كيف سيفرض الشّرع الأمن بدون ترسانة أو جيش بعقيدة عسكرية؟

الاثنين 17 مارس 2025
تواجه الإدارة السورية الجديدة، برئاسة أحمد الشرع، تحديات أمنيةً كبرى، ويمكن تلخيصها في ثالوث صعب، يضعها في موقف لا تُحسد عليه.
الضلع الأول من هذا المثلث، هو عدم وجود جيش نظامي منضبط تحت القيادة العسكرية الجديدة، وافتقاد الإدارة السورية الجديدة هذا النوع من الضباط وكبار الخبرات العسكرية القادرين على التحكم في الجنود، فمعظم المنضوين تحت ألوية القوات الأمنية (الجيش والشرطة)، اليوم، هم من أبناء فصائل المعارضة المسلّحة سابقاً، ولا يمتلكون العقيدة العسكرية القائمة على الهرمية، والالتزام الحرفي بالأوامر.
أما الضلع الثاني، فهو عدم وجود ترسانة يمكن تسميتها قوة عسكرية، فمنذ اللحظة الأولى لهروب بشار الأسد، ركزت إسرائيل جهودها على تدمير كل ما طالته طائراتها الحربية من معدات ومواقع عسكرية، كان يمكن أن ترثها الإدارة السورية الجديدة من النظام السابق.
والضلع الثالث والأخير، هو نوع العقوبات المفروضة على سوريا والتي تمنع استيراد الأسلحة وصيانتها.
وفي ظلّ هذه المعطيات، تطرأ أسئلة ملحّة عما إذا كانت الإدارة السورية الجديدة “تخاطر” بالانتقاص من الديمقراطية الكاملة التي يطالب بها السوريون، كما حدث في الإعلان الدستوري؟ وهل تتحمل سوريا اليوم مزيداً من الانتفاضات الأهلية الرافضة لشكل الحكم؟ وماذا بعد استنفاد أسلحتها “الرسمية” التي ورثتها عن الفصائل في اشتباكات هنا وهناك لقمع الحركات الانفصالية؟
في هذا التقرير يحاول رصيف22 الإجابة عن هذه الأسئلة.
كيف تحكم بلداً بلا جيش؟
أحداث “فتنة الساحل” التي شهدت اشتباكات عنيفةً بين قوات الأمن وبعض أبناء الطائفة العلوية، وراح ضحيتها أكثر من ألف سوري معظمهم من العلويين، ومن قبلها أحداث “جرمانا” في الجنوب السوري والاشتباكات بين فصائل درزية مسلحة وقوات الأمن، بالإضافة إلى إقصاء المكون الكردي عن المؤتمر الوطني، ولاحقا اتهام الأكراد الإدارة السورية بالانقلاب على اتفاق الدمج بالإعلان الدستوري، هذه المعطيات كلها قد تضع الحكومة السورية الجديدة في مواجهة مباشرة مع من لا يؤمنون بقدرتها على الحكم العادل، بداية من تحقيق العدالة الانتقالية، مروراً بتمثيل الأقليات والتعددية، ووصولًا إلى تداول السلطة. ناهيك عن مخاوف فئوية أخرى من حملات انتقامية على أساس طائفي ممن يحملون السلاح باسم الدولة، ولا يلتزمون بأوامر الإدارة.
بحسب أهم مراكز الدراسات في العالم، هناك 4 سيناريوهات محتملة فقط أمام سوريا، إما نموذج طالبان والحكم الديني. أو النموذج العراقي والحكومات المتعددة. أو النموذج الكونفدرالي الأمني وانتشار الفصائل المسلحة. وأخيراً نموذج الدولة المدنية الديمقراطية، وهي الأقل كلفة، والسيناريو الوحيد الذي يضمن عدم تقسيم البلاد
فبعد سقوط نظام بشار الأسد، في كانون الأول/ ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلةً انتقاليةً مضطربةً تجمع بين الآمال والتحديات، وهي منهكة أصلاً إثر حرب أهلية دامت 13 عاماً، وأسفرت عن مقتل ما يزيد على 350 ألف شخص، وتشريد الملايين داخل سوريا وخارجها.
إلى ذلك، تعاني البلاد من حالة تُسمّى “موت الدولة”، أي انهيار مؤسسات الحكم، وعدم قدرتها على الاضطلاع بمسؤولياتها وتقديم الخدمات التي تأسست بهدفها، وقد تسارع هذا الانهيار خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد، نتيجة الفساد وسوء الإدارة والحرب.
الأوضاع السابقة تفرض على الشرع أن يمسك العصا من منتصفها، وينصف الأقليات ليرضي أبناءهم كسوريين، وبناءً عليه يرضي الجهات الخارجية التي تضعه تحت المجهر، لا أن يمسكها من طرفها، فارضاً فكرة الدولة السنّية، أو للدقة الانتقال بسوريا البعثية إلى الدولة الأموية الجديدة، كما أشار في أحد خطاباته سابقاً.
فبحسب محللين، لا خيار أمام الشرع إلا الديمقراطية. فمخزونه القليل من الأسلحة سينفد قريباً، وإذا بقي مصرّاً على إقصاء الأقليات كما قيل عن المؤتمر الوطني والإعلان الدستوري، فلن يتمكن بعد فترة ليست طويلةً من مواجهة الحركات الانفصالية. لذا فالأولى له أن يجمع حوله السوريين كلهم، دون تفرقة، ولا سيّما أن الكثير من السلاح لا يزال منتشراً في البلاد.
سيناريوهات المستقبل السوري
في نظرة سريعة على المواقع المختصة في الشؤون الإستراتيجية والنبوءات السياسية/ العسكرية في العالم، وهي “معهد كارنيغي”، و”شاتام هاوس” و”إستراتيجكس”، يمكن اختصار سيناريوهات المستقبل السوري في عدد محدود من النماذج، وهي مبنية عموماً على المعطيات الواقعية، والتجارب السابقة الشبيهة، وأبرزها:
أولاً: نموذج “طالبان” في أفغانستان
في هذا السيناريو، تُحكم سوريا وفق نظام إسلامي صارم تسيطر فيه الجماعات المتشددة على الحكم، وتُستبدل القوانين المدنية بالشريعة الإسلامية، ما يؤدي إلى:
تهميش المكوّنات غير الإسلامية وغير السنّية.
عزلة دولية وصعوبة في بناء علاقات دبلوماسية مع الدول الغربية والعربية المعتدلة.
تصاعد المواجهات الداخلية نتيجة رفض بعض المكوّنات لهذا النموذج.
تشير التحليلات إلى أنّ بعض الفصائل المعارضة المسلّحة في سوريا قد تسعى إلى فرض نظام حكم شرعي مستوحى من طالبان، خاصةً في ظلّ غياب رؤية موحدة للحكم الجديد. وهذا السيناريو من المحتمل تحقّقه في حال سيطرة الجماعات السلفية الجهادية على دمشق دون وجود قوة معارضة موازية.
ثانياً: حكومات متعددة (النموذج العراقي)
في هذا السيناريو، تحكم سوريا حكومة مركزية معترف بها دولياً، ولكن مع وجود حكومات إقليمية ذات صلاحيات واسعة في السياسة الداخلية وإدارة الموارد، مثل كردستان العراق.
يتم توزيع السلطات بين المكوّنات المختلفة وفق محاصصة طائفية وإثنية.
السياسة الخارجية تبقى تحت سلطة الحكومة المركزية، بينما يتمتع كل إقليم بقدر من الاستقلالية.
يتيح هذا النموذج تمثيلاً أوسع للأقليات، لكنه يحمل مخاطر تفكّك السلطة المركزية.
وبرغم أنه بات متأرجحاً، لكن اتفاق الدمج الأخير بين قوات سوريا الديمقراطية الكردية والحكومة المؤقتة، يشير إلى إمكانية تطبيق هذا النموذج، حيث سيتم دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الدولة مع منحها بعض الاستقلال الذاتي. الولايات المتحدة تدعم هذا النموذج باعتباره حلاً وسطياً يحافظ على التماسك السوري دون السماح بظهور نظام شمولي جديد.
يعتقد كثير من المحللين أنّ جزءاً لا بأس به من الدعم الذي تحظى به الإدارة الحالية خارجياً وداخلياً، يأتي نتيجة غياب بدائل جاهزة للحكم، ولرغبة الجميع في تفادي فراغ السلطة.
ثالثاً: النموذج الكونفدرالي الأمني
في هذا السيناريو، تتحول سوريا إلى دولة كونفدرالية غير مستقرّة، حيث تتحكم الفصائل المسلحة المختلفة، المدعومة من قوى إقليمية ودولية، في مناطقها الخاصة.
كل طائفة أو مجموعة عرقية تمتلك فصيلاً مسلّحاً يحمي مصالحها.
لا توجد سلطة مركزية قوية قادرة على فرض قراراتها في جميع أنحاء البلاد.
يتم تقسيم البلاد فعلياً إلى مناطق نفوذ تديرها دول داعمة، مثل إيران، تركيا، وروسيا.
على الرغم من أنّ تصريحاتها لا تقول ذلك، لكن الدراسات تشير بوضوح إلى أنّ روسيا تسعى للحفاظ على نفوذها العسكري في سوريا حتى بعد سقوط نظام الأسد، وأنها في مرحلة “هدوء تكتيكي”، لكنها لن تتخلى عن قواعدها العسكرية في سوريا، ما قد يدفعها إلى دعم كيانات مسلحة تضمن استمرار مصالحها. أما إسرائيل، فتراقب المشهد وتسعى إلى منع صعود قوى تهدد أمنها، ما قد يؤدي إلى تدخلات عسكرية مستمرّة منها، أو إلى نجاح مساعيها في تسليح الدروز، وفرض الأمر الواقع بوجود سلطة حكم محلية درزية.
رابعاً: الدولة المدنية الديمقراطية
يُعدّ هذا هو السيناريو الأكثر استقراراً على المدى الطويل، حيث يتم بناء نظام ديمقراطي تعددي قائم على:
تداول السلطة وفق انتخابات حرّة ونزيهة.
احترام التعددية العرقية والدينية وضمان حقوق الأقليات.
إصلاح مؤسسات الدولة وإعادة هيكلتها بطريقة تضمن الحوكمة الرشيدة.
يرى خبراء أنّ هذا النموذج هو الضمان الوحيد لعدم تقسيم سوريا، حيث يُدخل الجميع في العملية السياسية ويمنع استئثار فصيل واحد أو طائفة معينة بالسلطة. لكنه يواجه عقبات عدة، كرفضه من قبل الفصائل المسلحة التي انضوت تحت لواء أحمد الشرع، وعدم قدرة الأخير على مخالفتهم لأنهم “الحامية الأساسية” لبقائه في الحكم اليوم، فالـ”منتصر يريد ثمن انتصاره”، والعقبة الأخرى أمام هذا السيناريو هي معارضة بعض القوى الإقليمية لنظام ديمقراطي قوي في سوريا، خوفاً من تأثيره على سياساتهم الداخلية.
إلا أنّ أهم ما سيحسم السيناريوهات السابقة، هو “نوع” الدعم الذي سيحصل عليه كل طرف، وليس الدعم المعنوي أو الاقتصادي فحسب، بل العسكري بالأساس، فما هي الأدوات التي يملكها “الشرع” اليوم ليحسم أمر دولته الأموية، كما أسماها في أحد خطاباته؟ وهل لديه الترسانة العسكرية والولاء الكافيين للدخول في ثلاث معارك مع ثلاث أقليات سورية، أو على الأقل مع من يحاربون من أبنائها وباسمها؟
نهاية شهر العسل السوري
برغم أنّ رحيل النظام قوبل بارتياح وأمل من مختلف مكونات الشعب السوري -بما في ذلك بعض الموالين السابقين الذين سئموا من عجز الأسد عن حلّ الأزمات- لكن شهر العسل سرعان ما انتهى، وأدرك الجميع جسامة المهمة الملقاة على عاتق الإدارة الجديدة، والشعب على حد سواء، في إعادة بناء البلاد وتحقيق الاستقرار، والأهم في تمثيل جميع السوريين، والبدء بإجراءات العدالة الانتقالية لوضع حد للانفلات الأمني، والشعور بغياب العدالة.
بحسب تقرير لـ”أتنلانتك”، يعتقد كثير من المحللين أنّ جزءاً لا بأس به من الدعم الذي تحظى به الإدارة الحالية خارجياً وداخلياً، يأتي نتيجة غياب بدائل جاهزة للحكم، ورغبة الجميع في تفادي فراغ السلطة، وأنّ جزءاً كبيراً من كبح الشرع لقواته والفصائل التي انضوت تحت رايته، هو لغايات الحصول على الاعتراف الدولي، الأمر الذي يتركه مقيّداً، ومضطراً إلى التعامل وفق أسس عسكرية مختلفة كدولة، عن تلك التي تعامل بها كفصيل معارض قبيل سقوط النظام، وأهم هذه الأسس هي الالتزام بالقانون الدولي الإنساني في الحرب.
لكن، وحتى إن صحّت نظرية عدم وجود البدائل، فمخزون التسامح الذي يحظى به الشرع نظراً إلى الظروف الصعبة التي يعرفها الجميع، قد يبدأ في النفاد قريباً، ولا سيّما مع التحديات الهائلة في كسب ثقة السوريين، وتحقيق إنجازات ملموسة لتحسين الأوضاع المعيشية وإعادة الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والعلاج والتعليم وفرص العمل.
قنبلة موقوتة: عقيدة الجيش ليست عسكريةً
يبقى الوضع الأمني هشّاً برغم النجاح الشكلي، حتى الآن على الأقلّ، في تفادي الفوضى الشاملة التي رافقت انهيار أنظمة أخرى كالعراق وليبيا.
لا شكّ أنّ البلاد شهدت تحسناً نسبياً في البداية من ناحية السلم الأهلي، مقارنةً بما توقعه البعض، حيث انخفضت حدّة المعارك في معظم المناطق بعد سقوط النظام، لكن سوريا لا تزال مقسّمةً فعلياً إلى مناطق نفوذ عدة: القوات الكردية تسيطر على الشمال الشرقي الغني بالموارد، والفصائل الإسلامية والسنّية تدير معظم الغرب والجنوب، في حين تظهر بين وقت وآخر بعض جيوب المقاومة التابعة للنظام السابق في الساحل متمردةً على السلطة الجديدة.
في المجمل، تقف سوريا اليوم على مفترق طرق تاريخي: فإما أن تنجح “النخبة الحاكمة الجديدة” في إرساء حكم مستقرّ جامع لكل السوريين، وإما أن تنزلق البلاد إلى دوامة جديدة من الفوضى والصراع المسلح تحت ذرائع الانتقام الطائفي. فهل تدرك الإدارة الحالية أنّ أمامها فرصةً قصيرةً لكسب ثقة الشعب؟
يقول الكاتب العراقي علي بدر، في منشور له على فيسبوك: “المشكلة في سوريا هنا هي تأسيس جيش من جماعات غير نظامية (Guerrilla Warfare)، وهذه الجماعات إرهابية، ومارست الإرهاب لفترات طويلة. وفي الغالب تعتمد في عقيدتها العسكرية على الإعدامات الميدانية، واستهداف المدنيين، والقتل على الهوية. نراها كلها ملثمةً لأنّ أغلبها من الأجانب المطلوبين في دولهم، خطورة هذه الجماعات أنها لا تخضع لأوامر قيادات مركزية، ولا تسعى لتحقيق انتصار عسكري تقليدي، فهي تعمل على إطالة أمد الصراع عبر نشر الفوضى والرعب ونهب الممتلكات. في غياب أي التزام بالقوانين العسكرية أو الأخلاق الحربية”.
جزء من حلّ هذه المشكلة، اتفاق الدمج الذي وقّعته قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مع الإدارة السورية الجديدة، حيث يُفترض أن يكون لها دور مهم في رسم الهيكل العسكري القادم للدولة. وأكّد الناطق باسم قوات الشمال الديمقراطي، المنضوية في “قسد”، محمود حبيب، أنّ القوات الكردية ستلعب دوراً أساسياً في تشكيل الجيش السوري المستقبلي.
وأضاف حبيب، أنّ “قسد”، التي تمتلك هيكلاً قيادياً عسكرياً وخبرةً واسعةً في محاربة التنظيمات الإرهابية، ستكون عنصراً فاعلاً في ضبط الأمن داخل سوريا، سواء على الحدود أو في المناطق الحضرية. وأوضح أنّ التجربة القتالية الطويلة لهذه القوات ستشكل إضافةً نوعيةً للجيش السوري الجديد، عادّاً أنّ “قسد” ستعمل كقوة داعمة تعزز استقرار البلاد وتساهم في بناء جيش قوي قادر على حماية الدولة السورية في المستقبل، لكن هذا الأمر لن يتم عبر “تسليم أسلحتها”، بل عبر نقل خبراتها فحسب.
… وترسانة عسكرية مدمّرة
بالإضافة إلى أنّ السواد الأعظم من “الجيش” و”الأمن” في سوريا اليوم، لا يمتلكون عقيدةً الجيش النظامي، تبرز التحديات الأمنية التي ورثتها الإدارة الجديدة، وفي مقدمتها ضياع ترسانة الجيش السوري التي تراكمت على مدار عقود. فبُعيد إعلان سقوط النظام، سارعت إسرائيل إلى شنّ حملة جوية غير مسبوقة “لتدمير القدرات العسكرية المتبقية للجيش السوري ومنع وقوع الأسلحة في أيدي أطراف معادية”، كما أسمتها.
فخلال الساعات والأيام الأولى، نفّذت إسرائيل أكثر من 150 غارةً جويةً استهدفت مواقع عسكريةً في عموم سوريا، شملت تدمير دبابات ومروحيات وطائرات مقاتلة تابعة للجيش السوري. ووُصفت هذه العملية بأنها إحدى أكبر عمليات سلاح الجو الإسرائيلي في التاريخ، حيث أغرق الإسرائيليون قطعاً من البحرية السورية في موانئها، ودمّروا عشرات الطائرات الحربية من طراز “ميغ” و”سوخوي”، وتركزت الضربات أيضاً على مستودعات الذخيرة، ومنصّات الصواريخ، ومنشآت الاستخبارات، ومصانع الأسلحة.
وبحلول اليوم الثالث من سقوط النظام، وبينما كانت الاحتفالات تملأ سوريا، ، كانت أكثر من 300 غارة قد نُفّذت منذ سقوط الأسد، بهدف “تدمير كل ما تبقّى من جيشه وضمان أنّ الأجيال القادمة لن تتمكن من إعادة بناء هذه القوة”، بحسب التصريحات الإسرائيلية.
تمّ تدمير أسراب كاملة من الطائرات المقاتلة، وتعطيل منظومة الدفاع الجوي السوري بشكل شبه تام بعد استهداف عشرات البطاريات المضادة للطائرات في يوم واحد. وحتى أسطول مقاتلات “ميغ-29” الحديث، تم القضاء عليه بالكامل خلال إحدى الهجمات. وصدر التصريح الأسوأ من مصادر عسكرية إسرائيلية، بأنّ كل ما بناه الجيش السوري خلال عقود “تم تدميره”.
آخر هذه الضربات، كانت قبل أيام. ففي 10 آذار/ مارس 2025، شنّت الطائرات الحربية الإسرائيلية غارات جويةً استهدفت مواقع عسكريةً في محافظة درعا جنوبي سوريا، وفقاً لمصادر محلية وإعلامية.
في 13 من الشهر نفسه، نفّذ الطيران الحربي الإسرائيلي غارةً جويةً على أطراف العاصمة السورية دمشق، مستهدفاً ما وصفته إسرائيل بمركز قيادة تابع لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، يُستخدم لتوجيه “أنشطة إرهابية” ضد إسرائيل.
نتيجةً لهذه الضربات المكثفة، وجدت السلطة الجديدة نفسها شبه مجرّدة من العتاد العسكري الثقيل. فقد اضطر الجيش الناشئ إلى البدء من الصفر تقريباً، ببنادق “إم 16″ و”كلاشنيكوف” فقط لتشكيل نواة قوة مسلحة، بحسب وصف دورون كادوش، مراسل الشؤون العسكرية الإسرائيلي.
فبعد أن كان الجيش السوري يملك نحو 2،720 دبابةً قبل سقوط النظام (1،700 منها كانت صالحةً للقتال)، وأكثر من 1،500 مدفعية، و400 راجمة صواريخ، لم ترث الإدارة الحالية لسوريا سوى أسلحة فردية وآليات خفيفة. وبالمثل، انخفضت قدرة سلاح الجو التابع للدولة إلى الصفر تقريباً بعد تدمير ما تبقّى من مقاتلات ومروحيات.
وخسر الجيش الذي صنفه موقع “Global Firepower”، المتخصص في ترتيب القوة العسكرية للدول، في المرتبة 60 عالمياً عام 2024، نحو 170 ألف جندي، وأسطولاً جوياً قوامه 452 طائرةً، ومعظم تلك القوة الضاربة، في تصنيف العام 2025، الأمر الذي أضعف بشدة قدرة الحكومة الانتقالية على فرض الأمن والنظام، وبغض النظر عن توجهها السياسي.
ارتفاع معدلات الجريمة
في ظلّ هذا الواقع، برزت تداعيات خطيرة لنقص الذخيرة والعتاد على الأرض. ليست سياسيةً فحسب، فقد ارتفعت معدلات العنف الأسري والجريمة الجنائية في معظم المناطق نتيجة الفراغ الأمني.
بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان، بلغ عدد الجرائم الجنائية والقتل، منذ مطلع عام 2025، في محافظات سورية متفرقة، 55 جريمةً، راح ضحيتها 61 شخصاً، معظمها سُجّلت بدوافع السرقة والمشاجرات العائلية والثأر وتجارة المخدرات، وأخرى سُجّلت ضد مجهول.
وعلى الرغم من عدم القدرة على جمع البيانات الدقيقة، من جميع المناطق، لسوء الاتصال، وبسبب وجود فراغ أمني، ولغياب التبليغات، إلا أنّ سوريا احتلت المركز الأول على مسطرة الدول العربية في مستوى الجريمة، بمعدل 68.1، وفق مؤشر قياس الجريمة العالمي، في قاعدة بيانات “Numbeo”.
فمع انهيار منظومة الضبط السابقة وضعف إمكانات القوات الجديدة، شهدت مدن عدة موجات نهب وسلب بعد انسحاب قوات النظام، حتى في معاقل النظام السابقة، كبلدة القرداحة مسقط رأس الأسد، حيث أقدم بعض السكان على مهاجمة ضريح حافظ الأسد ونهب محتوياته من أثاث وأجهزة تكييف بمجرد زوال سلطة الأمن القديمة، كما تفاقمت حوادث السطو المسلح والاختطاف، ولا سيّما في المناطق التي تعاني تاريخياً من ضعف سلطة القانون مثل الجنوب السوري.
وتشير تقارير محلية إلى انتشار أسلحة خفيفة ومتوسطة بين أيدي جماعات عديدة بعد فتح مخازن النظام، ما صعّب مهمة ضبط الأمن. وضمن هذه المعطيات، اعترف الشرع، الرئيس الانتقالي، بأنّ حكومته ستواصل العمل على حصر السلاح في يد الدولة، في إشارة إلى انتشار الأسلحة المنفلتة بأيدي “جماعات غير نظامية”، فهل كان يقصد الأقليات التي ترفض تسليم أسلحتها خوفاً من التغوّل السنّي للنظام الجديد؟ وهل هو قادر على تنفيذ هذا التهديد بلا أسلحة، وبجيش بلا عقيدة عسكرية منضبطة، ولا يمكن أن يطلَق عليه لفظ “نظاميّ” بعد؟
هل تستطيع سوريا إعادة بناء ترسانتها العسكرية؟
الجواب المرجح هو لا. فبعد أن قضت الضربات الجوية الإسرائيلية على معظم الترسانة التي تشكلت من دول غير مقبولة من الغرب، ولم تأبه للتعدّي على العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، مثل إيران وروسيا، فمن غير الوارد أن تقوم حكومة لم تستقرّ بعد باستيراد أو تصنيع أسلحتها، لكثير من الأسباب؛ أولاً لأنّ الأولوية الاقتصادية هي لتأمين الخدمات وليس التسليح، وثانياً والأهم بسبب طبيعة العقوبات الدولية المفروضة على البلاد.
فحتى اليوم، لا تزال العقوبات الدولية المفروضة على سوريا -بما في ذلك تلك التي تم تخفيفها مؤخراً- تمنعها من استيراد الأسلحة، أو استيراد مواد تدخل في تصنيعها، أو استيراد مواد أو استقدام خبراء يساهمون في صيانة تلك الأسلحة المدرجة بالفعل ضمن الترسانة الرسمية للجيش السوري.
وعلى الرغم من تعليق بعض العقوبات الاقتصادية مؤخراً، إلا أنّ حظر توريد الأسلحة والمعدات ذات الصلة لا يزال ساري المفعول. ويربط خبراء رفع هذا النوع من العقوبات، بتسليم المتهمين بجرائم حرب ضمن الحكومة السورية أو في داخل البلاد، وكذلك بإثبات النية الحقيقية لوجود تنوع في الحكم يحاكي التنوع العرقي والديني في المجتمع السوري.
العقوبات بالمرصاد
في 24 شباط/ فبراير 2025، قرّر مجلس الاتحاد الأوروبي تعليق عدد من العقوبات الاقتصادية على سوريا، بهدف تسهيل التعامل في مجالات الطاقة والنقل وتبسيط المعاملات المالية والمصرفية المرتبطة بهذه القطاعات، بالإضافة إلى الأغراض الإنسانية وإعادة الإعمار. ومع ذلك، أكد البيان أنّ الاتحاد الأوروبي يحتفظ بتدابير تتعلق بتجارة الأسلحة، ما يعني استمرار حظر توريد الأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى سوريا.
أما الولايات المتحدة، فتُصنِّف سوريا دولةً راعيةً للإرهاب منذ عام 1979، وهو ما أدى إلى فرض عقوبات تشمل حظر صادرات ومبيعات الأسلحة. حتى من قبل الـ2011، فُرضت بالإضافة إلى ذلك، عقوبات إضافية بعد الحرب الأهلية السورية، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وتُعزز هذه العقوبات حظر توريد الأسلحة إلى سوريا. وبحسب تقارير، من غير الوارد أن ترفع الولايات المتحدة هذه العقوبات أو تخففها في ظلّ إدارة الرئيس ترامب.
كذلك فرضت أستراليا، والمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، عقوبات مستقلّةً على سوريا، تشمل حظر تصدير المعدّات العسكرية والتكنولوجيا ذات الصلة، ما يمنع توريد الأسلحة إلى سوريا.
وبرغم الدعم القطري التركي الذي تحظى به الإدارة السورية الجديدة، لكن تجاوز العقوبات الدوليّة المفروضة على سوريا لصالح تسليح هذه الإدارة من قبلهم، ليس واردًا وسيُعدّ مخاطرةً كبيرةً أمام المجتمع الدولي. أما بقية الدول التي دعمت الشرع، كالسعودية ومن ورائها بقية مجلس التعاون الخليجي، فمن غير المرجّح أن تقدّم دعماً عسكرياً يتعارض مع هدفها من الاعتراف بالشرع.
المعطيات السابقة في مجملها، قد تُخرج قوّة السلاح من معادلة “فرض الأمن” في المدى المنظور، وقد لا يبقى أمام الإدارة السورية الجديدة سوى الخيار الأفضل، والأخير، وهو فرض الأمن من خلال المواطنة، عبر ضمان تمثيل الأقليات والتعددية والديمقراطية. فهل الشرع مستعدّ لتداول السلطة والرهان على غضب الفصائل الإسلامية التي أوصلته إلى الحكم؟
رصيف 22