صفعة واعتقال ونفي.. “الدمشقية الحرة” تروي قصتها بحراك سوريا/ غزوان الميداني

21 فبراير 2025
من أوائل من هتفوا لسقوط النظام في سوريا.. مروة الغميان
في صباح ربيعي، من سنة 2011، تركت “الحرة الدمشقية” لأهلها فيديو تخبرهم فيه بأنها اختارت طريق النضال من أجل الحرية.
طلبت فيه أن يسامحوها.
أغلقت شاشة الحاسوب وانطلقت وهي تسمع في داخلها صدى جملة كانت قد قالتها في حافلة نقل عام قبل بضعة أيام: “الله لا يخليني إذا ما شعلت الثورة في سوريا”.
كان صوتها من أول الأصوات التي صدحت بنداء الحرية في سوريا، والذي حَّولها إلى واحدة من أيقونات الثورة السورية.
كان اسم حسابها على موقع التواصل الاجتماعي “الحرة دمشقية”، واسمها في الحقيقة مروة الغميان.
“كنتُ أعتقد أنني لن أرى النور بعد ذلك اليوم بسبب إجرام النظام” تقول، مروة في مقابلة لها مع موقع الحرة.
فما قصة ذلك اليوم؟
في 15 مارس 2011 انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو مصور لمجموعة من الناشطين السوريين من قلب مدينة دمشق، وبالتحديد من أمام المسجد الأموي، بينهم فتاتان، يهتفون جميعاً لأجل “سوريا حرة أبية”؛ تميزت بينهم فتاة دمشقية توشحت بالعلم السوري حينها.
“لم يكن العلم فوق كتفي اعتباطاً، وإنما إشارة لمن تواصلوا معي على الفيسبوك لكي يصوروا هذه المظاهرة”، تقول مروة وهي تسترجع ذكريات يوم مشهود.
كانت المظاهرة استجابة لدعوات أُطلقت على صفحات الموقع الأزرق للتجمع والتظاهر ضد بشار الأسد والمطالبة بالحرية من نظام قمعي ظل جاثماً على صدور السوريين على مدى أكثر من أربعين عاماً.
أظهر الفيديو قيام عناصر مخابرات الأسد حينها بالاعتداء على الناشطين، واقتيادهم جميعاً إلى أقبية التحقيق.
اقتيدت مروة الغميان إلى السجن.
من أوائل من هتفوا لسوريا وللحرية
مروة حسان الغميان، ابنةُ حي المهاجرين، والمنحدرة من عائلة دمشقية ملتزمة متوسطة الحال. لم تمنعها حياتها الطبيعية قبل الثورة من أن تكون واحدة من أوائل الذين هتفوا لسوريا وللحرية.
تحولت خطوات مروة الواثقة نحو سوق الحميدية في ربيع 2011، وسط الخوف الذي كان يملأ سوريا آنذاك، إلى زلزالٍ هزَّ أركانَ الدكتاتورية.
سيذكر التاريخ أيضاً أن الصرخات التي انطلقت يومها كانت الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة السورية ضد نظام الأسد في كل أنحاء سوريا.
ففي يوم الجمعة الموالي (18 مارس 2011)، انطلقت مظاهرات “جمعة الكرامة” في جل المحافظات السورية وخرج الآلاف لإعلان دعمهم لقيام الثورة السورية.
مسيرة بدأتْ بدمعةٍ خلف باب مغلق، وانتهت بصيحة حررت آلاف الأصوات المكبوتة، في شهادة تُجسِّد قصة شعب اختار الموت واقفاً على أن يحيا راكعاً.
“تأثرتُ بوالدي الذي كان يعود يومياً محملاً بهموم الوطن، وكان خوفه نابعاً من معاناته في وطن لا يُسمح فيه برفض تعليق صورة الطاغية في مكان عمله”، تقول مروة، مجيبة عن سؤالٍ حول المصدر الأساسي الذي ساهم في تكوين وعيها السياسي.
كانت مروة تراقب أباها وهو يحتضن بصمت ابنة عمها، الذي قتله أحدُ ضباط نظام الأسد. كانت عينا والد مروة تحكي هذه الحكاية في كل مرة يحتضن فيها ابنه شقيقه التي يُتّمت مبكراً.
“في المدرسة، كنا نُجبر على صراخ شعارات مثل +بالروح بالدم نفديك يا حافظ+”، تقول مروة مستحضرة طفولتها، ومؤكدة أن “تلك الشعارات لم تكن تمثل بالنسبة لها إلا انعكاساً للظلم والقهر الذي عانته عائلتها وعانى منه الشعب السوري برمته”.
“كبرتُ بوعي سياسي فطري، أدركت معه الفجوة بين حياة المواطن العربي المقيد وحياة الشعوب الحرة التي تعبر وتحتج بلا خوف”.
تتابع حديثها: “هذا الوعي السياسي مع الإلهام الذي قدمته لنا ثورات الربيع العربي أشعرني أن الوقت في سوريا قد حان للتغيير”.
ربيع عربي وصفعة وعهد قطعته على نفسها
في تلك الفترة كانت الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن تزداد زخماً، وأشارت تقارير إلى إرسال بشار الأسد طيارين إلى ليبيا لمساعدة معمر القذافي في قمع المتظاهرين وقتل شعبه.
“فخرجت مع بعض السوريين حينها للاعتصام أمام السفارة الليبية احتجاجاً على هذا الأمر ودعماً للأخوة الليبيين”.
تتابع مروة: “مُنع المعتصمون من الوصول إلى السفارة الليبية، واستعمل الأمن السوري يومها العنف لفض الاعتصام. وتلقيتُ صفعة كانت بالنسبة لي شرارة أشعلت ناراً كامنة في أعماقي، صفعةً أعادت لي بلمحة مشاهد احتضان أبي لابنة شقيقه المقتول من طرف نظام كنا نهتف له بالفداء بالروح”.
حينها هتفت مروة في داخلها جملة وهي في طريق عودتها إلى البيت، حاملة على خدها آثار تلك الصفعة: “الله لا يخليني إذا ما شعلت الثورة في سوريا”.
تُقول مروة: “لم أرَ الصفعة كإهانة شخصية، بل انعكاس لسنوات من القهر الذي عاشه أهلي وشعبي. كانت الصفعة شرارة، لكن الوقود كان عقوداً من الظلم الطويل والتكميم والإجبار على التصفيق للقاتل”.
وعن خروجها في مظاهرة الخامس عشر من مارس 2011 تضيف مروة للحرة:
“توجهتُ مع صديقتي نورا رفاعي إلى سوق الحميدية للمشاركة في المظاهرة التي ضمت نحو 150 متظاهرًا، وتوشحتُ بالعلم السوري، وفق اتفاق مسبق مع ناشطين ليكون علامة تميزني”.
ولتوثيق الحدث، طلبت مروة من أصدقائها تصوير تلك المظاهرة وإيصال رسالة للعالم بأن الشعب السوري يطالب بحريته، ” كان هدفي كسر حاجز الخوف وتشجيع الآخرين على المشاركة”.
حدث ما كانت تتوقعه، فقد اعتُقلت مع أصدقائها وتعرضوا جميعهم للتعذيب، ثم تم اعتقال أختها.
“تلك اللحظة كانت من أكثر لحظات حياتي حزناً”، تقول مروة عن مشهد أختها باكية في مكتب التحقيق.
وتتابع: “مرت عليّ لحظات كنت أعتقد فيها أنني لن أخرج أبداً، ولحظات أخرى كنت أقول: حتى لو طال اعتقالي، سيأتي يوم يقتحم فيه الثوار باب هذه الزنزانة ويخرجونني”.
بعد عشرة أيام من الاعتقال، تم الإفراج عن مروة، وقد بدأت سجون الأفرع الأمنية بالامتلاء بالمعتقلين الجدد.
هكذا وجدت نفسها تعانق الحرية من جديد؛ حاولت السفر خارج سوريا، غير أن الأمن السوري اعتقلها مرة أخرى.
“قضيتُ أسبوعاً في فرع الأمن العسكري 215 بدمشق، ثم أُفرج عني بشرط التعاون مع المخابرات للإيقاع بنشطاء الثورة”. تقول مروة. “وافقتُ على هذا الشرط كي يتم الإفراج عني، ولكنني كنت أخطط لأمر آخر”.
اتخذت مروة قراراً جريئاً بالسفر إلى الأردن عبر المطار رغم خطورة الموقف واحتمال اعتقالها بنسبة كبيرة.
ذهبت إلى مطار دمشق الدولي في أكتوبر 2011.
“كان لدي شعور قوي بأنني سأعود إلى زنزانة الاعتقال، لكنني كنت مستعدة لتحمل كل شيء إلا أن أكون أداة بيد النظام”. تتابع حديثها.
ورغم بعض الصعوبات التي واجهتها مع أمن المطار بسبب الاعتقال السابق، استطاعت المرور والخروج من سوريا.
“كان إصراري على عدم خيانة الثورة ورفاقي أقوى من أي خوف”، تقول مروة.
في المنفى، لم تتوقف مروة عن النضال.فكانت من مؤسسي شبكة لدعم اللاجئين السوريين، وساهمت في جمع التبرعات لإيصال الغذاء والدواء للمتضررين.
ركَّزت جهودها على تعليم أبناء الشهداء والمعتقلين، وشاركت في إطلاق مشاريع تعليمية تحمل أسماء الشهداء تخليداً لذكراهم. كما انخرطت في حملات لرفع الوعي العالمي بمعاناة الشعب السوري.
اليوم، تشعر مروة بالفخر لرؤية سوريا تتحرر من نظام الأسد الذي استمر لعقود، معتبرة أن الثورة كانت أكثر من مجرد غضب، بل عهداً للعيش بحرية.
تفتخر مروة بـ”كل روح فقدت حياتها، وبكل سجين قاوم ولم ينكسر، وبكل من حمل الحلم رغم الألم”.
“ظن النظام أنه مستمر إلى الأبد، وشعرت بكل إيمان بأنه سينهار.. لم أكن أعلم أنه سيسقط بعد 14 عاماً، ولكنني كنت متأكدة أنه سيسقط”.
تختم مروة: “أفخر بكل شهيد دفع ثمن هذا النصر، وبكل معتقل لم ينكسر. هذه الثورة لم تكن مجرد غضب، بل عهداً على أن نحيا أحراراً”.
غزوان الميداني
الحرة