مراجعات الكتب

مقصّ النسيان غير الحاد… لويس هايد وفخاخ الأشياء اللّامنسية/ عائشة بلحاج

17 مارس 2025

حين تولّى خوان بيرون رئاسة الأرجنتين عام 1946، عُيّن خورخي لويس بورخيس مفتّشاً للدّواجن والأرانب، بعد أن عمل في مكتبة البلدية. سنوات بعد ذلك سُئل بورخيس عما إذا سامح طغمة بيرون، فأجاب: “لقد نَسيت الأمر لكني لم أسامحهم. إن النّسيان هو الصيغة الوحيدة للمسامحة. إنها الانتقام الوحيد والعقاب الوحيد أيضاً. فإذا علموا أنني ما زلت أفكّر فيهم أصبحتُ عبداً لهم، وإذا سامحتهم فلن أكون كذلك. المسامحة والانتقام كلمتان تحملان الفحوى نفسه وهو الانتقام”.

أدب النسيان والحروب

مع فترة الانتقال السياسي أو بعد عقود من الحكم الدموي أو الحروب الأهلية، وهي الحالة التي تمر بها سورية، يُطرح النّسيان حلٍاً لتجاوز الماضي، والعيش في دولة جديدة قائمة على أنقاض أحقاد الماضي. لكن الدعوات إلى النسيان تطرح عدداً من الأسئلة: من هو الجانب الذي عليه أن ينسى؟ وماذا ينسى وبماذا يحتفظ؟ وماذا سيتبقّى بعد عملية الفرز هذه؟

هذه بعض الأسئلة التي طرحها لويس هايد في كتابه “أدب النسيان”، الذي ترجمه جوهر عبد المولى وصدر عام 2024 عن “دار وسم”، مقسّماً النسيان إلى أنواع، منها ما يمكن تسميته بـ”النسيان البارد”. ففي تجربة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، كان على مرتكبي الجرائم الكشف عن كافة الحقائق لكي يُنظر في إمكانية العفو عنهم. وكان عليهم إثبات أن جرائمهم كانت ذات دوافع سياسية، ولكن لم يكن عليهم إبداء الندم أو الاعتذار، فكانت عملية النسيان هنا سياسية وانتقائية.

وجرى قياس حالات العفو بمقياس التناسبية والحقيقة. ففي إحدى الحالات، زعم قتلة أربعة نشطاء ضد التمييز العنصري أن هدفهم كان تهدئة الأوضاع المضطربة. لكن الجريمة أدت إلى العكس، ولم يستطع القتلة إثبات نسبية الجريمة بمعيار الضرورة السياسية، لذا رُفض النسيان البارد هنا، وحوكم الجناة.

ووصف هايد العفو العام بأنه “نسيان قضائي” يوافق فيه القانون على عدم تذكّر الجرائم، حيث لن تتّخذ المحاكم إجراءات تجاه مقترفيها، حتى لو أن الناس جميعاً ظلوا يذكرونها. وهنا تمارس المحاكم النسيان عن طريق اللّافعل، فيتخذ العفو العام الانتقالي شكلين: “عفو فقدان الذاكرة” و”عفو موجه للذاكرة”. ويصدر العفو الأول لخدمة مصالح ذاتية للمشاركين في الجرائم، والذين ظلوا على الساحة السياسية، لدفع القانون والناس لنسيان ما اقترفوه ليكونوا جزءاً من المشهد الجديد.

معضلة أخرى طرحت بشأن قدرة النسيان على الشفاء، طُرحت بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان من المستحيل التمييز بين الذين تعاونوا مع العدو، والذين تقاعسوا عن فعل شيء لمنعه. فحتى حكومات الدول التي عانت الغزو النازي، تعاون بعضها مع الاحتلال. وللخروج من الورطة، كتبت صحيفة إيطالية “نملك القدرة على النسيان.. فلننسَ في أسرع وقت ممكن”. من جهته، اختار المستشار الألماني كونراد أديناور غضّ الطرف عن أفعال النازيين الذين لم تكن أفعالهم جسيمة، مقابل محاكمة من ارتكبوا جرائم كبرى، ولولا هذا النسيان الجماعي، لما تحقق ازدهار أوروبا المذهل بعد الحرب، يعلّق توني جَتْ.

مِقصُّ النسيان غير الحادّ

يستعين لويس هايد بعدّة هائلة من أدبيات النسيان لتفسير الحاجة إلى النسيان ومآزقها. فيستشهد بمقولة سيورين كيركغارد بأن “النسيان هو المقص” الذي يمكّن من التخلّص من الأشياء التي لا فائدة منها، تحت توجيه الذاكرة المتسيّدة، أي أن النسيان والتذكّر فنّانِ متطابقان هنا.

في السياق التالي للهولوكوست، وشَم مجموعة من الأميركيين المنحدرين من ناجين من معتقلات النازية سواعدهم بأرقام أقاربهم الناجين، ساعين لتجسيد مقولة “إياك أن تنسى الماضي”، وإلا فسيتكرر. فالتهديد بمحرقة أُخرى قائم، ويمكن اعتباره الفعل من باب الذاكرة المفروضة لقبض ثمن الماضي لا لنسيانه.

مع العلم أن هايد كتب في سياق آخر: الأشياء اللّامنسية هي التي تدمّر العالم. السياق هو الإبادة الجماعية التي شنّها الصّرب على المسلمين والكروات، التي أدّت الى طرد مئات الآلاف من قراهم، بعد اغتصاب الجنود آلاف النساء، وقتلهم عشرات الآلاف من الرجال والفتيان في بلدة سربرنيتشا. كيف تُنسى هذه الجرائم والنساء شاهدات على قتل رجالهنّ أمام أعينهنّ، والاغتصاب الجماعي والأبناء الذين أنجبنَ نتيجة ذلك؟ “كلّ شيء يذكر بشيء…” كما كان سيستشهد هايد لو كان عربياً. لكنه يذكر قوة الموسيقى في استحضار النّسيان. “لأن كل فعل من أفعال التذكّر هو فعل من أفعال النسيان أيضاً”. وتبرز الأغاني الشعرية هنا من أجل إحداث هاتين الحالتين “عندما يغني صوت مبتهج ينسى الإنسان همومه، وتغيب أحزانه عن ذاكرته كلياً”.

ميثاق النسيان

في إسبانيا وبعد مرور عام على وفاة الجنرال فرانكو عام 1975، صدر قانون عفو شامل، جاء فيه ما يلي: “تتجه إسبانيا اليوم نحو إنشاء دولة تطبق الديمقراطية بشكل طبيعي، ولقد حان وقت استكمال هذه المرحلة الانتقالية من خلال نسيان جميع الذكريات التّفريقية، لكي يكتنف الوئام الأخوي الشّامل جميع الإسبان”. وتشكّل العفو المرجوّ من أنواع مختلفة، منها ما سُمِّي بـ”العفو الخاضع للمساءلة”، حيث تُثبَت الحقيقة بعد أن يعترف المعفوّ عنهم بجرائمهم علناً، وتُفتح السجلات وتُوثّق جرائم القتل، وتُمنح التعويضات. ثم تبدأ أعمال المصالحة، وصولاً إلى العفو الكامل وهو “العفو الذي يطمس الماضي” ويتجسد في غياب كل أشكال المساءلة، في ما عرف بـ”ميثاق النسيان” (El pacto del olvido) واستمر هذا الاتفاق غير الرسمي عقدين من الزمن، لتجاوز عقود من الحكم الديكتاتوري.

لكن هذا النسيان سمّاه هايد “نسياناً غبياً”، لهذا عاد التفاعل عام 1998 مع الحرب الأهلية لتجاوز فقدان الذاكرة الانفصالي، للوصول إلى “النسيان الذكي”. وهو النسيان الذي يضع الماضي في مثواه الأخير، وقد حصل ذلك بشكل حرفي في هذه الحالة. فبدأ أحفاد مقاتلي الحرب الأهلية في البحث عن القبور الجماعية المجهولة لأجدادهم، من أجل دفنهم دفناً لائقاً.

وفي حلول النسيان فنون كثيرة، يذهب بعضهم إلى أن الأحلام كفيلة بالنسيان. “نحلم لكي ننسى”، كتب غريم ميتيسون وفرانسيس كريك، وهو أحد مكتشفي الحمض النووي، في مقال نشرته مجلة Nature: “فأيامنا مليئة بالمعلومات والتفاصيل ولذلك فالعقل البشري بحاجة إلى آلية للتصفية، والأحلام كفيلة بهه الوظيفة. وإلا فسنتحول إلى شخصية فونس في قصة بورخيس القصيرة ‘فونس قوي الذاكرة’ الذي لا يستطيع أن ينسى، حتى لو تعلق الأمر بأدقّ التفاصيل”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى