صفحات الثقافة

غزة: لحظة أوروبا اليمينية: ليست اللحظة الأولى ولا يبدو أنها الأخيرة/ ياسمين ضاهر، قاسم البصري

20-02-2025

        تعيش في دول الاتحاد الأوروبي جالياتٌ عربيةٌ كبيرةٌ من المشرق والمغرب، بعضها منذ عقودٍ عديدة، وبعضها حديثُ العهد. لطالما كانت العنصرية حاضرةً إزاء حضورها، ولطالما حُمِّلَ هذا الحضور خطايا كثيرة، وكان غذاءً للتطرّف. ثمّة سياساتٌ تحضر بسبب حضورنا حتى يكاد التطرّف الأوروبي الراهن يبدو محمولاً على قضيةٍ واحدة: الآخرُ الذي وصلنا من هناك، من جزءٍ عنيفٍ وعدوانيٍّ من العالم المُسلِم، يحمل معه ما ليس من روح وهوية أوروبا. يتغاضى التطرُّفُ المتصاعد عن تاريخنا المشترك لأنه ليس في مصلحة خطابه، ولأنّه لا يتّسق مع كوننا في كثير من الأحيان «أشراراً محضين» كما يرانا، ويتغاضى عن كيف ولماذا وصلت الأجيال الأولى منّا إلى أراضيه، وعن حضوره التاريخي والراهن فوق أراضينا، وعن سياساته التي ساهمت بإخراجنا من حيثُ كان يجب أن نبقى، كما يُظهِرُ المثال الصارخ حالياً عن «عاديّة» تهجير أهل غزة من أرضهم لتكون «ريڤييرا».

        هكذا يَكثُر الحديثُ في الآونة الأخيرة عن صعود اليمين في العالم؛ المتطرّف على وجه الخصوص، وفي أوروبا تحديداً. وبينما تبدو المقولة واهيةً بعض الشيء، إلا أنها واقعٌ ثابتٌ نُعاينه في يومياتنا، ونعاين معه أيضاً اضمحلالَ كثيرٍ من الفوارق بين اليمين الذي ينسحب أكثر فأكثر نحو يمينٍ أقصى وبين أخيه المتطرّف، ويمتدُّ هذا الانسحاب يميناً في أحيان ليست قليلة إلى اليسار الأوروبي، التاريخي على وجه الخصوص، فيغدو أخاً يمينياً ثالثاً عندما تتطلب صناديق الاقتراع ذلك.

        نعرف، بالعموم، كيف تُعبَّدُ الطريق لـ«صعود اليمين». الوصفة السحرية هي خليطٌ من تنويعات الخوف، أو بالأحرى التخويف، مما نسمع ونقرأ في وسائل الإعلام: «عدوٌّ داخلي، وعدوٌّ خارجي، وانهيارٌ اقتصادي، وشحٌّ في فرص وأماكن العمل، وتنافسيّةٌ في سوق العمل يغذّيها رأس المال الساعي للكسب، وتنامي الفقر، وعنصرية ضد فئاتٍ معينة». لا يقتصر الأمر على اليمين، إذ يصاحب هذه التنويعة سوءُ إدارةٍ وانعدامٌ للخيال والخيارات المطروحة من قبل بقية الطيف السياسي (يُشهَد لليسار تاريخياً في هذا الباب، كما يَشهدُ على ذلك الحاضر أيضاً). هذا تعريفٌ خام لأسباب صعود اليمين، ولكنْ لكلّ موجةٍ من هذا الصعود خلال العقدين الفائتين مُميّزاتها: لحظة الحادي عشر من أيلول 2001 التأسيسية للفرز الأمني على أساس المنبت الديني والقومي، ولحظة 2008 والانهيار الاقتصادي بعد أزمة الرهن العقاري، ولحظة 2015 وما بات يُعرف بـ«أزمة اللجوء» بعد مواجهة الربيع العربي بإجراءاتٍ دموية، ولحظة ترامب 2016 التي نعيش نسختها الثانية منذ مطلع العام.

        َما سبق ذكره من لحظاتٍ، ولحظات غيرها بالتأكيد، أفضت اليوم إلى تَشكُّل عالمٍ يمينيٍّ فيه نماذجُ لا يمكن أن تنتمي سوى إلى اللامعقول: ترامب، بوتين، نتنياهو، أوربان، مايلي، وغيرهم. ولكن ثمة لحظة أخرى فارقة وحديثة العهد: السابع من أكتوبر، ومن ثمّ خمسة عشر شهراً من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة وردود الأفعال الأوروبية حيالها؛ في البرلمانات وفي الإعلام والشوارع والمؤسسات على أنواعها. هل يمكننا اعتبار هذه اللحظة حَجَرَ بناءٍ جديد لفهم هذا «الصعود» اليميني المستمر؟ هل أعطت اليمينَ الأوروبي دفعةً جديدةً وحرّكت فاشياتٍ موجودةٍ أصلاً؟ نقول هذا لأن أوروبا قد حُكِمَت فعلياً في العقود الثلاثة الأخيرة -في الغالب- من أحزابٍ تنتمي ليمين الوسط، وهذه الأحزاب التي تخلّت اليوم عن الوسط وتشبّثت باليمين، كانت دوماً في صُلب اللعبة السياسية. ولكن مجدداً: هل هناك ما هو جديد في هذا «الصعود المستمر»، وما هي مَظاهره؟ هل يقتصر الصعود على الأرقام الخارجة من صناديق الاقتراع؟ وهل هو صعودٌ خطابيٌّ وإيديولوجي؟ أم أنه تَحوّلٌ حقيقيٌّ في السياسات المُطبَّقة على الأرض؟

        تشير مُراجعة أحداث العقدَين الماضيين، منذ مطلع الألفية الجديدة، إلى أنّ الصعود اليميني يثبّت لنفسه في كل مرة عتبةً جديدةً بشأن حدود ما يمكن تطبيقه من سياسات، فما يُستهجَن منها اليوم سيصير عادياً في سنواتٍ قادمة، تماماً مثلما كانت ملامح من الفاشية مُستهجنةً قبل سنواتٍ قليلة وجرى التطبيع معها في أيامنا هذه، إلى درجة أن ينبني حزبٌ على نظريات الاستبدال الكبير وأن يعقد آخرٌ اجتماعاً سريّاً بغرض التخطيط لكيفية طرد مواطنين إلى قارةٍ أخرى لأنهم من أصولٍ مُهاجرة.

        لا شك في أنّ الفروقات مهمةٌ في السياسة، بالذات إذا كان المرء مُقبِلاً على مواجهةٍ وتغيير. هناك بطبيعة الحال فرقٌ في التعامل مع قضيةٍ مثل إنكار وجود مشاكل بيئية واختيار وسائل محافظة (وذات منفعة رأسمالية) للتعامل معها، وما بين الحديث عن زيادةٍ في الأيدي العاملة، وبين «ضرورة» سيادة لون وعرق معينين في أماكن العمل، ولكن هذه الأمور صارت مجتمعةً محلّ نقاشٍ قليل الحساسية، أو عديمها في بعض الأحيان، حيال الفروق. ولكنّ المثير، وقد يكون هنا مربط فرس «النقطة الفارقة»، هو أن ملف فلسطين تحديداً يُخرِجُ جنّيَ الأطرافِ جميعها، ويدعونا أيضاً لنرى كيف يُعبِّد الوسط، وحتى اليسار، الطريقَ أمام التطرُّف طَمَعاً في مكاسب إيديولوجية أو خطابية، أو حتى مكاسب فعليّة إذا كان ذلك مفيداً في تحريك قطاعاتٍ شعبية ومجتمعية والاستفادة منها، ليعود بعدها ويُمارس هواية الدهشة من «كيف تزداد أصوات اليمين المتطرف في صناديق الاقتراع» أو «أين هي ديمقراطيتنا؟».

        نركّز على ألمانيا، ولكننا نحكي عن أوروبا

        استيقظَ البعض على ألمانيا مختلفة يوم السابع من أكتوبر. نقصد بالبعض مَن أتوا إليها لاجئين من الحرب، منهم مَن أصبحوا مواطنين ومواطنات ومنهم من ينتظرون الحصول على أوراق المواطنة. في الوعي الجمعي الشرق أوسطي تحديداً، هناك محطات محورية للعلاقة مع ألمانيا، فما يزال راسخاً في الأذهان، بالذات لجيلٍ نضج سياسياً منذ لحظة الربيع العربي، موقفُ ألمانيا-ميركل في لحظة اللجوء السوري الكبير.  ألمانيا-ميركل، والتي بمزيجٍ من التأكيد على دورها القيادي والريادي للاتحاد الأوروبي آنذاك، والتزام هذا الأخير بالأطر القانونية والدولية التي وقّعها ورعاها لمساعدة اللاجئين والهاربين من ويلات الحرب، كانت قد عانقت السوريين وفتحت لما يقارب المليون منهم أبوابها في الموجة التي صارت معروفةً ألمانيّاً بـ«أزمة اللجوء» عام 2015. جاء هذا «العناق» محمولاً على نفحةٍ أخلاقية-مسيحية تمزج ما بين تاريخ ألمانيا بالذات ومسؤوليتها (أي الهولوكوست لأنها لا تعترف جماهيرياً بمسؤولياتٍ عن جرائم أخرى ارتكبتها)، وما يعنيه هذا من ضرورة فتح باب البيت «للغرباء»، وبطبيعة الحال لم يَخلُ الأمر من حساباتٍ دقيقةٍ لفوائد مستقبلية من تجديد الأيدي العاملة، بالذات في مجتمعٍ يعاني من ارتفاع معدلات الشيخوخة. لا بد هنا من الإشارة بوضوح إلى أننا نتحدّث عن مليون لاجئٍ ولاجئة تزيد نسبتهم بقليل على واحد بالمئة من إجمالي عدد سكان ألمانيا، الدولة العظمى ذات الـ 82 مليون نسمة.

         قد يعتقد البعض أن ألمانيا-ميركل (Wir schafen Das / بإمكاننا أن نفعل هذا) عام 2015، وبدعوى قُدرة، بل ولزوم استقبال اللاجئين السوريين على أراضيها، لا تُشبه ألمانيا من بعد أن شنّت إسرائيلُ حربها الإبادية على قطاع غزة ودمّرته تدميراً شاملاً، لا سيما أن ألمانيا كانت سنداً لها خلال 15 شهراً من الموت المستمر، فدعمتها دبلوماسياً وسياسياً وعسكرياً. وأكثر من ذلك اتّهمت «القادمين الجدد» إليها باستيراد معاداة السامية من بلادهم الأصلية إذا ما وقفوا مع فلسطين وساندوها، فسحلتهم في الشوارع غداةَ مظاهراتٍ لا-عنفية قلّما عرفت ألمانيا مثلها في الزخم والوتيرة والاستدامة والقدرة على تحريك قطاعاتٍ متنوعة من الجمهور – اللّهم فيما عدا الجمهور الألماني العريض – الذي أشارت الأبحاث إلى أن نسبةً مرتفعةً منه ترفض الإبادة والاحتلال الإسرائيلي، ولكنها لم تُزاول مُواطَنَتها عبر رفضٍ واضحٍ وصريحٍ في الشوارع، وبما يتناسب مع دور بلادها في دعم المَقتلة.

        ذات يوم، في عام 2008، وقفت ميركل في الكنيست الإسرائيلي لتُخاطب الإسرائيليين (وقبلها في الأمم المتحدة عام 2007). أخبرتهم آنذاك أن أمنهم «هو حجر أساسٍ في مصلحة بلادها الوطنية».. وهكذا صاغت المصطلح المثالي للتعامل الألماني مع إسرائيل، اختصرته واقتضبته في كلمةٍ سحريةٍ تكون «لقمةً سائغةً» تُقدَّم بسهولة لكلِّ مَن يفتقر إلى مفرداتٍ للدفاع عن إسرائيل، أو بالأحرى الدفاع عن إبادات إسرائيل المتكررة. استعملت ميركل ذاك الخطاب لأسبابٍ داخلية مُتعلّقة بالدور والهوية التي أرادتها لألمانيا، بالضبط كما عبّرت عنها في فرصةٍ أخرى عام 2015: «قوية، ولأنها كذلك، قادرة على أن تكون أخلاقية Wir schafen Das». قالت إن أمن إسرائيل من مصلحة ألمانيا الوطنية (شتاتريزون)، وهذه المقولة تصلح للتعبير عن كل شيءٍ ولا شيء في الوقت نفسه، إلا أنها تمنحُ صكّاً مفتوحاً للسياسيين ليفسّروها كما يشاؤون في دعمهم لدولة الاحتلال، وهذا أفضل ما تحصل عليه أية حملةٍ سياسية: مقولة فضفاضة بإمكانك أن تُحيلَ إليها مواقف أخلاقية وأخرى شائنة. 

         هذه القوة الألمانية الخلوقة، أو هذه الهوّية المُتشكلة على وقع طلب الغفران عن إثم الماضي (الإثم الوحيد الذي تحدّثت عنه ميركل)، أو باختصار هذه القومية الألمانية، هي ما واجهه المتظاهرون من همجية الشرطة وقمعها في الشوارع، ومَثيلُهُ هو قمع المؤسسات الثقافية والفنية لمجموعاتٍ اعتبرت نفسها جزءاً من هذه التنويعة الجديدة التي أخذت بالاتساع رقعةً بعد رقعة، بالذات في السنوات العشر الأخيرة. لم تكن جموعُ المتظاهرين في مواجهة تضامنٍ مع إسرائيل، بل في مواجهة أحد وجوه القومية الألمانية وهي تَستعملُ إسرائيل كي تعيد تعريف ذاتها وأولوياتها. ينطبق هذا على بُقعٍ أخرى من القارة الأوروبية، ولهذا نجدُ خطاب «تصدير معاداة السامية» من عند العرب والمسلمين، والمجتمعات المُهاجرة عموماً، آخذاً بالانتشار كتبريرٍ على موقفٍ لا أخلاقي من فعل إبادةٍ يحدث هناك، في فلسطين.

         هل ما حدث في الشهور الـ 15 الأخيرة هو تغييرات فعلية وديناميكية على مستوى المجتمعات من أسفل، من حيث تعاطيها مثلاً مع قضية الاحتلال الإسرائيلي ودعم ألمانيا لإسرائيل، أم أن غالبية ما يحدث هو على صعيد النُخَب ومصالحها السياسية وما يمكنُها تحصيله من مكاسب إذا استعملت معاداة السامية تارةً والعنصرية ضد المسلمين والعرب تارةً أخرى؟ وهل النخب والمؤسسات الثقافية والفنيّة والأحزاب السياسية، التي تتحدث باسم العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات ودولة القانون، كانت أضعفَ أم أجبنَ من أن تردَّ بمواقف ثابتة وواضحة؟ أم أنها وجدت في التماهي معها مدخلاً إلى مرابح سياسية سريعة؟

         إن الاستغراب الذي يعترينا إزاء ما يحصل في ألمانيا وعموم أوروبا بعد السابع من أكتوبر، يترافق أيضاً مع القلق، ولهذا القلق مُسوِّغاتٌ حقيقيةٌ لأنه ينال من حضورنا وقضايانا، ولأنّ مسيرَ دولةٍ مثل ألمانيا نحو اليمين يحدث بموجب قطيعةٍ مع ماضيها، ذلك بعد أن حوّلت الطبقةُ الحاكمةُ الألمانية، ومثلها المؤرخون والعاملون في الشأن العام على مدى عقود، المحرقةَ إلى تاريخٍ استثنائيٍّ لم يعد يرتبط في أذهان الناس بأن أساسه عنصرية بغيضة ضد مجموعةٍ سكانية سنحت الفرصة لاستخدام قدراتٍ تكنولوجيةٍ وعسكريةٍ لتدميرها. إن تاريخ ألمانيا نفسه، وما نتج عن تلك العنصرية من فظائع رهيبة، هو تماماً ما يجب ألا يسمح لألمانيا بأن تكون عنصريةً مجدداً.

        إنّ الأسئلة المتعلقة بصعود اليمين كثيرةٌ ومهمة، وتشمل مناحي متعددةً أخذاً بعين الاعتبار لخصوصية السياقات والأمكنة التي تحصل فيها، وسيتناول مَلفُّنا هذا بعضها فقط، ومن منظور السابع من أكتوبر كلحظةٍ تاريخيةٍ وسياسية. في الخمسة عشر شهراً الأخيرة كانت عيوننا مثبّتةً على غزة وما عاشه أهلنا فيها من إبادةٍ وتدميرٍ ممنهج، وكان التركيز مُنصبَّاً، خصوصاً من العرب المقيمين والمقيمات على الأراضي الأوروبية، على قراءة وتحليل السياسة الأوروبية حيال الإبادة والمواقف المرجوّ اتّخاذُها بما يُمكن أن يؤثّر ويدفع نحو وقفها واستعادة الحياة في القطاع. الآن، وبالذات بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، بالإمكان أن نُوجِّه النظر إلى مجتمعات الهجرة واللجوء العربية في أوروبا، وما كابدته هي نفسها حين كانت تنشط وتتفاعل سياسياً رفضاً للإبادة ورغبةً في استعادة وكالتها السياسية وتأكيداً على هويتها وانتمائها فيما يخص القضية الفلسطينية، وأكثر من ذلك واجبها الأخلاقي والإنساني، الذي كان ينبغي أن يكون مساوياً لواجبات الدول والمجتمعات الأخرى في أوروبا والعالم، غير أنها وجدت نفسها في كثيرٍ من الأحيان تحمله لوحدها. وجدت هذه الجاليات نفسها ليس فقط أمام دولٍ وحكوماتٍ تُساند إسرائيل وتدعمها، بل مستعدة أيضاً لتفعيل خطاب كراهية ضد الغرباء، واصطناع خوفٍ من اللاجئين، وتوسيع العنصرية ضد العرب والمسلمين في لحظة المواجهة هذه، والتنكُّر لقرون من تاريخها اللّاسامي وإسقاطه على الوافدين الجُدد.

        في هذا الملف الذي يحمل عنوان غزة: لحظة أوروبا اليمينية، مشاهد، وتقارير، ومقابلات، ومدونات بصرية لأوروبا، وعنها، في مواجهتها مع مجتمعات اللجوء العربية في أعقاب السابع من أكتوبر. لقد بدأنا التفكير والإعداد لهذا الملف بعد أشهرٍ من بدء الحرب الإباديّة على غزة، وبعد أن أصبحنا نحن الموجودين هنا – في برلين تحديداً – ننتقل من العيش في مدينةٍ كانت تُتوَّجُ حتى عامٍ مضى كمدينة «المنفى العربي» بأل التعريف، ثم أضحت مدينةً تقف بشراسة ضد حق الآلاف بالتضامن مع أهلهم والتظاهر لوقف المقتلة والمطالبة بالحرية والتحرير. دفعتنا حالةٌ من الاستغراب، ومعها رغبةٌ أكبر بالفهم ومقاربة الصورة بعيون اللحظة، إلى البحث عن إجاباتٍ من خلال مراجعة وتوثيق وتحليل ما حصل. كان من المفيد أن نفهم السياق الذي نعيشه، مع طموحٍ للاشتباك مع الناس المتأثريّن بهذه التغييرات: المتظاهرين، الطلاب، المجتمعات العربية، وبالذات اللجوء السوري الأكبر والأكثر حضوراً في أوروبا خلال العقد الأخير.

        في خضمِّ الإعداد لهذا الملف حصل الكثير من التطورات، وواحدةٌ منها سقوط نظام الطاغية بشار الأسد. لوهلةٍ بدت أسئلة اللجوء والبقاء في دولِه ليست على القدر نفسه من الأهمية، ولكن أهميتها تعود اليوم مع صحوة أن الحاضر والمستقبل يحملان خليطاً من العودة والانتظار والمقاومة المحلية، ومزيداً من الحاجة إلى تفعيل السياسة دون الارتكان إلى لحظةٍ لا تعود السياسة فيها صالحةً أصلاً.

        تقرأون في هذا الملف..

        يتناول سلطان جلبي في هذا الملف مسألةً جوهرية في علاقة المُهاجر مع المجتمع الذي يسكن فيه، وهي التحوّل من اللجوء – أي التفتت، التيه، الانفراد – إلى الجالية -أي التنظيم، التكاتف، القوة السياسيّة – وهو الشيء المفقود كما يبدو في حالة السوريين؛ وتذهب نادين الجودي إلى مقابلاتٍ مُركَّزة مع عددٍ كبيرٍ من الناشطات والناشطين الذين تعرّضوا لعنف الشرطة البرلينية، يقدّمون في قصصهم صورةً لما يحصل داخل سيارات الشرطة التي تعتقلهم-ن؛ ويكتب ياسين السويحة عن كيف تحوّل التأييد الجارف لإسرائيل إلى غطاءٍ لعداء للمهاجرين العرب – المسلمين، وكيف أن هذا التأييد مرتبطٌ بما يحصل في أوروبا أكثر بكثير من ارتباطه بما يحصل في فلسطين؛ ويتناول تقريرٌ أعده سليمان عبد الله التناقض بين تباهي الحكومة الألمانية بتحقيق العدالة للسوريين في حين تقمع شرطتُها المتظاهرين الفلسطينيين، وذلك من خلال قصة الناشطة رهام التي نالت العدالةَ في قضيةٍ رُفعت ضدّ ضابطٍ سوري في محكمة كوبلنز، ولكنّها تعرّضت لعنف الشرطة الألمانية والملاحقة القضائية بعد مظاهراتٍ مناصرة لفلسطين؛ ونذهب بعدها إلى فرنسا مع ريبورتاجٍ أعدّه فادي الداهوك عن حِراك الجامعات الفرنسية رفضاً للإبادة في غزة، وعن المواجهة الحكومية له، لا سيما أنّ اليمين المتطرف الفرنسي يعيش حالياً أحسن أيامه؛ ثمّ تعود بنا ريتا أديب إلى حائط بيتها في شارع العرب في برلين، حيث جرت معركة رسومٍ بين داعمين لفلسطين وآخرين يدعمون الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ وفي برلين أيضاً تترافع المحامية والناشطة الحقوقية ناديا سمّور عن عشرات النشطاء الذي تعرّضوا للتوقيف ورُفعت ضدّهم قضايا متنوعة خصمُهم في الكثير منها جهاز الشرطة، وقد كانت هذه القضايا والمشهد الحقوقي والقانوني الألماني موضوع حوارٍ مطوّلٍ معها أجرته ياسمين ضاهر وقاسم البصري.

        هذا الملف الذي ستُنشر مواده يومَي الخميس والجمعة على مدار الأسابيع الأربعة القادمة من إعداد وتحرير ياسمين ضاهر وقاسم البصري، ومن إنتاج شبكة فبراير، وساهمت فيه الجمهورية.نت وموقع حكاية ما انحكت.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى