فريدريك نيتشه… والكتابة بالسيف!/ أوس حسن
إن الكتابة عن فيلسوف مثل فريدريك نيتشه هي كتابة خطرة، وغير مأمونة الجوانب من ناحية تأويل العديد من شذراته ورسائله، وربما بالفعل قد ننزلق إلى الهاوية، ونحن مطمئنين.
هذه الكتابة التي تشبه المباغتة في القتال، تتطلب منا أن يكون الوعي مسلحا بالخدع والألاعيب كافة غير المشروطة، متجنبين في الوقت نفسه الأثر المسكر الذي قد تخلفه كتابات نيتشه في الوعي والذاكرة البشرية. إن ما يميز نيتشه أيضا هو صعوبة وضعه في أي خانة من خانات التأويل، بدون أن تسقطنا لغته المراوغة في شباكها وفخاخها، تلك اللغة التي تجمع النقائض في صيرورة منسجمة ومتكاملة. بالنظر إلى التاريخ الطويل للفلسفة، نجد أن النسق الفلسفي في بنائه وترابطه يشبه إلى حد كبير النسق الرياضي، من حيث الفكرة التي تربط حولها مجموعة من الأفكار ومن خلال المقدمات والنتائج، الأمر الذي قوضه نيتشه جملة وتفصيلاً، ورفض نظرية المعرفة واعتبرها مجرد لعبة عقلية، وإن الفلسفة مجرد سيرة ذاتية لصاحبها. كما جاء في الشذرة رقم 6 من كتاب «ما وراء الخير والشر». رأى نيتشه أن المذاهب الفلسفية وتياراتها تسبغ على العالم تصوراتها ومقولاتها القبلية، ثم وجه أسلحته للحسيين والتجريبين، الذين جعلوا من العالم آلة صماء ليس فيها روح، وقوض كثيرا من هذه المذاهب الفلسفية، بحجة أنها تغازل الدين عن طريق الميتافيزيقيا والمثل العليا، وتحديدا الفيلسوف الألماني كانط، الذي وصفه في كتابه «العلم الجذل» بالثعلب العجوز الذي بعد أن ضل طريقه عاد إلى قفصه اللاهوتي صاغراً. في كتاب «ما وراء الخير والشر» يهدم نيتشه كل أساس قامت عليه الفلسفات السابقة، كما أنه يفكك أعظم عقل اشتغالي فلسفي، وهو كانط ويغوص عميقا في انفعالاته النفسية، إذ يعزو هيمنة ثلاث حالات نفسية على تفكيره، جعلت تجربته الفلسفية ضيقة ومحدودة جدا، هذه الحالات هي تعصبه اللاهوتي، ووثوقيته اللاواعية، ومنظوره الأخلاقي. وتأتي الضربة القاصمة التي وجهها نيتشه لكانط عندما استبدل سؤاله «كيف يمكن أن تكون الأحكام التركيبية القبلية ممكنة؟» بسؤال يقلب جميع القيم وهو، «لماذا يكون الاعتقاد في مثل هذه الأحكام ضروريا؟» فهي في نظره أحكام خاطئة وغير صحيحة في عالم الظواهر، حيث تكمن حقيقة ما تدعى حقيقة، في عملية التكرار المتواتر للأشياء المتجانسة والمألوفة في طبيعتها المنطقية.
نيتشه والأخلاق
يعتبر كتاب «جينالوجيا الأخلاق» (1887) واحدا من أهم الكتب التي قام بها نيتشه بإعادة تقييم لكل القيم والأفكار التي مرت في العصور البشرية، وهدم كل فضيلة إنسانية متعالية، وهو لم يقصد المثالية الكانطية والشوبنهاورية فقط، بل التقاليد المسيحية الأفلاطونية العمود الفقري للثقافة الغربية منذ 2000 سنة، وقد ترك رفضه فراغا مرعبا، كان يحاول ملأه بإعادة تقييم القيم كلها، الذي بقي غير منته عند انهياره، حيث يضيف غرابة أخرى فوق غرابة عالمه الفلسفي اللامنطقي، وكأنه يكتب بحد السيف عندما يقول «لست أحب من الكتابات كلها، إلا ما يكتبه الإنسان بدمه، أكتب بالدم تجد أن الدم روح». يرى نيتشه أن الأخلاق السائدة في العصر الحديث هي منظومة الأعراف والتقاليد، التي وافق عليها المجتمع وأصبحت بمثابة قوانين تحكم الفرد، ونزوعه السلوكي نحو الخير والشر بوصفهما مفهومين متناقضين، ناهيك من أن قواعد السلوك هذه اقتضتها ضرورة الاجتماع البشري، ولعل هذه الفكرة عبر عنها إيميل دوركايم ( 1858-1917) تعبيرا دقيقا عندما أقر بأن كل ما يتحكم بحيواتنا ويوجهها ليس نتف الأفكار التي تشد اهتمامنا الآن، وإنما كل ما رسب من الحياة السالفة، التي لا تعدو أن تكون عادات مكتسبة، وقياسات سابقة، وميولات متنوعة، تحركنا بدون أن نعيرها اهتماما. وبهذا المعنى تكون تلك العادات المؤسسة للقيم والمبادئ الأخلاقية التي نؤمن بها. ولهذا السبب نجد أن الفرد ينشأ رهين هذه القوانين والأعراف، منصاعا لإرادة القطيع، بدون أن يسأل من يتحكم بحياته ومصيره. والمجتمع يكون في حاجة الطاعة العمياء للفرد، لكي يحافظ على بقائه وانسجامه، بعد أن حول الفرد إلى وظيفة مهمتها حفظ بقاء المجتمع، بدون أن يحاول الفرد إثارة السؤال حول قيمة الأخلاق ومشروعيتها، لذلك نيتشه وبحسه السايكولوجي يغوص في الأعماق ويفككها، قاصدا البحث عن الأصل الذي نشأت منه الأخلاق، محتذيا حذو عالم الأحياء تشارلز داروين في البحث عن أصل الإنسان والكائن الحي الذي انبثق من خلية الأميبيا الأحادية.
يهدم نيتشه كل ما تعارف عليه الفكر البشري من قوانين وأخلاق وأعراف، ويرى في فضائل مثل العدالة والتسامح والشفقة والمساواة، عبارة عن رذائل أنتجتها الأخلاق المسيحية، ومن قبلها الأخلاق الأفلاطونية، حيث يواصل حفره في أصل المفاهيم ومنشأها ليتوصل إلى أن الميتافيزيقيا هي أصل كل شر، ولكنه ليس الشر المتعارف عليه والسائد عند البشر، وإنما الشر الذي يحتقر الجسد والغرائز وينأى بالإنسان عن طبيعته وسجيته التي خلق عليها. يقسم نيتشه الأخلاق إلى قسمين: وهي أخلاق السادة التي تتصف بالشجاعة والجمال والقسوة والصدق، وأخلاق العبيد التي تتصف بالمكر والحيلة والغدر، والتي تخفيها تحت عدة مسميات وأقنعة أخلاقية للانتقام من السادة تحت هذه المسميات، لذا يعتبر نيتشه أن العصور التي تسودها أخلاق العبيد والمثل الدينية، هي عصور انحطاط للبشرية، فالسادة هم من يصنعون القيم الأصيلة والأخلاق الحقيقية، التي هي في الأصل وليدة النزعة السوية في علاقة الإنسان مع الطبيعة. رفض نيتشه الاشتراكية والفوضوية كأحد أشكال المسيحية الوضعية المعلمنة، لقد مقت روسو والثوريين الفرنسيين، ومقت أفكارهم السامة عن المساواة، وقد أعلن أن الأخلاقيات اليهودية والمسيحية هي بشكل جوهري أخلاقيات العبد، ويصف العبيد بأنهم مسلوبو الإرادة، غير قادرين على التصرف أو مواجهة النبلاء، لذا يستخدمون الانتقام المتخيل وذلك بالعقاب في الجحيم. إن الإنسان المتفوق الذي يبشر به نيتشه، هو نتيجة شبه حتمية للحياة في تطورها وتشكلها الجديد من الأذى وسيطرة كل ما هو خارجي وغير فعال، الإنسان الأسمى هو الذي تتشكل جيناته من أخلاق المحاربين القدامى وقسوتهم، المتجاوز لثنائية الألم واللذة، والخير والشر، إنه روح الطبيعة، وابنها الضال، ذلك الذي ولد ليصنع قيما جديدة وأخلاقا جديدة تنقذ البشرية من الانحطاط والعبودية، حتى إن غطى العالم ظلام كثيف يبقى هذا الظلام مشعاً في أرواحنا لأنه يحمل بين طياته الإنسان الأسمى.
موت الإله.. والعودة الأبدية للشبيه
ورد في الشذرة 125 من كتاب «العلم الجذل» على لسان المجنون الذي يشعل فانوسه بحثا عن الله وسط حيرة وسخرية الجموع الملتفة حوله، ليصرخ أخيرا في وجههم أين الله؟ سأقول لكم لقد قتلناه أنتم وأنا، نحن كلنا قتلناه، ولكن كيف فعلنا ذلك؟ من ذا الذي أعطانا الاسفنجة لكي نمحو الأفق؟ ما الذي فعلناه لنحرر هذه الأرض من شمسها؟ لعل القارىء يتساءل هنا أي إله يقصد نيتشه؟ إله المسيحية واليهودية أم جميع الألهة؟ هل قتل نيتشه الإله؟ أم حاول استئصال فكرة الإله من أعماق الجذور الإنسانية؟ لم يقصد نيتشه إله الأديان فقط، وإنما موت جميع عوالم الميتافيزيقيا، عوالم السببية والبواعث والغايات، ليس موتها وإنما تحللها أيضا. بالنسبة لعبارة موت الإله يمكن العثور على العبارة نفسها لدى هيغل الشاب في خاتمة كتابه «العقيدة والمعرفة» سنة 1802 حيث ذكر إن الإحساس الذي يراود دين العصر الحديث هو نفسه بأن الإله قد مات، مع أن كلمة هيغل قالت شيئا مختلفا عن مفهوم نيتشه.
كما أنها وردت في كتاب «خواطر» للفيلسوف الفرنسي بليز باسكال عندما استشهد بمقولة الفيلسوف والمؤرخ الإغريقي بلوتارخوس «لقد مات الإله عظيم بان».
تبقى عبارة موت الإله مفتوحة على أنساق تأويلية عديدة، حتى وقتنا الحاضر، فالبعض يرى أن أوروبا في تلك الحقبة تقدمت علميا ومعرفيا، ولم يعد الكون ضحية التأويلات اليقينية للدين واللاهوت، وإنما محكوم بمجموعة من القوانين الفيزيائية التي تنظم مساره وأحداثه، حتى أخلاقيا وسياسيا، ظهرت دساتير العقد الاجتماعي ولوائح حقوق الإنسان، لتلغي دور الدين والكنيسة في شرعية الأخلاق المستمدة منهما. وأراد نيتشه بقتله الإله أن يبزغ فجر جديد لمستقبل الحضارة البشرية مستمد من قوة الإنسان المتحرر من عالم الخرافة، الذي جعل الإنسان عبدا ذليلا طيلة هذه القرون من العذاب. وربما أراد نيتشه للإنسان بعبارة موت الإله أن يقتل الإنسان في داخله كل القيم والمعتقدات القديمة، والأهواء وحتى طرق التفكير المستمدة جميعها من خوف جمعي لاواع زرعته الأخلاق الدينية والميتافيزيقية. لكن يبقى نيتشه في عبارة موت الإله محاطا ومحاصرا بالميتافزيقيا، على حد تعبير مارتن هايدغر، فعندما يموت المعنى في أذهان الناس ستظهر العدمية المخيفة، وستبزغ إرادة العدم إلى الوجود، والعدمية هي افتقار للهدف يحدث نتيجة لتقهقر وانخفاض في قيمة أعلى القيم، وأرجع هايدغر علة هذا التقهقر في القيم العليا إلى التضاد القائم بين العالم المثالي والعالم الواقعي.
أراد نيتشه للإنسان أن يبقى في لعب حر بين المخيلة وتوقها الغامض إلى اللانهائي، ومتع الجسد ومباهج الحياة، لذلك ابتكر فكرة العود الأبدي التي كانت فكرة محورية في معظم فلسفته، وهي أن جميع الأحداث والموجودات والإنسان بما يمر به من ألم ولذة، ستعاود التكرار والحدوث في عدد لانهائي من المرات، كل شيء يموت وكل شيء يعود، ودوائر الوجود لا انتهاء لها. لذا يجعل نيتشه الحياة كرنفالا للاحتفاء بالوجود على الطريقة الدينوسوسية، من خلال العودة الفطرية والغريزية، إلى أصل الأصول في الطبيعة، وتقتضي هذه الحياة العارمة وقوفا على حافة الخطر، وتجاوز المفاهيم الثنائية الذهنية التي يكونها العقل البشري عن الألم واللذة، التي لا توجد في الأشياء، أو في العالم الخارجي، ويرى أن السعادة الحقيقية هي تعاظم القوة وتناميها داخل الفرد بعد هذا التجاوز الاستثنائي للمفاهيم والسلوكيات البشرية المتوارثة. يضفي نيتشه على المرض هالة من القدسية، وذلك لأنه يحفز الألم العظيم القادر على اختراق سرائرنا الخفية وأعماقنا القصية التي تعطينا هذا الكم الهائل من القوة الإبداعية. كذلك يعتبر نيتشه الجنون حالة طبيعية ارتبطت بمصائر العباقرة والقديسين. ألم يقل نيتشه في كتابه «أفول الأصنام»: «أعظم البشر الروحانيين يختبرون أعظم المآسي، وهم يحترمون الحياة لهذا السبب تحديداً، لأنها وجهت إليهم أعظم أسلحتها قوة. يعلمنا نيتشه أن نرحب بالحياة وأن نقول لها نعم مع كل الآلام والسعادة بدون تعاز من فلسفة زائفة أو دين.
كاتب عراقي
القدس العربي