تحقيقاتسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

أي تأثير تتركه مشاريع تمكين النساء؟: عمل المنظمات في بصرى الشام ونتائجه كما تحكيها نساء من المدينة/ أمل السلامات

20-02-2025

        * * * * *

        خرجَت مدينة بصرى الشام عن سيطرة النظام السوري في العام 2015، لتصبح تحت سيطرة المعارضة المسلّحة وتبقى كذلك حتى العام 2018. وخلال تلك الأعوام، نشطت منظمات المجتمع المدني بكثافة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ومن بينها بصرى بطبيعة الحال، ونفّذت مشاريع متنوعة من بينها مشاريع تمكين النساء. ودائماً، كانت هناك نقاشات بشأن جدوى هذه المشاريع وتأثيرها في المجتمع، وفي حياة النساء المستفيدات منها على وجه الخصوص.

        تهدف هذه المشاريع عموماً إلى رفع السوية المعرفية للنساء بشأن مفاهيم ومصطلحات تخدم تغيير الثقافة المجتمعية بشأن دور المرأة ووظيفتها، إلى جانب رفع قدرات النساء وخبراتهنّ العملية بحيث تصبح لديهنّ المهارات اللازمة لدخول سوق العمل. وفي هذا السياق تم إنشاء مراكز ومكاتب خاصة بالمرأة، وتعيين كوادر نسائية في المنظمات والعمل على إكسابهن المهارات والخبرات التي تتناسب مع الهيكلية الوظيفية لمنظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى المشاريع والتدريبات التي استهدفت شرائح مختلفة من النساء بهدف تمكينهن اجتماعياً واقتصادياً وعملياً. 

        يسعى هذا الريبورتاج إلى تقديم إجابات على جملة أسئلة انطلاقاً من تجربة هذه المنظمات في بصرى الشام: إلى أي مدى حققت مشاريع وبرامج المنظمات التي توجّهت للنساء أهدافها خلال فترة عملها في المدينة؟ وأي أثر تركته بعد انسحابها في العام 2018؟ وهل استفادت النساء بعد عودة المنطقة إلى سيطرة النظام وحلفائه من التدريبات والورشات التي قدمتها المنظمات، سواء على صعيد العمل أو الصعيد الشخصي؟ وأي مآلات محتملة بعد سقوط الأسد على هذا الصعيد؟

        وقد كان لمدينة بصرى خصوصية استثنائية، دفعتنا إلى اختيارها وطرح الأسئلة من خلال تجربتها.

        لماذا بصرى الشام؟

        منذ العام 2016 انفردت كتيبة «شباب السنة» بقيادة أحمد العودة بالسيطرة على المدينة، وتحولت إلى لواء له ارتباطات بغرفة غرفة تنسيق الدعم المشتركة (الموك)، التي تدار من قبل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا وبعض الدول العربية، والتي استفادت من دعمها فصائل عدة في «الجيش السوري الحر». هكذا تمكّنَ اللواء من امتلاك أسلحة ثقيلة ونوعية جعلته من أقوى الفصائل المسلحة المعارضة في الجنوب السوري، وقد كانت سيطرة فصيل واحد على المدينة، يتلقى أوامره من قيادة أو مرجعية واحدة، عاملاً أساسياً في خلق نوع من الاستقرار والأمان النسبي في بصرى، مقارنة بباقي مناطق وبلدات درعا الخارجة عن سيطرة النظام السوري.

        كان هذا واحداً من العوامل التي جعلت المدينة وجهة للعديد من منظمات المجتمع المدني، لتُنفِّذَ فيها أنشطتها ومشاريعها، وأبعد من ذلك، لتفتتح فيها مكاتب ومراكز تابعة لها. لكن هذا ورغم أهميته الشديدة، لم يكن عامل الجذب الوحيد بحسب تمام الجاموس، المدير التنفيذي لمنظمة غصن الزيتون، الذي يقول في حديث له مع الجمهورية.نت: «تتمتع مدينة بصرى بحالة مدنية قوية، كما أن المجتمع المحلي في المدينة كان منظماً ومتعاوناً إلى حد كبير مع منظمات المجتمع المدني. ولبصرى مكانة تاريخية تستمدها من آثارها، كمدرج بصرى الأثري الروماني الشهير، الذي أُقيمت فيه مهرجانات وحفلات لمشاهير عرب وأجانب ارتبطت بذواكر السوريات والسوريين. كل ذلك أدى لأن تكون بصرى أحد أهم المدن التي تقصدها منظمات المجتمع المدني في الجنوب السوري».

        إخلاص من مدينة بصرى الشام، وإحدى العاملات سابقاً في واحدة من منظمات المجتمع المدني، أشارت إلى عدد من الأسباب الأخرى التي جعلت المدينة وجهة لأغلب منظمات المجتمع المدني العاملة في الجنوب السوري؛ تقول: «التعداد السكاني كبير نسبياً في بصرى، وفيها مستوى تعليمي عالٍ، وبالتالي كوادر مؤهلة للعمل في المنظمات. ذلك إلى جانب الأمن والاستقرار. وبالرغم من أن المدينة تعرّضت للقصف عدة مرات، إلا أن بنيتها التحتية لم تُدمَّر وبقيت بحالة جيدة ومقبولة إجمالاً».

        وبحسب لمى وهناء، وهُما من ساكنات مدينة بصرى ومستفيدتان من أنشطة المنظمات، فإن سلطة الأمر الواقع في بصرى كانت متعاونة وداعمة لوجود المنظمات في المدينة، بل وتقدِّم تسهيلات لتشجيع المنظمات على إقامة برامج ومشاريع فيها. وأضافَتا أن مدينة بصرى استقبلت عدداً كبيراً من النازحين-ات إليها من قرى وبلدات درعا الأخرى، وأشارتَا أيضاً إلى الحالة الأمنية الجيدة: «كانت بصرى من أكثر المدن أماناً في مناطق درعا الخارجة عن السيطرة، فمثلاً لم يُسجَّل فيها سرقات أو أعمالُ نهب للمنازل».

        هكذا كان استقرار الأوضاع في بصرى عامل جذب لهذه المنظمات، وكانت سلطة الأمر الواقع معنية بإفساح المجال لها. بالإضافة إلى ذلك، عادت بصرى الشام إلى سلطة النظام السابق في العام 2018 دون أن تشهد قصفاً مدمراً أو تهجيراً كما سنرى لاحقاً، ما يجعلها ميداناً مناسباً لطرح الأسئلة بشأن المنظمات وأثرها.

        البدايات

        بدايات مشاريع التمكين

        بعد خروج مدينة بصرى عن سيطرة النظام، دخلت إليها المنظمات مباشرة. تقول إخلاص: «في الشهر الثالث من عام 2015 بدأت المنظمات بالدخول إلى مدينة بصرى. أتذكّرُ على سبيل المثال أن منظمة غصن الزيتون بدأت أول مشاريعها في شهر تشرين الثاني من العام نفسه».

        كانت إخلاص قد سمعت من صديقاتها عن عمل المنظمات في مناطق أخرى قبل دخولها إلى مدينة بصرى، وتحمّست لأنشطة المنظمات لعدة أسباب: «سمعتُ أولاً عن منظمات كانت تقدم الدعم النفسي للأطفال، وأحببتُ فكرة وجود منظمات تقدم هذا النوع من الدعم بكوادر مؤهلة، فقد طال قصفُ النظام عدداً من المدارس، كما أن الحرب كان لها أثرٌ سيء على الناس بشكل عام وعلى الأطفال بشكل خاص. إضافة إلى أن المنظمات كانت حيادية وتحمل صفة الإنسانية». تُضيف: «مارست المنظمات عملها بعقلية مختلفة عن عقلية مؤسسات النظام، فكنا نعمل كفريق متكامل في اتخاذ القرارات  للوصول إلى أفضل الانجازات دون تحكم أو تقييد من قبل رؤساء العمل».

        لجأت إيناس (اسم مستعار)، وهي إحدى العاملات في المُنظّمات، إلى الإنترنت للبحث عن بعض المفاهيم والمصطلحات التي كانت تجهلها، والتي سمعتها من أنشطة كالمحاضرات والتدريبات التي قدمتها بعض المنظمات بهدف تمكين النساء، وبعد البحث عنها عرفت أهميتها؛ تقول: «تعرفتُ إلى تدريب المهارات الحياتية، والتفكير الاستراتيجي، ومصطلحات مثل اتفاقية سيداو ومفهوم الكوتا، وأذكر أيضاً محاضرة عن المواطَنة في واحدة من تدريبات تمكين النساء التي شاركتُ فيها في عام 2016. كانت المصطلحات والمفاهيم غريبة وجديدة عَلَيّ، لذلك استخدمتُ الإنترنت للبحث عنها والتعمق في معرفتها، فوجدتُ فيها إضافة معرفية وفكرية كبيرة، وشعرتُ أنه لا بدَّ للنساء أن يتعرّفنَ عليها لأهميتها في تغيير واقعهنّ».

        تمام الجاموس من أبناء محافظة درعا أيضاً، وهو يرى أن قرى وبلدات حوران بشكل عام كانت أرضاً خصبة لمشاريع تمكين النساء: «أنا ابن درعا، ولدي المعرفة جيدة بها، وبالإضافة إلى هذا أجرينا دراسات لتقييم احتياجات المنطقة وإمكانياتها، ووجدنا أن حوران بشكل عام فيها حالة مدنية مقبولة، ونسبةُ التعليم بين النساء الحورانيات مرتفعة، إلى جانب قدرتهنّ على التعبير عن أنفسهن في مجتمعاتهن، وبالتالي فإن مشاريع تمكين النساء في المنطقة ستؤدي الغرض منها».

        دوافع النساء للعمل أو المشاركة في مشاريع التمكين

        تحمل إخلاص شهادة جامعية، وعملتْ كمُدرِّسة بالوكالة قبل وقوع مدينة بصرى تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة، وبعدها تركت عملها في مدراس النظام وشغلت عدة مواقع في منظمات المجتمع المدني العاملة في بصرى. عن دوافعها للعمل في المنظمات وخاصة في مشاريع التمكين: «أنا مؤمنة أساساً بأهمية تمكين النساء وقدرتهنَّ على تطوير العمل وإتقانه، وجاءت مشاريع التمكين مناسبة لإيماني هذا. بعد خروج مدينتي عن سيطرة النظام كان من الصعب عَلَيَّ العمل في مدارس موجودة في مناطق سيطرته، فكان العمل مع المنظمات التي دخلت بصرى فرصة حقيقة للمساهمة بخبراتي وتطويرها في الوقت ذاته، إضافة إلى تحقيق نوع من الأمان الاقتصادي».

        الرغبة في تحسين مهاراتها وامتلاك المؤهلات كان أحد الدوافع لدى إيناس للعمل في المنظمات: «أنا أحمل شهادة جامعية في الرياضيات، وعملتُ لسنوات في قطاع التعليم، ولكنني وبسبب الأحداث تركتُ التدريس ونزحتُ إلى مناطق كثيرة قبل أن أستقر في بصرى. جاءت المنظمات مُتنفَّساً وفرصة لي لأُخرِجَ ما عندي من مهارات وطاقات. وطبعاً هناك الجانب الاقتصادي، فرواتب المنظمات كانت ممتازة». 

        عموماً لم تكن النساء في بصرى على دراية واسعة بالعديد من المهارات أو المعارف التي عملت المنظمات على تطويرها لديهنّ، بغاية تمكينهنّ على الصعيد العملي والفكري. وبحسب هناء، إحدى المشاركات في أنشطة التمكين، فإن تدريبات التمكين كانت ضرورية لواقع وظرف المنطقة: «أول تدريب حضرته كان سلسلة تدريبات عن الإسعافات الأولية، بحسب ما أذكر في أواخر 2016 وبدايات 2017. هذا التدريب كان مُهماً جداً بالنسبة لي، فالمنطقة كانت في حالة حرب وكانت المشافي الميدانية بحاجة مستمرة للممرضين-ات القادرين-ات على تقديم الإسعاف الأولي للمصابين-ات مثل تضميد الجروح، وكذلك قياس الضغط والسكري». تُشير هناء إلى أنها شاركت في دورات أخرى بدافع تطوير مهاراتها: «شاركتُ في دورة تدريب إنشاء سيفي (CV)، دورة ICDL، ودورة تدريبية حول التخطيط الاستراتيجي، كلها كانت دورات وتدريبات مهمة وجديدة بالنسبة لي».

        مدى تَقبُّل المجتمع لوجود هذه المشاريع

        كما ذكر تمام الجاموس والسيدات اللواتي أُجريت معهن المقابلات، فإن أغلب المخاوف من مشاريع التمكين كانت أمنية من جهة نظام الأسد، ولم تعترض سلطة الأمر الواقع في بصرى الشام على وجود تلك المشاريع والتدريبات، فيما لم يمكن الأهالي جميعاً متقبلين تماماً لهذا النوع من الأنشطة، بل انقسمت مواقفهم بهذا الخصوص.

        تقول هناء: «انقسم الأهالي في آرائهم حول مشاركة النساء في أنشطة المنظمات إلى قسمين، الأول موافق والثاني معترض. أما سبب الاعتراض فهو الخوف من اعتقال النساء على حواجز النظام الأمنية إذا ما فكّرنَ بالذهاب إلى مناطق سيطرة النظام بعد مشاركتهنّ، إذ كان هناك عدد من النساء اللواتي قد يضطررنَ للذهاب إلى مناطق النظام، فيخافُ الأهالي من أن الصور التي قد تلتقطها المنظمات لأنشطتها قد تقع بين أيدي عناصر النظام، ما يجعل المُشارِكات عرضة للاعتقال. إلى جانب الخوف من بعض الأشخاص الذين قد تكون لديهم صلات مع النظام (العواينية أو كتيّبة التقارير)».

يوضح تمام الجاموس: «حين قررنا تنفيذ مشاريع التمكين، ابتعدنا في البدايات عن استخدام المصطلحات الجديدة التي لا يعرفها المجتمع. أساساً نحن أنفسنا كمنظمات محلية لم نكن نعرف ما يعنيه مفهوم التمكين. نَفَّذنا مشاريعنا بهدف تحقيق النتائج من التمكين، والتي هي تطوير مهارات النساء وقدراتهنّ. أودُّ لفتَ الانتباه إلى أننا فوجئنا بأن المجتمع أصلاً كان قد سبقنا في هذا المجال، وأن نساء كثيرات كُنّ مُمكَّنات أساساً، ولكن يحتجنَ إلى نوع من تنظيم مهارتهنّ وأطلاقها للعلن. نحن لم نكن نريد تغيير المجتمع بقدر ما كنا نريد تطويره، وهذا ساعدَ على قبول مشاريع التمكين». 

من وجهة نظر إيناس، لم يتقبل المجتمع مشاريع التمكين بصورة كلية، وهي تقول عن ذلك: «عندما كنتُ أرجعُ من أي تدريب أو ورشة إلى منزلي، كنتُ أُسأَل من قبل عائلتي عنها وعمّا تعنيه المصطلحات التي كنت أتعلّمُها. هذا كان طبيعياً لأنها مصطلحات غريبة عن المجتمع، ولكنني لاحقاً كُلَّما قمت بفعل أي شيء صغير مُخالف للعادة، مثل أنهم يعتبرون أن من واجبي أن أُحضِرَ كأس ماء لزوجي لكنني أرفض، مباشرة يقولون إن هذا التغيير سببه مشاركتي في هذه الدورات والتدريبات». تَعزو إيناس سبب ذلك إلى العادات والتقاليد فتقول: «لقد تَشرَّبنا عادات وتقاليد منذ عقود، وهي تسري في عروقنا مثل الدم، لذلك كان من الصعب شرح المفاهيم والمصطلحات الجديدة لمن حولك بسهولة. لاحقاً بدأت الغالبية تتقبلها، وأحياناً بعضهم يقتنع بها، ولا سيما النساء. أما الرجال، فأعتقد أنهم حتى اللحظة ما يزالون مُعترضين على فكرة تمكين النساء».

تتفق إخلاص مع إيناس بشأن عدم تَقبُّل المجتمع بداية لفكرة مشاركة النساء بمشاريع التمكين، وتؤكد مجدداً على سببٍ كانت هناء قد تحدثت عنه: «مَنعَ البعضُ قريباتهنّ من النساء من حضور المحاضرات والورشات، ويمكن أن يُعزى ذلك في جانب منه إلى الخوف من النظام والاعتقالات والتقارير».

المرحلة «الذهبية»

اتساع عمل المنظمات

وصفت النساء اللاتي أُجريت معهنّ المقابلات الفترة الممتدة من أواخر 2016 وحتى صيف 2018 بأنها مرحلة ذهبية لعمل المنظمات بشكل عام، ومشاريع تمكين النساء بشكل خاص، في مدينة بصرى. تقول إخلاص: «إنها مرحلة ذهبية عَلَّمت المرأة أن تكون قيادية، وغيَّرت الثقافة السائدة تجاه المرأة. قد نحتاج كنساء دونها 100 سنة لتحقيق ما حققناه خلال هذه الفترة من وعي ثقافي ونفسي واجتماعي وسياسي».

وعنها تتحدث إيناس: «كانت مرحلة ازدهار. كُنّا مكبوتات ومقهورات. هي مرحلة سعادة، مرحلة وجدت نساء كثيرات فيها أنفسهنّ، بعضهنَّ صرنَ فيها مُتمكنات اقتصادياً، وبعضهن انشغلنَ بتطوير أنفسهنّ ومهاراتهنّ، مرحلة لم تَعُد فيها كثيرات من نساء المدينة محبوسات في منازلهنّ 24 ساعة». 

تمكَّنَ لواء «شباب السنة» من فرض مزيد من الأمان على المدينة، وساهمت هدنة تموز (مايو) 2017 في خلق نوع من الاستقرار شبه التام فيها، إذ لم تتعرض المنطقة للقصف. وزادت أعداد المنظمات في المدينة، كما أن المجتمع أصبح لديه قبول كبير لعمل المنظمات إذا أصبح لها قاعدة شعبية كبيرة. وساهم المجلس المحلي للمدينة بدوره في تسهيل عمل المنظمات وفي دعمها لتنفيذ مشاريعها، وتهافتت المنظمات على مدينة بصرى.

يقول تمام الجاموس في هذا الصدد: «في الحقيقة لم يكن لنا تواصل مباشر مع العسكر، بل أبرمنا مذكرات تفاهم مع المجالس المحلية لتنفيذ مشاريعنا، أي اعتمدنا على الجهات المدنية كمجلس المحافظة والمديريات لتكون وسيطاً بيننا وبين العسكر. وكان لمنظمة غصن الزيتون حاضنة شعبية قوية، فمثلاً بلغ عدد العاملين-ات فيها في محافظة درعا حوالي الألف. هذا جعلنا نشعر بالأمان في تنفيذ مشاريعنا، ولاحقاً افتتحنا في بصرى الشام مكتباً للمرأة».

وعن أسباب افتتاح مكتب للمرأة في بصرى يحدثنا تمام الجاموس: «وجود منظمات مدنية يعني بالضرورة وجود نساء فيها، هذه فكرة أساسية لأي عمل مدني، وهي أن تكون النساء جزءاً من العمل. لذلك قدّمت منظمتنا تدريبات خاصة للنساء، منها ‘مهارات الحياة’ وتدريبات على الكمبيوتر وتدريبات تقنية وتدريبات دعم نفسي، وغيرها من التدريبات التي ترفع كفاءات ومهارات النساء في قطاع العمل وعلى الصعيد الشخصي والفكري. وبعدها لمسنا أن النساء أصبحنَ أكثر قدرة على استلام مناصب قيادية وإدارية عُليا، لذلك كان مكتب المرأة الذي هدفَ إلى توجيه طاقات النساء الهائلة ليدخلنَ المجالس المحلية ويأخذنَ دورهنَّ القيادي في كل قطاعات المجتمع».

وتذكر لنا إخلاص عدداً من المنظمات التي عملت على مشاريع التمكين: «من المنظمات التي نفذت دورات وأنشطة للنساء منظمة أي أر دي (IRD)، حيث قدمت دورات مثل إدارة المشاريع، ومنظمة إحسان التي نفّذت مشاريع تمكين اقتصادية للنساء المعيلات مثل مشروع (الأجبان والألبان). يُمكنني أن أذكر أيضاً منظمة تمكين التي كانت تسعى بدورها لتقديم مشاريع اقتصادية للنساء».

مهارات وتَغيُّرات

عندما بدأت إيناس العمل مع منظمات المجتمع المدني أَحسَّت بأن هذا العمل هو ما كانت تبحث عنه: «لقد أحببتُ فعلاً العمل في المنظمات. كل شيء مختلف عن القطاعات الحكومية في طريقة التعامل والاحترام، وللأمانة كان هناك إيمان بدور المرأة. هذا العمل هو ما أريده، وما أبحث عنه».

تتابع: «بالإضافة إلى التدريبات والدورات التي شاركتُ فيها قبل عملي في المنظمات، خضعتُ لتدريبات خاصة في المنظمات التي عملت معها، مثل تدريبات جمع الاستبيانات والأمن الرقمي وإدارة المشاريع والتخطيط الاستراتيجي وكيفية إجراء المقابلات. كنتُ أشعرُ كلما خضعت لتدريب معين بالسعادة، بأنني تقدمتُ إلى الأمام».

لم تُطور التدريبات مهارات إيناس فقط من الناحية العملية والتقنية، بل إن عملها في المنظمات جعلها تُغيّرُ نظرتها حول دور المرأة، وحتى نظرتها في التعامل مع الآخرين والحياة: «هل تصدقين أن التدريب على كيفية التعامل عند إجراء الاستبيانات جعلني إنسانة ذات بال طويل، أصبحتُ أكثر هدوءاً في التعامل مع الآخرين، وتعلمتُ طريقة الاستماع أكثر للآخر. بدأت بتقبّل نقد الآخرين، وتَعلُّمِ التعاطف واحترام الرأي الآخر. بتُّ أشعر أنني قادرة على شَغل مناصب أعلى وأن لدي طاقات ما تزال مخفية، فقبل ذلك كنت مؤمنة بأن سقف المرأة أن تكون ممرضة أو مُعلّمة، ولكنني أدركت أنني مؤهلة لأن أشغل المناصب الإدارية والقيادية والسياسية. سأخبرك أمراً، قبل العمل مع المنظمات كنت أعتقد أن 4 ساعات من العمل كافية للمرأة، لأنها لا يمكن أن تتأخر عن منزلها وستصبح مرهَقة جسدياً بعد عمل يدوم أكثر من ذلك، ولكنني اكتشفتُ أن نظريتي خاطئة، فالمرأة قادرة على العمل لمدة أطول، والتأخيرُ عن المنزل ليس بالأمر الجلل. كنتُ فعلاً أعتقدُ أن للرجل دماغاً يفوق دماغ المرأة لذلك تكون المناصب القيادية من نصيبه، ومع العمل في المنظمات اتَّضحَ لي أن المرأة قادرة على قيادة فريق بأكمله».

تُخبرنا إيناس بأنها شَجَّعت غيرها من النساء على حضور تلك التدريبات والورشات، ولا سيما تدريبات المهارات الحياتية: «وَجَّهتُ دعوات لأمي وأخواتي لحضور تدريبات، كنت أنصحهنَّ بها لإنني أردتهنَّ أن يتعرّفنَ على قدراتهن أكثر، ويطورنَ من مهارتهن». وتذهب إيناس بنا إلى أبعد من ذلك، فالعمل المدني لم يُغيّر نظرتها عن نفسها كامرأة فقط، بل نظرتها إلى أفضل أسلوب لتربية لأطفالها: «أُعلِّمُ ابني أنَّ لا سلطة له على أخته، وأنها غير مُجبَرة أن تغسل ملابسه أو أن تضع له الطعام… يعني لم يَعُد هناك (سي السيد)». وطبعاً اصطدمت إيناس مع مجتمعها المحيط، وخاصة فيما يتعلق بتربية أطفالها: «سمعتُ كلاماً كثيراً ممن كانوا حولي بأنني أَخرِّب عقلية أطفالي بهذه التربية».

بدأت إخلاص عملها في منظمات المجتمع المدني في أواخر العام 2015، في مجال الدعم النفسي للأطفال، ثم في مجال تمكين النساء: «بداياتي في العمل المنظماتي كان تقديم دعم نفسي للأطفال. كما ذكرتُ سابقاً، تركَتْ الحربُ آثاراً نفسية وجسدية سيئة على الأطفال. تَخيلي أنه كان هناك نسبة من الأطفال ممّن يعانون من مرض السكر بسبب الخوف والرعب. بعد ذلك، وحتى نصل إلى نتائج أفضل في مجال الدعم النفسي للأطفال، كان لا بدَّ من التواصل مع الأمهات وتقديم محاضرات لهنَّ بشأن كيفية التعامل مع أطفالهنّ. لاحقاً بدأتُ التحضير والتجهيز لمحاضرات على مستوى أعلى وتدخل في مفاصل المجتمع، مثل محاضرات عن أسباب ارتفاع نسبة الطلاق ونسبة زواج القاصرات، والعنف ضد النساء والتحرش الجنسي، إلى جانب محاضرات عن المساواة الجندرية».

تُشير إخلاص أيضاً إلى عملها ضمن مشروع لتمكين النساء اقتصادياً: «عملتُ مع منظمة تعمل على تمكين النساء اقتصادياً، مثل تأهيلهنَّ ليصبح لديهنَّ مشروعهنَّ الاقتصادي الخاص. من وجهة نظري فإن مثل هذه المشاريع كانت مهمة جداً للنساء، فالتمكينُ الاقتصادي للمرأة يعني تحررها من جميع القيود والمعوقات التي تمنع تطورها، ويمنحها إمكانية العيش بكرامة دون أن يتحكم بمصيرها أحد».

تلقت إخلاص تدريبات من منظمتها في مجال الدعم النفسي، وهذه التدريبات كانت داعمة لما تَعلَّمته نظرياً في دراستها الجامعية، ولكن الإضافة النوعية لهذه التدريبات من وجهة نظرها كان زيادة ثقتها بنفسها كداعمة نفسية، وتطبيقها لمنهجية مختلفة في مجال الدعم النفسي: «كعاملة دعم نفسي خضعتُ لتدريبات قَدَّمَتها المنظمة، ودعمَتْ ما كنتُ قد تَعلَّمته نظرياً في الجامعة، لكن اتّباع سياسيات في التعامل مع الطفل ومنهجيات خاصة لدخول عالم الطفل هو ما اكتسبته فعلياً من هذه التدريبات. لم أُطبِّق هذه المنهجيات أو السياسات مع الأطفال فقط في منظمتي، بل أصبحت طريقة ومنهجاً أتعامل به مع كل الأطفال. أصبح لدي ثقة كبيرة بنفسي، وبأنني داعمة جيدة لأي طفل قد أُصادفه».

نقلت إخلاص كل ما تَعلَّمَته إلى المحيط والأمهات اللواتي تعرفهنّ: «أخبرتُ أفراد عائلتي والأمهات اللواتي أعرفهن عن أهمية المساواة بين الأطفال الذكور والإناث، والابتعاد عن العنف والضرب في التعامل معهم. ركزتُ كثيراً على أن الطفلات يتطلبنَ التعامل معهن بحساسية أكبر، ويجب تعليمهنّ منذ الصغر أنهن متساويات مع الأطفال الذكور، وبالمقابل ليس أمراً مُسلَّماً به أن يتم ضربهن من قبل إخوتهن الذكور».

تحكي إخلاص أيضاً عن تغيير كبير في شخصيتها هي ذاتها بعد عملها في المنظمات وحضورها لتدريبات ودورات التمكين: «كنت إنسانة خجولة جداً، علاقاتي الاجتماعية محدودة. بعد العمل في المنظمات والمشاركة في تدريبات التمكين، تغيرت أفكاري عن نفسي، اكتشفتُ نقاط قوتي فعملت على تعزيزها وتنبهت لنقاط ضعفي. أصبح لدي تلك المهارة في فهم الآخرين وتصرفاتهم. صرتُ أجد حلولاً لكل المشكلات التي كنتُ أراها في السابق مستعصية الحل. صرتُ أكثر هدوءاً والتزاماً بإنجاز أي عمل».

تذهبُ بنا إخلاص إلى أماكن أبعد: «تشرّبتُ من مجتمعي ومن المدارس بأن أقصى ما يمكن أن تصل إليه المرأة في منطقتي هو أن تكون مُعلِّمة مدرسة، كما أعرفُ كثيرات حصلنَ على درجات عالية في الشهادة الثانوية تؤهلهنَّ لدراسة أفرع علمية عليا، ولكنهنَّ درسن وتحت رغبة أهاليهن الفرع الجامعي الذي يؤهلهن ليصبحن معلمات مدرسيات وهو (معلم الصف). من وجهة نظري، لعبت مشاريع التمكين دوراً في تغيير كل ذلك عن المرأة، وأنا شخصياً بتُّ أعتقد أن المرأة يمكن أن تكون رئيسة وقائدة وتحتل مناصب عليا».

تتحدثُ إخلاص عن نتيجة أخرى لمشاريع التمكين، وهي أنها أثَّرت على نظرة بعض النساء حتى إلى شريكهنّ المستقبلي: «ربما هذه فكرتي أو نظريتي الشخصية، ولكنها فكرة أَتشاركها مع عدد لا بأس به من صديقاتي. في الماضي وقبل دخول المنظمات، كانت صفات الشريك تتمحور بأن يكون ثرياً وأنا سيدة منزل. لابد أن أنوه هنا إلى أن العديد من الفتيات تركنَ التعليم بسبب ظروف الحرب، ولكن بعد تقديم العديد من التدريبات ودورات التمكين للنساء لاحظت تغير هذه الفكرة، إذ صرن يفضلن الشريك المثقف الذي يدعم عمل المرأة».

تضيف: «واجهتنا بعض التحديات في بداية إعطاء تدريبات للنساء. ففي البداية لم يكن حضور النساء للتدريبات كبيراً، غالباً بسبب منع الرجال لهن أو أنه لم يكن لديهن فكرة كافية عن عمل المنظمات ومشاريعها. ولكن لاحقاً، بدأ المجتمع يتقبل ذهاب النساء لحضور التدريبات، بل ويدعمها». و«نعم، حصلت بعض حالات الطلاق في المجتمع كنتيجة لعمل بعض النساء في المنظمات، حيث اكتسبنَ القوة الاقتصادية ورفضنَ أي عنف أو سيطرة قد تُمارَس عليهنّ» تقول إخلاص.

الفَرق الذي أحدثته مشاريع التمكين في حياة المستفيدات

اكتسبت هناء مهارات تقنية من خلال الدورات التي شاركت فيها: «تعلمت كيفية حقن الإبر. صرت جيدة في استخدام برامج الكومبيوتر كالبوربوينت والورود والإكسل. هذه المهارات منحتني الثقة بنفسي. صار لدي إيمان بقدرتي على تَعلُّم المزيد».

«أنا من الأساس لدي القناعة بأن المرأة يجب أن تدخل سوق العمل. وتدريبات التمكين عززت قناعتي هذه»، تتابع هناء التي باتت تتمسك بفكرة أن «الرجل الذي سأرتبط به لا بدَّ أن يؤمن أولا بحريتي ورغبتي في العمل».

أما لمى فتقول إن دورات التمكين أخرجتها من حالتها النفسية السيئة: «كنت مكتئبة، أشعر بالإحباط، إلى أن بدأتُ بحضور تدريبات ومحاضرات صارت مُتنفَّساً ومَهرَباً من ضغوطي داخل المنازل. زوجي هو من شَجَّعني على الحضور بعد ما لمس هذا التحسُّن». وتقول إنه بعد حضورها لورشات التمكين صارت مُفاوِضة جيدة، حتى لو على مستوى علاقاتها بمحيطها، وتحكي لنا مثالاً حياتياً بسيطاً عايشته: «من ضمن المهارات الحياتية، أحببتُ التفاوض وتَعلُّمَ الإصغاء. حللتُ الكثير من مشاكلي بكل سهولة مع سلفتي مثلاً بالتفاوض والإصغاء، وقبل ذلك كان من الصعوبة الوصول إلى تفاهم معها». «بالمختصر، صرتُ أَنضجَ فكرياً»، تضيف لمى.

كانت لمى لا تعتقد بامتلاك النساء لثقافة غير الثقافة المنزلية، وجاءت مُشاركتها في تدريبات التمكين لتجعلها تلتقي مع مُحاضِرات ومُدرِّبات على مستوى ثقافي كبير: «تغيرت فكرتي تماماً عن دور المرأة بعد مُشاركتي في التدريبات، فقد وجدتُ نساء على مستوى عالٍ من الثقافة والوعي، وهنَّ خارج منازلهنّ؛ لم أعتقد يوماً بأن النساء قادرات على منافسة الرجال في العالم الخارجي».

تؤمن لمى أن المرأة يمكن أن تكون قيادية، ولكن ما يزال هناك صعوبات كبيرة لتحقيق ذلك: «هي صعوبات تتعلق بكون منزلها وأطفالها هي مسؤوليتها الأولى والأخيرة، لذلك يحتاج الأمر تغييرات مجتمعية أكبر ولا سيما في عقلية الرجل وتفكيره تجاه دور المرأة».

2018: المنظمات خارج بصرى

خروج المنظمات

في صيف العام 2018 سيطرت قوات النظام السوري وحلفاؤه على محافظة درعا بما في ذلك بصرى الشام، وذلك بموجب اتفاقات وتسويات شملت عموم قرى وبلدات درعا بعد معارك عنيفة على بعض الجبهات، وكانت طبيعة الاتفاقات مختلفة من منطقة إلى أخرى حسب الفصيل المسيطر ومجريات التفاوض. كان الاتفاق بشأن بصرى الشام من طبيعة خاصة، إذ لم تدخل قوات النظام وأجهزته الأمنية إلى داخلها بشكل فعلي أبداً، ولن يتم تنفيذ اعتقالت داخلها، لكن كثيرين لم يجرؤوا على مغادرتها إلى مدن أخرى طوال سنوات، خشية الاعتقال على الحواجز، وهو ما دفع البعض إلى إجراء تسويات مع النظام تضمن حرية التنقل لهم. في نهاية العام 2018 تَحوَّلَ لواء «شباب السنة» إلى ما يسمى بـ«اللواء الثامن» في الجيش السوري بوساطة ورعاية روسية، مع بقائه تحت قيادة أحمد العودة نفسه، وهو أمرٌ مستمرٌ حتى اللحظة. أغلب أهالي مدينة بصرى ظلّوا فيها، ولم تخرج أعدادٌ كبيرة من أهلها في قوافل التهجير إلى الشمال، ولم تتعرض لدمار واسع.

تقول النساء اللواتي أُجريَتُ معهنَّ المقابلات إن كل الدوائر الرسمية الحكومية عادت إلى سيطرة النظام؛ تُخبرنا إخلاص: «بعد 2018 صارت بعض الدوائر الحكومية تحت سيطرة عناصر وموظفي النظام، ولكن تحت قيادة اللواء الثامن نفسه، وعموماً بقي الوضع الأمني في المدينة في حالة استقرار».

لكن منظمات المجتمع المدني غادرت، ومنها منظمة غصن الزيتون. وعن ذلك يُخبرنا تمام الجاموس: «خروج المنظمات كان خوفاً على كوادر المنظمات من الاعتقال أو من التعذيب أو من القتل، وللأسف تَعرَّضَ عددٌ من كوادرنا للاعتقال والتعذيب لأنهم كانوا عاملين في المنظمة أو بسبب نشاطهم المدني بشكل عام».

ويوضح تمام الجاموس بشأن عدم عودة المنظمات للعمل في ظل سيطرة النظام: «حاولنا الضغط على المجتمع الدولي للعودة والعمل، ولكن جاءنا الردُّ منهم بأنه يتوجب علينا الذهاب إلى النظام وطلب الترخيص منه للعمل، وبالرغم من أننا أوضحنا لهم بأن هذا النظام لا يعترف بأي حراك مدني، إلا أننا لم نصل إلى نتيجة، لذلك كان الانسحاب من المنطقة هو الحل الأمثل».

تواصلت منظمة إيناس معها بعد السقوط لفترة وجيزة، ثم انقطع أي تواصل: «أَرسلت لي المنظمة مبلغاً مادياً بسيطاً بعد توقف عملنا. بقيتُ على تواصل معها مدة تُقارب ثلاثة أشهر تقريباً تحت وعود العودة، ولكن بعد ذلك انقطع التواصل مع المنظمة وكأنَّ موضوع عودة المنظمات تلاشى نهائياً». توقفت أنشطة جميع المنظمات، وبقيت كوادرها بلا عمل بعد السقوط وتم إغلاق المكاتب.

مصير العاملات بعد خروج المنظمات

أخبرتنا إخلاص أنها سمعت عن بعض العاملين والعاملات في المنظمات سابقاً الذين أجروا تسويات مع النظام، ولكن هي نفسها لم تُجرِ أي تسوية: «أقدم بعض العاملين في المنظمات على إجراء تسويات مع النظام وسمعت عن اعتقال بعضاً ممن عملوا سابقا مع المنظمات، ولكنني لا أعرف حقيقة أسباب الاعتقال. أنا لم أغادر بصرى لذلك لم أُجر أي تسوية». تضيف: «ربما في مناطق أخرى غير بصرى أجرى العاملون في المنظمات تسويات، لكني أعتقد أن سلطة الأمر الواقع في بصرى كان لها دورٌ في أن يكون سكان بصرى في مأمن من اعتقالات النظام».

تؤكّدُ إيناس التي عادت إلى عملها كمُدرِّسة ذلك: «بعض النساء العاملات أجرينَ تسويات. بالنسبة لي لم أُجرِ أي تسوية وعدتُ إلى عملي كمُعلِّمة في المدرسة. في الحقيقة أنا كنتُ قد قدّمتُ طلبُ إيقاف مؤقت من عملي في مدارس النظام السابق قبل العمل في المنظمات».

أي تأثيرات تركتها المنظمات بعد خروجها؟

إخلاص: «أعلنتُ الحداد. شعرتُ بظلام طويل».

إيناس: «أَتحسّرُ على أيام المنظمات».

لمى: «يا ريت ترجع المنظمات يا ريت».

أَقتبسُ هنا بعض كلماتهنّ فقط، وتالياً سيحكينَ لنا أكثر عن الأثر الذي تركته عليهن من الناحية العملية والشخصية، وهل استخدمنَ مهاراتهنَّ التي كسبنها من مشاريع التمكين لاحقاِ في عملهنّ أو حياتهنّ الشخصية، وهل تركت المنظمات فراغاً حقيقياً في المنطقة.

«عندما عدتُ إلى عملي كمُدرِّسة بعد سيطرة النظام على بصرى، وجدتُ فرقاً كبيراً»؛ تقول إيناس، التي حاولتْ أن تطبق ما تَعلَّمتهُ خلال عملها في المنظمات، ولكن كان الأمر صعباً: «أنا شخصياً كنت أحاول تطبيق ما تَعلّمته من المنظمات مع تلاميذي، ولكن الكوادر التدريسية الجديدة الشابة التي تعلمت وعملت في مؤسسات الدولة السورية تنتهج أسلوباً مختلفاً، تشعرين كأنهم فقط يريدون أن يعطوا دروسهم كيفما اتفق ويغادروا. كنتُ أشرح لهم كثيراً عن طُرق عمل المنظمات وأسلوبها لإنجاح العملية التدريسية، ولكن كان التغيير صعباً».

إخلاص من جهتها لم تحاول أن تبحث عن عمل آخر بعد خروج المنظمات: «بصراحة لم أبحث عن عمل خارج مدينتي، لذلك عزفتُ عن فكرة إيجاد عمل في قطاعات التدريس الحكومية»، لكنها تقول إن المدارس في بصرى طبقت، وإن بشكل جزئي، بعض الأنشطة التي قَدَّمتها المنظمات في قطاع التعليم: «بعض المعلمين الذين كانوا يعملون في مدارس أقامتها المنظمات، والذين رجعوا إلى عملهم في المدارس الحكومية، طبَّقوا ما تعلموه من طرق غير تقليدية في التعامل مع الطفل وطرق التعليم، وهذا برأيي أمر مُستحَب وجيد ويُحسب للمنظمات. بمعنى آخر، صحيحٌ أن المنظمات خرجت ولكنها تركت أثراً وراءها». 

تعتقد إيناس أن المنظمات لو بقيت مدة أطول لكان التغيير في المجتمع ودور المرأة فيه أكبر بكثير: «عملت المنظمات في منطقة درعا بشكل عام مدة أربع سنوات أو خمس فقط في أحسن الحالات، وأحدثت فرقاً في المجتمع عامة، وفي نظرة المرأة لنفسها ودورها في المجتمع بشكل خاص، فما بالك لو بقيت فترة أطول، أعتقد أن التغيير كان سيكون أكبر وحقيقياً أكثر».

تدعم إخلاص كلام إيناس: «صحيح أن المنظمات خرجت، ولكن مفاهيم مثل الجندر بقيت متداولة»، وتتفق مع إيناس بأن المنظمات كانت تحتاج وقتاً أطول للبقاء ليحصلَ تغييرٌ أعمق.

تبحث لمى حالياً عن وظيفة، وهي تعتقد أن سيرتها الذاتية ستكون جيدة، حيث أنها حضرت دورات وتدريبات حين كانت المنظمات موجودة في بصرى: «أحاول الآن إيجاد عمل. سيرتي الذاتي أصبحت أقوى، فهي تشمل كل التدريبات التقنية التي شاركت فيها مع المنظمات، ولكن فرص العمل قليلة ورواتب الوظائف متدنية جداً، إن وجدت».

ثم سقطَ نظام الأسد

عندما كنا نُحضِّرُ لهذا الريبورتاج لم يكن قد سقط نظام الأسد بعد، وصادف سقوطه خلال مراحل إجراء المقابلات، اتصلت إخلاص بي بعد أيام بصوت متفائل وقالت: «أصبح ممكناً أن تعود المنظمات. إذا سمعتِ عن منظمات تريد كوادر، فنحن جاهزات ولدينا الخبرة، لذلك لا تنسَي إخبارنا»؛ رددتُ عليها: «أكيد. إذا قرأت عن أي منظمة تبحث عن كوادر لها في درعا سأرسلُ لكنَّ مباشرة».

وفعلاً أرسلتُ عدداً من طلبات التوظيف التي أعلنت عنها بعض منظمات المجتمع المدني إليهنّ، إذ كانت أغلب المهارات المطلوبة تنطبق عليهنّ، عدا أمر واحد وهو أن تلك المنظمات تستهدف مدينة دمشق، ما قد يجعل حصولهنَّ على العمل صعباً.

سألتُ تمام الجاموس إن كانوا يُجهّزون أنفسهم للرجوع إلى درعا بعد سقوط النظام؟؛ يقول: «نحن لم نترك درعا بشكل كامل. بعد خروجنا في عام 2018 عملنا بشكل سري تام حفاظاً على كوادرنا التي كانت تعمل معنا بالخفاء. اليوم وبعد سقوط النظام، سيكون للمنظمات دورٌ كبير، بل كبيرٌ جداً، فالمنظمات صار لديها خبرة واسعة في العمل المدني». وتابع عن دورها من وجهة نظره: «دورنا اليوم هو مساعدة أجهزة الدولة الجديدة على النهوض. نحن في منظمات المجتمع المدني عموماً لدينا تراكم خبرات طويل يمكننا مشاركته مع الحكومة الجديدة، ومن ثم يمكننا لعب دور إشرافي ورقابي على أنشطة القطاعين الخاص والعام».

خاتمة

بين عامي 2017 و2018 شاركتُ مع نساء بصرى الشام في عدد من تدريبات ومشاريع التمكين التي قدمتها المنظمات، مثل التثقيف السياسي والجندري وغيرها، كما أنني شخصياً قدّمتُ محاضرات تثقيفية للنساء وشاركتُ في جلسات نقاش مركزة مثلاً عن الأوضاع الأمنية والسياسية التي كانت تشهدها المنطقة آنذاك، وعن دور النساء واحتياجاتهنّ ليكون لديهنَّ دورٌ في مواقع صنع القرار. كانت القاعات تمتلئ بالنساء، وتطول ساعاتُ نقاشنا عن كيفية تفعيل دور النساء في الرأي والشأن المجتمعي، وكثيراً ما كُنّا نطرح أسئلة على أنفسنا من قبيل: هل امتلكنا المهارات والقدرات التي تؤهلنا على سبيل المثال لشغل مناصب قيادية؟ هل بات المجتمع قابلاً للتغيير الثقافي الجديد وتعديل الصورة النمطية عن أدوار ووظائف المرأة في المجتمع؟ وغالباً ما كنا ننقسم إلى عدد من الفرق والآراء المختلفة في الرؤية والتطبيق، والمتفقة في أن الثورة جاءت فرصة لترتفعَ فيها أصوات النساء من أجل تطبيق العدالة والمساواة.

بعض الأراء كانت تؤمن أن المجتمع ليس مؤهلاً بعد لتقبل مفاهيم مثل المساواة الجندرية، بل إن نسبة كبيرة من أفراده لا تفهم معنى المصطلح، وتشنُّ أحياناً هجوماً عليه من باب أنه مصطلح «غربي» هدفه هدم الأسرة. آراء أخرى وكانت أقربَ للمسالمة، تجد أن الحلَّ هو تطويع تلك المفاهيم لتتناسب مع الطبيعة المجتمعية، بمعنى أنها كانت ضد المساواة الجندرية الكاملة بناء على إيمانها بـ«الطبيعة الفيزيولوجية الخاصة للمرأة»، فهي مع حق المرأة في العمل والتعليم ولكن ضمن قطاعات ووظائف «تتناسب مع طبيعتها» التي لا تؤهلها لشغل أعمال «ذكورية» كما كانوا يسمونها. بالمقابل، عددٌ لا بأس به من النساء، وهُنَّ الغالبية، يعتقدن بأن مشوار التمكين ما يزال في بدايته، وأنهنَّ بحاجة إلى اكتساب مهارات وخبرات أكثر، وخاصة في المجال السياسي ومن ثم في المجال التقني والعلمي. كان ثمة آراء أخرى أيضاً، منها أن الرجل وبالرغم من أن النساء قد تكون أقوى منه اقتصادياً أو حتى علمياً ومعرفياً، إلّا أنه ما يزال يتمتع بالسلطة والسطوة، التي يستمدها من موافقة المجتمع العامة على أن تكون الصفوف الأمامية له في كافة المجالات، ولا سيما السياسية منها.

بالعموم، واستناداً إلى المقابلات التي تم إجراؤها في هذا الريبورتاج، فإن مشاريع التمكين أثَّرَت في تصورات نساء كثيرات عن ذاتهنّ وقدراتهنّ، وأحدثت فرقاً وإن كان بسيطاً من وجهة النظر السائدة اجتماعياً، إذ صار كثيرون يتقبلون، وإن كان على مضض أحياناً، أن تشارك النساء في الصفوف الأمامية لقيادة المجتمع. ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح بعد سقوط النظام، إذ شوهدت محاولات لنساء لعقد اجتماعات أو مؤتمرات في العاصمة دمشق لإعلاء صوتهنَّ، وعدد منهنَّ التقينَ بالقيادة الجديدة، كما أن المتابع لوسائل التواصل الإجتماعي سيدرك أن النساء لم يعدنَ يقبلنَ الإقصاء كما كان في السابق، ويطالبنَ بحقهنّ في ممارسة دورهنّ في صنع القرار.

تحتاج النساء حالياً إلى عودة النشاطات المدنية والمشاريع التي تتابع مسيرة تمكينهنّ، ورفع قدراتهنّ، ودعم  وجودهنّ في قطاعات سوريا الجديدة المحورية، والعمل في قلب المجتمع من أجل تغيير يحقق العدالة والمساواة.

        أُنتِجَ هذا الريبورتاج ضمن الدورة الثانية من «برنامج مِنَح الجمهورية للصحفيّات السوريات»، الذي يَدعمُ إنتاج مشاريع صحفية مُعمَّقة تتعلّقُ بشؤون السوريين والسوريات ومعاشهم داخل البلد وخارجه. عملت الزميلات الصحفيات على مشاريعهنَّ مع محررات ومحررين من فريق الجمهورية، وكان المُحرِّر المشرف على هذا الريبورتاج هو الزميل صادق عبد الرحمن.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى