهم”، خلال فترة النزاع حتّى عام 2019، حيث طالبت الجمعية السلطات بالتوقف عن إحالة هؤلاء الأطفال إليها، مشدّدةً على أنه “لم يبقَ أيٌّ من هؤلاء الأطفال في رعايتنا اليوم”.

كانت قرى الأطفال SOS، مدعومةً من قبل أسماء الأسد، شخصياً، ولها فروع في أكثر من محافظة سورية منها حلب واللاذقية. كما افتُتحت قرية جديدة عام 2017، في جنوب غرب دمشق، قرب الحدود اللبنانية. وتنتشر شائعات حول استحداث أسماء الأسد، جناحاً سرّياً لأبناء المعتقلين وأطفال وُلدوا في السجون والمعتقلات.

حقائق تتكشّف ببطء

ويقول حسان العباسي، إنه أجرى اتصالات مكثّفةً بعد إسقاط النظام بهدف الوصول إلى طرف خيط يرشده إلى أحد أطفال شقيقته على أقلّ تقدير، بعدما فقد الأمل في بقاء شقيقته على قيد الحياة بعد كل هذه السنوات، وبعد ما تكشّف عن أهوال معتقلات الأسد. كما يُعرب حسان، عن دهشته من “ألّا يترك تغييب ستة أطفال إخوة خلفهم دليلاً واحداً”.

تطورات متلاحقة تتابعها عائلة العباسي، بينما تحتفظ بأمل ولو بسيط في استعادة أبناء رانيا. تقول نائلة العباسي: “لعلّكم تابعتم معنا قصة علاء رجّوب الطفل الذي اعتُقل مع خاله وعمره سبع سنوات، وتم طمس هويته وتغيير لقبه إلى ناصيف بعد نقله إلى مجمّع لحن الحياة للرعاية (دار زيد سابقاً). فرحنا للقاء علاء بأخته البيولوجية. وأيضاً هناك قصة عدنان بدرا، والكثير من الشهادات تتوالى يوماً بعد يوم”.

وفي وقت سابق من الشهر الجاري، أعلنت وكالة الأنباء السورية (سانا)، أنّ مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل عثر على “مكاتبات سرّية” تؤكد تحويل أطفال من المعتقلات والسجون إلى دور أيتام. وناشد المكتب الإعلامي للوزارة: “نهيب بذوي الأطفال المفقودين التوجّه إلى المديريات الفرعية المعنية بمديريات الشؤون الاجتماعية والعمل، لتقديم أسماء الأطفال وأي معلومات قد تُساهم في تسهيل عملية البحث وإحصاء الحالات بشكل دقيق”. من العوامل التي تعقّد على الأهالي والسلطات عملية البحث عن هؤلاء الأطفال وتحديدهم أنّ أسماءهم لم تُدرج ضمن ملف واحد، وإنما كانت هناك مكاتبة وقرارات فردية تخصّ كل طفل/ ة مع هوية غير حقيقية تلتصق به/ ا داخل الدار التي تستضيفه/ ا.

في هذا السياق، قال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، لقناة “BBC”، إنّ نحو 400 طفل سوري جيء بهم من أفرع أمنية سوريّة إلى دور أيتام سوريّة، وإنه يمتلك اليوم ما لا يقلّ عن 30 وثيقةً أمنيةً على الأقلّ ممهورةً بختم وزير الداخلية السابق لدى نظام الأسد، محمد الرحمون، وبأسماء قادة أجهزة أمنية، فيما أعيد نحو 130 طفلاً إلى ذويهم.

أضاف رامي: “نعمل على هذا الملف منذ عام 2013، على أمل أن نتلقّى تعاوناً من الإدارة الجديدة للوصول إلى باقي الأطفال. ولنكن واقعيين، مديرو هذه الدور كانوا شركاء أسماء الأسد، وكانوا يستلمون الأطفال مع ورقة كُتب عليها ‘سرّي للغاية’. نُطالب بالتحقيق معهم لمعرفة أين هم هؤلاء الأطفال اليوم، لا سيّما أنه تم إخراج بعضهم من دور الأيتام بعد بلوغهم سن الثامنة عشرة، وأودِعوا في شقق لتشغيلهم في أعمال غير أخلاقية، وبعضهم دُفع به إلى قوات النظام، وبعضهم فرّ هارباً إلى لبنان واستطعنا توثيق عودتهم”.

وفي تصريحات إضافية أدلى بها لقناة “العربية الحدث”، أوضح رامي، أنّ هؤلاء الأطفال الـ400 أُلحقوا بشكل أساسي بأربع دور رعاية، منبّهاً إلى أنّ بعض الوثائق حملت الاسم الأول للطفل فقط وعمره. وأكّد رامي، أنّ المرصد يملك دلائل على أنّ حزب الله متورط في استغلال أطفال سوريين فُصلوا عن ذويهم في تجارة المخدرات وبعضهم توفي نتيجة التجارب عليه.

هذه السيناريوهات المقلقة لا تغيب عن آل العباسي، حيث يقول حسان، إنّ “أفكاراً مأساويةً تراود العائلة بين آن وآخر إزاء مصير أطفال رانيا. فتّشنا أحياناً عن صور منسوبة إلى فتيات عاملات في الجنس التجاري في أوروبا ربما تتقارب ملامحهنّ مع ملامح بنات رانيا. هل تتخيّلون إلى أين وصلنا؟!”.

كما يؤكد أنّ سيناريوهات محتملة عدة تُعقّد عملية البحث عن الأشقاء الستة، من ضمنها سيناريو ترحيل بعض الأطفال إلى روسيا لاستغلالهم على الجبهة مع أوكرانيا. وكانت وكالة “يورونيوز” الأوروبية، قد نشرت عام 2018، خبراً مفاده وصول أطفال سوريين تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاماً إلى موسكو بهدف “التدريب العسكري”، قائلةً إنّ السفارة السورية في موسكو أكدت ذلك موضحةً أنه يأتي ضمن إطار اتفاق دائم وسنوي يخضع خلاله الأطفال السوريون للتدريب ضمن فيلق الطلاب الروس. وقد أصدرت روسيا مرسوماً بهذا الشأن في شهر تموز/ يوليو من العام نفسه، بحسب “يورونيوز”.

سيناريو آخر يعكس هواجس حسان، إزاء شائعات قرأها عبر وسائل التواصل، ولم يتم التحقق منها، عن ترحيل معتقلين سوريين أصحّاء إلى روسيا بغرض تجارة الأعضاء.

من العوامل التي تُعقّد عملية إجلاء المصير أيضاً في ملف المغيّبين قسراً من الأطفال والكبار، ما رافق إفراغ المعتقلات والسجون من فوضى، ضاعت على إثرها عشرات الوثائق والملفات. في هذا السياق، يستنكر المحامي والباحث السياسي إيهاب عبد ربه، “الفوضى” في التعامل مع أماكن الاحتجاز، مشدّداً على أنّ “الفروع الأمنية مسارح جرائم، يجب تحييدها عن العبث حتّى لا تضيع الأدلة الجنائية”، بما في ذلك الوثائق التي تُجلي مصير الأطفال المغيّبين قسراً.

من المُدان في هذا الملف؟

بالإضافة إلى أسماء الأسد، التي يعدّها الأكثر مسؤوليةً في “هذا الملف الشائك”، يُصرّ رامي عبد الرحمن، على أنّ المسؤولية الكبرى تقع على عاتق كلّ من “أجهزة بشار الأسد الأمنية، ومديري دور الأيتام وهم ليسوا أبرياء ولا ملائكةً، هم يعلمون حقيقة ما كان يحدث”، وفق ما ذكر لـ”بي بي سي”. كما طالب رامي، عبر “العربية الحدث”، بمحاسبة كل من ثبت تورّطه في هذا الملف “من إيرانيين وسوريين وأتباع لنظام الأسد وحزب الله ضمن محاكمة علنية”، معبّراً عن خشيته على مصير بعض الوثائق التي تهمّ هذا الملف من قبل مديري دور الرعاية المتورطين.

تجدر الإشارة إلى أنّ مديرة جمعية المبرّة في دمشق، رنا موفق البابا، أقرّت في شهادتها، عبر قناة “العربية الحدث”، بأنها شخصياً كانت تتسلّم أطفالاً من أفرع أمنية وفق كتب ممهورة باسم وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، على أن يودَعوا في الدار. “أوقّع على الكتاب الذي تعود نسخة منه للمخابرات، وأتعهّد فيه بألّا أسلّم أسماء الأطفال لأحد أو حتّى إخبار ذويهم. مؤلم هذا الأمر طبعاً، لكن لم يكن بإمكاني الإفصاح عن الأسماء مطلقاً”، على حد قولها.

بدورها، تعبّر نائلة العباسي، عن استغرابها المقابلات الإعلامية التي ظهرت فيها مديرات ومسؤولات في دور أيتام وهنّ يتكلّمن عن احتجاز أطفال المعتقلين/ ات “دون أدنى شعور بالذنب أو المسؤولية!”. تُشير بذلك إلى ظهور مديرة دار الرحمة للأيتام، براءة الأيوبي، في لقاء إعلامي اعترفت فيه بأنها لم تكن تشعر بتأنيب ضمير تجاه هؤلاء الأطفال وأسرهم.

ملف غامض وحسّاس

لا تقديرات دقيقةً لعدد المغيبين قسراً في سورياً. لكن بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، هناك ما لا يقلّ عن 113،218 شخصاً لا يزالون قيد الإخفاء القسري منذ آذار/ مارس عام 2011، وحتّى آب/ أغسطس 2024. من بين هؤلاء، ما لا يقلّ عن 136،614 شخصاً قيد الاعتقال التعسفي أو الإخفاء القسري في سجون ومراكز اعتقال تابعة لنظام الأسد.

وبحسب مشروع “جسور الحقيقة”، وهو مشروع تعاوني بين المركز الدولي للعدالة الانتقالية وثماني منظمات من المجتمع المدني السوري، في تقريره الصادر عام 2021، فإنّ “هذا الواقع سرداب مظلم لا نور فيه، يستمرّ فيه اختفاء السوريّين، حيث لا عدد معروفاً لمن اختفوا دون إدراجهم في عداد القتلى”. وكانت الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة قد أقرّت بإنشاء مؤسّسة دولية جديدة لاستجلاء مصير المفقودين في سوريا، في 29 حزيران/ يونيو عام 2023.

واستناداً إلى التقرير السنوي الثالث عشر حول الانتهاكات ضد الأطفال في سوريا، الصادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، يخبر مؤسس ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، رصيف22، بأنه جرى توثيق مقتل ما لا يقلّ عن 30 ألف طفل سوريّ منذ آذار/ مارس 2011، من بينهم 225 جرّاء التعذيب. من هذا العدد المروّع أكثر من 23 ألف طفل قضوا على أيدي قوات النظام الساقط.

علاوة على ما سبق، ما يزال 5.298 طفلاً معتقلاً أو مخفيّاً قسراً على أيدي أطراف النزاع في البلاد خلال نفس الفترة، من بينهم 3702 على أيدي قوات النظام السوري، بحسب المصدر نفسه.

أدلّة موثوقة وأخرى تحتاج إلى التحقّق

في سياق متّسق، يقول المحامي والباحث السياسي إيهاب عبد ربه، لرصيف22، إنّ هناك أدلةً جنائيةً تُثبت تورّط نظام الأسد والأجهزة الأمنية المختلفة باعتقال أطفال دون سنّ الثامنة عشرة وتعريضهم لأشكال الانتهاكات كافة التي أودت بحياتهم، وزوّدنا بملف صور قيصر للأطفال.

عمل عبد ربه، ضمن فريق قيصر منذ البداية، ونجح الفريق في تهريب 55 ألفاً من صور سجناء قضوا تحت التعذيب في سجون ومعتقلات الأسد إلى خارج البلاد، ما كان له تأثير قوي على إقرار مجلس النواب الأمريكي عام 2019، “قانون قيصر” الذي فُرضت بموجبه عقوبات مشدّدة على نظام الأسد ومن يتعاون معه، والذي أثقل بدوره كاهل الشعب السوري اقتصادياً واجتماعياً أيضاً.

ويلفت فضل عبد الغني، إلى بيان الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الصادر في 23 كانون الثاني/ يناير 2025، والذي يشمل “قوائم موثقةً تضمّ قرابة 3،700 طفل مغيّب قسرياً على أيدي نظام الأسد”. يؤكّد البيان أنّ الشبكة ومنذ سنوات لديها أنباء تفيد بأنّ نظام الأسد كان ينتزع أطفالاً من عوائلهم، أو يحوّل الأطفال من مراكز الاحتجاز إلى مراكز الرعاية، التي لم يتم التحقق منها بسبب العديد من التحديات.

ومن أبرز الدور، وفق البيان، هي “SOS” التي ضمّت الكثير من هؤلاء الأطفال دون أوراق ثبوتية توضح أصولهم، لكن هذا النهج تغيّر بعد تغيير إدارتها في عام 2019، حيث بدأ المركز باستقبال الأطفال مع معلومات عنهم. وأفاد البيان بأنّ من أبرز هذه الحالات مُبهمة المصير حتّى الآن، أطفال الطبيبة رانيا العباسي.

أيّ مسؤولية على الإدارة الجديدة؟

بسؤال عائلة العباسي، عن الدور الذي تلعبه الإدارة الجديدة في سوريا في ملف أسرة رانيا، وما قد ينتظرونه منها، تقول نائلة العباسي، إنهم ينسّقون مع لجنة تحقيق دوليّة في ظلّ عجز الإمكانيات المحدودة للبلاد التي أرهقتها الحرب.

بعبارات أوضح، يُعبّر حسان العباسي، عن “خيبة أمله” من تعاطي الإدارة الجديدة مع ملف المغيّبين قسراً. كما يرى في مقابلة الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، لوالدة الصحافي الأمريكي المغيّب قسراً في سوريا، أوستن تايس، الذي عمل لصالح وكالة “فرانس برس” و”واشنطن بوست” ووسائل إعلامية عالمية أخرى، “إشارةً مستفزةً رسّخت أنّ المواطن الأمريكي أغلى وأكثر قيمةً من مئات آلاف السوريين المغيّبين وما زال ذووهم ينتظرون ولو كلمة بسيطة بشأنهم من القيادة الجديدة”.

يضيف حسان: “كل ما قدّمته الإدارة الجديدة لنا هو طلاء الأفرع الأمنية، وإزالة صور المعتقلين من ساحة المرجة!”، معرباً عن استيائه من “انخراط بعض من فلول النظام السابق في المشهد السياسي والإعلامي، وإعادة تعيينهم ضمن الإدارة الجديدة مثل القاضي محمد ياسين القزاز، وفاضل نجار”، علماً بأنّ القزاز، كان قد تقدّم باستقالته بعد أن استفزّ الرأي العام قرار تعيينه.

يعرب حسان، أيضاً، عن خيبة أمل إزاء “عجز” وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة المكلفة، فادي القاسم، عن الوصول إلى ملف أطفال أخته رانيا. “نشعر بالقهر والذلّ والخذلان، أنا وأفراد أسرتي، من هذه الإدارة التي كأنها باعت ملف المعتقلين واستغنت عن المحاسبة. كان من الأجدى تكريس الوقت الذي منحته الحكومة لاستقبال مؤثري التواصل الاجتماعي للبحث عن أطفال المعتقلين المرميّين في دور الأيتام. كل ما نطلبه كأهالي معتقلين لم يتبيّن مصيرهم بعد، هو القليل من الكرامة ونكرّر ما قاله أهالي المغيبين قسراً حين هتفوا في ساحة الأمويين بملء الحناجر: ‘معتقلونا ليسوا أموات دون دليل أو إثبات'”.

ودعا بيان الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الصادر قبل أيام، الإدارة الجديدة إلى اعتبار ملف أطفال المعتقلين المغيبين قسراً أولويةً وطنيةً وإنسانيةً، وفتح تحقيق شامل بإشراك المنظمات المحلية والدولية لتحقيق العدالة والكشف عن الحقيقة. كما طالبت الشبكة جمعية SOS، بفتح تحقيق داخلي مستقلّ، ومشاركة جميع الملفات مع الإدارة الحالية في سوريا، وبتقديم “اعتذار خطّي وتعويض عادل” لذوي هؤلاء الأطفال.

والجدير ذكره أنّ الشبكة توجّهت إلى المنظمات الدولية والأمم المتحدة من أجل التحقيق في كيفية إحالة هؤلاء الأطفال من الأفرع الأمنية إلى دور الرعاية، مع توثيق عددهم والكشف عن هويّتهم. فضلاً عن التحقيق داخل دور الأيتام للكشف عن أي تزوير للبيانات الشخصية، أو تعريض الأطفال لأيّ انتهاكات، بالإضافة إلى إجلاء مصير الأطفال في حال تم نقلهم، ومحاسبة المسؤولين من الأفرع الأمنية ومديري دور الأيتام والجمعيات ومحاسبة كل من تورط وتستر وأهمل فتسبب في معاناة الأطفال وذويهم.

وبينما لم تصل جهود العائلة إلى أي معلومة مفيدة عن مصير أبناء رانيا، يناشد حسان، اليوم، كل من يمكنه المساعدة، مشاركة أيّ معلومة ولو بسيطة تقود إلى أبناء أخته. “مؤخّراً، توصّل معي أحدهم وأخبرني عن شاب شكله شبيه بشكل أحمد ابن رانيا. على الفور توجّهنا لطلب فحص DNA لحسم الشكّ، إلا أنّ الأمل تضاءل حين علمنا أنّ أحمد لا يمكن أن يكون عمره من عمر الشاب”.

إلى ذلك، يبقى مصير أطفال رانيا العباسي، وغيرهم الكثير ممن غُيّبوا في ظلام المعتقلات، غامضاً لا سيّما في ظلّ الفوضى التي اجتاحت ملفات ووثائق الفروع الأمنية بعد إسقاط الأسد. فهل يلتئم شملهم مع ذويهم قريباً؟ الأيام ستجيب عن هذا السؤال.

رصيف 22

————————-

========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى