الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

رسائل من تحت الأرض: سيرة ترويها العبارات بين الساحات وأقبية المعتقلات/ شام السبسبي

25-02-2025

        منذ سنواتٍ عدّة، بَدَت فكرة إسقاط النظام ضرباً من الخيال. وُلِدَت المعجزة السورية مع ذلك، بعد 14 عاماً. اتّسع الحلم فضاقَ على السلطة، كبر في صدور أبناء الثورة فضيّق على خوفهم، وتحقّق المستحيل مجسداً عبارة الغرافيتي الشهيرة «كن واقعياً، اطلب المستحيل» (Soyez réalistes, demandez l’impossible)، إحدى شعارات احتجاجات (أيار) مايو 1968 في باريس الطلابية والعمالية التي خُطّت على جدران الحيّ اللاتيني في باريس، وعلى جدران جامعة السوربون، وانتشر فيما بعد في مجمل المدن الفرنسية.

        مثَّل هذا الشعار تعبيراً بصرياً عن مطالب الثوّار بإصلاحات سياسية واجتماعية، ومرآةً تعكس جوهر الحراك الذي سعى إلى تحطيم حدود الممكن، والتأكيد على أن التحوّلات الكبرى قد تبدأ من حلم مستحيل وعصيّ.

        انطلقت الاحتجاجات يومها من الجامعات، ثم تحوّلت إلى إضرابات عمالية شارك فيها أكثر من 10 ملايين شخص في فرنسا، ومع أنها لم تؤدِ إلى ثورة سياسية مباشرة، لكنها غيّرت فرنسا ثقافياً واجتماعياً، وأثّرت بشعاراتها على العديد من الحركات الاحتجاجية الداعية إلى العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية حول العالم.

        «كن واقعياً، اطلب المستحيل» هو أحد رسوم الغرافيتي المبكّرة التي عكست روح التمرّد ضدّ الأنظمة السياسية والاقتصادية، هذا الفنّ الذي سيرتبط بعد عدّة أعوام فقط بالثقافة التي انتشرت في نيويورك فترة السبعينيات، والتي اعتبرت الشارع وقضاياه مصدراً أساسياً لإلهامها، فيرتبط معها الغرافيتي بالتغييرات الاجتماعية والسياسية والحركات والتظاهرات المدنية بوصفه «فنّ احتجاج».

        شغل الغرافيتي حيّزاً تعبيرياً مهمّاً مع انطلاق انتفاضات الربيع العربي في تونس ومصر وسوريا وليبيا، بوصفه أحد الأدوات السلمية في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، فنطقت حينها جدران الساحات العربية بما لم تستطع وسائل الإعلام النطق به، ذلك بعد أن خُطّت عليها عبارات مباشرة تحمل مضامين العدالة والحرّية والكرامة، وتُسمّي اللصَّ لصّاً والقاتل قاتلاً. رُسمت جداريات تنتقد الأنظمة الحاكمة، وتدعو الجماهير للثورة والاحتجاج، وتُخلّد شهداء الثورات.

        حضر الغرافيتي في تونس خلال الثورة، وبعد انتصارها وإسقاط نظام زين العابدين بن علي في كانون الثاني (يناير) 2011، فاستخدم الفنانون الجدران لتخليد شعارات الثورة مثل «الشعب يريد إسقاط النظام». بينما تحوّلت جدران القاهرة بعد سقوط نظام حسني مبارك إلى متحف مفتوح يروي تاريخ الثورة المصرية، ويخلّد وجوه شهدائها وعيون ثوّارها المصابين ممن فقدوا أبصارهم برصاص قوات الأمن.

        في سوريا، حضر الغرافيتي كذلك منذ البدايات؛ في شعاراتٍ خُطَّت على الجدران في درعا وغيرها، وعبارات مثل «إجاك الدور يا دكتور» و«الشعب يريد إسقاط النظام». شغلت عباراتٌ كهذه مكانةً رمزية في سيرة الثورة السورية، وحملت جدران المدن السورية رسومات وعبارات تنطق بالغضب والأمل، شغلت لنفسها مكاناً في الذاكرة السورية وذاكرة المطّلعين على سيرة العقد الماضي في سوريا، وذلك رغم محاولات النظام السوري طمس هذه الجداريات وتخريبها، فمن رسم «البشت» المشهور لكأس العالم وإلى جانبه جملة «روسيا المجرمة»، مروراً بجداريات مُنشد الثورة عبد الباسط الساروت، وصولاً إلى لافتات وجداريات كفرنبل الشهيرة؛ كجدارية رائد الفارس «الثورة فكرة والفكرة لا تموت»، نجح السوريون في تحويل الغرافيتي لا إلى وسيلة احتجاجية فحسب، بل إلى أداة توثيقية عبر نشر جداريّاتهم رقمياً لتصل إلى العالم أجمع.

        يتذكر معظم السوريين اليوم قصّة «الرجل البخّاخ»، لقبٌ أُطلق على عددٍ من الشبان بين مدن سورية مختلفة، اشتهر منهم بخاخ دمشق الذي كتب على جدران متاخمة للقصر الجمهوري والدوائر الرسمية في دمشق عبارات مطالبة بإسقاط النظام، قبل أن تنجح الأجهزة الأمنية في أن ترديه قتيلاً، ويشيَّع بمظاهرة حاشدة انطلقت من منطقة كفرسوسة في عام 2012. اللقب مستمدٌ من لوحة درامية في مسلسل بقعة ضوء كتبها عدنان زرّاعي، الذي غيّبه النظام منذ عام 2012.

        ويمكن القول في الحالة السورية إن الغرافيتي ساهم في انتزاع «الفضاء العام» (الشارع) من السطوة البصرية للنظام الحاكم، تلك الممثّلة بصور وتماثيل الأسدين الأب والابن وشعارات التمجيد والتبجيل، واسترداده من الاستملاك الأسدي إلى الملك عام.

        وعلى الرغم من تشابه الثورة السورية في بداياتها مع ثورات الربيع العربي، إلا أن جداريات تونس والقاهرة أصبحت بعد أعوام من الإطاحة بالنظامين الحاكمين بمثابة متحف حي لثورات الربيع، وجزءاً من الذاكرة الوطنية للشعبين، بينما كان القمع أكثر وحشية في الحالة السورية، فنجح النظام بطمس الكتابات على الجدران وإزالة آثارها في أماكن سيطرته.

        لم تمض بضعة شهور على انطلاق الانتفاضة السورية حتى اكتظّت سجون النظام السابق بعشرات الآلاف من المعتقلين المعارضين لحكمه، فوَجَدت معهم ظاهرة الكتابة على الجدران طريقها إلى زنازين السجون والمعتقلات كرد فعل مقاوم للاعتقال والإخفاء القسري والتغييب.

        بعبارةٍ أخرى، تحوّلت رسوم الغرافيتي الإبداعية إلى كتابات جدارية بسيطة من حيث الشكل، كما وتحوّلت مضامينها من وسيلة احتجاج جماعية حمّالة لمعاني المقاومة والحرّية ورفض الاستبداد، إلى شهادات فردية عن وحشية النظام واستحالة الحياة في غياهب معتقلاته، و«وثيقة حضور» في حال غياب وثيقة تكشف مصير المُختطف إذا ما قضى بالمعتقل.

        كتب المعتقلون على جدران الأفرع الأمنية أسماءهم وأسماء عائلاتهم وتواريخَ اعتقالهم، وتوصياتهم للمحتجزين من بعدهم؛ كجملة «شدّ حيلك كرمال يلي بيحبّوك» و«ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل»، وعبارات دينية تشير إلى حتمية النصر مثل جملة «لا غالب إلّا الله»، و«دعا ربه إني مغلوب فانتصر».

        وبينما طالبت رسوم الغرافيتي بإسقاط النظام داعيةً السوريين للانخراط في الثورة عليه، بقيت جدران المعتقلات شاهدة على ألم فردي لا يعرفه إلا صاحبه، وناقلة رسائل وداعية لمعتقلين مجهولي المصير في أقبية الأسد كجملة: «كنتُ هنا» وجملة «لن ننسى شهدائنا».

        هذه الجدران كانت بمثابة الملاذ الأخير للسوريين المعتقلين في أقبية الأسد، فحفروا عليها آلامهم وآمالهم ووثّقوا لحظات مريرة من تجاربهم، ومع فرار بشار الأسد فإنه ما يزال مصير حوالي 120 ألف معتقلٍ مجهولاً، عشرات الآلاف قضوا في أقبيته وسجونه بينما بقيت كتاباتهم وأسماؤهم وثائق غير رسمية على جريمة استمرت مدة 53 عاماً.

        أمّا الجدران التي نطقت طوال سنوات بشعارات الثورة فلم تعد اليوم مساحة لغرافيتي يتحدّى النظام الحاكم، ولا ألواحاً يخطّ عليها الثوّار آمالهم بغدٍ أفضل وفرج قريب، إنما تحوّلت إلى معارض صامتة للألم مُجسداً بصور مفقودين ومغيبين يكسوها الصمت، وجوه جامدة تحدق بعيون فارغة في المارة لتروي حكايات الغياب والانتظار والفقد.

   أُنتج هذا المقال في إطار زمالة بداية المسار للصحفيات السوريات في دورتها الأولى.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى