سوريا الجديدة: المعتقلون في الشارع والمؤثّرون في القصر!/ مصطفى الدباس

28.02.2025
من خلال الظهور إلى جانب شخصيات مؤثرة قريبة من الجمهور، سعى الشرع إلى تقديم نفسه كقائد متواضع ومنفتح، في محاولة لكسر الصورة العسكرية الصارمة المرتبطة بماضيه كمقاتل سابق في القاعدة، ولتخفيف المخاوف من توجهاته الإسلامية المتشددة، ووفر له مساحة أكثر أمانًا للتحكم في الخطاب الإعلامي، بعيداً عن الأسئلة الحرجة التي قد يطرحها الصحافيون التقليديون.
في كانون الأول/ ديسمبر 2024، وبعد أسبوعين فقط من سقوط نظام الأسد، استضاف القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، مجموعة من الإعلاميين وصنّاع المحتوى، كان من بينهم الأردنيان قاسم حتو، المعروف بـ”ابن حتوتة”، وجهاد حطاب، المعروف بـ”جو حطاب”، بالإضافة إلى آخرين منهم الناشط الإعلامي المقرب من السلطات الجديدة جميل الحسن وعدد من الإعلاميين ممن عرفوا بدعمهم للإدارة الجديدة.
ووفقاً لوسائل إعلام مقربة من الشرع آنذاك، تناول اللقاء المخاوف والتطلعات المستقبلية لسوريا، ونشر “ابن حتوتة” الذي ينشر محتوى عن السفر، عبر حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي صورة تجمعه بالشرع، معلقاً: “أول ما وصلت دمشق، تفاجأت بدعوة من فريق السيد أحمد الشرع مشكورين لحضور لقاء ودي مع مجموعة من الإعلاميين. شاركنا حواراً حول المخاوف والتطلعات المستقبلية، فرصة طيبة وأحاديث فيها أمل بمستقبل مشرق لسوريا العظيمة”.
وبغض النظر عن طبيعة المحتوى الذي يقدمه هؤلاء المؤثرون، أثارت دعوة الشرع لهم، بعد أسابيع قليلة من سقوط النظام، انتقادات واسعة. فبينما كانت المشاهد المروعة لتحرير المعتقلين تبث يومياً، والمقابر الجماعية تكتشف تباعاً، تساءل كثيرون عن الهدف الحقيقي من اللقاء، وما إذا كان هؤلاء المؤثرون قادرين على تقديم أي قيمة مضافة لسوريا في هذه المرحلة الحساسة، لا لدعم المعتقلين المحررين نفسياً، ولا لإعادة الكهرباء، أو رفع العقوبات، أو حتى توثيق فظائع الأسد، لأن العالم كله شهد تلك الفظائع، عبر تغطية إعلامية استمرت لحظة بلحظة، وعلى مدى سنوات من التقارير التي لم تغفل أي تفصيل.
وانتقد اللقاء أيضاً، إعلاميون محليون وعائلات المعتقلين المحررين، الذين خرج كثيرون منهم إلى مصير مجهول وسط تجاهل تام من وسائل الإعلام المحلية، فيما لم يسلط أي من صناع المحتوى الضوء على أوضاع هؤلاء المحررين النفسية، أو احتياجاتهم الأساسية، علماً أن كثيرين منهم خرجوا ليجدوا ألا أهل لديهم ولا منزل يعودون إليه.
دعوة صانعي المحتوى… عفوية أم استراتيجيّة؟
ربما يكون اختيار الشرع للقاء المؤثرين قبل الإعلاميين جزءاً من استراتيجية إعلامية مدروسة تهدف إلى إعادة تشكيل صورة السلطة الجديدة في سوريا بعد سقوط الأسد. فمن خلال الظهور إلى جانب شخصيات مؤثرة قريبة من الجمهور، سعى الشرع إلى تقديم نفسه كقائد متواضع ومنفتح، في محاولة لكسر الصورة العسكرية الصارمة المرتبطة بماضيه كمقاتل سابق في القاعدة، ولتخفيف المخاوف من توجهاته الإسلامية المتشددة، ووفر له مساحة أكثر أمانًا للتحكم في الخطاب الإعلامي، بعيداً عن الأسئلة الحرجة التي قد يطرحها الصحافيون التقليديون.
ويظهر ذلك ربما لمحة عن كيفية رؤية السلطات في سوريا للإعلام المستقل، عبر تهميشه. ولا يختلف ذلك كثيراً عما كان يقوم به نظام الأسد المخلوع، إذ أحاط الرئيس بشار الأسد نفسه بالفنانين والممثلين، لا بغرض تقديم نفسه كشخصية منفتحة على الفن، بل لعدم وجود صحافة أصلاً في البلاد، وبالتالي كان الفنانون هم الطبقة التي تُقدَّم من خلالها الدعاية الناعمة للتواصل مع الشعب السوري، ولهذا السبب تم اللجوء إليهم عام 2011 في شهور الثورة الأولى لتشكيل وفود منهم أرسلت الى المناطق التي شهدت تظاهرات سلمية حينها لإقناعهم بالتوقف عن ذلك، وهي شهادة قدمها الممثل السوري المعروف سامر المصري في تصريحات صحافية متكررة.
واليوم يتم استبدال الفنانين بالمؤثرين وصانعي المحتوى ذوي الانتشار الواسع لدى السوريين المعارضين لنظام الأسد ممن نبذوا الدراما المحلية في السنوات الأخيرة.
من جهة أخرى، قد يكون القرار ناتجاً من افتقار الشرع الى الخبرة السياسية وعدم إلمامه بالبروتوكولات الرسمية، ما أدى إلى ترتيب اللقاءات وفق أولويات غير تقليدية، بخاصة أنه لم يكن رئيساً حينها، ويبدو أن الشرع عموماً لم يدرك أهمية البدء بالتواصل مع الإعلام الرسمي في سياق بناء سلطة جديدة، أو أنه لم يكن محاطاً بمستشارين إعلاميين قادرين على توجيهه في كيفية إدارة المشهد الإعلامي.
كما قد يكون قد استوحى هذه الخطوة من زعماء شعبويين يعتمدون على التواصل المباشر مع الجماهير عبر المنصات الرقمية، متجاهلين دور الصحافة التقليدية في تشكيل الرأي العام على المدى الطويل، بدليل تركيز الرئيس الأميركي دونالد ترامب مثلاً على مقدمي البودكاست بدل قنوات التلفزيون في حملته الانتخابية الأخيرة.
ربما تكون هنالك أهداف سياسية أعمق وراء اللقاء، مثل إرسال رسالة داخلية وخارجية مفادها أن الحكومة الجديدة تتبنى نهجاً منفتحاً تجاه صانعي المحتوى والمدونين، وليس فقط الإعلام التقليدي الذي كان مرتبطاً بالأنظمة السابقة. وربما يسعى الشرع أيضاً إلى بناء علاقة مع جيل الشباب، مستغلاً شعبية المؤثرين للوصول إلى هذه الفئة المهمة أو قد يكون هدفه الترويج لصورة أكثر استقراراً لسوريا في مرحلة ما بعد الأسد، عبر الإيحاء بأن البلاد بدأت تتعافى، وأن مناخ الحرية والانفتاح الجديد قد يجذب الدعم والاستثمارات في المستقبل.
مكتب حكومي لإدارة المؤثرين: دعم أم رقابة؟
بعد فترة وجيزة من تشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة محمد البشير، أعلنت وزارة الإعلام عن إنشاء مكتب حكومي لإدارة صناع المحتوى. هذا القرار يحمل وجهين متناقضين؛ فمن جهة، ربما ينظم العلاقة بين المؤثرين والدولة، لكنه قد يتحول إلى أداة رقابية تحد من حرية الإبداع وتفرض خطاباً رسمياً عليهم، بشكل يتناقض مع طبيعة صناعة المحتوى بوصفها تعبيراً عن الذات الفردية قبل أي شيء آخر.
ويعتمد مدى حرية صناع المحتوى في ظل هذا المكتب على أهدافه وآلية عمله. فإذا كان يهدف إلى تقديم دعم قانوني، وتوفير فرص تدريب وتمويل، ربما يكون خطوة إيجابية لتعزيز صناعة المحتوى كوسيلة للتعبير عن الرأي. أما إذا كان دوره الأساسي هو ضبط الرسائل الإعلامية وفق توجه حكومي، فذلك يهدد استقلالية المؤثرين ويجعلهم أدوات دعائية.
وتدرك الحكومة الانتقالية أهمية المؤثرين في الوصول إلى الجمهور، خصوصاً الشباب، في ظل تراجع تأثير الإعلام التقليدي، الذي أفسده النظام السابق بتحويله إلى أداة دعائية تهمل قضايا المواطنين. لذلك، ربما يستخدم صناع المحتوى لتحسين صورة الحكومة ونقل رسائلها بأسلوب غير رسمي وأكثر قرباً من الناس. لكن هذا يطرح تساؤلات حول مدى حريتهم في اختيار مواضيعهم وانتقاد الحكومة من دون قيود. فإذا فُرضت خطوط حمراء على المحتوى، ربما تصبح مشاركتهم شكلية، أكثر من كونها تعبيراً عن آراء مستقلّة.
على غرار ما بدأه أحمد الشرع، دعا محافظو دمشق، اللاذقية، وحلب، مجموعة من صناع المحتوى للقاءات رسمية، في خطوة تبدو جزءاً من استراتيجية إعلامية متكاملة تهدف إلى إعادة تشكيل الخطاب العام في سوريا بعد سقوط الأسد. هذه اللقاءات لا تبدو مبادرات فردية عشوائية، بل هي امتداد لنهج بدأه الشرع نفسه، ما يعكس نية واضحة لاستخدام صانعي المحتوى والـ”بلوغرز” كأداة لبناء شرعية النظام الجديد والتأثير في الرأي العام المحلي والدولي.
أثارت نوعية صانعي المحتوى المدعوين تساؤلات واسعة، تحديداً دعوة محافظ دمشق لشادي قاسو، المعروف بمحتواه الكوميدي السطحي وعلاقاته السابقة بوسائل إعلام النظام، والذي اختصر طريق الشهرة عبر صورة جمعته بحافظ الأسد الابن. هذه الخطوة قوبلت بانتقادات حادة، خصوصاً أن قاسو لم يعرف بتقديم محتوى جاد أو سياسي.
من جانب آخر، كانت دعوة مايا نجار، صاحبة ماركة للرموش الاصطناعية في دمشق، إلى اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني محلّ استهجان، لأنها تقدم محتوى باذخاً وبعيداً عن واقع السوريين الذين يعيش أكثر من 90 في المئة، منهم تحت خط الفقر بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ما جعل دعوتها تبدو منفصلة عن الواقع، وكانت النجار التقت أيضاً مع محافظ دمشق في دعوة وجهها إلى صانعي المحتوى.
وينطبق الأمر ذاته على رغد عدرة، التي كانت من أشد الموالين للنظام السابق، إذ نشرت قبل سقوطه بفترة قصيرة منشورات تحرض على إبادة إدلب، ووصفت أحمد الشرع بـ”الإرهابي”. ورغم ذلك، دعاها محافظ اللاذقية لمناقشة “قضايا مهمة”، لتظهر لاحقاً معتذرة، مدعية أنها كانت مجبرة على تأييد النظام السابق.
وأثارت دعوتها تساؤلات حول معايير اختيار الشخصيات العامة، ومدى جدية السلطة الجديدة في تجاوز خطاب الكراهية وتحقيق المصالحة الوطنية، أو ما إذا كانت هذه الخطوات مجرد إعادة تدوير لوجوه محسوبة على النظام السابق في المشهد الجديد.
والحال أن صناعة المحتوى تبقى مصطلحاً فضفاضاً يشمل المدونين لحياتهم اليومية والناشطين السياسيين والمنتقدين الاجتماعيين والساعين الى الشهرة والعاملين في الترفيه أو الذين يعبرون فقط عن ذاتهم باللباس والماكياج والرقص وغيرها… والتمييز بين تلك الفئات قد يكون محيراً لكنه ضروري في بلد مثل سوريا الأسد حيث قُمعت الحريات السياسية ومنع الأفراد من الانتقاد حتى تجاه حياتهم اليومية في ملفات كالكهرباء والخدمات.
في المقابل، كان النشاط السياسي محصوراً بالناشطين المعارضين الذين كانوا يعيشون خارج مناطق سيطرة النظام، واليوم بات هنالك واقع جديد مع إمكانية لبروز ناشطين سياسيين جدد من الداخل السوري أو حتى للتعبير عن الذات بطرق مختلفة عما كرَّسها المؤثرون الأكثر ثراء ممن كانوا يشكلون طبقة محيطة بالنظام السوري ايضاً، ما قد يعيد الى التدوين روحه الأصلية.
من بين هؤلاء في إدلب مثلاً، برز كثير من الناشطين، الذين غطوا معارك الحرب، والقصف والدمار، وقدموا قصصاً إنسانية من المخيمات والقرى المدمرة، ومن بينهم جميل الحسن الذي تحول من ناشط إنساني يوثق معاناة المدنيين في إدلب إلى شخصية إعلامية مقربة من السلطة الجديدة في سوريا، إذ بات يرافق الجيش، ويشارك في الفعاليات الرسمية، ما أثار تساؤلات حول استقلاليته. وزادت زيارته إلى قطر التكهنات حول دوره في استراتيجية إعلامية أوسع. إلى جانب ذلك، وُجهت الى الحسن اتهامات بالعنصرية والطائفية ومهاجمة الأقليات بسبب تصريحات سابقة اعتبرت تحريضية، وسط اتهامات بتبنيه خطاباً إقصائياً بدلاً من الدفع نحو المصالحة. في ظل هذا الجدل، يبقى مستقبله الإعلامي مرهوناً بمدى قدرته على الحفاظ على مصداقيته، وتقديم محتوى مستقل بعيداً عن الترويج الرسمي والخطابات المثيرة للانقسام.
صناعة المحتوى بين الحرية والرقابة
وتتبع الدول حول العالم سياسات متباينة في تعاملها مع صناع المحتوى، تراوحت بين التنظيم الصارم في الدول التي تميل للشمولية وترك مساحة من الحرية في الدول التي تفسح المجال للحريات الفردية. في الإمارات، يلزم المؤثرون بالحصول على رخصة رسمية، ما يمنح الحكومة تحكماً غير مباشر بالمحتوى. أما في الصين، فالتسجيل والتصاريح شرط أساسي للنشر، مع حظر أي خطاب يتعارض مع توجهات الدولة، وفي روسيا، تعامل القوانين المؤثرين ككيانات إعلامية رسمية، ما يقلص مساحة الحرية المتاحة لهم. في المقابل، تتبنى بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، نموذجاً أكثر مرونة، حيث تبنى العلاقة على شراكات إعلامية غير إلزامية، ما يتيح لصناع المحتوى حرية العمل مع تشجيعهم على تناول قضايا ذات منفعة عامة.
وفي الدول التي تمر بمراحل انتقالية، يشكل التعامل مع الأصوات المعارضة اختباراً لمدى جدية السلطة في تبني نهج ديموقراطي. في سوريا الجديدة، ربما تسعى الحكومة إلى احتواء المؤثرين المخالفين عبر وسائل متعددة، مثل الإغراءات المالية، أو الضغط غير المباشر، أو فرض سياسات تقييدية من خلال مكاتب تنظيم المحتوى. إذا فُرضت قيود صارمة على المحتوى المصنف على أنه “غير ملائم سياسياً”، فربما ينشأ إعلام موجّه لا يعكس الواقع الحقيقي على الأرض.
وعلى رغم الخطاب الرسمي الداعي إلى الانفتاح، تظل المخاوف قائمة من ملاحقة المؤثرين الذين يخرجون عن الخط الرسمي. في الكثير من الدول التي شهدت تحولات سياسية، استخدمت الحكومات أساليب مختلفة لتكميم الأفواه، بدءاً من التضييق القانوني والتشهير، وصولاً إلى التهديد المباشر. وإذا تبنّت سوريا الجديدة ممارسات مماثلة، فذلك سيقوض أي محاولة حقيقية لخلق بيئة إعلامية حرة ومستقلة، ما قد يجعل الانفتاح المعلن مجرد واجهة تخفي ربما رقابة صارمة على المحتوى.
– صحافي سوري مقيم في برلين
درج