سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 24 شباط 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:

سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

—————————–

بالتوفيق للحوار.. ولكن/ محمد صبرا

2025.02.24

كثيراً ما تلجأ السلطات “غير المؤسسة”، إلى فتح قنوات تواصل مع المواطنين المحكومين من قبلها، وذلك لبناء رؤية إصلاحية عندما ينغلق الأفق السياسي ويختنق المجتمع، ونقصد بالسلطات ” غير المؤسسة”، السلطة في الدول التي تفتقد لنظام دستوري مستقر، وتفتقد لتقاليد سياسية، ولوسط سياسي ناضج تتفاعل فيه القوى والأحزاب السياسية، وتلتبس السلطة “غير المؤسسة” بالشخص، ويصبح هو التجسيد الكامل لمفهوم السلطة، وتصبح رؤيته وما يقوله وما يفكر فيه هي المشروع الوحيد للوطن، وتنتفي عنه القيود القانونية والدستورية التي تقيد سلوكه وقراراته، وتجنح هذه السلطة لأخذ صفة الأبوة، وتقوم علاقات المواطنين بها، على فكرة الثقة بالقائد وغير ذلك من الأفكار والمشاعر التي تنتمي إلى حيز السلوك الاجتماعي العائلي كبديل عن العلاقات القانونية التي تربط السلطة بالمواطنين، وبالتالي يصبح مجرد اقتراح القائد “رب العائلة” بفتح صدره وآذانه للاستماع لهموم المواطنين، مكرمة تتم الإشادة بها، واعتبارها دليلاً على عظمة هذا القائد وقدرته على تفهم أوجاع شعبه، هذه النماذج رأيناها كثيراً في الماضي في أغلب بلداننا العربية، حيث تغيب السياسة ومبدأ تداول السلطة، ويغيب مبدأ تجرد السلطة عن شخوصها، لصالح القائد الحكيم العارف بكل شيء، والإشكالية ليست في الزعامات التي يطيب لها أن تلبس لبوس “الأب الصالح”، بل الإشكالية العميقة في أن الشعوب تنخرط في هذه المحاكاة، وتراهن عليها، ضمن مفهوم أن القائد الذي هو منا لا يمكن أن يقدم لنا سوى الخير، لكن هذه النماذج أورثت المنطقة العربية خراباً ستعاني منه أجيال وأجيال.

هذا النسق من التفكير سالف الذكر، يجب أن نتجاوزه في سورية اليوم، ولا سيما أننا أمام مرحلة تأسيسية نتلمس فيها طريقنا إلى بناء وطن حر وكريم، لقد أحسنت السلطة الانتقالية بتشكيل لجنة تحضيرية لعقد مؤتمر الحوار الوطني، ورغم تحفظنا أن جميع أعضاء اللجنة بلا استثناء جاؤوا من خلفية عقائدية يمينية محافظة، إلا أننا رأينا في تشكيل اللجنة بحد ذاته خطوة إيجابية ودليلا على جدية السلطة في التحضير الجيد لهذا المؤتمر العتيد الذي سيعيد إنتاج الذات السياسية السورية باعتبارها ذاتا مدركة لظرفها ولشرطها السياسي وقادرة على صنع مصيرها والإمساك بمستقبلها، من خلال عمل وطني تشاركي، لكن للأسف ما حدث خلال الأسبوع الماضي بدد هذه النظرة الإيجابية إلى حد كبير، فالاستعجال غير المبرر في عقد مؤتمر الحوار الوطني سيطيح بكل ما يحلم به السوريون، لأن فكرة أن يجتمع أشخاص تم اختيارهم من قبل اللجنة التحضيرية بناء على معايير غامضة وغير واضحة إن لم نقل معايير شخصانية إلى حد كبير، حتى أن المتابع للجلسات التي عقدتها اللجنة التحضيرية يعطي إيحاء خاطئا بأن الهدف من هذه الجلسات وهذا الحوار هو نقل هموم المواطنين وطلباتهم إلى السلطة الانتقالية، ولولا بعض المداخلات التي سمعتها في بعض المحافظات لاختلط علي الأمر بين جلسات حوار مؤسسة لعقد اجتماعي جديد، وبين جلسات مطلبية لمواطني يشكون بعض همومهم لأولي الأمر، وأيا كان الوضع فإن المؤتمر الذي كنا وما زلنا ندعو له، هو المؤتمر الوطني الذي سيؤسس الاجتماع السياسي الجديد للسوريين، ولذلك فإن فترة التحضير لهذا المؤتمر لا يمكن أن تقل عن ستة أشهر، لأن هذا المؤتمر يفترض فيه أن يضم الممثلين للمصالح المجتمعية الحقيقية، وهذا المؤتمر الذي كنا نعتبره أنه الفرصة التاريخية الثانية التي تتاح للسورين بعد مؤتمرهم الأول قبل قرن من الزمان، وأن هذا المؤتمر يجب أن يبقى في انعقاد دائم طيلة الفترة الانتقالية، وقد اعتبرنا أن مجرد تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر خطوة إيجابية، لكننا كنا نظن أنها ستمارس عملها في التحضير لانعقاد المؤتمر فترة لا تقل عن ستة أشهر وليس أن يتم تلفيق مؤتمر على عجل وخلال أقل من عشرة أيام، ليقال لنا هذا هو مؤتمر الحوار الوطني الذي تريدونه.

قد تكون إحدى الاعتبارات التي قادت السلطة الانتقالية للاستعجال في عقد المؤتمر هي قضية الشرعية والتي تحتاجها لإعادة تموضعها في شبكة العلاقات الدولية والإقليمية، وهنا لا بد لي من القول إن من أشار على السلطة الانتقالية بأن شرعيتها لا تكتمل إلا بعقد مؤتمر الحوار الوطني قد يكون ارتكب خطأ كبيرا، لأن السلطة الانتقالية تستمد شرعيتها أساسا من طبيعة المرحلة الانتقالية، ومناط هذه الشرعية هو قدرة السلطة الانتقالية على تحقيق أهداف المرحلة الانتقالية، وهي ضمان استمرار عمل مؤسسات الدولة ومنعها من الانهيار، ضمان الأمن والسلم الأهلي والتأسيس لمسار العدالة، ضمان الحريات العامة والخاصة للمواطنين، وحرية العمل السياسي، وضمان البيئة الآمنة والمحايدة اللازمة للمواطنين للتعبير عن رأيهم، وإدارة عملية العبور إلى الدولة أي العبور إلى المرحلة الانتقالية، وبالتالي فإنها لا تحتاج لأي مؤتمر لتكمل به شرعيتها، فالرئيس أحمد الشرع يستطيع، بل من واجبه أن يصدر إعلانا دستورياً مؤقتاً، وأن يشكل الحكومة الانتقالية استناداً لهذا الإعلان الدستوري المؤقت، أما فيما يتعلق بالمؤتمر الوطني، كما أفهمه وكما أطالب به، يتجاوز مفهوم المؤتمر العابر أي (الكونفرانس) الذي يعقد لفترة محدودة وينفض بعدها، بحيث أنني أطالب بأن يكون المؤتمر بمثابة (كونغرس) أي أن ينعقد لمدة ثلاث سنوات متواصلة طيلة المرحلة الانتقالية، ويعقد المؤتمر ثلاث دورات انعقاد في كل عام، بواقع ثلاثة شهور لكل دورة يعقب كلا منها شهر واحد لعرض النتائج التي توصلت لها دورة الانعقاد على الجمهور وذلك لتلقي الملاحظات والاقتراحات والآراء وذلك عبر آلية ملزمة تتولاها إدارة مؤتمر الحوار الوطني، وهذا المؤتمر سيناقش قضايا طبيعة الدولة وشكل نظام الحكم وتحديد مؤسسات السلطة، وطبيعة النظام الاقتصادي فضلا عن الحريات والقضاء والضمانات اللازمة، إضافة لتحديد أسس العدالة التي يجب اتباعها لمحاكمة المجرمين الذين ارتكبوا جرائم بحق السوريين، وهل ستكون عدالة انتقالية أو عدالة ناجزة، إضافة لمناقشة قانون الانتخابات العامة وموضوع الهيئة التأسيسية ووضع دستور دائم للبلاد، ويسبق هذا كله وضع لائحة إجرائية لعمل المؤتمر، ولمعايير التمثيل فيه، ولآليات التصويت والمناقشات التي ستتم خلال عقد المؤتمر، وللأسف ما نراه الآن  في الدعوة لمؤتمر حوار ليومين أو أسبوع هو استعجال غير مبرر، سيحول المؤتمر لمجرد مهرجان خطابي كبير يفضفض فيه المجتمعون عن هواجسهم ومطالبهم أمام السلطة، التي ستعد بأنها ستنفذ مطالبهم وتوصياتهم.

ختاماً وبالنظر للنصف المليء من الكأس، فإنني أتمنى النجاح لمؤتمر الحوار الذي سيتم عقده بين يومي 24 – 25 فبراير، وأتمنى أن يكون على جدول الأعمال بند واحد فقط، وهو بحث انعقاد المؤتمر الوطني السوري، وآليات انعقاده، وانتخاب لجنة تحضيرية متنوعة وشفافة من المجتمعين للإعداد لانعقاد المؤتمر الوطني السوري، لأنه المؤتمر الذي سيؤسس لوطن جديد ضحى من أجله ملايين السوريين. 

تلفزيون سوريا

———————————–

الحوار الوطني عبور إلى المستقبل/ محمد برو

2025.02.24

يشهد السوريون اليوم انشغالا واسعا حول مؤتمر الحوار الوطني الذي طالب به كثيرون وتطلع إليه واستعجله كثيرون، ربما تكون هذه الخطوة مهمة في جانب تطمين السوريين عامة لاهتمام الإدارة الجديدة بآرائهم وتطلعاتهم والاستماع إليهم وهذا ما كان غائبا في الحقبة الأسدية تماما. لكن من الحصافة أيضا عدم رفع سقف التوقعات وتوهم أن هذه الحوارات واللقاءات ستكشف عن جبل الذهب المخفي، وستحل للسوريين أكثر المسائل إلحاحا وهي رغيف الخبز والوقود والكهرباء والماء.

تكشفت العديد من المحاورات التي جرت، عن الهوة الكبيرة بين لغة وأحلام المثقفين والأفراد المسيسين ومن يتبعهم من هواة ومحترفي التنظير، وبين السواد الأعظم من الشارع السوري الذي يأتي اهتمامه بشكل ونظام الحكم واسم الجمهورية، ولون العلم والنشيد الوطني في الدرجة التالية للاحتياجات اليومية التي تمس حياته وحياة أسرته بشكل مباشر، فهو معني اليوم وبشكل شديد الإلحاح بتوفير خبز أطفاله ووقود التدفئة والكهرباء والماء والدواء، الجهة التي ستوفر له هذه الاحتياجات، هي وحدها من ستحظى بولائه وصوته في صندوق الانتخابات القادمة، وسيدرك جموع المنظرين أنهم كما كانوا في معظم الأحوال بعيدين كل البعد عن لغة الشارع وهمومه، وأنهم في معظم الحالات لم يلتقطوا نبض الشارع ولغته التي يستطيع سماعها، وأنهم باقون لوحدهم في واد غير ذي زرع، كما كانوا خلال سنين الثورة.

مع هذا تبقى الأنظار والأحلام معلقة بهذا اللقاء الذي سيجتمع فيه السوريون وربما للمرة الأولى في تاريخهم المعاصر، بجميع أطيافهم أو بالشطر الأوسع من هذه الأطياف، وسيعبرون عن تطلعاتهم ومواقفهم من قضايا كبيرة، لم يألفوا فيما سبق أن يكون لهم رأي فيها، وربما سيكون شطر كبير من هذه الآراء محض أحلام وأمنيات، وهذا لا يعاب عليهم بكل تأكيد، فقد عشيت نفوسهم وأبصارهم من سنوات الكبت وهيمنة الظلم والظلام على حياتهم، فهم يحتاجون زمنا فاصلا ليستعيدوا القدرة على الرؤية الواضحة والعملية، واختيار الموضوعات التي تلامس جوهر معضلاتهم.

سواء كان عدد المؤتمرين خمسمئة أو ألف أو يزيدون سيكون من شبه المحال الخلوص إلى نتيجة محددة في أي باب ستجري فيه تلك الحوارات والمناقرات الفكرية أو السياسية، سيهتم كثيرون وربما الشطر الأكبر من المؤتمرين بالقضايا المعيشية التي قد تبدو بسيطة، والتي تحاصر ساعاتهم وأيامهم بشكل رتيب، في الوقت الذي سيتركز اهتمام شريحة أخرى ودائرة من الحوارات على القضايا الكبرى، حول تشكيل حكومة وحدة وطنية وصياغة جديدة للدستور واجتراح قانون مناسب للأحزاب، التي سيبدأ معظمها من نقطة الصفر كون حال الأحزاب القديمة اليوم أشبه بقطرة الماء التي تجاوزت السد، وفقدت فرصتها في توليد الطاقة، وأصبحت مجرد ماض من التاريخ السياسي السوري البائس. ليس هذا تقليل من أهمية انكباب عموم السوريين على القضايا المعاشية، بل هو عرض لتباين سلم الأولويات بين الشارع السوري بعمومه وبين الطبقة المثقفة أو المسيسة، وبالرغم من أن فاتورة التحولات الكبرى تدفعها الغالبية العظمى من بسطاء الناس، إلا أن الوقائع المدونة والتي ستبقى لآماد طويلة، ستذكر وستحتفظ بأسماء وألقاب أولئك النخب والمنظرين المنفصلين عن شارعهم.

سيبتعد المؤتمرون عن لغة المحاصصة الطائفية الفجة، لكنها ستثوي في كثير من مفاصل رغباتهم واشتراطاتهم، وسيكون الحديث عن لغة الوحدة الوطنية والتأكيد على أهمية التنوع، وإشراك جميع المكونات مع تكرار التصريح أو التلميح لنسب تلك المكونات كما يزعم أصحابها، مما يدفعنا دفعا لمراعاة المحاصصة، وسنكون أمام استحقاقات متخيلة ينبغي تفكيكها ووضعها في نصابها الصحيح، سيكون لقادة بعض الفصائل صوت مرتفع يذكرنا بما قدمه من تضحيات وشهداء، وهذا يقتضي وفق تخيله استحقاقه لامتيازات استثنائية، ولن يكون حال بعض السياسيين الذين شغلوا  مناصب مهمة في بعض مؤسسات المعارضة ببعيد عن تصور قريب أو موازي، فقد اكتسبوا خلال 13 سنة خبرات وخاضوا تجارب فاشلة تؤهلهم لاستلام مواقع تليق بنضالهم في الإدارة الجديدة.

سيكون محور القضايا الاقتصادية والاجتماعية حاضرا بكل قوته وسيعالج أو يحلم بمعالجة دمار ممنهج على مدى ما يزيد عن خمسين سنة، وسيتذمر كثيرون أن هذه القضايا لم تنل حظها من الاهتمام في الأيام المئة الجديدة من عمر دولة تكاد تلد الآن على أرض زلقة، وستستمر جحافل الفسابكة في انتقاد كل تفصيل صغر أم كبر من دون هوادة، وهذه النقطة بالتحديد ينبغي تفهمها بشكل ودي، فمن كمم فمه وأخرس صوته لعقود طويلة سيصاب بنوبة هيستيرية من الصراخ حين تسقط عنه القيود وينتفي شبح الخوف دفعة واحدة، فحتى المريض الذي يتخلص من ضرسه المنخور المؤلم، يبقى أياما بعد قلعه يتحسس موضعه بلسانه وحتى بإصبعه أحياناً، وكأنه غير مصدق أن مسبب الألم قد زال.

تحديات كبرى يواجهها مؤتمر الحوار الوطني، ربما يكون أكبرها وأولها هو التسرع المفرط في انعقاده، وعدم نيله كفايته من الإعداد والتحضير، وربما سيكون كما يراه بعضهم إجراء تسكيني وتجميلي يلبي تطلعات العديدين في المشاركة، وفي أحسن الأحوال ستصدر عن هذا اللقاء رؤى وتوصيات أولية يمكن العمل مستقبلا على تنقيحها، ووضع ما هو ممكن في جدول اهتمامات الإدارة الجديدة، وستكون هذه المراجعات بحاجة لتكنوقراط يشتغلون عليها زمنا ممتدا، لتثمر مخرجات عملية تسهم بشكل حقيقي في تغيير الواقع المدمر الذي خلفه لنا كسوريين نظام محترف في التدمير والقتل وبث الخراب.

سيكون علينا كسوريين مناقشة مسألة الحريات والأحزاب والمهجرين وعودتهم، والعدالة الانتقالية وقضايا المرأة والعقد الاجتماعي والعلاقات مع دول الجوار، ومعضلة الاحتلال الإسرائيلي وتهديده المستمر، والموقف من أقطار صديقة لا تتوقف عن العبث بخاصرتنا الرخوة، إضافة لتركة كبيرة من الحقوق التي استباحها وأهدرها النظام السابق وأصحابها ما يزالون يطالبون بها.

تركة الآثام التي ورثها الشعب السوري من جلاديه، هذا الشعب الذي لم يكد يصحو من صدمة الفرح بعد، كما تحملها الإدارة الجديدة ومن سيعقبها أنى كان اتجاهه ولونه، كل هذه التركة لا يمكننا تجاوزها إلا بمزيد من الجهد المصابر والإصرار على النجاح، والمزيد من التضحيات كما فعلت أمم كثيرة قبلنا، ولسنا كسوريين بدعا بين الأمم، وسيكون لمؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده أربع مخرجات رئيسية، أن السوريين مؤهلون كغيرهم من الأمم للاحتكام للغة الحوار كسبيل لبناء وحدة وطنية، وأن لسواد الشعب السوري صوت أو أصوات ينبغي بمن يتسلم إدارتها أن يحسن الإصغاء إليه وأن لا يتجاوزه، وأن التطلع إلى بناء سوريا حديثة والتعافي من تركة الآثام تلك يحتاج لزمن قد يبدو طويلا وشاقا لكنه بعد تحطيم جدار المستحيل أصبح محض سعي في مضمار الممكنات. وأن الثقة المفقودة بين المكونات لزمن بعيد واللازمة ليسود الاستقرار والتشاركية يمكن بناؤها من جديد، فسوريا اليوم تتعافى من سرطانها، وكل ما سواه ممكن وبسيط.

تلفزيون سوريا

——————————-

جلسات الحوار والمشروع وطني/ سلوى زكزك

23 فبراير 2025

في مسارٍ متسارع، انطلقت جلسات الحوار في المدن السورية، وقد شهدت هذه الانطلاقة ردات فعلٍ كثيرة من جمهورٍ واسع، وكانت غالبيتها مرحّبة بجلسات الحوار ومتناقضة في تقييم الجلسات شكلًا ومضمونًا. وتكررت الملاحظة الأكثر تداولًا منذ سقوط النظام وهي (أحقّية التمثيل)، وقد تمادى المطالبون بحصرية التمثيل بالقوى أو الأفراد الذين أسقطوا النظام عسكريًّا، أي من اصطلح على تسميتهم بأصحاب الشرعية الثورية. ويبرز هنا سؤال رئيسي، ماذا فعل بقية السوريين إذن؟ وهذا السؤال العفوي يحيلنا إلى التنبّه من مطبّات ثورية جديدة، أولها تعميم مظلومية جديدة، وثانيها محاولة لاستبعاد كل من لا يدور في فلك أصحاب الشرعية الثورية.

طاولت الانتقادات أيضًا أسماء اللجنة التحضيرية لجلسات الحوار الوطني. بسرعةٍ قياسية يتم استحضار الملفات التعريفية بجميع أعضاء اللجنة، وتفاصيل متداولة لم تعد خفية على أحد، لكن يبدو أن التعيينات غير قابلة للنقاش وغير قابلة للتعديل، فيما اتخذ السوريون قرارًا صارمًا ولا رجعة عنه، لقد أجبروا الصمت على تغيير عنوانه، وأجبروه على نسيان عناوين بيوتهم، وأداروا زمام الإفصاح من كل الزوايا المعتمة والمعلنة. لقد أعلن السوريون والسوريات أنه لا صمت بعد اليوم.

إن حجم المشاركات المجتمعية والأجسام المشكّلة حديثًا والمتنوعة ما بين السياسي والمحلي والاجتماعي والتعليمي والثقافي والتشاوري على مساحة مترامية وواسعة من الجغرافيا السورية، قد رسمت فضاءً مشرقًا من حيوية يراهن عليها السوريون بشدة، يسعون لامتلاك زمامها وإدارتها بتنوع مشرق وبإصرار مميز رغم كل محاولات توحيد الخطاب العام أو صهره ببوتقة موحدة تتماهى مع سياسة العهد الجديد الذي أعتقد أنه متفاجئ تمامًا بحجم المتغيرات الواقعية الحاصلة على الأرض بعد الثورة السورية وخلال سنواتها الطويلة.

في محاولاتهم المحقة لاستعادة الساحات، يتدرب السوريون والسوريات على إدارة الخطاب العام، إلى سحب ملف الحوار الذي يتم تعريفه كقاعدة أساسية لعهدٍ إيجابي ولعلاقة تشاركية مع الحكم، سحبه إلى مساحاتهم التبادلية للبناء عليها.

مهما اختلف السوريون عمّن يستحق الدعوات إلى جلسات الحوار الوطني ومن لا يستحقها، ومهما اختلفوا حول من يمنح الشرعية ومن يفرضها ومن يمتلكها، لكنهم فعليًّا يديرون حواراتهم الخاصة والعامة بجدية غير مسبوقة، باهتمام يليق بهم وبثورتهم وبما سددوه على طريق الحرية.

تسبب اكتفاء اللجنة التحضيرية بالاستماع إلى مداخلات المشاركين صدمة لدى البعض، لأن الناس متعطشة فعليًّا للإجابات، وخاصة للطمأنة أو للمكاشفة العلنية بين الجمهور والعهد الجديد، والإجابات هنا لن تكون دعوة للاكتفاء بها ولا للصمت، بل لتركيز النقاش وإعادة ربطه بكل ما يطلبه وما يأمله السوريون والسوريات.

جلسة الحوار في دمشق استمرت لما يقارب الساعات الأربع، مع أن الكثير من المشاركين اكتفوا بتقديم أوراق عمل لضيق وقت الجلسة، ولقناعتهم بأن دقيقة أو دقيقتين ستكون عاجزة عن إيصال ما يرونه ضروريًّا للطرح. ومع أن اللجنة قد أعلنت مسبقًا أن الجلسات هي للاستماع فقط، فقد حاول المشاركون والمشاركات استنباط الإجابات عن أسئلتهم أو مداخلاتهم التي اعتبروها مهمة وملحة في آنٍ معًا من بعضهم. نعم هنا جوهر أهمية الحوار الذي لم يعشه السوريون من قبل! أن تجمعهم في قاعة تتسع للقليل منهم، وتقول لهم تحاوروا. وللأمانة، فإن الأخبار الواصلة من قاعة الحوار تشي برغبة عارمة بكسر حدية التجاذبات وبرغبة شبه عامة بإبداء مرونة وإيجابية يتمنى السوريون أن تكون عنوانًا للمرحلة القادمة أو سلوكًا مرحبًا به ومعترفًا به في سوريا الجديدة.

تبادل السوريون حواراتهم في الاستراحة رغم الاختلاف بالأفكار، وأكملوا حوارهم بعد الخروج من القاعة في الساعة العاشرة ليلًا. إنها حيوية لن يتخلى عنها السوريون أبدًا، إنّ انطلاق الحوار السوري – السوري قد بدأ خارج القاعات ودون انتظار الإذن من أحد.

الحوارات الوطنية لا تحتاج لقاعات ولا لدعوات ولا لزمان ومكان محددين. إنها صورة السوريين والسوريات في سعيهم المحق والمستمر في استعادة وطنهم الذي استعادوه في لحظة ظنوا أنها غير حاصلة أبدًا.

العربي الجديد

————————–

في رؤية أحمد داود أوغلو لسوريا الجديدة/ مهيب الرفاعي

الإثنين 2025/02/24

يطرح وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داود أوغلو، رؤيته حول “إعادة بناء سوريا والانتقال من الثورة إلى التجديد”، وهي رؤية شاملة لمستقبل سوريا ما بعد الأسد، مركزاً فيها على قطاعات الحوكمة، والأمن، وإعادة الإعمار والتكاليف الاقتصادية للمرحلة المقبلة من وجهة نظر السياسة التركية.

باعتباره المهندس الرئيس للسياسة الخارجية التركية، ومبتكر نظرية العمق الاستراتيجي وسياسة تصفير المشكلات مع دول الجوار، فإن رؤية داود أوغلو تعكس تطلعات أنقرة الإقليمية الأوسع، ولا سيما تبنيه أفكار “العثمانية الجديدة” التي تنص على تحسين العلاقات بين تركيا والدول التي كانت يوماً ما تحت حكم السلطنة العثمانية. وبحكم تسلمه منصب وزير خارجية تركيا بين عامي 2009 و2014، ومعاصرته سنوات رخاء العلاقات بين أنقرة ودمشق، والتي تلتها سنوات قطيعة انتهت بسقوط نظام بشار الأسد، وبحكم اطّلاعه على ملف الثورة السورية منذ بدايتها حتى عام 2014 حين استقال من الحكومة؛ فإن الرؤية التي يقدمها اليوم حول سوريا ما بعد الأسد لا تختلف كثيراً عن تطلعات تركيا حول سوريا في عهد الأسد؛ مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما لا يمكن تحصيله بالدبلوماسية وتعديل السياسات و”شرب المرطبات”، يمكن تحصيله بالقوة والتحالفات. وعلى ذلك، فإن أطروحة أوغلو الجديدة تثير تساؤلات جوهرية حول الدور الفعلي لتركيا، ومصالحها كدولة ضامنة في سوريا اليوم، وإمكانية تحقيق الإطار الذي يقترحه على أرض الواقع.

منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، اتسمت سياستها الخارجية بالحذر والبراغماتية، إذ تجنّب قادتها الانخراط في النزاعات الإقليمية غير المستقرة، معتبرين أن المكاسب المحتملة ضئيلة مقارنة بالمخاطر الكبيرة. وعلى مدار عقود، ظلت السياسة الخارجية التركية مترددة، تابعة في معظم الأحيان للولايات المتحدة وحلف الناتو، ومستجيبة للأحداث أكثر من كونها مبادرة. حتى على مستوى علاقاتها مع دول المنطقة، لم تكن تركيا فاعلة بما يكفي ليقال بأنها صانعة قرار سياسي في الشرق الأوسط. أما خلال العقدين الأخيرين، فشهدت السياسة الخارجية التركية تحولاً ملحوظاً نحو نهج أكثر فاعلية واستباقية، يهدف إلى توطيد العلاقات مع دول مثل سوريا وإيران وروسيا، وتعزيز مكانة تركيا كفاعل محوري في الجغرافيا السياسية في المنطقة.

غير أن هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل جاء نتيجة تطورات اقتصادية وجيوسياسية طويلة الأمد. فقد ساهم كل من السياسي الليبرالي تورغوت أوزال (1983-1993)؛ والدبلوماسي القديم إسماعيل جِم (1992-2002)، في وضع أسس النفوذ الإقليمي التركي؛ كما أدت نهاية الحرب الباردة وصعود قوى اقتصادية جديدة، مثل دول “بريكس” (البرازيل، روسيا، الهند، الصين) و”ميكت” (المكسيك، إندونيسيا، كوريا الجنوبية، تركيا)، إلى محاولات لإعادة تشكيل النظام العالمي، مما أتاح لتركيا فرصة لتعزيز دورها الدولي. وكان النمو الاقتصادي المتسارع خلال العقد الماضي والانفتاح الإعلامي والاجتماعي والثقافي (كالإنتاج التلفزيوني ومنصات الإعلام) على دول المنطقة عاملاً رئيسياً في تمكين أنقرة من توسيع نفوذها الدبلوماسي والتجاري، ما عزز من أدوات قوتها الناعمة ووصولها بحق إلى دول الشرق الوسط ودول البلقان، والتي كانت يوماً من أملاك الدولة العثمانية.

برزت ملامح هذا التحول في لعب تركيا دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل، ومساعي أنقرة لتعزيز السلام في البلقان والقوقاز، ومحاولات التفاوض على اتفاق نووي مع إيران عام 2010 بالتعاون مع البرازيل. ومع ذلك، سرعان ما اصطدمت هذه السياسة بتحديات الثورة السورية؛ فتبنّت موقفاً حاداً ضد نظام بشار الأسد، مقدّمة دعماً مفتوحاً للمعارضة المسلحة، بما في ذلك بعض الفصائل الإسلامية المتشددة، ما أدى إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار وكشف عن نقاط ضعف استراتيجية في رؤية داوود أوغلو.

أدى هذا النهج إلى انحياز تركيا لمحور إسلامي سُنّي في مواجهة النفوذ الإيراني الشيعي، وهو ما عكس تحوّلاً في تموضعها الإقليمي. كما أخطأ داوود أوغلو في تقدير سرعة سقوط الأسد، فيما أدت سياسات أنقرة الحدودية المفتوحة إلى تصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم “داعش”، ما وضع تركيا في مأزق أمني خطير. وفي الوقت نفسه، تزايدت التوترات الداخلية، خاصة فيما يتعلق بالقضية الكردية وحزب العمال الكردستاني، مما عمّق حالة عدم الاستقرار الإقليمي والفوضى العسكرية التي قادت تركيا إلى تنفيذ ثلاث عمليات عسكرية  أمام التحدي الكردي في شمال شرق سوريا، كان أهمها عملية درع الفرات ونبع السلام.

ورغم التحوّل في الخطاب السياسي التركي، فإن الاتجاه العام لسياستها الخارجية لم يشهد قطيعة حقيقية مع الماضي. فمنذ عام 1983، ظلت أنقرة مرتبطة بالمنظومة الغربية، معتمدة في سياساتها على تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة. وفي حين أن داوود أوغلو حاول بلورة رؤية طموحة لدور تركيا الإقليمي، فإن العديد من مبادراته افتقرت إلى التخطيط الاستراتيجي العميق، مما جعل السياسة الخارجية التركية تظل، في جوهرها، امتداداً للمصالح الغربية في المنطقة أكثر من كونها تحوّلاً جذرياً نحو نهج مستقل.

أما اليوم، يبني داود أوغلو طرحه حول سوريا على سبع مرتكزات: التناغم الثقافي-السياسي، إعادة التأهيل الاجتماعي، الاستقرار الجيوسياسي، الانتعاش الاقتصادي، الشرعية الدستورية، التماسك المؤسسي، والاندماج الإقليمي-العالمي. تهدف هذه العناصر مجتمعةً إلى دعم قيام سوريا ديمقراطية ومستقرة، يتم تحقيقها من خلال إنشاء جيش وطني شامل وهيكل حوكمة متوازن Good Governance. غير أن الدور التركي في تشكيل هذه الرؤية يتجاوز الاعتبارات الإنسانية أو الأيديولوجية، ليعكس مصالح أنقرة الجيوسياسية والأمنية بالدرجة الأولى؛ لا سيما فيما يتعلق بموضوع اللاجئين وموضوع المناطق العازلة وآلية العمل فيها؛ لا سيما وأن قضية عودة اللاجئين، التي يوليها داود أوغلو اهتماماً خاصاً، تواجه تحديات أمنية ولوجستية جسيمة. إذ يخشى العديد من اللاجئين السوريين من الاضطهاد أو عدم الاستقرار عند عودتهم، ومن دون ضمانات حقيقية تتعلق بالأمن وفرص الدخول إلى عمليات الانتاج الاقتصادية والإدماج السياسي، وبالتالي يجب أن تبقى العودة الطوعية مضمونة ومرعية وفق القوانين الإنسانية.

الأمن والعسكرة

تحافظ تركيا على وجود عسكري نشط في شمال سوريا، حيث تدعم فصائل “الجيش الوطني” وتعمل على تحييد الجماعات الكردية التي تعتبرها تهديداً. وعلى الرغم من خطاب داود أوغلو حول السيادة السورية والشمولية، فإن تحركات أنقرة _بما في ذلك التوغلات العسكرية وتأثيرها على هياكل الحكم في المناطق الخاضعة لسيطرتها_ تكشف عن نهج استراتيجي يهدف إلى تعزيز نفوذها في سوريا ما بعد الأسد، وعن تطلعات أنقرة نحو إرساء علاقات عسكرية إلى جانب العلاقات الدبلوماسية مع القيادة الجدية التي سارعت إلى زيارة أنقرة في خطواتها الأولى.

يشدد داود أوغلو في أطروحته على إنشاء جيش وطني سوري موحد، يدمج قوى المعارضة المسلحة التقليدية وعناصر من جيش نظام الأسد السابق؛ يتماشى هذا الطرح مع السياسة التركية الداعمة للفصائل العسكرية، لكنه يواجه تحديات كبيرة بسبب المشهد السياسي والعسكري السوري المجزأ والعقبات اللوجستية والإدارية المتعلقة بإعادة تأهيل ضباط من جيش نظام الأسد، وتسليمهم مناصب في جيش سوريا الجديد، مع تجاهل لفكرة العدالة الانتقالية وأسسها والاستفادة من البرغماتية العسكرية، بالإضافة إلى وجود عدد لا يستهان به من الضباط المنشقين الذين لم تبدأ تسوية مخصصة لهم حتى اليوم ويبقى وضعهم عائماً.

ويذهب داود أوغلو إلى أن تركيا يمكنها قيادة جهود الإعمار الاقتصادي والاندماج الإقليمي لسوريا مع تجاهل عقبات كبرى، تبدأ بكون المجتمع الدولي لا يزال منقسماً بشأن مستقبل سوريا بعد الأسد، وماهية الإدارة الجديدة ومدى التزامها بالإصلاحات المقترحة من الدول الأوروبية وصندوق النقد الدولي وغيرها، كما أن التحديات الاقتصادية التي تواجهها تركيا نفسها قد تعيق قدرتها على تحمل أعباء إعادة الإعمار. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأولويات الأمنية لأنقرة مثل مواجهة وحدات حماية الشعب الكردية والسيطرة على الحدود تعقد دورها كوسيط محايد في إعادة بناء سوريا، وتجعلها تسعى إلى حل مسألة الاكراد قبل أي تدخل في إصلاح البيت السوري.

القيود الإقليمية والدولية

لن يتحدد نفوذ تركيا في سوريا ما بعد الأسد بناءً على طموحاتها فحسب، بل أيضاً وفقاً لردود الفعل المتعلقة بالإحداثيات الجيوسياسية للقوى الإقليمية والدولية الأخرى؛ فمن المرجح أن تعارض كلٌّ من روسيا وإيران _ بصفتهما القوّتان الداعمتان الرئيسيتان لنظام الأسد المخلوع، أي إطار تركي لإعادة هيكلة النظام السياسي والعسكري في سوريا. تمتلك كل من إيران وروسيا مصالح كبيرة في سوريا على اعتبار أن سوريا كانت الواجهة لإيران أمام تحدي إسرائيل، ووجودها ضمن محور المقاومة مهم إلى حد كبير؛ من خلال العناصر التابعة لها والتي كانت إلى ما قبل 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، تستحوذ على عدد كبير من النقاط العسكرية، وتتحكم بالفرقة الرابعة بأكملها. أما بعد سقوط نظام الأسد فإنها أصبحت تنفذ عمليات على الحدود السورية اللبنانية وتهدد أمن الحدود، لا سيما بارتباط بعضها بقادة عمليات التهريب في المنطقة، بالإضافة إلى شبكاتها الاقتصادية والدينية التي تمنحها تأثيراً طويل الأمد في سوريا. ستجد تركيا صعوبة في تقليص الوجود الإيراني في سوريا، خاصة مع موقف موسكو غير الحاسم تجاه طهران، مما يجعل المواجهة التركية-الإيرانية في سوريا احتمالاً وارداً، الأمر الذي بدأ بالفعل عبر تنفيذ ضربات ضد عناصر من حزب الله على الحدود اللبنانية السورية في ريف حمص الغربي.

وبالنسبة لروسيا فوجود القواعد العسكرية في كل من اللاذقية وطرطوس مهم جداً كموطئ قدم على ساحل المتوسط والمياه الدافئة كحلم للإمبراطورية الروسية. فوجودها في الشرق الأوسط يسهل عليها مهام كثيرة أمام المعسكر الغربي المتوغل في المنطقة. رغم التنسيق بين أنقرة وموسكو في إدارة الوساطات الدبلوماسية والعمليات العسكرية خلال سنوات الثورة السورية، إلا أن العلاقة بينهما تتسم بمزيج من الشراكة والتنافس والتناحر، لا سيما وأن تركيا تبقى بشكل أو بآخر محسوبة على المعسكر الغربي بتحالفاتها العسكرية والاقتصادية. فبينما تسعى روسيا إلى الحفاظ على نفوذها الاستراتيجي عبر قواعدها العسكرية في سوريا، وضمان وساطتها لإدماج عناصر من النظام السابق في أي حكومة جديدة، ستعمل تركيا على تعزيز حضورها في المشهد السياسي والعسكري السوري، مستندة على ذلك بقوتها مع حلف الناتو، مما قد يخلق نقاط احتكاك مع موسكو وهو ما ليس بمصلحة روسيا كونها فقدت شرعية وجودها على أراضي سوريا بعد سقوط بشار الأسد الذي استنجد بها عام 2015، حين خسر حوالي 60 في المئة من الأرض السورية لصالح قوى المعارضة المسلحة.

لن تكون سوريا ما بعد الأسد تحت هيمنة قوة واحدة، بل ستظل ساحة تنافس إقليمي ودولي معقدة. وبالرغم من أن تركيا ستكون لاعباً رئيسياً، إلا أن نفوذها سيظل محكوماً بتوازن القوى مع روسيا وإيران والغرب، مما يجعل مستقبل سوريا مرهوناً بتفاهمات إقليمية ودولية أكثر منه بتحركات منفردة لأي طرف.

بينما يقدم داود أوغلو رؤية منظمة ومتفائلة لمستقبل سوريا بعد الأسد، إلا أنه يقلل من تعقيد الانقسامات الداخلية في البلاد، والتنافس الجيوسياسي حول مصيرها، والقيود التي تواجهها تركيا نفسها. وبدلاً من تبني دور المهندس الأساسي لتجديد سوريا، قد تجد أنقرة نفسها مضطرة إلى اتباع نهج أكثر تعددية، يعتمد على التعاون مع القوى الإقليمية والمؤسسات الدولية لضمان مستقبل مستدام وشامل ومستقر لسوريا.

المدن

لقراءة مقال  أحمد داود أوغلو اتبع الرابط التالية

إعادة بناء سورية من الثورة إلى التجديد

https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%A5%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF

————————-

كيف نبني جسور تواصل سوريّة سوريّة؟/ وفاء علوش

2025.02.24

منذ أربعة عشر عاماً لم تكن انطباعات السوريين وأفكارهم متطابقة بخصوص الثورة ضد نظام الأسد، فمنهم من شجع ومنهم من انخرط فيها ومنهم من اكتفى بالتأييد الضمني ومنهم من حاربها، وعلى الرغم من أن الأعم الأغلب من السوريين أبدى سعادة بالغة بخصوص تحرير سوريا وسقوط سفّاحها، إلا أن هناك نقاطاً خلافية بين السوريين أنفسهم حتى وإن اتفقوا على الاحتفال بزوال طغمة الاستبداد التي كانت حاكمة.

قد يبدو لمن ينظر من الخارج أنه من غير الصحّي الاختلاف بخصوص أمور ثانوية اليوم بعد التخلّص من حكم الاستبداد، لكن الواقع يخبرنا بأنه من غير الضروري أن تتطابق أفكارنا ورؤانا السياسية، بل وأكثر من ذلك يبدو الاختلاف صحياً وضرورياَ من أجل تحقيق الصورة الأمثل للبلاد وفق ما تمنيناه حين قامت الثورة.

اختلفت آراء السوريين ورؤاهم اليوم بخصوص تفاصيل معيشية وأفكار سياسية، غير أن المحور الأساسي فيها كان متعلقاً بالاحتياجات أكثر من أي عامل آخر، فاحتياجات السوريين في بلاد المهجر لا تشبه ولا تتقاطع مع احتياجات السوريين في الداخل ممن عانوا من انعدام مقومات الحياة الأسياسية من لوازم طاقة ولقمة عيش، ولا تشبه احتياجات الطرفين معاً احتياجات السوريين في المخيمات ممن لا يملكون مأوى أو عمل ويضطرون إلى تحمل ظروف الطبيعة القاسية.

في العام 1943، وضع العالم أبراهام ماسلو نظرية سُميت باسمه في تفسير احتياجات الإنسان، إذ يعد هرم ماسلو نموذجاً نفسياً لتفسير الاحتياجات وكيفية ترتيبها بشكل هرمي، ويُظهر أن هناك مجموعة من الاحتياجات التي يجب أن تُلبى بشكل تدريجي، بدءاً من الاحتياجات الأساسية وصولاً إلى الاحتياجات الأعلى ويتكون من خمس مستويات تتصدرها الاحتياجات الفيزيولوجية (الأساسية) ثم احتياجات الأمان ثم الاحتياجات الاجتماعية (الانتماء)، ثم تأتي بعدها الاحتياجات المعنوية مثل احتياجات التقدير (الاحترام) والاحتياجات الذاتية (تحقيق الذات).

تتلخّص الفكرة العامة بأنّ الإنسان يتدرج في احتياجاته درجة درجة، وأولى هذه الاحتياجات هي فيزيولوجية وغرائزية بحتة، قبل أن يرتقي في سلم الاحتياجات ليصل إلى المعنوية منها، وهو ما يوضح ببساطة أسباب اختلاف السوريين اليوم حول مفاهيم سياسة ومطالب معيشية.

لقد تأثرت الحياة الاجتماعية للسوريين بشكل كبير منذ عام 2011، لا يعني ذلك أننا كنا قبل ذلك مجتمعاً مثالياً على الإطلاق، ولكن يوضح عمق الشرخ الذي بات أكثر وضوحاً، إذ شهدت تلك الفترة وما بعدها تغييرات كبيرة في العلاقات الاجتماعية، والثقافية، والتركيبة الاجتماعية.

فقد تعرّض المجتمع السوري إلى تفكّك أسري مجتمعي بسبب الهجرة واللجوء، كما أن نزوح ملايين الأشخاص من مناطقهم الأصلية أدى إلى تدمير الروابط الاجتماعية المحلية، وتغير نمط الحياة اليومية بسبب غياب عامل الأمان والاضطرار إلى العيش في ظروف غير مستقرة، وغير جيدة اقتصادياً بسبب تراجع فرص العمل وزيادة مستويات الفقر.

اضطرت النساء إلى تحمّل المزيد من الأعباء، سواء من خلال العمل أو تسيير شؤون الأسرة في ظروف صعبة، وأصبحن يؤدين أدواراً قيادية في المجتمع المحلي، والأهم من ذلك هو ما حلّ بالسوريين من صدمات نفسية ناتجة عن الحرب مثل فقدان الأهل، العنف، والمشاهد المؤلمة التي تركت أثراً بالغاً عليهم، ما أثر على العلاقات الاجتماعية والقدرة على التواصل والتفاعل.

عاملٌ آخر أثر في رغبات السوريين اليوم هو انقطاع شريحة كبيرة من الأطفال السوريين عن التعليم، إذ كانت الأولوية للبقاء على قيد الحياة وتوفير الأمان، مما أثر على تطلعاتهم الاجتماعية والتعليمية.

إن مساعي السوريين اليوم تتأثر بشكل كبير بالظروف التي تمر بها البلاد والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت عنها، ويتربع على عرش هذه المساعي، استعادة الاستقرار الاقتصادي وتحقيق مستوى معيشي أفضل بعد سنوات من الدمار والفقر، والاستقرار الأسري والتمسك بالهوية الثقافية والدينية لتحقيق نمط اجتماعي مستقر ومرن للتعايش مع التغيرات الاجتماعية.

في درجة السلم التالية يأتي تحقيق الذات، إذ يسعى السوريون لتحقيق ذلك في مجالات مثل الأعمال، الفنون، والمجالات المهنية الأخرى، وهذا التوجه أصبح أكثر وضوحًا في المجتمعات السورية في المهجر لأن الحاجات الأساسية ليست مثار جدل وملباة سلفاً في الغالب.

تختلف أيضاً أولويات السوريين المعيشية بحسب الظروف المحلية والمناطق التي يعيشون فيها، فبالنسبة إلى الأسر النازحة، تبقى العودة إلى المناطق الأصلية أو الحياة في مناطق أكثر استقراراً هدفاً رئيسياً، خصوصاً بعد فترة طويلة من التهجير والنزوح.

في السياق نفسه وبعد سنوات من الحرب، يعاني العديد من السوريين من تأثيرات نفسية مثل القلق، والاكتئاب، والصدمات النفسية، ويحتاجون الحصول على الدعم النفسي والإرشاد الاجتماعي، وهو ما أصبح ذا أهمية متزايدة لتجاوز الآثار النفسية فالاحتياج النفسي لسوريي الداخل والخارج على حد سواء لا يقل أهمية عن الاحتياج الجسدي.

لقد تغيّرت حياة السوريين في الخارج بشكل ملحوظ بعد اللجوء أو الهجرة بسبب الحرب، وعلى الرغم من بعض التشابه مع السوريين في الداخل في بعض الأولويات، إلا أن نمط حياتهم يختلف بشكل كبير، فعلى الرغم من أن سوريي المهجر وجدوا الأمان مقارنة بالحالة الأمنية المضطربة في سوريا، ولكن ما يزال بعض السوريين في دول اللجوء مثل لبنان ومصر وتركيا يعانون من شعور بعدم الاستقرار بسبب التغيرات السياسية والاقتصادية في البلدان المضيفة أو بسبب وضعهم القانوني غير المستقر.

وإضافة إلى التحديات في بناء حياة اجتماعية مستقرة بالدول المضيفة بسبب التغيرات الثقافية، فقد يواجهون صعوبة في التأقلم مع المجتمعات الجديدة، خاصة فيما يتعلق بالعادات واللغة، ولكن على المقلب الآخر فقد أتيحت الفرصة للسوريين في الخارج لتطوير مهاراتهم الشخصية والمهنية من خلال التدريب والتعليم في بيئة أكثر استقراراً.

في حقيقة الأمر ليس من المحتم أن تكون مطالب السوريين في الداخل والخارج متطابقة بعد سقوط الأسد، على الرغم من وجود قواسم مشتركة، مثل الرغبة في العدالة والحرية وإعادة بناء سوريا، ولكن هناك اختلافات جوهرية ناتجة عن تجارب كل طرف وواقعه الحالي.

فالسوريون في الداخل يواجهون تحديات يومية تتعلق بالأمن، الاقتصاد، إعادة الإعمار، والخدمات الأساسية قد يكون تركيزهم أكثر على تحقيق الاستقرار، تأمين المعيشة، وإيجاد حلول عملية للدمار الذي لحق بالبلاد، ولديهم احتياجات ملحة تتعلق بإعادة بناء المؤسسات، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإيجاد فرص عمل.

أما السوريون في الخارج فهم يعيشون تجربة اللجوء أو الاغتراب، مما يجعلهم أكثر تركيزاً على قضايا مثل حق العودة، استعادة ممتلكاتهم، والمحاسبة على الجرائم التي دفعتهم للهجرة، ولديهم مجال أوسع للعمل السياسي والحقوقي، مما يجعلهم يميلون إلى مطالب أوسع تتعلق بإصلاح النظام السياسي بالكامل وضمان عدم تكرار الدكتاتورية.

يحتاج السوريون في الداخل إلى حلول اقتصادية سريعة، في حين يطالب الخارج بعدالة شاملة، لذلك لا بد من التوازن بين تحقيق الاستقرار وإجراء الإصلاحات السياسية، ويمكن لذلك تبني نموذج “العدالة المتدرجة” بحيث يطبق نموذج يعمل تحسين الظروف المعيشية بالتوازي مع عملية العدالة الانتقالية.

إن مجموع العوامل السابقة جلّها أو بعضها مجتمعة ومتفرقة، تخلق لدى السوريين احتياجات متباينة وتجعل الأولويات مختلفة تبعاً لتباين الاحتياجات، وهو ما يحتّم علينا نحن السوريون إدراكه ومحاولة تقريب الرؤى وردم الفجوات، وذلك بمنح الأولوية للفئات الأكثر تضرراً من أجل تهيئة قاعدة مشتركة تكون منطلقاً لأي بناء مستقبلي، إذ انه وعلى الرغم من اختلاف الأولويات فالسوريون لديهم مطالب مشتركة بخصوص إنشاء نظام سياسي يضمن الحقوق والحريات، ووجود آلية محاسبة للمتورطين في الجرائم من دون الانتقام بحيث يؤدي ذلك إلى المصالحة الوطنية، ما ينعكس على تحسين الوضع المعيشي وضمان الاستقرار الاقتصادي وخلق فرص عمل توفير بيئة آمنة وضمان حقوق العودة والتعويض.

وعلى أن مسألة الخلاف والاختلاف تتصدر المشهد اليوم فمردّ ذلك إلى امتلاك حرية التعبير التي حُرمنا منها ونحاول الاستمتاع بها قدر المستطاع ولا يعدّ ذلك مؤشراً سلبياً، فالفجوة بين رؤى السوريين اليوم تتعلق بالاحتياجات، أكثر مما تتعلق بالرأي السياسي، وكل ما يحصل في البلاد من جدل سياسي ونقاشات حادة، هو أمر صحي ويعني أننا سائرون باتجاه فضاء سياسي رحب، وبإمكاننا البناء فيه وعليه، غير أن الأمر غريب علينا حتى الآن.

تلفزيون سوريا

——————————

الأحزاب في سورية… موت سريري/ ميادة سفر

24 فبراير 2025

عرفت سورية عبر تاريخها الحديث أحزاباً وكتلاً سياسية كثيرة نشطت في فترات مختلفة، إلا أنّ قلّةً منها تمكّنت من الصمود والبقاء ومزاولة نشاطها في ظلّ القمع الذي مورس عليها من السلطات الحاكمة في كلّ مرحلة من مراحل تشكّل الدولة السورية، ولم يبقَ من تلك الأحزاب العريقة سوى ثلاثة، البعث العربي الاشتراكي والشيوعي والسوري القومي الاجتماعي، ومنعت أخيراً من مزاولة نشاطها السياسي وغيره في البلاد بقرار من الإدارة الجديدة. وإن كانت تلك الأحزاب موجودةً في الساحة، إلا أنها لم تكن سوى ديكور، وأداة يتحكّم بها رجال الحكم، بما يخدم مصالحهم وبقاءهم، فكانت الأحزاب السياسية في سورية في حالة موت سريري منذ استلام حزب البعث السلطة عام 1963 وتفرّده بالحكم.

شكّلت الفترة التي حكم فيها “البعث” في سورية المرحلة الأكثر ركوداً سياسياً في البلاد، إن لجهة تداول السلطة أو لجهة نشاط الأحزاب فيها، فبعد منع العديد من الأحزاب من ممارسة أنشطتها، أو حتى السماح لأخرى جديدة بالتشكيل، أعاد “البعث” الحاكم ضمّ بعضها إلى صفّه، ووضعها تحت وصايته، مشكّلاً ما أطلق عليه “الجبهة الوطنية التقدمية”. تلك الجبهة التي سيطرت على الحياة السياسية بزعامة حزب البعث، الذي شكّل الأغلبية الساحقة، نظراً إلى الطريقة التي اتبعها في قبول منتسبين جدد إلى صفوفه، لا سيّما بعد استلام حافظ الأسد الحكم، إذ أصبح أغلب الشعب السوري بعثياً من دون أن يعلم في أحيانٍ كثيرة، بينما بقيت قلّة قليلة من البعثيين الأوائل الذين آمنوا بمبادئه مخلصين له، لكنهم نأوا بأنفسهم عن السلطة بسبب معارضتهم السياسة التي انتهجها الحزب بقيادة الأسد، التي ستستمرّ مع الابن بشّار، الذي حاول مع انطلاق الحراك الشعبي في البلاد (2011) أن يظهر بمظهر الراغب في إيجاد بيئة سياسية ديمقراطية، فأصدر قانون الأحزاب الذي أتاح لبعضهم تشكيل أحزاب جديدة لم يتجاوز عدد أعضاء بعضها النسبة المطلوبة للتأسيس وأخذ الموافقة، ولم يكن لها أيُّ حضور يذكر في المجتمع السوري، ولا في الحياة البرلمانية أو الحكومية في البلاد، طوال السنوات الماضية.

تاريخياً، تصدّرت الكتلة الوطنية المشهد السياسي في سورية إبّان الاستقلال، وبدأت العمل على إدارة البلاد وتنظيمها، وأعطي وزير الداخلية بموجب المرسوم رقم 50 لعام 1946 حقّ ترخيص الأحزاب والجمعيات والنوادي وغيرها من التجمّعات، وحقّ مراقبتها والإشراف عليها، وسيستمرّ الحال على ما هو عليه، وبرزت أحزابٌ عديدة تراوح دورها وتأثيرها ونفوذها السياسي بين القوة والضعف، إلا أنّها ستتلقّى ضربةً قويةً في عهد الانقلاب الأول حين أمر حسني الزعيم بحلّ الأحزاب وإغلاق مكاتبها، لتعاود نشاطها بعد إطاحته، إذ تصدّرت جريدة النضال في ذلك الوقت الخبر الذي أُعلِن: “عادت الأحزاب السياسية في دمشق إلى سابق عهدها بعد أن فكّت الاختام الموجودة على دور تلك الأحزاب”. أمّا في عهد أديب الشيشكلي، فقد اعتبره المؤرّخون لتاريخ سورية الحديث أسوأ عهد مرّت به الأحزاب السورية، فأصدر أكثر من قرار بهدف تقييد نشاطها وشلّ فاعليتها، ويبدو أن هذا النهج سيستمرّ لاحقاً في عهد الوحدة عام 1958، حين صدر القانون رقم 2 لعام 1958، الذي حُلّت بموجبه الأحزاب والهيئات السياسية القائمة، وحظر تكوين أحزاب أو هيئات سياسية جديدة، ليأتي عهد الانفصال وحكم “البعث” 1963 إلى سقوطه 2024، حين ألغى امتياز الصحف والمجلات، ولم يسمح لأيٍّ من الأحزاب التقليدية التي كانت معروفةً، كحزب الشعب والحزب الوطني وغيرها، بممارسة نشاطها، بينما سُمِح للأحزاب التي تشكّلت بعد الانفصال ذات التوجّه الناصري، كحزبي الاتحاد الاشتراكي العربي والوحدويين الاشتراكيين، بمزاولة نشاطها، ولكن ضمن الجبهة الوطنية التقدّمية، التي سينضمّ إليها في وقت لاحق الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي، وبقيت كثير من الأحزاب محظورةً، لا سيّما ذات التوجّه الديني، كتنظيم الإخوان المسلمين الذي مُنِع، وأغلقت مكاتبه في أنحاء البلاد كافّة في عام 1952. في المقابل، تعرّض أعضاء حزب العمل الشيوعي للملاحقة والاعتقال والتنكيل، لا سيّما في فترة حكم “البعث” حيث قضى العديد منهم سنوات في السجون، وفُقِد بعض منهم أسوةً بكثيرين غيرهم من أبناء الشعب السوري.

النبش في تاريخ الأحزاب السورية يتمخض عنه كثير من التنظيمات والتكتلات والجمعيات، بعضها معروف، وبعضها الآخر لم يسمع به أحد، ويبقى حضورها وأثرها في الساحة السورية متوقّفاً على السلطة الحاكمة في البلاد، التي اعتادت منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا على السماح لتلك الأصوات التي تؤيّدها وتشدّ على يدها فقط، بينما يخضع المعارضون لأشكال القمع والتنكيل كافّة، لكنّ الحديث أو إلقاء الضوء على الأحزاب السياسية في سورية، وإن كانت تعاني من شتى الأمراض والعلل، فغايته التذكير أنّ بلادنا عايشت سنواتٍ من العمل السياسي، والنشاط الحزبي، ولديها من الكوادر والقدرات ما يمكّنها من تخطّي المرحلة الجديدة، والتأسيس لعهد جديد.

أكثر من خمسين عاماً من انعدام الحياة السياسية بمعناها الحقيقي، وانعدام الأحزاب، وبالتالي، الكتل البرلمانية التي تشكّل عماد السياسة، ذلك كلّه يُشكّل ويساهم في خلق وتزايد الفراغ الذي خلّفه سقوط نظام بشّار الأسد، ويعزّز من التخبّط الذي يعتري كثيراً من مفاصل الحياة في سورية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتأكيد البرلمانية، فضلاً عن أن القرار الذي اتخذته الإدارة الجديدة في البلاد بمنع الأحزاب التي انضوت تحت راية الجبهة الوطنية التقدّمية، وتلك التي نشطت في الفترة الماضية، من العمل أو النشاط. وسوف يعزّز هذا القرار الفراغ المشار إليه كما يبدو، مجحفاً بحقّ أحزابٍ كثيرة يزيد عمرها على عمر “البعث” الذي كان حاكماً للبلاد، ومن شأنها أن تسهم في النهوض بهذه المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سورية، فضلاً عن أن ذلك يشكّل إقصاءً ليس جديداً في تاريخ البلاد، إذ كثيراً ما تعرّضت الأحزاب السياسية في سورية، منذ الاستقلال وحتى اليوم، للتضييق والقمع في أحيانٍ كثيرة، وفقاً لأهواء السلطات الحاكمة وتوجّهاتها.

العربي الجديد

———————————-

تشييع نصرالله… تشييع “محور”/ إبراهيم حميدي

24 فبراير 2025

تضمن تشييع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله (وهاشم صفي الدين) في “الضاحية الجنوبية” لبيروت، كثيرا من الإشارات والرسائل الرمزية، ليكون، بمن حضر وكيف ومن غاب ولماذا، أكثر من تشييع قيادي أو مسؤول، وأقرب إلى طي مرحلة. هل هو تشييع “محور الممانعة” الذي تتزعمه إيران بعد الضربات والنكسات والاغتيالات التي تعرض لها؟

جاءت الجنازة بعد أيام من الذكرى العشرين لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، الذي حكمت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في عام 2022 على اثنين من أعضاء “الحزب” غيابيا بالسجن مدى الحياة بجرم “التآمر والتواطؤ بالقتل المتعمد” له.

الرمزية الثانية، أن “حزب الله” ومن ورائه إيران، لم يتمكنا من تنظيم تشييع أبرز قادة “الحزب” وأركان “المحور” ونقله من “المكان السري المؤقت” إلى المكان الدائم العلني، إلا بعد مرور خمسة أشهر على الاغتيال وبعد كثير من الوساطات والتفاهمات التي رعاها وسطاء مع إسرائيل. صحيح أن عشرات الآلاف جاءوا إلى ملعب مدينة كميل شمعون الرياضية بـ”الضاحية الجنوبية” معقل “الحزب”، حاملين صور نصرالله والرايات الصفراء، لكن الطائرات الإسرائيلية لم تغادر أجواء بيروت في تذكير لتفاهمات التشييع والواقع اللبناني الجديد.

وعليه، يصبح مفهوما أن لا يستطيع الأمين العام الحالي لـ”حزب الله” نعيم قاسم، حضور جنازة “الرفيق” و”المعلم”، بل بث كلمته من مكان غير معلوم للمشيعين عبر شاشات. وحذر من “تفسير صبرنا ضعفا”، وبشّر بأن “المقاومة باقية ومستمرة”، لكن الأهم أنه قال إن “الحزب” يدرك أن هناك “مرحلة جديدة” في لبنان، تتضمن أن “تتحمل الدولة اللبنانية مسؤولياتها” و”ندعم دور الجيش اللبناني ونحن إلى جانبه”.

ومن هنا تأتي أهمية الرسالة، التي قالها جوزيف عون، قائد الجيش اللبناني السابق والرئيس الحالي، إلى الوفد الإيراني الذي جاء وحيدا ومسلحا بممثلين من وكلاء إيران في الإقليم، للمشاركة في تشييع نصرالله، وهي أن “لبنان تعب من حروب الآخرين على أرضه”، وأنه “دفع ثمنا كبيرا دفاعا عن القضية الفلسطينية”.

واقع الحال، أن عون أصبح رئيسا بسبب ضعف “حزب الله” الذي لم يتمكن- بعد الضربات الكبيرة التي تعرض لها- من فرض إرادته على انتخاب الرئيس اللبناني أو تكليف رئيس الحكومة وتركيبة الوزارة الجديدة، ولم تتضمن مسودة بيان الحكومة أي إشارة تضفي الشرعية على سلاح “الحزب”، كما جرت العادة. ضعف “الحزب” وإيران و”المحور”، كان وراء قبول لبنان “وقف النار” مع إسرائيل الذي تضمن انتشار الجيش في الجنوب وسد معابر السلاح عبر حدود سوريا.

أهمية ما حصل في لبنان زادت بعد الزلزال السوري. فكلمات الرئيس عون، يتردد صداها على الحدود الشرقية التي كانت ممرا رئيسا للسلاح ومعبرا للإمداد الإيراني لـ”الحزب”، حيث إن الرئيس أحمد الشرع الذي تسلم الحكم بعد سقوط نظام بشار الأسد، كرر هو وكبار المسؤولين أن سوريا “تعبت من الحرب” أيضا، وتعبت من “حروب الآخرين”، وتريد أن تتفرغ لبناء النسيج الاجتماعي وتوحيد البلاد وإعمارها، وإقامة علاقات طبيعية متوازنة بين دمشق وبيروت لا تتضمن عبء الوصاية السورية في لبنان.

حسن نصرالله الذي حضر جنازة حافظ الأسد قبل ربع قرن وتلقت عائلته بعد اغتياله في سبتمبر/أيلول الماضي، برقية تعزية من بشار الأسد، شُيّع من دون أي حضور من ممثلي عائلة الأسد أو قادة “حماس” التي اغتالت إسرائيل قادة لها في إيران ولبنان وغزة.

لا شك أن هدف إيران و”حزب الله” من تنظيم الجنازة الشعبية لنصرالله، إظهار ما تبقى من قوة بعد أن خرج “الحزب” ضعيفا من حرب العام الماضي مع إسرائيل التي قتلت معظم قياداته وآلاف المقاتلين وفككت هيكليته وذخيرته وأغلقت ممرات سلاحه والبحث عن سردية “عافية”. لكن واقع الحال أن الجنازة أظهرت المرض الذي أصاب “المحور الإيراني”، فهو من دون الرئة السورية والذراع اللبنانية والأوكسجين الفلسطيني.

لا شك أن إيران تدرك حجم خسارتها في الإقليم ومعاني الجنازة، وتبحث في كيفية التعاطي مع الوضع الجديد الذي زاده وصول دونالد ترمب تعقيدا.

المجلة

———————————

الأدب السوري الذي رأى أبعد من السياسة/ بشير البكر

الإثنين 2025/02/24

ليس هناك ما هو أكثر ابتذالاً من التنظير من بُعد، وإعطاء الدروس من وراء زجاج المقهى. ومن يحاول تشخيص أسباب فشل اليسار العربي، في قراءة الوقع، يجد أن العطب يكمن في الهوة الواسعة الناجمة عن ذلك. لقد ركن الرفاق إلى امتلاكهم أدوات التحليل السليمة، وصدقوا أن ذلك يكفي لوحده، كي تأتي النتائج صحيحة. طبقوا ما علمتهم الكتب والمخابر، واعتمدوا على الأرقام والاحصائيات والمعطيات والأقوال المأثورة للقادة العِظام، الذين تتدلى لحاهم الطويلة من كتب الأيديولوجيات، وأصدروا أحكاماً قطعية ونهائية، في تشخيص أوضاع مجتمعات تتسم بالتعقيد، ولا شيء يجمعها بالنظريات المستوردة، التي تم وضعها لدراسة أحوال بلدان أخرى.

تبين أن الأدب كان أكثر موضوعية في تفكيك عقد الواقع، واستشراف المستقبل، من تنظيرات السياسيين، وبرامج الأحزاب اليسارية، وتلك مفارقة، تطفح بمرارة ما يضمره التاريخ من مكر للمغفلين، الذين لم تنزل عليهم نعمة الشك بالبديهيات. وهناك روايات سورية، وغير سورية، قدمت رؤى ذات حواس استشرافية للخراب، الذي كان يتشكل ليجتاح شرق المتوسط. تمتاز بأنها أكثر عمقاً وشمولاً، من برامج أحزاب سياسية، لم تنقصها الشجاعة في دخول مواجهات مع نظام آل الأسد، وقدمت تضحيات كثيرة، لكنها كانت على قدر عال من الدوغمائية، بحيث لم تترك إرثاً نافعاً، تستطيع أن تفهم من خلاله الأجيال مرحلة طويلة تاريخ بلدها، وتحولاته في القرن الأخير.

لا يمكن فهم الواقع السوري من دون قراءة قصص زكريا تامر، وسعيد حورانيه، وروايات حنا مينة، ومصطفى خليفة، وهاني الراهب، وفواز حداد، وعبد الرحمن منيف، وشهادة الشاعر فرج بيرقدار أمام المحكمة. وإذا حاكم القارئ هذه الأعمال وغيرها، على أنها نصوص أدبية، زادها الخيال، واعتمد على تحاليل الرفاق الماركسيين فقط، فإنه لن يصل إلى نتيجة مفيدة، وسيبقى ضائعاً، ولن يفهم الأسباب الذي أوصلت إلى البلد إلى ما هو عليه.

تقدم مجموعة قصص زكريا تامر “النمور في اليوم العاشر” رؤيا عن ترويض المجتمع، وكسر إرادته، من طريق استخدام مزيج من الأساليب، وسبقت في ذلك التحليل السياسي، الذي عجز عن إيجاد مفاتيح صالحة لفهم آليات القمع، الذي مارسه نظام الإبادة الأسدي، وقد كان المجال متاحا أمام الأحزاب، كي ترى الوضع من زوايا مختلفة، ولكنها اكتفت بالتحليل الكسول، وحين خرج من بين صفوفها مفكر نقدي مثل الياس مرقص، حاول تنوير الناس، وتصحيح المفاهيم، وتجاوز الطقوسية الحزبية، حاربته الأحزاب قاطبة، ونفته، وشنعت به على نحو فاق عسف أجهزة الأمن.

لم ينجح أحد من الرفاق اليساريين، في تحليل الزلزال السوري، الذي بدأ العام 2011، وتواصلت موجاته وارتداداته حتى اسقاط النظام المافيا الأسدية، الطائفي، الاجرامي، الذي استخدم كل الأسلحة الفتاكة لقهر الناس، من اغتصاب النساء والرجال، حتى الكيماوي لقتل الأطفال في الغوطة العام 2013، والبراميل المتفجرة لإبادة أكبر عدد من البشر وتدمير العمران. فاجأ الحدث اليسار، ولم يأت على مقاس حساباته وتحليلاته، ولذلك ظل يركض خلفه، لا يستطيع اللحاق، حتى صفعه سقوط النظام عن طريق قوى لم تكن لا على البال ولا على الخاطر، كما يقول المثل الشهير، وهو منذ ذلك اليوم إما مراقب صامت، أو ناقد عبثي، باستثناء بعض الذين حاولوا وضع الحدث في نصابه مثل برهان غليون، كونه عالم اجتماع، وصاحب تجربة نقدية وضع عصارتها في كتابه “عطب الذات”.

هناك من يفتي في تطورات الوضع في السويداء، والساحل السوري، والجزيرة السورية التي تضم ثلاث محافظات، وهو جالس في دمشق أو خارج سوريا، ولم يسبق له أن عرف هذه المناطق، أو زارها. يطلق أحكاماً، ويقدم الوصفات والحلول، ويعطي الدروس في الأخلاق والوطنية، وهو لا يدرك الأوضاع الراهنة، والتطورات التي حصلت فيها. يكتفي بما معروف من معلومات، يقوم بخلطها وطبخها، وتقديم وجبة يعتقد أنها سوف تشبع الناس، وتنهي الجوع إلى حلول للتعقيدات التي يحفل بها الواقع.

هناك ملاحظة مهمة جديرة بالاهتمام وهي، أن هذا الخطاب المسبق الصنع، المعلب، المستريح، المتعالي على الواقع، المسترخي، المستكين إلى اوهامه وخزعبلاته، يترك آثاراً واضحة على وسائل الإعلام التي تابعت الحدث السوري في الشهرين الأخيرين، وباستثناء قلة منها، فإن الغالبية تعتمد على محللين حسب الطلب، لتقديم قراءات جاهزة، وتتجنب البحث عن خبراء فعليين، يمكن أن يشرحوا التطورات بتجرد، وعلى نحو يحترم عقول الناس. فلم نقرأ حتى الآن سوى المقابلات التقليدية السهلة، أو نشاهد على الشاشات غير التحقيقات الباردة، ويغيب العمل الإعلامي الذي يرى بعين استقصائية التحولات السريعة في سوريا.

المدن

————————-

سوريا: تحديات تواجه هدوء الشرع أبرزها تهديد العودة جنوباً

الإثنين 2025/02/24

تساءلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن قدرة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في الحفاظ على الهدوء الهش على الأرض في سوريا، مع وجود تهديدات من قبل فلول النظام وداعميه السابقين، إلى جانب تنظيم “داعش”، معتبرةً أن نزع سلاح الفصائل المنتشرة في البلاد، وحصرها في قوات وطنية، لاسيما قائد “اللواء الثامن” أحمد العودة، تعد ركيزة أساسية في بناء الدولة.

هدوء هش

وقالت الصحيفة في تقرير، إن جيش النظام السوري تلاشى مع الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، والذي كان يضم 200 ألف جندي، عدا عن قوات الشرطة وعناصر المخابرات المخفية، وأصبحت الفصائل التي حاربت نظام الأسد، تمسك بمفاتيح استقرار وأمن البلاد الهش في المستقبل.

ورأت أن على هذه الفصائل التعامل مع تهديدات محتملة من فلول النظام المخلوع وتنظيم “داعش”، لكنها اعتبرت أن استعدادها لنزع السلاح والاندماج في قوات وطنية، تحت قيادة مركزية، سيحدد مدى قدرة القادة الجدد في سوريا على بناء ركيزة أساسية للدولة الجديدة، تشمل مؤسسة أمنية محترفة ومنسجمة.

وقالت كبيرة المستشارين في مجموعة الأزمات الدولية، دارين خليفة، إن “الاقتصاد والأمن سيكونان السؤالين الأساسيين ولا يمكنهم المضي قدماً مع هذا الخليط العشوائي من القوى الأمنية المتناثرة في كل مكان. يحتاجون إلى استعادة السلطة والسيادة”.

وأضافت خليفة أن الواجب على الحكّام الجدد، “كبح جماح الفصائل وإظهار إحساس بالسيطرة لا يمتلكونه حالياً خارج المدن المركزية ودمشق. وإلا، سيكون هناك العديد من نقاط التوتر التي يمكن استغلالها”، مشيرةً إلى أن هذه المهمة تقع على عاتق هيئة تحرير الشام، بزعامة أحمد الشرع، الذي أصبح فعلياً القائد الأعلى لسوريا.

لا تعترض أي من الفصائل المتمردة على هيمنة هيئة تحرير الشام. لكن مدى سيطرة الجماعة خارج دمشق ومعقلها في محافظة إدلب شمال غرب البلاد متغير، إذ تعاني مواردها من ضغوط شديدة بعد تحولها من حاكم إقليمي متمرد، إلى قائد لدولة دمرتها الحرب وتغمرها الأسلحة، بحسب الصحيفة.

تحدي توحيد الفصائل

من جهته، رأى المحلل السوري مالك العبدة، أن التحدي الأكبر ليس أن الفصائل لا تقبل بالشرع، أو لا يتلقون الأوامر من دمشق، بل يكمن بالتوسط بين الفصائل المسلحة حتى تتمكن من تلقي الأوامر من أشخاص، كانوا يعتبرونهم حتى وقت قريب قطّاع طرقٍ ولصوص.

وأكبر وأعقد الفصائل التي يجب على تحرير الشام التعامل معها هي قوات “قسد”، المسيطرة على منطقة حكم ذاتي في شمال شرق سوريا، والمدعومة من الولايات المتحدة.

 ويوجد كذلك في الشمال، الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، والذي تحتفظ فيه الأخيرة، طالما أنها ترى في الأكراد تهديداً عند حدودها. وتصر أنقرة على حل “قسد”، وتهدّد بعمل عسكري، بينما تستمر المعارك هناك بين الجيش والمقاتلين الأكراد.

واكد نائب محافظ حلب علي حنورة، أن منح “قسد” حقوقاً خاصة، هو أمر غير مقبول، لأن ذلك سيفتح الباب لمطالب مماثلة من الشيعة والعلويين.

وفي هذا السياق، اشارت خليفة إلى أن التعامل مع الفصائل المتنافسة سيستغرق وقتاً طويلاً والكثير من المفاوضات، باستخدام سياسة الترغيب والترهيب، مشيرةً إلى أن الشرع سيفرض سيطرته بالقوة، في مرحلة ما.

نموذج العراق وليبيا

وثمة خطر آخر في الجنوب السوري، يتمثل بأحمد العودة، إذ يخشى البعض من أنه قد يسعى للحصول على دعم أجنبي ويصبح “خليفة حفتر سوريا”، في إشارة إلى القائد العسكري الليبي المدعوم من الإمارات وروسيا ومصر، والذي أشعل الحرب الأهلية في ليبيا.

لكن آخرين يرون أن هذا التهديد مبالغ فيه. وقال أحد قادة العودة إن هدف الأخير الوحيد، هو “الحفاظ على حقوق جميع أبناء الجنوب. هذا مطلبه ومطلبنا أيضاً”. لكنه لمّح إلى تردد فصيله في الخضوع لقوة أخرى بعد التضحيات التي قدّمها. وأضاف “لقد خاضوا حرباً ليلاً ونهاراً، خلال أصعب الفترات، في البرد القارس والحر الشديد، لم يتركوا حاجزاً بدون حراسة، ولا معركة بدون قتال”. وتابع: “والآن، أن تأتي وتقول لهم: شكراً جزيلاً على خدمتكم، لكننا سنتولى الأمور من هنا؟ هذا لن ينجح”.

لكن ناصر، القيادي في الجيش الوطني، أكد أنه لن يسمح على الإطلاق بتكرار النموذج العراق والليبي، قائلاً: “نحن نسيطر على الجيش. سنعمل مع هيئة تحرير الشام لإصلاح هذا البلد… لن نسمح لأي أحد بخلق الفوضى”.

تمرّد مسلح

ورأت الصحيفة أن الخوف يكمن في قيام الجنود الساخطين على الإدارة الجديدة، مثل مدينة حمص، بالبدء في تنظيم أنفسهم ضد الإدارة، وربما يتواصلون مع الموالين للأسد المخلوع، الذين فروا إلى الجبال المحيطة بالمناطق العلوية في الساحل.

وقال قيادي في الجيش الوطني السوري إن هناك “احتمال أن يتمكنوا من التنظيم بسرعة”، موضحاً أن هناك روابط أشخاص بالساحل وبقيادات النظام خارج البلاد، ويمكنهم التسبب في مشاكل.

حتى الآن، لا يوجد دليل واضح على تمرد مسلّح، لكن الخطر أن يسعى داعمو الأسد، مثل إيران وحزب الله اللبناني، إلى زعزعة استقرار سوريا من خلال دعم الموالين لهم. وهناك أيضاً احتمال أن يصبح الجنود السابقون أكثر تنظيماً، حسب الصحيفة.

وقال كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، جيروم دريفون، إن ذلك “ليس تهديداً استراتيجياً فورياً، لكنه أمر يلوح في الأفق ويمكن أن يتحول إلى شيء أكبر”.

———————

سوريا: تحديات تواجه هدوء الشرع أبرزها تهديد العودة جنوباً

الإثنين 2025/02/24

تساءلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن قدرة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في الحفاظ على الهدوء الهش على الأرض في سوريا، مع وجود تهديدات من قبل فلول النظام وداعميه السابقين، إلى جانب تنظيم “داعش”، معتبرةً أن نزع سلاح الفصائل المنتشرة في البلاد، وحصرها في قوات وطنية، لاسيما قائد “اللواء الثامن” أحمد العودة، تعد ركيزة أساسية في بناء الدولة.

هدوء هش

وقالت الصحيفة في تقرير، إن جيش النظام السوري تلاشى مع الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، والذي كان يضم 200 ألف جندي، عدا عن قوات الشرطة وعناصر المخابرات المخفية، وأصبحت الفصائل التي حاربت نظام الأسد، تمسك بمفاتيح استقرار وأمن البلاد الهش في المستقبل.

ورأت أن على هذه الفصائل التعامل مع تهديدات محتملة من فلول النظام المخلوع وتنظيم “داعش”، لكنها اعتبرت أن استعدادها لنزع السلاح والاندماج في قوات وطنية، تحت قيادة مركزية، سيحدد مدى قدرة القادة الجدد في سوريا على بناء ركيزة أساسية للدولة الجديدة، تشمل مؤسسة أمنية محترفة ومنسجمة.

وقالت كبيرة المستشارين في مجموعة الأزمات الدولية، دارين خليفة، إن “الاقتصاد والأمن سيكونان السؤالين الأساسيين ولا يمكنهم المضي قدماً مع هذا الخليط العشوائي من القوى الأمنية المتناثرة في كل مكان. يحتاجون إلى استعادة السلطة والسيادة”.

وأضافت خليفة أن الواجب على الحكّام الجدد، “كبح جماح الفصائل وإظهار إحساس بالسيطرة لا يمتلكونه حالياً خارج المدن المركزية ودمشق. وإلا، سيكون هناك العديد من نقاط التوتر التي يمكن استغلالها”، مشيرةً إلى أن هذه المهمة تقع على عاتق هيئة تحرير الشام، بزعامة أحمد الشرع، الذي أصبح فعلياً القائد الأعلى لسوريا.

لا تعترض أي من الفصائل المتمردة على هيمنة هيئة تحرير الشام. لكن مدى سيطرة الجماعة خارج دمشق ومعقلها في محافظة إدلب شمال غرب البلاد متغير، إذ تعاني مواردها من ضغوط شديدة بعد تحولها من حاكم إقليمي متمرد، إلى قائد لدولة دمرتها الحرب وتغمرها الأسلحة، بحسب الصحيفة.

تحدي توحيد الفصائل

من جهته، رأى المحلل السوري مالك العبدة، أن التحدي الأكبر ليس أن الفصائل لا تقبل بالشرع، أو لا يتلقون الأوامر من دمشق، بل يكمن بالتوسط بين الفصائل المسلحة حتى تتمكن من تلقي الأوامر من أشخاص، كانوا يعتبرونهم حتى وقت قريب قطّاع طرقٍ ولصوص.

وأكبر وأعقد الفصائل التي يجب على تحرير الشام التعامل معها هي قوات “قسد”، المسيطرة على منطقة حكم ذاتي في شمال شرق سوريا، والمدعومة من الولايات المتحدة.

 ويوجد كذلك في الشمال، الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، والذي تحتفظ فيه الأخيرة، طالما أنها ترى في الأكراد تهديداً عند حدودها. وتصر أنقرة على حل “قسد”، وتهدّد بعمل عسكري، بينما تستمر المعارك هناك بين الجيش والمقاتلين الأكراد.

واكد نائب محافظ حلب علي حنورة، أن منح “قسد” حقوقاً خاصة، هو أمر غير مقبول، لأن ذلك سيفتح الباب لمطالب مماثلة من الشيعة والعلويين.

وفي هذا السياق، اشارت خليفة إلى أن التعامل مع الفصائل المتنافسة سيستغرق وقتاً طويلاً والكثير من المفاوضات، باستخدام سياسة الترغيب والترهيب، مشيرةً إلى أن الشرع سيفرض سيطرته بالقوة، في مرحلة ما.

نموذج العراق وليبيا

وثمة خطر آخر في الجنوب السوري، يتمثل بأحمد العودة، إذ يخشى البعض من أنه قد يسعى للحصول على دعم أجنبي ويصبح “خليفة حفتر سوريا”، في إشارة إلى القائد العسكري الليبي المدعوم من الإمارات وروسيا ومصر، والذي أشعل الحرب الأهلية في ليبيا.

لكن آخرين يرون أن هذا التهديد مبالغ فيه. وقال أحد قادة العودة إن هدف الأخير الوحيد، هو “الحفاظ على حقوق جميع أبناء الجنوب. هذا مطلبه ومطلبنا أيضاً”. لكنه لمّح إلى تردد فصيله في الخضوع لقوة أخرى بعد التضحيات التي قدّمها. وأضاف “لقد خاضوا حرباً ليلاً ونهاراً، خلال أصعب الفترات، في البرد القارس والحر الشديد، لم يتركوا حاجزاً بدون حراسة، ولا معركة بدون قتال”. وتابع: “والآن، أن تأتي وتقول لهم: شكراً جزيلاً على خدمتكم، لكننا سنتولى الأمور من هنا؟ هذا لن ينجح”.

لكن ناصر، القيادي في الجيش الوطني، أكد أنه لن يسمح على الإطلاق بتكرار النموذج العراق والليبي، قائلاً: “نحن نسيطر على الجيش. سنعمل مع هيئة تحرير الشام لإصلاح هذا البلد… لن نسمح لأي أحد بخلق الفوضى”.

تمرّد مسلح

ورأت الصحيفة أن الخوف يكمن في قيام الجنود الساخطين على الإدارة الجديدة، مثل مدينة حمص، بالبدء في تنظيم أنفسهم ضد الإدارة، وربما يتواصلون مع الموالين للأسد المخلوع، الذين فروا إلى الجبال المحيطة بالمناطق العلوية في الساحل.

وقال قيادي في الجيش الوطني السوري إن هناك “احتمال أن يتمكنوا من التنظيم بسرعة”، موضحاً أن هناك روابط أشخاص بالساحل وبقيادات النظام خارج البلاد، ويمكنهم التسبب في مشاكل.

حتى الآن، لا يوجد دليل واضح على تمرد مسلّح، لكن الخطر أن يسعى داعمو الأسد، مثل إيران وحزب الله اللبناني، إلى زعزعة استقرار سوريا من خلال دعم الموالين لهم. وهناك أيضاً احتمال أن يصبح الجنود السابقون أكثر تنظيماً، حسب الصحيفة.

وقال كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، جيروم دريفون، إن ذلك “ليس تهديداً استراتيجياً فورياً، لكنه أمر يلوح في الأفق ويمكن أن يتحول إلى شيء أكبر”.

———————

مؤتمر الحوار الوطني: توصيات وآليات لضمان الانتقال السياسي والاستقرار الاجتماعي/ رضوان زيادة

2025.02.24

الحوار هو آلية أساسية من آليات حل النزاعات في المجتمعات المنقسمة Divided Societies، ونقصد بالمجتمعات المنقسمة تلك المجتمعات التي تمتلك خطوط صراع طائفي أو عرقي أو إثني أو سياسي كما هو الحال في سوريا، حيث أن هناك نزاعا فاعلا كان أم خامداً بين الطوائف أو بين الإثنيات وعلى رأسهم الكرد، وبين القوى السياسية المختلفة.

ولذلك يلعب الحوار كآلية سياسية – اجتماعية دورا محوريا في نزع فتيل هذه الصراعات الخامدة ويمنعها من التحول إلى صراعات علنية سواء أكانت مسلحة أم تهديدا سياسيا عبر المظاهرات في الشارع، مع خطورة هذا الشكل من الاحتجاجات التي من شأنها أن تقود إلى انقسامات اجتماعية أكثر حدة ثم تأخذ أشكالا أكثر عنفا وراديكالية من مثل حمل السلاح ضد الحكومة الشرعية التي يجب أن تحتكر العنف ولكن بنفس الوقت يجب أن يكون لها القدرة على استيعاب المكونات السياسية والاجتماعية المختلفة كي لا تدخل البلد في اضطرابات تعيق عملية الاستقرار وتؤخر عملية البناء السياسي والديمقراطي والتنموي.

تشكيل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني:

أولاً: البعد السياسي للجنة

منذ اليوم الأول لتشكيل اللجنة قوبلت بارتياح سياسي ومجتمعي كبير، ولعب الإعلام دورا رئيسيا في حسن تلقي هذه اللجنة ودورها وأعضائها، فمن المهم التركيز على “وطنية” اللجنة ودورها، كي تكون قادرة على القيام بمهماتها ودورها على أحسن وجه وتحقيق الغاية التي يهدف منها مؤتمر الحوار.

لذلك من المهم التركيز على الدور السياسي الوطني الذي تقوم به اللجنة وليس البعد التقني فقط (يعني استلام قوائم الأسماء واقتراح أسماء الأعضاء) فكما ذكرنا أعلاه الدور السياسي لفكرة الحوار المنظم الذي تقوده الإدارة السورية الجديدة الآن أهم بكثير من مجرد عقد مؤتمر للحوار، فهذا الحوار يجب أن يكون حرا ومفتوحا يشارك به كل السوريين على اختلاف طوائفهم وعرقياتهم وميولهم السياسية والاجتماعية وهو ما يحقق الهدف السياسي المنوط من الحوار وهو تخفيف ونزع فتيل الصراعات السياسية الخامدة خلال المرحلة الانتقالية وإشعار السوريين أن الإدارة السياسية الجديدة ترغب بالاستماع إليهم جميعا، وأنها تهتم بآرائهم ويهمها مشاركتهم جميعا في المرحلة الانتقالية بهدف المشاركة جميعا في تحقيق الاستقرار والتنمية. وهو ما يعني تثبيت شعار الرئيس الأميركي الشهير أبراهام لينكولن:

shall have a new birth of freedom and that government of the people, by the people, for the people,

ويعني”أن الحكومة الجديدة تمثل ولادة حرية جديدة لحكومة من الشعب، تُشكل من قبل الشعب وتهدف إلى خدمة الشعب” .

ثانيا: التركيز على العملية الإجرائية أهم من التركيز على المخرجات

عملية الحوار تهدف إلى أكبر مشاركة مجتمعية ممكنة ولذلك يجب أن لا يتم اختصارها أو تقصيرها، بالعكس تماما كلما طالت عملية الحوار المجتمعية كلما حققت الأهداف السياسية المنوط بها، لذلك يجب أن يستمر عمل اللجنة لمدة ثلاث شهور على الأقل، بهدف التأكد من شمول عملية الحوار السياسي والاجتماعي كل المناطق الجغرافية السورية وشمول كل الفئات العمرية السورية أيضا، فكما يقال في مبدأ شمولية العملية الانتقالية أن

“The Process is More Important than the Result”

وتعني أن العملية هي أكثر أهمية من النتيجة ذاتها، والمقصود بهذا المبدأ التأسيس لفكرة الشمولية في المراحل الانتقالية، وهو ما يعني أن شعور المشاركة في عملية الحوار يعطي نتائج سياسية أكثر أهمية من مخرجات العملية ذاتها وهي عقد مؤتمر الحوار.

ثالثا: إدارة عملية الحوار

كما شرحنا عملية الحوار يجب أن تستمر ثلاث شهور على الأقل ويجب أن تحظى بالدعم السياسي والإعلامي الكافي والضروري من أجل تحقيق أهدافها السياسية والتي تخدم الإدارة السياسية الجديدة أكثر بكثير من الاستعجال بعقد المؤتمر بسرعة مما يخلق انطباعا سلبيا أن “كل الأمور مطبوخة وجاهزة”، فيجب إعطاء عملية الحوار وقتها الضروري والكافي من أجل تحقيق أهدافها السياسية المتمثلة في الرسالة التي تريد الإدارة الجديدة أن ترسلها للشعب السوري، وهي أن فترة التجاهل والإهمال التي سادت خلال عقود الأسد انتهت، والآن وظيفة الإدارة الجديدة هي الاستماع والمشاركة وبذلك يتحقق الهدف المنوط من إطلاق عملية الحوار كلها.

وبنفس الوقت تساعد عملية الحوار في تقريب وجهات النظر السياسية المختلفة بين السوريين مما يسهل التوافق حول القضايا السياسية الخلافية التي ستظهر فيما بعد خاصة في مرحلة كتابة الدستور الدائم، والانتخابات القادمة وهوية الدولة وغيرها من ترتيبات المرحلة الانتقالية، فالحوار المبكر في هذه القضايا يسهل عملية بناء التوافق السياسي ويخفف من الاستقطاب الذي من شأنه أن يقود إلى نزاع سياسي انقسامات مجتمعية تفتت العملية الانتقالية ويدمرها.

رابعاً: ترتيبات العملية الانتقالية

يجب أن لا يكون هناك أية علاقة أبدا أو ربط بين عملية الحوار التي يمكن أن تستمر لثلاثة شهور وتنتهي بعقد مؤتمر للحوار الوطني وبين مسار تشكيل المجلس التشريعي الذي تشكله اللجنة التحضيرية والذي لم يعلن عن أسمائها بعد، فهما مساران متوازيان كما أعلن السيد رئيس الجمهورية في خطابه الثاني بعد خطاب النصر، والذي أعلن عن تشكيل لجنتين تحضيريتيين واحدة للتحضير لمؤتمر الحوار الوطني والثانية لتشكيل الهيئة التشريعية التي يفترض أن يصدر عنها الإعلان الدستوري المؤقت، ولا يجب أن يصدر هذا الإعلان عن مؤتمر الحوار الوطني.

دستوريا وقانونيا من يصدر الإعلان الدستوري هي الجهة التشريعية، فهي الجهة المخولة بإصدار الإعلان الدستوري وسنه كي يملأ الفراغ الدستوري أولا، وثانيا كي نكمل العمود الثاني في مؤسسات الدولة الحديثة وهي السلطة التشريعية التي من واجباتها إصدار الإعلان الدستوري وإقراره ومن ثم أداء الرئيس السوري لقسم الجمهورية أمامها، وتوضيح العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وإصدار قانون بتشكيل مجلس القضاء الأعلى بحيث تستكمل السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهي الجهة المخولة أيضا بالمصادقة على موازنة الدولة ومنح الثقة للحكومة الانتقالية القادمة في الأول من شهر آذار القادم.

خامساً: التقاطع بين مؤتمر الحوار والمجلس التشريعي

المرور بخطوات التسلسل الانتقالي كما ذكرت أعلاه بالغ الأهمية لضمان دستورانية العملية الانتقالية وبنفس الوقت ضمان سيرها في الخط السياسي الذي يمنحها الشرعية القانونية والداخلية والدولية، وبنفس الوقت العبور بنفس الخطوات التي ذكرها السيد رئيس الجمهورية، ولذلك إذا استمرت عملية الحوار لمدة ثلاثة أشهر وانتهت بعقد مؤتمر الحوار الوطني في نهاية شهر أيار القادم، فإن هذا المؤتمر سيقدم توصيات للمجلس التشريعي الذي يفترض أن يتم تشكيله خلال هذه المدة ويقوم بإصدار الإعلان الدستوري المؤقت، ولذلك يقدم هذا المؤتمر توصياته إلى المجلس التشريعي الذي يدرسها بعناية ويقر بعضها أو كلها وفقا للنقاشات داخله ووفقا للمصلحة الوطنية العليا.

————————–

أبو القعقاع وضريبة اللعب بالنار/ حسام جزماتي

2025.02.24

لموت هذا الشيخ الحلبي الشاب المثير للجدل موعدان؛ أشهرهما بالطبع هو يوم اغتياله، بعدما ألقى خطبة الجمعة في جامع “الإيمان” بحلب، في 28 أيلول 2007، لكن أولهما هو الأحد في 23 آذار 2003، بعد يومين من بدء الهجوم الأميركي على العراق.

ففي هذا التاريخ عاد أبو القعقاع من أحد أسفاره الغامضة خارج البلاد، مباشرة إلى جامع “العلاء بن الحضرمي” الذي كان مركز دعوته، ليلتقي بأتباعه في ما أسماه مهرجان “يا آساد الشام انتفضوا”.

لكن “الآساد” المتوفزين يومئذ تلقّوا من شيخهم صدمة حادة حين أعلن أنه يفتي بعدم جواز السفر للجهاد في العراق! موضحاً، بعد مقدمة طويلة جداً لكنها غير متعثرة، أنه لن يستجيب للهياج والانفعال والحماس فيُسهم في دفع الشباب إلى “محرقة” أعدتها لهم أميركا هناك، موجهاً الشبان العشرينيين الذين كانوا حاضرين إلى أنّ الجهاد ليس فزعة عشوائية بل طريق طويل من الإعداد الذي ينبغي أن يسلكوه بعد وضع “برنامج العمل وتأطير الخطة”، قبل أن يصلوا إلى مرحلة القتال التي كانوا يتحرقون لها.

وكان ذلك كلاماً شديد الغرابة من شيخ تشكّلت سمعته العامة من الخطب الشعبوية أساساً، وحفل كلامه بالتحريض على الجهاد، وتكونت مفرداته من الدماء والأشلاء وحومة الوغى والزئير والذبح والرايات والبنادق والساحات، وشجّع تلاميذه على إجراء تدريبات رياضية قتالية في الجامع وتصويرها ونشرها.

ولد محمود قول آغاسي، الذي سيُعرف بلقب أبي القعقاع نسبة إلى ابنه البكر (بالإضافة إلى سيف الله والخنساء)، في قرية الغوز بريف حلب الشمالي، من أصول كردية لم تترك أثراً في تكوينه، وقد هاجرت أسرته إلى حي “الصاخور” الشعبي في مدينة حلب حيث نشأ.

درس في الثانوية الشرعية الرسمية (الخسروفية) حيث عُرف بنشاطه في “اتحاد شبيبة الثورة” وصلته بـ”حزب البعث”، وهما أمران كان طلاب تلك المدرسة يتجنبونهما في العادة.

وتابع دراسته في كلية الشريعة بجامعة دمشق، حيث أقام في غرفة بأحد الجوامع كانت متاحة للطلاب غير ذوي اليسار، وبعدما أدّى الخدمة العسكرية الإلزامية التحق بمديرية الأوقاف في حلب، وتنقل خطيباً في بعض الجوامع قبل أن ينطلق في مشروعه الخاص.

اتسم الشاب النحيل، جميل المحيا، بالطموح الشديد، واكتسب من خطباء مدينته أسلوباً مؤثراً كان سلاحه الرئيسي، وأضاف إلى ذلك قراءات كثيرة متناثرة في أدبيات التيار الإسلامي التقط منها أشعاراً تحريضية ونزعة نهضوية وحسّاً إصلاحياً وأفقاً عالمياً يطل على “جراح الأمة” في بلاد لم يسمع بها جمهوره من قبل، كبورما وكشمير والشيشان، فضلاً عن فلسطين وأفغانستان والعراق بطبيعة الحال.

في تلك السنوات، التي بدأت بانتفاضة الأقصى عام 2000، ثم بأحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وأخيراً بارتفاع الصوت الأميركي متأهباً لغزو العراق؛ وجد عدد متزايد من الشبان أنفسهم منشدّين، في كل يوم جمعة، للذهاب إلى جامع “العلاء…” في “الصاخور” ليسمعوا من خطيبه الجريء كلاماً ينفض عن أنفسهم وقع رتابة منابر الشيوخ التقليديين.

في الواقع كان الشيخ محمود، في سعيه إلى إثبات حضوره وتشكيل جماعة خاصة به؛ قد تعرض للشكوك المتكررة والاستدعاءات المعتادة من قبل أفرع المخابرات، لكن ذكاءه أسعفه، بعد تجارب عديدة، إلى استنتاج أن “النظام” ليس صلداً كما يبدو، وأن “الأمن” أجهزة متنافسة لا تتشارك المعلومات بل تترك بينها شقوقاً يمكن النفاذ منها، وأن الجهاز نفسه مكوّن من ضباط مشغولين متشاكسين، ومن صف ضباط قليلي الذكاء يؤدون مهامهم بروتينية ليتفرغوا لقضاء مصالحهم الخاصة.

وفي غمرة ذلك كله، ولا سيما على وقع التناحر بين شعبتي الأمن السياسي والمخابرات العسكرية، قرّر الشيخ الشاب أن يفتح صفحة جديدة مع الجهاز الأخير، عنوانها حسن النية والشفافية بين أصحاب اللحى وذوي الرتب، أو بين رجال الأمن وأهل الإيمان، على حد تعبيره.

كان ذلك طريقاً خاصاً وخطراً بطبيعة الحال، وكانت ضريبته البديهية الأولى هي الاتهام بالعمالة، كما شاع بالفعل عن أبي القعقاع الذي ربما رأى أنه يستطيع درء الشبهة عن نفسه بعدم تقديم أي معلومات شخصية عن أحد، تاركاً ذلك لمندوبي الأمن، الذين كان يدعوهم بطلاقة إلى حضور مجالسه في جو من الوضوح “تحت الشمس”، وتزويدهم بتسجيلات لها حين يتغيبون لمشاغلهم أو كسلهم إن رغبوا في معرفة الحديث.

بل إن ما تبيّن بعد الثورة من أن مدير مكتبه أحمد حيدر، رئيس مجموعة “غرباء الشام” الإعلامية التي أنشأها لنشر خطبه ودروسه في سيديات، سيعمل لاحقاً مراسلاً حربياً في صفوف النظام، يرجّح بقوة أن حيدر كان ضمانة فرع المخابرات العسكرية للاطلاع على نشاطات المجموعة وأفرادها عن قرب، وبعلم الشيخ الذي كان يبسط حمايته على تلاميذه طالما أنهم في خطه العام، من دون مسؤوليته عما قد ينشأ بينهم من مجموعات سرية أو ما يفعله بعضهم بعد أن يتجاوز مرحلة أبي القعقاع إلى درجة أعلى من الجهادية.

والحال أن سوء الفهم جعل تصنيف الشيخ في الأذهان ينتمي إلى فضاء السلفية الجهادية، وقد لعب هو نفسه على هذا الوتر، بعد مرحلته الفلسطينية، حين انتقل إلى زيّ أسامة بن لادن وقائد الشيشان خطّاب بعد أحداث برجي التجارة.

والواقع أن قراءة دقيقة في محاور خطابه توضح أن احتسابه على منهج السلفية الحركية (تيار الصحوة) أقرب إلى الحقيقة، خاصة بعد الخطوط، ولا سيما المالية، التي نسجها مع رموز هذا التيار من مشايخ سعوديين، ثم مع اتهاماته الصريحة لتنظيم “القاعدة” بالمشاركة، مع الاحتلال الأميركي، في صناعة “محرقة” الشباب الإسلامي في العراق، وانتقال الجماعة البنلادنية من محاربة الأميركان إلى التحريض على تنفيذ عمليات ضد “الحكومات الوطنية” برأيه.

بمجرد الترجمة إلى مفردات إسلامية يتضح أن خطاب أبي القعقاع كان متوافقاً مع الخطاب “الوطني” في عهد بشار الأسد، فقد كان تركيزه الأساسي على القدس ورمزه الأول الأقصى.

وحين وسّع الدائرة لتشمل الأميركان قال إن الجهاد ضدهم يمكن أن يتم بوسائل عديدة؛ كالدعاء والإعلام والمال والإغاثة، من دون قتالهم ما لم يدخلوا إلى بلدنا، وهناك مؤشرات على أن هذا كان توجه المخابرات العسكرية في تلك السنوات، بخلاف تشجيع الأمن السياسي وإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) للشباب على التصدي للأميركان في العراق.

سيتيح لنا انكشاف وثائق أجهزة المخابرات السورية، بعد سقوط النظام، فرصة عظيمة لتفحص بعض الفرضيات، لكن ريثما يتم ذلك بعد تنظيم هذه المواد وطرحها لاستخدام الباحثين والمؤرخين، فإنه يبدو أن تياراً في النظام أراد من أبي القعقاع استقطاب جماعة إسلامية سورية مقاوِمة منضبطة، على غرار تجربة “حزب الله” في لبنان و”حماس” في فلسطين.

ومن جهته أراد الشيخ، شديد الحيوية، غطاء يتحرك تحته ريثما يقوى عوده ويستقل بجماعته عن الهيمنة، ولعل في رفضه ذهاب أتباعه إلى العراق حرصاً على رصيده من التبعثر في معركة لم يعدّ لها ولا يستطيع السيطرة عليها.

كان هذا أعقد من أن يكون علنياً ويُفهم بوضوح كاف، ولذلك صُدم جمهور جامع العلاء حين سمعوا كلام شيخهم وانطلقوا، فرادى وجماعات، ليعبروا الحدود من دون إذنه أو انتظار إعداده.

وكانت تلك بداية نهاية أبي القعقاع الذي شاهد انفضاض أكثرهم من حوله، ثم استطاعت جهات أمنية، منافسة لمن تبناه، إقالته من الخطابة، فانتقل إلى دمشق حيث عاش سنوات قلقة مترفة قصرت فيها لحيته وتغيّر لباسه من النمط الأفغاني والبزة العسكرية إلى الطقم الغربي وربطة العنق.

في عام 2006، تعرّض أبو القعقاع لمحنة عندما انطلقت مجموعة يافعين من عربين بريف دمشق، حاملين بعض خطبه ودروسه على سيديات، وحاولوا اقتحام مبنى التلفزيون لبثها ظانين أنها كفيلة بإنهاض الشعب لمجرد أن يشاهدها.

ويبدو أن جهات أمنية مناوئة أرادت وقتئذ تحطيم أبي القعقاع، وأن تثبت للقيادة أن الضبط المباشر لمن حوله لا يكفي لأنّ تأثيره وصل إلى بيئات لا يعرفها ولا يملك السيطرة عليها، فأوعزت للتلفزيون ولوكالة الأنباء الحكومية بالتركيز على صوره على أغلفة السيديات.

    وبدلاً من خطبه النارية اشتهرت له هنا خطبة ألقاها بمناسبة “تجديد البيعة” لبشار الأسد بعنوان “زفرات بين يد القائد”، يطالبه فيها بالسير في طريق الإصلاحات ومحاربة الفساد..

لكن “الدكتور”، كما صار يطلب من مقربيه أن يطلقوا عليه، أعاد ترتيب أوراقه في حلة جديدة تنويرية تشجع على الإسلام الحضاري وتعايش الأديان، وعاد إلى حلب فاستلم جامع “الإيمان” في حي “حلب الجديدة” الثري، وتغيّر جمهوره تماماً إلى كهول بدناء أثرياء من التجار والصناعيين والمسؤولين المحليين.

وبدلاً من خطبه النارية اشتهرت له هنا خطبة ألقاها بمناسبة “تجديد البيعة” لبشار الأسد بعنوان “زفرات بين يد القائد”، يطالبه فيها بالسير في طريق الإصلاحات ومحاربة الفساد، مما كان سقفاً مقبولاً جداً في سوق النقد.

لكن طلقة من الماضي لاحقته حين جاء شابان حلبيان، عائدان من العراق حيث أعلنت الأوساط الجهادية تخوينها للشيخ ودعت إلى قتله، فأطلق أحدهما عليه النار بمساعدة من الثاني، في حادثة عدّها كثير من المحللين “غامضة” ورجّحوا أن تكون دليلاً على تخلّص النظام من أحد عملائه بعد أن “انتهى دوره”، في حين عرف معتقلو سجن صيدنايا الحقيقة ببساطة حين وصل إليهم الفاعلان؛ أحمد رجب كسارة الذي تم إعدامه، وبسام زعيرباني الذي حُكم بالسجن المؤبد وصار مصدر زملائه لمعرفة الحكاية.

تلفزيون سوريا

———————–

حمص المدينة ومتلازمة “مهاوش”/ مالك داغستاني

2025.02.24

“لو متُّ اليوم، لمتُّ من الفرح”، قال الشيخ الحمصي المعروف محمود دالاتي، حين تصادف لي أن تناولت معه فنجاناً من القهوة في بيت أحد الأصدقاء، رحتُ بعدها، من دون أن أنسى نسبة الاقتباس إليه، أكرّر كلما قابلت أحداً، جملة الشيخ التي سحرتني متبنياً إياها وكأنني قائلها.

ثم أشرح بعدها مازحاً، أنني سوف أكون، مرحليّاً على الأقلّ، من أتباع الشيخ فيما يطرحه من دعوات عقلانية للتعايش والأخوّة ورأب الصدوع في مدينته، بهدف الوصول إلى سوريا جديدة تخسِف بكل ما أرساه الأسد من شروخ اجتماعية وعرقية وطائفية.

قبلها، كان المهندس بسام جمعة، وهو صديق شخصي، من رفاق سجن صيدنايا، حيث قضى سنوات طويلة من عمره هناك، قد كتب على صفحته ما يشبه رسالة اعتذار باسم عموم الطائفة العلوية، أقلّه عن الصمت على جرائم النظام تجاه السُنَّة.

انتشرت رسالته انتشاراً واسعاً، مع ترحيب لدى المنتمين للطائفة السنية، وبشكل أقل كثيراً لدى المنتمين للطائفة العلوية، ولو كانوا من رفاق تجربته السياسية وزملاء السجن، حيث استنكر معظمهم لا منطقية هذا الاعتذار، فكيف للسجين الضحية أن يعتذر! وهو اعتراض له وجاهته طبعاً.

كان أمر تأييد رسالة المهندس جمعة أو استنكارها مفهوماً بالنسبة لي، انطلاقاً من السؤال الأهم: هل على أبرياء الطائفة العلوية الاعتذار عن جرائم لم يرتكبوها؟ من جهتي لم أُتعب نفسي بتفكيك منطق الرسالة، واكتفيتُ بفهمها كمحاولة بسيطة أو نداء للتقارب ورأب الصدع، مع إهمال مُتعمّد للإجابة عن السؤال السابق، صادرة عن رجل ذكي، يمتلك فِطرة سليمة، ويعرف تماماً ما يريد، وكان ملفتاً لي أن يشارك الرجل على صفحته مقطعاُ مصور لخطبة الشيخ الدالاتي أحد أيام الجمعة، مع وصفه للشيخ بأنه من أهم رجالات المدينة.

عندما ذكرت للشيخ أن صديقاً علوياً شارك خطبته، بدا عليه الاهتمام بل والتأثر، ربما لإحساسه بأن عمله اليومي الدؤوب على الضفتين بدأ يؤتي ثماره، وربما لأنه وجد شريكاً جديداً من الطرف الآخر، يتعالى مثله على الجراح الشخصية، ويحاول البناء على أنقاض بلدٍ هدّمه عن آخره، نظام الأسدين الأب والابن خلال عقود.

في مصادفة أخرى، زرت رفقة صديق منزلاً محترقاً في حي جورة الشيّاح المُدمَّر بالكامل تقريباً، يعود المنزل لعائلة “الكِن”، ومن يستعيد الأيام الأولى للثورة سيذكر اسم “بلال الكِن” الذي فقد حياته في مواجهات مع قوات النظام في حي باب الدريب، بدايات شهر أيلول عام 2011، قد لا أكون مخطئاً إن قلت أن “الكن” كان أول من حمل السلاح في مدينة حمص، وربما في كامل سوريا خلال الثورة السورية.

خرج بلال الكن من بيته، نهايات آذار عام 2011، وأطلق النار من سلاح شخصي، على استعراضات “شبيحة الأسد” الذين جابوا أحياء المدينة بسياراتهم وهتافاتهم الطائفية، في استعراض للقوة اعتبرته المدينة يومها، نوعاً من الإذلال المتعمد، ليغدو الكِن على الفور بطلاً أسطورياً شجاعاً في عموم المدينة المعارضة، وشيطاناً إرهابياً طائفياً في الأحياء الموالية، حيث وُصف هناك بأنه سلَفيّ، الأمر الذي اعتُبر بمنزلة نكتة في ضفة المدينة الأخرى، فتندّر كثيرون على سلفيّة رجل لم يُعرَف عنه يوماً أية علاقة بالالتزام الديني المتشدد.

هل كان الكِنّ طائفياَ؟ ليس لدي معرفة دقيقة بالرجل، ولكني أكاد أجزم أنه كذلك حتى ولو لم يكن متديّناً، مثله كمثل “مهاوش”، ولكن مَن هو مهاوش هذا؟ إنه مقاتل من أبناء عشائر المحافظة، خسر بيته وكثيراً من أهله، ونزح عن مدينته إلى الشمال قبل سنوات، ليعود إليها مع المحررين.

لن أدخل بتفاصيل كيف وأين أدلى مهاوش بتصريحه البسيط والاستراتيجي الحاسم التالي: “لن ينصلح حال هذا البلد إلّا بإبادة جميع العلويين”! وسأكتفي بالقول: إن المصابين بمتلازمة مهاوش ليسوا قلّةً في المدينة، إن جاز لي أن أصف الأمر بأنه “متلازمة”.

وهو أيضأ أمر مفهوم بالنسبة لي، لمعرفتي المعقولة بالحالة الطائفية المُحتقنة التي أرساها النظام في البلاد.

يرى سكان المدينة، أن مدينتهم وخصوصاً مؤسساتها ودوائرها الرسمية باتت، خلال سنوات قليلة بعد وصول الأسد الأب للسلطة، محتلّة بالكامل من أولئك الغرباء الوافدين من الريف العلوي، فحازوا معظم المناصب المفصلية، وحتى الوظائف العادية في المؤسسات، فبدا الأمر وكأنه نوع من الاستئثار الطائفي الجائر، والسيطرة على الريعية الاقتصادية للدولة.

هل أتحدث بشيء من الوضوح الفجّ؟ نعم أقصد ذلك، مقتنعاً بأن أي نوع من التكاذب الساذج لن يحل المشكلة الطائفية في سوريا.

علينا أن نتفهم دوافع مهاوش الانتقامية، ومخاوف العلوي من “متلازمة مهاوش”، ولن يحل هذا الأمر سوى أصوات تعلم حجم وعمق المشكلة، تشبه ما يقوم به صديقي بسام والشيخ الدالاتي، أصواتٌ لا تقفز فوق الأزمة العميقة بعبارات ساذجة، بل تحاول اجتراح أساليب ذكية ومُبتكرة وغير تقليدية، لمعالجة شرخ بليغ شَطَر سوريا من أقصاها إلى أدناها.

تلفزيون سوريا

———————————–

أمراض الحوار بين السوريين – تجربة شخصية/ نورجان سرغاية

24 شباط/فبراير ,2025

تنويه:

كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “تعزيز ثقافة الحوار”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.

وهذا المقال يتعلق بالحوارات التي تجريها المنصات الحوارية منذ انطلاق الثورة، ولا علاقة له به الحوار الوطني الذي أطلقته الحكومة.

رئيس التحرير

يكتسي الحوار بين السوريين أهميّة استثنائية في الوقت الراهن، حيث تتطلب المرحلة الانتقالية التي انطلقت بقوة، بُعَيد سقوط النظام، حوارًا مكثفًا جديًّا بين السوريين على كل المستويات وفي كل المجالات.

وللحوار شروطه وآلياته وآدابه التي تجب مراعاتها، حتى يكون منتجًا، وإلا فإننا نكون أمام مجرد تزجية للوقت، وبالتالي نخسر فرصة المشاركة في صنع الانتقال المنشود، وفرصة رسم ملامح سورية الجديدة المنشودة.

لقد مُنع السوريون من الحوار الحقيقي على مدى ستة عقود، ورغم إدراكهم الشديد لأهميته، ورغم محاولاتهم العديدة للحوار زمن الثورة، فإنهم ظلّوا أسيرين لثقافةٍ وعاداتٍ منعتهم من تحقّق حوار بناء منتج وتراكمي ومؤثر.

وباعتباري من أصحاب الخبرة والتجربة الطويلة في الحوار بين السوريين، بحكم مشاركتي في تنظيم وإدارة عدد كبير من الفعاليات التي تطرح الحوار كوسيلة أساسية للتفاهم[2]، رأيتُ أن من المفيد نقل تجربتي وملاحظاتي النقدية على الحوار بين السوريين، في العقد الأخير على الأقل، لعلّها تساعد في تجاوز بعض السلبيات، وتمكين السوريين من إقامة حوارات ناضجة ومفيدة.

يركز القسم الأول في هذا المقال على العيوب التي تعتري حوارات السوريين في كلّ مراحلها، بدءًا باختيار الموضوعات والمشاركين، مرورًا بالدعوة والتنظيم، ثم إدارة العملية الحوارية، وصولًا إلى المخرجات. ويركز القسم الثاني على الحلول والمقترحات. والتركيز على العيوب والسلبيات لا يعني عدم وجود إيجابيات، إنما الغرض هو الفائدة.

القسم الأول: عيوب وسلبيات أنشطة الحوار السورية

أولًا – عيوب إدارية ومنهجية

    غياب العمل المؤسسي: تغيب ثقافةالعمل المؤسسي عن معظم المنصات الحوارية، وتسيطر العقلية الفردية، فأغلب المنصات الحوارية تدار من قبل أفرادٍ، أصحاب المنصة، يقررون في كل كبيرة وصغيرة. ولا يغير من طبيعة الأمر وجود آخرين، بصورة مستشارين أو مساعدين إداريين، فالمستشارون لا يُستشارون، والمساعدون للتنفيذ فقط، وبالنتيجة لا شيء يمكن أن يمرّ إذا كان مخالفًا لرأي صاحب المنتدى.

    غياب الإدارة العلمية، ويتبدى ذلك بشكل خاص في:

    غياب الرؤية والأهداف والخطط والبرامج؛ فكل شيء مرتجل وابن اللحظة والظرف والحدث.

    غياب القناعة والجدية؛ فالقائمون على المنتديات غير مهتمين بمسألة الجدوى، بقدر اهتمامهم ببقاء المنتدى مواظبًا على حضوره، فيكتفون بطرح عناوين جذابة نسبيًا، وأسماء مشهورة، ولا يعيرون أي اهتمام لإعداد أوراق مرجعية، أو تلخيص مخرجات تلك الندوات.

    غياب المراجعة الدورية وتقييم النتائج؛ فالمنصّات لا تُجري أي مراجعات نقدية بعد كل ندوة، أو على فترات زمنية محددة، لمحاولة تقييم النتائج وتقييم المحاضرين والإدارة، وتحديد الأخطاء ونقاط الخلل، ثم التعديل والتصحيح إذا استوجب الأمر. فالمراجعة مبدأ رئيس من مبادئ الإدارة الناجحة، وهي تُعتمد كمدخلات للمراجعة، وأيضًا المراجعة الصحيحة غير ممكنة بغياب الأهداف والخطط من جانب، وبغياب المعلومات الراجعة من أعضاء المنتدى ومن الجمهور ومن المحاضرين.

    غياب التوثيق، باستثناء الفيديو الذي يرفع على اليوتيوب، لا شيء يكتب أو يوثق حول اللقاءات الحوارية، وينتهي كل شيء بانتهاء اللقاء.

    كل ما ورد أعلاه يعني غياب التراكم، وانقطاع الجهود وضياعها، فينتهي كلّ شيء بانتهاء الندوة، ولا يهتم أحد بالبناء على النتائج ومتابعتها.

    غياب التنسيق بين المنتديات: فرغم ما بذل من جهود لتحقيق الحد الأدنى من التنسيق بين عمل المنتديات، فإن ذلك لم يحصل، ولا حتى بالحد الأدنى، فقد تعقد عدة ندوات في نفس التوقيت (السبت مثلًا) وقد تطرح نفس المواضيع في أكثر من ندوة، وقد تتم دعوة نفس المحاضرين.. إضافة إلى أن نسبة كبيرة من الحضور مشتركون بين عدد من المنتديات..

ثانيًا – عيوب في بيئة الحوار:

تأثرت بيئة الحوار بين السوريين سلبًا بعدة عوامل، منها:

    الانقسامات والتصدعات بين الجماعات السورية، على خلفية انتماءاتهم الدينية والقومية والسياسية والمناطقية.

    الخوف من سلطات الأمر الواقع، بالنسبة للسوريين المقيمين في الداخل أو المرتبطين معه بصورة أو بأخرى.

    الخوف من الجمهور والحاضنة الشعبية التي ينتمي إليها المتحاور، والرغبة في إرضائهم أو تجنب استفزازهم، فالجمهور يقيم محرقة لمن يخرج عن ثقافته السائدة.

وقد انعكس كلّ هذا على أداء كثير من المتحاورين، وعلى قدرتهم على التعبير عن آرائهم الحقيقية، وعلى ردود أفعالهم تجاه باقي المحاورين المختلفين في الموقف والرأي.

ثالثًا: عيوب في ثقافة الحوار لدى السوريين:

ثمة ضعف كبير في ثقافة الحوار لدى السوريين، يتبدّى ذلك في مظاهر عديدة، نشير إلى بعضها:

    التشبث بالرأي والموقف، وكأنه الحقيقة، وعدم الاستعداد للاستماع المصغي للآخرين، وتلقي أفكارهم بعقل منفتح، رغم التحسن الشكلي الملحوظ على صعيد الالتزام بآداب الحوار، من حيث الألفاظ المستخدمة وعدم المقاطعة وضبط النفس[3].

    الانحياز والتعصب لفكرة، لجماعة، لطائفة، لأيديولوجيا.. ما يعرقل التواصل ويمنع تبادل الأفكار.

    التوجس من الآخرين: ثمة شك بما يضمره الآخرون وبنواياهم الحقيقية، فالعربي يشكّ في نوايا الكردي الانفصالية، والكردي يشك في نوايا العربي في الهيمنة، والإسلامي يشكّ في نوايا العلماني في النيل من الدين، والعلماني يشك في نوايا الإسلامي في الاستئثار بالسلطة وأسلمة الدولة، والريبة من الطوائف والأقليات عمومًا… هذا التوجس من الآخرين يُقيم جدارًا بين المتحاورين يصعب تجاوزه.

    الإنصات الشكلي: يبدو للمراقب أن الحضور ينصتون للمتحدث ويتلقفون كلامه بعناية، لكن سرعان ما يتضح أنه مجرد استماع لا يرقى إلى مستوى الإنصات، وليس ثمة حرص على التقاط ما يقال بعقل مفتوح، بل فقط تحضير لما سيقولون، بغض النظر عما يسمعون.

    التثاقف وإبراز القدرات: يلاحظ حرص خاص من السوريين عمومًا على التثاقف، وإبراز القدرات وسعة الاطلاع والمعرفة، واستدعاء التاريخ، واستدعاء الأسماء المشهورة من كتاب وفلاسفة وسياسيين، ما يؤدي إلى الابتعاد عن الموضوع والإطالة وتشتيت المستمع..

    الإطالة والخروج عن الموضوع: يندر أن تجد بين السوريين من يلتزم بالوقت المحدد له، أو يلتزم بالموضوع المطروح. فتجد الإدارة نفسها بين خيارين كلاهما سيئ، إما الصرامة مع المتحدث أو عدم التدخل.

    الاستهتار وعدم التحضير: غالبًا ما يأتي المشاركون في الحوار إلى الندوات أو جلسات الحوار دون أي تحضير أو اهتمام، وكأنها أمسية للتسلية والدردشة مع الأصحاب.

القسم الثاني – المقترحات والحلول

يمكننا فقط الحديث عن مقترحات وحلول تخصّ عيوب الإدارة فقط، أما ما يخص عيوب بيئة الحوار أو عيوب الحضور، فأمر معقّد وواسع، ويحتاج إلى جهود مؤسسية جبارة وإلى سنوات.. لكن من شأن معالجة عيوب الإدارة أن تخفف كثيرًا من آثار العيوب الخاصة ببيئة الحوار وثقافته.

ويمكن معالجة عيوب الإدارة بكفاءة، بمجرد توفر الرغبة والقناعة والإرادة لدى القائمين على المنتديات، ويمكن إجمال تلك المعالجات تحت عنوانين رئيسين: المأسسة والإدارة العلمية، نضيف إليهما موضوع التنسيق بين المنتديات المختلفة لتكتمل الصورة حول ما يمكن عمله:

    مأسسة عمل المنتديات: بمعنى استبدال العقلية الفردية التي تتحكم في المنتديات بالعقلية المؤسساتية، فيكون هناك مجلس إدارة منتخب بشكل دوري، وقرار جماعي، ونظام داخلي، وآليات لاتخاذ القرار وحل الخلافات..

    اعتماد الإدارة العلمية: وتعني باختصار:

    أن تكون للمنتدى أهداف واضحة يسعى للوصول إليها.

    أن يضع الخطط والبرامج التي تساعد في تحقيق الأهداف، فيحدد العناوين المناسبة والأوقات المناسبة والمدعوين المناسبين..

    أن يتم إعداد أوراق خلفية مرجعية للموضوع، توزع على المحاضرين والحضور قبل وقت كاف من أجل التحضير والاستعداد.

    أن يهتمّ مدير الجلسة بالتحضير الجيّد لاستيعاب الموضوع، وأن يكون قادرًا على ضبط الوقت وإعادة المتحدث إلى الموضوع، ومنع التجاوزات.

    أن يصدر تقرير يلخّص أهم مخرجات الحوار، وينشر على أوسع نطاق.

    أن يتم استطلاع رأي المشاركين والجمهور على فترات دورية لمعرفة الأثر والملاحظات.

    أن تجري مراجعات دورية، كل ثلاثة أشهر، مثلًا، يجري فيها تقييم المرحلة السابقة اعتمادًا على المعلومات الراجعة، وإعادة النظر والتصحيح إذا لزم الأمر.

    التنسيق والتعاون بين المنتديات: وهذا من شأنه أن يحقق فوائد كثيرة نذكر منها:

    الاستفادة من ميزات العمل الجماعي الواسع، وتكاتف الجهود لتغطية مواضيع متفق عليها، والوصول إلى جمهور واسع هو جمهور جميع المنتديات.

    منع التضارب في المواعيد، وخسارة جزء من المشاركين وجزء من الجمهور لهذا السبب.

    منع التكرار في المواضيع وفي المحاضرين.

    تبادل الأدوار وتوزيع العمل.

    تبادل التجارب والخبرات.

    إمكانية تطوير العمل ودعم مشاريع مشتركة.

والتنسيق والتعاون لا يعني الاندماج في جسم واحد، ولا إضعاف إدارة المنتديات، إنما إدارة المصالح المشتركة وتحقيق أكبر فائدة لجمهور السوريين.

خلاصة:

من خلال نشاطي العام ومشاركتي الواسعة في إدارة الحوارات، سواء في القاعات في بريطانيا أو في الفضاء الإلكتروني، أستطيع القول إن الحوارات الناجحة هي الحوارات المخططة التي يتم تنظيمها بعناية ومسؤولية، فتحقق نسبة وازنة من أهدافها، وهذا -مع الأسف- غير محقق لدينا للأسباب المذكورة أعلاه. لكن تجاوز هذا الواقع ليس أمرًا صعبًا، فالمأسسة مع توسّل أدوات الإدارة العلمية في العمل تصبح أمرًا واقعًا بمجرد توفر القناعة والإرادة وتغليب المصلحة العامة على الرغبات الذاتية.

أختم بالقول إن نشاط المنتديات الحوارية يكتسب أهمية خاصة في مجتمعنا، ويلعب دورًا استثنائيًا في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة والمفصلية، بسبب غياب الإعلام الحرّ والمسؤول، وغياب الأحزاب والحياة السياسية، وحاجة السوريين إلى التوعية، وحاجتهم إلى الاجتماع مجددًا تحت سقف وطن واحد، بعد أن تضافر الطغيان الأسدي مع الصراع العنيف مع التخلف الاجتماعي الموروث على تمزيقهم.

[2] أشارك وسطيًا بجلستي حوار شهريًّا، سواء في التنسيق وإدارة الندوات في صالة المنتدى العربي للتعدد الثقافي في بريطانيا، أو في عدد من مؤسسات المجتمع المدني والرعاية الاجتماعية. خلال أزمة كورونا، تعدى نشاطنا القاعات في لندن، وكثفت مؤسسات المجتمع المدني في بريطانيا برامجها الحوارية الافتراضية وتقديم العون لجماعات وأفراد من أوساط مدنية وحقوقية وثقافية وفنية ممن يرغبون بعقد اجتماع، أو إقامة ندوة، أو مؤتمر، أو جلسة حوار، وسطيًّا ما لا يقل عن فعالية واحدة على الأقل في الأسبوع.

[3] ثمة ملاحظة مهمّة بهذا الخصوص، هي أن نفس الأشخاص الذين يشاركون في ندوات حوار مشتركة مع أجانب يتصرفون من حيث الانضباط واحترام الأصول بشكل أفضل بكثير من تصرّفهم في الندوات التي تضمّ أقرانهم من السوريين. حيث يسهبون هناك ويختصرون هنا، يستأذنون مدير الحوار هناك، ويقاطعون المتحدث هنا. هذا يُشير بوضوح إلى أننا نعي الضوابط، ولكن نحتاج إلى الالتزام بها، وهنا يأتي دور الإدارة بتنظيم عملية الحوار وفقًا لآلية معتمدة دون المجاملة ومعاملة الجميع بالتساوي.

—————————-

لماذا لست مدعواًة إلى المؤتمر؟/ سميرة المسالمة

تحديث 24 شباط 2025

هل تشغلك فكرة أنك لست على قائمة المدعوين؟ فماذا لو نظرنا إلى مسألة تلقي الدعوة إلى المؤتمر من زاوية الاحتمالات والمنطق، بدلاً من تفسيرها بمعايير شخصية أو اجتماعية؟ بهذه الحال، نجد أن اختيار 1500 شخص من أصل 25 مليوناً، يمنح كل فرد فرصة تبلغ 1 من 16,667 أي (واحد من كل ستة عشر ألفًا وستمئة وسبعة وستين) أو 0.006% أي (ستة من كل مئة ألف). وهي نسبة ضئيلة للغاية. ومع ذلك، من الطبيعي أن يشعر البعض بالإحباط أو التساؤل عن سبب عدم تلقيهم دعوة. لكن من المهم ألا نخلط بين الاختيار وأهميتنا الشخصية أو المجتمعية.

الاختيار لحضور مثل هذه الفعاليات ليس مرتبطًا بمدى شهرة الفرد أو تأثيره في مجتمعه، بقدر ما هو مرتبط بتقييم اللجنة المسؤولة عن الدعوات لهذا التأثير. هذه اللجنة لديها معاييرها وأهدافها التي تسعى لتحقيقها من خلال انتقاء الحاضرين، وغالبًا ما يتم الاختيار بناءً على مدى تطابق الشخص مع الرؤية العامة للمؤتمر، ومدى إسهامه المحتمل في تحقيق النتائج المرجوة. ولذلك، فإن عدم تلقي الدعوة لا يعني الإقصاء أو التقليل من القيمة، بل يعني ببساطة أن الاختيار تم وفقًا لاعتبارات تتعلق بالحدث نفسه وليس بالأفراد بشكل شخصي.

من المهم أيضًا ألا نعتبر الحصول على الدعوة بحد ذاته هو الهدف الأساسي، فالدعوة مجرد وسيلة لتحقيق غاية أكبر. الجوهر الحقيقي يكمن في طبيعة المؤتمر ذاته، وفي ماهية القرارات التي يمكن اتخاذها داخله، وليس في الأسماء التي تجلس على الطاولات. كثير من المؤتمرات تخرج بمجرد توصيات لا يتم تنفيذها، بينما الأساس في أي اجتماع ناجح هو امتلاك الحاضرين القدرة الفعلية على اتخاذ قرارات تُترجم إلى أفعال ملموسة. لذلك، لا يجب أن يكون الانشغال بمن دُعي أو لم يُدعَ هو المحور الأساسي للنقاش، بل ما إذا كان المؤتمر نفسه يمتلك القدرة الحقيقية على إحداث التغيير المطلوب في سياسات الدولة ومشاركتها في قيادة تفاصيل إعادة بنائها!

على مر التاريخ، كثير من الكتاب والمفكرين الذين أثروا بشكل عميق في سياسات دولهم لم يحضروا مؤتمرات سياسية رسمية، لكن تأثيرهم امتد إلى صناع القرار والأجيال اللاحقة من دون الحاجة إلى وجودهم في قاعات الاجتماعات. على سبيل المثال، جورج أورويل لم يكن جزءًا من أي مؤتمر سياسي رسمي، لكنه من خلال رواياته مثل (1984) و(مزرعة الحيوانات) كشف آليات الاستبداد وتأثير الدعاية السياسية، وأصبحت أعماله مرجعًا أساسيًا في تحليل الأنظمة القمعية. ونعوم تشومسكي، رغم أنه لم يكن ضمن دوائر صنع القرار الحكومي، فقد أثرت كتاباته ونظرياته النقدية حول الإعلام والسياسة الخارجية الأميركية على الفكر السياسي العالمي، وكذلك جان بول سارتر، الذي رفض جوائز رسمية وحضور مؤتمرات سياسية كبرى، كان له تأثير بالغ على الفلسفة السياسية والمواقف المناهضة للاستعمار.

أما عن حظوظك في أن تكون موجوداً حول طاولة الحوار الرئيسية بعد التصفيات النهائية، فيمكن لك ان تقارنها كما أفعل دائماً بخساراتي المتتالية مع سحب اليانصيب، التي تبرز جانبًا آخر من الموضوع. فليس كل من يشتري بطاقة يانصيب دمشق الدولي، مثلاً، هو رابح بالمحصلة. إذا كانت أرقام اليانصيب مكوّنة من ستة أرقام، فهذا يعني أن هناك 1,000,000 (مليون) احتمال مختلف للفوز، أي أن نسبة فوز أي شخص ببطاقة واحدة ستكون 1 من مليون أو 0.0001%. ولكن لنفترض أن عدد الفائزين باليانصيب هو 1500 شخص، وهو عدد أعضاء المؤتمر، فسيظل احتمال الفوز لأي شخص يشتري بطاقة واحدة 1 من 666 أو خمسة عشر من كل عشرة آلاف.

بعبارة أخرى، فرصة تلقي دعوة لحضور المؤتمر أشبه بفرصة الفوز بجائزة يانصيب، لكن الفرق أن المؤتمر ليس لعبة حظ، بل قرار مبني على معايير واختيارات بشرية. عدم تلقي الدعوة لا يعني أنك لم تكن جديرًا بها، بل أن هناك عوامل أخرى لعبت دورها، تمامًا كما أن عدم الفوز باليانصيب لا يعني أن البطاقة التي اشتريتها لم تكن صالحة، بل أن الاحتمالات لم تكن في صالحك.

في نهاية المطاف، يجب أن ننظر إلى الأمور من زاوية أشمل. القيمة الحقيقية ليست في الحضور الجسدي لمؤتمر ما أيا كانت أهميته بالنسبة لك ولمكانتك الاجتماعية (بريستيجك)، بل في التأثير الفعلي في المسار العام، سواء داخل القاعة أو خارجها. ليست كل المعارك الفكرية تُخاض من داخل الغرف المغلقة للمؤتمرات، وليست كل الإنجازات مرهونة بالوجود في قائمة المدعوين، لأنها حتما لا يمكنها أن تتسع لكل السوريين المبدعين والمؤثرين، وما نرجوه فقط أن تتسع لأحلامهم وتسطرها على أنها قرارات قابلة للتنفيذ وليس للأرشيف.

المدن

—————————-

علَمُ الثورة والدولة..في بيروت ودمشق/ ساطع نور الدين

الاثنين، 24 فبراير 2025

علَمُ “سوريا الأسد”، ذو النجمتين الخضراوين، الذي رُفِع في جنازة السيد حسن نصر الله، لم يكن مجرد إساءة عابرة لعامة السوريين، الذين استبدلوه بشكل رسمي قبل شهرين، بعلم الاستقلال السوري ذي النجوم الثلاث الحمراء، بل كان مؤشراً على ان أخبار تَحلّل النظام الاسدي في سوريا، ستتأخر في الوصول الى العاصمة اللبنانية، وربما لن تصل في المستقبل القريب.

لكن ذلك العلَم السوري الذي سبق ان مزقته الثورة السورية في أيامها الأولى في العام 2011، لم يكن غريباً وسط غابة من الاعلام الحزبية اللبنانية، التي رفرفت في الجنازة، من دون أن تكون مرفوعة من جماهير أحزاب محلية انقرضت، أو هي على طريق الانقراض، ولم يبق منها سوى أعلامها وبعض رموزها، غير المتصلة بأي هياكل تنظيمية أو شعبية، بل كان حزب الله نفسه، سبب بقائها على قيد الحياة.. وسيكون سبب فنائها، وزوال “المحور الممانع” الذي انتمت إليه.

وفي خضم المسار الختامي لذلك “المحور”، يبقى المهم ألا يتحول العلَم الاسدي المرفوع حتى في بعض شوارع بيروت وضاحيتها الجنوبية، الى حجة إضافية للمزيد من الخصام والصراع مع الحكم الجديد الذي يتشكل الآن في سوريا، على قاعدة رئيسية ثابتة ووحيدة، هي نفي الماضي البعثي، والتحرر من جميع فظاعاته، ومخلفاته، والبحث عن مستقبل ليس فيه أثر للأسدية، ولا لأي من “أعلامها”.

هذه المهمة السورية الصعبة، التي تتعثر اليوم لكنها لن تقع، ستستغرق وقتاً طويلاً، قبل أن تصل الى بناء دولة مدنية، غير بعثية وغير إسلامية معاً.. غير أنها لن تتمكن على الأرجح في تطهير لبنان وأحزابه وقواه السياسية كافة، ومن دون استثناء، من الوباء الاسدي الذي ضربه طوال العقود الخمسة الماضية، وما زالت آثاره وذكرياته حاضرة في بيروت أكثر بكثير من دمشق، وستبقى كذلك الى أمد بعيد. بفعل الحساسيات اللبنانية التي مكنّت الاسدية من تشويه الجسد اللبناني، المشوّه أصلا.

    يمكن أن يُنسب الى حسن الحظ، أن الكثرة السورية ليست مهتمة الآن بالاولوية اللبنانية، لانشغالها بأولويات أشد إلحاحاً، وكذا الحال بالنسبة الى الكثرة اللبنانية التي ربما لم تنتبه الى إرتفاع العلم الاسدي في الجنازة

لعل الجنازة لم تكن مسؤولة ومعنية بذاك العلَم، ولا بالهمّ السوري، الذي سقط نهائياً من خطابات الحزب، منذ ما قبل فرار الأسد، بعدما فرضت الحرب الإسرائيلية الحالية إزاحته عن جدول الأعمال المحلي، على الرغم من المستقبل سيثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن التورط اللبناني في سوريا أخطر وأسوأ على المدى البعيد من الآثار التي سيتركها الغزو والاحتلال الإسرائيلي.. حيث يمكن حصر الخسائر والاضرار وضبط الحدود الجنوبية، بما يحول دون أي إختراق إسرائيلي جديد للجسم اللبناني، فيما سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل في الفترة المقبلة، التوصل الى مصالحة ومساكنة طبيعية بين مجموع الشعبين اللبناني والسوري، على اختلاف طوائفهما وأعلامهما، التي لا تقتصر على علم سوريا الأسد، او على علم حزب الله المكروه والمنبوذ في سوريا، كما لا تنحصر بأزمة النازحين السوريين، التي لن يكون لها علاج بالسياسة، بل بالاقتصاد وحده.

ويمكن أن يُنسب الى حسن الحظ، أن الكثرة السورية ليست مهتمة الآن بالاولوية اللبنانية، لانشغالها بأولويات أشد إلحاحاً، وكذا الحال بالنسبة الى الكثرة اللبنانية التي ربما لم تنتبه الى إرتفاع العلم الاسدي في الجنازة، لكنها لن تكون مهتمة أيضا بما يدور في دمشق، وهي تعتبره ربما فرصة مؤقتة يفرضها إنشغال الاشقاء السوريين، بتدبير أمور البيت السوري.. مع أن ذلك “التدبير” يشهد اليوم خطوة الى الوراء، في مسار إعادة بناء ما هدمته الأسدية، لدى انعقاد المؤتمر الوطني السوري الأول من نوعه في دمشق، تحت مظلة الحكام الإسلاميين الجدد، الذين خالفوا التوقعات والتعهدات والمواعيد، ولم يساهموا في فك الحصار عن سوريا، ولا في الارتقاء الى مستوى الثورة السورية، وعلَمها المرفوع في عواصم العالم كله، عدا بعض أحياء بيروت وضاحيتها الجنوبية.

———————————

في الحوار الوطني والاستعصاء السياسي الحاصل في سوريا اليوم!/  محمد العبدالله

تحديث 24 شباط 2025

– انطلقت فكرة المؤتمر الوطني العام داخلياً بعد وصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق وتولي زمام الأمور وانعقاد مؤتمر العقبة الدولي/الإقليمي والذي تحدث عن حكومة “جامعة” تشرك وتمثل جميع الأطراف.

– توجهت هيئة تحرير الشام في نهاية ديمسبر الماضي مع دعوات لعقد المؤتمر بسرعة كبيرة دون تحضير، الأمر الذي لاقى استغراباً وتحفظاً كبيرين (لم يعبر عنه الكثيرون يومها). الأمر الذي دفع بالهيئة لتأجيل المؤتمر.

– خلال زيارته للعاصمة الأردنية عمان، صرح وزير الخارجية الشيباني بأن “مؤتمر الحوار الوطني سيحدد شكل وطبيعة سوريا القادمة”. وهذا تصريح دقيق وصائب ويركز حقيقة على جوهر مؤتمر الحوار الوطني والهدف منه.

– تكررت الدعوة للحوار الوطني في لقاء الرياض، على لسان المبعوث الأممي غير بيدرسون علناً أمام الشيباني، وقال أن الحوار سيعقد خلال ثلاثة أشهر.

– وصولاً إلى مؤتمر النصر الذي أعلن إنطلاق المرحلة الإنتقالية وتعيين الشرع رئيساً إنتقالياً لسوريا، ليتحدث الشرع عن المؤتمر كالتالي: “سنعلن في الايام القادمه عن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني والذي سيكون منصه مباشره للمداولات والمشاورات واستماع مختلف وجهات النظر حول برنامجنا السياسي القادم”.

– خلال شهر ونيف، تغير حجم ودور مؤتمر الحوار الوطني من أنه المؤتمر الذي سيحدد طبيعة وشكل سوريا إلى مجرد منصة لسماع وجهات النظر حول برنامجنا (الهيئة) السياسي القادم. فما الذي حصل؟

– أولاً: الترحيب الدولي بالاستقرار القائم في سوريا وجهود ضبط الأمن والحيلولة دون انفلات سوريا إلى مستنقع اقتتال داخلي، والتحمس الأوروبي تحديداً للمرحلة الانتقالية في سوريا، أرسل رسائل خاطئة عن عدم أهمية الحوار الوطني، مفادها أن الأوربيين سيفضلون الاستقرار على المشاركة السياسية من ناحية، ولو اضطروا كلامياً للمطالبة بمشاركة سياسية لجميع الأطراف بما فيها الأقليات والنساء.

– الأمر الثاني هو حل الإئتلاف الوطني لقوى المعارضة. شكل الإئتلاف رغم علاته وخيباته وسمعته السيئة في أوساط السوريين عامل ضعط للشرع بسبب وروده في القرار 2254 بالاسم، وكون المبعوث الأممي غير بيدرسون تحدث في لقاءه الأول مع الشرع عن المعارضة السياسية ودورها. لقاء الشرع برئيس الإئتلاف والهيئة العليا للمفاوضات كان مشحوناً ولم يحصل أساساً دون ضغط تركي شديد على الشرع.

– حل الإئتلاف نفسه وأخرج نفسه من المعادلة السياسية بشكل مباشر بمبادرة من بدر جاموس. حسب المصادر أن الجاموس قد حصل على وعود بتعيينه سفيراً لسوريا في الأمم المتحدة كمقابل على حل الإئتلاف. جاموس قدم بضعه وعود لشخصيات سياسية داخل الإئتلاف عن إمكانية لعب دور في المرحلة الإنتقالية في حال ساعدت بحل الإئتلاف كونه “يشكل عقبة” في وجه المرحلة الإنتقالية.

– ثالثاً، الانقسام في الأوساط السلفية القريبة من هيئة تحرير الشام حول المؤتمر والتوجه نحو الديمقراطية الأمر الذي يتعارض مع فكر هذه القوى وفهمها لطبيعة حكم سوريا القادمة. وهو ملف صعب يواجهه الشرع مع حلفاءه بشكل واضح.

– لم يرغب الشرع بإطلاق المرحلة الإنتقالية أساساً ولا بعقد مؤتمر الحوار (المؤجل)، على الأرجح للحيلولة دون الصدام (المؤجل) مع القوى السلفية الجهادية. لكن قطر مشكورة تحركت بناء على إدراكها أن سوريا لا يمكن أن تحكم بدون عملية سياسية ودون إطار دستوي أو قانوني، فدفعت بالمرحلة الإنتقالية للأمام بشكل واضح ومستعجل عبر الترتيب لزيارة الأمير تميم الذي سيحمل معه وعوداً اقتصادية هامة تحتاجها سوريا بشكل ملح. الأمير تميم لن يقابل سوى رئيس دولة، الأمر الذي تم ترتيبه في مؤتمر النصر وتعيين الشرع من قبل الفصائل كرئيس انتقالي لسوريا بخطوات سريعة.

– تخفيض سقف الحوار الوطني بدأ في كلمة الشرع خلال مؤتمر النصر، ثم في تعيين شخصيات من هيئة تحرير الشام في اللجنة التحضيرية، واختيار حسن الدغيم (المعروف بدوره في الجيش الوطني سابقاً) ناطقاً باسم اللجنة. الدغيم بدوره تحدث فوراً أن الهدف من الحوار الوطني هو تقديم مقترحات وتوصيات ولن يكون هناك قرارات تصدر عن المؤتمر وأن مخرجات المؤتمر ليست ملزمة للسلطة.

– عملت اللجنة جاهدة للوصول لعدد من المحافظات السورية في محاولة لاقناع الرأي العام أن ما يحصل هو ترتيب للحوار الوطني وجمع ملاحظات وأفكار من الجمهور.

– طبعاً تشكر جهود هذه اللجنة لكن مصداقية المسار بأكمله موضع تساؤل أساساً بسبب المهل الضيقة التي أرسلت فيها الدعوات للمشاركين في المحافظات، الوقت القصير لكل متحدت (دقيقتين للمداخلة)، غياب جدول أعمال واضح وتنوع المواضيع، وتحول الكلمات لمنافسة سياسية بين المشاركين أحياناً أو منصة للمطالبة بطرد فلول النظام، واقتصار الحوار على بضعة عشرات من المشاركين دون معرفة أي معايير أساساً لدعوة المشاركين واستنثاء آخرين.

– واليوم، مع فضيحة الدعوات لعقد المؤتمر العام للحوار بعد يومين، دون تحضير كاف، ودون تحديد مكان إنعقاد المؤتمر أساساً، وإرسال دعوات لشخصيات سورية خارج سوريا قبل يومين فقط من موعد الحوار، الأمر الذي حال دون مشاركة هؤلاء، تسبب بخيبة أمل حقيقة في الوسط العام أولاً، وعزز الفكرة أن مؤتمر الحوار الوطني تحول إلى مجرد “رفع عتب” وهي خطوة يجب أن تحصل بغض النظر عن مصداقيتها وأهميتها وضرورة إنجاحها، كونها ستشكل غطاء سياسياً وطنياً لشرعية السلطة اليوم. للأسف لا ترى السلطة في سوريا اليوم أنها بحاجة لهذا الغطاء السياسي الوطني، ويحصل هذا بدلالة الترحيب الدولي والعربي بالشرع رئيساً لسوريا.

+ ماذا بعد؟

– سيغير الشرع الحكومة الحالية في مطلع آذار كما تحدث في أكثر من مقابلة. المعلومات الواردة أن الشرع سيغير مجموعة من الوزارء، أربعة أو خمسة، من بينهم وزير العدل شادي الويسي، ويعين مكانهم وزراء تكنوقراط. لكن المعلومات أيضاً أن الشرع يعتزم تعيين الوزراء المقالين كنواب للوزراء الجدد. لا أدري صوابية مثل هذه الخطوة لو حصلت، لكن لن يكون صداها إيجابياً بالضرورة.

– سنرى في الحكومة الجديدة شخصيات من خلفيات علوية، مسيحية، درزية، على الأرجح وزيرين ونائب وزير، وأيضاً نساء.

– المعضلة الرئيسية اليوم في سوريا ليست شخصيات أفراد الحكومة الحالية أو القادمة، لكن بقدرة الحكومة على تقديم الخدمات للشعب السوري. قدرة فريق هيئة تحرير الشام على قيادة البلاد بمفرده سيكون محدوداً، الأمر الذي استدركته الهيئة وبدأت باستدعاء عناصر الشرطة المدنية للعودة لوظائفهم على سبيل المثال وبدأت بالتعاون مع بعض الضباط المنشقين سابقاً عن الجيش.

– الأمر الأساسي الذي ستفتقده تشكيلة الحكومة الجديدة هو الغطاء السياسي الوطني العام الذي يمكن أن يقدمه مؤتمر حوار وطني رصين وجدي. طبعاً يستحيل دعوة السوريين جميعاً للحوار، وهذا ليس مطلب أحد، لكن ممكن أخذ الترتيب والأجندة والمواضيع المطروحة على محمل الجد بشكل أكبر.

+ الاستعصاء السياسي الحاصل في البلاد!

– بداية، لا بد من الإشارة إلى نجاح الشرع بشكل واضح بالتعامل مع القوى والفصائل العسكرية المتفرقة والكثيرة داخل سوريا والتي كانت تعمل أساساً في شمال وشمال غرب سوريا. عمل وزير الدفاع على دمج معظم هذه الفصائل في الجيش الجديد وتم استرضاء قياداتها في هيكلية وزارة الدفاع.

– المعضلة الأساسية اليوم في سوريا مع قوات سوريا الديمقراطية، الدروز في السويداء ومع العلويين لحد ما.

– العلاقة مع قسد أفضل بكثير عما كانت عليه قبل شهر وهذا يحسب للطرفين. مؤخراً توصل الطرفان لبعض التوافقات أنتجت عن إرسال الغاز المسال والنفط من شرق سوريا إلى الحكومة السورية والذي انعكس بشكل واضح بزيادة عدد ساعات الكهرباء في عدة محافظات.

– لم يصل الطرفان للتوافق بمفردهما. رغم الضغوط التركية على قسد والتلويح بعمل عسكري والتأرجح بالموقف الأميركي من البقاء أو الإنسحاب من سوريا، لم تحصل التسوية بين الطرفين دون وساطة سعودية واضحة (ومشكورة). الوساطة قربت وجهات النظر بين الطرفين وشجعت قسد على اتخاذ خطوات نوايا حسنة بتمرير الغاز والنفط للحكومة لدعمها بتقديم الخدمات. الموافقة الأميركية على الفكرة كانت سريعة.

– الدخول السعودي- الأميركي على خط المفاوضات بين قسد ودمشق يركز أساساً على احتواء النفوذ التركي داخل سوريا وتقديم قوى عربية ودولية لدعم سياسي للمفاوضات الداخلية. لكن ينذر أيضاً بصراع قوى عربية وإقليمية ودولية على النفوذ داخل سوريا.

– السويداء أيضاً معادلة صعبة الحل. المفاوضات بين الطرفين متعثرة ولا وساطة إقليمية بين الطرفين. الموقف الإسرائيلي اليوم قد يزيد من تعقيد المشهد. لا يمكن بطبيعة الحال تحميل الدوز وقيادتهم عبء الموقف الإسرائيلي الذي لم يطلبه أحد من نتنياهو أساساً.

– طبعاً قد يشجع البعض الشيخ حكمت الهجري على التوصل لتوافق سياسي مع الشرع لتفويت الفرصة على نتنياهو وتوجيه صفعة له، لكن الحقيقة أن الموقف الإسرائيلي ليس مرتبط حقيقة بحماية الدروز ولا حتى بأمن إسرائيل وقلقها من هيئة تحرير الشام. يستخدم نتنياهو الوضع القائم في سوريا اليوم لتبرير عملياته العسكرية التوسعية في سوريا والمنطقة وهي بدأت في غزة وفي لبنان قبل وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة. بمعنى، حتى لو حصل توافق بين السويداء ودمشق، قد تمنع إسرائيل عسكرياً قوات الحكومة السورية من بسط سيطرتها على الجنوب، بذريعة محاربة الإرهاب.

– يبقى التوتر بين العلويين والسلطة الجديدة قائماً رغم تحسن الظروف بشكل نسبي في أكثر من منطقة من مناطق الاحتكاك الطائفي. لكن ملف طرد الموظفين من الجسم البيروقراطي للحكومة يعقد من المشهد بين الطرفين.

– الملف الآخر الهام الذي لا نراه على السطح بشكل علني يومي، وهو لا يقل أهمية، بل ربما الأهم بين كل هذه الملفات، هو الأوساط السلفية الجهادية ونظرتها للشرع الجديد المختلف، الذي تحول لحاكم مدني لسوريا. طبعاً مع تسريبات إعلامية غربية (الواشنطن بوست) عن التعاون الاستخباراتي بين الشرع والولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب والدعم والمعلومات التي تقدمها الولايات المتحدة للشرع في هذا الصدد.

+ مؤتمر باريس: التأكيد على مخرجات مؤتمري العقبة والرياض والرفض الأميركي للتوقيع.

– شكل عقد مؤتمر باريس خطوة جديدة تجاه تعزيز الاستقرار في سوريا وشرعنة السلطة الجديدة دولياً. الأمر الذي انعكس في كلمة الرئيس ماكرون بشكل واضح وكلمات ومستوى الوفود المشاركة.

– لكن في ذات الوقت تحدث ماكرون عن ضرورة التفاوض مع قسد، اشراكها في الجيش، والتعهد الفرنسي بدعمها كونها قاتلت ضد داعش نيابة عن الجميع.

– في ذات الوقت، تكررت مرة أخرى ذات مطالب مؤتمر العقبة والرياض (حكومة تعددية وجامعة، حوار وطني وشراكة سياسية، مشاركة المرأة والشباب والمجتمع المدني).

– التوجه الأوربي لدعم المرحلة الانتقالية في سوريا قوي وواضح. سيعلن الاتحاد الأوربي اليوم تعليق عقوباته على قطاعات الطاقة، الغاز والنفط والمصارف وفقاً لرويترز.

+ الغائب الأهم: دونالد ترامب!

– رفضت الولايات المتحدة التوقيع على البيان الختامي لمؤتمر باريس بذريعة أن الولايات المتحدة لا تزال تدرس سياستها حيال التغيير الذي حصل في سوريا ولم تتخذ قراراً بعد.

– وهذا الأمر صحيح حقيقة. أشار له السيناتور جيم ريتش في جلسة الاستماع الوحيدة التي عقدتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ حول سوريا، بأنه سيرسل محضر الجلسة للبيت الأبيض كونه بصدد إعداد سياسته الجديدة للتعامل مع سوريا.

– المقلق في هذا أن سياسة البيت الأبيض ستتوافق على الأغلب لحد كبير مع موقف نتنياهو. يمكن استشفاف ذلك أيضاً من خلال جلسة الاستماع المشار إليها أعلاه. استضافت الجلسة شخصين فقط، دون أي متحدث سوري، من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى القريب من إيباك. تركزت كلمات المتحدثين على ضرورة مكافحة الإرهاب، عودة تنظيم داعش، وبقاء القوات الأميركية في سوريا.

+ الوضع العام:

– اقتصادياً، سوريا ليست بخير وغير قادرة على التعافي منفردة. جميع المساعدات القادمة اليوم هي إنسانية محض. الجميع بانتظار الموقف الأميركي للتعامل مع سوريا. هذا الوضع خطير كونه سيصعب من مهمة الحكومة في تقديم الخدمات للناس. ترافق للأسف بجنون ترامب وتعليق المساعدات الأميركية لكل دول العالم، الامر الذي سبب ضرراً واضحاً للمنظمات الإنسانية السورية العاملة في مجال الإغاثة والصحة.

– حتى بعد تعليق العقوبات الغربية على القطاعات الرئيسية، الحديث عن إعادة الإعمار في سوريا لا يزال غائباً للأسف. (هناك خلط أحياناً في النقاشات أن مجرد رفع العقوبات يعني تدفق أموال إعادة الإعمار وهذا ليس صحيحاً بالضرورة. فعلى سوريا الانخراط بمؤتمرات للمانحين والحصول على قروض وهبات لدعم عملية إعادة الإعمار). تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي صدر الأسبوع الماضي حول سوريا مرعب حرفياً. (سوريا قد تحتاج إلى نصف قرن ليتعافى اقتصادها). لمحة عن التقرير على رابط في التعليقات.

– إدارياً وخدمياً، هيئة تحرير الشام بحاجة ماسة لإشراك باقي الأطراف في المرافق الإدارية والخدمية على الأقل، كونها غير قادرة على الاستجابة لكل شيء بمفردها.

– باختصار، لن يستثمر أي طرف أجنبي في بلاد لا قضاء فيها، لا دستور، ولا قانون يحكمها (حتى لو كانت الأمور بخير داخلياً). الثقة هي العامل الأساسي في جذب الاستثمار.

– ملف العدالة الانتقالية معلق ويتم التعامل معه بطريقة غريبة. العفو عن كبار المجرمين، لكن اعتقال الصغار. تسوية أوضاع حيتان الفساد والنهب. تسبب الغضب الشعبي باحتضان فادي صقر القيادي السابق في مليشيا الدفاع الوطني من قبل هيئة تحرير الشام، إلى عملية الاعتقال الهوليودية التي نفذها الأمن العام لاعتقال ثلاثة من مجرمي التضامن، مع تجاهل المطالب الشعبية باعتقال فادي صقر أيضاً.

– سياسياً، استعصاء سياسي مع سقف مطالب مرتفع من جميع الأطراف، لكن مع إرادة عربية وإقليمية على احتواء سوريا وانجاح المرحلة الانتقالية. الأهم هو تفهم جميع الأطراف باستحالة استخدام القوة لحل الخلافات.

هناك إصرار عربي وإقليمي ودولي على إنجاح ودعم المرحلة الانتقالية في سوريا. سوريا كدولة فاشلة ستكون مصدرة للإرهاب، اللاجئين والكبتاغون وهذا ليس بمصلحة أحد على الإطلاق. العقبة الرئيسة في وجه المرحلة الانتقالية هي الموقف الإسرائيلي المتشدد الذي سيلقى بظلاله على البيت الأبيض.

– كان ممكن الاستفادة من الحوار الوطني بدفع المرحلة الانتقالية للأمام بخطوات قوية وثابتة ودعم سياسي وطني للسلطة الجديدة والمرحلة الانتقالية، وتقديم خارطة طريق وطنية تؤس لعدالة انتقالية وسلم أهلي وإصلاح مؤسساتي، لكن للأسف تم التفريط بالمؤتمر ومخرجاته رغم أهميته.

+ كلمة أخيرة:

– السرد أعلاه مجرد معلومات مكثفة لكن واقعية عن الوضع العام في سوريا ومحيطها اليوم. لا يعني أن وضع سوريا جيد ولكن لا يعني أن المرحلة الانتقالية مقدمة على فشل. طبعاً جزء من النص تحليل ورأي شخصي.

– ممكن إنقاذ الحوار الوطني قبل انعقاد المؤتمر وتحويله لمؤتمر وطني عام تنبثق عنه توصيات ملزمة وتشكيل لهيئة تشريعية تكتب إعلاناً دستورياً مؤقتاً للبلاد. إنجاح المؤتمر سيطوي صفحة هذا الملف لحد ما، يسمح للعمل السياسي في البلاد بالانطلاق، ويقدم صورة ممتازة للمرحلة الانتقالية للمجتمع الدولي.

– نجاح الحوار الوطني ونجاح المفاوضات السورية الداخلية بين جميع الأطراف هي الصيغة الوحيدة التي سنخرج بها جميعاً بسوريا قابلة للتعافي بشكل سريع، دون ذلك سندخل في مرحلة من العطالة وتمديد للمرحلة الانتقالية، تخسر فيه الحكومة شعبيتها، يخسر فيه السوريون الوقت والمشاركة في انقاذ بلادهم وتخسر فيها سوريا فرصة التعافي بسرعة معقولة.

————————–

مؤتمر الحوار الوطني.. طبخة مستعجلة ونتائج غير مبشرة/ سلمان عز الدين

تحديث 24 شباط 2025

في الوقت الذي تتحدث فيه وسائل إعلام سورية عن ارتفاع نسبة المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني، الذي سينعقد غدًا الثلاثاء، الواقع في 25 شباط/فبراير، إلى نحو 96 بالمئة ممن أرسلت لهم الدعوات، فإن الجدل لا يزال مشتعلًا في الأوساط السياسية السورية وبين المهتمين، مع تصاعد الانتقادات لطريقة إعداد المؤتمر، وعمل اللجنة التحضيرية، ولا سيما الطريقة التي تم عبرها توجيه الدعوات من أجل المشاركة. وقد شكا عدد من المدعوين (وخاصة المقيمين في الخارج) من أن الفترة الفاصلة بين استلام الدعوة وموعد انطلاق المؤتمر كانت قصيرة للغاية بما لا يكفي لتلبيتها، ما دفع نشطاء ومراقبين إلى التهكم باقتراح عنوان عريض للمؤتمر الوشيك هو “تعا ولا تجي”.

غير أن النقد الأكبر انصب على برنامج المؤتمر نفسه، وكان السؤال الأبرز الدي طرحه كثيرون هو: هل يكفي يوم وبعض اليوم من أجل هذا الحدث الهام الذي يعول عليه بالتأسيس لسوريا الجديدة؟ ويعلق البعض: “هل نحن أمام مؤتمر وطني، أم ورشة عمل لمنظمة تطوعية؟”.

ويرى متابعون أن الانتقادات الحادة هذه تعكس خيبة الأمل بحدث طال انتظاره وعول عليه الجميع، ولا ننسى أن ملفات كثيرة، هامة ومصيرية، تنتظر طرحها على طاولة المؤتمر: شكل الدولة الجديدة، وطبيعة النظام السياسي، الحريات، المواطنة، العدالة الانتقالية. وباختصار: هوية سوريا الجديدة.

ويرى الباحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، د. طلال مصطفى، أن الدعوات لحضور المؤتمر لم تتوفر على أبسط القواعد الإدارية “حتى الدعوات لحفلات الزواج وأعياد الميلاد تكون أفضل من ذلك من حيث الترتيبات الإدارية واللوجستية”.

ويضيف: “ليس من المعقول أبدًا أن تصل دعوة لشخص موجود في فرنسا، مثلًا، قبل 24 ساعة أو 48 ساعة من موعد انعقاد المؤتمر، وحتى الموجودين في سوريا يحتاجون مهلة زمنية أطول من هذه”. ويقول مصطفى إن هذا ينم إما عن عدم اهتمام أو عن فقر في الثقافة الإدارية.

ومن ناحية التمثيل، فقد “لمسنا عدم وجود تنسيق وعشوائية في اختيار المدعوين، وربما ساد معيار المعرفة الشخصية، مع غياب واضح لأي دراسة مسبقة”. ولفت مصطفى إلى مفارقة انطوى عليها توجيه الدعوات، إذ لم تراع إمكانية الرفض والاعتذار، “ففي فترة قصيرة كهذه كيف سيتم ترميم النقص في الحضور؟ كيف سيتم طرح خيارات بديلة عن تلك الأسماء التي اعتذرت؟”.

ويؤكد مصطفى على أن التمثيل كان يجب أن يكون أكثر شمولًا “وكان يجب توجيه دعوات للتيارات السياسية، وممثلي المجتمع المدني، وقوى فاعلة على الأرض، وكان يجب دعوة الأحزاب التاريخية مثل أحزاب هيئة التنسيق أو أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي. يوجد بلا شك شخصيات مهمة نحترمها ولسنا ضدها، ولكن الدعوات كلها اقتصرت على التمثيل الشخصي، فغاب ممثلو النقابات، مثلًا. يوجد أطباء ومهندسون ومحامون… لكن أيًا منهم لا يستطيع القول إنه يمثل نقابته أو مهنته”.

ويعتقد مصطفى أنه كان بالإمكان عقد عدة مؤتمرات بدل مؤتمر واحد. “مؤتمر للداخل ومؤتمر في الخارج. مؤتمر في تركيا وآخر في إحدى الدول الأوروبية، ألمانيا، مثلًا، وهكذا يتم استقطاب أكبر عدد ممكن من السوريين الموجودين في مختلف أنحاء العالم”.

وكذلك فقد “كان ضروريًا إجراء استطلاع الكتروني للسوريين، يحددون من خلاله أكثر الموضوعات إلحاحًا وأهمية بالنسبة لهم، ثم تختار اللجنة المكلفة بالإعداد للمؤتمر خمسًا من هذه الموضوعات لاعتمادها كنقاط أساسية للنقاش والحوار”.

ويختم الباحث السوري كلامه بالقول: “من جهتي سأكون متفائلًا وأفترض حسن النوايا، وسأقول إن الموضوع هو نقص خبرة وسوء تنظيم، ولكن بالمقابل من حق الآخرين أن يفترضوا النوايا السيئة، ويروا أن المؤتمر شكلي وأن القرارات قد أعدت سلفًا وبغض النظر عن مجرياته، كما كان يحدث في مؤتمرات حزب البعث والجبهة”.

من جهته، يقول المحامي والناشط السياسي حسن رفاعة: “إننا محكومون بالأمل، ونود أن نرى ضوءًا في آخر النفق حيث كنا أيام الطاغية لا نرى إلا سلسة أنفاق لا نهائية، أما الآن فإن الأمل يتعزز يومًا بعد يوم رغم بعض الغيوم وبعض الألغام والكثير من المخاطر”.

لكن رفاعة يرى أن التمسك بالأمل لا يعفي من مسؤولية النقد وإبداء الملاحظات والتحفظات، ومن هنا فهو يسجل الملاحظات التالية على شكل المؤتمر وطريقة الإعداد له:

1 ـ عدم إعلان معايير اختيار الأعضاء المشاركين ومؤهلاتهم وكفاءاتهم، ومدى تمثيلهم مناطقيًا.

2 ـ التأخر في إعلان جدول الأعمال والمواضيع محل المناقشة والتداول.

3 ـ المدة القصيرة جدًا المحددة لفعاليات المؤتمر، حيث إن اليوم الأول مخصص لجلسة التعارف والتشريفات والعشاء واليوم الثاني فقط هو المخصص للنقاشات. ويقول رفاعة: “إن المدة التي سبقت الإعلان عن موعد المؤتمر وتوجيه الدعوات لا تكفي المدعوين في سوريا لحلاقة ذقونهم، فكيف لمن هو مدعو ومقيم خارج سوريا؟”.

بدوره، يبدو الباحث والأستاذ في جامعة دمشق، د. أحمد جاسم الحسين، أقل تفاؤلًا، إذ يرى أنه “على المستوى العملي، كل المؤشرات تقول إنه سيكون مؤتمرًا فاشلًا”،  مشيرًا إلى طريقة التحضير للمؤتمر، “فما دامت اللجنة قد جالت في المحافظات لتلتقي في الناس، ما المختلف الذي سيقولونه بعد أن التقت بهم؟ وكيف سيتحدث 600 شخص خلال عشر ساعات؟ وما دام الشخص لن يتحدث فلماذا يأتي؟”.

ويتساءل: “ما المراد من المؤتمر؟ هل هو تغطية لسلوكات السلطة، أو مفتاح مخارج لها؟ أو بناء عليه ستشكل لجان لكتابة الدستور الجديد، أو تشكيل الوزارة؟ أم رغبة في الاستماع إلى صوت السوريين؟”، مضيفًا: “هذا كذلك سر جديد من أسرار السلطة الحالية والوضع السوري؟”.

ويختم: “لأننا نحن المتابعين والمثقفين والمهووسين بالشأن العام، ليس لدينا حل حاليًا غير انتظار النتائج، فإننا سنتمسك بأمل المؤتمر، بأمل أن نهنئ أنفسنا بنجاح العملية وشفاء المريض وليس فشل العملية أو موت المريض أو كليهما”.

من جانبه، يقول المهندس والناشط المدني، وهيب السعيد،  إن “تحقيق تمثيل أكثر شموًلا كان يتطلب قبول القائمين على الأمر بكل المكونات دون حالة إقصاء ولو ضمني، وأن يتم الإعداد للمؤتمر بشكل جيد وبمدة تتناسب مع حجم المؤتمر والنتائج المرجوه منه، عبر وضع معايير واضحة لمن يجب دعوتهم، وتكون هذه المعايير معلنة لتشمل الدعاوى جميع مكونات الشعب وتقوم بالأمر لجنة تكون متنوعة ومتمكنة وليست من طيف واحد”.

ويضيف: “مثل الكثير من السلوكيات للحكومة الجديدة هناك حاله ارتجالية، هناك قلة خبرة واضحة، المعايير غير مفهومة أحيانًا. أن نجد ممثلًا او يوتيوبر مدعوًا وبالمقابل هناك مفكر مشهور متوازن غير مدعو، هنا الأمور باتت ضبابية. ما يزيد الطين بله هو عدم وجود إعلام شفاف للحكومة الجديدة يشرح ويزيل أي لبس، بالتالي يترك الناس عرضه للسوشيال ميديا، وكل يغني على ليلاه”.

ويوافق السعيد مع المتحدثين السابقين على أن المؤتمر حُضّر على عجل، ويقول إن كل ذلك “يجعلنا نشك أن الأمور مقصودة ومخطط لها أن تكون هكذا، والفاعل لم يكن ساذجًا أبدًا”. ويختم بالقول إن المؤتمر “بكل هذه المشاكل والثغرات والهنات والهفوات لن تتناسب مخرجاته مع حساسية المرحلة، وأعتقد لن تكون مخرجاته ملزمة للحكومة، وأرى أنهم قاموا به أصلًا من باب رفع العتب وكخطوة معينة مرسومة لهم، لكن كان الإخراج سيئًا”.

——————–

هل تكون سوريا “البديل المناسب” في خطة ترامب لتهجير الغزّيين؟/ جعفر مشهدية

الأحد 23 فبراير 2025

“هل تصبح سوريا الخطة ‘ب’ أمام ترامب لحل أزمة غزة؟”، سؤال طرحته صحيفة “إندبندنت عربية” في تقرير نشرته في 8 شباط/ فبراير الجاري، مشيرةً إلى تقديم مسؤولين أمريكيين بالفعل عرضاً للحكومة السورية الجديدة لاستضافة آلاف الفلسطينيين من قطاع غزة في مدن سكنية جديدة تُبنى ضمن مشاريع إعادة إعمار سوريا، مع إسهام الولايات المتحدة في دعم عملية الاستقرار والازدهار الاقتصادي للبلد المنهك اقتصادياً جرّاء سنوات الحرب الطويلة.

ومطلع الشهر الجاري، كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال مؤتمر صحافي، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض، عن خطّته وتصوّره لمستقبل قطاع غزة، وذلك عبر تحويله إلى مركز اقتصادي وسياحي عالمي ونقل سكّانه الفلسطينيين إلى مصر والأردن، وهو المخطّط الذي قوبل برفض فلسطيني وعربي شديدين.

وفي أول رد فعل سوري رسمي، على خطة ترامب، قال رئيس المرحلة الانتقالية في البلاد، أحمد الشرع، خلال بودكاست “ذا ريست إذ بوليتيكس” البريطاني: “أعتقد أن هذه جريمة كبيرة جداً لا يمكن أن تحدث وأعتقد أنها لن تنجح”.

“صفقة عقارية”

تعقيباً على خطة ترامب، يقول الصحافي والمحلل السياسي السوري علاء محمد لرصيف22: “ترامب يستهدف حلّ القضية الفلسطينية من وجهة نظره من خلال تحويل غزة إلى مشروع عقاري وإخلائه من أهله بشكل كامل ونهائي في محاولة لـ’إنهاء الخطر’ المزعوم الذي تشكّله على إسرائيل بعدما فشلت كل محاولات واشنطن وتل أبيب السابقة للإجهاز على مقاومة غزة”.

بدوره، يعتبر المحامي الفلسطيني رامي جلبوط أن “التهجير والتطهير العرقي من جرائم الحرب بدون أدنى شك، فنظراً لخطورتهما على المجتمعات، اتفقت البشرية على اعتبارهما جريمتيّ حرب يلاحق من يرتكب أياً منهما أمام المحاكم الدولية ويعاقب بأشد العقوبات”.

ويضيف لرصيف22: “من الصعب استنتاج أهداف خطة ترامب الحقيقية في الوقت الراهن، فكل ما يطرحه غير منطقي وغير مسبوق ويطرحه بطريقة وقحة وسافرة وبلغة وأسلوب الرجل الأبيض، كما يصرّح علناً بأنه سيقوم بارتكاب هذه الجريمة بحق الفلسطينيين ويستمر في الاستخفاف والتنمّر والإصرار على الغي عندما يقول إن هذا الاقتلاع للفلسطينيين من أرضهم هو لراحتهم ومصلحتهم”.

أما أمين سر مؤتمر الأحزاب العربية السوري، عبد الله منيني، فيرى أن “ترامب يعتمد سياسة جديدة في ولايته الثانية تقوم على عقد صفقات لتنفيذ خططه من خلال الاستعانة بـ’أسلوب الصدمة’ وهذا ما فعله من خلال طرحه لغزة الذي يعتبر سابقة في العمل السياسي كونه يطلب من شعب كامل الخروج من أرضه”.

ويؤكد الناشط الاجتماعي الفلسطيني أحمد ابراهيم أن “ترامب يستهدف تحويل كل فلسطين وليس غزة فقط إلى ‘أرض يهودية’، بهدف إراحة إسرائيل أولاً، ومن ثم الاستفادة اقتصادياً من خيرات الغاز الموجودة في أرض غزة”.

عراقيل أمام “الأرض البديلة”

“سوريا لن تكون أرضاً بديلة لخطة ترامب أبداً، ولن يقبل بذلك أحد”، هكذا يؤكد علاء محمد لرصيف22، مدللاً على حديثه بأنه “كثيراً ما حُكي عن توطين الفلسطينيين في سوريا ولكن الجواب من مختلف الأنظمة المتعاقبة منذ عام 1948 هو الرفض لأن قبول دمشق بخيار كهذا يخدم إسرائيل وحدها بينما يضر فلسطين وسوريا”.

ويتوقّع علاء: “لن تسجّل الإدارة الجديدة في سوريا على نفسها مع بداية استلامها الحكم هذه الخطوة التي تضعها في موضع الشبهات، وبصفتها إدارة مؤقتة لا يمكن لها اتخاذ قرار إستراتيجي كهذا، عدا عن حاجة هكذا خطوة إلى قرار عربي شامل، فضلاً عن أن الفلسطينيين أنفسهم يرفضون هذا المخطط لتمسّكهم بأرضهم وبيوتهم… إنهم ما زالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم منذ نكبة عام 1948، كيف يتوقع أحد أن يرضوا بأوطان بديلة؟”.

من جهته، ينبّه عبد الله منيني إلى “ضرورة التركيز على أن واشنطن تستثمر في الفوضى في سوريا لتنفيذ بعض الخطط، نظراً لكون الأوضاع في دمشق غير مستقرّة حالياً، وربما تكون أرضاً خصبة لتنفيذ المشاريع السياسية” على غرار مخطط ترامب.

وهو يضيف: “لا أعتقد أن تحويل الخطة إلى سوريا لحل مسألة غزة -من وجهة النظر الأمريكية الإسرائيلية- خطة مناسبة أو قابلة للتحقيق، لرفض الفلسطينيين لها أولاً، ولقلق إسرائيل من الحدود السورية ثانياً، فكيف سيكون الحال إذا انتقل الغزيون إلى سوريا؟”، مرجّحاً أن ترامب حدّد مصر والأردن لتنفيذ الخطة كون لديهما اتفاقيات سلام مع إسرائيل، وهو ما لا يتوفّر في حالة سوريا”.

ويرفض رامي جلبوط مناقشة الفكرة مستبعداً حدوث التهجير بأي حال. يقول: “لن نناقش خيارات سوريا أو الأردن أو مصر كوجهات محتملة لاستقبال الفلسطينيين لأن التهجير لن يتم. من أهم أسباب فشل هذا المشروع هو جهل المخططين والمنفذين بطبيعة غزة والغزيين، فإذا كان التمسّك بالأرض فطرة بشرية فإنه لدى الغزيين يفوق ذلك بكثير… مناقشة هذا الأمر مجرّد مضيعة للوقت”.

كذلك، يشعر أحمد إبراهيم بالطمأنينة لرفض دمشق أن تكون أراضيها “وطناً بديلاً” في سياق خطة ترامب، بالإشارة إلى أن “الإدارة السورية الجديدة صرّحت علناً أنها ضد خطة ترامب ومؤيدة لحق الفلسطينيين في أرضهم، إضافة إلى أن الشعب السوري تاريخياً يرفض الظلم والاحتلال كما أن مشكلته مع إسرائيل كبيرة خصوصاً بعد الاستهدافات الأخيرة واحتلال بعض الأجزاء من الجنوب السوري عقب إسقاط نظام الأسد، لذلك لا يمكن لدمشق القبول بهذه الخطة”.

إغراءات… وضغوط

إلى ذلك، يعتقد علاء أن واشنطن ستحاول إغراء دمشق وأحياناً الضغط عليها بملفات حساسة منها العقوبات الأمريكية على سوريا، والاعتراف بالإدارة الجديدة، ومساهمات إعادة الإعمار ودعم الاقتصاد، من أجل القبول بخطة ترامب. لكنه يستدرك بأن إدارة أحمد الشرع تمتلك خيارات فعّالة للرفض، أولها أن الاعتراف الدولي بإدارته قادم لا محالة بتوطين الغزيين أو بدونه، مردفاً بأن الخطة ستُجابَه بعراقيل من دول كبرى تتداخل في القضية الفلسطينية مثل روسيا والصين وتركيا وإيران.

في السياق ذاته، يشير منيني إلى أنه “لدى الإدارة الجديدة عدة أولويات؛ على رأسها البحث عن الاستقرار، وملف النازحين، وعدم امتلاكها للشرعية القانونية لاتخاذ مثل هذه القرارات. إن ابتزازها برفع العقوبات غير مُجدٍ لأن الدول مُلزمة حالياً بالرفع لأنها كانت مفروضة على النظام السابق”.

من زاوية أُخرى، يشدّد رامي جلبوط على أن “موافقة الحكومة السورية على استقبال فلسطينيين “مهجَّرين من غزة” يجعلها “شريكة في ارتكاب الجريمة وهو أمر مرفوض ولا أعتقد أن الإدارة ستقبل بالخطة لهذا السبب”.

“تأزيم المأزوم”

رأى علاء محمد أن “القبول بخطة ترامب وتوطين الفلسطينيين في سوريا سيزيد من أعباء البلاد، وسيؤثّر على عملية البناء وإعادة الإعمار لسنوات، ولدى سوريا تجربة سابقة مع استقبال العراقيين أثرت على وضع البلاد رغم كونها فترة استضافة مؤقتة، فكيف مع استقبال مليون فلسطيني بشكل دائم”.

ومن وجهة نظر ديمغرافية، يؤكد عبدالله منيني أن “تهجير الفلسطينيين إلى سوريا من شأنه أن يؤزّم الوضع فيها أكثر، وأي خرق في نسيج المجتمع السوري حالياً ستكون له تداعيات خطيرة لا يستطيع أحد تحملها، عدا عن وجود التزام أخلاقي سوري بحق العودة للفلسطينيين، وبالتالي سيرفض الطرفان هذه الحلول”.

وحول تأثير تهجير الغزاويين إلى سوريا، يعلق رامي جلبوط: “بطبيعة الحال، وبكل تأكيد، سيعيق الأمر عملية بناء سوريا، لأنه سيضع الدولة أمام ملف خطير وكبير جداً في مرحلة مبكرة من عملية البناء، وهو ما يفوق طاقة الدولة حالياً ولن تستطيع التعامل معه”.

ضغط بأسلوب آخر

يتسابق الجانبان الأمريكي والإسرائيلي في الضغط على حكومة دمشق الحالية من خلال تصريحات يراد منها تكريس عزلة الإدارة الجديدة، وتهديدها بذرائع من بينها فلول النظام والعلاقة مع إيران وحزب الله، لتمرير مخططاتها في بلد تعاني من التدخّل الخارجي المتعدّد منذ 14 عاماً.

وبرز خلال الأسبوعين الأخيرين تصريح مدير مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأمريكي، سيباستيان غوركا، في إطار إجابته على اعتراف واشنطن بسلطة أحمد الشرع إذ قال: “هل يسيطر على كل سوريا؟ لا. لا يسيطر… كان جهادياً لفترة طويلة، فهل أصلح نفسه؟ هل هو رجل أفضل الآن؟ هل يؤمن بالحكومة التمثيلية… هذه الأسئلة يجب توجيهها للمسيحيين والعلويين وأي شخص عانى بسبب الحركة الجهادية التي يقودها الشرع… أنا درست الحركات الجهادية 24 عاماً، لم أر أبداً قائداً جهادياً ناجحاً يصبح ديمقراطياً أو يؤمن بحكومة تمثيلية”.

ورغم إسقاط نظام الأسد، لم يتخلّ نتنياهو عن تلميحاته وتهديداته لسوريا. فخلال مؤتمر صحافي في إسرائيل مع وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، توعّد نتنياهو: “إسرائيل ستتصرف لمنع ظهور أي تهديد بالقرب من حدودنا في جنوب غرب سوريا. إذا كانت هناك اليوم أي قوة في سوريا تعتقد أن إسرائيل ستسمح لقوات معادية أخرى باستخدام سوريا كقاعدة عمليات ضدنا، فهي مخطئة كثيراً”.

والأهم من كل ذلك، تحرّك إسرائيل الفعلي على الأراضي السورية حيث استهدفت معظم الترسانة العسكرية التي كان يملكها الجيش السوري زمن بشار الأسد، عدا عن خرقها لاتفاقية فض الاشتباك مع سوريا 1974 واحتلالها محافظة القنيطرة وبعض القرى في محافظة درعا، بحجة تشكيل درع أمني لها يحميها من “الإرهاب”.

يأتي هذا بينما تأثّرت جميع قطاعات الحياة في سوريا من جراء الحرب العسكرية التي شهدتها البلاد ولاسيما في مجال الخدمات والطاقة والاقتصاد الذي يعيش حالة انهيار هي الأسوأ ربما منذ استقلال سوريا. يضاف إلى ذلك حالة التخبّط الأمني وسط غياب سيطرة الحكم الجديد على كامل الجغرافيا السورية، مع وجود خلافات داخلية سياسية مع الأكراد في شمال شرق سوريا، وانتشار خطابات طائفية تهدد بحمام دم في أي فرصة، علاوة على الاستهدافات الإسرائيلية لدمشق وتدمير كامل تركة الجيش السوري العسكرية.

رصيف 22

—————–

هل لديك أخٌ أو أختٌ من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ نعم؟ إذًا كن مواليًا لبشار الأسد.

Nawwar Jabbour

هل لديك أخٌ أو أختٌ من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ نعم؟ إذًا كن مواليًا لبشار الأسد.

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا

يُكتب هذا النص عن سجن حماة المركزي، وإهداء لكل من نجا من النظام السوري، ولذوي الاحتياجات الخاصة في العالم وذويهم، وكمحاولة خاصة لي للنوم بشكل أفضل ولكي أنسى التبول اللارادي الذي كُنت أعاني منه. والأهم إلى مايا التي أخاف منها لأنها تحملت ما لا اتحملهُ ابداً.

………………………………………………………………………………………….

اختفت مايا فجأة. اختفت من كانت تُبرز صليبها من فوق ثيابها من أجل الخبز والدواء للجرحى. انتابني قلق هائل.

مايا الآن في الثلاثينيات، لكنها في الثورة كانت أكثر إشراقًا من أي أحد قد تتعرف عليه. كانت تنقل الخبز بمخاطرة شديدة.

أتعرفون الجوع؟ الجوع ليس أن لا تملك مالًا، بل أن تملك شريكًا قاسيًا في الوطن يريد لجوعك أن يكون عبرة، أن تعبد إله الخبز بشار الأسد عبر حواجزه العسكرية المُرعبة، والتي كانت تتحكم بطعام الناس لارضاخهم.

كان النظام يمنع عن ريف حماة الطعام، قبل وصول داعش، وقبل أي تنظيم جهادي آخر. كان على الثائرين أن يُحرموا من الطعام. الحواجز العسكرية تمنع تداول الخبز.

فمن كان المُنقذ؟ بعض العساكر، والأطباء، والموظفين، والمسيحيين. من كانت الحواجز تُنجيهم من سُمّيتها وكراهيتها وتسمح لهم بالعبود بعدد ربطات خبز مُحددة.

خرجت مايا من السجن واتصلت به ولم تسألني إلا عن شيء واحد. قالت لي:

 كيفو أخوك؟

أنا: إنه بحالٍ جيد. ما زالت اكتب باسم مستعار واشتقت اليك، وأنتِ كيف حال أخوك – وهو أيضاً من ذوي الاحتياجات الخاصة مثل أخي-

مايا: كيفو أخوك ووينو؟

أنا: منيح. وين هو نايم جنب اهلي

مايا: مع أمك…

غضبتُ من مايا ما بكِ؟  سألتها:  هل أخوكِ بخير؟

مايا: أي، بس لازم نسافر.

صمتت مايا، ثم بكت. قالت لي:

مايا: سافر، أرجوك، وانتبه على أخوك.

مايا لا تريد أن تخبرني عن عذابها أو عن طول التحقيق.

مايا: نوار، لا تعارض النظام كرمال أخوك.

قُطعت الكهرباء. انتظرت عودة الإنترنت على البطارية. اتصلت بها مرارًا.

ردت مايا. اشتقت لوجهها. كان عليّ أن أطالبها بإرسال صورة لها لأنني اشتقت إليها.

كان وجهها نحيلاً أكثر من قبل، لكنه كان بعينين دامعتين كبيرتين. لمايا عينان سوداوان ووجه أبيض، إلى حدّ يكون فيه هذا الوجه قاسي الجمال، أو حادًّا.

كان هاتفي صغيرًا، ولم أجرؤ على ترك السماعة للحظة واحدة أو إبعادها عن أذني. كان لمايا أن تقول شيئًا، وانتظرتُ لحظة واحدة حينما قالت لي:

مايا: ما عم أترك أخوي لحظة، بس أمانة، كيفو أخوك؟

انفجرتُ. قلت لها:

أنا: الآن أريد أن أعرف، ما هذا الهوس؟

ببساطة، بكت مايا وقالت لي بالحرف الواحد:

مايا: اخرج، لكي لا ترى ما رأيته. في سجن حماة المركزي، كانوا يستعيضون عن ضرب النساء بضرب طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة.

الآن أبكي. تخيّلتُ أخي موضوعًا في سجن، يُضرب من عشرات رجال الأمن لكي تُقر النساء بأماكن تواجد أزواجهن.

ارتعدتُ وبدأتُ في البكاء. أنا ومايا بكينا. تبولتُ، فقدتُ قدرتي على التحكم ببولي، وشعرتُ بأن جسدي بارد إلى حدٍ يمكنني فيه إحراق نفسي.

أشعلتُ سيجارة، وببنطالٍ مُبلل قمتُ من السرير لأركع وأبكي.

تخيّلوا… في سجن حماة المركزي، طفلٌ داون يُضرب أمام نسوة. تخيّلوا طفلًا كأخي قد يكون صيدًا لو مُتنا كعائلة، ليُستخدم كجسدٍ يُضرب.

قالت لي مايا:

مايا: كانت النسوة تصرخ، ثم تحاول أن تصمت ليخف الضرب على الولد. كان على سجاني سجن حماة أن يتحكموا بضرب الفتى ليضبطوا أصوات الأمهات المفجوعات. كنّ يعترفن سريعًا من أجل صبي يرتعد وبالكاد يصرخ.

ذهبتُ لأستحم. أخفيتُ صوت الواتساب. في مرات سابقة، كنت قد فقدتُ قدرتي على التحكم في التبول اللاإرادي، وذلك بعد أن كتبتُ ملفًا عن جريمة البيضا.

استحممتُ دون أن أترك مايا على الهاتف. جسدي الأسفل بات نظيفًا، لكن كتفي وإبطي ورقبتي تتعرّق.

أمي نائمة، وأبي أيضًا، يتوسطهما أخي. لم أجرؤ على الذهاب إلى أمي.

أريد أن أضم أخي الآن، الآن.

كيف عليَّ أن أخاف، أكثر من كل هذا؟ أخي المريض البائس، الذي تتعب أمي من أجل نظافته وصحته، أن يُلقى في السجن ليُضرب؟

أنا خائف. أكتب هذا النص وأنا خائف. خائفٌ من عالمٍ لا يعرف أبدًا كيف أن أفلام الرعب ذاتها تأخذ أصوات الرعب من طبقات خوف طفلٍ وصوته.

كانت مايا تملك أخًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، مثلي. كم كنا بائسين نتبادل خوفًا. لكنها كانت بحالٍ أفضل.

انتظرتُ أبي حتى السادسة صباحًا ليستفيق، لأضم أخي، أشتم شعره، وأشكرُ الإله، بشار الأسد وأخيه وكلابه، لأنهم لم يقولوا لكل عناصرهم أن يعتقلوا المرضى ويضربوهم، أن لا يأتوا بأطفال الشهداء ليعذّبوهم…

أبكي الآن، وأستجدي الأصدقاء ليجلسوا معي، لكي لا أنهار وأنا أكتب هذه الأحرف.

كيف سأنام؟ هل سأتخيّل أخي المريض العاجز معنفًا أمام سيدة أو أم؟

ثمانية عشر يومًا قضتها مايا في سجن حماة، وأيامًا أخرى في الفروع الأمنية. تسعة أيام تُشاهد فتى لا ذنب له، ولا يملك وعيًا، يُضرب أمام السيدات.

صرتُ أبكي.

استفاقت أمي دون أن تنظر إلى وجهي. غمرتُ وجهي بشعر ورأس أخي.

يتبول أخي في الحفاض، وأنا، مثله، أتبول في السرير. أنا أستحم، أما هو، فيحتاج يدي أمي لتغيّر له حفاضه.

وضعتُ رأسي على جسده، ودفنتُ وجهي معه في السرير. صرتُ أضمه وكأنني أدافع عنه، أدافع عن مايا.

يداي قويتان جدًا، فاستفاق من شدة إحكامي لجسده.

هل سيقتلونه يومًا ما لأنني أكتب في الصحافة باسمٍ مستعار قد يُكشف؟

هل عليَّ أن أكون مواليًا من أجل أن أحمي هذا المريض؟

في اليوم التالي، كان المترجم العريق محمد حبيب يحاول مداواتي، ألا يتركني وحدي.

اتصلتُ بياسين حاج صالح لأخبره ثم اغلق حسابي الفيس بوك لفترة، ثم اتصلت بكل معارض أعرفه من ذوي الصوت، لأخبره:

أنا: ماذا أفعل لهذا الصبي؟

هل هناك نظامٌ في العالم يأتي بطفلٍ مريض ليعذّبه أمام أمهات؟

مايا، مرة أخرى.

في اليوم الثالث، اتصلتُ بمايا.

دفعني محمد حبيب لكي أسهر معه كل يوم عبر الواتساب حتى أرتاح.

اتصلتُ بمايا، وكانت آخر محاولة لي لدفن مايا.

أريد أن أنسى ما قالته كليًا.

أنا: كيف كانوا يضربونه؟ بالعصي؟ بالقشاط؟

مايا: لكن النسوة كنّ يعترفن سريعًا.

…………………………………………………………………

بدأتُ أشعر بآلام جسدية. ابتعدت عن مايا لأنني لا اقوى على تخيل ماشاهدتهُ عينيها.

ابتعدتُ عن أخي ثلاثة عشر يومًا. لم أشاهده بعد سقوط النظام. ولا أعرفُ إن كان علي ان أنسى الخوف الذي خُفته عليه وعلى أختي التي هُددت باغتصابها أمامي في مرحلة لاحقة.

تعالجتُ من التبول اللاإرادي بمساعدة طبيب نفسي، وبمساعدة محمد حبيب.

بدأت علامات الهوس الاكتئابي تظهر عليّ من حينها لحد اليوم أحاول تنظيف نفسي من كل قذارة عرفتها.

الفيس بوك

—————————-

ملاجظات

Qasem Albasri

في التشبيح للرئيس أحمد الشرع:

للتو خرج الشعب السوري من 54 عاماً من حكمٍ سلالي بغيض، لم يتوانَ عن ضربه بالكيماوي والبراميل حين عبّر عن رغبته بالتغيير. 54 عاماً فيها رئيسان فقط: أبٌ وابن، قائدٌ خالدٌ وآخر مُفدّى؛ قائدان إلى الأبد.

ومن أجل التغيير فقدنا مئات الألوف من أهلنا، وبُترت أرجلٌ وأيادٍ، ونزحنا ولجأنا، ودُمّرت حواضرنا، وسكن قسمٌ من أهلنا في الخيام. هذا ثمنٌ أكبر مما تحتمل الشعوب دفعه، ولكنّا دفعناه. انتهت هذه الحقبة التي مسحت بنا الأرْضين والسماوات، وصار لدينا حكمٌ جديد، انتقالي ومؤقت وغير مُنتخب، فإذا سمحنا بتقديسه نخسر ما جنيناه، وهنا لا نخسر فقط فرصتَنا الممكنة في حكمٍ ديمقراطي، تداولي، يذهب فيه رئيسٌ ويأتي آخر، ولكننا نخسر معها ثمن عذاباتنا وعذابات مَن سبقونا.

من غير المفيد استعداء الوضع والرئيس الجديدَين، لأنها سلطة حديثة العهد في بلد مُحطّم ومليء بالأزمات، ولكنّ التشبيح، والتسامح مع هذا التشبيح، خطيران على مستقبلنا. مَن عاش تجربةً مثل تجربتنا عليه أن يركن إلى التوجّس: من أيّ سلطةٍ ورئيسٍ، وأن ينتقد، وأن يتظاهر في الشوارع رفضاً لقرارات السلطة ورأسها، وعلينا جميعاً أن نراقب تعامل السلطة مع مَن يخالفها، وأن نخشى دوماً على حرية التعبير، وأن نطالب بصونها. للتوجّس مكانٌ واسعٌ جداً في المنتصف، بين سامي الكيال وموسى العمر، حيث التعقّل والخوف على البلد، وحيث السياسة أيضاً.

على أحمد الشرع ومُحبّي أحمد الشرع أن يؤمنوا أنه سيذهب بعد سنواتٍ ليأتي غيره، وأن القائد الضرورة لم يعد ضرورة، وأنّ الأبد انتهى وننتظر بدلاً منه دورتين انتخابيتين من 4 سنوات. لأن ثمن التغيير السابق كان البراميل والكيماوي والمسالخ، فإن ثمن أي تغييرٍ مُقبل قصاصةٌ ورقيةٌ في صندوق الاقتراع، بدون تقديس، ولا تشبيح.

الفيس بوك

———————–

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى