مقالات سينمائية

لماذا ركز حفل الأوسكار على بوند وترك لينش على الهامش/ كلاريس لاغراي

في حفل احتفى بالسينما المستقلة والابتكار الفردي، لم يحظ المخرج الرؤيوي صاحب فيلم “مخمل أزرق” سوى بإشارة عابرة بالكاد لامست ذكراه. وفي المقابل، نال جيمس بوند إشادة مذهلة امتدت لـ 10 دقائق كاملة. ترى، ما الذي يحدث هنا؟

الجمعة 14 مارس 2025

ركز حفل الأوسكار على تكريم جيمس بوند بإشادة مطولة، بينما لم يحظَ ديفيد لينش إلا بإشارة عابرة على رغم تأثيره العميق في السينما، ما يعكس هيمنة القيم التجارية على الجوائز، مقابل تقدير محدود للإبداع الفردي الذي يجسده مخرجون مستقلون.

سادت همسات محتارة عبر منصات التواصل الاجتماعي خلال حفل الأوسكار الأخير، بينما بدأت مارغريت كوالي تؤرجح ساقها عالياً على أنغام موسيقى أفلام جيمس بوند، قبل أن تظهر المغنيات ليزا ودوجا كات وراي ليؤدين أغنيات “عِش ودع غيرك يموت” و”الألماس يبقى إلى الأبد” و”سكايفول”. هل مات جيمس بوند… نهائياً هذه المرة؟

الأنباء عن وقوع العميل 007 في قبضة شبكة أمازون لا تبشر بمستقبل مشرق للجاسوس الأسطوري، إلا إذا كنتم متحمسين لفكرة إنتاج مسلسل مستمد من سلسلة الأفلام عن شخصية “أم الشابة”. لكن مديحاً يمتد لعشر دقائق كاملة بدا مبالغاً فيه بعض الشيء.

يبدو أن حفلات الأوسكار تعاني من ارتباط مزمن بتكريم سلسلة أفلام بوند، فقد سبق “الاحتفاء” بها على خشبة المسرح خلال حفلي عامي 2013 و2022. لكن هذا العام، أكثر من أي وقت مضى، كانت هناك شخصيات أخرى تستحق أن تُمنح مزيداً من وقت الحفل الذي نشاهده على شاشاتنا.

كان حجم فقدان المواهب خلال العام الماضي مؤلماً بشكل خاص. وفاة جين هاكمان، في فبراير (شباط) الماضي، أحدث صدمة. وعند افتتاح فقرة “في الذاكرة” السنوية، تحدث مورغان فريمان، الذي شارك هاكمان بطولة فيملي “غير المغفور له” Unforgiven و”تحت الاشتباه” Under Suspicion، بكلمات مؤثرة عن صديقه، ذلك الممثل الذي تعامل مع فنه بصدق لا يتزعزع، واحتضن الجانب القاسي لشخصياته ليكشف عن روح متألقة بداخلها.

كادت الدموع تنهمر من عيني. كانت خسارة هاكمان صعبة جداً بلا شك، لكن هذه السنة شهدت أيضاً وفاة الفنان الأكثر تأثيراً في حياتي، وفي حياة عديد ممن أعرفهم: المخرج ديفيد لينش، الذي كان يحول الأحلام إلى واقع على الشاشة. لم يكن لينش مجرد مخرج، بل كشف لنا الإمكانيات اللامحدودة للسينما كوسيلة للتعبير، كما كشف لنا عن عوالم مخفية داخل أنفسنا، عن الضوء الذي ينبثق من الظلام الدامس، وعن الحب الذي يعيش في أعماق الشر وبين براثنه.

بين الحضور، جلست إيزابيلا روسيليني، نجمة فيلمي “مخمل أزرق” Blue Velvet و”قلب جامح” Wild at Heart، والشريكة السابقة لديفيد لينش. كانت حاضرة بسبب ترشيحها لجائزة أفضل ممثلة مساعدة عن فيلم “الملتقى” Conclave، وقد ارتدت فستاناً من المخمل الأزرق تكريماً لـ لينش، وأحضرت معها ضيفتها لورا ديرن، واحدة من أبرز المتعاونين مع لينش، التي شاركتها البطولة في فيلمي “مخمل أزرق” و”قلب جامح” وكذلك في فيلم “إمبراطورية الداخل” Inland Empire ومسلسل “توين بيكس: العودة” Twin Peaks: The Return.

قلت لنفسي: ها هي اللحظة، ستصعدان إلى المسرح وتتحدثان عن هذا الفنان العظيم، بأسلوب محب ورحيم، كما يفعل من يعرفونه. ربما تعود ليزا أو دوجا كات أو راي لتقديم أغنية “في الأحلام” التي غناها روي أوربيسون في فيلم “مخمل أزرق”. ربما سيحولون المسرح إلى الغرفة الحمراء الشهيرة في سلسلة “توين بيكس”. ألن يكون ذلك رائعاً؟ لكن بدلاً من ذلك، عرض مونتاج فقرة “في الذاكرة” على أنغام “قداس الموت” لـ موزار، ولم يحصل لينش إلا على… 10 ثوانٍ من وقت العرض. ألم يكن ما حدث ظلماً؟ لقد بدا كذلك بالفعل.

لم يحصل لينش طوال حياته على جائزة أوسكار في الفئات التنافسية. تم ترشيحه أربع مرات، وحصل على جائزة الأكاديمية الفخرية عام 2019. كان خطابه ملاحظة شكر قصيرة، أتبعها بهذه الكلمات التي وجهها إلى تمثال الأوسكار الجديد الذي كان يحمله بيده: “لديك وجه مثير للاهتمام، تصبحون على خير”. هذه هي آلية عمل الصناعة. الجوائز هي أساساً لأولئك الذين يلتزمون بالقواعد ويلعبون ضمن حدودها، وليس لأولئك الذين يتجاهلونها ويبتكرون أشكالاً جديدة.

لكن لا يمكن إنكار تأثير لينش على الأفلام التي تم الاحتفاء بها في ليلة الأوسكار، سواء كان ذلك في التفاصيل الصغيرة أو الكبيرة. فطريقة تصويره للحياة العادية كحكاية خرافية (ماذا عن قصة فيلم “أنورا” Anora المنسوجة على غرار حكاية سندريلا؟)، وطريقة تجسيده للخطايا البدائية في قلب أميركا (هل تذكرتم اللمسات السريالية في فيلم “الوحشي” The Brutalist؟)، إضافة إلى الطريقة التي حول فيها رواية فرانك هربرت “كُثيب” Dune إلى السينما (هل قال أحدكم “كُثيب: الجزء الثاني”؟) كانت روح لينش حاضرة في تلك القاعة. ولذلك، كان من المؤلم أن يلقى إرثه مجرد تلميح بسيط من التقدير في حفل كان يركز في جوهره على كرامة الفن والحرفة.

أما شون بيكر، وأثناء استلامه جائزة أفضل مخرج عن فيلم “أنورا” الذي فاز بأربع جوائز أخرى، فقد أطلق دعوة حماسية للحفاظ على دور السينما، قائلاً إنها “تجربة جماعية لا يمكنك الحصول عليها في المنزل”. وقد فعل مقدم الحفل كونان أوبراين الشيء نفسه، لكن بطريقة فكاهية، حيث قدم مشهداً تخيلياً في إطار كوميدي يدعي فيه ابتكار مفهوم جديد للبث المباشر، يُعرض في مكان واحد بحيث لا تحتاج إلى حمل الشاشة (“فالمبنى هو الذي يحملها!”). واحد من أفضل اختيارات تلك الليلة كان رؤية نجوم الأفلام المرشحة في الفئات التي عادة ما يتم تجاهلها مثل أفضل تصميم أزياء وأفضل تصوير سينمائي، وهم يصعدون إلى المسرح ليقدموا تكريماً مباشراً للحرفيين الذين يقفون وراء هذه الأعمال.

شهد الحفل عديداً من الانتصارات التي بدت وكأنها تدافع عن الإبداع الفردي على حساب القوة المؤسساتية – فلم يقتصر الأمر على كونها ليلة مميزة للأفلام المستقلة، حيث فاز فيلم “أنورا” بخمس جوائز، بل كان أيضاً ليلة مميزة لفيلم “تدفق” Flow من لاتفيا. هذا الفيلم، الذي أخرجه غينتس زيلبالوديس باستخدام برنامج “بليندر” Blender المجاني ومفتوح المصدر، والذي يركز على قصة قطة، فاز بجائزة أفضل فيلم رسوم متحركة متفوقاً بذلك على الجزء الثاني من فيلم “قلباً وقالباً” Inside Out 2 الذي أنتجته ديزني، و”الروبوت البري” The Wild Robot من إنتاج دريم ووركس. في حين أن أقوى انتصار في تلك الليلة كان لوثائقي “لا أرض أخرى” No Other Land، الذي يسلط الضوء على تدمير القرى الفلسطينية في الضفة الغربية على يد القوات الإسرائيلية المحتلة، والذي فاز بالجائزة على رغم أنه لم يجد بعد جهة تتولى توزيعه في الولايات المتحدة.

ومع ذلك، يجب أن نأخذ في الحسبان أن شبكة “أي بي سي” المملوكة لشركة ديزني هي التي تقوم بإنتاج حفل الأوسكار، وهو ما يفسر ظهور شخصية “ديدبول” الراقصة في الحفل، على رغم أن فيلم “ديدبول وولفرين” Deadpool & Wolverine لم يتلق أي ترشيح على الإطلاق. كذلك يمكن أن يسهم هذا في تفسير التكريم المطول الذي حظيت به أفلام بوند. بالطبع، ستفضل ديزني أن تضع القيمة المالية لشخصية بوند، التي تجذب الجماهير وتشهد على قوة العلامات التجارية، في المقام الأول على حساب الأشياء البسيطة مثل المعنى أو العاطفة.

صحيح أن لينش عمل ضمن التيار السائد، لكنه لم يتكيف معه بشكل مريح. ومن هنا، سيظل رمزاً لكل مخرج من أمثال شون بيكر، وبرادي كوربيت، وكورالي فارجا – على سبيل المثال لا الحصر – من بين المخرجين الذين رُشحوا هذا العام لجائزة أفضل فيلم، والذين يواصلون النضال من أجل خلق فن شخصي في منظومة أصبحت أكثر عدائية. ربما أخفقت الأكاديمية في تكريم لينش، لكن انتصاره النهائي يكمن في كل كلمة أو خطاب يطالب بالصدق في الفن، وبالفن في الصدق.

© The Independent

——————————–

ديفيد لينش: نسق سينمائي على الضدّ من سينما هوليوود/ سعد العشه

14 مارس 2025

حجم الخط

باتت سبعينيّات القرن الـ20، في الولايات المتحدة الأميركية، مهدَ ما يُعرَف الآن بأفلام أو عروض منتصف الليل. جُلّها أميركي، لكنّ فيلمًا أجنبيًا أطلقها: “الخُلْد” (El Topo، 1970) للتشيلي أليخاندرو خودوروفسكي. في نهاية العقد، ظهر أول أفلام الأميركي ديفيد لينش (1946- 2025) “رأس الممحاة” (Eraserhead، 1977). يجمع بين هذه العروض أسلوب الـ”كامب (camp)”، الذي ينتهج السخرية المبالغ بها، ماثلة في عناصر الفيلم كافةً: نص وتصميم إنتاج، وحتى التمثيل.

حين سُئِلَ عمّا ألهَم الكابوس المتجسّد في الفيلم، أجاب لينش ببساطة: فيلادلفيا. فالمدينة غدت حينها “مريضة، مخبولة، عنيفة، يأسرها الخوف، مُنحطّة، فاسدة” (جي. هوبرمان، “نيويورك تايمز”، 21/ 1/ 2025). ستشكّل هذه الاهتمامات، بالقبح والعنف، نصف معادلة ما يُسمّى بـ”اللينشي”، نسبة إليه. وعلى غرار العوالم التي اكتسبها سينمائيون وسينمائيات من أسمائهم، “سهلٌ التعرّف عليه، وصعبٌ تعريفه في آنٍ” (المصدر نفسه). صعبٌ بالنسبة إلى من دأب على دراسة أفلامه وفنونه التشكيلية وموسيقاه. هكذا نقف على ما يسهل التعرّف عليه في أفلامه العشرة الطويلة، وفي عقودٍ ثلاثة.

بدايات

والحال أنّ لينش، الوافد إلى سينما الثمانينيّات في أميركا، ينهل من نسق سينمائي على الضدّ من سينما هوليوود المحتشمة نسبيًّا في العقدين السابقين، قبل أنْ تنتهي حقبة “قانون هيز”، التي فرضتها الرقابة حتى 1968. وإذْ تأثّر الوافدون الجدد بالموجات الجديدة عبر أوروبا والعالم، اختلفت أساليبهم ومواضيعهم. فبعد استحسان تجربته الأولى، تكبر ميزانية فيلمه الثاني (الرجل الفيل، The Elephant Man، 1980) مُتجاوزًا نجاح الأول، فينال الشاب ثقة الاستديوهات الكبرى في توزيع أفلامه.

كانت هذه أكبر إخفاقات “كثيب” (Dune، 1984): الرداءة المُكلفة على يدي أهم المخرجين الصاعدين (40 ـ 42 مليون دولار أميركي، من دون حساب معدّلات التضخم). مشكلة الفيلم النص أساسًا، الذي تتحوّل فيه الأحلام والكوابيس اللينشية إلى رموز متكرّرة، وتُسرَد فيه الحكاية على لسان راوية نسمع صوتها مرّتين أو ثلاثًا، بينما نسمع أفكار الشخصيات الفائضة في ما يشبه مناجاة شكسبيرية رخيصة. فضلًا عن علاقة حب تخرج فجأة، وحروب تدار من دون خلفية درامية. إجماع النقّاد ولينش نفسه على رداءة الفيلم، حتى في أبسط عناصره، خلق قطيعة السينمائي مع الاستديوهات ونواهيها. هذا فطن إليه خودوروفسكي، زميل منتصف الليل، الذي اختير أولًا لاقتباس الفيلم وإخراجه.

تتخمّر صفة اللينشي في فيلميْه التالييْن: “المخمل الأزرق” (Blue Velvet، 1986) و”قلبٌ جامح” (Wild at Heart، 1990)، أو “همجي الهوى”. ينجز الأول عن نص أصلي يغزو صُور الرخاء المزعوم في بلدة نائية، ويقتبس الثاني من رواية لا تبتعد من ثيمات الـ”فيلم نوار”.

يكتب روجر إيبرت في “شيكاغو صن تايمز” (19/ 9/ 1986): “يجوز أحيانًا التعامل مع الجنس والعنف بالجدّية التي يستحقانها. فإزاء وطأة المشاهد القاتمة في الفيلم، يزداد إحباطنا من عزوف المخرج على تتبّع خطى أفكاره”. تنتهي قوة الفيلم حين يختار لينش تغيير المزاج، فجأة، من القسوة والعنف إلى الازدراء والإشارات البصرية الجامدة، التي بدأ بها، ساخرًا من كل ما يمثّل البلدة، لا سيما التعامل مع شخصية إيزابيلا روسيلّيني، التي تهان وتُعنَّف فقط كأداة للهجاء، بعكس ما فعل برناردو برتولوتشي في “التانغو الأخير في باريس” (1972)، كما رأى. يتساءل إيبرت في النهاية: “ما الأسوأ؟ أنْ تصفع وتعنّف الآخر، أمْ أنْ تنسحب وتضحك؟”.

انتقادات

لئن غدا انتقاد أفلام لينش محمولًا على مسؤوليّات أخلاقية، فـ”القلب الجامح” لم ينجُ من ناقد شيكاغوي آخر، جوناثان روزنبام، الذي كان من أوائل أنصاره، عندما وصف “رأس الممحاة” بأفضل أفلامه في مقالتيْن، تُركّز إحداهما على إخفاق هذا الفيلم كاقتباسٍ فاشل لرواية، نُزِعَ الجيّد منها واسْتُبدِل بالصُور نفسها التي هاجمها إيبرت. ذاك أنّ العالم الذي يُصوّره الفيلم “مكان خبيث، يعجّ بالمحتالين والكوارث و”الأفكار السيئة” (اقتباسًا من بطل الفيلم)، ولكن يسكنه أيضًا بضعة حمقى أتقياء يُبرؤونه” (الموقع الإلكتروني الخاص به، 28/ 7/ 2022).

لا يبني لينش هذه المانوية الفجّة على ملاحظات اجتماعية، أكانت صحيحة أمْ لا. فالملاحظة بالنسبة إليه، كما يرى روزنبام، فائضة، والعالم لا يتغير، ويجب استغلال هذه الآراء تجاريًا وفنيًا: “بيد أنّ غايته، كما يبدو، أنْ يحظى ببعض “المرح”، وهذه غاية جدّيّة حين نتحدث عن صناعة الأفلام، إذْ يصعب الاشتباك معها من دون لعب دور مُفسد المتعة” (الموقع نفسه، 17/ 7/ 2022). هذه الأخيرة تنسحب على ردود كوانتن تارانتينو إزاء استسهاله العنف في أفلامه.

يكمن عجز الممثلين، نيكولاس كايج ولورا ديرن، في “الاهتمام الأساسي للينش بصنع الأيقونات والرموز، وليس بصنع الشخصيات بالمرّة. فعندما يتعلّق الأمر بصُور الشرّ والفساد والخبول والشغف وتشويه الجسد (تقريبًا بهذا الترتيب)، نجد في “القلب الجامح” وفرة أصيلة” (المصدر نفسه). أغلبّ الظن أنّ فوز الفيلم بالسعفة الذهبية للدورة الـ43 (10 ـ 21 مايو/أيار 1990) لمهرجان “كانّ”، مردّه هذه الأسباب.

في غزوته التالية، هاجم لينش التلفزيون، الذي ألهم عالم “المخمل الأزرق”، بسلسلة “توين بيكس”، التي مَطّها إلى فيلم (1992)، ألحق به “الطريق السريع المفقود” (Lost Highway، 1997)، الذي ماثل الأسلوب نفسه.

في “قصة ستريت” (The Straight Story، 1999)، يكاد اللينشي يختفي تمامًا في “تلاوة” قصة مقتبسة عن واقع. التورية في العنوان غمزة للمُشاهد، تشير إلى استقامة الحكاية وسلاستها، من دون أيقونات ورموز. لعلّه من أحب أفلامه المنسيّة لدى النقّاد والأنصار: حكاية مزارع هرم يقود جزازة عشب نحو 400 كم، كي يزور أخاه المريض.

بمناسبة الحديث عن إجماع نقدي، ربما أجمع النقاد وصنّاع الأفلام على منح لقب “تحفة ديفيد لينش” لـ”طريق مولهولاند” (Mulholland Drive، 2002)، بل اعتلى صدارة أعظم الأفلام في القرن الـ21، في اقتراع نظّمته “بي. بي. سي.”، شارك فيه 177 ناقدًا سينمائيًا عام 2016، أي قبل أنْ يتمّ القرن ربعه الأول. فيه خلاصة لقطاته وموسيقاه، إذْ يظلّ نقطة الانطلاق والرحيل في زيارة أعماله.

يقترن “طريق مولهولاند” بفيلمه العاشر والأخير، “الإمبراطورية الحبيسة” (Inland Empire، 2006). الفيلمان مُشتبكان بحدّة مع هوليوود كخاتمة لاشتغاله السينمائي، الذي سيستمر في أشكال أخرى. البعض يعتبر، كما أعتبرُ أنا، أنّ “توين بيكس: العودة” (2018) فيلمٌ. وإضافة إلى الكتابة والإخراج، صوّر لينش فيلمه بكاميرا منخفضة الجودة، واشتغل بنفسه على موسيقاه وصوته.

يُذكّر روزنبام بصلة فيلادلفيا بـ”رأس الممحاة”، ويرجّح أنّ إجابة لينش بشأن الإمبراطورية هذه ربما تكون هوليوود. هذا في مقالة تمدح كلّ دقيقة في الساعات الثلاث للفيلم. بات لينش يؤمن هنا بأنّ الحياد والبراءة في هوليوود “سيقوّضان حريته كفنّان، وأنه، شاء أمْ أبى، مُجبرٌ على اتّخاذ موقف سياسي. وإذْ نشاهد لورا ديرن تتقيّأ دمًا على ممشى المشاهير في هوليوود، (يكون) الموقف هنا واضحًا تمامًا”.

إعادة خلق الذات

ما تبدّى من النصوص الأصلية للينش الفضاء الأنسب لإعادة خلق نفسه كفنان بصري بامتياز. ففي “رأس الممحاة”، لم يجترّ رموزًا قابلة للتفكيك، بل مفتوحة للتأويل، أي ضد التأويل، ومن دون الاستغناء كلّيًا عن السرد وإنْ بدا غائبًا. فالفيلم ليس ترفيهيًا أبدًا، ولا تجريبيًا أيضًا، بل يوائم الساحة التي جاب فيها جان ـ لوك غودار وتلاميذه. وحين “اخترع” لقطات بصرية في بعض أفلامه، لم يُركّب فذلكات موازية على غرار تلك التي يهاجمها منتقدوه (الحلقة الثامنة في “توين بيكس: العودة” نموذجًا على الاختراع ذاك). أما عندما تقشّف تمامًا في فيلمه الأخير، لم يؤلّف مانيفستو لصنع الأفلام، كما الحال في “دوغما 95”.

أحيانًا، استبدل طاقته البصرية بنصوص حالت بينه وبين الإطار. وأحيانًا أخرى، صارت نصوصه الأصلية نفسها مرجعًا، فصارت “سورياليته” محسوبة وجامدة، تسعى إلى إرضاء معجبيه عندما يُغذّيهم بمحتوى لينشي كلّ مرة.

ربما يظلّ أعظم إنجازاته ماثلًا في شخصياته الأبهى، تلك المؤمنة بأنّ معرفة الذات كلّ المعرفة، فتصير الطريق إلى اكتسابها رهينة الأحلام والاستيهامات اللذيذة والكوابيس. نهجٌ لا ينتهي سوى بالموت، ولا ينشغل سوى بالمعرفة.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى