الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

دوما: مدينة المآذن والثورة والحصار/ سمر شمة

11 مارس 2025

دخلتُ مدينة دوما في ريف دمشق بعد سقوط النظام المخلوع وأنا أسمع هتافات أهلها ومن حضر إلى مظاهراتها السلمية من علمانيين وقوميين وإسلاميين ومستقلين بداية الثورة السورية: “واحد. واحد. واحد. الشعب السوري واحد” و”يا درعا. نحنا معاكِ للموت”. تجولتُ في أحيائها وأسواقها العائدة إلى الحياة، بخطى مرتجفة خائفة من هول الدمار ومآسي القمع والقصف والحصار الواضحة حتى الآن. مررتُ على ما تبقى من مساجدها المدمرة والمتهالكة، ومن بساتينها ومزارعها اليابسة والموحشة والخالية من الزرع والمزارعين، وتوقفتُ أمام بقايا وركام سجنها المدني للنساء والذي عشتُ فيه مع رفيقاتي المعتقلات السياسيات أكثر من أربعة أعوام، رحتُ أبحث بين ركامه عن ذكرى هنا وأثر هناك بعد أن دُمر بالكامل ولم يبقَ منه إلا الشباك التي كانت تفصل ما بيننا وبين العالم الخارجي والتي تشهد على دموع الأمهات والأهل والأحبة والوجع. ورغم ذلك كله رأيت عروس الغوطة الشرقية دوما التي عانت أهوالًا لا تُحتمل وهي تنهض من جديد في محاولات جادة لإعادة البناء والتعمير ورسم مستقبل يليق بها وبأهلها الطيبين.

اختلفت الروايات في أصل تسمية هذه المدينة، ولكنها أجمعت على أن اسمها روماني أصيل نسبة إلى شجر الدوم، وهو من فصيلة النخليات، ينبت في شبه الجزيرة العربية ومصر والسودان، تبلغ مساحتها الإجمالية حوالي ثلاثة آلاف هكتار وعدد سكانها حسب تقديرات سابقة للمجلس المحلي حوالي 400000 نسمة عام 2016.

تقع مدينة دوما في الغوطة الشرقية إلى الشمال الشرقي من دمشق وتبعد عنها حوالي 14 كيلومترًا، وهي مدينة من مدن محافظة ريف دمشق ومركزها الإداري وأكبر مدن الغوطة. تعود للحقبة الآرامية كما ذكرت المصادر، تحدها دمشق من جهة الغرب ومنطقة التل من الشمال الغربي والقطيفة من الشمال، وتتاخم حدودها الإدارية البادية السورية شرقًا والسويداء جنوبًا وتتبع لها العديد من البلدات والقرى منها: حرستا – الضمير – النشابية – الغزلانية – عدرا العمالية – حران العواميد – تل كردي – حفير التحتا وغيرها.

تُعتبر من أقدم مدن بلاد الشام، وسُكنت بعد انحسار بحيرة دمشق الكبرى. خضعت لحكم العديد من المماليك وكانت محاطة بالأنهار والأقنية المائية وقام الآراميون ببناء العديد من الأبنية والآثار فيها.

لعبت دورًا كبيرًا في الدفاع عن دمشق ضد الغزاة وفي نصرة الأقاليم المجاورة تاريخيًا، حيث كانت مركزًا للمقاومة الشعبية أمام الحصار الصليبي، ودربًا لتسيير السلاح إلى فلسطين أيام الثورة الكبرى في الثلاثينيات، ونقطة ساخنة للنضال ضد الظلم والطغيان قبل جلاء الفرنسيين عن سورية. وكانت تمدّ ثوار حارات وأحياء الشام بالسلاح والعتاد والمقاتلين لمقاومة المحتل الفرنسي.

ترتبط بالتاريخ العريق لمدينة دمشق، وتنتشر فيها دور العبادة والمساجد، ففيها أكثر من ثمانين مسجدًا حتى أنها سميت بمدائن المآذن، إضافة إلى العديد من الخانات الأثرية والمباني، ومن مساجدها: المسجد الكبير (كان في غاية الروعة والجمال قبل أن تدمره قوات النظام الأسدي وحلفاؤه، بُني عام 531 للهجرة، وتم توسيعه وتجديده عدة مرات)، مسجد الريس، مسجد زين، مسجد الأغا، مسجد الشيخ علي، مسجد حسيبة الذي أسّسته وقفًا امرأة متدينة اسمها حسيبة عام 1925.

تضم المدينة مجموعة من الآثار التاريخية الهامة والنُصب التذكاري الذي يحمل اسم قبة العصافير، وقد شُيّد لتبريك ذكرى تاريخية وهي هزيمة المغول في ضواحي دوما بعد قيامهم بغزوات متكررة للشام في أربعينيات القرن الثاني عشر.

اشتُهرت دوما قبل الثورة السورية بكونها منطقة سياحية ومحافظة لريف دمشق، وشهدت تضخمًا سكانيًا كبيرًا لازدهارها بالتجارة والزراعة والصناعة. كما اشتُهرت بتربتها الخصبة والخضار الصيفية والقمح والأشجار المثمرة والعنب الدوماني والمشمش والجوز والتين.

يتصف سكانها بالطيبة والشهامة والحفاظ على العادات والتقاليد، وقد احتضنت الفلسطينيين والعراقيين وأقاموا فيها لسنوات طويلة.

كانت دوما في مقدمة المدن التي أعلنت الثورة ضد النظام الأسدي في آذار/ مارس 2011 ، ومنذ بدء الأسبوع الثاني من ثورة أهالي درعا أعلن أهلها وسكانها إقامة أول اعتصام ضد الاستبداد في سورية والذي امتد لأيام عديدة قبل أن يتدخل أمن النظام لفضه بالعنف والقتل، ولكن منذ ذلك الحين بدأت صيحات الحرية تنطلق من هناك بقوة وإصرار على التغيير.

وكانت حارسة الغوطة الشرقية شهدت أيضًا مظاهرات سلمية عارمة وجرت فيها صدامات عنيفة واشتباكات مسلحة مع النظام وشبيحته، وعانت المدينة ولسنوات طويلة من حصار خانق وتجويع ممنهج وانقطاع للغذاء والدواء والمحروقات واعتقالات همجية وقصف متواصل بأعتى الأسلحة وأكثرها تدميرًا.

في كانون الثاني/ يناير 2012 سيطر جيش الأسد على المدينة بعد معركة دوما الشهيرة التي بدأت بعد أن غيّر مقاتلو الجيش السوري الحر المعارض تكتيكاتهم في الهجوم، وأوقفوا حرب العصابات في ضواحي دمشق إلى الهجوم الشامل على قوات النظام وسيطروا على الزبداني وأجزاء كبيرة من دوما في بداية هذا الشهر.

وفي تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه عاد الجيش الحر ليحكم السيطرة على معظم مناطق دوما مع تواصل القصف والقتال والاعتقالات، وبعد خروجها عن سيطرة النظام أصبح جيش الإسلام بقيادة زهران علوش يسيطر عليها وعلى مساحات واسعة من غوطة دمشق الشرقية في العام نفسه.

كانت دوما المدينة الرئيسية في حصار الغوطة الشرقية الذي بدأ 2013 وأدى إلى عزل مئات الأشخاص في مساحة 100 كيلومتر مربع، ولم تتمكن قوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة والصليب الأحمر من الوصول إليها بالمواد الغذائية والإمدادات إلا مرة واحدة عام 2018.

تعرضت المدينة عام 2015 لمجازر مروعة بأسلحة محرمة دوليًا، ففي شباط/ فبراير استهدفها جيش النظام وحلفاؤه بعشرات الصواريخ والبراميل المتفجرة مما أدى لاستشهاد مئات المدنيين غالبيتهم من الأطفال والنساء. وفي 16 آب/ أغسطس استهدف النظام البائد سوقًا شعبية مكتظة بالمدنيين بالصواريخ والقنابل الفراغية أسفرت عن استشهاد أكثر من 100 مدني وإصابة أكثر من 300 آخرين ولم يسلم من هذه المجزرة الجامع الكبير الذي يتوسط المدينة والذي تعرض للقصف مرات عديدة، وقد وصف المرصد السوري لحقوق الانسان مجزرة دوما هذه بالمذبحة الرسمية. وقال الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ستيفن أوبراني آنذاك إنه يشعر بالرعب من الهجمات على المدنيين في سورية ودعا لتوقفها فورًا. وفي شباط/ فبراير 2018 شنّ النظام السوري وحليفه الروسي غارات جوية عليها ضمن حملة مسعورة استهدفت الغوطة الشرقية وانتهت بسيطرة جيش النظام على 90% من مساحتها التي كانت تحت سيطرة المعارضة المسلحة وعلى رأسها “جيش الإسلام”.

شهدت مدينة دوما والغوطة عمومًا عمليات كر وفر بين المعارضة المسلحة والنظام وحلفائه على مدى سنوات، وقد هاجم النظام المدينة والغوطة الشرقية بالأسلحة الكيماوية أكثر من 46 مرة خلال سنوات الثورة، وبعد سيطرة جيش الإسلام على المدينة هاجمها بصواريخ تحتوي على غاز الكلور السام وأخرى على غاز السارين المحرمين دوليًا، كما أكدت المصادر والأعراض التي ظهرت على المصابين وأغلبهم من الأطفال والنساء. وقد أسفرت هذه المجزرة عن استشهاد أكثر من 150 مدنيًا وذلك في نيسان/ أبريل 2018 وبعد أن تعرضت المدينة لحملات قصف شديدة على مدى أربعة أشهر حيث كثّفت قوات النظام وروسيا تدميرها للبشر والحجر قبل شن الهجوم البري.

“تضم المدينة مجموعة من الآثار التاريخية الهامة والنُصب التذكاري الذي يحمل اسم قبة العصافير، وقد شُيّد لتبريك ذكرى تاريخية وهي هزيمة المغول في ضواحي دوما”

أما الجريمة الأكثر دموية التي اقترفتها قوات الأسد وحلفاؤه في العام نفسه فكانت عندما أسقطت طائراته الحربية أسطوانة غاز صناعية على شرفة أحد المباني السكنية المؤلف من عدة طوابق وأسفر ذلك عن استشهاد عشرات المدنيين وإصابة أكثر من 650 آخرين، وهذا ما أكدته لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سورية والتي امتنعت آنذاك عن استخلاص استنتاجات نهائية بخصوص أسباب الوفاة والاستخدام المحتمل لغاز الكلور.

ونقلًا عن مصادر حقوقية فإن الأهالي وفرق الإنقاذ بعد مجزرة الكيماوي في دوما كانوا يدفنون الشهداء بمقابر ذات طبقات لاستيعاب الأعداد الهائلة من الشهداء في الوقت الذي قام به نظام الأسد وحلفاؤه والميليشيات الطائفية بنبش المقابر ونقل الضحايا إلى مكان مجهول عندما سيطروا على الغوطة، وقام الروس أيضًا بالعبث في مسرح جريمة الكيماوي لإخفاء الأدلة.

وبعد كل هذه الجرائم الوحشية تم تهجير المعارضة المسلحة والمدنيين المحليين قسرًا إلى شمال سورية كما جرى في عدد من المدن والبلدات الثائرة.

الجدير ذكره أن منظمات دولية عديدة بينها منظمة حظر الأسلحة الكيماوية أكدت مسؤولية النظام المخلوع عن هجمات كيماوية كثيرة في الغوطتين الغربية والشرقية، وحالت روسيا دون إدانته ومحاسبته في مجلس الأمن الدولي.

قُصفت دوما كما كل المدن الثائرة بكافة الأسلحة على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي ومنظماته، ودُمرت بنيتها التحتية وكل المرافق والخدمات فيها من مدارس ومستشفيات ومعامل وأراض ذراعية ومنازل، وتمّ اغتيال قائد جيش الإسلام زهران علوش في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2015 بضربة جوية روسية كما أكدت وكالات الأنباء. وتم فيها أيضًا عام 2013 اختطاف المحامية والناشطة رزان زيتونة والمعتقلة السياسية سميرة خليل والناشطين وائل حمادة وناظم حمادي الذين كانوا يعملون في مركز توثيق الانتهاكات في سورية التي تقترفها جميع الأطراف. وكل القرائن- كما ذكرت الأنباء- تشير إلى مسؤولية جيش الإسلام عن هذه الجريمة.

ارتبط اسمها خلال أعوام الثورة بالموت والحصار والتجويع والاعتقالات المتواصلة التي قدّرتها مصادر حقوقية بأكثر من 50000 معتقل لم يخرج منهم حيًا بعد سقوط الأسد إلا 5% فقط من الرجال والنساء والأطفال والمسنين.

كان النضال السلمي واضحًا في دوما منذ بدايات الثورة من خلال التظاهرات السلمية التي ركزت على شعارات مدنية ديمقراطية تحترم حقوق الانسان وتطالب بالعدالة ودولة القانون، والتنسيقيات التي تشكلت والتي كانت صوت المدينة الثائر المعتدل وثمرة عمل جماعي لمئات المتطوعين والمتطوعات.

تنفست دوما الصعداء بعد سقوط الطغاة وعادت الحياة إلى ما بقي فيها من ناس طيبين بعد أن جعلها النظام وحلفاؤه مسرحًا للموت والدمار ومركزًا كبيرًا لتصنيع الكبتاغون بعد سيطرته عليها وتهجير أهلها ومقاتليها.

عاد إلى دوما عدد كبير من المهجّرين وكتبوا لافتات ترحب بالثوار بعد سقوط النظام ووزعوها في مداخل المدينة وأحيائها كافة، وبدأت المحال التجارية بالعمل بعد أن فقد أصحابها الأمل بذلك: “لم نصدق أن النظام سيسقط، وأن دوما ستعود إلينا ونعود إليها، الناس فرحانة وسنعمّر دوما”. تغيرت ملامح الحياة وها هي المدينة تلملم جراحها العميقة وتحاول ترميم وإعادة بناء كل ما دمرته آلة القتل الوحشية للنظام الهارب الذي سقط سقوط الطغاة الهاربين بينما بقيت دوما عروس الغوطة الشرقية ونافذة مفتوحة للأمل والمستقبل.

مراجع:

– بوابة آسيا؛

– بوابة الحرب السورية.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى