منوعات

الدراما المؤسِّسِة: لماذا لا نكتفي من المسلسلات التاريخية؟/ محمد سامي الكيال

تحديث 07 أذار 2025

توجد سوق كبيرة لاستهلاك الدراما التاريخية في الدول الناطقة بالعربية، وليس فقط الأفلام والمسلسلات المصرية والسورية، التي تصدّرت هذا النوع لعقود طويلة، وجلبت استثمارات خليجية كبيرة للصناعة، وإنما أيضاً الأعمال المُنتجة في تركيا وإيران، التي دخلت السوق الناطقة بالعربية بفضل الدبلجة السورية واللبنانية.

بالطبع، صناعة الدراما أوسع من الأعمال التاريخية، وتحوي أنواعاً وتصنيفات كثيرة، إلا أن هناك خصوصية لمعالجة التاريخ، أو الجو التاريخي، في الثقافة الجماهيرية المرئيّة، وهي خصوصية يمكن اختصارها بكلمتين: الأيديولوجيا المُثقَّلة.

يُقدّم التأريخ، وهو نمط كتابي يتسم بالأصل بعديد من فنون السرد الملحمي، كثيراً من العناصر الدرامية، التي يمكن استغلالها لإنتاج أعمال فنيّة «ضخمة» وناجحة؛ كما أنه يمنح المتلقين شعوراً قوياً بالارتباط مع الأحداث والشخصيات، بوصفها أصول عالمهم المعاصر، بما فيه من عناصر الهوية، الذات والآخر، السياسة والدين. ولذلك يصعب إقناع الجمهور بأن ما يشاهده مجرّد عمل فني تخيّلي، بل هو رواية حاسمة في حياته، يتعلّق بها انفعالياً، ويجب أن تكون صادقة من وجهة نظره، وإلا سيحتج، لأنه يتعرّض للخداع و»تزوير التاريخ»، ولذلك نتائج وخيمة، منها النيل من الأمة، أو الهوية، أو الدين.

المسألة ليست أن المتلقين يعتبرون المسلسلات مصدراً لتعلّم التاريخ، ولكنهم يعون أنها جانب من الرواية الرسمية، أو شبه الرسمية، التي يجب أن لا تخالف ما هو مستقر وراسخ ثقافياً، وعليها أن تتماشى مع ما تعلّموه سابقاً، عبر وسائل أخرى، مثل المدارس والمؤسسات الدينية والخطابات السياسية المرتبطة بالدولة. وبالفعل، ربما لا يكون الجمهور على خطأ، فمنذ بداية إنتاج الأعمال التاريخية، في مصر بالتحديد، استُخدمت لتكريس روايات الدولة المصرية، عن «الإسلام» والتوحيد والتاريخ المصري؛ ثم دخلت سوريا على الخط، عبر ما يسمى «الفانتازيا التاريخية» في البداية، وهي أعمال، رغم اعترافها بفانتازيتها، طابقت تماماً السرد القومي العربي، عبر تقديم قبائل عربية تواجه عدواً ما، غير عربي. ثم تطوّرت الأعمال السورية لتصبح أكثر تاريخية واحترافية، ولكن دون أن تفارق السرد القومي/الإسلامي، المُوافق عليه سلطوياً، ربما مع تضمين بعض الإشارات والإسقاطات «الناقدة للأوضاع» الراهنة. ومنها عبارات إنشائية، كانت تُقال وتُغنى في بعض المسلسلات، مثل «إن الطغاة كانوا دائماً سبب الغزاة»، في مسلسل «ملوك الطوائف» عام 2005، من كتابة وليد سيف وإخراج حاتم علي. وكانت إشارات وإسقاطات مرضي عنها سلطوياً، خاصة بعد غزو العراق عام 2003.

برزت الدراما التاريخية الإيرانية في ما بعد، عبر قصص الأنبياء أساساً؛ والتركية التي اهتمت بالمرويات العثمانية. ومع أن الإيرانيين والأتراك قدّموا، في الأعمال المدبلجة، سرداً يخالف قليلاً ما هو مألوف عقائدياً وقومياً في الدول الناطقة بالعربية، إلا أن ذلك الاختلاف لم يكن صدامياً، ونال قبولاً متفاوتاً بين شرائح كبيرة من المتلقين. وفي كل الحالات، المصرية والسورية، بالتمويل المحلّي أو الخليجي؛ أو الإيرانية والتركية، فنحن أمام سرد أيديولوجي، قومي وديني، يتعلّق بأوضاع ونزاعات الحاضر أساساً، وروايات الدول، والقوى السياسية المركزية فيها، ولذلك فإن الاحتجاج، الذي قد يثيره هذا العمل أو ذاك، احتجاج سياسي أساساً. وكلمة «سياسي» في المنطقة، تعني، في حالات كثيرة، طائفيا أو إثنيا، وربما عشائري؛ ولها غالباً علاقة بـ»الإسلام»، أو بالأصح الإسلام السياسي.

هل استمرار الدراما التاريخية دلالة إذن على حيوية السرد القومي/الإسلامي، وضرورته على المستوى السياسي والمجتمعي؟ وهل يمكن أن نرى أعمالاً تاريخية خارجة عن أطر ذلك السرد؟ إذا كانت الإجابة «لا»، فمتى سنكتفي من الدراما التاريخية؟

خيالات بني أميّة

كان لبني أميّة أهمية مركزية في السرد القومي العربي، في سوريا خاصةً، لسببين، فرضهما التبسيط الأيديولوجي عن التاريخ: الأول أن دولتهم كانت «سوريّة» بشكل ما، فعاصمتهم الإمبراطورية، التي «فتحت العالم»، كانت دمشق؛ والثاني أن حكمهم كان «عربياً خالصاً»، لا أثر فيه لنفوذ أقوام أخرى. الصراع الطائفي في المنطقة أضاف سبباً ثالثاً للهوس ببني أميّة، وهو المناكدة المذهبية بين السنّة والشيعة. بالطبع يمكن القول إن كل تلك الأسباب لا علاقة لها بأي قراءة منضبطة للتاريخ، أو حتى معرفة بالملل والنحل الإسلامية، ونشأتها وتطورها، ولكنها فاعلة أيديولوجيا بشدة في الحاضر، ولدرجة قاتلة.

اليوم يعود بنو أميّة، ولكن ليس من بوابة القومية العربية، وإنما عن طريق سجال في سوريا، لا يمكن وصفه إلا بالسخيف، بين أنصار سلطة الأمر الواقع وخصومها؛ وكذلك مسلسل «معاوية»، وهو «إنتاج عربي مشترك ضخم، بميزانية مئة مليون دولار»، أثار بعض الاحتجاجات في مصر، وتم منعه في العراق، وقد سبق تأجيل عرضه لسنتين، ويبدو أننا صرنا في الوقت المناسب للعرض في رمضان الحالي. هل هذا مرتبط بانكسار النفوذ الإيراني في المنطقة، وهزيمة معظم الميليشيات المرتبطة به؟ بغض النظر عن الإجابة، فإننا أمام سرد تاريخي/درامي جديد، يحاول مواكبة التغيرات في المنطقة. وهو لا يختلف بنيوياً عن غيره، من زاوية أنه يريد أن يؤصّل وضعاً قائماً، أو تسعى بعض القوى الإقليمية إليه، في التاريخ الإسلامي وصراعاته، عبر تقديم شخصيات وحوادث، بطولية وملحمية، تساهم في إعادة ترتيب العالم الرمزي للجمهور، بما يتناسب مع ذلك الوضع. بالطبع، لا بد أثناء ذلك من بعض «أنسنة الشخصيات التاريخية» و»الأدوار المركّبة»، وما إلى ذلك من المقولات الدارجة في الدراما العربية.

نقول «إعادة ترتيب» العالم الرمزي، وليس إعادة بنائه، فذلك النوع من الدراما يخطو دائماً في حقل ألغام، إذ إنه مضطر دوماً لتسويق نفسه في بلدان كثيرة، ولكل بلد منها مؤسساته الدينية، وهيئاته الإعلامية والرقابية، وأيديولوجيا الحكم الخاصة به، والتي قد تتفق على نقاط أساسية معيّنة، ولكن لكلٍّ منها «حساسياته» الخاصة، ولذلك فمهمة صانعي الدراما شديدة الصعوبة: أن يكونوا محافظين إلى أقصى درجة ممكنة، لكي يتماشوا مع «الثوابت» و»الحساسيات»؛ وأن يحاولوا، في الوقت نفسه، تحقيق تغيير طفيف، في النظر إلى الحوادث والشخصيات التاريخية، التي يعالجونها، بما يتفق مع المنظور الأيديولوجي المطلوب. ربما كان الموقف المحافظ شبه مستحيل، وذلك لأن التقليد المترسّخ، بهمّة سلطات الدول القومية في المنطقة، يقوم على نزع إشكالية أي حدث أو شخصية تاريخية، وتقديمها في روايات بسيطة، وضمن ثنائيات خير وشر واضحة؛ فيما على صانعي الدراما أن يقدّموا شيئاً جديداً، على الأقل على المستوى السردي والفني، ولذلك، فستعتبرهم أطراف كثيرة مهرطقين، رغم أنهم لا يفعلون أكثر من العمل ضمن شروط المادة الأيديولوجية الثقيلة، المترسّخة سلفاً. قد يكون هذا معنى «إثارة الجدل» في المنطقة الناطقة بالعربية: بعض اللغط بين محافظين، لا يمكنهم أن يكونوا محافظين تماماً، مهما بذلوا من جهد، فالمثال الأعلى لمحافظتهم يعني الصمت تقريباً، أو التكرار البليد، الذي ربما يقول الصمت ما هو أكثر منه؛ وجمهور ينفعل مع هذا «التريند» أو ذاك، قبل أن تأتي موجة لغط أخرى. ليس كل هذا دليلاً على أي حيوية، لا في الخطاب، ولا في السياسة.

بالعودة إلى الداخل السوري، فربما سنجد مثالاً غريباً عن الحيوية: كثير من المقاطع القصيرة، والمنشورات السريعة، والأغاني الاستفزازية عن «بني أميّة»، التي تُنتج بشكل متسارع ولا مركزي، في وسط لا تميل سلطات الأمر الواقع فيه أصلاً إلى الإنتاج الفني والتلفزيوني، والإعلام المركزي. وتفضّل الإعلان عن نفسها عبر مواقع مثل «تلغرام»؛ وتقريب «الإنفلونسرز» و»البلوغرز»، بوصفهم الأكثر فعالية في نشر رسائل السلطة. ربما كان هذا هو «الجديد» الفعلي على مستوى الخطاب، إلا أنه «جديد»، بمعنى المهزلة التي تأتي تكراراً للمأساة، حسب عبارة ماركس الشهيرة، فحيوية الخطاب القومي/الإسلامي، التي أغرقتنا بالدراما التاريخية في العقود الماضية، خمدت؛ وإن بحثنا عن «حيوية» لهذا الخطاب حالياً، لن نجد إلا مواد مثل أغنية «بني أميّة أصلن دهب»، وهي ليست أكثر من تكرار ومعارضة طائفية للطميّة عراقية أقدم.

تاريخ بلا دراما

ربما لو لم يكن الشرط الأيديولوجي ضاغطاً على صنّاع الدراما، لشغلوا أنفسهم بأعمال فانتازية، تحاول تقليد مسلسلات شهيرة، مثل «لعبة العروش»، وعندها سيريحون أنفسهم، وجمهورهم، والتاريخ نفسه، من «إثارة الجدل» على الطريقة العربية. إلا أن هنالك عوائق كثيرة تعيق الخيال في المنطقة، فتجعل الجميع يودّون تقديم «فن هادف» لشيء ما.

من جانب آخر، فإن الخروج من ذلك الشرط الأيديولوجي المحافظ، متعذّر حتى على الرافضين له، بالتأكيد لن نرى دراما تاريخية تقدّم منظوراً وقراءة مختلفة للتاريخ، أو تسخر من الروايات السائدة. ولن نشاهد باللغة العربية أعمالاً فنية، مثل التي قدمتها «مجموعة مونتي بايثون» البريطانية، التي اشتهرت بسخريتها وتهكمها، الأقرب للسريالية، من كل مقدّس، تاريخي أو غير تاريخي. ربما الأجدى، في هذا السياق، ترك التاريخ وشأنه، وكذلك الفن، والتركيز على الأيديولوجيا، عبر نمط مختلف من التهكّم: إظهار الجهل والرثاثة، اللذين يدفعان كل تصوراتنا ومروياتنا عن التاريخ، في الدراما وغيرها. لا دولنا ولا حكّامنا ولا فنانونا، يقدّمون شيئاً عن «بني أمية»، أو «معاوية»، أو «تاريخ الإسلام»، وإنما «يتذكّرون» أيديولوجياتهم، ويَصِمونَ بها التاريخ وشخصياته. وتلك الأيديولوجيات يمكن تجريدها، وتلخيصها بعدد محدود من الجُمل، مصدرها غير عربي أو إسلامي أصلاً، بل أيديولوجيات قومية غربيّة، وصلت إلى المنطقة بطرق غير مباشرة غالباً، ومُسخت مسخاً، بعد أن فُصلت عن سياقها الفلسفي والتاريخي. وهذا منجم للسخرية.

وبعيداً عن التهكّم والمعارضة الساخرة، فربما لم تعد «الأمة»، التي تستعرض نفسها، وتقدّم أيديولوجياتها، عبر الدراما التاريخية، قابلة للاستمرار، إذ تعاني المنطقة الناطقة بالعربية من صدمات شديدة اليوم، سيكون لها انعكاسات كبرى على كل الصعد، من طبيعة الأنظمة السياسية، وحتى الثقافة الجماهيرية، ولا يمكن الآن توقّع ماهية المقبل. قد نبقى على مستوى الأغاني والمقاطع السورية والعراقية القصيرة، عن «بني أميّة» وغيرهم، ونظائرها في بقية دول المنطقة، التي تعبّر عن حالة شاملة من نزع التحضّر؛ وقد تنشأ خطابات وتعبيرات وفنون جديدة. في كل الأحوال، «التاريخ» الذي نعرفه يشارف على الانتهاء، أي تصوراتنا التقليدية عن الماضي، ورواياتنا المؤسِّسة، مع اضمحلال العالم المادي والرمزي لدول ما بعد الاستقلال. ربما يكون هذا مؤلماً، ولكن لا شيء فيما يموت يستحق الرثاء.

كاتب سوري

القدس العربي،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى