نقد ومقالات

حاجات الرواية/ ممدوح عزام

07 مارس 2025

قال رينيه جيرار إنَّ جان بول سارتر أرادَ أن يلقّن القارئ، أو القرّاء، في رواياته، احترام الشخصيّات الروائية، وعدم الاعتراض عليها عندما تقدِّم وجهة نظرها، غير أنّه لم يترك للشخصيات في رواياته كامل الحرية في التعبير.

والمفارقة هنا شديدة الغرابة، فمن المعروف أنَّ فنّ الرواية في العالم قائمٌ على خلق شخصيّات حيّة، مكتملة الحريّة داخل النص، ومن الأفكار الشائعة في هذا الباب أن شخصيات الرواية تملك حريتها في مواجهة استبداد الروائي نفسه، وثمة من يتحدث مجازًا عن تمرّد الشخصية على إرادة كاتبها. ولهذا يمكننا أن نعترض على دور الكاتب الإله، أو الخالق، كما تميل إلى هذه التسمية كثير من مدارس الأدب، ومن الأدباء.

وقد يكون السبب أن سارتر، أو غيره من المفكرين، والفلاسفة، بل والشعراء، الذين كتبوا الروايات، لم يكن هدفهم فن الرواية، بل هدفوا إلى استخدام الرواية مطيةً لعرض أو لتقديم الأفكار التي يرغبون في قولها. وربّما كان هذا الدافع وراء تشديد سارتر على مبدأ الالتزام، وقد ترجم كتابه “الأدب الملتزم” إلى اللغة العربية في الستينيات من القرن العشرين، إبان انتشار الفكرة نفسها من طريقين، الفلسفة الماركسية، والفلسفة الوجودية، ولا فرق يذكر في تبنّي كلّ من الفلسفتين للمبدأ إلا في التطبيق الذي رافق القسر والترهيب والإبعاد أو الإهمال في الماركسية لكل من لا يلتزم بالتعليمات الفوقية، بينما حافظت الوجودية على حرية الاختيار للكاتب في حياته، دون أن تتسامح معه فكريّاً.

لكنَّ الأساس الذي ينطلق منه المفكّر مختلف تماماً عن ذلك الذي ينطلق منه الروائي، إذ بينما يسعى المفكر إلى اعتبار الرواية صنعة (وهو يستخدم عبارة “مجرد صنعة” للدلالة على انعدام قيمة الرواية كنوع مستقل ينبغي العمل وفق شروطه) تلبي حاجات أخرى لا علاقة لها بها: حاجات تربوية مثلاً، أو سياسية، أو اجتماعية. يعمل الروائي على خلق عالم موازٍ لعالمنا يحتوي كل شيء، ولا تشغله المطالب العامة وحدها.

وقد نافست رواية الالتزام الرواية الفنية في النصف الثاني من القرن العشرين، وتمكنت من زحزحتها إلى الوراء في سجلات القراءة، كان ذلك الزمن هو زمن الأيديولوجيات الكبرى والصغرى، وقد استخدمت الرواية بفاعلية قصوى في حروب الأفكار. بينما اندفعت اليوم رواية المغامرات الخيالية، ورواية الخيال العلمي، والرواية البوليسية (وكلها من تلك الفئة التي يطلق عليها في الغرب اسم “روايات محطة القطار” لأنها تقرأ أثناء السفر، أو لتزجية الوقت) لتزاحم الرواية الفنية أيضًا، في العالم كله، في الثقافات المحيطة بالمركز الأوروبي أو الأميركي، بحيث تشير إحصائيات المبيعات، في بلد مثل سورية مثلاً، إلى تصدر أسماء مثل دان براون أو غيوم ميسو أو غيرهما أرقام المبيعات في المكتبات والمعارض.

وهو ما يشير إلى التغيّر الذي طاول مكانة الأيديولوجيا والأفكار عامة. ستكون الرواية، دون الأنواع الأدبية الأخرى، محور الكثير من الندوات والنقاشات الفكرية والنقدية في الثقافة العربية والسورية، ولدى الروائيين العرب المثل والمبادئ ذاتها التي يجاهر بها الروائيون في مختلف الثقافات، بين من يؤيد فكرة أن تكون الرواية مطية الفكر والأخلاق، وبين أن تكون تمثيلًا كليًا للعالم.

* روائي من سورية

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى