حرب على الحقيقة/ فاطمة العيساوي

28 فبراير 2025
اختارت قواميس أوكسفورد في العام 2016 مصطلح “ما بعد الحقيقة” (Post-Truth) كلمة العام، باعتباره الأكثر شعبية في توصيف ديناميات الانتخابات في الولاية الأولى للرئيس الأميركي، الشعبوي دونالد ترامب، واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والنتائج الصادمة والمناقضة للتوقّعات. يُستخدَم المصطلح، بحسب تعريف أوكسفورد، للدلالة على “الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقلّ تأثيراً في تشكيل الرأي العام من ميول العواطف والمعتقدات الشخصية، حتى لو توافرت الحجج التي تثبت العكس”. اُختير المصطلح (المُستخدَم سابقاً في السياسة والفلسفة) بعد أن زاد استخدامه بنحو 2000% في عام 2016، مقارنة بالعام الماضي (2024)، وقد راج استخدامه في وصف الحملتَين الانتخابيتَين لاعتمادهما شعارات مغايرة بشكل فاضح للحقائق، من دون أن يؤثّر الأمر في خيارات الناخبين الذين صوّتوا استجابةً لشعارات عاطفية هُويَّاتية، غالباً ما كانت كاذبةً ومعتمدةً على إثارة هواجس الخوف من الآخر. في العام السابق (2024)، اختارت قواميس أكسفورد مصطلح “تعفّن الدماغ”، الذي عُرّف أنه “التدهور المفترض للحالة العقلية أو الفكرية للشخص، على الأرجح نتيجة الإفراط في استهلاك المواد (بشكل خاص المحتوى في الإنترنت) التي تعتبر تافهةً أو لا تمثّل تحدّياً. وأيضاً ما يوصف بأن من شأنه أن يؤدّي إلى مثل هذا التدهور”.
بحسب أوكسفورد، يمثّل التعبير السبب والنتيجة في آن، في إشارة إلى المحتوى القليل الجودة المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكل عام، والتأثير السلبي للاستهلاك المكثّف لهذا النوع من المحتوى في الفرد أو المجتمع، خصوصاً الشبّان الذين باتوا يستهلكون الأخبار والمعلومات عبر “تيك توك” بشكل حصري. إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المصطلحَيْن لا يزالان صالحَين في توصيف غلوّ السياسات الشعبوية بزعامة ترامب، فبالإمكان استنتاج أن مفهوم الحقيقة، أو التدقيق بما هو واقعي أم لا، لم يعد ذا أهمية لشرائح واسعة من الجمهور متلقّي “الحقائق”.
في الولاية الثانية لترامب، قُدّم الرئيس الأميركي بأنه “الكاذب الأول المُعولَم”. عبر منصة إكس أو وسائل الإعلام التقليدية، يضخّ ترامب وإدارته الأكاذيب التي قد تفوق الخيال، من دون الاهتمام أساساً بخوض أيّ “حربٍ” لتأكيدها أو دحضها. قد يكون انتخابه لولاية ثانية نتيجة لسعة تأثير الكذبة الشهيرة عن سرقة الولاية الثانية منه في انتخابات عام 2020، التي شهدت فوز الديمقراطي جو بايدن. إلا أن الإدارة الحالية لا تبحث عن تصحيح الأكاذيب أو إثباتها، ولا الاعتذار عنها. رواية المهاجرين في سبرينغفيلد، “آكلي لحوم القطط والكلاب”، تبيَّن لاحقاً أن مصدرها نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس الذي اكتفى بالقول: “إذا كان عليّ أن أكتب قصصاً لكي تهتم وسائل الإعلام الأميركية فعلياً بمعاناة الشعب الأميركي، فهذا ما سأفعله”. إيلون ماسك، مالك منصّة إكس، قد يكون حائز المرتبة الأولى في نشر الأكاذيب، عبر سلسلة ادّعاءات عن فساد حكومي على نطاق واسع في الإدارات الفيدرالية، أبرزها برامج وكالة التنمية الدولية الأميركية، التي تموّل نشاطات رئيسة وذات أهمية فائقة في مناطق عدة في العالم. من أبرز أكاذيب ماسك، وأكثرها تداولاً في الإعلام، ادّعاؤه وقف برنامج بقيمة 50 مليون دولار لتوفير واقيات ذكرية في غزّة. قدّم البرنامج مثالاً لتبذير أموال دافعي الضرائب الأميركيين بغير أهمية. عندما واجهت صحافيةٌ ماسك بكذبته لم يتأثّر أو يهتم، بل اكتفى بالقول إنه ليس كلّ ما يقوله (وسيقوله في المستقبل) صحيحاً، وإن إرسال هذه الواقيات إلى موزمبيق هو بالضرورة أفضل من إرسالها إلى غزّة، “لكن لِمَ دفع الأموال في برنامج كهذا في المقام الأول؟” (البرنامج ضمن المساهمات في تمويل برنامج الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية).
هل دخلنا مرحلةَ ما بعد “بعد الحقيقة” في مستوى كذب القادة الشعبويين بزعامة ترامب، ومستوى استهتار المؤيّدين في تقصّي الحقائق؟… في الولاية الأولى لترامب، شكّل تصريح المستشارة السابقة للرئيس الأميركي، كيليان كونواي، عن “الحقائق البديلة” صدمةً، في محاولتها تبرير تصريحاتٍ كاذبة عن حجم الحشود التي حضرت حفل تنصيب ترامب الرئاسي آنذاك. لا يعني ذلك أن الجمهور كان غير قادر على التحقّق من حجم الحشد، إنما غير راغبٍ أو غير معنيٍّ بالأمر. اليوم انتقلنا إلى مرحلة متقدّمة بكثير عن كذبة المستشارة، التي تبدو كذبةً بيضاء. يرافق كذب ترامب، وإقبال مؤيّديه على تصديقه، ارتفاع عالمي في نسب المُقبلين على مشاعر القومية المتطرّفة، والقَبَلية، والخوف من التغيير، وكراهية المهاجر أو الغريب، نتيجة حتمية لعزلة الأفراد الاجتماعية والفكرية في الفقاعات العازلة (Filter Bubbles)، وفقدان القدرة على الاقتناع بحقائق وأرضيات مشتركة، رغم التباين الاجتماعي والأيديولوجي. إلا أن حالة التفكّك الاجتماعي ليست جديدةً، ولا غلوّ السياسات الشعبوية في استغلال هذا الواقع في التضليل. الجديد أن زعيم التضليل (ترامب)، وجماعته، مقتنعون بالأكاذيب التي يختلقونها وكأنّهم يصدّقونها أولاً، قبل أن يتلفّظوا بها، وهو ما يفسّر انجذاب الجمهور المؤيّد لها، وعدّها دليلاً على أصالة مروّجيها (Authenticity)، خلافاً لادعاء النخب “المزيّفة”.
كان مستشار ترامب السابق، ستيف بانون، قد وصف عملية التضليل الواسعة التي ساهمت في وصول ترامب إلى السلطة، في تصريح له عام 2021، بأنها “إغراق المنطقة بالقذارة”، وقد استخدم الباحث في الإعلام الروسي، بيتر بوميرانتسيف، التوصيف الأكثر واقعية لهذه الحالة، وهو “ضباب الجهل”، بحسب مقالة لمجلة تايم، كُتِبت في رثاء نتائج الانتخابات الأميركية، والحقائق المقذعة التي تبدّت منها أن “الاستسلام الآن يعني قطع الطريق على الحقيقة، الأمر الذي قد يفتح الباب أمام دوّامة موت الديمقراطية”. النتائج المترتّبة من حملة الكذب الممنهجة، ليست وبالاً على الديمقراطية فقط، بل أيضاً، وقبل أيّ شيء آخر، على المعرفة بحدّ ذاتها، خصوصاً عندما يدخل الكاذب في حالة تماهٍ كاملة مع كذبه، تستوجب إنقاذه منها أولاً، قبل إنقاذنا معه.
العربي الجديد