مع شقير وقطيفان والقسيم في درعا والقريّا ومخيم اليرموك/ ماجد كيالي

05.03.2025
ذهبنا إلى مخيم اليرموك، وتلك لم تكن زيارة، وإنما بمثابة عودة إلى البيت، إلى الذكريات، إلى الوطن، والهوية، لما يمثله مخيم اليرموك، إذ سكن سميح فيه سنوات، وكان عبد الحكيم والقسيم يترددان عليه دائماً، مثل سوريين كثر، وجدوا فيه مساحة حرية، في كنف الفلسطينيين، وحركتهم الوطنية، وأنشطتهم الثقافية…
بسبب وجودي في برلين، في تغريبتي الأخيرة، قبيل عودتي إلى سوريا، لم تُتح لي مشاركة السوريين فرحتهم العارمة، في ساحة الأمويين في دمشق، أو غيرها من ساحات مدن سوريا، يوم السقوط الذريع، والشنيع، لنظام الأسد، يوم أصبح اسم بشار “الرئيس الفار”.
في هذا اليوم المجيد حرصت على التعويض عن ذلك بمتابعة هذا الحدث التاريخي العظيم، والمفاجئ، على التلفزيون، كنت متلهفاً لتفحّص وجوه الناس في المدن السورية وحركاتهم، والإصغاء لصيحاتهم وهتافاتهم، وسماع أناشيدهم، كانت تلك أكثر لحظة حميمية في حياتي، أحسست فيها بمشاعر قوية تجتاح كياني، إذ هي أكثر لحظة أعادت لي، ولكثر مثلي، معنى اسمه الأمل، أكثر لحظة بثت فيّ وفي معظم السوريين، الروح من جديد.
يومها تداعيت وأصدقائي “البرلينيون”، فلسطينيون وسوريون، للاحتفاء بهذه اللحظة التاريخية، التي غيّرت وجه سوريا، والتي فاجأتنا، وأدهشتنا، وثأرت لسني عمرنا، التي ضاعت، لأعزائنا الذين قضوا ضحية لهذا النظام، لرفاقنا الذين أمضوا جزءاً من عمرهم في المعتقلات، والذين تشردوا عن وطنهم وبيوتهم وعائلاتهم وذاكرتهم، فكل شيء تبخّر بلحظة، وبتنا كأننا مقبلون على حياة جديدة، حياة تم التخلص فيها من الأبد الأسدي.
كان ذلك يوم المنى، وبمثابة فرحة العمر كله، كنا نتطلع الى بعضنا بعيون تشع ببريق غريب يحمل ألف معنى، كانت العيون تتحدث، أكثر من الكلمات، وتعبر عن فرحتها، أحقاً حصل ذلك؟ هل تحقق ذلك الحلم الذي بدا، طوال العقود الماضية، كمستحيل؟ حتى أنفاسنا في ذلك اللقاء بدت كأنها تستنشق هواء لم تعهده، في حين كانت كلماتنا تتسابق في استرجاع ذكريات الأيام والسنين، إذ هرب، أو انقلع، الرئيس بالخفّة نفسه، أو الخسّة، التي أتى بها، فقط كنا نتأسى على رفاقنا الذين قضوا وكانوا يحلمون بمثل تلك اللحظة.
بيد أن تلك المشاعر التي افتقدتها، لغيابي عن ساحة الأمويين في دمشق، وأقصد الشعور الجمعي بفرحة الناس بالخلاص، فرحتهم برحيل الطاغية، ورحيل زمن الخوف والرعب، فرحتهم بالانتصار، وبالحرية، عشتها بكل جوارحي في درعا (مهد الثورة السورية) وفي القريّا (بلد سلطان باشا الأطرش) وفي “ساحة الكرامة” في السويداء، وفي بلدة جرمانا، وأخيراً في مخيم اليرموك.
هكذا، فقد صدف أن عشت مثل تلك اللحظة مع الأصدقاء الفنانين سميح شقير، صاحب مغناة “يا حيف”، التي باتت من أيقونات الثورة السورية، وعبد الحكيم قطيفان، صاحب الموقف الشجاع، الذي أمضى 8 سنوات من عمره في السجن في الثمانينات، ومع أحمد القسيم صاحب الأغنية التي باتت تصدح بها كل الحناجر: “ارفع راسك فوق فوق انت سوري حرّ”، الذين دعوني لمرافقتهم لدى دخولهم إلى سوريا، قبل أيام، عن طريق الأردن، بعد غياب 12 عاماً، لذا أنا شديد الامتنان لهم لأنهم جعلوني أعيش، وأحس، بتلك الفرحة، والدهشة، والغبطة، التي لا يمكن تخيلها، والتي لم أعش مثلها طوال حياتي.
أقصد أنه إحساس غريب، ليس بإمكان الكلمات وصفه، فمنذ دخولنا قاعة المركز الثقافي في درعا، الذي غص بالحاضرين، صدحت الحناجر بصوت واحد بشعار: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد. هذا حصل في القريا، عند ساحة سلطان باشا الأطرش (التي تضم ضريحه) وحصل في ساحة الكرامة في السويداء التي تمردت على النظام وخرجت عن طوعه بنضالها السلمي، وفي المركز الثقافي في بلدة جرمانا في دمشق، وفي مخيم اليرموك (مع إضافة شعار: “واحد واحد واحد سوري فلسطيني واحد ـ الحرية لا تتجزأ”.
طبعا، مثل ذلك قد يحصل في أي حفل، وفي أي مكان وزمان، لكن الفارق أنه يحصل مع شعور طاغ لدى السوريين بالخلاص وبالحرية وبالكرامة وبالانتصار، كانت كل القاعات والساحات تغص بالناس، للقاء شقير وقطيفان والقسيم، الذين شكلوا بمواقفهم وأغنياتهم مزاج سوريين كثر. كان الناس في القاعات أو في الساحات كأنهم شخص واحد حقاً، إذ الكل يهتف ويغني، والكل ينظر إلى سميح وعبد الحكيم والقسيم، الذين كانوا بالكاد يستطيعون المرور بين الحشود، بين من يريد أن يقبّلهم، أو يحييهم، او يأخذ صورة معهم.
شيء مدهش أحسست به في كل تلك اللقاءات، جعلني غير قادر على تمالك مشاعري، إذ كنت أرى الجميع يغني الأغنية ذاتها، أطفالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً، كأنهم صوت واحد، يغنون بإباء، من القلب، من الروح، بكل ما يمتلكون من مشاعر، كأنهم استعادوا أنفسهم، أو أنهم اكتشفوا للتو ذاتهم.
بصراحة، ثمة لحظات لم أتمالك فيها نفسي، بخاصة عندما كان سميح يصدح بأغنيته: “يا حيف”، مع ارتعاشة أو بحة مؤلمة تعبر عن إحساسه، بخاصة وهو ينشد “يا حيف زخّ رصاص على الناس العزّل يا حيف، وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف… وانت ابن بلادي تقتل بولادي.” ثم يرتفع صوته وهو يتابع” “وظهرك للعادي وعليي هاجم بالسيف، يا حيف يا حيف”؛ إذ ليس بإمكان أي انسان أن يتأثر وأن يبكي. هذه الأغنية كانت تهز الحضور، وتلهب مشاعرهم، وتثير أحزانهم وروح التمرد عندهم، بخاصة أن سميح يلقيها بكل إحساسه، بكل ما في قلبه من شجن، وبكل ما في روحه من ثورة، وبعدها يصعد الإيقاع، مع مشاركة الجمهور، عندما يصل سميح إلى المقطع الذي يقول: “يما كلمة حرية وحدا هزتلو اركانو، ومن هتفت لجموع يما أصبح كالملسوع يما، يصلينا
بنيرانو، واحنا اللي قلنا اللي بيقتل شعبو… خاين… يكون من كاين…”، كانت كلمة خاين، هي اللازمة التي ينهض عندها الجمهور، ويلوح بقبضاته، ويقول خاين.
وكالعادة، فإن أحمد القسيم، وهو شاعر شعبي، يستلهم في أغنياته تراث منطقة حوران جنوب سوريا، أبدع في مغناته: “ارفع راسك فوق فوق انت سوري حر… ارفع راسك لا للذلة وعن ارضك لا ما تتخلى… ارفع راسك احمي بلادك… احمي أرضك أرض اولادك… ارفع راسك صوتك ارفع خلي كل العالم يسمع انت سوري حر… الشعب لعيونك غنى هي هي هي هي هيهي هي انت سوري حر”. فهذه الأغنية باتت على لسان معظم السوريين، في كل مدن سوريا وبلداتها وقراها، وقد غنتها المطربة أصالة نصري أيضاً.
في يوم آخر، ذهبنا إلى مخيم اليرموك، وتلك لم تكن زيارة، وإنما بمثابة عودة إلى البيت، إلى الذكريات، إلى الوطن، والهوية، لما يمثله مخيم اليرموك، إذ سكن سميح فيه سنوات، وكان عبد الحكيم والقسيم يترددان عليه دائماً، مثل سوريين كثر، وجدوا فيه مساحة حرية، في كنف الفلسطينيين، وحركتهم الوطنية، وأنشطتهم الثقافية، إذ لم يكن مخيم اليرموك مجرد مكان، فقط، وإنما كان دلالة على مجتمع وقضية وهوية، كعاصمة سياسية وثقافية للفلسطينيين، وكرابط وثيق بين الشعبين الفلسطيني والسوري، علماً أن عدد الفلسطينيين في منطقة اليرموك وما حولها يصل الى حوالى 200 ألف، فقط، من أصل حوالى مليون نسمة كانوا يقطنون في تلك المنطقة، التي تعتبر من أكثر المناطق حيوية في دمشق.
في المخيم كان الخيار الوقوف عند أرض بيت علي الشهابي، الكاتب والسياسي الفلسطيني، المغيب منذ 13 عاماً، بعدما اعتقله النظام، من دون أن يعرف أحد مصيره، كعشرات آلاف السوريين والفلسطينيين. الوقفة لم تكن في ظل أطلال البيت/المبنى، وإنما على أرضه، إذ لم يبق أي أثر للبناء، فمعظم المخيم على هذه الحالة، من التدمير الكارثي.
وكانت اختيرت تلك الوقفة في ذلك المكان لأن البيت مدمر، في دلالة على إدانة النظام المجرم الذي دمر المخيم وعمرانه، وشرد سكانه. ولأن علي يمثل الضحايا الذين قتلهم النظام بالبراميل المتفجرة والقنص وفي السجون، ودلالة على المعتقلين المغيبين سوريين وفلسطينيين. وأيضاً، لأن علي أعطى عمره للحركة السياسية السورية، رابطاً بين الكفاح السوري والكفاح الفلسطيني، باعتبار فلسطين قضية حرية وكرامة وعدالة، والقضية السورية هي كذلك أيضاً. وبالطبع لأن علي، وكل أفراد عائلته، يعرفهم كثر من السوريين والفلسطينيين، وكان صديقاً لسميح وعبد الحكيم والقسيم ولي، وكان بيته مفتوحاً للجميع، بل إن والدته كانت بمثابة أم لجميع ضيوف علي الدائمين والمؤقتين؛ وعليه فقد كانت الوقفة تلك، بمثابة وفاء وتكريم لعلي ولمخيم اليرموك ولشعب فلسطين.
سلام على سوريا… سلام لكل الضحايا… الحرية لا تتجزأ…
درج