كيف يقيّم موالون لنظام الأسد دور “حزب الله” في سوريا؟/ مكسيم عثمان
شكل تدخل “حزب الله” خوفاً لدى أبناء الطائفة العلوية من الانتصارات التي حققها الحزب، فالقيمة المعنوية التي يعكسها الانتصار العسكري بدأت تنال استحسان الأهالي، وتثير خوف النظام وبعض المشايخ…
وصل “حزب الله” إلى سوريا عام 2012، أي بعد سنة تقريباً من انطلاق الثورة السورية. قراءة أحداث السنوات العشر الأخيرة تشي بأن الحزب كان حاضراً منذ بداية الثورة، في أثناء محاولة النظام إيقاف التظاهرات بالقوة العسكرية، إذ استعان بالجنود والخبراء الإيرانيين لإخماد الاحتجاجات بوسائل العنف الممنهج، وهو عنف مارسه حلفاء إيران في العراق ولبنان أيضاً.
لم يكن وصول “حزب الله” إلى سوريا سهلاً أو تلقائياً، فالانشقاقات في صفوف الجيش السوريّ منذ بدء التدخل العسكري للجيش في المناطق المدنية، دفعت النظام إلى الاستعانة مبكراً بقوات عسكريّة أكثر إخلاصاً وتجانساً وأصعب مِراساً، للقتال داخل المدن وعلى أطرافها، أو حتى لاختلاق فتنة طائفية عنيفة ضمن التظاهرات المدنية غير الطائفية، فتنة ضدّها، بهدف تفتيتها. كان لوجود “حزب الله” دور تحفيزي للموجة الطائفية في سوريا وتصعيدها، من خلال تزخيم منطق الصراع السني الشيعي بطريقة مُجربة. وكان العراق خير مثال لذلك.
مع اشتداد المعارك على الأراضي السورية، ومحاولة النظام إخماد النقاط المشتعلة، كانت قوات “حزب الله” تقود آلاف السوريين وتقاتل معهم أيضاً.
كانت جليةً محاولات النظام الاتكال على ما أسماه رديفاً للجيش الوطني، الذي كان ينطوي على ميليشيات وكتائب من المرتزقة، أكثر من اتكاله على الجيش الذي تحوّل في ظل الانقسام الطائفي الخفي الذي شهدته البلاد، إلى مجموعات وتكتّلات غير موثوقة من قبل النظام؛ إذ كان ذلك الانقسام واضحاً على مستوى الجيش بعد كثرة الانشقاقات والاغتيالات.
نال “حزب الله” سمعة جيدة وسط جمهور النظام ومؤيديه، بخاصة بين العلويين، الذين كانوا رأس الحربة في أي تشكيل عسكري سوري. وكان تدخل “حزب الله” ذا قيمة معنوية لجمهور النظام، فالدعاية الكبيرة التي نالها الحزب عربياً، جعلت النظام السوري يسوّق للتدخل بوصفه عملاً “أخلاقياً”، ومع اشتداد المعارك على الأراضي السورية، ومحاولة النظام إخماد النقاط المشتعلة، كانت قوات “حزب الله” تقود آلاف السوريين وتقاتل معهم أيضاً.
صراع ديني
هنا يظهر بُعداً آخر أضافه الحزب إلى الواقع السوريّ؛ هو البُعد الديني الواضح للصراع، فأيديوجيا الحزب الشيعية الإيرانية جعلت ما كان يبدو مقبولاً في العلن صراعاً خفياً بين علويي النظام والمقاتلين الشيعة التابعين للحزب.
في جلسة طويلة مع ضابط سابق لدى النظام، ينتمي إلى ريف مدينة جبلة، وخاض معارك مع النظام إلى جانب مقاتلين من “حزب الله”، أوضح لنا ثلاث نقاط سببت صراعاً مع الحزب وقواته في سوريا: “يوجهون الإهانات إلينا أمام ضباطنا، من دون أن يرد الأعلى رتبة الإهانة عنا، إذ يتمتع المقاتل اللبناني بمعاملة جيدة إلى حد كبير؛ فلا يسمح لنا مثلاً بأن نختلف معهم أو نحاورهم، هم قادة أي معركة يشاركون فيها. والنقطة الثانية كانت الصلاة، فمن الشائع أن عناصر الجيش السوري لا يصلون، ولا تلتزم القوات المقاتلة بأي موعد زمني يومي للواجبات الدينيّة. هذا الأمر جعل مقاتلي حزب الله ينفرون من القتال برفقة السوريين، بل حاولوا التملص من مشاركة السوريين خيامهم أيضاً. أمّا النقطة الثالثة، فكانت السلوك اليومي للعناصر العلويين، إذ تساهل قادة النظام معهم لجهة تناول الكحول وشرب السجائر ما جعل مقاتلي الحزب ينفرون من السلوك “الكافر” للعلويين، لا سيّما في أثناء القتال والاستعداد له”.
شاع داخل الساحل السوري، معقل العلويين، صدى استياء عام: “ثقافة حزب الله ما بيمشي حالها هون”، وشاع التندر على مقاتلي الحزب وتحفظهم الديني، كما أنّ شعارات النصر سببت حرجاً لمؤيدي النظام السوريين أمام مقاتلي حزب الله، الذين لم يكونوا على تماس حقيقي مع الواقع السوري؛ فالصلة بين الدين والقتال لدى عنصر “حزب الله”، تختلف اختلافاً جذرياً عن الجندي السوري، الذي قد يهتف بتوحيد ذات الله وبشار الأسد وحافظ في آنٍ واحد. هذا الفعل الطقوسي الرمزي الانفعالي سبّب لمقاتلي حزب الله نفوراً وامتعاضاً هائلاً.
ما بدا سوريّاً أسدياًّ أمام الحزب كان مشكلة، فضلاً عن التشتت الذي نشأ عن دائرة الاختلاف السلوكي بين الحزب والسوريين. كان سلوك الأول نسقياً عقائدياً، في مقابل عدم الالتزام الديني العقائدي السوري.
شكّل تدين عناصر “حزب الله” ارتباكاً وحذراً من النظام خشيةَ تعاظم المشكلات التي بدأت تمسّ العقيدة العلوية بحد ذاتها، ما استدرج شيوخاً علويين نحو ردة دينية باتجاه الشيعة فتشكلت بوادر صراع خفي حتى بين المشايخ، وبرزت عوامل صدام متعاظم بين المعتقد الشيعي الإيراني وبين العقيدة العلوية، فكان لبعض المشايخ أن يحاولوا دفع العلويين نحو التشيع، وبعضهم الآخر كان يهاجم ما يبدو تشيعاً حفاظاً على صلابة الطائفة.
مخاوف العلويين
شكل تدخل “حزب الله” خوفاً لدى أبناء الطائفة العلوية من الانتصارات التي حققها الحزب، فالقيمة المعنوية التي يعكسها الانتصار العسكري بدأت تنال استحسان الأهالي، وتثير خوف النظام وبعض المشايخ. الميل المتعاظم للمليشيات التي تنتشر، وسيطرة قادة من “حزب الله” وإيران عليها، أشاعت خوفاً من التغير الاجتماعي والديني لدى العلويين، تماماً كما لدى جمهور سني واسع، فبدا الاستعداد للعداء مع “حزب الله” مشتركاً، بين مشايخ الطائفة العلوية، كخوف من التشيع ومن القيمة التي يحققها الحزب بوقوفه قرب النظام السوري، وخوف من الجمهور السني الذي قبل معنوياً فئات إسلامية متشددة للدفاع عن السنة بحسب تصوراتهم ومخاوفهم من المد الإيراني.
أخبرني ضابط سوري من قرية كرسانا في ريف اللاذقية، وهو جندي مصاب، أن الطعام شكل أزمة بين “حزب الله” وعناصر الجيش السوري الذي يقاتلون إلى جانبه، فمقاتل الحزب كان في الغالب يتلقى مؤن طعام تصله من لبنان إلى داخل الأراضي السوريّة، عبر قوافل تحمل وجبات غذائية عالية الجودة، على عكس الجندي السوري الذي بالكاد يستطيع تناول الطعام الذي تقدمه القيادة السورية. هذه الفروقات على بساطتها شكّلت يوماً بعد يوم انفجاراً في العلاقة، ما جعل الوصول الإيراني ذا أهمية لفصل القوات.
بالنسبة إلى متابع عادي غير مُسَيَّس، كان سلوك مقاتلي الحزب أكثر انضباطاً، أمّا جندي النظام السوري؛ فكان يسهل استدراجه للسرقة والقتل لأن النظام سمح له بذلك. بخلاف الحزب المضبوط بعملياته القتالية والذي يؤمن الموارد لعناصره في حين كان سلوك قادة وضباط في الجيش السوري يميل إلى الاستغلال والارتزاق.
وبسبب اختلاف المرجعية، قررت إيران فصل القوات وإعادة ترتيب أوراق سوريا جغرافياً، فقاتل “حزب الله” وحيداً في ريف حمص، وفي إدلب وريف دمشق أيضاً، وسُمح لبعض القوات العراقية الشيعية بالقتال إلى جانبه، إلّا أنّ قتال عناصر الجيش السوري مع مقاتلي الحزب في معركة واحدة كان نادراً.
بذلك نجا النظام أيضاً من الخوف الذي انتابه من تشيّع العلويين، بعد ظهور نبرة هؤلاء القاسية تجاه ثقافة “حزب الله” من جهة، ونفور الحزب من القتال مع الجيش السوري من جهة أخرى. بدا النظام خائفاً على بنية الجيش، وحتى على العلويين الأكثر ولاءً له.
في لقاء جمعني مع مساعد عسكري علوي متقاعد، التزم دينياً بعد انتهاء خدمته العسكرية، وذهب في رحلة حج إلى إيران برفقة مقاتلي الدفاع الوطني التابعين لهلال الأسد عام 2013 قال: “كانوا يريدون مِنا تغيير سلوكنا، دراسة منهج جعفر الصادق، وإلزام نسائنا بالحجاب، ومنعنا من شرب الخمر، والالتزام بعقيدة شيعية خالصة تتبع الولي الفقيه”.
الدور الروسي علوياً
منذ عام 2012 وحتى دخول القوات الروسية إلى سوريا، تسللت إيران عبر الميليشيات السورية، واستدرجتها نحو اعتماد مرجعيات دينية. هذا ما حصل مثلاً مع ابن عم الرئيس السوري هلال الأسد، الذي ألزم بدوره “قوات الدفاع الوطني” بدروس دينية، وأرسل شيوخاً علويين إلى إيران للحج والتشيع، ودفع أموالاً من أجل ذلك، كما افتتح مدارس دينية ذات طابع شيعيّ في أرياف الساحل حيث التمركز العلوي في سوريا.
مع الوصول الروسي إلى سوريا تغير كل شيء. تجاوز النظام الفارق الأخلاقي الذي حاول “حزب الله” والإيرانيون تكريسه، أو وضع اليد عليه. وما بدا من تحفّظ مقاتلي “حزب الله” ونفورهم، لم يعد النظام يحذر منه. عاد الوضع العام لقوّات النظام إلى ما كان عليه، لا سيّما بعدما تراجع حضور “حزب الله” من واجهة القتال بوصفه “منتصراً”، التي صُنعت في بداية تدخّل إيران وحلفائها، ليتراجع حضوره ومن خلفه إيران لمصلحة تمدد روسي.
باتت روسيا واجهة الانتصارات والنجاحات العسكرية، ولم يعد النظام مجبراً على رفع القبعة للتدخل الإيراني، لأنه لم يستطع حماية النظام كما فعل الروس منذ وصولهم.
التدخل الروسي رجّح كفّة النظام في ميزان القوة والسيطرة، لكن ما الذي تغير في نظرة العامة اتجاه الالتزام الشيعي لـ”حزب الله”، وسلوك مقاتليه ومستشاريه في سوريا؟
تغير كل شيء مع الوصول الروسي، وتخفف العلويون من الثقل الجهادي الديني الذي حاول “حزب الله” تكريسه، بخاصة أن البنية الاجتماعية العميقة للعلويين تنفر من الالتزام الديني، الأمر الذي اتضح عموماً في عدم تهافت السوريين على المنظمات الدينية، وتأثيرها الاجتماعي.
منذ الوصول الروسي إلى سوريا، دُقّ جرس الإنذار لإيران وحلفائها، فخرج مستشارو إيران وقادتها إلى ريف اللاذقية، وسكنوا بيوتاً وفيلات راقية، تعود ملكيتها إلى أهالي تلك المناطق، الذين نزحوا إلى خارج مناطق الصراع، ثم أغلقت مراكز التعليم الديني الشيعي في كل مناطق الساحل. وعام 2018 كانت المراكز الثقافية والتعليميّة التابعة لإيران قد اختفت، ما انعكس سلباً على “حزب الله” الملتزم بمواقع قتالية خارج المدن الكبرى.
درج