“بول أحدهم لا يسقي موهبتك”… عن الهوس بالفردانية حد الفناء/ عمار المأمون
يشير الباحث الإيراني، جيسون محقق، في كتابه “الانقراض البشري: الهوس، القدرية، والمستقبل في هذيان-2019″، للكاتب العراقي حسن بلاسم، الذي نجد في كل واحدة من قصصه نوعاً من الهوس المرتبط بالعدوانية والرغبة بالتدمير، هذا الهوس الذي يقود صاحبه إلى الفناء. ويضيف محقق أن قصص بلاسم تحوي مهووسين بالكتب، بقتل الأب، بالموسيقى، بقتل الغرباء، وكأن فناء الذات المهووسة، أو جزء منها، ضرورة لتحقيق هويتها وامتلاك موضوع هوسها.
صانع الأقنعة وحمام البول
يشير بلاسم إلى هذا الهوس في نصوصه بوضوح في “الله 99- إيميلات مترجم إيميل سيوران”، وما نحاول تلمسه هنا عبر بلاسم وفرضية محقق عنه، هو لحظة اكتشاف الذات ووهم ضرورة تحقيقها كشكل من أشكال الهوس الذي قد يكون موضوعه فنياً أو مبتذلاً أو غروتيسكياً.
تطلق لحظة الاكتشاف هذه العنان للمخيلة وتعبّد درب الفناء، هذه اللحظة تمرّ في حكاية لبلاسم بعنوان “face Mask”، نقرأ فيها عن صانع أقنعة للموتى الذين فقدوا وجوههم جراء قتل أو انفجار، ولا يريد من حولهم أن يواروا الثرى بوجوه مشوهة، فصانع الأقنعة يخلق “وجه” اللحظة الأخيرة قبل نزول الميت في التراب.
صانع الأقنعة هذا كان خبّازاً ذا لمسة فنية، يكوّن العجين بالشكل الذي يريد، ومرة التقى سائق تاكسي اسمه أبو أحمد يمتلك هواية “جمع الأمراض”، إذ كان يسمع حكايات عن أمراض الناس ويتأثر بها، فـ “كان يبكي من أجل الضحك”، ولا جمهور له سوى زبون التاكسي الذي يقص عليه مرضاً ما.
يجاري الخباز، قبل أن يكون صانع أقنعة، سائق التكسي في الحديث عن الأمراض وأعراضها، وفي أحد المرات قام أبو أحمد بتوصيل الخباز إلى المسرح، لمشاهدة عرض عن رجل عبقري في الفيزياء يعاني من الشيزوفرانيا، أثناء العرض وبينما كان الخباز يجلس في ظلام الجمهور، اقتحم الممثل مساحة الفرجة، ثم وقف قبالة الخباز وهو “يبتسم بخبث، وبحركة شيطانيّة بطيئة، أخرج قضيبه، وبال بسعادة” في وجه الخباز.
لم يصدق الخباز ما حصل، وظن أن الأمر خدعة مسرحية، وعليه أن يحافظ على انضباطه كمتذوق راق للفن، لكن ما إن أبعد الممثل القناع الذي يضعه عن وجهه، حتى اكتشف الخباز أن الممثل هو نفسه سائق التكسي، وأن البول حقيقي، وبكى الخباز “بحرقة في صالة المسرح، بينما كان تصفيق الجمهور يتعالى”.
يضيف الخباز بعد حمام البول الذي اختبره، “قادتني هلوسة ما حدث للتفكير بالأقنعة. مرت الأيام وولدت فجأة داخلي رغبة كبيرة، كل ما أريده هو أن أنغمس في فن صناعة الأقنعة”، المثير للاهتمام أن الحكاية تبدأ بأن بطل القصة صانع أٌقنعة محترف، ونعلم لاحقاً أنه خباز، والأهم أن رغبته هذه بترميم أوجه الآخرين، ظهرت حين كان بلا وجه في ظلام المسرح، حين كان “لا أحد” واقترب منه المقنّع وبال في وجهه، وبعدها تحركت “رغبة داخله” دفعته لاحتراف هذا الفن، ويضيف لاحقاً: “تكشّفت لي موهبتي التي كانت نائمة في أعماقي مثل قصة كسولة… وهذا ما أريد أن أقضي فيه حياتي”.
لم يصنع الخباز قناعاً لنفسه استعداداً لموته أو لم يُشر لذلك، بل انهمك بأوجه الآخرين، صنعته التي “انهوس” بها وأطلق عليها اسم موهبة وفن، كانت نتيجة إفناء وجهه واختفائه.
ما أقنعه أنه “فنان” مُتفرّد، يمتلك ما لا يمتلكه أحد، كان نتاج لحظة يقين ساخرة بأنه “لا أحد”، لحظة لم يكن فيها مرئياً لأي شخص حوله، سوى لذاك المفصوم الذي تبول على وجهه.
هذه التجربة الساخرة نقلت الخباز من كونه “لا أحد” غارقاً في ظلام الجمهور، إلى “أحد ذي شأن”، صانع أقنعة مشهور يداري مآسي الذين فقدوا من يحبونهم، وربما كانت النتيجة فناء وجهه الذاتي، فمن سيصنع قناعاً له بذات الإتقان إن انفجرت بوجهه سيارة طائفية؟
الانتقال من “لا أحد” إلى “أحد ما”
هذه النقلة من “لا أحد” إلى “أحد ما” يشير إليها بيتير سلوتردجيك، في كتابه “نقد العقل السينيكي”، ويرى أنها نتاج وهم التنوير، أي الشروط الثقافية والسياسية التي افترضت أن “المعرفة” سبيل ليحقق الواحد منا ذاته، وليكون “أحداً ما” في المجتمع، ما أنتج مسؤولية أخلاقية، بل ووجودية، يحملها كل واحد منا، أشبه بـ “اتهام” بأن كل فرد يمتلك موهبة ما، ولابد لها أن تشعّ وتطغى، ليتمايز عبرها الفرد عن أقرانه، حتى لو كانت لحظة اكتشاف هذه “الموهبة” نتاج بول على الوجه وإحراج لم يره أحد.
نشهد حالياً “هوساً” بتحقيق الذات، وبأن يكون الفرد مرئياً لينال الاعتراف بأنه “مختلف” ويمتلك موهبة تتجاوز مفهوم “العمل”، سعي لفرادة تمنع بول الغرباء من الوصول إلى الوجه. تزداد هذه الرغبة عمقاً ووهماً ضمن المدن، وهنا المصادفة، لحظة الاكتشاف التي مرّ بها صانع الأقنعة كانت في مسرح، أشد الفضاءات التصاقاً بمفهوم المدينة، لكن “النور” كان على الممثلين، و”الظلام” يلتهم الجمهور، وعوض الانتقال من الظلام إلى النور، قام الممثل بإغراق صاحب الموهبة بالبول دون أن يراه أحد، هازئاً من كل أمنياته ومآسيه، والأهم، كاشفاً أنه مثله ربما، ساخر بلا وجه، “يؤدي” أمام الجميع حتى وهو يقود سيارة التاكسي، باكياً وساخراً من أمراض الركاب، تلك نفسها التي تكسب كل واحد منهم فرادة وتميزاً.
هذه الأوهام بـ “الفرادة” و”المواهب الدفينة” التي تنتظر أن تُسقى كي تنمو، يمكن أن تندرج تحت تشخيص الهوس بـ “هوية الأنا”، وكأن هناك برمجة مسبقة تحكمنا، وتفرض عليها أن نكون “أحداً ما”، فـ “الأنا” تسعى دوماً لأن تجعل خبرتها في الحياة مميزة أمام الآخرين، والأهم، هي مستعدة للرهان على الفناء في سبيل تحقيق ذاتها. هذا الرهان، يفعّل الفزع والخوف من أن نكون “لا أحد”، ما يغذي الرغبة الدائمة بفعل شيء ما والسعي لنيل الاعتراف، وهم هوسيّ بأن لنا فرادتنا وأننا لسنا مثل “هؤلاء” المختفين في الظلام.
لكن، كيف ننجو إن كان هذا الهوس بالأنا قد يعني فناءنا واستهلاك “طاقتنا”، خصوصاً أن التطور الشديد الذي نشهده، يبيح لكل الـ “لا أحد” استعراض ذواتهم علناً، وقد ينتهي الأمر بواحد منهم، مخبول بلا وجه، على “الخشبة/ الشاشة”، يبول على شخص عشوائي من الجمهور، فالأمر يتجاوز المدن الآن نحو العالم الافتراضي، ولابدّ أن نكون أحداً ما أو على الأقل نسخة افتراضية ما.
مفارقة السعي لتحقيق الذات وفنائها، تعني أننا لا يمكن أن ننجو أو حتى “نختبر الحياة” إن كان التركيز فقط على تحقيق الذات أمام الآخرين، والخوف من “الإحراج” بأن لا نكون أحداً. لكن، حسب سلوتردجيك، النجاة الفعلية في عالم لا تمتلك فيه المعرفة قيمة ولا قوة، بعكس كل ما وعدتنا به معارف التنوير والعلم، تتجلى بأن ننفي هذا الوهم، ونمرح في عالم “اللا أحد”.
هذه “اللاأحديّة” هي الشكل الأنقى للنجاة في ظل هذا العالم الذي يتهاوى، والذي يُلتهم الواحد منا، حرفياً ومجازياً، في سعيه ليكون فرداً مختلفاً، فهؤلاء الساخرون والمجاهيل اختاروا اللامرئيّة المشروطة من أجل نجاتهم، هم مدركون وواعون لشروط الآن وما تفرضه من “أحدية”، ولا نقول هم كسالى بل “أذكياء”، حسب تعبير سلوتردجيك.
هذا الذكاء الذي تُنفى على أساسه الهوية نحو اللا أحديّة، هو أشد تقنيات النجاة نجاحاً، وقد وظفها أوديسيوس، الذكي، المحارب المحنّك، صاحب فكرة حصان طروادة، حين واجهه السايكلوبس ذو العين الواحدة، فبعدما فقأ أوديسيوس عينه، صرخ العملاق المستعد لسحق كل من حوله: من فقأ عيني؟ فكان جواب أوديسيوس “لا أحد”، وتكرر هذا الجواب حين سأل أصحاب السايكلوبس صديقهم عمن فقأ عينه، فسخروا منه، ولم يعرفوا من هذا الـ”لا أحد” الذي فقأ عين عملاق، سخرية السؤال والجواب هنا، توضح أن “لا أحد” قادر على غلب أقصى الأخطار والمصاعب، إن كان ذكياً وأنكر ذاته و”هويته” لأجل نجاته ونجاة من معه.
يشير سلوتردجيك أن أوديسيوس هو مؤسس “الذكاء الحداثوي “، بعكس هاملت، الذي لا يُذكر سبب غبائه إن رأينا فيه نموذجاً عن ضد الذكاء، لكن يمكن القول إن سؤال هاملت الأبدي المتكرر “أكون أو لا أكون”، هو ما يشكل “غباءه”.
هو لم يختف لمرة واحدة، الأمير المثقف المتنور لم ينكر هويته مرّة، بل كان يقف بوجه عدوه دوماً ويعلن عداوته، لم ينف ذاته و”هاملتيته” التي قادته إلى الفناء، فطوال مسرحية هاملت يرمي بنفسه إلى الموت، يعلم من يريد قتله ويذهب ليواجهه دون أن يتخلى عن وجهه أو صوته في سبيل انتقامه، بل أصر دونما إصرار أن يبقى هو، هاملت الأمير، الذي اكتشف المؤامرة ويريد قتل عمه أمام الكلّ. هذا الهوس أفنى حياة الجميع في نهاية المسرحية، ومن ضمنهم هاملت، بل وضاع عرش المملكة الدنماركية، لأن هاملت اختار دوماً “أن يكون” هاملت، فلا نجا هو، ولا من حوله.
هامش عن جوزف ك
أليس جوزف ك بطل “المحاكمة” لفرانز كافكا، لا أحد؟ أليس هو المثال على ذاك الذي لا نعرف اسمه، والمتهم الذي لا نعرف هويته؟ نستعيد هنا مقاربة جورجيو أغامبين لنص “المحاكمة” في كتابه “Nudites”، إذ يرى أن “ك” هي دلالة على كلمة Kalumniator، التي تبدأ بحرف كاف، والتي تعني المفتري.
الحرف هذا كان يوسم أيام الرومان على جبين من يفتري على أحدهم ظلماً، وفي حالة المحاكمة، ك هو المفتري والمتهم في ذات الوقت، و”هوسه” ببراءته ورغبته بأن يكون بريئاً هو ما قاده في دهاليز البيروقراطية، خصوصاً أنه لا يوجد ذنب فعليّ، بل “افتراء” قام به ك لا نعرف ماهيته، هنا يضيف أغامبين: “كل واحد منا يبدأ محاكمة افتراء ضد نفسه”، ويتابع: “الذنب غير موجود أو الذنب ليس إلا افتراء على الذات، حيث يتهم الواحد نفسه بذنب غير موجود”.
إن لوينا عنق تفسير أغامبين، نجد أن جوزف ك يحلم بمحاكمة عادلة، يظهر فيها كـ “أحد” بريء. هوسه بالبراءة والمأساة التي اختبرها هي نتيجة افترائه على ذاته فعلاً، افترى على نفسه أنه “بريء” وأن عليه أن يثبت هذه البراءة التي تمثل هويته، مهما كان الثمن. ذنبه هو ادعاؤه البراءة، وربما سعيه للاختلاف وتحقيق ذاته كمواطن صالح.
هنا يمكن أن نفهم الافتراء الذي تجنيه علناً أوهام تحقيق الذات واكتشاف أسرارها. هي تهمة لا دور لنا بها، الكل متهم ويتحمل ذنب أنه “لا أحد” وعليه أن ينفي ذلك بكل كيانه، بل ويمكن أن يتعرض للمحاكمة من قبل من هم حوله كي يحقق شيئاً ما، أو أن ينبش تلك الموهبة الدفينة التي قد يفني الواحد عمره في سبيلها، متناسياً بسذاجة أنها قد تكون غير موجودة، الأهم، قد يكون الافتراء هذا إثر حدث تافه ومحرجٍ، كأن يبول ممثل مخبول على وجه أحدهم، مقنعاً إياه بضرورة أن يكون فريداً من بين أولئك الـ “لا أحد” الذين لم يمسّهم البول.
صورة المقال مقتطعة من لوحة من عام 1930, للفنان Charles Demuth المعنونة “Three sailors urinating”.
رصيف 22