سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 17 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
—————————
سوريا بلا الأسد.. بداية فصل جديد بعد ثورة طويلة/ أحمد زكريا
2025.03.17
في مشهد تاريخي يحمل بين طياته رمزية عميقة، تحتفل سوريا بذكرى مرور أربعة عشر عاماً على انطلاق ثورتها الشعبية التي غيّرت وجه التاريخ الحديث في البلاد، إذ تمر سوريا اليوم بذكرى استثنائية، إذ تكمل ثورتها الشعبية عامها الرابع عشر.
ومنذ تلك اللحظات الأولى التي ارتفعت فيها الهتافات المطالبة بالحرية في دمشق ودرعا، كان واضحاً أن السوريين يدخلون مرحلة تاريخية جديدة، لكن ما لم يكن متوقعاً هو أن هذه الرحلة ستكون مليئة بهذا الكم الهائل من التضحيات والتحديات.
يحتفل السوريون بمرور أربعة عشر عاماً على انطلاق الثورة السورية، تلك الشرارة التي بدأت عام 2011 بالقرب من سوق الحميدية في قلب دمشق، حيث تعالت أصوات السوريين بهتاف لن ينساه التاريخ: “الشعب السوري ما بينذل”، كانت تلك لحظة مفصلية، لحظة أعلن فيها الشعب السوري رفضه لعقود من القمع والفساد والاستبداد، مطالبين بالحرية والكرامة.
في البداية، كانت الثورة سلمية، تحمل مطالب محقة وأصواتاً صادقة، لكن النظام السوري، بقيادة بشار الأسد، أدرك أن هذه الأصوات تشكل تهديداً وجودياً له، فاختار مواجهتها بالحديد والنار، لتتحول الثورة السلمية إلى صراع مسلح، حيث شهدت البلاد مجازر مروعة في أرجائها المختلفة، من القصف العشوائي على الأحياء السكنية إلى الاعتقالات الجماعية والتعذيب في السجون، لكن رغم كل ذلك، لم تنكسر إرادة السوريين. لمدة أربعة عشر عاماً، ظلوا متمسكين بمبادئ ثورتهم، رافضين الاستسلام حتى الرمق الأخير، في مواجهة نظام دكتاتوري لم يكن وحده، بل مدعوماً بتحالفات إقليمية ودولية وميليشيات عابرة للحدود.
اليوم، نحن على أعتاب مرحلة جديدة، هذه الذكرى الرابعة عشرة ليست كسابقاتها، فهي الأولى التي نعيشها من دون عائلة الأسد ونظامها المجرم، لقد سقط الطاغية، وبدأ السوريون يتنفسون عبير الحرية بعد سنوات من الخناق، إنه إنجاز تاريخي، ليس لسوريا وحدها، بل لكل شعوب المنطقة التي شهدت ثورات الربيع العربي تتعثر وتصطدم بجدار الثورات المضادة، ففي حين أجهضت ثورات مصر وتونس وليبيا بتآمر داخلي وخارجي، بقيت الثورة السورية صامدة، تكتب بدماء أبنائها درساً للعالم: إرادة الشعوب لا تُقهر، مهما طال الزمن أو عظم التحدي.
نجاح الثورة السورية ليس مجرد حدث عابر، بل سابقة خطيرة تهدد عروش الأنظمة الدكتاتورية في العالم، لقد أثبت السوريون أن الشعوب القادرة على الصمود في وجه أعتى الآلات القمعية قادرة أيضاً على الانتصار، هذا الانتصار لم يكن سهلاً، فقد دفع السوريون ثمناً باهظاً: ملايين المهجرين، مدن تحولت إلى أنقاض، وأرواح أزهقت تحت وطأة القصف والجوع والاعتقال. لكنه ثمن كان ضرورياً لاستعادة الكرامة وبناء مستقبل يليق بتضحياتهم.
نجاح الثورة السورية يبعث برسالة قوية إلى العالم: التغيير ممكن، والشعوب قادرة على صنع مستقبل أفضل إذا توافرت لها العزيمة والإرادة. لكن هذا النجاح لن يكون كاملاً إلا إذا استثمر السوريون هذه اللحظة التاريخية بحكمة، وعملوا معاً من أجل بناء وطن يليق بتضحياتهم.
في ديسمبر/كانون الأول 2024، تحقق ما بدا للبعض مستحيلاًـ في غضون أيام معدودة، تقدمت فصائل المعارضة وسقطت دمشق عاصمة الأمويين التي طالما كانت رمزاً لسلطة الأسد، وفرّ بشار الأسد إلى وجهة مجهولة تاركاً وراءه نظاماً تفكك كبيت من ورق بعد أن ظن أنه سيظل صامداً بدعم روسيا وإيران، وكان ذلك الانتصار تتويجاً لرحلة طويلة من المقاومة، لكنه لم يأتِ بسهولة، فوراء كل خطوة تقدمتها المعارضة، كانت هناك أرواح أزهقت ودماء أريقت.
احتفل السوريون في الساحات العامة، من إدلب إلى حلب، ومن حمص إلى دمشق. رفعوا علم الاستقلال، الذي تبنوه منذ 2011 كرمز لثورتهم، وغنوا أناشيد الحرية التي كانوا يهمسون بها سراً تحت حكم الأسد. لم يكن الاحتفال مجرد فرح عابر، بل تعبير عن إرادة صلبة تحدت كل الصعاب. لكن وسط هذا الفرح، كان هناك وعي بأن الطريق لا يزال طويلاً. إسقاط الأسد لم يكن النهاية، بل بداية مرحلة جديدة مليئة بالتحديات.
ومع سقوط الأسد، تتجدد الأسئلة حول ما ينتظر سوريا، فهناك من يرى في هذه اللحظة فرصة ذهبية لإعادة بناء البلاد على أسس ديمقراطية، دولة مدنية تعددية تحترم الحقوق والحريات وتضمن العدالة للجميع، هؤلاء يحلمون بمستقبل خالٍ من التهميش والقمع، حيث يتم محاسبة المجرمين عبر آليات العدالة الانتقالية، ليس من أجل الانتقام، بل من أجل المصالحة والشفاء الوطني.
وفي المقابل، هناك أصوات قليلة تتخوف من المستقبل، تخشى الفوضى أو الانقسامات الداخلية، بل إن بعضها قد يميل إلى الارتباط بقوى خارجية كإيران أو إسرائيل، وهي أصوات تُستغل غالباً لأغراض استعمارية تهدف إلى إدامة الضعف السوري.
لكن الغالبية العظمى من السوريين تدرك أن الطريق أمامهم لن يكون مفروشاً بالورود، إنهم يرون في “سوريا بدون الأسد” بداية مرحلة انتقالية صعبة ولكنها حتمية، تحتاج إلى توافق سياسي واسع ومصالحة وطنية شاملة.
اليوم، وبعد 14 عاماً من انطلاق الثورة، يواجه السوريون مهمة أصعب من إسقاط الطاغية: بناء دولة، سوريا التي خرجت من تحت أنقاض الحرب ليست مجرد بلد مدمر مادياً، بل مجتمع مزقته الانقسامات والصراعات، فهناك فصائل مسلحة تحتاج إلى توحيد صفوفها، وتنوع طائفي وعرقي يتطلب إدارة حكيمة لضمان التعايش، وهناك أيضاً ملايين اللاجئين والنازحين الذين ينتظرون العودة إلى ديارهم، ومؤسسات دولة تحتاج إلى إعادة بناء من الصفر.
إعادة الإعمار ليست مجرد ترميم للبنية التحتية، بل إعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي مزقته سنوات الحرب. العدالة الانتقالية تظل المفتاح هنا، فهي السبيل لتحقيق الاستقرار من دون الانزلاق إلى دوامة الثأر أو الفوضى.
بالنسبة للسوريين في المهجر، وهم ملايين تناثروا في أصقاع الأرض، فإن هذه اللحظة تحمل معها أملاً طال انتظاره: العودة إلى الوطن. لكن هذه العودة ليست مجرد قرار عاطفي، بل مشروطة بضمانات أمنية وسياسية واقتصادية، ولا أحد يريد العودة ليعيش في خوف أو فقر أو تحت تهديد الانتقام، والسوريون في الشتات يحلمون بوطن يستقبلهم بالأحضان، وطن يعيد لهم كرامتهم التي سلبتها سنوات الغربة.
في هذه الذكرى الأولى من دون الأسد، تمتزج مشاعر السوريين بين الفرح والتوجس، الفرح بانتصار ثورتهم التي بدت مستحيلة يوماً ما، والتوجس من التحديات التي تنتظرهم، هذا التوجس طبيعي، فبعد ستين عاماً من حكم عائلة الأسد ونظامها، وبعد حرب طاحنة استمرت أكثر من عقد، من المنطقي أن يحتاط السوريون وهم يخطون خطواتهم الأولى نحو المستقبل، لكن ما يجمع هذه المشاعر المتباينة هو إصرارٌ واحد: تحقيق الحلم الذي بدأ في 2011.
سوريا اليوم تقف على مفترق طرق، إنها أمام فرصة تاريخية لتكون نموذجاً يُحتذى به، ليس فقط للشعوب المقهورة في المنطقة، بل للعالم أجمع، فنجاح الثورة السورية هو رسالة واضحة: التغيير ممكن، ورياح الحرية قادمة لا محالة لتقتلع جذور الاستبداد أينما كانت، لكن هذا النجاح لن يكتمل إلا بالعمل الجاد والتكاتف والمحبة والعدالة، والسوريون، بكل توجهاتهم، مدعوون اليوم للاجتهاد في خدمة بلدهم، لأن الأحلام لا تتحقق بالتمني، بل بالعزيمة والعمل.
في هذه المرحلة الحرجة، تبرز عدة أسئلة حول مستقبل سوريا. هل ستتمكن البلاد من تجاوز الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية التي طالما استغلت ضعفها؟ وهل ستتمكن القوى السياسية الجديدة من تقديم رؤية وطنية جامعة تتجاوز الخلافات وتضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار؟ الإجابات عن هذه الأسئلة تعتمد بشكل كبير على قدرة السوريين على التوافق والعمل المشترك.
في النهاية، تبقى الثورة السورية شاهداً حياً على أن الشعوب التي ترفض الذل قادرة على صنع المستحيل، وبعد أربعة عشر عاماً من الصمود، وبعد أول ذكرى من دون الأسد، يحق للسوريين أن يرفعوا رؤوسهم فخراً، وأن يتطلعوا إلى غدٍ يليق بتضحياتهم. الحلم لم يعد بعيداً، بل بات في متناول اليد، والسوريون مصممون على تحقيقه مهما كلفهم الأمر.
الذكرى الرابعة عشرة للثورة السورية ليست نهاية القصة، بل بداية فصل جديد، سوريا اليوم تتنفس الحرية لأول مرة منذ عقود، لكنها بحاجة إلى أبنائها ليحولوا هذه الحرية إلى واقع دائم، إنها لحظة تاريخية تحمل في طياتها وعداً بمستقبل أفضل، شريطة أن يظل السوريون متمسكين بإرادتهم ووحدتهم.
بعد 14 عاماً من الألم والصمود، يحق لهم أن يحتفلوا، لكن يحق لهم أيضاً أن يحلموا بما هو أكبر: سوريا العادلة، الحرة، التي تستحق كل قطرة دم أريقت من أجلها.
تلفزيون سوريا
——————————
تأملات في مسألة الهوية العربية السنية على طريق الهوية الوطنية السورية/ أحمد جاسم الحسين
2025.03.17
خيط رفيع بين أن تناقش موضوعاً ما، لتبني، أو تناقشه لتهدم، بخاصة إن كان الظرف ملتهباً كما هو حال المشهد السوري اليوم، كيف نتجنب سوء الفهم أو النية في قراءة عنوان المقال.
لم يتح للثورة السورية التي مرت بظروف عدة مؤلمة أن تنتج فكرها، ورؤيتها، أو أن ينظِّر لها مفكرون وسياسيون ومتابعون. شهدت مشادات كثيرة، واختلافات ومذكرات لسياسيين انشغلوا بها أو رمتهم أياد أخرى فيها، جافت مسار الكثير من الثورات في مختلف تحولاتها، بما فيها ثورات الربيع العربي، في انتصارها، انتظرتْ حتى فقد أقرب الناس إليها أملهم بانتصارها. انتظرت ظرفاً دولياً وإقليمياً خارج حسابات الأرض لتنتصر أو تصل إلى دمشق.
من قادوا “فرحة النصر” هم وفقاً للمفهوم الواقعي وليس الإيماني، لن يسمح لهم أن ينتصروا، أو يصلوا إلى حكم بلد ما، غير أن لحظة فارقة في عمر المنطقة، شاءت أن يكونوا نقطة حل، بعد أن كانوا موضع كراهية من معظم الأطراف الفاعلة.
الخوف من تاريخهم جعل كثيرين يتساءلون: كيف يمكن أن يكونوا عامل جمع وليس عامل فرقة، وكيف نضمن أنهم لن يخطفوا فرحة المنتصرين، الذين شاركوا في فرحة السقوط بكثافة لحاجتهم إلى الفرح بعد غياب طويل.
ما تفرزه الثورة السورية اليوم بعد انتصارها، ومحاولة وضعها في مسار فكري وبحثي ما، هو أقرب لقراءة ومحاولة التفسير، مسعى لتوضيح دينامياتها لاحقاً وليس سابقاً. ننظر إلى تفاصيل الثورة السورية اليوم بعد انتصارها، ليس بهدف إعادة الزمان إلى الوراء بل كي لا يكون الزمان القادم دون خارطة أو بوصلة أو دليل خرائط.
لا يمكن من يناقش اليوم الهويات الفرعية، ما قبل الدولة في سوريا، أن يترك أمر الهوية العربية السنية بصفته حالة صلبة لا تقبل التفكيك أو النقاش أو القول، فهي ليست حالة منتهية التشكل بل في حالة صيرورة مستمرة. ليست هوية سنية واحدة، صلبة، لديها جوامعها، بل تيارات واتجاهات ومجتمعات تختلف اختلافاً كبيراً في التفاصيل.
يمكن مقاربة المسألة السنية في ضوء الالتفات قليلاً إلى مرحلة ما قبل الدولة السورية، التي كانت وريثة شتات الدولة العثمانية، مترامية الأطراف والتفاصيل. إذ كانت الهوية السورية السنية جزءاُ فاعلاً منها، الكثير من رجال الدولة السورية الذين قادوها أو نظروا للدولة أو اشتغلوا في بنائها هم من خريجي إسطنبول أو أعضاء في مجلسي المبعوثان.
حين رحل العثمانيون كانت الدولة السورية تحتاج إلى قوى قيادة جديدة تنظم نفسها وتعيد تشكيل عصبتها. كانت تبحث عن رمز، استحضرت رمزاً سنياً تاريخياً عروبياً من مكة هو الملك فيصل، لكن صناعة الرموز واستحضارها وإيكال مهمة كبيرة لها تحتاج توافقات محلية وإقليمية ودولية.
كان على السنية السورية أن تحاول التخلص من إرث الرمزية السنية العثمانية بمعنى من المعاني.
لديها فرصة كبيرة أن تعيد النظر في في هويتها محلياً، بعيداً عن أن تكون جزءاً من الكتلة العثمانية وأن تعلي من شأن حوادث مشهودة في تاريخ سوريا من مثل: استقبال الأرمن في شرقي سوريا وإدماجهم في المجتمعات القبيلة المحلية وحمايتهم، وكذلك ما جرى في دمشق من أحداث 1860 تتعلق بحماية المسيحيين، وفي الوقت نفسه قبول مجيء الدروز إلى سوريا في القرن الثامن عشر، وكذلك مجيء عدد كبير من الكرد في الجزيرة العليا هرباً من تركيا، كل هذه الحوادث التاريخية يمكن أن تشكل رمزية فسيفسائية للدولة السورية.
في الطريق نحو الهويات الوطنية الجامعة، من الصعب الحديث عن الأسبقية كمؤشر أفضلية، لأن ذلك المعيار لا يبني دولاً وليس من نهاية للسباق في مضماره، ولا جدوى.
الهويات الوطنية والدول لا تبنى بالسباق بل بالبحث عن المشترك وتشكيل أنساق تشاركية اقتصادية واجتماعية وفكرية وحوارية، وكذلك ثمرة قبول وتربية، مضمونها حق الآخر في الوجود وعدم الارتداد إلى الماضي بصفته حالة انتقامية بل التركيز على المشترك فيه، مع حل المسائل العالقة في الذاكرة كي لا يتم الارتداد إليها بين فترة وأخرى.
كل ذلك جعل على مستوى الأمل من الهوية العربية السنية مظلة وطنية و حاملاً لمشروع الدولة، لذلك قام عدد من قادة الشرائح السورية الأخرى بالتأكيد على أهمية الالتحاق بالأخ الأكبر وليس لذوبان فيه بل لكي أكون معه ومن هنا يفهم لماذا أصر السوريون الفاعلون آنئذ على أن تكون سوريا دولة واحدة، وقد لعبت الأحزاب لاحقاً دوراً كبيراً في الركض إلى الأمام لامتصاص عدم الشعور بالأقلوية عبر الركض نحو فكرة القومية العربية أو القومية السورية التي تشمل لبنان أو الناصرية، أو القومية الدولية متمثلة بخيارات الماركسية، فالهوية السورية قضت معظم وقتها تركض إلى الأمام دون أن تأخذ فرصة للتنفس أو التأمل أو المراجعة، وقد أسهمت أنظمة الحكم المتتالية في مثل هذا القلق الذي بات مرتبطاً بالشخصية السورية.
لا يمكنك في الحديث عن مسألة الهوية العربية السنية أن تشيح النظر عن الخلافات السياسية ومؤسساتها الفكرية والاجتماعية، وليست الهوية العربية السنية في حالة تبلورها منفصلة عن الهويات دون الوطنية الأخرى، بل تأثرت فيها وتأثرت.
كانت الهوية العربية السنية على اطلاع بالتوظيف الفرنسي للصراعات، لكن هذا دأب فرنسا أيام الإمبراطورية العثمانية ولم تغير مسارها حين بدء تشكيل الدولة السورية، ولم تستطع أن تطور أدوات القراءة لذلك أزعجتها الهويات السورية الأخرى حين فضلت أن تقبل بعضها على أن تعيش منفصلة، كل في دولة.
الهويات السورية الأخرى لم تقنتنع بسهولة بخياراتها، احتاج الأمر وقتاً، ولم يكن الشرط الوطني عابراً وإن كان اليوم يستحضر في الظرف السوري الراهن بصفته خياراً وطنياً، ذلك تحميل لحمولة أيديولوجية أو نوع من الاستثمار في رأس مال قديم ، ومحاولة تحيينه ليغدو عملة مطلوبة في السوق الوطنية، لا مانع من وجوده في سوق السرديات.
لم يعضد خيار الهويات السورية ورغبة كل منها بالعيش معاً كخيار سياسي، بعمليات إنتاج اجتماعية، أو محاولة أنتاج هوية وطنية جامعة، نتيجة جهل سياسي من الحكام أو لعب عليه، أو إفادة منه لصنع عصبية ما قبل وطنية تتخذ كدريئة حماية للحاكم في مرحلة ما.
شهدت مرحلة الثلاثينات صراعاًَ بين الداعين إلى تجاور الهويات السورية والداعين إلى انفصالها، لعله أحد أسباب التسريع ببحث الفرنسيين عن حل، والهروب من تلك الهويات المتناحرة.
ويروي كتاب “عن العلويين ودولتهم المستقلة” إحدى الوثائق الواردة إلى الخارجية الفرنسية قولها لتأكيد صراع الهويات السورية: “طرق التربية في المنزل والمدرسة والعادات القومية والأهداف مختلفة بيننا وبين السنّة كل الاختلاف. ورغم أنه تجمعنا معًا حضارة القرن العشرين، إلا أن تناقضنا الديني والعقائدي متغلغل في كل مجالات الحياة الاجتماعية”. لكن الخارجية الفرنسية استقبلت رسائل أخرى تدعو إلى الوحدة كذلك من الشريحة ذاتها، اختلط الأمر على الفرنسيين فرحلوا، وبقي أبناء البلد يحاولون البحث عن هوية جامعة تارة ومفرقة تارة أخرى.
لا يمكن مقاربة مسألة الهوية العربية السنية في سوريا دون مقارنتها بأخواتها الأخريات اللاتي تعاركن لتشكيل الهوية الوطنية السورية، وإبان هذا التعارك حضرت مرات عدة نظرية الغالب والمغلوب، والحكم العسكري. وصراع الأرياف والمدن ومراكز القوى في سوريا. نقاش الهوية العربية السنية في سوريا يقتضي كذلك الإشارة إلى المكونات وعوامل الاجتماع والاختلاف
اليوم، في مرحلة استعادة السوريين لصوتهم بعد سقوط النظام السابق، واطلاعهم على تجارب الشعوب الأخرى، والثقافة الرقيمة وضعوا كل قضاياهم على الطاولة وباتوا يجربون مناقشة كل تفاصيلهم، أو استعادة تاريخهم وبلدهم وصوتهم.
تستدعي مسألة الهوية العربية السنية أسئلة أخرى: أية هوية سنية؟ أية معطيات عربية؟ وماهي محدِّداتها؟ وكيف تتقاطع مع الهويات السورية الأخرى؟ وكيف هي طريقة سيرها نحو الهوية الوطنية؟ ومن أين تسمتد ضرورتها؟ ولماذا اليوم من الضروري أن نتحدث عن هوية سنية؟
ألسنا بداية بحاجة إلى حوار داخلي عربي سوري سني سني: ما هو شكل الهوية السنية المنتظر اجتماعياً؟ وكذلك دينياً: الأشعري والصوفي والسلفي والإخواني؟ وهل بقي مكان لفكرة التدين الشامي؟
وكيف يمكن لقيم العروبة أن تتعايش مع الأعراق والمجتمعات السورية الأخرى مثل المجتمع الكردي والتركماني والشركسي وسواها.
إرادة سايكس بيكو قبل أكثر من قرن نجحت في ترسيم الحدود وصناعة سوريا جغرافية، هي جزء من سوريا الطبيعية، بلاد الشام، كما يرى راغبون بالإشارة إلى العراقة التاريخية.
السؤال المفتوح: كيف نصل إلى هوية سنية عربية في الطريق إلى الهوية السورية ذات الطبيعة الإنسانية، لا تغيِّب الشركاء، بل تحفظ حق الهويات السوريات الأخرى. ليست هوية مفروضة من السياسي الحاكم، بل تنتجها ديناميات المجتمع السوري وحاجاته ومصالحه، لا تقوم على الانتقام. لا تنسى ما حدث، بل تتعلم من دروس الذاكرة القريبة والبعيدة، ولديها قدرة عالية على البناء والنظر إلى الأمام!
تلفزيون سوريا
—————————–
تغيّر خريطة الشراكة/ سلوى زكزك
16 مارس 2025
وكأني أراها ذلك البلد الموغل في دم أبنائه، تمتد من الجرح الدامي نحو الخوف العظيم. لا تمنح الكلمات للحدث الجاري معنى الكارثة، بل تمنح الكارثة للغة خفة لا تليق بها، يتغير الموقف من الضحايا، التجاهل عمدًا هو سيد الموقف! وماذا عنك؟ شريكي العتيد؟ الذي تشاركت معه إحصاء أعداد القتلى، رائحة الدم، الأماكن الشاغرة من أهلها، الأصوات الغائبة الباحثة عن صدى تفجعها، تشاركت معك الخوف المطلق، والانكفاء عن ترديد رواية واحدة يفرضها الأقوى.
تشهد المراحل الانتقالية بعد الثورات العظيمة رغم طول امتدادها تبدلًا فاقعًا في العلاقات، وتبدّل العلاقات أمر طبيعي إن كان ينتمي للمستقبل، لكنه هنا يتماهى مع اللحظة الآنية حادة التبدّل في اضطرابها المستعر غير المستقر، تتلاعب المصالح والمتغيرات الطارئة وتلك التي تمت مراكمتها لوقت طويل، تتلاعب كلها بخريطة العلاقات المستجدة! تصحو فجأة لتعلن بأسىً وقلق بالغين: “أرجوكم لا أريد أن أبقى وحيدًا! أخاف وحدتي لأنكم لستم معي”.
يعيش السوريون والسوريات حاليًا معارك حادة، غير حاسمة، ولا تنتمي لفرق متحاربة مختلفة، بل تنتمي لذاكرة الدم ولذاكرة الوقت الذي يرفض كل شيء، ما عدا حمى التهليل والتهويل بتحقق العدالة. تعوم تلك المعارك على حوامل مجتمعية خسرت الكثير، لكن شعارات التعويض وطرائقه صادمة جدًا، انتقائية وربما إقصائية، لكنها بتمعن بسيط وبتحليل مختص تبدو وكأنها كناية عظيمة عن جوهر تبدل السمة العامة للمرحلة، ولكل مرحلة رموز مرنة جدًا في مصادرة المشهد العام وزجه في خطاب يمجد النفس وأولي الأمر في سياق واحد مطلوب بسط سيطرته وتعويمه كخطاب حصري، وحيد، ومستفرد بالحالة العامة كلها.
نعيش مرحلة استقطابية حادة، لا تقبل إلا الانجرار خلف اصطفاف مشروط بالولاء، بالتشابه المطلق بين آراء وردود فعل الذين غمرتهم زهوة الانتصار الساحق وكأنه خاتمة الحياة وذروة الفرح! يتحول النصر هنا إلى خزان ضخم من ذاكرة لم تبرد ولكنها واظبت على شحن نفسها بالصور والمراثي الحصرية، ذاكرة تلتزم بتكرار وجه واحد للفاجعة التي سبقت وتنكر الفاجعة التي لحقت، عبر تجاهل أو التشكيك بكل حكايات المعارك التي دارت أو تدور في شوارع أخرى، أو ذواكر أخرى لا تعني أحدًا.
بلغت التناقضات حدها الأقصى، مواجهات لفظية، اتهامات بالمبالغة، تخويناً واستخفافاًٍ بالحقائق، والأهم عبارة توصف الموقف الحالي: “لم تعد شريكي!” فجأة، انفكت أواصر الشراكة فجأة وبقرار ممن يدعي أنه الأقوى اليوم، يبدو البشر المتضامنون مع كل جرح بغض النظر عن جنس وطائفة ولون وعرق واسم صاحب الجرح غير مرغوب بهم في زحمة الشعور بأنهم الأكثرية، في زحمة الاستحقاق ينظر البعض إلى أن الأحقية للأقوى وليس للجميع.
ومهما حاول الضحايا التنصل من جرائم وصمتهم بالعنف، حاولوا تبرير صمتهم مع أنه كان حالة شبه عامة في ظل التضييق والتهديد الأمني الهائل من القتلة السابقين الذين بالغوا في التوغل في دم الجميع.
رغم حدة الاستقطاب ستنجو غالبية العلاقات من شبح انفصال العرى الوثيقة، ستنجو الرغبة بواقع جديد بلا ظلم وبلا تمييز. لكن الانكفاء عن الشأن العام والانشغال في تفاصيله العامة والمتجددة في خطر بيّن، لأنها قد ترتد على دوائر ضيقة مغلقة بسبب الخيبة الكبيرة أو بسبب العجز! تكمن عقدة الحل في عقدة الخلاف ذاتها، التي تحتاج وقتًا للتبصر وإرادة باستمرار مد اليد للشريك ابن البلد وابن الذاكرة الواحدة التي تشتهي انفكاكًا صريحًا وحاسمًا عن ذاكرة الدم والمجازر.
يبدو، أنه ومن صلب تغير خريطة العلاقات سيعيش السوريون والسوريات كل الخبرات السابقة للمرحلة الانتقالية في بلاد أخرى مع بصمة سورية خالصة، بصمة تؤجج الرغبة العارمة بالخلاص من إرث الحروب، وتؤكد السعي نحو العدالة مهما تغيرت خريطة الشراكات.
العربي الجديدة
———————-
كيف تبدو تركيبة الجيش السوري الجديد بعد دمج الفصائل؟/ عبد الحليم سليمان
المشهد العسكري في جنوب البلاد معقد حيث لا تتبع القوى المسيطرة على هذه المنطقة وزارة الدفاع المشكلة حديثاً
الاثنين 17 مارس 2025
ملخص
محاولات دمج الفصائل مستمرة من قبل الإدارة الانتقالية في دمشق، فالمشهد يبدو معقداً على رغم إبداء معظم قادة هذه الفصائل استعدادهم للانضمام إلى وزارة الدفاع ليصبحوا جزءاً من جيش سوريا الجديد.
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط حكم بشار الأسد وانهيار جيشه، يمثل تشكيل جيش جديد تحت قيادة وإدارة وزارة الدفاع الجديدة أحد أكبر التحديدات التي تواجهها القيادة الحالية، فحال الفصائل لا تزال تهيمن على المشهد العسكري على رغم اجتماع عدد غير قليل من قادتها في ما عرف بـ “مؤتمر النصر” الذي منح الشرعية العسكرية والثورية للرئيس أحمد الشرع لتولي قيادة المرحلة الانتقالية، عبر إطلاق حوار وطني وإعلان دستوري وحكومة انتقالية تقود المرحلة.
ويبدو المشهد معقداً على رغم إبداء معظم قادة هذه الفصائل استعدادهم الانضمام إلى وزارة الدفاع ليصبحوا جزءاً من جيش البلاد، لكن معظم هذه الفصائل لا تزال تحتفظ بأسمائها وتبعيتها التنظيمية السابقة وكذلك سلاحها، سواء تلك المنضوية تحت الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا أو الفصائل في الجنوب السوري أو في التنف، في حين أن “هيئة تحرير الشام” والفصائل التي تحالفت معها في إدارة العمليات المشتركة، ولا سيما تلك التي أسقطت نظام بشار الأسد أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تدير المشهد العسكري الرسمي من خلال وزارة الدفاع التي تسلم مسؤوليتها القيادي العسكري في “هيئة تحرير الشام” مرهف أبو قصرة، وفي أواخر ديسمبر الماضي جرى ترقية نحو 49 من قادات وعناصر الفصائل المسلحة وتسميتهم ضباطاً رفيعين، ومنحهم رتب اللواء والعميد والعقيد في الجيش السوري المزمع تشكيله، وشملت الترقيات عناصر من “تحرير الشام” والفصال المتحالف معها وكذلك من الجيش الوطني الموالي لتركيا، في حين أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن من بين الأسماء الـ 49 الواردة في المرسوم “ستة متطرفين أجانب”، بينهم ألباني وأردني وطاجيكي وآخر من الإيغور ينتمي إلى “الحزب الإسلامي التركستاني”، وتركي كان “قائد لواء” في الهيئة.
المنطقة الجنوبية الرخوة
وفي الجنوب السوري يبدو الوضع العسكري الداخلي مقلقاً جداً لدمشق، ولا سيما بعد دخول غرفة عمليات الجنوب وفصيله الأبرز “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة دمشق والسيطرة على العاصمة ومؤسساتها في الثامن من ديسمبر الماضي، على رغم وجود الشرع وعناصره في حمص وقتها.
وعلى رغم حضور نائب العودة “مؤتمر النصر” وعقد اجتماعات عدة بين الطرفين، أبرزها لقاء الشرع والعودة، لكن الفصيل لم يسلم سلاحه خصوصاً وأنه يملك ترسانة كبيرة من السلاح الثقيل، لأنه بحسب معلومات متداولة يطالب بضمانات تمنح فصيله امتيازات خاصة واستقلالية عسكرية ضمن وزارة الدفاع.
وكان الفصيل تشكل جراء مفاوضات المسلحين مع روسيا ونظام الأسد كجزء من “الفيلق الخامس” المدعوم روسياً، إذ لا يزال العودة يحظى بهذا الدعم إضافة إلى علاقات مع الأردن ودول إقليمية، وفق مصادر سورية.
وعلى حدود مناطق سيطرة فصيل العودة يوجد الدروز في محافظة السويداء جنوباً وتسيطر على مناطقهم فصائل مسلحة محلية عدة أبرزها “المجلس العسكري للسويداء” و”لواء الجبل” وغيرها من فصائل تشكلت خلال أعوام الحرب، ومع سقوط النظام وتشكيل وزارة الدفاع الجديدة لم تنضم هذه الفصائل إلى الجيش السوري على رغم لقاءات عدة عقدت بين الطرفين، ومحاولة دخول وزارة الداخلية وقوى الأمن العام للمحافظة، لكنها غير مقبولة من قبل الدروز ولا سيما أن تحفظات وخلافات سياسية تعلن تجاه دمشق بين فترة وأخرى من قبل زعامات دينية، وهي صاحبة القول الفصل في شؤون الطائفة وبخاصة الشيخ حكمت الهجري الذي رفض أخيراً “الإعلان الدستوري” مطالباً بدولة مدنية تحفظ حقوقهم، وكذلك سجلت مآخذ وانتقادات من قبلهم تجاه الحكم الجديد بخصوص مؤتمر الحوار، مما يزيد تعقيد انضمام الفصائل الدرزية إلى الجيش السوري.
ويتزامن ذلك مع حوادث متفرقة عدة، فقد نشبت اشتباكات بين القوات التابعة لدمشق ومسلحين دروز في ضاحية جرمانية الدرزية المتاخمة لدمشق وأدت إلى إصابات بين الطرفين، لكن الحادثة طوقت سريعاً مع تدخل مسلحين دروز مقربين من دمشق على خط الوساطة لتنتهي بتسلم قوى الأمن العام، في حين أن سلاح الفصيل المسلح لا يزال في يد عناصره، ويعتبر إحدى أسباب المناكفة بين الدروز وحكومة الشرع، إضافة إلى تصريحات إسرائيلية بضرورة حماية الدروز في سوريا والتحذير من الاعتداء عليهم.
“قسد” الملف الأثقل
ملف الفصائل العسكرية في سوريا من أكثر الملفات الشائكة حالياً وبخاصة ملف اندماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الذي يعتبر من أعقد وأثقل القضايا، لما تحمله من خلافات بينها وبين قوات دمشق إضافة إلى صراعها المستمر مع الفصائل الموالية لتركيا، والتي انضمت جميعها إلى وزارة الدفاع في حكومة الشرع، في حين أنها لا تزال جزءاً من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا وتتلقى منها الدعم والرواتب، كما أن هذه الفصائل تقاتل منذ أواخر ديسمبر “قسد” في منطقة سد تشرين وجسر قره قوزاق في ريف كوباني الجنوبي، إضافة إلى مناوشات مستمرة بين الطرفين في مناطق نبع السلام أيضاً.
وبخلاف غيرها من الكيانات العسكرية في سوريا فإن مهمة “قسد” تتركز على مكافحة الإرهاب وحماية السجون التي تؤوي عناصر تنظيم “داعش” والبالغ عددهم نحو 10 آلاف، بينهم 2000 مقاتل أجنبي موزعين داخل 26 مركزاً للاحتجاز، وإضافة إلى مخيمي الهول وروج فإن التحدي الأكبر يكمن في الهجمات الجوية التي تتلقاها من تركيا، ومواجهة الفصائل التي تتزعم غالبيتها عناصر قيادات تركمانية، وأصبحت جزءاً من وزارة الدفاع التابعة لدمشق، وهي تقاتل “قسد” الذي يضع بند التزام الشرع بوقف إطلاق النار على المحك.
وعقب توقيع الاتفاق بين الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي الذي أنعش آمال الأكراد ومكونات أخرى ولاقى ترحيباً سورياً وعربياً ودولياً، إلا أن “الإعلان الدستوري” الذي صادق عليه الشرع بعد ثلاثة أيام من اتفاقه مع عبدي تجاهل إدراج حقوق الأكراد أو شكل الدولة اللامركزية كما يطمحون، إضافة إلى بنود أخرى أثارت حفيظة الأكراد الذين خرجوا بمواقف رافضة لـ “الإعلان الدستوري”، إضافة إلى السُريان الذين رفضوا الخطوة الحكومية للأسباب ذاتها، مما قد يلقي بظلاله على الاتفاق الذي ينص على دمج القوات العسكرية ويسهل الطريق أمام بقية المؤسسات.
ويقول الباحث من “مركز الفرات للدراسات” في القامشلي وليد جولي إن الكرد وباقي المكونات المنتشرة شمال شرقي سوريا سيكون لهم موقف حازم ضد هذه الفصائل التي ارتكبت انتهاكات ومجازر ضد السكان المدنيين في الساحل، يقضي بالإصرار على تسليمهم دمشق وإلقاء السلاح أو الدمج على شكل أفراد، “فما حصل في الساحل السوري كشف الأقنعة بصورة واضحة وأفقد الثقة في الإدارة الجديدة، ومن حق أي مكون سوري أو جماعة سياسية أن ترفض تسليم أمرها لهؤلاء”، على حد قول جولي.
أما بالنسبة إلى جيش “سوريا الحرة” المعدّ والمدرب أميركياً والذي يسيطر على قاعدة التنف وصولاً إلى تدمر، فقد شارك قائد الفصيل في “مؤتمر النصر” وأصبح جزءاً من وزارة الدفاع، لكن جميع تحركاته على الأرض تجري بالتنسيق مع التحالف الدولي والقوات الأميركية، إذ يعتبر الفصيل الوحيد في وزارة الدفاع والعامل مع الجيش الأميركي في إطار مكافحة الإرهاب رسمياً.
آمال بالانضمام للجيش الجديد
في بدايات يناير (كانون الثاني) الماضي قال وزير الدفاع مرهف أحمد أبو قصرة إنه من بين توجهات القيادة العامة إعادة هيكلة القوات المسلحة وتنظيم الجيش العربي السوري، مضيفاً “بدأنا جلسات مع الفصائل العسكرية من أجل وضع خطوات انضمامهم لوزارة الدفاع، إذ تهدف الجلسات إلى وضع خريطة طريق لتحقيق الاستقرار في البنية التنظيمية للقوات المسلحة”، ولا تزال تلك المشاورات والاجتماعات جارية على رغم مرور 100 يوم، لكن هيكلية الجيش السوري الحكومي لا تزال ضبابية جراء معوقات كبيرة تعترض سبيل نجاحها، في وقت لم تكتمل بعد شروط نجاح تشكيل الجيش وتزويده بما يلزم من عتاد وذخيرة ومال، ولا سيما وأن سلاح الجو الإسرائيلي قصف عشرات المطارات والمستودعات العسكرية التابعة للنظام السابق، ودمر نحو 80 في المئة من ترسانة السلاح، إضافة إلى عمليات خاصة ضد مخازن الأسلحة الكيماوية مما أدى إلى تعرية البلاد من السلاح، وغداة سقوط الأسد وعقب تنفيذ إسرائيل عدداً كبيراً من الهجمات على مواقع لتخزين الأسلحة التابعة لجيش الأسد، قال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إنه “جرى استهداف مواقع أسلحة كيماوية وصواريخ طويلة المدى في سوريا من أجل منع وقوعها في أيدي أطراف عدائية”.
—————————–
اتهامات للسفارات السورية بتحريك مظاهرات مشبوهة ضد الدولة وحملة للتغيير/ عمر زقزوق
17/3/2025
أطلق رواد منصات التواصل الاجتماعي في سوريا حملة تطالب الحكومة السورية، وخصوصا وزارة الخارجية والوزير أسعد الشيباني، بالإسراع في تغيير السفراء والبعثات الدبلوماسية السورية في أوروبا وبعض الدول الأخرى.
وأشار الناشطون إلى أن هؤلاء السفراء تم تعيينهم إبان حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، وأنهم مرتبطون بالمظاهرات المعادية للدولة السورية الجديدة التي تنظم في أوروبا.
السيد وزير الخارجية، لماذا تبقون على طواقم السفارات السورية؟ وجود هذه الخلايا السرطانية ضرر كبير في حق السياسة الخارجية التي تسعون جاهدين بها@asaad
— thats_raw (@mohd1272006284) March 16, 2025
وصرح مغردون بأن السفارات السورية، خاصة في روسيا وبعض الدول الأوروبية الغربية، أصبحت أشبه بـ”حصان طروادة” يُستخدم لضرب وحدة السوريين، مشيرين إلى أن بعض الشخصيات البارزة في “التشبيح الدبلوماسي” ما زالوا يتقلدون المناصب الدبلوماسية ويعملون على تنسيق المظاهرات المناوئة للدولة.
السفارات السورية في روسيا وبعض دول اوربا الغربية صارت حصان طروادة لضرب وحدة السوريين ، فالفلول في قلبها ، ويتربعون على مكاتبها ، ويتصرفون بكل ما بقي في حوزتها ، وابرز مشاهير التشبيح الدبلوماسي كالجعفري ، وشركاه هم الآن من ينسقون المظاهرات المعادية ، أما لماذا لم يتم تغييرهم منذ…
— muhydinlazikani (@muhydinlazikani) March 17, 2025
وتساءلوا عن الأسباب التي حالت دون تغييرهم حتى الآن، خاصة بعد تحرير البلاد، معبرين عن استغرابهم إزاء هذا “اللغز المحير”.
وذهب ناشطون إلى أن ما يجري في شوارع أوروبا لا يمكن أن يكون محض صدفة، بل هو “جزء من مخطط أمني خطير” يُدار من داخل السفارات السورية الموجودة هناك، عبر عناصر موالية للنظام السابق.
وأشاروا إلى استغلال أعضاء هذه السفارات للجاليات السورية بهدف تعزيز الانقسامات وإثارة الفتن، مؤكدين ضرورة تطهير هذه البعثات فورا واستبدال أطقمها ليحل محلهم أشخاص مؤهلون ومخلصون للوطن.
احذروا من مجموعات الضغط السورية الموجودة في الخارج والتي تدس السم علينا بالخفاء لتعطل المرحلة الانتقالية سواء لأغراض شخصية، أو أحقاد نفسية مقيتة. هؤلاء أخطر علينا اليوم من أشرس عدو وعلى الدولة رصد تحركاتهم وفتح قنوات تواصل لاستيعابهم والتقليل من أضرارهم.
— Mahmoud Toron محمود الطرن (@MT77W) March 15, 2025
وكشفت تقارير لصحف محلية سورية عن دور موظفي السفارات السورية في كل من فرنسا، وهولندا، وألمانيا في تنظيم مظاهرات مشبوهة ضد الدولة السورية الجديدة.
وأكدت هذه المصادر أن ما يرفع من شعارات وما ينظم من فعاليات معادية تدار بالأساليب الأمنية نفسها التي كان يستخدمها النظام السابق قبل سقوطه، مما يستدعي، برأي الصحفيين والمواطنين على حد سواء، إجراء تغيير جذري في البعثات الدبلوماسية.
على الحكومة التحرك فوراً وتغيير موظفيين السفارات السورية في اوروبا، التقارير تتحدث عن دور موظفي السفارات السورية في فرنسا، هولندا، وألمانيا بتحريك مظاهرات مشبوهة ضد الدولة السورية الجديدة
— عمر مدنيه (@Omar_Madaniah) March 16, 2025
وأكد عدد من السوريين أن ملف السفارات يعد من الملفات المهمة التي لم تشهد تعديلات تُذكر منذ انتصار الثورة السورية، مشيرين إلى أن العناصر الأمنية والدبلوماسية التابعة للنظام السابق ما زالت تعمل داخل هذه السفارات ضد الدولة الجديدة عبر 3 آليات رئيسة، تشمل تحريض السوريين في الخارج ضد الدولة الوليدة من خلال فرض عراقيل عليهم في أثناء معاملاتهم، وسوء معاملتهم، وابتزازهم عبر الرشاوى، ليُشعروا بأن “لا شيء تغير”.
ومن هذه الآليات أيضا تنظيم أنشطة معادية للدولة السورية عبر خلايا أمنية وطائفية ما زالت تدين بالولاء للنظام السابق وتنفذ أجنداته.
لم يغيّر السفراء السابقين للحفاظ على الاعتراف الدولي، وضمان استقرار العلاقات الخارجية، وتجنب الأزمات الدبلوماسية. أو بسبب خطة تدريجية لإعادة الهيكلة، مع التركيز حاليًا على الأولويات الداخلية مثل الأمن وإعادة الإعمار.
— Khidr Harfoosh (@Khidr_Harfoosh) March 16, 2025
جدل حول أدونيس ومشاركته في وقفة تضامنية
على صعيد متصل، تداول ناشطون عبر منصات التواصل صورا لوقفة تضامنية قيل إنها تدعم ضحايا الساحل السوري، الذين فقدوا حياتهم في أثناء ملاحقة الجيش السوري لجماعات فلول الأسد. وقد أثارت مشاركة الشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر، المعروف بـ”أدونيس”، في هذه الوقفة جدلًا واسعًا.
وتساءل رواد مواقع التواصل: “أين كان أدونيس طوال 14 عامًا، حين كان بشار الأسد يقتل السوريين؟!”.
أدونيس هو الشاعر الذي لم يخرج يوما في اعتصام للتضامن مع ضحايا مجازر بشار طوال 14 عاما … https://t.co/mU9QBuBIpi
— سَجَد الجبوري (@sjd_aljubori) March 16, 2025
كما استنكر آخرون غيابه عن المشهد عندما تعرض الشعب السوري للقصف بالأسلحة الكيميائية وغيرها من وسائل القمع الوحشية، مؤكدين التناقض بين مشروعه الفكري الذي يدعي الانحياز للحرية والعقلانية ومواقفه الصامتة إزاء مأساة وطنه.
لماذا لم نرَ أدونيس، المثقف الثائر على أنظمة الجهل والتخلف كما يزعم، عندما كان الشعب السوري يُسحق تحت القصف وبالكيماوي؟ لماذا غاب صوته عن مأساة وطنه، رغم أن مشروعه الفكري يدّعي الانحياز للحرية والعقلانية؟ هل الإنسانية تتجزأ، أم أن أدونيس لا يرى التخلف إلا في فئة معينة pic.twitter.com/s4TUkSlnZB
— Sultan alkanj سلطان الكنج (@AlkanjSultan) March 16, 2025
وفي ردود بعض المدونين على هذه التساؤلات، أكدوا أن أدونيس، رغم كونه شاعرا كبيرا، فإنه لم يشارك يوما في أي تحرك تضامني مع ضحايا النظام البائد، مما اعتبر “وصمة عار” تلحق بصورته بوصفه مثقفا يدعو إلى الثورة على أنظمة التخلف والجهل.
علي أحمد إسبر (#أدونيس)، الحالم الأبدي بجائزة نوبل، والمعارض الشرس لكل “ثورة تخرج من عتبات الجوامع”، والداعي لـ “تغيير المجتمع” لأن “تغيير النظام حدثاً ثانوياً”، والمتربص بأي شعار ديني في أي مظاهرة، فقط ليقول بأنها ليست ثورة… طق عرق الإنسانية والحرية لديه، وقرر التظاهر لأول مرة… pic.twitter.com/S8i4MQvwgH
— Yaman يمان (@YamanAmouri) March 16, 2025
المصدر : الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي
——————————-
المعادلة السورية… الدرس العراقي/ صادق الطائي
تحديث 17 أذار 2025
لم تزل تداعيات سقوط نظام الأسد تتدحرج ككرة الثلج، إذ ما أن تخفت أزمة حتى تندلع أخرى أشد وأعتى. ومع دخول التأثيرات الأقليمية، وأصابع اللاعبين الإقليميين والدوليين التي باتت تحرك المعادلة السورية، أصبحت الأزمة أكثر استعصاءً ودخلت في عنق زجاجة، يبدو ان الخروج منها ليس قريبا. لكن السؤال الذي بات يطرح وبشدة هو: ألا يذكرنا كل ما يحصل في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، بالدرس العراقي الذي حدث بعد سقوط نظام صدام 2003؟
عندما أطاح الاتئلاف الذي تقوده الولايات المتحدة، نظام صدام حسين في نيسان/ أبريل 2003، كان قد مرّ 13 عاما على الانتفاضة الشعبية التي أعقبت حرب تحرير الكويت عام 1990، حيث سيطر المنتفضون على كل محافظات الجنوب ذات الأغلبية الشيعية، ومحافظات الشمال ذات الأغلبية الكردية، بينما لم تتحرك محافظات الوسط ، ذات الأغلبية السنية، وكذلك العاصمة بغداد، حيث مركز قوة النظام.
بطش النظام بصواريخه ودباباته بالمدن المنتفضة، وسحق المتمردين المسلحين ومعهم الآلاف من المدنيين الأبرياء، حتى المراقد المقدسة لم تسلم من بطش الآلة العسكرية لفرق الحرس الجمهوري المقبلة من بغداد. وبقي هيكل النظام المتداعي مترنحا طوال 13 عاما، حيث خرجت كردستان العراق عن سيطرة بغداد، وعاشت نوعا من الاستقلال، أو الحكم الذاتي تحت حماية الائتلاف الدولي الذي كون ما يعرف بالمنطقة الآمنة بعد الهروب المليوني للأكراد إلى داخل المناطق الحدودية التركية نتيجة خوفهم من تكرار تجربة الضربات الكيماوية التي نفذها النظام عام 1988. هذا المشهد حصل ما يطابقه تماما في سوريا، إذ اندلعت الثورة الشعبية في سوريا إبان أحداث الربيع العربي عام 2011 ، حيث اشتعلت شرارة الاحتجاجات في درعا جنوب سوريا، وسرعان ما امتدت شرارة الغضب الشعبي لتشمل كل التراب السوري. لجأ النظام لأقسى أنواع القمع والتنكيل بالمتظاهرين السلميين، وامتلات معتقلات وسجون النظام بالمحتجين السلميين، وبضمنهم النساء والأطفال، ونتيجة التدخلات الخارجية من جهة، وعنف النظام المفرط من الجهة الأخرى، تحولت الانتفاضة السلمية إلى صراع مسلح لم تشهد سوريا مثيلا له طوال تاريخها الحديث، وخرجت محافظات كردستان سوريا (روجآفا) عن سيطرة دمشق، وحققت نوعا من الاستقلال الذاتي المدعوم أمريكيا. وعاش نظام الأسد حالة الترنح طوال 13 عاما بسبب الدعم الروسي ـ الإيراني وبإسناد الميليشيا اللبنانية والعراقية، لكنه سقط أخيرا في كانون الأول/ ديسمبر 2024. عندما سقط النظام الشمولي العراقي في أبريل 2003، تبخرت قوات الجيش وفرق الحرس الجمهوري والأجهزة البوليسية القمعية من قوات الأمن العام والأمن الخاص والمخابرات والأستخبارات العسكرية وغيرها، وفي غضون أيام أصبح العراق خاليا من ضباط وأفراد الأجهزة العسكرية والأمنية الذين أذاقوا العراقيين الويل والذل طوال عقود. لم يختف زبانية النظام، بل تخفوا (تحت الارض) في مدنهم التي وفرت لهم حاضنات تحميهم من التغيير الذي لم يكونوا يعرفون حجم تداعياته المقبلة.
كان العراقيون في أيام التغيير الأولى يهتفون (إخوان سنة وشيعة.. هذا الوطن منبيعه) ومع تدخل العديد من الأطراف الإقليمية، بالإضافة للوجود العسكري للائتلاف الدولي، والعشرات من أجهزة المخابرات الدولية المختلفة، التي باتت تتصارع في الساحة العراقية، تغيرت قوانين اللعبة، وخرجت فلول نظام صدام وعناصر أجهزته القمعية، التي طالها العزل والتهميش بعد حل الجيش والأجهزة الأمنية، الذي أنتج فقدان السطوة والمال وحتى التهديد بالفاقة والعوز والسجن أو القتل. وسرعان ما أشعل فلول النظام وأزلامه المدعومون والممولون إقليميا فتيل الاقتتال الأهلي.
في مساء الثامن من ديسمبرعام 2024 عندما وصلت قوات «هيئة تحريرالشام» إلى مشارف العاصمة دمشق، اختفى الرئيس بشار الأسد، واختفت معه فرق الجيش السوري ومنتسبو الأجهزة القمعية وفروع الأمن المنتشرة في كل مدن سوريا التي أذاقت السوريين المرّ طوال عقود. وعلى خطى الطريقة العراقية اختفى أزلام النظام (تحت الأرض) في مدنهم وقراهم وبين طوائفهم وقبائلهم بانتظار الآتي من الأحداث. وخرج السوريون مبتهجين بتحقيق النصر يهتفون للوحدة السورية وللخير المقبل، لكن سرعان ما لعبت الأجندات الإقليمية دورها وأشعلت شرارة التمرد لدى دروز سوريا في الجنوب، وسرعان ما استغلت إسرائيل الوضع الرخو الذي تعيشه سوريا، إذ تدخلت حكومة نتنياهو اليمينية وطرحت نفسها حامية لدروز سوريا، بينما اشتعلت شرارة القتال في الساحل السوري ذي الأغلبية العلوية، حيث تعرضت قراه ومدنه لمجازر على يد ميليشيات نفذت عمليات إبادة على الهوية بحق المئات من المدنين العلويين والمسيحيين.
بعد 2003، تحالف بعث العراق مع خليط من القوى القومية والسلفية والجهادية الإسلامية تحت مظلة عرفت باسم (مجلس شورى المجاهدين) التي قادها الإرهابي الأردني ابو مصعب الزرقاوي، الذي حظي بدعم وتمويل تنظيم «القاعدة» الدولي وفتحت له خزائن عدة دول إقليمية أقلقها التغيير الذي حصل في العراق، وصعود نجم الشيعة والأكراد برعاية أمريكية على حدود بلدانهم. وضخت الدماء الجهادية عبر الحدود الشرقية والغربية للعراق، فعاشت مدنه تناحرات، وظهرت سرديات التقسيم القائمة على أطروحة الولايات العثمانية ، وخرافة (العراق دولة مصطنعة، صنعتها بريطانيا) وبدأت المكونات الصغرى: القومية والقبلية والطائفية، تأكل من جرف الوحدة الوطنية بشكل شره ومتسارع، حتى وصلنا إلى اللحظة الفارقة التي تمثلت في اشتعال الحرب الأهلية عام 2006، وعاش العراقيون تمظهراتها في القتل على الهوية، وإلقاء الجثث المجهولة على قارعات الطرق.
اليوم تحاول قوى سورية وإقليمية تشكيل قوات علوية شيعية في الساحل السوري باسم (لواء درع الساحل) لمواجهة قوات النظام الجديد، وبما أن سوريا ما بعد الأسد اليوم في أضعف حالاتها، فإن اطروحات التقسيم أخذت تطرح كسردية تتكئ على معطيات التقسيم الإثني والديني والطائفي، حيث الأكراد المستقلون في الشمال الشرقي، والدروز الذين يحاولون الحصول على حصتهم من معادلة التغير في الجنوب، بينما العلويون في الشمال الغربي يريدون تشكيل كيانهم بدعم وحماية شيعية إقليمية، أما سنة سوريا فإنهم يلوحون بورقة المظلومية التي عاشوها طوال نصف قرن من حكم نظام الأسدين. ليبدو الوحدويون السوريون اليوم في أضعف حالاتهم.
هذه الصفحة الملعونة من تاريخ سوريا والعراق قادت الى صفحات أخرى صاحبها توالد وتفريخ التنظيمات الإرهابية والميليشيات التي تغولت وأصبحت أقوى من الدولة في البلدين، حتى وصلنا الى صفحة تنظيم الدولة (داعش) في صيف 2014، الذي قضم حوالي ثلث مساحة العراق وربع مساحة سوريا وشكل كيانا هلاميا ممتداً عبر البلدين طوال أربع سنوات من 2014 إلى 2018، حيث دفع ثمن هذه الصفحة الإرهابية العراقيون والسوريون من دماء أبنائهم، وخراب مدنهم، وخساراتهم المادية التي تجاوزت المليارات.
في كل تفاصيل الدرس العراقي، كان الوضعان العراقي والسوري متداخلين وملتبسين بين صفحات الحرب الطويلة وفاصلات السلم القليلة، إذ تأججت حروب المخابرات والمليشيات، وتسويق الرعب المتبادل بين الطرفين، حيث كان نظام الأسد فاعلا في أغلب مفاصل الألم العراقي، وكانت أجهزة مخابراته ترعى وتسهل إدخال الجهاديين والانتحاريين العرب والأجانب عبر الحدود السورية العراقية، ليحصدوا بمفخخاتهم أرواح الآلاف من العراقيين، حتى وصل الأمر بحكومة المالكي إلى تقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيه نظام الأسد بارتكاب جرائم إرهاب بحق العراقيين عام 2009. لكن المعادلة قلبت بتأثير إيران وذراعها الأقوى فيلق القدس، الذي كان يقوده الجنرال الأبرز قاسم سليماني، فأصبحت الميليشيات الشيعية العراقية المقربة من الحكومة عام 2011 أحد أبرز اللاعبين الذين دافعوا عن نظام الأسد، وحالوا دون سقوطه طوال 13 عاما من الاقتتال الأهلي.
واليوم يخشى العراقيون امتداد نار الحرب السورية ووصولها إلى مدنهم بعد أن ذاقوا الأمرين في الصفحات السابقة من هذه العلاقة الملتبسة، وتقف قوات العراق الحكومية وشبه الحكومية، بكل قوتها على الحدود الغربية للعراق تراقب ما قد يحدث في الصراع السوري الداخلي الذي يوشك على الانفجار.
كاتب عراقي
القدس العربي
——————————-
الصراع على سوريا الانتقالية: إلى أين؟/ عصام نعمان
تحديث 17 أذار 2025
اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية، لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سوريا «الانتقالية». إلى أين ستنتقل سوريا، أو بالأحرى إلى أين تنوي أمريكا و»إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟ لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر، لأن أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال، وكيف ستكون سوريا شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سوريا في حاضرها المضطرب، ولعل أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكرية في سوريا منذ سنوات عدّة، بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي كان قد نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل في شمال العراق، ومحافظة الرقة في شمال شرق سوريا. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسية بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون.
مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أمريكا المتمردين الكرد، الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال، الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإن واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سوريا، شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا، التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور. «إسرائيل» تحتل نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، وتسيطر على حوض نهر اليرموك، وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً، وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحدين الدروز السوريين، في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أن «إسرائيل» بدأت بتنفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزية في الجنوب السوري، والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانية امتدادها لضم دروز لبنان أيضاً. تركيا يهمها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصالي في جنوبيّ شرق أراضيها وشمال شرق سوريا. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقالي في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكرية لها في شمال البلاد. وسط تدخلات هذه الدول الثلاث القوية النافذة، يحاول الحكم الانتقالي في دمشق بقيادة أحمد الشرع، تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدموية العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق إلى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي، ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع « الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات، مع استمراره لمدة خمسة أعوام على الأقل. «الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة، أولها من «مجلس سوريا الديمقراطية»، الذراع السياسية لـِ»قسد»، الذي وصف أحمد الشرع بأنه «يكرر ما كان يفعله بشار الأسد»، مضيفاً أن الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعي ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وأن «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».
في الجنوب السوري، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل»، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة، بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة. من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطورات يمكن استخلاص النقاط السياسية الآتية:
*ما زال الاضطراب السياسي والطائفي هو السمة الغالبة في حاضر سوريا الانتقالية.
*عملية توحيد جغرافية سوريا، سياسياً وإدارياً، التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.
*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق، والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سوريا.
*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن من احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.
*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سوريا حيث الكرد و»قسد»، ولذلك تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في شمال البلاد.
*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة اخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقالي في دمشق.
*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سوريا بالوقت الحاضر، وإن ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.
*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي إلى سوريا في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.
*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سوريا، بالوقت الحاضر، بل ثمة تسليم بالدور الأمريكي الناشط بلا ادنى منافسة.
*لعل أدق توصيف لحال سوريا في الوقت الحاضر هو، أنها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.
إلى أن تستيقظ وتتوحد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سوريا مفتوحاً على شتى الاحتمالات.
كاتب لبناني
القدس العربي
——————————
السعودية وسوريا بين الأمس واليوم/ إحسان الفقيه
تحديث 17 أذار 2025
تقوم العلاقات بين الدول على أساس تحقيق المصالح المتبادلة، وليس في قاموس السياسة البذل والإفادة من طرف واحد، مهما ارتبطت الدول بعلاقات ذات أبعاد مختلفة، فإما أن يكون الدافع تحقيق منافع، أو درء مخاطر، ففي النهاية مهمة كل نظام أن يعمل على تحقيق المصالح لوطنه وصيانة أمنه.
لقد بدا منذ إسقاط نظام بشار الأسد، أن المملكة العربية السعودية تتجه لأداء دور فاعل في سوريا، والعمل لأن تكون شريكا رئيسيا في بناء سوريا الجديد. السعودية قبل الإطاحة بنظام بشار كانت تتعاطى مع أزمة السوريين بجدية، إذ أنها احتضنت ما يزيد عن ثلاثة ملايين سوري بصفة مقيمين لا لاجئين، وأدمجتهم في المجتمع السعودي، ومكنتهم من العمل، وقدمت لهم خدمات مجانية في مجالي الصحة والتعليم.
وما أن صعدت الحكومة السورية الجديدة، حتى أيدت السعودية خيار الشعب السوري، وأعلنت دعمها للقيادة الجديدة، والعمل على إدماج سوريا في البيت العربي من جديد، وقامت بعمل جسر جوي إغاثي لتحسين الأوضاع المعيشية في سوريا، وعقدت عدة لقاءات مع الرئيس أحمد الشرع ورجال حكومته في الرياض ودمشق، معلنة عن توطيد العلاقات والعمل بجدية على بناء سوريا موحدة، والسعي دوليا لرفع العقوبات على سوريا.
التوجه السعودي الداعم للإدارة السورية الجديدة أظهر ثباته، فلم تقدم السعودية قدما وتؤخر الثانية في انتظار ما تُسفر عنه الفاعليات المناهضة للنظام، التي حركتها النزعات الانفصالية التي تغذيها أطراف خارجية، ولا الاضطرابات وأحداث العنف الأخيرة، التي قامت بها فلول النظام السابق، بل سارعت لإدانة الجرائم التي ارتكبها الخارجون عن القانون، وإعلان وقوفها إلى جانب الحكومة الرسمية لتحقيق الأمن والاستقرار والحفاظ على السلم الأهلي، إضافة إلى الإشادة بخطوة الحكومة السورية التي اتخذتها بشأن توقيع الاتفاق على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية كافة في شمال شرق سوريا ضمن مؤسسات الدولة السورية.
ربما تتشابك الأسئلة حول تباين السلوك السعودي حيال سوريا قبل وبعد سقوط النظام، إذ أنها بدأت منذ مطلع عام 2023 في قيادة جهود دبلوماسية أعادت مقعد سوريا في الجامعة العربية، وبالفعل حضر بشار قمة جدة في أيار/مايو من العام نفسه، إضافة إلى إعادة افتتاح سفارتها في دمشق.
مع أن السعودية قبل ذلك بأكثر من عشر سنوات، وتحديدا في شباط/فبراير 2012، قطعت علاقتها الدبلوماسية مع النظام السوري، وأغلقت سفارتها في دمشق، احتجاجا على استخدام بشار الأسد للقوة في قمع المعارضين.
في واقع الأمر، يرتبط تعامل السعودية بشأن الملف السوري بشكل حيوي ورئيسي بالنفوذ الإيراني، وهو الخطر الأكبر الذي يتهدد الأمن الخليجي بشكل عام.
إيران كانت الداعم الرئيسي لنظام بشار الأسد، الذي يمثل حلقة مهمة رئيسية في سلسلة ما يعرف بمحور المقاومة، والذي أنشأته إيران، التي قدمت لهذا النظام دعما يربو على خمسين مليار دولار خلال عشر سنوات، في شكل دعم مالي ومنح نفطية، إضافة إلى الدعم العسكري المتمثل في قوات الحرس الثوري والميليشيات الموالية لإيران، التي قاتلت في صفوف النظام. 11 عاما من الاقتتال، كانت كفيلة لتدرك السعودية أن النظام السوري باق، خاصة بعد دخول روسيا على الخط لدعم بشار، فكان الاتجاه لأن تعمل السعودية على محاولة فك الارتباط بين النظام السوري وإيران، وتقديم حاضنة عربية بديلة، لتقليل خطر إيران على الخليج والمنطقة، بعد أن عانت السعودية ودول الخليج كثيرا بسبب نفوذ إيران المتنامي في المحيط العربي. لكن الأوضاع تغيرت تماما، فالمحور الإيراني تراجع نفوذه بشكل حاد بعد الضربات التي تلقاها حزب الله اللبناني وأضعفته كثيرا، ثم سقوط نظام بشار الذي يعد خسارة كبيرة لإيران، التي انكفأت على مشكلاتها الداخلية والملف النووي. خروج سوريا من العباءة الإيرانية لاقى ارتياحا شديدا بالطبع من قبل المملكة، التي رأت في رعاية ودعم هذا التحول في سوريا فرصة سانحة لخلق واقع طبيعي متمثل في دمج الجمهورية السورية في محيطها العربي، وملء الفراغ الذي تركته إيران، والعمل على استقرار سوريا، الذي ينعكس بلا شك على أمن السعودية والخليج، فسوريا مستقرة موحدة، يعني كسر هلال النفوذ الإيراني.
هذه الرؤية جعلت السعودية تبدي مرونة كبيرة في التعامل مع الإدارة السورية الجديدة التي خرجت من عباءة هيئة تحرير الشام، ومما لا شك فيه أن هناك حساسية شديدة للدول العربية في التعامل مع الجماعات الإسلامية المسلحة، لكن ظهر الانفتاح السعودي مع أصحاب هذه الخلفية في سوريا لتحقيق هذه المصالح العليا، خاصة بعد أن أظهرت الإدارة السورية الجديدة خروجها من نطاق التفكير والعمل بعقلية الجماعة والثورة إلى عقلية رجال الدولة.
سوريا التي تسعى جاهدة للاندماج من جديد في البيت العربي، بحاجة إلى السعودية كقوة اقتصادية كبرى، لتذليل العقبات الاقتصادية التي خلفها النظام السابق، الذي ترك البلاد خاوية على عروشها، كما أنها بحاجة إلى السعودية ذات الثقل السياسي والعلاقات الخارجية المفتوحة، لرفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا. السعودية بدورها تستفيد من علاقتها بسوريا الجديدة أمنيا بتقليص النفوذ الإيراني كما أسلفنا، وكذلك من مكافحة أنشطة تجارة المخدرات، التي احترفها النظام السابق وأغرق بها الأسواق الخليجية والعربية، وذلك من خلال التعاون مع الحكومة الجديدة. أضف إلى ذلك فتح أسواق جديدة للاستثمار السعودي والخليجي في إعادة الإعمار في سوريا.ربما يتجه البعض إلى القول بوجود علاقة تنافسية وصراع نفوذ بين السعودية وتركيا في سوريا، لكن الذي يظهر أن تركيا بحاجة إلى السعودية في تحقيق الاستقرار في سوريا، فلئن كانت أنقرة لها الدور الأكبر في تعزيز الأمن ونظام الحكم في سوريا، إلا أنها لن تستطيع أن تقوم بالدور السعودي في التعافي الاقتصادي لهذه الدولة، والذي هو صلب عملية التحول، فمن ثم أعتقد أنه ستكون هناك أدوار تكاملية بين السعودية وتركيا في هذه المرحلة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردني
القدس العربي
—————————–
100يوم من حكم الشرع: هل تجاوزت دمشق قطوع الدم؟/ أنيس المهنا
الإثنين 2025/03/17
كانت الأسواق تعمل، الطرقات مزدحمة ولم تغلق الحدود مع لبنان، انفضّ المؤتمر القومي لحزب البعث الاشتراكي مساء 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 من دون التوصل إلى اتفاق، أمر حافظ الأسد فجر 13 تشرين الثاني/نوفمبر، وحدات الجيش باحتلال مكاتب حزب البعث والمنظمات الشعبية، وإلقاء القبض على عدد من الضباط، وكبار القادة السياسيين.
عرض الأسد على صلاح جديد ومن معه، مناصب في سفارات سوريا في الخارج، لكن جديد رفضَ، وقال للأسد إنه “عندما يستعيد السلطة سيسحله في شوارع دمشق حتى يموت”، فاقتيد جديد إلى السجن الذي بقي فيه حتى وفاته. تردّد الأسد ثلاثة أيام بعدها ليصدر بياناً مساء 16 تشرين الثاني/نوفمبر، أو ما سمي بـ”الحركة التصحيحية”، يُعلن فيه استلامه السلطة، للانتقال إلى مرحلة جديدة في تاريخ سوريا المعاصر (من كتاب “تاريخ سوريا المعاصر” للباحث اللبناني – الكندي كمال ديب).
تلك المرحلة العصيبة والتي استمرت 54 عاماً، انتهت عند السادسة صباحاً من يوم السبت 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، ليعلن رسمياً هروب الأسد الإبن من دمشق، وسقوط نظام البعث، بعد دخول هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع العاصمة دمشق والسيطرة على السلطة.
تساؤلات مشروعة
بعد 100 يوم على وصول الشرع إلى السلطة، وتسلمه رئاسة البلاد، يحقّ للسوريين اليوم وقف مراسم الاحتفالات، والانتباه بشكل جدّي إلى ماذا حدث، وأين نجحت حكومة الشرع المؤقتة وأين فشلت؟ وهل بات مستقبلهم بخطر؟
بعد ظهر الخميس، بدأت الأخبار العاجلة تأتي من القصر الجمهوري، وأن السيد رئيس الجمهورية، سيوقّع مسوّدة الإعلان الدستوري، ثم بدأت بنود الإعلان تظهر تباعاً.. بعد التوقيع بالقلم الأخضر، كان وفد تركي في ضيافة الشرع ومن المؤكد أن الإعلان الدستوري الجديد كان على مائدة الإفطار، إلى جانب تفاصيل عن اتفاق دمشق مع قوات سوريا الديموقراطية “قسد”.
نص الإعلان الدستوري على أن دين رئيس الدولة الإسلام.. وأن الرئيس هو سيّد السلطة التنفيذية ولا يحق لأحد التدخل بما يرسمه، كما نص على أن رئيس الجمهورية الانتقالي سيقوم بتعيين 100 من أعضاء مجلس الشعب، وبأن الدولة تكفل حق التعبير والرأي.
لا شك أن السوريين وتضحياتهم يستحقون بالتأكيد أفضل من ذلك الإعلان الدستوري ويستحقون أن تقضي اللجنة المولجة إعداده وقتاً أطول، لوضع شرعة جديدة.
ستتأخر كلمة السر إلى ما بعد الأعياد، ليبدأ السوريون بترقب 100 يوم أخرى، مع حكومة انتقالية، برئاسة الشرع لخمس سنوات مقبلة تُّمدَد حسب الطلب.
طوق الآلام
العطش عنوان عريض للمئة يوم الأولى، فبردى من دون ماء هذا العام، هو فأل سيء.
الفلاحون في حوران لم يرموا بذارهم بانتظار المطر، وجبل العرب، ومعلولا لن يأتيا لنا بالنبيذ. في لقائها الأخير برفقة وفد من أبناء مدينتها مع الرئيس أحمد الشرع، علقت الناشطة السورية من السويداء غادة الشعراني على عنق الشرع طوقاً من حجارة البحر في الساحل السوري، حَملت حباته، أصوات الأطفال المروعين في جبلة وحماة، من خناجر ذئاب الليل، غادة قالت للرئيس: “أرواح أهلنا هناك أمانة برقبتك، هم برعايتك وقد تُركوا بلا وليّ أو راعي”.
الدمشقيون، و”النَص”
في شارع “العابد”، والذي تعود تسميته لأول رئيس للجمهورية السورية، محمد علي العابد، ترك مقهى الروضة أبوابه مفتوحة لغير الصائمين، كذلك مقهى الكمال. هي رسالة مفتوحة من البرجوازية الدمشقية، أنهم غير راضين على ما تقوم به حكومة الشرع، من محاولة مقوننة لإجبار الناس على عدم الإجهار بإفطارهم.
لم يتغير وجه دمشق، في أول رمضان بعد سقوط نظام الأسد، هم الدمشقيون، يعرفون التعامل مع ربّهم بذكاء، ومع النصوص، هم لن يتركوا لأهل الريف في إدلب، كيفية هدايتهم.
عرس على العتمة
ليس بعيداً عن ساحة الأمويين، كان فندق “الشيراتون” يعج بالمقيمين والضيوف. كانت هناك عروس مع عرابتيها الجميلتين مع باقة ورد، يلاحقهن مصور بكاميرا احترافية لمحاولة توثيق لحظات فرح شكلية، ومن المؤكد أنهن لن يعدن تقليب ألبوم الصور، إلا أمام المهنئين، لكن من الضروري أن يكون هناك “جلسة تصوير”، بعد سقوط الأسد، ولن ننكر تاريخية اللحظة.
في بهو الفندق أيضاً، رجال أعمال يراقبون العروس، يبحثون عن فرصة جديدة، في بلاد معتمة، بلا قيامة، تنتظر الكهرباء من بعض التقدمات الخليجية. لكن لماذا نخاف؟ يقول رجل الأعمال القادم من بريطانيا في سرّه، السوريون بدأوا يدربون أنفسهم، على الفرح، اذا لنستثمر في الفرح السوري.
الخذلان ووجه يارا
عندما أشرقت شمس الصباح على هذه البلاد تجمّع الرجال والنساء، ليرتبوا جنازات أبنائهم في جبلة، وطرطوس، وحماة، ونعق الغراب.
من ساروجة إلى باب توما، تهمس حجارة الطريق، كُن واقعياً.. ماضينا لن يتطهّر هذه السنة، أو السنة المقبلة، كُن واقعياً، فرحنا لا يكتمل، كُن واقعياً، تلك الأم في إحدى قرى اللاذقية، لن تنسى وجوه أبنائها المقتولين أمامها بكل دم بارد، فالدمُ الجديد، وَلّادْ.. كن واقعياً فدمشق تواطأ الجميع عليها، وعند آذان المغرب لا سور يحميها، ولا ماء ولا طعام لصائم يسدّ فيه رمقه.
وجه يارا صبري في ساحة المرجة كان عنوان المئة يوم الأولى، تُرفع هناك ورقة بيضاء تطالب بعدالة انتقالية لمحاسبة كل المجرمين، وجه يارا الطفولي سينقذ السوريون من ديماغوجيتهم، التي أفسدت تلك الوقفة الصامتة في المرجة.
المئة الأولى من أيام حكم الرئيس الشرع لم تكُن مثالية، ذلك أمر طبيعي. في المئة يوم المقبلة، سيعلّم السوريون السلطة الجديدة أن لا تنحرف كثيراً نحو الديكتاتورية.
اللهم لا تدع الغراب ينعق مرة أخرى!
المدن
—————————
في ذكرى 18 آذار: أين كنت من 14 عاماً؟/ سميرة المسالمة
الإثنين 2025/03/17
انتصرت الثورة، التي نختلف منذ 14 عاماً على موعد انطلاقتها، بين 18 آذار حيث تضرّجت أرض درعا بدماء شهداء الحرية، وانطلقت منها إلى كل المدن السورية مظاهرات ثورة الحرية، حيث نادى الثائرون “يا درعا نحنا معاكي للموت.. يا درعا”، أو 15 آذار حيث ارتفعت الهتافات في دمشق للمطالبة بتحرير المعتقلين. وفي أي من اليومين كانت البداية، فقد انتصرت الثورة، لكن السوريين لم ينتصروا بعد، حتى هذه اللحظة. فلا نزال نخوض معاركنا “الكبيرة” على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يبدو أننا نستطيع السمو فوق خصوماتنا البدائية. حيث يستطيع كل سوري بعد 8 كانون أول /ديسمبر 2024 (يوم النصر العظيم) أن يغير اصطفافاته، فيتحول من مؤيد لنظام الإجرام الأسدي إلى صانع للثورة المنتصرة، أن يتحدث كأنه كان من المعارضين الصامتين الأشداء من أجل الثورة، أن يصنع لنفسه تاريخاً من البطولات، ومعها ما يتطلب ذلك من تغيير حقائق اصطفافات الآخرين وتشويههم.
كأن يسأل “مُحدث نعمة ثورة” فنانين وكتاباً معارضين أو منشقين عن النظام ومعتقلين: أين كنتم من 14 عاماً؟ مندداً بسؤاله ذلك، السلوك الإنساني الذي يعبر عنه بعض المعارضين تجاه ما يتعرض له أبرياء، يُقتلون على هويتهم، أو يؤخذون بذنب مجرمين احتموا بمناطقهم، فيذهب الصالح مع الطالح. وكأن على جمهور المعارضة أن يملك عيناً واحدة، لا يرى فيها غير جرائم النظام الأسدي، أما ما عداها من ارتكابات بحق الآخرين صارت “برداً وسلاماً”.
هذا السؤال “أين كنت من أربعة عشر عاماً” ليس جهلاً من السائل بمن يسأله، بل لتوثيق أن الاصطفاف اليوم يكون على الهوية كما القتل، في محاولة لتشويه صورة النصر ومحدودية الفاعلين به. هو تعبير عن قصور في فهم أسباب اندحار نظام بشار الأسد وهروبه، وليس كما يوحي السائل عن انغماسه في مصارعة النظام، بينما من وجه له السؤال هو الغائب عن النضال أو المتخاذل.
لقد تحول هذا السؤال إلى “ترند”. وهذا ليس محض صدفة أن يستخدمه شبيحة جدد متبرعون، وعلى ما أعرف وأثق أن السلطة لم توظفهم. وهم على ما يبدو، يضعون خبراتهم المجربة في صناعة وعبادة الاستبداد. هم لا يقدمونها خدمة بريئة للسلطة الجديدة، بل يحاولون قولبة هذه السلطة على مقاس فساد يناسب مهنة نفاقهم لها.
فحقيقة أن يصبح توجيه هذا السؤال أمراً عادياً، لكاتب بحجم عطاء عمر قدور، الذي سبق تاريخ كتاباته للمقالات المعارضة للنظام السوري، تاريخ ولادة بعض السائلين، يعني أننا أمام مجتمع يتآكل بجهل تاريخه، ويختصر الثورة بلحظة انتصارها واصطفافه معها، وينكر تضحيات كل السوريين، الشهداء منهم والأحياء، والثائرين بسلاح الكلمة والفن كما هو حال السلاح.
وأن يوجه أيضاً، ذلك السؤال البغيض للفنان سميح شقير، صاحب أغنية “يا حيف” التي هزت أركان النظام السوري ورددها ملايين السوريين، ولا يزالون، وهي بكلماتها “زخ الرصاص على الناس العزل يا حيف، وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف، وأنت ابن بلادي تقتل بولادي.. وهذا اللي صاير بدرعا يا حيف”. وهي تلخص حكاية الثورة السورية ضد نظام الأسد (الأب والأبن) من ألفها إلى يائها، فتلك طعنة لكل من آمن بكلمات ومعاني هذه الأغنية ومصداقيتها. فلا غرابة عندئذ أن يوجه السؤال للمعتقل رغيد الططري الذي زج به في سجون الأسد لأربعة وأربعين عاماً من غرّ يستقوي برصاصة قاتلة!
من ذلك المكمن ذاته، من ذلك السؤال المحرض على الكراهية، وعلى نفي الحقيقة بالكذب، تأتي عملية تشويه الشخصيات الوطنية، والتعامي عن أدوارها الفعالة، وإلصاق التهم الكاذبة بها، فمن يعرف الفنان جمال سليمان وقدرته على ضبط النفس في مواجهة عواصف التخوين والافتراء، هو نفسه من يعرف حجم العمل السياسي الذي مارسه لإنهاء نظام الأسد. فلا يمكن أن تعبر إلى نفس أي منا لحظة شك بمواقفه، قد تختلف معه في تفاصيل السياسة والقيادة والتحول، لكنك لن تستطيع أن تكون بعيداً عن دائرة وطنيته، أو أن تبعده عن تقاطعاته معك في فرحة النصر والتحرير من منظومة الاستبداد والقتل الأسدية. ووقوفه اليوم ضد الانتهاكات التي تحدث في الساحل واجب تفرضه عليه سوريته، وليس طائفته، كما تفرضها علينا جميعاً. فتبرير الجريمة جريمة، وإنكارها لا يعني انتفاءها.
ولعل تشكّل لجنة وطنية للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل، هو تعبير قانوني من حكومة الرئيس أحمد الشرع عن تطلعها لإقامة العدالة، وقطع دابر الفتنة الطائفية، ما يعني أنه رد على كل محاولات “الغوغائيين والمنافقين” التعتيم على تلك الانتهاكات، التي طالت سوريين بتهمة الهوية الدينية وأحياناً التبعية الجغرافية. وربما من المفيد أن تطول تلك التحقيقات لاحقاً المحرضين على إشعال الصراع “افتراضياً” أيضاً، حيث ضحاياهم كانوا من كل الأطراف. ولعل واحدة من أهم أهداف التي يريدها كل المنددين بالمجازر والانتهاكات، إنصاف شهداء رجال الأمن العام، وتحييد كل مرتكب ومخالف لقيم العيش المشترك.
وأنا مع كل الزملاء الذين وُجّه لنا السؤال ذاته، كنا منذ 14 عاماً نكتب ونعمل من أجل الحرية والعدالة ودولة المواطنين الأحرار التي تتسع لكل السوريين. فهذا السؤال “المريب” يتكررعلى صفحتي في فايسبوك، عند كل مرة أدين بها الموت المحدق بأهلنا في دمشق أو في الساحل، أو في حوران، وفي كل مكان، ومن كل الجهات، من رجال الأمن أو من المدنيين، وهو لا يختلف عن محاولات النيل من أي قامة تعقلن خطابها وتوجه نصحها، فهل يعود زمن التخوين؟ وكأننا نعيد مشاهدة الفيلم من جديد؟
المدن
—————————
دمشق بلا خالد خليفة/ بشير البكر
الإثنين 2025/03/17
خاطر بقي يتردد في بالي، كلما حضرني حلم العودة إلى دمشق، خطر على بالي. لقاء مجموعة محدودة من الأصدقاء، الذين كنت على تواصل معهم بوسائل مختلفة، ومن بين هؤلاء الروائي خالد خليفة، الذي عرفته في بداياته الشعرية بمدينة حلب طالبا في المدرسة الثانوية، قبل أن يحصل على شهادة البكالوريا، ويذهب إلى الجامعة. واستمرت العَلاقة بيننا على نحو متقطع، من خلال رسائل شفوية، ينقلها أصدقاء مشتركون، وتبادل الكتب، ولم نلتق حتى االعام 2014 في الدوحة، حيث أمضينا عدة أيام معا، هو كان يشارك في كتابة مسلسل “وجوه وأماكن” مع شركة “ميتافورا” للإنتاج، وأنا في صحيفة “العربي الجديد”، التي كنا نستعد لصدورها. كان عائداً من الولايات المتحدة بعدما انسحب من برنامج للكُتّاب في جامعة هارفرد لمدة عامين. وحدثني عن تلك التجربة، التي لم تكتمل. انسحب منها في البداية، لأنه دخل في حالة اكتئاب وحنين إلى دمشق، التي لم يستطع تحمل العيش بعيداً منها. ترك كل شيء وعاد إلى سوريا، وبرر لي ذلك بأنه لا يحتمل الحياة خارج البلد، “لا أريد أن أعيش في أي مكان آخر. لا أريد أن أخلق ذكريات جديدة”.
خلال اللقاءات في الدوحة تحدثنا مطولاً عن سوريا، وكانت الثورة في أوجها. وشعرت بأن خالد كان فرحاً بها، ليس كحدث سوف يغير حياة الشعب السوري، بل الكتابة السورية كذلك. وبدأ يخطط لكتابة أعمال جديدة من وحي الهزة الكبيرة، التي ولدتها الثورة في الوجدان السوري. وكعادته، بدا متفائلا بنهاية سعيدة قريبة، وحينما استشرى العنف والقتل والدمار، لم يغير رأيه أبداً، وظل على يقين بأن نهاية النظام وشيكة، وبعد كل انتكاسة يراهن على موعد جديد. حتى لو لم نلتق لأعوام، كانت أخباره تصلني، من خلال متابعتي له في وسائل التواصل، وشهادات الأصدقاء المشتركين، وأحاديثه الصحافية، وبعض النصوص التي كان ينشرها في الصحف.
تأثر خالد بالنكبة السورية، ودخلت جرعة عالية من المرارة إلى لغته الروائية، وظهر ذلك في روايتيه “الموت عمل شاق” التي صدرت العام 2016، و”لم يصلِّ عليهم أحد” التي صدرت العام 2019، وشيئاً فشيئاً بدأ الكاتب المتفائل، يحس بالثقل الكبير لنتائج الحرب داخل دمشق التي أصبحت مدينة مظلمة ليلا، ولم تعد هناك مكتبات وصالات سينما وأمسيات ثقافية، وبقي موزعا بين السفر والإقامة، لكنه لم يفكر للحظة واحدة بترك سوريا نهائياً، بقي يتنقل بين الساحل ودمشق، وبين حين وآخر يذهب في منحة كتابة في الخارج، مثل منحتي مجلة بانيبال التي تصدرها الكاتبة البريطانية ماغي أوبانك وزوجها الكاتب العراقي صموئيل شمعون في العام 2022، التي دامت ثلاثة أشهر قضاها في جامعة دورهام البريطانية، التي تركت أثراً طيباً، حتى إن الجامعة تدرس حالياً تحويل ذلك إلى تكريم دائم. والمنحة الثانية كانت في مطلع العام 2023 في مدينة زيوريخ في سويسرا، التي دامت ستة أشهر، وحضر بعدها إلى لندن واستضافته ماغي وصموئيل مرة ثانية في فندق “نوفتيل” المقابل لسكني، وكانت مفاجأة له ولي، حين خرجت إلى شرفتي فوجدته يقف عند باب الفندق يتحدث إلى سيدة ترافقه، ناديته باسمه فالتفت نحوي وهو ذاهل.
عادت لي ذكرى تلك المفاجأة، التي حصلت في لندن العام 2023. لكثرة ما فكرت به، كدت أنسى وفاته، حتى خطر لي، وأنا أسير في شوارع دمشق لمسافات طويلة، بأني قد ألتقي خالد مصادفة في إحدى الحارات، التي كان يحدثني عنها بشغف، أو أني سأجده في أحد المقاهي أو المطاعم، جالساً ومن حوله الأصدقاء الذين رافقوه في أعوامه الأخيرة، وكانوا على قدر كبير من الحرص، ألا يتركوه وحيداً بعدما تعرض لجلطة دماغية. لكن عبثاً، لم يظهر خالد في دمشق، وكثيراً ما تخيلت أنه كان يجلس على مقعد محدد في مقهى الهافانا، أو فندق الشام، وذات يوم قرر أن يهجر المدينة، ولا يعود، ذهب إلى بيته في حي مساكن برزة، هناك جلس على كرسيه، وغفا الإغفاءة الأخيرة، التي لم ينهض بعدها. كأنه أراد أن يكتب مشهد موت الكاتب كحقيقة، وليس كما في رواية أو مسلسل تلفزيوني. لم يكن تمثيلية، بل صحوة أخيرة.
قلت لأكثر من صديق لخالد أن مكانه فارغ في دمشق، ومن المحزن أنه رحل قبل أن يشهد سقوط نظام الأسد. كان يحلم بأن يرى سوريا تتنفس هواء الحرية، لكن القلب المثقل خذله فسقط في ربع الساعة الأخير من سباق الماراتون.
موت الأصدقاء في دمشق، لا ينفصل عما أصاب المدينة. هذا ما خطر لي وأنا أسير في الشوارع، أو ارتاد الأماكن التي كانت تضج بالحيوية، وتشهد جدالات وخلافات المثقفين والكتاب والفنانين في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، واختفى معظمها. بعضها أغلق أبوابه مثل “اللاتيرنا” (القنديل) في الصالحية، وهو مقهى ومطعم تمتلكه عائلة المحامي نجاة قصاب حسن، وقد هاجر إليه الوسط الثقافي العام 1978 بعدما أغلق مقهى “النجمة” في الساحة التي تحمل الاسم ذاته، أبوابه بوجههم.
المدن
—————————-
القطاع الطبي في سوريا: بين توقّف الدعم الدولي والفساد الإداري/ مصعب الياسين
17.03.2025
بعد وصول الإدارة السورية الجديدة الى الحكم والإطاحة بنظام بشار الأسد، شهد القطاع الطبي في سوريا فصل آلاف الموظفين من المستشفيات والمستوصفات والمراكز الطبية التابعة للدولة، الأمر الذي علق عليه وزير الصحة ماهر الشرع قائلاً: “لدينا آلاف الموظفين الوهميين، بعضهم كان النظام السابق يعينهم على سبيل المجاملات”.
يمسك مأمون بيد جدته بحرارة في قسم غسيل الكلى في مستشفى باب الهوى المركزي شمال محافظة إدلب السورية والمهدد بالإغلاق بسبب توقف الدعم.
يقول مأمون الذي لا يزال يسكن في مخيمات النازحين، أثناء خضوع جدته لعملية غسيل الكلى: “لا أدري ما سيكون مصير جدتي إذا توقف قسم غسيل الكلى في مستشفى باب الهوى بعد سماعنا عن أنباء بتوقف الدعم عنه، ولا استطاعة لنا للذهاب إلى المستشفيات الخاصة، ويبدو أننا سنضطر لترك جدتي في الخيمة من دون علاج تواجه مصيرها المكتوب من الله”.
من جهتها، لم تستطع المريضة صباح إخفاء ألمها وخوفها من الأيام المقبلة إذا ما توقف قسم غسيل الكلى عن العمل، ومن المصير الذي ينتظرها، هي التي تقبع في المخيمات، ولا سند لها سوى شقيقها الذي يذهب بها الى جلسات غسيل الكلى كل يومين منذ 9 سنوات.
100 مريض\ـة حالتهم مشابهة لحالة جدة مأمون وصباح، وهم من كل الفئات العمرية، جميعهم مهددون بمصير مجهول في حال توقف قسم غسيل الكلى خلال الشهر المقبل في مستشفى باب الهوى، المدعوم سابقاً من منظمة سامز، التي توقف الدعم عنها بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إيقاف المنح الخارجية عبر وكالة التنمية الأميركية.
أكثر من 100 مركز طبي استنفد التمويل
يضم مستشفى باب الهوى الذي افتُتح عام 2012، أقساماً عدة توفر اختصاصات فريدة في سوريا، منها الجراحة العصبية المجهرية والعينية وزراعة الحلزون وغسيل الكلى والقلبية والأورام، إضافة الى أقسام عناية مختلفة بحسب المدير التنفيذي للمستشفى الطبيب ياسين علوش، إذ يقدم المستشفى خدمات طبية شهريا لـ 17000 مريض جلّهم من النازحين في المخيمات.
في حديثه لـ”درج”، يقول الطبيب علوش “إن مستشفى باب الهوى، بعد سقوط نظام الأسد، أصبح مقصداً لكل أبناء المحافظات السورية نظراً الى دمار القطاع الطبي أيام نظام الأسد المخلوع، واليوم توقف المستشفى عن العمل منذ بداية شهر شباط/ فبراير2025، باستثناء الطوارئ فقط، وبعد تأمين بعض الحاجيات والمساعدات المحلية عدنا الى العمل بالطاقة الكاملة، والتي يمكن أن تشغلنا لمدة شهر فقط، وبحال وجود أي داعم سنضطر للاقتصار على الإسعافات والطوارئ المهددة للحياة فقط”.
يعد مستشفى باب الهوى من أهم المستشفيات في شمال غربي سوريا بحسب الدكتور مازن كوارة، المدير الإقليمي لمنظمة سامز، إذ بدأت الأخيرة بدعم المستشفى منذ عام 2019، وفي أيلول/ سبتمبر 2024 توقفت المنحة الأميركية ما أثر على عمل المستشفى حينها، وأمام هذا التوقف استمرت سامز بدعم المستشفى حتى كانون الثاني/ يناير2025، لكن بعد قرار ترامب توقّف الدعم عن المستشفى الذي تصل تكلفة عمله إلى مليوني دولار سنوياً.
لم يقتصر تأثير قرار الرئيس الأميركي وقف المنح الخارجية عبر وكالة التنمية الأميركية على مستشفى باب الهوى، بل شمل الكثير من المراكز الصحية والمستشفيات في سوريا.
وبحسب مكتب الأمم المتحدة في غازي عينتاب التركية، فإن نقص التمويل اللازم للاستجابة الإنسانية في سوريا سيؤدي إلى عواقب إنسانية خطيرة، إذ توقف الدعم عن 102 منشأة صحية وطبية في البلاد منذ بداية 2025.
وفي تقريرها الصادر بتاريخ 30 كانون الثاني/ يناير2025، ناشدت الأمم المتحدة الأطراف بتوفير مبلغ 1.2 مليار دولار لمساعدة 6.7 مليون شخص من الأكثر ضعفاً في سوريا حتى آذار/ مارس2025.
كانت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تقدم دعماً لمشاريع متعددة في سوريا، بما يشمل قطاعات المياه والصرف الصحي وتطوير محطات ضخ المياه، لا سيما في مخيمات النزوح في محافظة إدلب، إضافة إلى دعم القطاع الزراعي، ما ساهم في تعزيز الأمن الغذائي، فضلاً عن دعم قطاعات التعليم والصحة، وتحسين سبل العيش وتعزيز الاستقرار الاقتصادي من خلال توفير فرص عمل ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ناهيك بدعم برامج التعافي المبكر من خلال تعزيز القدرات الإنتاجية المحلية.
وفور تولّيه منصبه كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، وقع ترامب مرسوماً يقضي بتعليق جميع المساعدات الأجنبية التي تمولها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لمدة 90 يوماً لتقييم مدى امتثال البرنامج للسياسة الخارجية الأميركية.
وفي 27 شباط/ فبراير2025 دعمت المحكمة العليا الأميركية، بشكل مؤقت، قرار إدارة الرئيس ترامب الخاص بتجميد المساعدات الخارجية.
وتعتبر الولايات المتحدة أكبر مموّل للمساعدات الإنسانية حول العالم؛ ولديها قواعد في أكثر من 60 دولة، كما تعمل في عشرات الدول الأخرى، ويتولى متعهدون القيام بمعظم تلك الأعمال.
ووفقاً لوكالة أسوشييتد برس، فإن إدارة ترامب ترغب في إنهاء أكثر من 90 في المئة من عقود المساعدات الخارجية التي تقدّمها الولايات المتحدة عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية – و60 مليار دولار من المساعدات الأميركية الخارجية.
قطاع صحّي مدمّر
بعد وصول الإدارة السورية الجديدة الى الحكم والإطاحة بنظام بشار الأسد، شهد القطاع الطبي في سوريا فصل آلاف الموظفين من المستشفيات والمستوصفات والمراكز الطبية التابعة للدولة، الأمر الذي علق عليه وزير الصحة ماهر الشرع قائلاً: “لدينا آلاف الموظفين الوهميين، بعضهم كان النظام السابق يعينهم على سبيل المجاملات”.
وخلال مؤتمر صحافي، استشهد الوزير ببيانات مديرية صحة في إحدى المحافظات الصغيرة، حيث بلغ عدد الموظفين 17 ألفاً، في حين أن عدد سكان المحافظة لا يتجاوز الـ 200 ألف. كما بيّن أن هناك آلاف العاملين في القطاع الصحي ممن لا يحملون أي شهادات طبية، مسلطاً الضوء على حجم الفساد الإداري الذي يشكل عائقاً كبيراً أمام إصلاح المنظومة الصحية.
وتواجه وزارة الصحة الانتقالية اليوم مهمة مصيرية لإعادة بناء نظام صحي مُدمر يعاني من توقف 80 في المئة من المراكز الصحية عن العمل، وشح حاد في الكوادر الطبية والمستلزمات الأساسية.
وأكد الوزير أن الحلول تتطلب إعادة هيكلة شاملة تعالج جذور الفساد الإداري لضمان كفاءة الأداء. فيما ستركز الوزارة على إعادة توزيع الأدوية والمعدات الطبية المخزنة بشكل عادل، وتوفير الدعم اللازم لإعادة تأهيل المستشفيات وبناء قدرات الكوادر الطبية.
– صحافي سوري
درج
—————————-
سوريا والرؤية الثالثة/ مأمون فندي
تحديث 17 أذار 2025
تتقاسم سوريا الجديدة، الآن، رؤيتان خارجيتان؛ الأولى رؤية تركية تسعى إلى سوريا موحدة ومتماسكة كدولة جارة (مع بعض التحفظات)، والثانية رؤية إسرائيلية تريد سوريا مجزَّأة طائفياً، وربما مناطقياً، فهل هناك إمكانية لظهور رؤية ثالثة؛ إما وطنية سورية خالصة، أو عربية، أو خليط من رؤية عربية ومحلية سورية؟
أيُّ نظام جديد بعد ثورة أو بعد انهيار نظام، مهما كان تماسك المجتمع، يمر بمرحلة انتقالية بين نظامين. ويحدد مدى نجاح أو فشل هذه المرحلة أمران: سرعة التحول، وحجم أو عدد من ينخرطون فيه. فإلى أي رؤية يقترب مصير التحول السوري، اليوم؟ هل نحو الرؤية الإسرائيلية التي تسعى إلى سوريا مجزَّأة في حالة تناحر طائفي، كما كان لبنان في السبعينات وحتى نهاية الحرب الأهلية، أم نحو الرؤية التركية التي تسعى إلى نظام مركزي قوي لدولة متماسكة؟
قد يكون من التبسيط تحديد رؤية كل من تركيا وإسرائيل لسوريا بهذا الوضوح، بين رؤية التجزئة ورؤية التماسك، دون الالتفات إلى المساحة الرمادية بينهما. والمثال الأوضح على ذلك هو قضية المقاتلين الأجانب ضمن قوات النظام السوري الجديد، وكذلك مكافحة الإرهاب.
المقاتلون الأجانب بالنسبة للأتراك هم جماعات الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، الذين تَعدُّهم أنقرة إرهابيين. أما بالنسبة لإسرائيل، فالمتطرفون هم المتحالفون مع النظام الجديد، والذين جاؤوا مع الرئيس أحمد الشرع من إدلب إلى دمشق. وهنا تكمن المنطقة الرمادية التي تتعامل معها تركيا وإسرائيل بطرق مختلفة.
تركيا باركت اتفاق قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مع حكومة الشرع؛ بهدف دمج هذه القوات داخل المؤسسة الدفاعية السورية، والهدف من ذلك فصلها عن حزب العمال الكردستاني، وكذلك منح الحكومة الجديدة السيطرة على حقول النفط الواقعة في مناطق نفوذ «قسد»، والتي كانت تحت الحماية الأميركية. بالطبع، في هذا التبسيط لم نتطرق بعدُ للأدوار الأخرى التي تلعبها أميركا وروسيا وإيران، وقد تعمدت ذلك نظراً لانشغال هذه القوى بقضايا تراها أهم من استقرار سوريا حالياً.
أما إسرائيل فهي تسعى إلى إضعاف النظام الجديد، الذي تَعدُّه متطرفاً، وربما في حالة كمون إلى أن يتمكن ثم يواجه إسرائيل لاحقاً، ليس عبر مواجهة جيوش نظامية، بل بنموذج استنزاف شبيه بـ«حزب الله» في لبنان. ولهذا، تحاول إسرائيل منع النظام الجديد من امتلاك أدوات القوة، عبر ضرب مقدَّرات الجيش السوري القديم، وتدمير بنيته التحتية العسكرية، مما يستلزم عشرات السنين لإعادة بنائها، وبذلك تكسب إسرائيل وقتاً إضافياً لترويض النظام الجديد.
إضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى التواصل مع الطوائف المختلفة، وأبرزها الدروز في السويداء، حيث كان مشهد العشرات من شيوخهم الكبار لافتاً في زيارتهم للجولان، الأسبوع الماضي، فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي أكد فيها التزام إسرائيل بحماية دروز سوريا. فإذا التزمت إسرائيل بطائفة، فلمن تلجأ الطوائف الأخرى للحماية؟
السؤال الأكبر: أيُّ الرؤيتين سترسم ملامح النظام السوري الجديد؟ هل هي الرؤية التركية أم الرؤية الإسرائيلية؟ التجزئة والتناحر الطائفي، أم الاستقرار؟ وإلى أي رؤية يجب أن تنحاز الدول العربية، خصوصاً دول الجوار، فيما يخص مستقبل سوريا؟ أو بصيغة أخرى، أيُّ الرؤيتين يمكن أن تنتصر في المستقبل القريب؟
الموقف من أحداث الساحل السوري، والاتهامات المتبادلة بين مطاردة فلول نظام الأسد المتمردة على النظام الجديد من وجهة نظر النظام وأتباعه، أو الشروع في القتل على الهوية للعلويين حسب رؤية أصوات من الطائفة العلوية، كلها تصب في سيناريو التمزق المجتمعي، وتجعل سوريا مسرحاً لعدم استقرار قد يستمر لعشر سنوات مقبلة على أقل تقدير.
الرؤية التركية، رغم بعض التحفظات، قد تؤدي إلى حالة من الاستقرار في سوريا، وربما تنتج نظاماً شبيهاً بتركيا، كدولة جارة فاعلة، بالطريقة نفسها التي أنتجت بها إيران النظام الجديد في العراق بعد حرب 2003.
ومن هنا، قد تخرج الرؤية الثالثة من خلال حوار عربي-تركي يدفع نحو إنتاج نظام شبه ديمقراطي، كما هي الحال في تركيا. وهذا يتطلب إحياء الجهود السابقة من محادثات جنيف وآستانة بين نظام الأسد والمعارضة. يمكن أن تكون هذه الأوراق نقطة انطلاق جيدة لحوار جاد حول بناء سوريا الجديدة، إذا أضيفت إليها جهود حوار وطني داخلي.
إذا لم يستطع العرب التنسيق مع الأتراك بشكل عاجل وجاد، فسينسق غيرهم، وسيكون ذلك على حساب وحدة الأراضي السورية وسلامتها. دون عمل عربي-تركي مشترك وعاجل، قد تنتصر الرؤية الإسرائيلية، على الأقل خلال السنوات المقبلة، وسنشهد سوريا كما شهدنا لبنان من بداية الحرب الأهلية حتى اتفاق الطائف.
وبين هذه التطورات، قد تظهر جماعات مختلفة في سوريا، يكون نموذجها الأمثل شيئاً شبيهاً بظهور «حزب الله» في لبنان وتطوره إلى القوة الأولى في الدولة، أو ظهور «الحشد الشعبي» وعشرات الجماعات المتطرفة في العراق.
في سوريا، الرؤية الثالثة هي الحل.
الشرق الأوسط
———————————
من سير الخالدين: عن الشهيد الحي أحمد الفج/ العقيد عبد الجبار عكيدي
2025.03.17
لا هي بحر النضح منه هيّن، ولا هي حجر النحت فيه ممكن، تلك اللغة التي نحتاجها في هذا المقام، والتي تتركني مشدوها فريسة عجز رصف حروف لائقة، وعليه سأدع للذاكرة أن تسيل كالماء كما تريد لا كما أشتهي، وأحدثكم عن إنسان اختصرت سيرته ببساطة وتوهج ما جهدت الإنسانية في تسطيره ملاحم وأشعار، إعلاءً لقيم انتصار الإنسان لأخيه الإنسان، ورفعاً لقيم الكرامة والحرية، وتصديقاً لمبدأ البذل غير المحدود، هي قصة عن التماهي بين الفكرة الجليلة والفعل الأجلّ.
قصتنا عن، ابن مدينة الأتارب، مدينة الأحرار، حصن الشمال، عن الشهيد الحي كما كان يطلق على نفسه، الملازم الأول، أحمد الفج (أبو عبيدة) وقد مر على استشهاده تسع سنوات. عرفته لمدة قصيرة، شهرين لا أكثر، لكنه حفر في وجداني عميقاً، واختار لنفسه مكانة باسقة في ذاكرتي وذاكرة من عرفه، ومنها أنضح لأحدثكم عنه.
رفيق الخطر
تخرج الشهيد أحمد الفج من الكلية الحربية عام 2006 اختصاص دفاع جوي، ولتميزه فُرز إلى الوحدات الخاصة مدرباً في دورات الصاعقة في الدريج، ومع اندلاع الانتفاضة السورية الماجدة نُقل إلى الفوج 45 قوات خاصة في حماة.
وبعد أحداث مدينة جسر الشغور الشهيرة نُقل إليها، ولأن قوة النظام العارية بدأت من هناك وعاين الشهيد أفاعيل النظام المشينة اتصل بوالده وقال له: “ياب، فرزوني لجسر الشغور أشو ساوي”، فكان الجواب أن يا بني أوصيك بتقوى الله في كل حركة واعلم أن الله فوقكم.
مع وصوله إلى مدينة جسر الشغور في شهر حزيران عام 2011، وتسلمه مهمته بقيادة حاجز النهر، الأصعب والأخطر والقائم وسط المدينة، فوق جسر العاصي، بدأ يخطط للتواصل مع الثوار، كون والده لم يعطه الإذن بالانشقاق آنذاك، طالبا منه التريث لحين ترتيب وضع أشقائه وأولاد عمومته الذين يخدمون في الجيش والشرطة، فالانشقاق حينها تدفع العائلة جميعها تكلفته.
استعجل الشهيد تعرفه على الثوار وتم له ذلك عن طريق الملازم أول أحمد حمادة، وعرفه على أحد ثوار مدينة جسر الشغور وهو فادي شيخ عبد الله، والذي روى بدوره الجانب الذي عرفه من قصة شهيدنا، وعنه أنقلها وأقتبس.
طلب الشهيد من فادي الذي عرفته للتو أن يوصله إلى الحاجز، وفي الطريق فاجأه بعرض جريء، ومخيف بالنسبة لفادي كون تعارفهما قد بدأ للتو، ومثل هذه العروض كانت في ذلك الوقت تحتاج فائضا من الثقة.
عرض الشهيد نقل ٧٠٠ طلقة كلاشينكوف وقال: خذها للشباب، فرد فادي: أي شباب؟ وأجاب الشهيد: الثوار، وعلى الفور أجابه أنا لا أتعامل مع الإرهابيين، ويعلق فادي: لم أكن أعرف الرجل إلا منذ دقائق، ثقته الزائدة أربكتني، لكن بعد ذلك سألت عنه معارفه من أهل مدينته، وتبين أنه محل ثقة.
مرحلة العمل السري
شكلت تلك اللحظة انطلاقة للشهيد لبدء عمله الخطر والمبكر مع الثوار، عمل على تهريب ما توفر له من ذخيرة وقنابل، وكذلك تمرير المطلوبين عبر الحواجز، وحتى في المظاهرات كان يستغل إجازته الأسبوعية ويحرض في مدينته على التظاهر، ولم ينس أن يحضر معه أيضاً الذخائر إلى منزله تحضيراً للحظة انشقاقه التي تخمرت وخصوصاً بعد لجوء النظام إلى العنف المفرط وحسمه أمر مواجه الناس عسكرياً.
وكان في كل مرة يخطط الشهيد للانشقاق يطلب منه ثوار جسر الشغور الذين على تواصل معه التريث لأن بقاءه في مكانه وعمله السري فيه فائدة أكبر، وكان يرضخ لهذه الرجاءات ويحز في نفسه فكرة أن يُقتل وهو بين صفوف المجرمين من قوات النظام.
الانشقاق
في نهاية عام 2011 انشق زميله وابن منطقته الملازم أول مرشد الخالد وطلب المساعدة من أحمد للوصول إلى جبل شحشبو حيث ينتظره بعض زملائه، لم يتردد الشهيد بمساعدته وأوصله وبدأ التنسيق والتعاون وإيصال الذخيرة إلى الثوار هناك وإلى جبل الزاوية، دون أن يعرف أحد هناك أنه ضابط لا يزال قائماً على رأس عمله.
مغامراته تلك المحفوفة بمخاطرة أمنية عالية إلى حد وصفها بالمغامرات المجنونة من قبل الدائرة الضيقة حوله لا يمكن حصرها، وهو ما زاد من فرص انكشاف أمره، وهنا لم يعد الانشقاق خياراً، فتواصل مع الملازم أول مرشد الخالد، واتفقا على خطة الانشقاق وتوزعا الأدوار بين حواجز النظام وحواجز الثوار.
استقل الشهيد سيارة زعيم الشبيحة في مدينة جسر الشغور وجلب معه سلاحه ودرعه وكمية من الذخيرة، كان ذلك في بداية شهر شباط 2012، حيث اتسعت رقعة المظاهرات، والاحتجاجات في محافظة حلب، ولكن سطوة الأجهزة الأمنية والشبيحة كانت لاتزال قوية، والمناطق تحت سيطرة قوات النظام، فعمد كما فعل الكثير من الضباط المنشقين إلى ادعاء أنه مخطوف، وقام الثوار بتصوير تمثيلية خطفه وطلب الفدية من أهله ومن النظام، مثل تلك التمثيليات فعلها الكثير من الضباط المنشقين خشية على مصير عائلاتهم وذويهم.
الكفاح المسلح
في الثاني عشر من شهر شباط، أي بعد أيام قليلة من انشقاقه، أعلن رفقة ابن مدينة الرستن الملازم أول عمار سعد الدين، والملازم أول مرشد الخالد، وعدد كبير من الثوار، عن تشكيل كتيبة قذائف الحق.
طلب الشهيد من شقيقه عامر، الإعلامي الجسور، الدعوة لمظاهرة في مدينة الأتارب، وبالفعل صدحت مآذن المساجد بالدعوة إلى المظاهرة بعد صلاة المغرب بحضور الجيش الحر، حيث كان لاسم الجيش الحر حينها وقعاً كبيراً في نفوس الناس، كانت المظاهرة الأكبر على الاطلاق التي شهدتها المدينة.
وعلى مقربة من أفراد الأمن الموجودين في مبنى مديرية المنطقة، الذين كانوا في حالة من الذهول والصدمة، لم يتجرأ أي منهم الاقتراب، أعلن الضباط انشقاقهم عن الجيش القاتل، محمولين على الأكتاف في عرس ثوري لم تشهد له المنطقة مثيلاً من قبل، بكى فيه الناس هاتفين بحياة أولئك الأبطال، يحذوهم الأمل بأن الجيش الحر هو المخلص، والحامي.
ساحات الوغى
بدأ الشهيد أحمد الفج عمله العسكري بعد يومين فقط من الانشقاق بضرب الرتل العسكري لقوات النظام الذي كان ينوي الانسحاب من حاجز مفرق قرية التوامة إلى الأتارب للتنكيل بأهلها، وكان السلاح المتوفر لمجموعة الشهيد حينها سبعة بنادق كلاشنكوف وبضع بواريد صيد (بمبكشن).
العمل العسكري الأول ذلك دفع النظام إلى الجنون وتجلى ذلك بإرساله أرتالاً كبيرة من أفراد الأمن إلا أن الأهالي تصدوا لهم، ودارت رحى معركة ضارية كانت عمليا بداية الصراع المسلح في المنطقة.
من النقاط التي تستحق أن يتوقف عندها المرء، أن مثلاً والدة الشهيد الفج ساهمت خلال تصدي الأهلي لقطعان الأمن والشبيحة، حيث كانت تساهم في صناعة قنابل المولوتوف، وكذلك زوجته التي انحازت إلى صف الثورة والثوار، طلّاب الحرية، وهو ما جبّ عليها غضب والدها العميد في جيش النظام.
في تلك المعركة الماجدة، قتل عدد كبير من أفراد الأمن بينهم العميد في المخابرات العسكرية عصام إبراهيم، وارتقى كذلك سبعة من أبناء البلدة شهداء بينهم عبد اللطيف الفج، شقيق الشهيد أحمد الفج، يومها هدهد والده الأم وقال لها: لماذا تبكين، هذا هو قدر الأبطال.
تعددت الميادين التي عرفت شهيدنا الفج، ولم يكن يهدأ، يتنقل هنا وهناك، يؤلم النظام كيفما تأتى له ذلك، وحينها قرر الشهيد أحمد الفج إخراج الثوار باتجاه بلدة كفر كرمين، حيث اتخذ من الحرش المطل على الطريق المؤدي إلى معبر باب الهوى معسكراً لكتيبته.
ولعل من أبرز العمليات في تلك المرحلة، ما خطط له مع العقيد محمد رزوق ومجموعة من الضباط المنشقين، لإنجاز عملية تحرير معبر باب الهوى، وكان له في ذلك دوراً كبيراً، تلاها صد رتل كبير لقوات النظام كان يتجه من الفوج ٤٦ إلى معبر باب الهوى من أجل المؤازرة، وكانت خطته تقتضي بنصب كمين عند الممر الإجباري في حرش كفر كرمين، وفعلاً أفلحت خطته بتدمير الرتل كاملاً واغتنام ما بحوزته من أسلحة وذخائر.
وإلى مسقط الرأس يهوي الفؤاد
بدأ الشهيد أحمد الفج التخطيط لتحرير مسقط رأسه، مدينة الأتارب، وعُرف عنه أنه لا يخطط إن لم يستطلع رؤية الميدان بنفسه، فأرسل حينها سراً في طلب امرأة عجوز
بقيت في المدينة تقطن بالقرب من مديرية المنطقة والبلدية حيث تمركز قوات النظام، ولا يعلم أحد على ماذا اتفق معها.
في اليوم التالي ارتدى الشهيد الفج (ملاية) ورافق المرأة العجوز ودخل معها إلى منزلها، وتظاهرا بنشر الغسيل على سطح المنزل، وبعيون الصقر الذي سينقض على فريسته حدد أماكن تموضع قوات النظام وانتشارها.
وفي الثامن والعشرين من شهر أيار عام 2012، شن هجومه برفقة ثلة من الأبطال، في معركة مازال الجميع يتحدث عنها، وقد استمرت ثلاثة أيام، تكبدت فيها قوات النظام خسائر كبيرة، وارتقى ثلة من الأبطال بينهم النقيب مصطفى عبد الرزاق، والنقيب محمد اليوسف، وأصيب الشهيد أحمد الفج بطلقتين في الكتف، أُسعف على إثرها إلى مستشفى الدانا، ولكنه لم يلقي خلال معالجته جهاز الاتصال اللاسلكي من يده، وظل يدير المعركة، مستعجلاً الأطباء تضميد جراحه، وقفل راجعاً إلى المعركة مستكملاً إياها حتى تحقق الهدف وحُررت مدينة الأتارب.
وفور تحرير الأتارب أعلن الشهيد الفج تشكيل لواء شهداء الأتارب، تخليداً ووفاءً لأرواح الشهداء، ثم عمد على الفور إلى حماية دائرة النفوس والسجليْن المدني والعقاري، ونقل محتوياتهما إلى مكان آمن لحفظ حقوق الناس.
وكان للشهيد حينها أسرى من قوات النظام بينهم ضباط، لن أنس ما حييت حين زرته في بلدة الجينة، كيف كان يعامل الأسرى، بشيم الأبطال وقيم القائد العسكري، كان يرفض أي إساءة أو أذية لهم.
لم يهدأ البطل بعد تحرير مدينته، وكان له سهم في كثير من المعارك، مشاركة أو قيادة، ولعلي أذكر منها معركة التصدي لقوات النظام التي حاولت اقتحام مدينة عندان في العاشر من شهر حزيران، انتقل بعدها مباشرة للمشاركة في معركة تحرير مدينة اعزاز برفقة النقيب أحمد الحلو والملازم أول محمد طلاس (أبو الجولان).
المعركة الأخيرة
وضع الشهيد أحمد الفج في نصب عينه تحرير مدرسة الشرطة، ولأجل هذه الغاية جرى تنسيق بينه وبين مدير المدرسة العميد بسام علولو، ومدير مكتبه وسام يعقوب، الذي استطاع إدخال جهاز اتصال لاسلكي إلى داخل المدرسة للتواصل، وكان التواصل أيضاً مع النقيب عبد المعين محمود، وعدد من صف الضباط المدربِين في المدرسة.
تحدد موعد المعركة يوم الجمعة الأول من شهر رمضان الموافق العشرين من شهر تموز 2012، في الوقت الذي يغادر فيه أفراد المهام الخاصة المدرسة لقمع المظاهرات في مدينة حلب. وجرى اشغالهم إلى حد أقصى فعلى سبيل المثال أرسل الملازم مرشد الخالد إلى حي صلاح الدين، فيما كلف الملازم أول أحمد حمادة بقصف الفوج 46 بقذائف الهاون للتمويه عن وجهة العملية.
كانت الخطة تقضي بإدخال عدد قليل جداً من الثوار بسيارة العميد إلى المدرسة، وخلال الاجتماع مع المناوبين يتم اعتقالهم، وتسليم المدرسة، أي كانت الخطة في مجملها تقضي بعملية استلام للمدرسة، بأقل الخسائر.
في ذلك اليوم، ولأول مرة منذ انشقاقه ارتدى الشهيد بزته العسكرية، وقلده والده رتبته، وصلى الجمعة في بلدة السحارة وكان معهم العميد بسام.
وبعد توزيع المهام القتالية على قادة المجموعة، وفي تلك اللحظة طلب ولأول مرة من شقيقه الإعلامي عامر التقاط صور تذكارية مع رفاق السلاح، كانت الأجواء وفق ما رُوي لي مشحونة بمشاعر عصية عن الوصف، وكأنها صور وداع.
وحدث ما لم يكن متوقعاً، وعند وصول المجموعات إلى محيط المدرسة أبلغهم العميد بسام علولو أن أمره قد انكشف وبالتالي لن يستطيع تنفيذ الخطة المتفق عليها، إلا أن الشهيد اضطر لخطة بديلة وتقرر الهجوم.
“شهيدنا لا ما مات “
أحد عناصر المجموعة واسمه عبد المنعم بركات تقدم الجميع عبر ثغرة مكشوفة وهم دخولها، فشده من الخلف الشهيد أحمد الفج وقال له صارخا: “مليون مرة قلت ما حدا بمشي قدامي، أنا راح أعبر وإنتوا خلفي”، وما أن انطلق حتى أصابته رصاصة قناص في القلب، فاستشهد، وإلى جانبه استشهد أيضاً ثلة من رفاقه منهم، عبد الناصر بركات، مضر عكوش، وركض باتجاهه شقيقه عامر فأصيب أيضاً وتكوم فوقه.
كانت كثافة النيران هائلة، لم يستطع أي أحد الوصول إليه، وعندما سمع سائق سيارة الإسعاف جمال كسحة بأن قائده وحبيبه أحمد الفج أصيب اندفع إليه لإسعافه إلا أنه رزق بالشهادة مع من أحب.
أحد عناصر النظام أبلغ العميد فراس عباس، قائد كتيبة الأمن المركزي، بأنهم تمكنوا من أحمد الفج، فما كان من الأخير إلا أن أصدر أوامره بإطلاق سيل من الرصاص المتفجر على جثمان الشهيد تشفياً لكثرة ما أوجعهم، وبعد ذلك سُحبت جثته، وبجهود من خاله أحمد نديم سليمان وكان أمين سر محافظة حلب حيث جرى تهريب جثمانه بمساعدة امرأة شيعية من مدينة الفوعة كانت تسكن في الأتارب، وجُلب الشهيد إلى حيث يجب، ودفن تحت تراب مدينته.
تحية لتلك الأرواح العالية النقية التي أبت الجور والظلم فوقفت كالطود الشامخ وارتقت إلى بارئها تاركةً إرثاً كبيراً، يحكي قصة معمدة بالدماء، عمادها التوق إلى الكرامة، رحم الله روح شهيدنا الفج، وأسكنه فسيح جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
تلفزيون سوريا
——————————
سوريا وتجاوز ثنائيّة الأكثريّة والأقليّة!/ حسن المصطفى
سوريا اليوم في حاجة لأن تتجاوز فكرة ثنائية: العربي والكردي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي، وألّا تنظر إلى الدروز والعلويين كأقليات، بل على الدولة الوطنية أن تكون حاضنة للجميع.
تحديث 17 أذار 2025er
لا يزالُ مفهوم “المواطنة” ملتبساً في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، كون هذه المجتمعات لا تزال في حالة هجينة، لم تنتقل فيها تماماً إلى الدولة الوطنية الحديثة الناجزة، رغم أن عدداً منها مرت عليه عقود طويلة على الاستقلال، وجزء رئيس من هذا الخلل يعود إلى المنظومة المعرفية الهشة التي شُيدت عليها الأنظمة أو السياسات.
ثمة مفاهيم فلسفية أساسية تدخل في حقل “الفلسفة السياسية”، وهي بمثابة القاعدة الصلبة التي تشيد عليها مؤسسات الدولة، وتوزع وتفصل من خلالها السلطات، وتنتظم العلاقة بين الحكومة والمواطنين، وأيضاً تُشكل الإطار المفاهيمي للدستور.
“المواطنة الشاملة” هي واحدة من أهم تلك المفاهيم، وهي إذ تحضرُ اليوم في الفضاء العربي – الإسلامي، فهي لا تُطل بوصفها قيمة ترفية، بل ركن ركين من دونه لا يمكن لمدماك الدولة الوطنية أن يستقر.
من تابع الأحداث الدموية والمواجهات العسكرية وعمليات التمرد والقتل والانتقام التي جرت في الساحل السوري، أخيراً، وراح ضحيتها أبرياء ومدنيون كثر – من دون الدخول في الجدل السياسي والغرق في وحول الإشاعات والمعلومات المضللة التي تنتشر في شبكات التواصل الاجتماعي – سيجد أن ما جرى يشير إلى قصور في فهم معنى “المواطنة” وإدراك كنهِها لدى شريحة واسعة من السياسيين والجمهور العام!
“المواطنة الشاملة” تعني في أبسط صورها أن الأفراد والجماعات في أي دولة، هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأنه لا يجوز التمييز بينهم لأسباب عرقية أو دينية أو مناطقية، وهم بذلك لهم الحق في الحصول على فرصٍ متساوية، سواء في التعليم أم في العمل أم في الطبابة وسواها، وأيضاً يستطيعون التعبير عن ذواتهم الخاصة أو الجمعية، بشكل حرٍ ومن دون إكراهات.
هذا يقودنا بالتالي إلى أمرٍ يتجاوز المفهوم السائد لـ”الحقوق”، والقائم على تصورٍ منقوصٍ لـ”الديموقراطية” التي يتصور البعض أنها تعني حكم الأكثرية، وبالتالي يحق لهذه الأكثرية أن تضع ما تشاء من قوانين طالما كان ذلك وفق الإجراءات المنصوص عليها، وبقوة تصويت الأغلبية وتأييدها!
هذه النزعة فيها شيء من الاستعلاء وأيضاً يشوب ممارستها خللٌ كبير، لأنها سوف تنتهك مفهوم “المواطنة الشاملة” الذي يتجاوز التقسيمات القديمة: أكثرية وأقلية.
هذا التقسيم، يخلق تقابلاً يدفع نحو الصراع، وهو يتجاوز المنافسة السياسية إلى المناكفة وفرض ثقافة أعلى على أخرى أدنى!
وعليه، من الممكن أن يقود تقابلُ “الأكثرية” و”الأقلية” إلى تعميق القلق الاجتماعي وزرع بذور الريبة والشك المتبادل.
إن المجتمعات الحديثة في أوروبا على سبيل المثال، بنيت على مفهوم “المواطنة الشاملة”، وبالتالي تم تجاوز الثنائيات المتصارعة، لأن الجميع مواطنون، لهم هوياتهم الفرعية الخاصة، ولهم الحق في إبراز ثقافاتهم ومعتقداتهم، إنما ليس هنالك حق لأكثرية أن تضطهد أكثرية، ولا يمكن للأقلية أيضاً أن تتمرد على الأغلبية، لأن “المواطنة” تجعل المكونات المتجاورة محكومة بـ”القانون العادل” وتحت سقف الدولة المدنية.
سوريا اليوم بحاجة لأن تتجاوز فكرة ثنائية: العربي والكردي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي، وأن لا تنظر إلى الدروز والعلويين كأقليات، بل على الدولة الوطنية أن تكون حاضنة للجميع، قادرة على تقديم خطاب وطني ترى فيه كل هذه المكونات ذاتها من دون انتقاص أو تضخم، ويفتح الطريق أمام بناء الدولة الحديثة وتنميتها.
هنالك واقعٌ صعب ومعقد في مجتمع عانى من حكم استبدادي طوال عقود خلت، وهو لا يزال لم يتداو من جراح الأحداث الدامية ما بعد عام 2011 وما جرته من مجازر وحروب أهلية؛ إلا أن هذا الإرث الثقيل من الوجع والعذابات يجب أن يكون حافزاً لبناء “مواطنة حقيقية” لا صورية، وأن يدرك الجميع أن الدم والثأر والكراهية والانتقام، كل هذه هي وصفات جاهزة للخراب الذي سيكون الجميع فيه خاسرون.
هذا الوعي المفاهيمي لا يمكن أن يحصل بين عشية وضحاها، بل لا بد من أن تبادر الدولة السورية والمجتمع المدني والقيادات الروحية والسياسية والمثقفين إلى بثِ روح وطنية واعية، تتسامى على الجراح، وتتجاوز الثنائيات المتجادلة والمتصادمة، وتذهب إلى مشاركة حقيقية في بناء الدولة وفق مشاريع عملية طموحة؛ و”المواطنة الشاملة” هي مفتاح رئيس لهذا التحول الذي ينشده السوريون وتتمناه لهم الدول والشعوب الصديقة.
النهار العربي
—————————-
بعد 14 عامًا على صرخة الحرية.. سوريا بين “ممالك الطوائف” والدولة الموحدة/ وائل قيس
16 مارس 2025
مع نهاية العام الماضي، طوت سوريا صفحة قاتمة من تاريخها الحديث، بانهيار حكم آل الأسد الذي استمر لأكثر من نصف قرن. فرَّ الرئيس المخلوع بشار الأسد إلى موسكو في مشهد يعكس سقوط نظامه، تاركًا خلفه بلدًا ممزقًا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا.
تفكك النسيج الاجتماعي الذي لطالما سعى النظام السابق إلى استغلاله كأداة للسيطرة، وبرزت هشاشته بوضوح في المجازر التي شهدتها مناطق الساحل السوري، حيث ارتُكبت فظائع راح ضحيتها عناصر من الأمن العام ومدنيين من الطائفة العلوية على يد أطراف متعددة، تتحمل مسؤوليتها الحكومة الانتقالية التي فشلت في التعامل مع دعوات الميليشيات الموالية للأسد إلى انفصال الساحل عن الخارطة السورية.
اليوم، تحل الذكرى السنوية الرابعة عشرة للصرخات الأولى التي صدحت مطالبةً بالحرية في قلب العاصمة دمشق، وهي بهذه الصرخة كانت تدرك أنها أطلقت مسارًا طويلًا نحو إعادة بناء الدولة السورية التي طالما طمح إليها السوريون، إلا أن التحديات أمام السلطات الجديدة لا تزال كبيرة.
يأتي في مقدمة هذه الأولويات استعادة ثقة السوريين، وهي مسألة تضع السلطات الجديدة في موضع تساؤلات إشكالية، لن يجيب عنها الإعلان الدستوري بقدر ما سيجيب عليها تعاملها مع القضايا الحساسة، خاصةً في ظل سلسلة البيانات الدولية التي صدرت مؤخرًا منددةً بالعنف غير المسبوق الذي شهدته البلاد.
وبعد أكثر من عقد على دخول البلاد في حرب مزّقتها النزعات الفصائلية والميليشياوية، بات تفكك النسيج الاجتماعي أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، ليكشف عن انقسام حاد في سوريا التي تحولت إلى ما يشبه “ممالك الطوائف”. التطورات الأخيرة التي شهدتها البلاد خلال الأيام الماضية أكدت هذه الحقيقة، مما يفرض على السلطات الجديدة مسؤولية كبيرة في إعادة توحيد المجتمع وتعزيز سيادة القانون.
يتطلب ذلك التعامل مع ملف العدالة الانتقالية بجدية تُثبت للسوريين أن الحكومة قادرة على محاسبة جميع المتورطين في الجرائم، دون استثناء، بمن فيهم المقربون منها. كما يستوجب تعزيز دور الجمعيات المدنية إلى جانب المؤسسات الرسمية، إذ لا يمكن إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع، دون تأكيد أهمية دور المجتمع المدني في هذه المرحلة الضبابية التي تمر بها البلاد.
كما أثبتت الأحداث الدامية التي شهدها الساحل السوري أن البلاد بحاجة ماسة إلى جيش وطني موحد، قادر على ضمان سلامة المجتمع وحماية السيادة الوطنية. يتطلب ذلك من السلطات الجديدة إعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس وطنية وعقائدية، تُدين بولائها للخارطة السورية، بعيدًا عن النزعات الفصائلية والولاءات الشخصية التي فرضها زعماء الميليشيات المسلحة خلال سنوات الحرب.
كذلك، لا يمكن تحقيق هذا الهدف دون معالجة جذرية لملف المقاتلين الأجانب، الذين لعبوا دورًا مدمرًا في البلاد، باستنزافهم الدم السوري لأكثر من عقد. إن بناء جيش ولاؤه للوطن، خارج صندوق الانتماءات الدينية أو الأيديولوجية، هو الضمانة الوحيدة لمنع المزيد من إراقة الدماء، والحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها في المرحلة القادمة.
وبالمثل، تواجه سوريا أحد أكبر التحديات في تاريخها الحديث، مع استمرار توغل الاحتلال الإسرائيلي في جنوب البلاد، وسعيه لفرض أمر واقع يمتد حتى مسافة قريبة من العاصمة دمشق، إن لم يكن في قلبها. في الوقت نفسه، يعيش أبناء الساحل تحت وطأة مخاوف متزايدة من تكرار المجازر، وسط تعتيم رسمي، سواء كان مقصودًا أو غير مقصود، فيما تحاول الماكينة الإعلامية احتواء تداعياتها.
هذا الواقع يفرض على السلطات السورية الجديدة اتخاذ خطوات ملموسة لضمان حقوق جميع المكونات العرقية والدينية، ليس فقط من خلال التصريحات والمقاطع المصورة، غير المقنعة للرأي العام، بل عبر إجراءات حقيقية وصادقة تعزز ثقة المواطنين، ومن هنا تبرز ضرورة انعكاس صدق نوايا السلطات الحاكمة في تحقيق العدالة والمساواة، مما يساعد تدريجيًا في إعادة ترميم الوحدة الوطنية، والحفاظ على وحدة الجغرافية السورية، التي تعرضت لتآكل مستمر لأكثر من عقد من الزمن.
كما برز خلال اليومين الماضيين بوضوح حالة الشقاق السوري بعد صدور الإعلان الدستوري، الذي جاء ملبيًا لمطامح فئة محددة من السوريين، بينما تجاهل مخاوف الغالبية العظمى، في وقت تمر فيه البلاد بمرحلة انتقال سياسي حساسة، تجعلها ساحة مفتوحة للتجاذبات الإقليمية والدولية.
هذا الوضع يفرض على السلطات الجديدة إعادة النظر في بنود الإعلان الدستوري، لضمان بناء نظام سياسي شامل يعكس تنوّع المجتمع السوري، ويرتكز على تعزيز الديمقراطية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
مثل هذه الخطوات تشكل ركائز أساسية لتحقيق الاستقرار السياسي، لكنه لا يزال بعيد المنال مقارنةً بالواقع المضطرب على الأرض، وحملات التجييش الطائفي والنكران للمجزرة وحفلات الشتائم المتنقلة على منصات التواصل الاجتماعي.
وأمام كل هذه المآسي والمصائب والعجائب التي جعلت من الدم السوري رخيصًا، تبرز العقوبات الغربية كعامل إضافي يزيد من معاناة السوريين. ورغم أن هذه العقوبات تُسوق دوليًا على أنها أداة للضغط على الأنظمة الشمولية، إلا أن الواقع التاريخي أثبت أن تأثير الأول يكون على المجتمعات المحلية، حيثُ تؤكد التقارير الدولية أن 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، بينما البلاد عالقة بانتظار فرج اقتصادي قد يفتح الباب أمام إعادة الإعمار، وكم تبدو هذه الـ”قد” حتى الآن بعيدة المنال.
لا شك أن الدمار واسع النطاق في البنية التحتية هو أحد أكبر التحديات التي خلفتها سنوات الحرب، لكن إعادة الإعمار لا تقتصر على إعادة بناء المساكن وتحديث المدن، بل تحتاج إلى استثمارات ضخمة، وتعاون دولي، وبيئة استثمارية مستقرة، غير محاصرة بالعقوبات الاقتصادية التي تعرقل أي جهود حقيقية للنهوض بالبلاد.
إلى جانب ذلك، لا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة دون إصلاح جذري للسياسات الاقتصادية، التي لم تثبت فاعليتها، وخاصةً تلك القائمة على اقتصاد السوق الحر، بعدما أثبتت إضرارها بالفئات المتوسطة بدلًا من دعمها منذ ما قبل عام 2011، مما يجعلها عائقًا حقيقيًا أمام التنمية المرجوة.
الترا سوريا
———————————
كيف سيفرض الشّرع الأمن بدون ترسانة أو جيش بعقيدة عسكرية؟
الاثنين 17 مارس 2025
تواجه الإدارة السورية الجديدة، برئاسة أحمد الشرع، تحديات أمنيةً كبرى، ويمكن تلخيصها في ثالوث صعب، يضعها في موقف لا تُحسد عليه.
الضلع الأول من هذا المثلث، هو عدم وجود جيش نظامي منضبط تحت القيادة العسكرية الجديدة، وافتقاد الإدارة السورية الجديدة هذا النوع من الضباط وكبار الخبرات العسكرية القادرين على التحكم في الجنود، فمعظم المنضوين تحت ألوية القوات الأمنية (الجيش والشرطة)، اليوم، هم من أبناء فصائل المعارضة المسلّحة سابقاً، ولا يمتلكون العقيدة العسكرية القائمة على الهرمية، والالتزام الحرفي بالأوامر.
أما الضلع الثاني، فهو عدم وجود ترسانة يمكن تسميتها قوة عسكرية، فمنذ اللحظة الأولى لهروب بشار الأسد، ركزت إسرائيل جهودها على تدمير كل ما طالته طائراتها الحربية من معدات ومواقع عسكرية، كان يمكن أن ترثها الإدارة السورية الجديدة من النظام السابق.
والضلع الثالث والأخير، هو نوع العقوبات المفروضة على سوريا والتي تمنع استيراد الأسلحة وصيانتها.
وفي ظلّ هذه المعطيات، تطرأ أسئلة ملحّة عما إذا كانت الإدارة السورية الجديدة “تخاطر” بالانتقاص من الديمقراطية الكاملة التي يطالب بها السوريون، كما حدث في الإعلان الدستوري؟ وهل تتحمل سوريا اليوم مزيداً من الانتفاضات الأهلية الرافضة لشكل الحكم؟ وماذا بعد استنفاد أسلحتها “الرسمية” التي ورثتها عن الفصائل في اشتباكات هنا وهناك لقمع الحركات الانفصالية؟
في هذا التقرير يحاول رصيف22 الإجابة عن هذه الأسئلة.
كيف تحكم بلداً بلا جيش؟
أحداث “فتنة الساحل” التي شهدت اشتباكات عنيفةً بين قوات الأمن وبعض أبناء الطائفة العلوية، وراح ضحيتها أكثر من ألف سوري معظمهم من العلويين، ومن قبلها أحداث “جرمانا” في الجنوب السوري والاشتباكات بين فصائل درزية مسلحة وقوات الأمن، بالإضافة إلى إقصاء المكون الكردي عن المؤتمر الوطني، ولاحقا اتهام الأكراد الإدارة السورية بالانقلاب على اتفاق الدمج بالإعلان الدستوري، هذه المعطيات كلها قد تضع الحكومة السورية الجديدة في مواجهة مباشرة مع من لا يؤمنون بقدرتها على الحكم العادل، بداية من تحقيق العدالة الانتقالية، مروراً بتمثيل الأقليات والتعددية، ووصولًا إلى تداول السلطة. ناهيك عن مخاوف فئوية أخرى من حملات انتقامية على أساس طائفي ممن يحملون السلاح باسم الدولة، ولا يلتزمون بأوامر الإدارة.
بحسب أهم مراكز الدراسات في العالم، هناك 4 سيناريوهات محتملة فقط أمام سوريا، إما نموذج طالبان والحكم الديني. أو النموذج العراقي والحكومات المتعددة. أو النموذج الكونفدرالي الأمني وانتشار الفصائل المسلحة. وأخيراً نموذج الدولة المدنية الديمقراطية، وهي الأقل كلفة، والسيناريو الوحيد الذي يضمن عدم تقسيم البلاد
فبعد سقوط نظام بشار الأسد، في كانون الأول/ ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلةً انتقاليةً مضطربةً تجمع بين الآمال والتحديات، وهي منهكة أصلاً إثر حرب أهلية دامت 13 عاماً، وأسفرت عن مقتل ما يزيد على 350 ألف شخص، وتشريد الملايين داخل سوريا وخارجها.
إلى ذلك، تعاني البلاد من حالة تُسمّى “موت الدولة”، أي انهيار مؤسسات الحكم، وعدم قدرتها على الاضطلاع بمسؤولياتها وتقديم الخدمات التي تأسست بهدفها، وقد تسارع هذا الانهيار خلال السنوات الأخيرة من حكم الأسد، نتيجة الفساد وسوء الإدارة والحرب.
الأوضاع السابقة تفرض على الشرع أن يمسك العصا من منتصفها، وينصف الأقليات ليرضي أبناءهم كسوريين، وبناءً عليه يرضي الجهات الخارجية التي تضعه تحت المجهر، لا أن يمسكها من طرفها، فارضاً فكرة الدولة السنّية، أو للدقة الانتقال بسوريا البعثية إلى الدولة الأموية الجديدة، كما أشار في أحد خطاباته سابقاً.
فبحسب محللين، لا خيار أمام الشرع إلا الديمقراطية. فمخزونه القليل من الأسلحة سينفد قريباً، وإذا بقي مصرّاً على إقصاء الأقليات كما قيل عن المؤتمر الوطني والإعلان الدستوري، فلن يتمكن بعد فترة ليست طويلةً من مواجهة الحركات الانفصالية. لذا فالأولى له أن يجمع حوله السوريين كلهم، دون تفرقة، ولا سيّما أن الكثير من السلاح لا يزال منتشراً في البلاد.
سيناريوهات المستقبل السوري
في نظرة سريعة على المواقع المختصة في الشؤون الإستراتيجية والنبوءات السياسية/ العسكرية في العالم، وهي “معهد كارنيغي”، و”شاتام هاوس” و”إستراتيجكس”، يمكن اختصار سيناريوهات المستقبل السوري في عدد محدود من النماذج، وهي مبنية عموماً على المعطيات الواقعية، والتجارب السابقة الشبيهة، وأبرزها:
أولاً: نموذج “طالبان” في أفغانستان
في هذا السيناريو، تُحكم سوريا وفق نظام إسلامي صارم تسيطر فيه الجماعات المتشددة على الحكم، وتُستبدل القوانين المدنية بالشريعة الإسلامية، ما يؤدي إلى:
تهميش المكوّنات غير الإسلامية وغير السنّية.
عزلة دولية وصعوبة في بناء علاقات دبلوماسية مع الدول الغربية والعربية المعتدلة.
تصاعد المواجهات الداخلية نتيجة رفض بعض المكوّنات لهذا النموذج.
تشير التحليلات إلى أنّ بعض الفصائل المعارضة المسلّحة في سوريا قد تسعى إلى فرض نظام حكم شرعي مستوحى من طالبان، خاصةً في ظلّ غياب رؤية موحدة للحكم الجديد. وهذا السيناريو من المحتمل تحقّقه في حال سيطرة الجماعات السلفية الجهادية على دمشق دون وجود قوة معارضة موازية.
ثانياً: حكومات متعددة (النموذج العراقي)
في هذا السيناريو، تحكم سوريا حكومة مركزية معترف بها دولياً، ولكن مع وجود حكومات إقليمية ذات صلاحيات واسعة في السياسة الداخلية وإدارة الموارد، مثل كردستان العراق.
يتم توزيع السلطات بين المكوّنات المختلفة وفق محاصصة طائفية وإثنية.
السياسة الخارجية تبقى تحت سلطة الحكومة المركزية، بينما يتمتع كل إقليم بقدر من الاستقلالية.
يتيح هذا النموذج تمثيلاً أوسع للأقليات، لكنه يحمل مخاطر تفكّك السلطة المركزية.
وبرغم أنه بات متأرجحاً، لكن اتفاق الدمج الأخير بين قوات سوريا الديمقراطية الكردية والحكومة المؤقتة، يشير إلى إمكانية تطبيق هذا النموذج، حيث سيتم دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الدولة مع منحها بعض الاستقلال الذاتي. الولايات المتحدة تدعم هذا النموذج باعتباره حلاً وسطياً يحافظ على التماسك السوري دون السماح بظهور نظام شمولي جديد.
يعتقد كثير من المحللين أنّ جزءاً لا بأس به من الدعم الذي تحظى به الإدارة الحالية خارجياً وداخلياً، يأتي نتيجة غياب بدائل جاهزة للحكم، ولرغبة الجميع في تفادي فراغ السلطة.
ثالثاً: النموذج الكونفدرالي الأمني
في هذا السيناريو، تتحول سوريا إلى دولة كونفدرالية غير مستقرّة، حيث تتحكم الفصائل المسلحة المختلفة، المدعومة من قوى إقليمية ودولية، في مناطقها الخاصة.
كل طائفة أو مجموعة عرقية تمتلك فصيلاً مسلّحاً يحمي مصالحها.
لا توجد سلطة مركزية قوية قادرة على فرض قراراتها في جميع أنحاء البلاد.
يتم تقسيم البلاد فعلياً إلى مناطق نفوذ تديرها دول داعمة، مثل إيران، تركيا، وروسيا.
على الرغم من أنّ تصريحاتها لا تقول ذلك، لكن الدراسات تشير بوضوح إلى أنّ روسيا تسعى للحفاظ على نفوذها العسكري في سوريا حتى بعد سقوط نظام الأسد، وأنها في مرحلة “هدوء تكتيكي”، لكنها لن تتخلى عن قواعدها العسكرية في سوريا، ما قد يدفعها إلى دعم كيانات مسلحة تضمن استمرار مصالحها. أما إسرائيل، فتراقب المشهد وتسعى إلى منع صعود قوى تهدد أمنها، ما قد يؤدي إلى تدخلات عسكرية مستمرّة منها، أو إلى نجاح مساعيها في تسليح الدروز، وفرض الأمر الواقع بوجود سلطة حكم محلية درزية.
رابعاً: الدولة المدنية الديمقراطية
يُعدّ هذا هو السيناريو الأكثر استقراراً على المدى الطويل، حيث يتم بناء نظام ديمقراطي تعددي قائم على:
تداول السلطة وفق انتخابات حرّة ونزيهة.
احترام التعددية العرقية والدينية وضمان حقوق الأقليات.
إصلاح مؤسسات الدولة وإعادة هيكلتها بطريقة تضمن الحوكمة الرشيدة.
يرى خبراء أنّ هذا النموذج هو الضمان الوحيد لعدم تقسيم سوريا، حيث يُدخل الجميع في العملية السياسية ويمنع استئثار فصيل واحد أو طائفة معينة بالسلطة. لكنه يواجه عقبات عدة، كرفضه من قبل الفصائل المسلحة التي انضوت تحت لواء أحمد الشرع، وعدم قدرة الأخير على مخالفتهم لأنهم “الحامية الأساسية” لبقائه في الحكم اليوم، فالـ”منتصر يريد ثمن انتصاره”، والعقبة الأخرى أمام هذا السيناريو هي معارضة بعض القوى الإقليمية لنظام ديمقراطي قوي في سوريا، خوفاً من تأثيره على سياساتهم الداخلية.
إلا أنّ أهم ما سيحسم السيناريوهات السابقة، هو “نوع” الدعم الذي سيحصل عليه كل طرف، وليس الدعم المعنوي أو الاقتصادي فحسب، بل العسكري بالأساس، فما هي الأدوات التي يملكها “الشرع” اليوم ليحسم أمر دولته الأموية، كما أسماها في أحد خطاباته؟ وهل لديه الترسانة العسكرية والولاء الكافيين للدخول في ثلاث معارك مع ثلاث أقليات سورية، أو على الأقل مع من يحاربون من أبنائها وباسمها؟
نهاية شهر العسل السوري
برغم أنّ رحيل النظام قوبل بارتياح وأمل من مختلف مكونات الشعب السوري -بما في ذلك بعض الموالين السابقين الذين سئموا من عجز الأسد عن حلّ الأزمات- لكن شهر العسل سرعان ما انتهى، وأدرك الجميع جسامة المهمة الملقاة على عاتق الإدارة الجديدة، والشعب على حد سواء، في إعادة بناء البلاد وتحقيق الاستقرار، والأهم في تمثيل جميع السوريين، والبدء بإجراءات العدالة الانتقالية لوضع حد للانفلات الأمني، والشعور بغياب العدالة.
بحسب تقرير لـ”أتنلانتك”، يعتقد كثير من المحللين أنّ جزءاً لا بأس به من الدعم الذي تحظى به الإدارة الحالية خارجياً وداخلياً، يأتي نتيجة غياب بدائل جاهزة للحكم، ورغبة الجميع في تفادي فراغ السلطة، وأنّ جزءاً كبيراً من كبح الشرع لقواته والفصائل التي انضوت تحت رايته، هو لغايات الحصول على الاعتراف الدولي، الأمر الذي يتركه مقيّداً، ومضطراً إلى التعامل وفق أسس عسكرية مختلفة كدولة، عن تلك التي تعامل بها كفصيل معارض قبيل سقوط النظام، وأهم هذه الأسس هي الالتزام بالقانون الدولي الإنساني في الحرب.
لكن، وحتى إن صحّت نظرية عدم وجود البدائل، فمخزون التسامح الذي يحظى به الشرع نظراً إلى الظروف الصعبة التي يعرفها الجميع، قد يبدأ في النفاد قريباً، ولا سيّما مع التحديات الهائلة في كسب ثقة السوريين، وتحقيق إنجازات ملموسة لتحسين الأوضاع المعيشية وإعادة الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والعلاج والتعليم وفرص العمل.
قنبلة موقوتة: عقيدة الجيش ليست عسكريةً
يبقى الوضع الأمني هشّاً برغم النجاح الشكلي، حتى الآن على الأقلّ، في تفادي الفوضى الشاملة التي رافقت انهيار أنظمة أخرى كالعراق وليبيا.
لا شكّ أنّ البلاد شهدت تحسناً نسبياً في البداية من ناحية السلم الأهلي، مقارنةً بما توقعه البعض، حيث انخفضت حدّة المعارك في معظم المناطق بعد سقوط النظام، لكن سوريا لا تزال مقسّمةً فعلياً إلى مناطق نفوذ عدة: القوات الكردية تسيطر على الشمال الشرقي الغني بالموارد، والفصائل الإسلامية والسنّية تدير معظم الغرب والجنوب، في حين تظهر بين وقت وآخر بعض جيوب المقاومة التابعة للنظام السابق في الساحل متمردةً على السلطة الجديدة.
في المجمل، تقف سوريا اليوم على مفترق طرق تاريخي: فإما أن تنجح “النخبة الحاكمة الجديدة” في إرساء حكم مستقرّ جامع لكل السوريين، وإما أن تنزلق البلاد إلى دوامة جديدة من الفوضى والصراع المسلح تحت ذرائع الانتقام الطائفي. فهل تدرك الإدارة الحالية أنّ أمامها فرصةً قصيرةً لكسب ثقة الشعب؟
يقول الكاتب العراقي علي بدر، في منشور له على فيسبوك: “المشكلة في سوريا هنا هي تأسيس جيش من جماعات غير نظامية (Guerrilla Warfare)، وهذه الجماعات إرهابية، ومارست الإرهاب لفترات طويلة. وفي الغالب تعتمد في عقيدتها العسكرية على الإعدامات الميدانية، واستهداف المدنيين، والقتل على الهوية. نراها كلها ملثمةً لأنّ أغلبها من الأجانب المطلوبين في دولهم، خطورة هذه الجماعات أنها لا تخضع لأوامر قيادات مركزية، ولا تسعى لتحقيق انتصار عسكري تقليدي، فهي تعمل على إطالة أمد الصراع عبر نشر الفوضى والرعب ونهب الممتلكات. في غياب أي التزام بالقوانين العسكرية أو الأخلاق الحربية”.
جزء من حلّ هذه المشكلة، اتفاق الدمج الذي وقّعته قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مع الإدارة السورية الجديدة، حيث يُفترض أن يكون لها دور مهم في رسم الهيكل العسكري القادم للدولة. وأكّد الناطق باسم قوات الشمال الديمقراطي، المنضوية في “قسد”، محمود حبيب، أنّ القوات الكردية ستلعب دوراً أساسياً في تشكيل الجيش السوري المستقبلي.
وأضاف حبيب، أنّ “قسد”، التي تمتلك هيكلاً قيادياً عسكرياً وخبرةً واسعةً في محاربة التنظيمات الإرهابية، ستكون عنصراً فاعلاً في ضبط الأمن داخل سوريا، سواء على الحدود أو في المناطق الحضرية. وأوضح أنّ التجربة القتالية الطويلة لهذه القوات ستشكل إضافةً نوعيةً للجيش السوري الجديد، عادّاً أنّ “قسد” ستعمل كقوة داعمة تعزز استقرار البلاد وتساهم في بناء جيش قوي قادر على حماية الدولة السورية في المستقبل، لكن هذا الأمر لن يتم عبر “تسليم أسلحتها”، بل عبر نقل خبراتها فحسب.
… وترسانة عسكرية مدمّرة
بالإضافة إلى أنّ السواد الأعظم من “الجيش” و”الأمن” في سوريا اليوم، لا يمتلكون عقيدةً الجيش النظامي، تبرز التحديات الأمنية التي ورثتها الإدارة الجديدة، وفي مقدمتها ضياع ترسانة الجيش السوري التي تراكمت على مدار عقود. فبُعيد إعلان سقوط النظام، سارعت إسرائيل إلى شنّ حملة جوية غير مسبوقة “لتدمير القدرات العسكرية المتبقية للجيش السوري ومنع وقوع الأسلحة في أيدي أطراف معادية”، كما أسمتها.
فخلال الساعات والأيام الأولى، نفّذت إسرائيل أكثر من 150 غارةً جويةً استهدفت مواقع عسكريةً في عموم سوريا، شملت تدمير دبابات ومروحيات وطائرات مقاتلة تابعة للجيش السوري. ووُصفت هذه العملية بأنها إحدى أكبر عمليات سلاح الجو الإسرائيلي في التاريخ، حيث أغرق الإسرائيليون قطعاً من البحرية السورية في موانئها، ودمّروا عشرات الطائرات الحربية من طراز “ميغ” و”سوخوي”، وتركزت الضربات أيضاً على مستودعات الذخيرة، ومنصّات الصواريخ، ومنشآت الاستخبارات، ومصانع الأسلحة.
وبحلول اليوم الثالث من سقوط النظام، وبينما كانت الاحتفالات تملأ سوريا، ، كانت أكثر من 300 غارة قد نُفّذت منذ سقوط الأسد، بهدف “تدمير كل ما تبقّى من جيشه وضمان أنّ الأجيال القادمة لن تتمكن من إعادة بناء هذه القوة”، بحسب التصريحات الإسرائيلية.
تمّ تدمير أسراب كاملة من الطائرات المقاتلة، وتعطيل منظومة الدفاع الجوي السوري بشكل شبه تام بعد استهداف عشرات البطاريات المضادة للطائرات في يوم واحد. وحتى أسطول مقاتلات “ميغ-29” الحديث، تم القضاء عليه بالكامل خلال إحدى الهجمات. وصدر التصريح الأسوأ من مصادر عسكرية إسرائيلية، بأنّ كل ما بناه الجيش السوري خلال عقود “تم تدميره”.
آخر هذه الضربات، كانت قبل أيام. ففي 10 آذار/ مارس 2025، شنّت الطائرات الحربية الإسرائيلية غارات جويةً استهدفت مواقع عسكريةً في محافظة درعا جنوبي سوريا، وفقاً لمصادر محلية وإعلامية.
في 13 من الشهر نفسه، نفّذ الطيران الحربي الإسرائيلي غارةً جويةً على أطراف العاصمة السورية دمشق، مستهدفاً ما وصفته إسرائيل بمركز قيادة تابع لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، يُستخدم لتوجيه “أنشطة إرهابية” ضد إسرائيل.
نتيجةً لهذه الضربات المكثفة، وجدت السلطة الجديدة نفسها شبه مجرّدة من العتاد العسكري الثقيل. فقد اضطر الجيش الناشئ إلى البدء من الصفر تقريباً، ببنادق “إم 16″ و”كلاشنيكوف” فقط لتشكيل نواة قوة مسلحة، بحسب وصف دورون كادوش، مراسل الشؤون العسكرية الإسرائيلي.
فبعد أن كان الجيش السوري يملك نحو 2،720 دبابةً قبل سقوط النظام (1،700 منها كانت صالحةً للقتال)، وأكثر من 1،500 مدفعية، و400 راجمة صواريخ، لم ترث الإدارة الحالية لسوريا سوى أسلحة فردية وآليات خفيفة. وبالمثل، انخفضت قدرة سلاح الجو التابع للدولة إلى الصفر تقريباً بعد تدمير ما تبقّى من مقاتلات ومروحيات.
وخسر الجيش الذي صنفه موقع “Global Firepower”، المتخصص في ترتيب القوة العسكرية للدول، في المرتبة 60 عالمياً عام 2024، نحو 170 ألف جندي، وأسطولاً جوياً قوامه 452 طائرةً، ومعظم تلك القوة الضاربة، في تصنيف العام 2025، الأمر الذي أضعف بشدة قدرة الحكومة الانتقالية على فرض الأمن والنظام، وبغض النظر عن توجهها السياسي.
ارتفاع معدلات الجريمة
في ظلّ هذا الواقع، برزت تداعيات خطيرة لنقص الذخيرة والعتاد على الأرض. ليست سياسيةً فحسب، فقد ارتفعت معدلات العنف الأسري والجريمة الجنائية في معظم المناطق نتيجة الفراغ الأمني.
بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان، بلغ عدد الجرائم الجنائية والقتل، منذ مطلع عام 2025، في محافظات سورية متفرقة، 55 جريمةً، راح ضحيتها 61 شخصاً، معظمها سُجّلت بدوافع السرقة والمشاجرات العائلية والثأر وتجارة المخدرات، وأخرى سُجّلت ضد مجهول.
وعلى الرغم من عدم القدرة على جمع البيانات الدقيقة، من جميع المناطق، لسوء الاتصال، وبسبب وجود فراغ أمني، ولغياب التبليغات، إلا أنّ سوريا احتلت المركز الأول على مسطرة الدول العربية في مستوى الجريمة، بمعدل 68.1، وفق مؤشر قياس الجريمة العالمي، في قاعدة بيانات “Numbeo”.
فمع انهيار منظومة الضبط السابقة وضعف إمكانات القوات الجديدة، شهدت مدن عدة موجات نهب وسلب بعد انسحاب قوات النظام، حتى في معاقل النظام السابقة، كبلدة القرداحة مسقط رأس الأسد، حيث أقدم بعض السكان على مهاجمة ضريح حافظ الأسد ونهب محتوياته من أثاث وأجهزة تكييف بمجرد زوال سلطة الأمن القديمة، كما تفاقمت حوادث السطو المسلح والاختطاف، ولا سيّما في المناطق التي تعاني تاريخياً من ضعف سلطة القانون مثل الجنوب السوري.
وتشير تقارير محلية إلى انتشار أسلحة خفيفة ومتوسطة بين أيدي جماعات عديدة بعد فتح مخازن النظام، ما صعّب مهمة ضبط الأمن. وضمن هذه المعطيات، اعترف الشرع، الرئيس الانتقالي، بأنّ حكومته ستواصل العمل على حصر السلاح في يد الدولة، في إشارة إلى انتشار الأسلحة المنفلتة بأيدي “جماعات غير نظامية”، فهل كان يقصد الأقليات التي ترفض تسليم أسلحتها خوفاً من التغوّل السنّي للنظام الجديد؟ وهل هو قادر على تنفيذ هذا التهديد بلا أسلحة، وبجيش بلا عقيدة عسكرية منضبطة، ولا يمكن أن يطلَق عليه لفظ “نظاميّ” بعد؟
هل تستطيع سوريا إعادة بناء ترسانتها العسكرية؟
الجواب المرجح هو لا. فبعد أن قضت الضربات الجوية الإسرائيلية على معظم الترسانة التي تشكلت من دول غير مقبولة من الغرب، ولم تأبه للتعدّي على العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، مثل إيران وروسيا، فمن غير الوارد أن تقوم حكومة لم تستقرّ بعد باستيراد أو تصنيع أسلحتها، لكثير من الأسباب؛ أولاً لأنّ الأولوية الاقتصادية هي لتأمين الخدمات وليس التسليح، وثانياً والأهم بسبب طبيعة العقوبات الدولية المفروضة على البلاد.
فحتى اليوم، لا تزال العقوبات الدولية المفروضة على سوريا -بما في ذلك تلك التي تم تخفيفها مؤخراً- تمنعها من استيراد الأسلحة، أو استيراد مواد تدخل في تصنيعها، أو استيراد مواد أو استقدام خبراء يساهمون في صيانة تلك الأسلحة المدرجة بالفعل ضمن الترسانة الرسمية للجيش السوري.
وعلى الرغم من تعليق بعض العقوبات الاقتصادية مؤخراً، إلا أنّ حظر توريد الأسلحة والمعدات ذات الصلة لا يزال ساري المفعول. ويربط خبراء رفع هذا النوع من العقوبات، بتسليم المتهمين بجرائم حرب ضمن الحكومة السورية أو في داخل البلاد، وكذلك بإثبات النية الحقيقية لوجود تنوع في الحكم يحاكي التنوع العرقي والديني في المجتمع السوري.
العقوبات بالمرصاد
في 24 شباط/ فبراير 2025، قرّر مجلس الاتحاد الأوروبي تعليق عدد من العقوبات الاقتصادية على سوريا، بهدف تسهيل التعامل في مجالات الطاقة والنقل وتبسيط المعاملات المالية والمصرفية المرتبطة بهذه القطاعات، بالإضافة إلى الأغراض الإنسانية وإعادة الإعمار. ومع ذلك، أكد البيان أنّ الاتحاد الأوروبي يحتفظ بتدابير تتعلق بتجارة الأسلحة، ما يعني استمرار حظر توريد الأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى سوريا.
أما الولايات المتحدة، فتُصنِّف سوريا دولةً راعيةً للإرهاب منذ عام 1979، وهو ما أدى إلى فرض عقوبات تشمل حظر صادرات ومبيعات الأسلحة. حتى من قبل الـ2011، فُرضت بالإضافة إلى ذلك، عقوبات إضافية بعد الحرب الأهلية السورية، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وتُعزز هذه العقوبات حظر توريد الأسلحة إلى سوريا. وبحسب تقارير، من غير الوارد أن ترفع الولايات المتحدة هذه العقوبات أو تخففها في ظلّ إدارة الرئيس ترامب.
كذلك فرضت أستراليا، والمملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، عقوبات مستقلّةً على سوريا، تشمل حظر تصدير المعدّات العسكرية والتكنولوجيا ذات الصلة، ما يمنع توريد الأسلحة إلى سوريا.
وبرغم الدعم القطري التركي الذي تحظى به الإدارة السورية الجديدة، لكن تجاوز العقوبات الدوليّة المفروضة على سوريا لصالح تسليح هذه الإدارة من قبلهم، ليس واردًا وسيُعدّ مخاطرةً كبيرةً أمام المجتمع الدولي. أما بقية الدول التي دعمت الشرع، كالسعودية ومن ورائها بقية مجلس التعاون الخليجي، فمن غير المرجّح أن تقدّم دعماً عسكرياً يتعارض مع هدفها من الاعتراف بالشرع.
المعطيات السابقة في مجملها، قد تُخرج قوّة السلاح من معادلة “فرض الأمن” في المدى المنظور، وقد لا يبقى أمام الإدارة السورية الجديدة سوى الخيار الأفضل، والأخير، وهو فرض الأمن من خلال المواطنة، عبر ضمان تمثيل الأقليات والتعددية والديمقراطية. فهل الشرع مستعدّ لتداول السلطة والرهان على غضب الفصائل الإسلامية التي أوصلته إلى الحكم؟
رصيف 22
—————————————
==========================
===================
عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 17 أذار 2025
تحديث 17 أذار 2025
—————————-
في الردّة الأسدية الإيرانية/ عبد الجبار عكيدي
17 مارس 2025
ربّما لم يكن أكثر السوريين تفاؤلاً يميل إلى الاعتقاد أن السلطة الأسدية ستُطوى صفحتها مع انطواء الأشهر الأولى من تحرير سورية، فالحقبة الأسدية التي امتدّت أكثر من نصف قرن لم تتح لآل الأسد ممارسة الحكم فحسب، بل أتاحت لهم امتلاك البلاد بكلّ ما تعنيه لفظة (المُلك) من معانٍ، لذلك من غير المُستغرب ألّا يُذعِن المالك الأسدي بانتزاع ملكه ممّن كانوا “عبيداً” قبل مارس/ آذار 2011، ثمّ تحوّلوا “إرهابيين”. لعلّ المسألة تبدو أكثر تعقيداً حين لا تكون المعركة مجرّد دفاع عن المُلك فحسب، بل المعركة ليست بعيدةً من صراع إقليمي يعتمد على استثمار ما هو محلّي، وتغدو المشكلة أكثر فداحةً حين يصبح المناخ العام مزوّداً بوسائل الاشتعال كلّها، ومُفخّخاً بشتّى أشكال القنابل الموقوتة، التي تُنذر بالانفجار في كلّ لحظة.
ما شهدته مدن الساحل السوري وبلداتها وقراها، يوم 6 مارس/ آذار الجاري، لم يكن مجرّد مواجهة طارئة أو عابرة نتيجة مصالحَ متضاربةٍ بين طرفَين أو نتيجة تجاوز طرف على آخر تجاوزاً آنياً أو عارضاً، بل كانت معركةً حقيقيةً انبثقت من خطّة سابقة وتحضير سابق، ووُضِعت لها أهدافٌ محدّدة، فكانت الهجمات منسّقة استهدفت مواقع عسكرية وأمنية، ما يؤكّد وجود تخطيط وتنظيم تجاوز العمليات الفردية والعشوائية السابقة. الأسلوب المتّبع في الهجمات التي شنّتها فلول النظام من حيث التنسيق بين مختلف المحاور والانسحاب إلى المناطق الجبلية بعد التنفيذ، يعكس تكتيكات حرب عصابات مدروسة يقودها ضبّاط كبار في جيش النظام السابق وأجهزة استخباراته، يمتلكون خبرةً عسكريةً وأمنية كبيرة، كما أن الكمائن والغارات المتزامنة في أكثر من موقع تشير إلى أنهم يمتلكون معلومات استخبارية مسبقة عن تحرّكات القوّات الأمنية، وهذا ما يؤكّد أيضاً وجود جهات داخلية وخارجية تقدّم لهم الدعم اللوجستي والاستخباري.
لعلّ تصدّر العميد الركن، غياث دلّا، قائد اللواء 40 في الفرقة الرابعة (ضابط معروف بارتكابه جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بحقّ الشعب السوري)، واجهةَ الأحداث وتبنّيه قيادة فلول نظام الأسد، يؤكّد المقولة الراسخة التي تحيل على أن الذين هربوا من سورية هم رأس النظام وقيادة الصفّ الأول فحسب، أمّا الذين كانوا بمثابة الإطار التنفيذي لآلة الحرب الأسدية من ضبّاط الصفّين، الثاني والثالث، فمجملهم ما زالوا موجودين بكامل سلاحهم وعدّتهم، التي لم تكن محطّ تعقّب وتنظيف من القيادة الجديدة في البلاد. ولعلّ هؤلاء الضبّاط التنفيذيين في دولة الأسد يرون في أنفسهم الخاسر الأكبر من زوال الأسد، ومن ثم هم المعنيون بالتحرّك لاسترداد “المُلك المُنتزَع”، خاصّة أن هذا الشعور بالخسران الذي استبدّ في نفوسهم وجد من يغذّيه، ويحوّله مبادرةً انتقامية، ربّما تتحوّل فرصةً لقلب الطاولة على الحكومة الجديدة، وربّما تفلح في وضع المجتمع الدولي تحت أمر واقع، يُعاد فيه التفكير في مستقبل سورية التي لا يمكن أن تكون “خالية من الأسدية”، وفقاً لهؤلاء.
لعلّ من الصحيح أن قوات الأمن العام ووزارة الدفاع استطاعت احتواء الهجوم الأكبر لفلول النظام، عشية 6 مارس، ولكنّ التداعيات العسكرية والأمنية لهذه المعركة لا يمكن أن تنتهي قريباً، لجملة من الأسباب. أهمها، أولاً، أن المعركة بين فلول النظام والقوات الرسمية للدولة السورية لا تأخذ شكل حرب المواجهة المكشوفة بين جيشَين متخاصمَين، بل هي حرب عصابات تستخدم فيها الكمائن والغارات وعمليات الكرّ والفرّ وقنّاصات ذات أجهزة رؤية ليلية.. هذه هي استراتيجية فلول النظام، الذين تلعب الجغرافيا دوراً أساسياً لمصلحتهم، فالاختباء في الجبال والتزوّد بالسلاح ليلاً، والتجوال في الزيّ المدني في المدن والبلدات نهاراً، بعد أن قاموا بالتسويات، يتيح لهم مساحةً كافيةً من الاستطلاع ومعرفة تموضعات الخصم ونقاط ضعفه وقوته، فكلّ مفترق طرق وجرف صخري في تلك المناطق يصلح لكمين، ولهذا ربّما يكون من الصعب على القوات الرسمية للدولة الإحاطة بكلّ ما يخطّط له العدو، إذ إن عنصر المباغتة في مواجهات كهذه له دور بالغ الأهمية.
ثانياً، يزيد وجود قوّات الفلول بين السكّان المدنيين من صعوبة تعقّبهم، بل يمكن أن يكون عائقاً أساسياً في استهدافهم، كما يتيح لهم في حالةٍ كهذه أن يتّهموا قوّات الأمن العام باستهداف المدنيين لتأليب الرأي العام والمجتمع الدولي. السبب الثالث، ولعلّه الأكثر أهمية، فهو الدور الخارجي المتمثّل بإيران المشهود لها بصناعة المليشيات، وتسعى إلى الحصول على موطئ قدم كانتوني طائفي في الساحل السوري، ولم تخفِ تبنّيها ودعمها الفلول، بل إن الجهة الإعلامية الوحيدة التي تواكب وتروّج الفلول هي وكالة مهر الإيرانية، التي تطلق مصطلح “جبهة المقاومة السورية” على فلول النظام، زاعمةً، في الوقت ذاته، أن إعادة سورية إلى عهدها الأسدي هدف لا بدّ من تحقيقه.
وفي آليات المقاومة والمواجهة، ثمّة مساران متلازمان لا ينبغي الفصل بينهما: عسكري أمني يعمل بمهنية واحتراف، بعيداً من شعور الفزعة والفوضى العارمة، والإسراع بهيكلة وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية ونزع السلاح وإعادة الإدماج، لتحاشي التجاوزات والانتهاكات؛ ومسار سياسي يكون بمثابة ترجمة فعلية لخطاب القيادة الجديدة، ونعني المضي بعد الإعلان الدستوري في تشكيل حكومة شاملة تقوم على معايير الكفاءة والمهنية، بعيداً من أيّ ولاءات أيديولوجية، ومن ثمّ البدء بإنشاء كيان قضائي يتولّى مهمّة العدالة الانتقالية، باعتبارها المدخل الصحيح والوحيد والحصن المنيع لمفهوم السلم الأهلي.
قد تبدو مسألة العوامل الخارجية التي تسهم في تأجيج الصراع في سورية مهمّةً وتسترعي الحذر، ولكن الترجمة الحقيقية لهذا الحذر ينبغي أن تأتي عبر مزيد من التحصين الداخلي للبلاد، فالتصدّي للخطر الخارجي يبدأ بتقوية دعائم الداخل أولاً وليس العكس.
العربي الجديد
—————————-
ولكن من هم الفلول فعلاً؟/ حسام جزماتي
2025.03.17
رفعت المأساة الدامية التي شهدها الساحل السوري، خلال الأسبوع الماضي، بعض المفردات إلى قمة التداول. ومنها مصطلح «الفلول» الذي أُطلق على بقايا قوات نظام الأسد. ولعله من شأن نتائج التحقيقات والتقارير الحقوقية التالية أن تقدم صورة أفضل عن تركيبة هؤلاء وأعدادهم وقدراتهم العملية. لكن ما أمكن جمعه من ملاحظات، حتى الآن، يتيح لنا رسم معالم مبدئية لهذه القوة التي اتسمت بأكثر مما ينبغي من الغموض.
في مركز الفلول، كما يشيع القول وعن حق، مجرمون يعرفون أن مسؤولياتهم السابقة لا تتيح لهم الحصول على بطاقة تسوية، وإن حدث ونالوها، نتيجة صدفة أو غفلة، فلن تحميهم على المدى الطويل بسبب كمية الدم التي على أياديهم. وبالتالي ليس أمامهم سوى السفر إلى الخارج أو العصيان والقتال في الداخل. وقد تكاثرت الأنباء عن أعداد كبار ضباط الجيش والمخابرات الذين غادروا إلى روسيا ولبنان ودول أخرى، مما يحيل إلى عدة استنتاجات؛ أولها أن غالب من بقي من صغار الضباط أو متوسطيهم، ممن لم يستطع الهروب لأسباب مالية أو لوجستية أو لم يرغب في ذلك نتيجة العناد. وثانيها أن المؤهلين لهذا الدور «الفراري في الجبال» ربما كان من قادة المجموعات الرديفة أكثر من كونه ضابطاً عسكرياً نظامياً. ولعله مما يعزز هذا تأمل الأسماء التي اشتهرت لقادة الفلول؛ كمقداد فتيحة، وهو شخص غامض يبث تسجيلات تظهره كزعيم مجموعة متمردين اسمها «لواء درع الساحل»، ومحمد جابر، قائد ميليشيا «صقور الصحراء» في السابق. وحتى غياث دلا، العميد في الفرقة الرابعة أيام ماهر الأسد، والذي ظهر باسمه بيان بإنشاء وانطلاق «المجلس العسكري لتحرير سوريا»، فقد كان قائد مجموعة مقاتلين باسمه «قوات الغيث» من ملاك الفرقة وخارجها، أي إنه كان أشبه بقائد ميليشيا تحوز قدراً من التنظيم.
نرصد هذا لنقول إن إمكانات هؤلاء وأهدافهم، فضلاً عن العدد الذي استطاعوا استقطابه من المقاتلين، والذي تشير التقديرات إلى أنه لم يتجاوز المئات، لا تجعلهم خطراً جدياً على مستوى البلاد، ناهيك عن مجرد التفكير باستعادة نظام بشار الأسد الذي ولى إلى غير رجعة، حتى أنهم لم يرفعوا صوره.
فما الذي يريدونه إذاً؟
دون استبعاد الدوافع الانتحارية، يمكن القول إن الفلول يستثمرون في شعور بالمظلومية اختفى عن المنطقة في الأيام الأولى للتحرير ثم عاد ليتصاعد مع تزايد «السلوكيات غير المنضبطة» التي تبدأ بالإهانات وقد تنتهي بالقتل، خاصة مع غموض مسار العدالة ومعايير استدعاء المطلوبين، والأزمة الاقتصادية التي تشكلت بعد توقف كثير من الرواتب الحكومية التي كانت تدعم العائلات، مما يشجع بعض شبانها على الانخراط في هذه المجموعات المسلحة لأسباب كان المال أحدها كما يبدو. ولذلك بقدر ما تتراكب الدوافع المادية والمعنوية وانسداد الأفق يكسب قادة الفلول مزيداً من المقاتلين.
وكالعادة لا ينفع «الحل الأمني» وحده لمعالجة المسألة، لا سيما حين تصاحبه مجازر كما حدث مؤخراً، فثمن الدم دم. ولا بد من حلول شاملة تأخذ حساسيات المنطقة في الاعتبار، ومنها شعور معظم العلويين بأنهم يتعاملون مع قوات وافدة غريبة، ومطالبتهم بالاعتماد عليهم لحفظ الأمن في مناطقهم، مما يفترض أن يقلل الاحتكاكات إن أمكن بالفعل تحديد عدد تستطيع المنطقة أن تهضمه من المطلوبين وفق مسار عدالة واضح ومطَمْئِن. وتلك مسألة عسيرة أخرى على كل حال.
من شأن النجاح في هذا أن يسحب جزءاً كبيراً من البساط من تحت أقدام الفلول الذين حاولوا بالفعل السيطرة على مناطقهم بالنار حين هاجموا الدوريات والحواجز. فكما يعرف هؤلاء أن استعادة الأسد مستحيلة فإنهم يعون أيضاً أن الانفصال هدف غير ممكن سياسياً وعسكرياً وديموغرافياً وموارد طبيعية، كما أنه ليس التوجه الطاغي لدى أبناء المنطقة الذين يبحثون عن الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف في سوريا الجديدة.
لم تولد الدماء التي سالت في الأيام الماضية من فراغ بالطبع، لكنها لن تذهب إلى فراغ أيضاً. وإن الدعوة إلى إيقاف تبادل المجازر لا تنطلق فقط من «اللحمة الوطنية» حسنة النية كما يظن البعض، بل أساساً من الرغبة في تجميد حفر القبور وزراعة الحقد. وقد ظن نظام الأسد أنه يستطيع أن يستأثر لحاضنته بالحقد ولسواها بالقبور، حتى جاءت أيام انقلبت فيها الآية كما رأينا. وجاء من خصومه من يظن، مثله، أن ما لا يحققه «الدعس» يمكن الوصول إليه بالمزيد منه، وأن الحل مع المخالفين لا يتجاوز «كسر الرأس». رغم أن هذا السبيل أثبت فشله تجاههم مع كل ما ملكه النظام من أفضلية عسكرية؛ كالأسلحة الثقيلة والكيماوي والطيران، فما بالك بحالة القوى الجديدة. ناهيك عما يحمله هذا النمط من التفكير من إجهاض للقيم المركزية للثورة مما أتاح للفلول، الآن، فرصة كانت عسيرة للدفاع عن نهج النظام الذي كان يحث الطائفة العلوية على دعم قواته بتخويفهم من أن الثورة لن تقابلهم إلا بالذبح في حال تمكنت منهم. لأنها مكونة، كما كان يبث في خطابه الشفوي، من أحفاد الأمويين!
تلفزيون سوريا
————————————-
سوريا.. العصيَّة على الاختراق/ د.وائل مرزا
تحديث 17 أذار 2025
لا يعلمُ إلَّا اللهُ، والرَّاسخُون في العلم، حجمَ الإحباط الذي أصاب دولًا وجماعاتٍ وأفرادًا، في العالم، وفي الإقليم، بعد صدور قرار مجلس الأمن المتعلِّق بسوريا، بعد اجتماعه بذلك الخصوص، منذ بضعة أيام.
فورَ صدور خبر طلب انعقاد الجلسة، انتشرت كالنار في الهشيم، في أجواء الإقليم والعالم، كميَّةُ شماتةٍ وتشفٍّ بائسة لم يسبق لها مثيلٌ في المنطقة حجمًا وموضوعًا. عَلَا ضَحكُ هؤلاء وهم يغنُّون طربًا بأنَّ سوريا المحرَّرة انتهت. وبأنَّ مجلس الأمن سيفرض (الفصل السابع) عليها. وأنَّها ستتعرَّض للوصاية الدوليَّة. وأنَّ تلك الوصاية ستُفضي إلى طرد السُّلطة الجديدة، ثمَّ فرض التقسيم على البلاد.
المفارقة أنَّ شرائح ممَّن يُفترض بهم أنْ يكونوا عربًا وسوريِّين شاركوا في تلك الهمروجة المخزية. لكن ما فات هؤلاء أنَّ تفكيرهم يقع في خانة التفكير الرغائبيِّ، وأنَّه أقرب إلى كونه طفولةً سياسيَّةً.
لم يدرك هؤلاء أنَّ سوريا، في وضعها الجديد، محميَّةٌ بتوازن رعب إستراتيجيٍّ لا يسهلُ لأحد اختراقه بشكل ٍ كبيرٍ. لماذا؟ لأنَّه ليس من صناعة، لا أحمد الشرع، ولا السوريِّين الثوَّار، وإنَّما هو واقع جيوبوليتيكيٌّ تكوَّنَ بأثر التغيُّرات الجذريَّة التي حصلت في المنطقة خلال السنوات الماضية، وبلغت ذروتها مع الشهور القليلة السَّابقة.
لم يَبلُغ فَهمَهُم القاصر أنَّ كل الضغوط الممكنة على سوريا مؤقَّتة، وتهدف لشراء الوقت؛ بغرض صياغة الترتيبات الإقليميَّة الكبيرة، وترتيب أدوار وأوزان اللاعبين فيها. مؤقَّتة، ببساطة؛ لأنَّ أيَّ تطويلٍ فيها سيؤدِّي لانفجارات إقليميَّة لا قِبَل لأحد في المنطقة على تحمُّل تَبِعاتها. وهذا أمرٌ محسومٌ في كلِّ مراكز الأبحاث والدراسات العالميَّة الرَّصينة، في واشنطن، وفي عواصم أُخْرى مؤثِّرة.
أوَّلًا: أيُّ (زعزعةٍ) في المنطقة، هي في صالح عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل تحرير سوريا، بتفاصيلها المعروفة. وهذه عمليةٌ تخلط كل الأوراق، التي شاركت قوى عالميَّة وإقليميَّة في ترتيبها بشكلٍ مُنهِك. وهذا خطٌّ استراتيجيٌّ دوليٌّ أحمرُ.
ثانيًا: كما شرحنا في المقال السابق، لم يكن للتَّغيير في سوريا أنْ يحصل في توقيتٍ أفضل بالنسبة للسعوديَّة. وحجم الأعباء الهائلة السياسيَّة والأمنيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي رفعها التَّغيير السوريُّ عنها، لا يدرك أبعاده سوى قلائل. خاصَّةً في ظل سعي السعوديَّة لملء دورها الإقليمي الكبير المقبل.
ثالثًا: تُدرك أوروبا، أكثر من غيرها، معنى الانفجار في سوريا، وما حولها (أزمة اللاجئين مثالًا فقط). وفي ظل هموم أوروبا الطارئة الكبيرة، وإعلان المستشار القادم لألمانيا عن البدء بسياسة «الاستغناء عن أمريكا»، يبدو واضحًا أنَّ آخرَ همٍّ تبحث عنه أوروبا حاليًّا هو الغرق في مثل تلك الأزمات.
رابعًا: كل الدول العربيَّة الرئيسة، ومعها تركيا، تدرك مستتبعات تفجير سوريا. وصدور بياناتها لتأييد الوضع الجديد فيها، لا ينبع حصرًا من العلاقات الأخويَّة، ولكن، فوقَها، عن إدراكٍ عميقٍ لحجم التحدِّيات التي سنعانيها جميعًا في حال حصول ذلك.
خامسًا: تدرك إسرائيل كلَّ تلك الصورة بأبعادها المعقَّدة. وتدرك أكثر أنَّ انخراطها العسكريَّ الكبير في سوريا يترتَّب عليه خطرٌ وجوديٌّ، قد يكون أكثر جدِّيةً ممَّا رأته من أهوالٍ في الصِّراع مع حماس المحاصرة.
سادسًا: ثمَّة عرفٌ دبلوماسيٌّ كريهٌ.. وُفق ذلك العُرف، لم تتمكَّن الدولة السوريَّة من إعلان تورُّط بعض الدول والجهات المحدَّدة في محاولة التمرُّد والانقلاب التي حصلت في الساحل السوريِّ. لكن هذا لم يكن يتضارب مع ما جرى من مشاركتها للحقائق المذهلة، عن طريق الدبلوماسيَّة السريَّة، مع أنظمة عربيَّة وغير عربيَّة، وما نتج عن ذلك من تقويةٍ لموقف سوريا عالميًّا بشكلٍ إضافيٍّ.
ثمَّة عناصر أُخْرى في هذه المعادلة المعقَّدة للغاية يطول الحديث فيها.. لكنَّها بمجملها تشكِّل عقدةً سياسيَّةً إستراتيجيَّةً، من الغباء السياسيِّ التَّفكير بِحلِّها من خلال ضغطٍ على سوريا يؤدِّي لانفجارها.
المذهل في الموضوع، أن (بعض) السوريين، الحالمين بعودة الماضي، يتعاملون مع الوضع في بلادهم، غافلين كلياً عن تلك الصورة، وكأنما سوريا جزيرة معزولة في أحد المحيطات البعيدة.. وهم غافلون أكثر، تحت ضغط الأيديولوجيا وخصوماتها الصبيانية، وغرقهم فيما هو آني وعاجل، عن حجم الأوراق المتوفرة لدى القيادة السورية، وفسحة الخيارات والسيناريوهات المتوفرة لديها مع تطورات الأوضاع خلال الأسابيع والشهور المقبلة.
وكما قلنا في مشاركةٍ إعلاميَّة: «السُّنِّيةُ» ليست صَكَّ براءة. و»العلويَّةُ» ليست دليل اتِّهام. التمرُّدُ انتهى. والمحاسبةُ مقبلةٌ. عدوُّنا هو «الطَّائفة الأسديَّة». فلننظر جميعًا إلى الأمام. سوريا لكلِّ السوريِّين.
——————————
حدود ثابتة وجدران داخل الدول/ طوني فرنسيس
المشرق العربي يواجه تمزقاته الداخلية على يد مشاريع متناقضة لكن تقسيمات “سايكس بيكو” تبقى صامدة
الاثنين 17 مارس 2025
صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.
لم يتراجع الحديث عن تفتيت دول المشرق العربي إلى دويلات مذهبية وإثنية وعن تغيير للحدود الدولية القائمة طوال العقود الماضية، لكن تلك الحدود استمرت بصيغتها التاريخية فيما قامت الحواجز داخل كل بلد بين طوائف ومذاهب ومجموعات على حساب الدولة الوطنية.
كان حديث نسف الحدود وتعديلها يستند إلى وقائع تغذيها نظرية المؤامرة المتجذرة في عقول نخب كثيرة وجوهرها أن الغرب وإسرائيل يعملان على تنفيذ مخطط تقسيمي استعماري يلغي الدول الوطنية الناشئة بعد انهيار السلطنة العثمانية و”اتفاق سايكس بيكو” البريطاني- الفرنسي الذي بلور في “مؤتمر سان ريمو” عام 1920 الحدود الراهنة لدول المنطقة، ويقيم بدلاً منها مجموعة من الكيانات الضعيفة على أسس دينية خصوصاً، توفر في ضعفها وتفككها حماية طويلة الأمد للمشروع الإسرائيلي في امتداداته الاستعمارية.
مع الاعتراف بوجاهة هذه النظرية إلا أنها لا تغطي صورة المشهد بأكمله، فليست إسرائيل وحدها من تطمح إلى تغيير أوضاع قائمة، وتحت عنوان مواجهة ورفض تقسيمات “سايكس بيكو” نشطت قوى أخرى، قومية و”إسلامية” سعت وجهدت إلى إلغاء الحدود في المشرق العربي ودمج تلك الدول في مشاريع أوسع نطاقاً باسم القومية العربية والسورية تارة وباسم الإسلام طوراً، وعلى رغم الإمكانات الضخمة التي توافرت لكل تلك القوى، لم يتمكن أي طرف منها من تحقيق مشروعه كما يرغب وصمدت تقسيمات سان ريمو في شقها العراقي والسوري واللبناني متجاوزة ما يمكن تسميته بأقسى امتحانات قرن بكامله.
كان الامتحان الأحدث ولا يزال في سوريا، فما جرى ويجري في هذا البلد العربي قبل فرار الرئيس بشار الأسد وبعد لجوئه إلى روسيا، إذ بدت في ختام معركة الـ14 عاماً بين النظام ومعارضيه أقرب إلى دولة جاهزة للانقسام والتفكك، وترسخت عوامل الانقسام في ظل نظام الأسد وتفاقمت بعد رحيله واندلاع صدامات الساحل والجنوب والانفصال الواقعي للأكراد في الشرق، لكن في المحصلة الأولية تبين أن لا أحد يريد الانفصال وتشكيل دولته الخاصة، على رغم ارتفاع أصوات الاحتجاج والاستغاثة بالتدخلات الخارجية وسعي بعض الخارج، خصوصاً إسرائيل إلى استغلال الأوضاع.
لقد ظهر إلى جانب تمسك النخب السورية بوحدة بلادها، من الجزيرة إلى السويداء والساحل في ظل نظام يكفل المساواة والعدالة، أن القرار الدولي الذي يمسك بمصير الخرائط لا يزال أيضاً مؤمناً بخيارات رسمها مارك سايكس وجورج بيكو قبل 106 أعوام.
كانت تلك الخيارات وخرائطها تعرضت لامتحانات قاسية قبل الامتحانات السورية الأخيرة، فعام 2014 سيطر تنظيم “داعش” على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، وتحت وطأة المفاجأة اعتبر كثيرون أن مرحلة جديدة خطرة بدأت. وقال كثيرون ومن بينهم الزعيم الكردي العراقي مسعود برزاني، “في الحقيقة أن سايكس- بيكو فشل وانتهى”، ولاقاه السياسي اللبناني وليد جنبلاط في الاستنتاج أن “سايكس بيكو انتهى، ذلك أمر مؤكد، لكن كل شيء الآن غامض، وسيكون هناك وقت طويل قبل أن تتضح النتائج” (من تصريحات إلى “بي بي سي” مايو (أيار) 2014)، ومع ذلك لم تتغير الحدود وهزم مشروع “الدولة الإسلامية” المزعوم.
كان البرزاني يعرف أكثر من غيره أن حدود الإقليم الكردستاني التي أقرها مجلس الأمن الدولي عام 1991 كمنطقة محمية للأكراد العراقيين لم تتحول إلى كيان مستقل بحدود خاصة على رغم الغزو الأميركي وإسقاطه نظام صدام حسين عام 2003، وبقيت الحدود العراقية الدولية معترفاً بها كما كانت منذ العهد الملكي.
وربما تكون تجربة لبنان في الحرب الأهلية فاتحة أحاديث الانقسام وتشكيل الدويلات في المشرق، وخلال أعوام السبعينيات من القرن الماضي توالت التحذيرات من “البلقنة”، نسبة إلى انقسامات البلقان بعد الحرب العالمية الأولى، ثم نشط الحديث عن “قبرصة” نسبة إلى تقسيم قبرص إثر الانقلاب على الرئيس مكاريوس والغزو التركي واحتلاله شمال الجزيرة (1974). وحروب لبنان التي استمرت لمدة نحو 15 عاماً رسخت المخاوف من مصائر مماثلة، وقد جرى خلالها التصريح مراراً عن رغبات تقسيمية على أساس ديني، لكن كل ذلك صار أوهاماً وانتهى مع إقرار “اتفاق الطائف” في السعودية وبرعايتها، وعاد اللبنانيون جميعاً، بمقتضى الاتفاق، للبنانهم “كوطن نهائي لجميع أبنائه” بحدوده المرسومة قبل أكثر من قرن على يد الفرنسيين والإنجليز.
وكانت النظريات القومية العربية سباقة إلى الرغبة في نسف الحدود “المصطنعة”، فحزب البعث العربي الاشتراكي الذي نشأ في نهاية أربعينيات القرن الماضي بشر بإلغائها وتوحيد “الأمة العربية”، ثم نادى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بأهداف مماثلة وانتهت تجربة الطرفين إلى فشل ذريع. وحكم “البعث” العراق وسوريا فأقفلت الحدود بين البلدين وترسخت منافذها، وأقام عبدالناصر محاولة وحدوية مع سوريا سرعان ما انتهت إلى انفصال وصدام.
صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.
فقد جعلت إيران مجتمعات عدد من الدول العربية أجساداً مريضة عبر التركيز على ربط الشيعة العرب بالمرشد الإيراني وحساباته “القومية الإيرانية”، وأدى التحريض الإيراني المستمر منذ أكثر من 40 عاماً، مترافقاً مع عمليات تنظيم وتمويل واسعة، إلى خلق دويلات ضمن الدولة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفي المقابل كانت إسرائيل ومنذ زمن بعيد تسعى إلى تجذير انقسامات مذهبية ودينية مماثلة ضمن استراتيجية صريحة لإضعاف وتمزيق الدول المحيطة. لقد كانت مقالة الباحث الإسرائيلي عوديد ينون المنشورة في فبراير (شباط) عام 1982 بعنوان “استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات” ولا تزال مرجعاً تجري العودة له كلما تصاعد الحديث عن تفتيت دول المشرق. واليوم ومع التطورات الأخيرة في سوريا يصار إلى التذكير بهذه “الاستراتيجية” التي نادت في حينه بتقسيم لبنان وسوريا والعراق إلى دويلات مذهبية وإثنية، وهي خطط لا تزال تطل برأسها عبر السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا والعراق وأماكن أخرى.
ويوفر مستوى التمزقات المجتمعية الداخلية في المشرق على يد الإسلام السياسي بفروعه الإيرانية والإخوانية وضعف الدولة الوطنية المركزية فرصاً ثمينة لمزيد من التدخلات الخارجية الإسرائيلية خصوصاً، ومزيداً من أوهام الخلاص خارج دولها لدى الأقليات الخائفة والمضطهدة.
ومع ذلك تقول التجربة حتى الآن إن الحدود المرسومة قبل قرن ستبقى قائمة، لكن مزيداً من جدران الانقسام الداخلي سترتفع بين الناس أطيافاً وشرائح إذا لم تُعتمد صيغ جديدة للحكم تأخذ الحساسيات المختلفة في الاعتبار. ولن تتغير الحدود لأن صانعيها الدوليين لا يريدون تغييرها وليس لأن رافضيها المحليين أقوياء بما فيه الكفاية.
ورداً على سؤال طرحه الباحث في “معهد بروكينغز” غريغوري غوس قبل 10 أعوام على نفسه في مناخ صعود “دولة داعش”، “هل سنشهد إعادة رسم لحدود الشرق الأوسط؟”، أجاب “باختصار، كلا! الحدود لن تتغير. وفي الحقيقة ستؤول هذه الحدود إلى ما يشير إليه خبير العلوم السياسية روبرت جاكسون بـ’شبه الدول‘، المشار إليها دولياً كصاحبة سيادة، على رغم أنه لا يمكن تنفيذ الشروط التشغيلية التي تطلبها السيادة قبل السيطرة على الحدود والأراضي”. والأرجح أن السلطة الحقيقية في المشرق ستصبح متاحة للجميع إذا ترسخت المسارات الراهنة ولم تتغير، إلا أن حدود الشريكين سايكس وبيكو ستكون آخر المتغيرات.
——————————-
التجربة السورية المثقلة بخيبات أخواتها/ المهدي مبروك
17 مارس 2025
مع أحداث الساحل السوري، أخيراً، نتأكّد، أكثر من أيّ وقت مضى، أننا في تونس لا نحتاج إلى كثير عناء لنقرأ تفاصيل المشهد السوري، والاطلاع على دقائق وقائعه وأحداثه، وتوقّع بعض المآلات الممكنة. لا يُعدّ هذا ادّعاءً أو امتلاكاً للغيب، ولكن نستحضر في هذا كلّه بعضاً ممّا قاله ابن خلدون، الذي عاش في بلدان المغرب العربي، وتمكّن، في آخر عمره، من زيارة الشام، والتوسّط بين وجهائها والطاغية تيمورلنك، في مساعٍ لا تزال غامضةً. فالتاريخ في باطنه عبرة على نحو أن ما يجري فيه يخضع أحياناً لبعض القوانين، ولنا ما يفيد أن الماضي باعتباره خزّان “التاريخ” يمكن أن يمنحنا بعض مفاتيح قراءة الحاضر. سنكون آنذاك أمام ضرورة المقارنة بين الماضي والحاضر، بين تجارب متقاربة إلى حدّ الشبه الكبير، لنستنتج مفاتيح قراءة التاريخ كلّه.
حين اندلعت الثورة السورية، كانت آخر الثورات التي التحقت بالموجه الأولى من “الربيع العربي”، الذي سرعان ما غدا خريفاً أو شتاءً بلا غيث. انتكست كلّ التجارب من تونس إلى اليمن، مروراً بليبيا ومصر… إلخ، وكانت المآلات أحياناً كريهةً ومرعبةً: حرب أهلية واقتتال وصعود لموجات الإرهاب وسلسلة من الانقلابات التي صعد معها العسكر إلى الحكم. لم تبقَ شمعة عربية واحدة ملهمة، انطفأت بفعل رياح سموم عديدة هبّت عاتيةً. ثمّة ما يشبه المنوال، أو “باراديم”، بلغة توماس كوهين، مؤرّخ العلم الأميركي المرموق، صحاب كتاب “بنية الثورات العلمية”. لا يمنعنا هذا الباراديم من مجرّد قراءة التجارب العربية بنظّارات التجارب العربية السابقة، بل يمنحنا بعضاً من القدرة على التوقّع، تماماً كما يحدث في العلوم الصحيحة، فليس المستقبل سحراً أو غيباً، بل هو ظاهرة يمكن توقّعها، فضلاً عن مئات الظواهر الأخرى التي لا يكون وقوعها خارج ما نتوقّع، بشرط أن تكون لها المعارف والمناهج والأدوات الجديرة والكفوءة.
تخضع الثورة السورية حتى الآن لمسار رسمت خطواته الثورات العربية الأخرى: سقوط النظام وانتصار الثوار. تليها مرحلة انتقالية قد تقصر أو تدوم، تتخلّلها أنواع مختلفة من النزاعات والخلافات الداخلية التي تُلقي من فوّهة براكينها حمماً من الكراهية والأحقاد والرغبة الدفينة في هدم المعبد، حتى ولو أباد من فيه جميعاً، ثمّ اقتحام عتبة الخيبة الكبرى. ثمّة مسارات يُعاد إنتاجها في كلّ التجارب العربية، قبل أن تصل إلى النهاية المحتومة، أوهام الانتصار النهائي وحالة النشوة القصوى التي تحلّق بالثائرين في ملكوت السماء. قال أحد شعراء تونس (وقد تحوّل فيما بعد شاعراً خصماً لمن حكموا): “لقد وهبتنا الثورة سماءً من الحرية”. تمتزج الثورة بسقف عالٍ، حدّ الجنون والتخمّر، من الطموحات والأوهام والحرّية والفوضى، وتتهتك جميع الحدود حدّ العقلانية والعبث. في تلك الجنّة يتسلّل الخصوم والأعداء لصناعة الحنين إلى العهد الذي ثار عليه الناس، ويتم اصطياد الخيبات والعثرات لصناعة “عهد ذهبي نتحسّر عليه ونبكي انقضاءه”. حين أطالع ما يكتب حالياً حول الأحداث التي شهدها الساحل السوري، تقفز إلى ذهني كثير من العبارات التي حفظْتها عن ظهر قلب، وهي التي قالها التونسيون أيضاً حين مرّت ثوراتهم ببعض عثرات، لا تختلف كثيراً عمّا تشهد سورية حالياً، الفاعلون والأسباب فقط يختلفون نسبياً، خصوصاً أن تونس لم تشهد عنفاً طائفياً، لكن شهدت ما يضاهيه عنفاً سياسياً وأيديولوجياً أهوجَ وقاتلاً.
هذا المنوال لا يشتغل في حفر خنادق في مسار الثورة، وقد تحوّلت دولةً، بل يشتغل أيضاً، وبكثير من المردودية، في أثناء بناء الدولة ذاتها في ما توافر من وقت يطول أو يقصر، بحسب خصوصية التجربة وطبيعة فاعليها، تبدو القوى المنتصرة عادةً، ووفق ذلك المنوال، مصرّة على مسك الأجهزة المتهالكة من حطام الدولة، مؤسّسات صلبة وإدارة وأجهزة، لا تعرف تماماً كيف “تصفّي” تلك التركة الثقيلة، ولكنّها مضطرة بين الحين والأخر إلى التنازل وغضّ الطرف بحثاً عن “المؤلّفة قلوبهم” من أجل الحصول على الحدّ الأدنى من “أداء الدولة”، حتى ولو على حساب الثورة ومهجتها لإشباع الحاجات الملحّة للناس، فليس لها بدائل كبرى لصياغة أجهزة جديدة وخلق شعب جديد، منه تنتقي المنتسبين إلى تلك الجيوش، بما فيها الجيش المدني لمئات آلاف منتسبي الإدارة العمومية. يتسلّل في ذلك كلّه خصوم الثورة وانتهازييها، و'”ثوار الربع الأخير من الساعة”، وحتى الذين كانوا من رموز النظام السابق، ويتم ذلك تحت مبررات عديدة: الحاجة الملحّة للمرافقة، والخبرة والتجربة… إلخ، فتتحوّل أجهزة الدولة غنيمةً أو “جيشّ ردّةٍ يحمل في الداخل ضدّه”، كما يقول الشاعر مظفّر النُوّاب.
خارج أجهزة الدولة، التي تحمل عادةً عناصرَ خرابها في ذاتها، يبدأ الثوار في بناء سلطات مؤقّتة طمعاً في بناء بعض المشروعية: دستور مؤقّت سمّي في تونس “الدستور الصغير” أي “تنظم مؤقّت للسلطة”، وها إن أشقاءنا في سورية سمّوه الإعلان الدستوري، ولا يختلف الأمر في مصر وليبيا بقطع النظر عن مآلات الدستور القديم، ويبدأ تشكل هيئة تشريعية تسمّيها بعض التجارب مجالس تأسيسية أو مجاس نيابية مؤقتة. لا شكّ أن هذه البناءات كلها تظلّ هشّة قابلة للتفكّك السريع، يبدأ آنذاك الخصوم (وما أكثرهم) في سحب الشرعية من هذه البناءات الهشّة والوليدة كلّها، من أجل العودة إلى “العهد الذهبي”، أو الارتماء في مسار آخر هو مزيج من الفوضى والحرب الأهلية، خصوصاً في ظلّ اختبارات عسيرة: العدالة الانتقالية، وبركان الذاكرة وآلامها.
تمرّ التجارب الانتقالية كلّها باختبارات عسيرة، وكلّما طال أمدها، كانت عرضة للانتكاس، خصوصاً في ظلّ تحرّش إقليمي ودولي بكلّ ما له صلة بالثورات العربية ورغبات التحرّر. كلما لانت الثورات واقتربت من المؤلّفة قلوبهم، ابتعدت من مهجتها وأصابها المسخ، وكلّما مالت إلى مهجتها وروحها، تكالب عليها الجميع، وتلك هي المعضلة التي لا نرى لها حلّاً سهلاً. ولا يحتاج السوريون إلى الاطلاع على دروسنا الخائبة والاتعاظ من تجاربنا الفاشلة، فلهم من الإرادة والذكاء والنخب ما بها يختارون أقوم المسالك، ولكن قد يحتاجون إلى النظر في مرآة قطار ثورتهم العاكسة، حتى يتجنّبوا المحطّات الفاشلة، وإنهم على ذلك لقادرون.
العربي الجديد
—————————
اتهامات للسفارات السورية بتحريك مظاهرات مشبوهة ضد الدولة وحملة للتغيير/ عمر زقزوق
17/3/2025
أطلق رواد منصات التواصل الاجتماعي في سوريا حملة تطالب الحكومة السورية، وخصوصا وزارة الخارجية والوزير أسعد الشيباني، بالإسراع في تغيير السفراء والبعثات الدبلوماسية السورية في أوروبا وبعض الدول الأخرى.
وأشار الناشطون إلى أن هؤلاء السفراء تم تعيينهم إبان حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، وأنهم مرتبطون بالمظاهرات المعادية للدولة السورية الجديدة التي تنظم في أوروبا.
السيد وزير الخارجية، لماذا تبقون على طواقم السفارات السورية؟ وجود هذه الخلايا السرطانية ضرر كبير في حق السياسة الخارجية التي تسعون جاهدين بها@asaad
— thats_raw (@mohd1272006284) March 16, 2025
وصرح مغردون بأن السفارات السورية، خاصة في روسيا وبعض الدول الأوروبية الغربية، أصبحت أشبه بـ”حصان طروادة” يُستخدم لضرب وحدة السوريين، مشيرين إلى أن بعض الشخصيات البارزة في “التشبيح الدبلوماسي” ما زالوا يتقلدون المناصب الدبلوماسية ويعملون على تنسيق المظاهرات المناوئة للدولة.
السفارات السورية في روسيا وبعض دول اوربا الغربية صارت حصان طروادة لضرب وحدة السوريين ، فالفلول في قلبها ، ويتربعون على مكاتبها ، ويتصرفون بكل ما بقي في حوزتها ، وابرز مشاهير التشبيح الدبلوماسي كالجعفري ، وشركاه هم الآن من ينسقون المظاهرات المعادية ، أما لماذا لم يتم تغييرهم منذ…
— muhydinlazikani (@muhydinlazikani) March 17, 2025
وتساءلوا عن الأسباب التي حالت دون تغييرهم حتى الآن، خاصة بعد تحرير البلاد، معبرين عن استغرابهم إزاء هذا “اللغز المحير”.
وذهب ناشطون إلى أن ما يجري في شوارع أوروبا لا يمكن أن يكون محض صدفة، بل هو “جزء من مخطط أمني خطير” يُدار من داخل السفارات السورية الموجودة هناك، عبر عناصر موالية للنظام السابق.
وأشاروا إلى استغلال أعضاء هذه السفارات للجاليات السورية بهدف تعزيز الانقسامات وإثارة الفتن، مؤكدين ضرورة تطهير هذه البعثات فورا واستبدال أطقمها ليحل محلهم أشخاص مؤهلون ومخلصون للوطن.
احذروا من مجموعات الضغط السورية الموجودة في الخارج والتي تدس السم علينا بالخفاء لتعطل المرحلة الانتقالية سواء لأغراض شخصية، أو أحقاد نفسية مقيتة. هؤلاء أخطر علينا اليوم من أشرس عدو وعلى الدولة رصد تحركاتهم وفتح قنوات تواصل لاستيعابهم والتقليل من أضرارهم.
— Mahmoud Toron محمود الطرن (@MT77W) March 15, 2025
وكشفت تقارير لصحف محلية سورية عن دور موظفي السفارات السورية في كل من فرنسا، وهولندا، وألمانيا في تنظيم مظاهرات مشبوهة ضد الدولة السورية الجديدة.
وأكدت هذه المصادر أن ما يرفع من شعارات وما ينظم من فعاليات معادية تدار بالأساليب الأمنية نفسها التي كان يستخدمها النظام السابق قبل سقوطه، مما يستدعي، برأي الصحفيين والمواطنين على حد سواء، إجراء تغيير جذري في البعثات الدبلوماسية.
على الحكومة التحرك فوراً وتغيير موظفيين السفارات السورية في اوروبا، التقارير تتحدث عن دور موظفي السفارات السورية في فرنسا، هولندا، وألمانيا بتحريك مظاهرات مشبوهة ضد الدولة السورية الجديدة
— عمر مدنيه (@Omar_Madaniah) March 16, 2025
وأكد عدد من السوريين أن ملف السفارات يعد من الملفات المهمة التي لم تشهد تعديلات تُذكر منذ انتصار الثورة السورية، مشيرين إلى أن العناصر الأمنية والدبلوماسية التابعة للنظام السابق ما زالت تعمل داخل هذه السفارات ضد الدولة الجديدة عبر 3 آليات رئيسة، تشمل تحريض السوريين في الخارج ضد الدولة الوليدة من خلال فرض عراقيل عليهم في أثناء معاملاتهم، وسوء معاملتهم، وابتزازهم عبر الرشاوى، ليُشعروا بأن “لا شيء تغير”.
ومن هذه الآليات أيضا تنظيم أنشطة معادية للدولة السورية عبر خلايا أمنية وطائفية ما زالت تدين بالولاء للنظام السابق وتنفذ أجنداته.
لم يغيّر السفراء السابقين للحفاظ على الاعتراف الدولي، وضمان استقرار العلاقات الخارجية، وتجنب الأزمات الدبلوماسية. أو بسبب خطة تدريجية لإعادة الهيكلة، مع التركيز حاليًا على الأولويات الداخلية مثل الأمن وإعادة الإعمار.
— Khidr Harfoosh (@Khidr_Harfoosh) March 16, 2025
جدل حول أدونيس ومشاركته في وقفة تضامنية
على صعيد متصل، تداول ناشطون عبر منصات التواصل صورا لوقفة تضامنية قيل إنها تدعم ضحايا الساحل السوري، الذين فقدوا حياتهم في أثناء ملاحقة الجيش السوري لجماعات فلول الأسد. وقد أثارت مشاركة الشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر، المعروف بـ”أدونيس”، في هذه الوقفة جدلًا واسعًا.
وتساءل رواد مواقع التواصل: “أين كان أدونيس طوال 14 عامًا، حين كان بشار الأسد يقتل السوريين؟!”.
أدونيس هو الشاعر الذي لم يخرج يوما في اعتصام للتضامن مع ضحايا مجازر بشار طوال 14 عاما … https://t.co/mU9QBuBIpi
— سَجَد الجبوري (@sjd_aljubori) March 16, 2025
كما استنكر آخرون غيابه عن المشهد عندما تعرض الشعب السوري للقصف بالأسلحة الكيميائية وغيرها من وسائل القمع الوحشية، مؤكدين التناقض بين مشروعه الفكري الذي يدعي الانحياز للحرية والعقلانية ومواقفه الصامتة إزاء مأساة وطنه.
لماذا لم نرَ أدونيس، المثقف الثائر على أنظمة الجهل والتخلف كما يزعم، عندما كان الشعب السوري يُسحق تحت القصف وبالكيماوي؟ لماذا غاب صوته عن مأساة وطنه، رغم أن مشروعه الفكري يدّعي الانحياز للحرية والعقلانية؟ هل الإنسانية تتجزأ، أم أن أدونيس لا يرى التخلف إلا في فئة معينة pic.twitter.com/s4TUkSlnZB
— Sultan alkanj سلطان الكنج (@AlkanjSultan) March 16, 2025
وفي ردود بعض المدونين على هذه التساؤلات، أكدوا أن أدونيس، رغم كونه شاعرا كبيرا، فإنه لم يشارك يوما في أي تحرك تضامني مع ضحايا النظام البائد، مما اعتبر “وصمة عار” تلحق بصورته بوصفه مثقفا يدعو إلى الثورة على أنظمة التخلف والجهل.
علي أحمد إسبر (#أدونيس)، الحالم الأبدي بجائزة نوبل، والمعارض الشرس لكل “ثورة تخرج من عتبات الجوامع”، والداعي لـ “تغيير المجتمع” لأن “تغيير النظام حدثاً ثانوياً”، والمتربص بأي شعار ديني في أي مظاهرة، فقط ليقول بأنها ليست ثورة… طق عرق الإنسانية والحرية لديه، وقرر التظاهر لأول مرة… pic.twitter.com/S8i4MQvwgH
— Yaman يمان (@YamanAmouri) March 16, 2025
المصدر : الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي
——————————-
“ادعُ لنا. لقد وصلوا”..كيف انزلقت سوريا إلى حمام دم من الانتقام
تحديث 17 أذار 2025
دمشق: بلغت صرخات الانتقام ذروتها في السادس من مارس/آذار.
دعت عشرات الرسائل التي نشرتها فصائل مسلحة مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتداولها مئات الآلاف من السوريين، إلى “النفير” للمساعدة في سحق تمرد ناشئ من أنصار الرئيس المخلوع والمكروه على نطاق واسع بشار الأسد.
تدفقت مئات الشاحنات الصغيرة المحملة بمسلحين، بالإضافة إلى دبابات وأسلحة ثقيلة، على الطرق السريعة الرئيسية باتجاه منطقة الساحل السوري التي تقطنها الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد.
كانوا يسعون للانتقام من الموالين للرئيس المخلوع، ومعظمهم من ضباطه العلويين السابقين. ويُقال إن بعضهم نفذ سلسلة من هجمات الكر والفر على الجيش الجديد في محاولة للانقلاب على الحكومة التي يقودها الإسلاميون السنة.
في الساعات الأولى من صباح السابع من مارس/آذار، هاجمت قوات موالية للحكومة حي القصور في مدينة بانياس، أحد أول مخارج الطرق السريعة الرئيسية، وأطلقت النار على المباني السكنية، ما أسفر عن مقتل عائلات داخل منازلها. ووقعت هجمات مماثلة في سلسلة من البلدات والقرى الواقعة شمالاً على طول الساحل، بما في ذلك المختارية، والشير، والشلفاطية، وبرابشبو، حيث تتركز الطائفة العلوية.
قال حسن حرفوش، وهو علوي من القصور يقيم الآن في العراق، واصفاً مكالمة هاتفية مع عائلته قبل مقتل والديه وشقيقه وشقيقته وطفليها بالرصاص في البلدة، بعد ظهر السابع من مارس/آذار: “سمعت صراخ أطفال، وإطلاق نار، ووالدي يحاول تهدئة الأطفال”.
“كان والدي يقول لي: ادعُ لنا. لقد وصلوا”.
قال حرفوش إنه غادر سوريا قبل أشهر، عقب الإطاحة بالأسد بناءً على طلب والده الذي خشي موجة ثأر من العلويين: “قال لي أن يبقى واحد منا على الأقل على قيد الحياة”.
في غضون ستة أيام تقريباً، سقط مئات المدنيين العلويين قتلى، وفقاً لتقارير رويترز وعدة مجموعات رصد. بعد ثلاثة أشهر فقط من الإطاحة بالأسد، في ديسمبر/كانون الأول، وإنهاء حكمه الوحشي، ونحو 14 عاماً من الحرب الأهلية، انزلقت أجزاء من غرب سوريا إلى حمام دم من الانتقام.
جمعت رويترز تفاصيل الأحداث التي بلغت ذروتها في هذه المذبحة الدموية من خلال مقابلات مع أكثر من 25 ناجياً وأقارب ضحايا، بالإضافة إلى لقطات من طائرات مسيرة وعشرات المقاطع المصورة والرسائل المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولم تتمكن رويترز من تحديد ما إذا كانت هناك أي خطة منسقة من قبل قوات الأمن لمهاجمة المناطق العلوية أو استهداف المدنيين.
ولم ترد الحكومة السورية، التي يديرها الآن أعضاء سابقون في “هيئة تحرير الشام”، على طلب للتعليق على هذا المقال.
وندد الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بعمليات القتل الجماعي لأفراد من الطائفة العلوية، وقال إنها تشكل تهديداً لجهوده للمّ شمل البلاد التي عصفت بها الحرب، وتعهد بمعاقبة المسؤولين عنها حتى لو كانوا “أقرب الناس” إليه.
وقال لرويترز، في مقابلة قبل أيام: “نحن بالأساس خرجنا في وجه هذا النظام وما وصلنا إلى دمشق إلا نصرة للناس المظلومين… لا نقبل أن يكون هنا قطرة دم تسفك بغير وجه حق، أو أن يذهب هذا الدم سدى دون محاسبة أو عقاب. مهما كان، حتى لو كان أقرب الناس إلينا وأبعد الناس إلينا. لا فرق في هذا الأمر. الاعتداء على حرمة الناس، الاعتداء على دمائهم أو أموالهم، هذا خط أحمر في سوريا”.
واتهم الشرع وحدة عسكرية سابقة موالية لشقيق الأسد وقوى أجنبية بالمسؤولية عن اندلاع العنف بمنطقة الساحل، لكنه أقرّ بأن “أطرافاً عديدة دخلت الساحل السوري وحدثت انتهاكات عديدة”.
وقال إن ذلك “أصبح فرصة للانتقام” من مظالم مكبوتة منذ سنوات.
وتواصلت رويترز مع عدد من الموالين للأسد الذين نشروا رسائل على الإنترنت تحث على العنف، لكنهم لم يستجيبوا.
وقالت جماعات رصد، من بينها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي منظمة مستقلة مقرها المملكة المتحدة، إن أكثر من ألف شخص لقوا حتفهم في أعمال العنف، أكثر من نصفهم قُتلوا على يد قوات متحالفة مع السلطات الجديدة، بينما قُتل آخرون على يد موالين للأسد.
وأضافت الشبكة أن من بين القتلى 595 مدنياً ومقاتلاً أعزل، غالبيتهم العظمى من العلويين. وأحصت رويترز أكثر من 120 جثة في ستة مواقع على الأقل في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، من خلال تحديد المواقع الجغرافية لمقاطع مصورة نشرها سكان وأقارب والقتلة أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
وشهدت الإطاحة بالأسد صعود حكومة جديدة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، وهي جماعة إسلامية سنية انبثقت من تنظيم كان تابعاً لتنظيم “القاعدة”.
وشعر العديد من السنة في سوريا، الذين يشكلون أكثر من 70 بالمئة من السكان، بالتهميش السياسي والاقتصادي على يد بشار الأسد ووالده حافظ الأسد، اللذين قمعا بشدة الاحتجاجات التي هيمن عليها السنة ضد حكمهما.
وتسعى الحكومة الجديدة جاهدة لدمج عشرات الفصائل، التي انبثقت من رحم الحرب الأهلية الطويلة، في قواتها الأمنية. وتعتمد الحكومة على مقاتليها، بالإضافة إلى مقاتلين جُنّدوا حديثاً في كيان يعرف باسم إدارة الأمن العام. وقد برزت الحاجة إلى فصائل أخرى – بما يشمل بعض المقاتلين الأجانب – لملء الفراغ الأمني الذي خلفه تفكيك منظومة الدفاع في عهد الأسد.
ووفقاً لعدد من الشهود، نُفذت عمليات القتل الجماعي في الغالب على يد مسلحين من مختلف الفصائل المتحالفة مع الحكومة الجديدة، بما في ذلك إدارة الأمن العام. وأظهر مقطع مصور نُشر على فيسبوك، وتحققت منه رويترز، بعض الرجال يرتدون زياً عسكرياً وعلامات على أذرعهم تُشبه تلك التي ترتديها إدارة الأمن العام، وهم يشاركون في أعمال العنف في مدينة جبلة الساحلية.
ولم تستجب إدارة الأمن العام لطلب التعليق.
قال أحد أفراد الأمن العام إنه وعشرات من أفراد الوحدة الآخرين نُشروا إلى الساحل في السادس من مارس/آذار بهدف استئصال المقاتلين الموالين للأسد، وعادوا إلى قاعدتهم في حلب هذا الأسبوع.
وأضاف أن مقاتلي إدارة الأمن العام لم يستهدفوا المدنيين على حد علمه، مضيفاً أن دعوات “النفير” على مواقع التواصل الاجتماعي استقطبت مقاتلين آخرين غير منضبطين، فقتلوا مدنيين بشكل جماعي.
وأضاف: “انضم إليهم كل من كان بحوزته سلاح”.
“ضربة بيد من حديد”
خلفت سنوات حكم الأسد الأربعة والعشرون إرثاً كارثياً بعد هروبه إلى موسكو في ديسمبر/كانون الأول. فالكثير من السنة في سوريا، الذين يشكلون غالبية السكان، يضمرون استياءً عميقاً تجاه الموالين للرئيس السابق الذين شنوا تمرداً محدوداً هذا الشهر.
ازدادت حدة التوتر في السادس من مارس/آذار، عندما أعلنت الحكومة أن مقاتلين يقودهم ضباط علويون سابقون في جيش الأسد شنوا موجة من أعنف هجماتهم حتى الآن، ما أودى بحياة 13 فرداً من قوات الأمن الحكومية في محافظة اللاذقية، وهي معقل للعلويين. ولم تُعلن أي جهة مسؤوليتها عن عمليات القتل.
وتمكّنت رويترز من مراجعة رسائل عدة تدعو السوريين إلى التوجه إلى الساحل للمشاركة في “النفير”.
فعلى سبيل المثال، نشرت صفحة على فيسبوك لها أكثر من 400 ألف متابع، وتقول إنها تابعة لإدارة الأمن العام، دعوات للعشائر العربية في سوريا للتعبئة لدعم مقاتلي الحكومة في مواجهة المتمردين العلويين. كما نشرت مقاطع مصورة لجماعات مسلحة ترسل مقاتلين ومركبات إلى الساحل للانضمام إلى القتال. ولم تتمكن رويترز بعد من تحديد هوية أدمن الصفحة.
كما ظهرت دعوات إلى حمل السلاح في ما لا يقل عن ثلاث مجموعات على تطبيق واتساب، تضم كل منها مئات الأشخاص في ثلاث مناطق مختلفة من شمال سوريا. كانت الرسائل محلية، مع تحديد نقاط تجمع محددة في كل منطقة تنطلق منها القوافل نحو الساحل.
وفي اليوم نفسه، قال سكان في مدينتي دمشق وحلب الرئيسيتين لرويترز إنهم سمعوا بعض المساجد السنية تبث دعوات الجهاد عبر مكبرات الصوت. وندد أحد أئمة مسجد في دمشق بهجوم العلويين المزعوم على قوات الأمن، ودعا السنّة إلى حمل السلاح ضد خصومهم الطائفيين في خطبة بُثت على فيسبوك واطلعت عليها رويترز.
ولم يرد إمام دمشق، محسن غصن، على طلب التعليق عبر صفحته على فيسبوك. كما لم ترد وزارة الشؤون الدينية السورية المسؤولة عن المساجد.
ولم تتمكن رويترز من تحديد عدد المقاتلين الذين حُشدوا لهذه القضية. وتُظهر لقطات من طائرات مسيرة للطريق السريع شرق مدينة اللاذقية الساحلية، بالقرب من قرية المختارية، مئات المركبات- منها شاحنات تحمل مقاتلين في الخلف ومركبات عسكرية ودبابتان على الأقل- وهي تدخل المنطقة صباح السابع من مارس/آذار.
وأبلغ مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة رويترز بأن تحقيقاته أشارت إلى أن حشد المقاتلين لدعم قوات الأمن شمل جماعات مسلحة ومدنيين، وأنه حدث بسرعة كبيرة.
وقال متحدث باسم المكتب: “لم يتسن التعرف على هوية العديد من المهاجمين لأنهم كانوا ملثمين، ولذلك من الصعب للغاية معرفة من فعل ماذا. كانت الفوضى عارمة”. وأضاف: “ليس لدينا صورة واضحة عن هيكل التسلسل القيادي داخل قوات الأمن التابعة للحكومة المؤقتة”.
المقاتلون يتنقلون من منزل لمنزل
أفاد ستة شهود وأقارب قتلى بأن حي القصور، حيث تعرضت عائلة حرفوش لمأساة، شهد بعضاً من أسوأ المجازر.
وقال أحد السكان لرويترز إن المقاتلين أطلقوا، في بادئ الأمر، ذخيرة ثقيلة وقذائف مدفعية ومدافع مضادة للطائرات على المباني السكنية. وأضاف أن المسلحين بدأوا بعد ذلك بقليل التنقل من منزل إلى آخر، ما تسبب في مقتل مدنيين.
وأضاف أن نحو 15 مسلحاً اقتحموا منزله في ثلاث مجموعات مختلفة، منها بعض أفراد جهاز الأمن العام الذين تعرف عليهم من زيهم العسكري، بالإضافة إلى مقاتلين أفغانيين يعرف لغتهما.
وقال إن هويته المسيحية فقط هي التي أنقذته وعائلته. وأضاف أن أحد ضباط جهاز الأمن العام كف المسلحين الآخرين عن قتلهم.
وكان جيرانه أقل حظاً.
فقد قال اثنان آخران من سكان القصور إن العديد من أفراد أسرهم قُتلوا. وأفادت امرأة أخرى بمعرفتها مقتل نحو 50 شخصاً، بينهم والداها وجيرانهم وطفل من الجيران عمره ثلاث سنوات. وقال ساكن رابع إن المسلحين أجبروا الناس على الخروج من منازلهم وقتلوهم، بمن فيهم ابن أخيه البالغ من العمر 28 عاماً.
وقال ناجون إن مقاتلين سرقوا سيارات وهواتف وأموالاً من السكان وأجبروا نساء على تسليم مجوهراتهن تحت تهديد السلاح وأحرقوا منازل ومتاجر ومطاعم.
ولم تتمكن رويترز من التحقق من هذه الروايات بشكل مستقل.
وفي اليوم نفسه، السابع من مارس/آذار، وفي الأيام التي تلته، هاجم مسلحون أيضاً سلسلة من البلدات والقرى الواقعة شمالاً على امتداد الساحل وفي التلال المحيطة بمدينة اللاذقية.
وتمكنت رويترز من التحقق من لقطات لعشرات الجثث ملقاة في تلك القرى، والتي نُشرت على الإنترنت في الأيام التي تلت عمليات القتل.
وأظهر مقطع مصور نُشر على الإنترنت في السابع من مارس/آذار جثث ما لا يقل عن 27 رجلاً، كثير منهم من كبار السن، ملقاة على جانب طريق في المختارية. وفي اليوم نفسه، في الشلفاطية على بُعد 20 دقيقة بالسيارة، أظهر مقطع مصور نُشر على فيسبوك وتحققت منه رويترز جثث ما لا يقل عن 10 أشخاص بملابس مدنية ملقاة على الأرض أمام صيدلية وعلى امتداد الطريق. وكان الكثيرون لا يزالون ينزفون.
(رويترز)
——————————
الصراع على سوريا الانتقالية: إلى أين؟/ عصام نعمان
تحديث 17 أذار 2025
اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية، لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سوريا «الانتقالية». إلى أين ستنتقل سوريا، أو بالأحرى إلى أين تنوي أمريكا و»إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟ لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر، لأن أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال، وكيف ستكون سوريا شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سوريا في حاضرها المضطرب، ولعل أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكرية في سوريا منذ سنوات عدّة، بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي كان قد نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل في شمال العراق، ومحافظة الرقة في شمال شرق سوريا. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسية بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون.
مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أمريكا المتمردين الكرد، الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال، الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإن واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سوريا، شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا، التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور. «إسرائيل» تحتل نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، وتسيطر على حوض نهر اليرموك، وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً، وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحدين الدروز السوريين، في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أن «إسرائيل» بدأت بتنفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزية في الجنوب السوري، والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانية امتدادها لضم دروز لبنان أيضاً. تركيا يهمها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصالي في جنوبيّ شرق أراضيها وشمال شرق سوريا. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقالي في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكرية لها في شمال البلاد. وسط تدخلات هذه الدول الثلاث القوية النافذة، يحاول الحكم الانتقالي في دمشق بقيادة أحمد الشرع، تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدموية العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق إلى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي، ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع « الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات، مع استمراره لمدة خمسة أعوام على الأقل. «الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة، أولها من «مجلس سوريا الديمقراطية»، الذراع السياسية لـِ»قسد»، الذي وصف أحمد الشرع بأنه «يكرر ما كان يفعله بشار الأسد»، مضيفاً أن الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعي ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وأن «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».
في الجنوب السوري، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل»، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة، بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة. من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطورات يمكن استخلاص النقاط السياسية الآتية:
*ما زال الاضطراب السياسي والطائفي هو السمة الغالبة في حاضر سوريا الانتقالية.
*عملية توحيد جغرافية سوريا، سياسياً وإدارياً، التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.
*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق، والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سوريا.
*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن من احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.
*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سوريا حيث الكرد و»قسد»، ولذلك تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في شمال البلاد.
*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة اخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقالي في دمشق.
*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سوريا بالوقت الحاضر، وإن ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.
*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي إلى سوريا في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.
*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سوريا، بالوقت الحاضر، بل ثمة تسليم بالدور الأمريكي الناشط بلا ادنى منافسة.
*لعل أدق توصيف لحال سوريا في الوقت الحاضر هو، أنها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.
إلى أن تستيقظ وتتوحد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سوريا مفتوحاً على شتى الاحتمالات.
كاتب لبناني
القدس العربي
———————————
حتى لا يستمر الكذب ولكي يبدأ الحوار/ سلام الكواكبي
الإثنين 2025/03/17
ما جرى من مذابح وجرائم حرب منذ أكثر من عشرة أيام، في عدة مدن وبلدات وقرى ساحلية في سوريا، وما أعقبها ودار حولها من نقاشات عدمية وحوارات نارية، رفع اللثام عن جزءٍ من وجه الحقيقة القبيح أو المشوّه، والذي سعى السوريون عقودًا لإخفائه عن الذات وعن الآخر. ولقد أظهرت بشاعة ما قامت به بعض “العناصر غير المنضبطة” ـ كما قيل ـ بحق المدنيين من أهالي “الفلول” أو من جاورهم، بأن هناك كارثة أخلاقية بنيوية في تركيبة الإنسان السوري المعاصر. وبالطبع، من السهل للغاية، إلقاء اللوم والإدانة بوجه النظام السابق القبيح تكوينًا وفلسفةً وممارسة. لكن هذا التحميل المريح للمسؤولية يمنعنا من مواجهة أنفسنا أمام مرآة التاريخ والوقائع. فهو يحرمنا من تبوء دور، أيما دور، في مواجهة هذا الانحراف ومقارعة نتائجه الوخيمة على مستقبل البلاد.
لقد كان النظام “الأسدي” السابق، وإلى جانب مجموعة كبيرة من الصفات السلبية والممارسات الوحشية التي تدين مجرّد وجوده، يكذب بشكل مفضوح ومن دون وجل، يساعده في ذلك جوقة “حسب الله” من رجاله للدين، وليس رجال الدين، مشدّدًا على وجود حقيقي للتآخي ورسوخ الانسجام الكامل في عمق المجتمع السوري بين الأديان والمذاهب والاثنيات. كان يكذب ويعرف بأنه يكذب. ويدعو أتباعه، كما جرت عليه العادة، إلى امتهان الكذب والمجاهرة به، في كل حدب وصوب. ولقد وصل البلل إلى وجنات بعض النخب المعارضة، والتي تبنّت هذه الكذبة السلطوية وادّعت بأن “لا حدٌّ يُباعدنا ولا دين يفرّقنا”. وخاضت في لغة الشعارات والعناوين الشعبوية. بل وصلت بهم حالة تقمّص خطاب السلطة وإعادة إنتاجه، على الرغم من استمرارهم بشتمها في الآن نفسه، إلى أن يعتبروا بأن النعرات الطائفية والحدود الاثنية هما من صنع آلة الاستبداد المقيت ليس إلا. وبذلك، فهم يبرؤون المجتمع، وهم في محوره أو هكذا يُفترض، من أي انحراف موصوف باتجاه التعصّب والعصبية.
إن الهروب المتعمّد الذي قامت به بعض النخب المثقفة والواعية من أمام واقع مجتمعاتها، أودى بها، إضافة إلى عوامل أخرى، إلى الجهل بحقيقة وتعقيدات المشهد المجتمعي المحلي، ولو بشكل غير متعمّد. وساهم هذا الجهل في مسار عجزها عن اجتراع الحلول المناسبة لإخراج هذا المجتمع من عنق الزجاجة الذي حصر به. فقد ظهر واضحًا بأن لكل طرف أسبابه لتغطية الحقيقة المرة وتجاهل وجودها وأثر هذا الوجود. فالحاكم المستبد، يستغل الانقسامات البينية داخل البلاد، بل هو يُشجّع على توسيعها وترسيخها، وذلك على الرغم من استمراره بالكذب نافيًا وجودها أصلاً. وبالحقيقة، ونتيجة التجربة التي خاضها وخبرها، فهذه الانقسامات تساعده على حسن إدارة الاستبداد، وجعله أكثر مردودًا له ولزبانيته. أما المعارض، ففي نفيه، أو في تجاهله للواقع الذي تؤكّد عليه مجمل الدراسات العلمية الجدية، محاولة منه فاشلة للهروب الى الأمام. فهو يتهرّب عمومًا من القيام بما تُجمع عليه الدراسات التاريخية من أنه واجب المواجهة والانخراط في عملية نشر الوعي، وأخذ الموقف النقدي الحاد ومعاندة التيار المهيمن.
نعود إلى أحداث الأسبوع الماضي في الساحل السوري، فلقد أوضحت، بما لا لبس فيه، بأن التخندق والتمترس الطائفي والمذهبي سريعا النشوء والتطور. ويبدو أن هذا التخندق، إضافة إلى وجوده المادي عبر شخوص تقتل وتُقتل على أرض البلاد، فإن له وجودًا افتراضيًا ليس بأقل دموية ووحشية من وجوده المادي الحقيقي. وحفلت مواقع التواصل الاجتماعي بمجموعة متكاملة من الحشرات الالكترونية التي التهمت ما كان يسمى بالذباب الالكتروني وتجاوزت أداءه لتصبح “مبدعة” في إنتاج الخطاب الطائفي والتحريضي. خطاب التشفي والتغني. خطاب تشويه الآخر عن بعد، لمجرد اختلاف معالجة هذا الآخر لحدث وطني له وقع هائل وسيكون له، إن أهمل علاجه الجذري والمدروس، أن يؤسس لمجتمع حرب أهلية مستدامة. واستطاب بعض المقاتلين الافتراضيين، وهم الأكثر والأوسع انتشارًا، في تعنيف الطرف الآخر بالشتائم المسنودة فقهيًا، متهمين بالكفر أو بالخيانة كل من لم تسوّل له نفسه الأمارة بالحرية أن لا يخضع لمشيئتهم الدموية. ولو أتيح لهم لصاروا قاطعي أعناق لكل من اختلف عنهم في الرأي. ولقد خُيّل للبعض منهم أن نفي الوقائع والحقائق الموثّقة، يزيدهم قربًا من أصحاب القرار الجدد. فسياسة التمجّد المؤسس لها منذ القدم، والتي يحافظ العامة على تراثها بكل حرص وغيرة، تصبح هي النبراس في اتخاذ المواقف.
بداية الحل الوطني، الذي لم ير النور بعد، هو أن نعترف جميعًا، نخبًا وعامة، حكامًا ومسؤولين، بأننا لا نعيش، ولم نكن أبداً نعيش في مجتمع متجانس متحاب ومنفتح على كل مكوناته، بالشكل الكاذب الذي حاولنا تصديقه طوال عقود. وهذا لا يعود لفترة الأسدين الماضيين الى مزابل التاريخ فحسب، بل يرجع الى أزمانٍ بعيدة لعبت عديد من العوامل الذاتية والموضوعية في تفاقمها. وعلى الرغم من الأدوار السلبية للغاية التي لعبها المستعمر والمستبد في ترسيخ هذه الانقسامات، إلا أننا جميعا لنا دورٌ مهم في تفاقمها وفي ترسيخها. وأهم أدواتنا في مفاقمتها وتعظيم أثرها، هو رفضنا الاعتراف بأننا بحاجة لحوار وطني حقيقي وشامل وموسّع على مختلف المستويات، يعتمد مبدأ الشجرة الباسقة وفروعها المنحنية أو الآيلة للسقوط من دون استثناء أحد، ومن دون اللعب على الكلمات، ومن دون تقبيل اللحى، ومن دون حرق المراحل. حوارٌ لأسابيع وأشهر، لا لساعات. حوار ينطلق من الخلية الصغرى في المجتمع المحلي الضيق، ليصل إلى مؤتمر وطني جامع. فهل من مستجيب؟
المدن
——————————
الرهان الغربي على الشرع لا يزال قائماً/ إياد الجعفري
الإثنين 2025/03/17
أخيراً، حُسم أمر مشاركة سوريا رسمياً، للمرة الأولى، في مؤتمر المانحين المعني بها. وتوجّه وزير الخارجية، أسعد الشيباني، إلى العاصمة البلجيكية، بروكسل، ليحصد شرعية دولية إضافية لنظام الحكم الجديد القائم في دمشق.
قبل ذلك بيوم فقط، كانت الشكوك قد بلغت أقصاها، حيال حصول تبدلٍ نوعي في العلاقة الحذرة، لكن الإيجابية، التي بدأت تتوطّد بين الإدارة الجديدة في دمشق، وبين دول أوروبية بارزة، في مقدمتها فرنسا وألمانيا. فبعد أن طُويت فرصة حضور الرئيس أحمد الشرع شخصياً لمؤتمر بروكسل، أوحت تصريحات نقلتها قناة “الجزيرة” عن مصادر بالخارجية السورية، بوجود انتكاسة خطرة في مسار التفاهمات الممكنة مع الأوروبيين.
لا نعرف طبيعة التسوية التي قادت الشيباني إلى بروكسل، بعد أن كانت وزارته قد أصدرت تصريحاتها النارية، التي حذّرت فيها من الاعتكاف عن حضور المؤتمر، إن كان “يروّج لأجندات خارجية تتعارض مع سيادة سوريا ومصالحها الوطنية”، أو إن كان “مسيّساً لخدمة روايات محددة”. ومن الصعب أن نعرف الآن، إن كانت القيادة في دمشق هي من تراجعت، أم أن مرونة أوروبية شجعت الدبلوماسية السورية على حسم أمرها بالمشاركة. أو إن كان طرف ثالث، إقليمي مثلاً، قد تدخّل لتقريب وجهات النظر. لكن ما يمكن الجزم به، أن هناك رغبة جادة من الطرفين المعنيين، في إنجاح الهدف من هذا المؤتمر، وهو مساعدة الدولة السورية اقتصادياً، كي تقف على قدميها. لأن البديل، لن يكون في صالح أحد.
ومن المعلوم، أن التوتر الذي طرأ على العلاقة بين دمشق والأوروبيين، جاء على خلفية أحداث الساحل الدامية. لكن اللافت، أن التصريحات عالية النبرة في إدانة هذه الأحداث، غربياً، لم تؤدِ إلى تغيّر نوعي في الموقف الفعلي من السلطة بدمشق. حتى أن المفاوضات مع “قسد” لم تتعكّر، وهي المفاوضات التي كانت تجري برعاية أميركية حثيثة. وتم توقيع الاتفاق بين الطرفين (قسد، والحكومة في دمشق)، بعد يومٍ فقط من توقف الانتهاكات والاشتباكات بالساحل.
وفيما تقول لنا المصادر، إن دول الاتحاد الأوروبي تريد اعتبار ما جرى في الساحل حادثاً معزولاً، تطالعنا صحيفة “واشنطن بوست” بدعوة للإدارة الأميركية، برفع العقوبات عن سوريا، مؤقتاً. لأن البديل سيكون تحوّلها إلى دولة فاشلة. قبل ذلك بأيام، أخبرتنا صحيفة “ميدل إيست آي”، أن واشنطن عملت على مدار أشهر لإقناع قوات سورية الديمقراطية “قسد”، بالبحث عن سبل للتعاون مع الحكومة السورية الجديدة. وبأن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مهتم بعقد صفقات تجارية مع الحكومة السورية، تشمل الوصول إلى الموارد النفطية بشمال شرقي سوريا. كما أنه مهتم بتطوير علاقات إيجابية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي بدوره، هاتفه الأحد، ليحثّه على رفع العقوبات عن سوريا، من أجل استعادة الاستقرار فيها. في هذه الأثناء، تشير وسائل إعلام ألمانية إلى وجود محادثات بين برلين ودمشق، بغية توفير ظروف ملائمة لإعادة لاجئين سوريين من ألمانيا إلى وطنهم الأم. توفير هكذا ظروف يعني انخراط ألمانيا في دعم مشاريع التعافي المبكّر وإعادة الإعمار بسوريا. إذ لا سبيل لعودة مئات آلاف اللاجئين، إلا بهذه الطريقة.
هكذا تبدو أحداث الساحل، سحابة صيف عبرت سريعاً أجواء الترحيب الإقليمي والدولي بالسلطة الجديدة في دمشق. ورغم الحذر الأوروبي، والغموض الذي يكتنف الموقف النهائي لإدارة ترامب، فإن المؤشرات ترجّح أن معظم الفاعلين يريدون لسوريا الاستقرار. وحجر الأساس لذلك، هو رفع العقوبات، وبدء عملية إعادة الإعمار، بأسرع وقت ممكن. وإلا، فإن “برميل بارود” سينفجر في سوريا، وسيتناثر شتاته على مختلف دول الإقليم، وسيطال القارة الأوروبية بأثره الكارثي.
ورغم مساعي إدارة الرئيس أحمد الشرع، الجليّة، للاستئثار بالسلطة، إلا أنها تتفاعل بمرونة وإيجابية مع مختلف الأطراف الخارجية ذات المصلحة في سوريا. وتتحمّل مسؤولياتها بصورة مقبولة، حيال السلم الأهلي والتفاعل مع اللاعبين المحليين، هذا إن استثنينا “كبوة” الساحل الأخيرة، والتي عملت السلطة على تداركها سريعاً. ومع غياب بديل قادر على لمّ شتات هذا الكيان السوري، ولجم انفلاته بدفعات جديدة ضخمة من اللاجئين، لا يزال الرهان الغربي على إدارة الشرع قائماً. وهو ما يشي بانفراجات نوعية مرتقبة على صعيد التمويل الدولي للتعافي الاقتصادي في سوريا. وقد نراهن قريباً على تعليق للعقوبات الأميركية. وحتى مع المشاغبات الإسرائيلية التي تحاول التشويش على الحوار بين اللاعبين المحليين في سوريا، يصعب استيعاب مصلحة تل أبيب في انفلات أمني واسع النطاق في سوريا، تكون إيران الرابح الرئيس منه. مما يجعل تحرشاتها الراهنة بالدولة السورية الوليدة، أشبه بابتزاز تفاوضي.
ذهاب المقدمات آنفة التفصيل، إلى خواتيمها المأمولة يبقى مرهوناً بنجاح السلطة في دمشق بالحفاظ على السلم الأهلي، وعدم تكرر أحداث الساحل. في الوقت نفسه، فإن نجاح السلطة في تحقيق ذلك، على مدى زمني أبعد، مرهونٌ بتحسّن فرص العيش والعمل لعموم السوريين. وهو ما سيؤدي إلى إخماد نيران التشنج بين أطيافهم، لتتوجه طاقاتهم نحو الارتقاء بظروف حياتهم. لأن انعدام فرص العيش، سيبقى وقوداً للتوتر، وبالتالي، عدم الاستقرار. وهي التوليفة التي يخشى الغرب ومعظم الإقليم، انفجارها. لذا لا بديل عن إنعاش سوريا، اقتصادياً.
المدن
—————————————-
مجزرة الساحل والنقاش “الثأري” السوري/ مناهل السهوي
17.03.2025
الثأر، وعمليات الانتقام واسعة النطاق التي لا تميز بين طفل، أو مدني، أو عسكري، لا تؤدّي إلى إعادة بناء البلاد، بل على العكس، تعزز الشروخ في المجتمع وتُفاقم الانقسامات، ولا توفّر أي نوع من الطمأنينة، بل تغذّي فقط فكرة الثأر الذي لا ينتهي.
يبدو الشرخ النفسي والسياسي والأخلاقي بين السوريين اليوم أعمق من أي وقت مضى، ليس فقط بسبب اختلاف موازين القوى العسكرية، أو لأن بعض ضحايا الأمس أصبحوا شامتي اليوم، بل لأن الثورة ضد حكم الاستبداد، في جوهرها، كان يُفترض أن تمثّل انتصاراً للعدالة، لا مجرد تبادل للأدوار. كان الأمل أن يكون سقوط النظام انتصاراً لجميع الضحايا، بغض النظر عن هويّتهم، لا أن يتحوّل إلى لحظة انتقام تُعيد إنتاج الظلم بشكل جديد.
ما زالت الفيديوهات المسرّبة عن مجازر الساحل تتوالى واحداً تلو الآخر، لتكشف عن فظائع ارتُكبت على مدار الأيام الماضية. مع كل قصة وفيديو يُكشف عنهما، يزداد النقاش الثأري بين شرائح واسعة من السوريين حدّة. لم يعد خافياً الحقد الذي نما على مدار خمسين عاماً بين الطائفتين السنية والعلوية بشكل أساسي، والاعتراف بهذا الواقع هو الخطوة الأولى نحو تفكيك أزمة قد تُفضي إلى حرب أهلية في البلاد.
ومع كل فيديو ومجزرة جديدة يتداخل الألم الشخصي والجمعي، والعدالة المفقودة، والرغبة في الانتقام، والتشوهات العاطفية التي راكمها العنف والاضطهاد، ويصبح التعاطف ونبذ العنف رفاهية غير متاحة.
ربما، يمكن تفهُّم غضب العامة، بخاصة السوريين في المخيمات، ومن فقدوا عائلاتهم، لكن ما يُثير الصدمة هو تهليل النُخب والمثقفين. ما يحدث اليوم يتطلّب توازناً إنسانياً وأخلاقياً وفكرياً عميقاً، وهو أمر قد يكون صعباً على من عانوا ويلات النظام، إذ يحتاجون إلى مسار عدالة طويل لإنصافهم. لكن ماذا عن المثقفين؟ أولئك الذين يمتلكون المساحة والقدرة على التفكير بعيداً عن الغضب الفوري، مستفيدين من التجارب السياسية والإنسانية القاسية التي مرّت بها البلاد. ألم يكن الأجدر بهم أن يقودوا نقاشاً أكثر وعياً حول العدالة، بدلاً من الانجراف مع موجات التشفّي أو اتّخاذ الصمت إجابةً؟
لقد أصبحت الطائفة العلوية في نظر البعض مجرد امتداد للنظام، امتداد لسنوات من الموت، حيث يُعتقد أن العدالة لا تتحقق إلا بقتل أبنائها، بدءاً من أكبر عجوز وحتى أصغر رضيع. العدالة التي طالما انتظرها السوريون، والتي لم تتحقق، حوّلت بعضهم إلى نسخة من أتباع الأسد، لكن بوجه جديد يتلاءم مع المرحلة. في مشهد مروّع حيث تُمحى الحدود بين الضحايا والجلادين، ويغيب أي شعور بالعدالة أو الرحمة.
انتظر السوريون العدالة طويلاً، آباء وأمهات وأبناء شهدوا مقتل عائلاتهم على يد عناصر نظام الأسد بلا رحمة، شاهدوا البراميل تُرمى عليهم من السماء، ومدافع النظام تُلاحقهم إلى المخيمات. طال انتظارهم لدى الضباط للحصول على أخبار عن المخفيّين قسرياً، وكانت هذه الذكريات محفورة في وجدان ملايين السوريين. وفي غياب العدالة، يصبح أي شكل من أشكال الانتقام بمثابة عدالة، ولكن هذا غير صحيح.
غالباً المجتمعات التي تعرضت لقمع وحشي أو إبادة أو أشكال أخرى من اللانسانية ينظر أفرادها إلى معاناتهم على أنها فريدة ولا يمكن أن تحصل مرتين، وفي الحالة السورية عندما يرى الضحايا القدماء مجموعة (ترتبط مناطقياً وطائفياً) بالجلاد قد يشعرون ببعض الراحة.
لذا من المهم فهم صراع الضحية والجلاد في سوريا لأنه قد يساعد بشكل أساسي على فهم أولوية العدالة الانتقالية كيلا ننتقل إلى صراع طائفي.
بسبب الظلم الشديد الذي مارسه الأسد على السوريين، يجد الضحايا أنفسهم يتساءلون عن دوافع الجلاد وراء ارتكاب كل هذه الانتهاكات. يحتاج المظلومون إلى تفسير يبرر لهم حجم هذا الظلم، ليتمكنوا من استيعابه والتعامل معه. وفي الحالة السورية، يلجأ بعض الضحايا إلى تفسير قائم على الانتماء الطائفي، معتبرين أنه السبب وراء ما فعله النظام بهم. غير أن جوهر ما حدث يرتبط بعائلة الأسد وسعيها إلى السلطة والمال والقوة، فلو كان الأمر طائفياً بحتاً، لما تُرك معظم العلويين في فقر مدقع، ولما زُجَّ بهم في حروب أدت إلى هلاكهم.
فرغم أن الصراع في سوريا ليس طائفياً في جوهره، لكن الأسد نفسه أسّس لعقود نظاماً يحكم عبر تقسيم الناس طائفياً، مما جعل البعض يربط بين جرائم النظام والطائفة العلوية ككل، رغم أن هناك علويين معارضين وقام النظام بقمعهم أيضاً.
الثأر، وعمليات الانتقام واسعة النطاق التي لا تميز بين طفل، أو مدني، أو عسكري، لا تؤدّي إلى إعادة بناء البلاد، بل على العكس، تعزز الشروخ في المجتمع وتُفاقم الانقسامات، ولا توفّر أي نوع من الطمأنينة، بل تغذّي فقط فكرة الثأر الذي لا ينتهي.
وبدلاً من أن يحتاج السوريون إلى تضميد جرح نظام الأسد، نجد أنفسنا أمام جرح جديد ومجزرة جديدة، يظن ضحايا الأسد أن معاناتهم هي الأشد في سوريا، لكن الحقيقة أن الجرح واحدٌ، ويبدو أنه يكبُر ليبتلع الجميع، وأن الانتقام ليس حلاً للماضي، بل هو ترسيخ لأحقاد المستقبل وزيادة في الخوف من الآخر.
قد تبدو فكرة السلم الأهلي اليوم بعيدة، لكن لنأخذ على سبيل المثال النزاع في رواندا والذي هو صراع دموي بين أكثرية وأقلية. لتجنب حرب أهلية جديدة، أعادت السلطات هيكلة الجيش على أساس الولاء للدولة بدل العرق، وأطلقت محاكم محلية (جاكاكا) لمعالجة جرائم الإبادة. كما عززت المبادرات المجتمعية الوحدة الوطنية، وكان تمكين المرأة جزءاً أساسياً من استقرار رواندا اليوم.
بعد 25 سنة من الإبادة الجماعية في رواندا، ازدهر الاقتصاد، كما تراجعت الانقسامات العرقية، وحضرت مكانها الهويّة الوطنية للبلاد.
لا شك في أن سوريا ما زالت في بداية طريق التعافي، لكن دور الدولة اليوم يصبح محورياً وأساسياً، بل قد يكون الوحيد، في تعزيز السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي. هذا يتطلب تبنّي سياسات العدالة الانتقالية، التي تضمن الحقوق وتعمل على معالجة موروثات الحرب. من الضروري أيضاً أن يبدأ بناء هويّة وطنية جديدة لسوريا، هويّة تشمل مكوناتها الاجتماعية والطائفية كافة، بعيداً عن هيمنة الدين السياسي على الهويّة الوطنية. فقد كانت سوريا في الماضي تُعرف بهويّة علوية بفضل حكم النظام، واليوم نجدها تُجدد محاولات لتأسيس هويّة سنية، وهو ما يعكس التحدّيات الكبيرة التي تواجهها البلاد في رحلتها نحو الاستقرار الشامل والمصالحة الوطنية.
– كاتبة وصحفية سورية
درج
————————–
المشرق: تجاهل السياسة ونشوة الاستقواء/ سام منسى
تحديث 17 أذار 2025
يبدو أن النزاعات في المشرق لم تقترب من نهايتها كما خُيل للكثيرين بعد حربي غزة ولبنان، وأطاحت آثارهما بحكم آل الأسد بسوريا بلمحة بصر بعد 54 عاماً من الاستبداد.
الأحداث في سوريا، من التمرد العسكري لفلول النظام، مروراً بزرع بذور الفتنة بين دروز سوريا والنظام الجديد إلى مسألة الأكراد، تبقى الأشد خطورة، لا سيما أنها واقعة تحت سطوة لاعبين كثر أبرزهم الإيراني والتركي والإسرائيلي ولو بنسب متفاوتة؛ ما يتيح لهؤلاء لعب أدوار تصب في مصالحهم.
إسرائيل موجودة في المشهد السوري منذ الساعات الأولى لسقوط بشار الأسد بمواقف وممارسات ملتبسة وخبيثة. وبعد تراجعها عن التمسك بالنظام البائد وسيده إثر السطوة الإيرانية عليه، عاد حنينها إليه بعد سقوطه، وتمادت في دورها المزعزع بقصف منشآت الجيش السوري وبناه التحتية وأسلحته، والتوغل في الأراضي السورية، وتحريض الطائفة الدرزية في الجنوب على السلطة الجديدة بحجة حمايتها وبقية الأقليات، في تكرار لسلوك كثيراً ما لجأت إليه بهدف تخريب الاستقرار وتفكيك الدول من حولها إلى كيانات طائفية.
أما طهران، فتحاول استعادة ما أمكن من نفوذها بسوريا ولو على حساب وحدتها، وقد تسعى لعودة الأسد إلى الساحل إذا نجح التمرد لتعود طريقها إلى لبنان سالكة لتزويد «حزب الله» بالمال والسلاح.
إن أهداف إسرائيل تتقاطع مع إيران في سوريا في محاولتهما تقطيع أوصالها والتخريب على السلطة الجديدة، فيما تحاربها في لبنان، وقد يؤدي هذا التخبط لاحقاً إلى عكس ما سعت وتسعى إليه من تقويض للوجود الإيراني على حدودها.
بدوره، يشهد لبنان خفوتاً لنشوة انتخاب رئيس الجمهورية جوزيف عون وتشكيل حكومة نواف سلام، بوصفهما سيفتحان صفحة جديدة تبدأ باستعادة الدولة من الدويلة، ومباشرة الإصلاح والنهوض. صحوة «حزب الله» بعد صدمة الهزيمة العسكرية في الحرب الأخيرة بددت هذه الصورة، بسبب تأكيده المتكرر على النصر واستمرار المقاومة المسلحة والاحتفاظ بالسلاح، متنصلاً من مضمون اتفاق وقف النار الأخير بشأن السلاح شمال الليطاني، ومتذرعاً بتفسير متقدم لما ورد باتفاق الطائف بشأن حل الميليشيات بأنه لا يشمله بوصفه مقاومة وليس ميليشيا. وجاءت حبة الكرز فيما أعلنه أمين عام الحزب نعيم قاسم أن «لا إنقاذ وإصلاح قبل إعادة الإعمار… وأن المقاومة مستمرة في الميدان»، وكلام لرئيس مجلس النواب نبيه بري حول استمرار المقاومة، والاتفاق لا يشمل السلاح شمال الليطاني في ملاقاة لكلام رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني بأن «المقاومة باقية لأن غالبية الشعب اللبناني تؤيدها». يضاف إلى ذلك ما يتردد عن عودة «حزب الله» للتدخل في سوريا بإرسال مقاتلين لدعم التمرد، وعودة احتلال إسرائيل لنقاط عدة في الجنوب، ومواصلة عملياتها العسكرية في لبنان على أنواعها مقدمة نفحة أكسجين للحزب.
لا يحتمل لبنان مثل هذه الصحوة؛ لأنها تعيده للمربع الأول، وتقطع طريق عودته للعرب، وعودتهم إليه بناسهم ومساعداتهم واستثماراتهم، وتؤدي لاستمرار التخبط للخروج من حالة الإحباط المزمنة جراء الأزمات المالية والاقتصادية والأمنية.
أما غزة فلا تزال ملعباً لمناورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السياسية الداخلية والخارجية، فاتحاً مصيرها على احتمالات عدة، أحلاهم مُر: من نجاح مشروع التهجير، إلى إمكانية تجدد الحرب دون أفق سياسي باستثناء دفع السكان للمغادرة أو البقاء تحت شبح المجاعة وويلات تجدُّد القتال. كل ذلك في ظل محادثات أميركية مباشرة مع «حماس» تبعث الريبة، لا بل الغضب عند نتنياهو وزمرته المتشددة.
عرقلة الحلول في سوريا ولبنان وغزة هي نتيجة انعدام السياسة بحكمتها وعقلانيتها وغلبة العسكرة بجموحها وجنونها، ليس في المنطقة فحسب، بل ربما في العالم أجمع. أكبر دليل على ذلك هو أن الجبروت العسكري الإسرائيلي لم يؤتِ ثماره: ما زالت النار في غزة تحت الرماد، «حزب الله» في لبنان يعلن النصر واستمرار المقاومة والتمسك بما بقي من سلاحه وبدوره في الحياة السياسية اللبنانية وقدراته على التعطيل، عمى إسرائيل قد يعيد إيران إلى سوريا بعد استماتتها لإخراجها منها. المحصلة، أن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان وسوريا من دون رؤية سياسية لم ولن يؤدي إلا لاستيلاد حروب جديدة.
علة العلل هي انعدام السياسة وخواؤها في أميركا نفسها التي تسمح لنتنياهو بالاستيلاء على كل فلسطين بالقوة، تحت غطاء تهجير إنمائي سياحي، وتغازل فلاديمير بوتين وتسامحه على ضم القرم وأجزاء من أوكرانيا، وتتبنى سرديته للحرب، كيف لا وهي نفسها حامية العالم الحر والديمقراطية والقيم تريد السطو على غرينلاند، وضم كندا، والسيطرة على بنما، وتعاقب المحكمة الجنائية الدولية، وتناصب العداء لحلفائها الأوروبيين التقليديين. مواقف تقدم رخصاً مجانية للعدوان والاستبداد، وتصمت مجدداً على ممارسات أنظمة على غرار نظام الأسد الذي سحق الأغلبية والأقلية في بلاده وجوارها لأكثر من 50 سنة.
الشرق الأوسط؟
——————————
سوريا والرؤية الثالثة/ مأمون فندي
تحديث 17 أذار 2025
تتقاسم سوريا الجديدة، الآن، رؤيتان خارجيتان؛ الأولى رؤية تركية تسعى إلى سوريا موحدة ومتماسكة كدولة جارة (مع بعض التحفظات)، والثانية رؤية إسرائيلية تريد سوريا مجزَّأة طائفياً، وربما مناطقياً، فهل هناك إمكانية لظهور رؤية ثالثة؛ إما وطنية سورية خالصة، أو عربية، أو خليط من رؤية عربية ومحلية سورية؟
أيُّ نظام جديد بعد ثورة أو بعد انهيار نظام، مهما كان تماسك المجتمع، يمر بمرحلة انتقالية بين نظامين. ويحدد مدى نجاح أو فشل هذه المرحلة أمران: سرعة التحول، وحجم أو عدد من ينخرطون فيه. فإلى أي رؤية يقترب مصير التحول السوري، اليوم؟ هل نحو الرؤية الإسرائيلية التي تسعى إلى سوريا مجزَّأة في حالة تناحر طائفي، كما كان لبنان في السبعينات وحتى نهاية الحرب الأهلية، أم نحو الرؤية التركية التي تسعى إلى نظام مركزي قوي لدولة متماسكة؟
قد يكون من التبسيط تحديد رؤية كل من تركيا وإسرائيل لسوريا بهذا الوضوح، بين رؤية التجزئة ورؤية التماسك، دون الالتفات إلى المساحة الرمادية بينهما. والمثال الأوضح على ذلك هو قضية المقاتلين الأجانب ضمن قوات النظام السوري الجديد، وكذلك مكافحة الإرهاب.
المقاتلون الأجانب بالنسبة للأتراك هم جماعات الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، الذين تَعدُّهم أنقرة إرهابيين. أما بالنسبة لإسرائيل، فالمتطرفون هم المتحالفون مع النظام الجديد، والذين جاؤوا مع الرئيس أحمد الشرع من إدلب إلى دمشق. وهنا تكمن المنطقة الرمادية التي تتعامل معها تركيا وإسرائيل بطرق مختلفة.
تركيا باركت اتفاق قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مع حكومة الشرع؛ بهدف دمج هذه القوات داخل المؤسسة الدفاعية السورية، والهدف من ذلك فصلها عن حزب العمال الكردستاني، وكذلك منح الحكومة الجديدة السيطرة على حقول النفط الواقعة في مناطق نفوذ «قسد»، والتي كانت تحت الحماية الأميركية. بالطبع، في هذا التبسيط لم نتطرق بعدُ للأدوار الأخرى التي تلعبها أميركا وروسيا وإيران، وقد تعمدت ذلك نظراً لانشغال هذه القوى بقضايا تراها أهم من استقرار سوريا حالياً.
أما إسرائيل فهي تسعى إلى إضعاف النظام الجديد، الذي تَعدُّه متطرفاً، وربما في حالة كمون إلى أن يتمكن ثم يواجه إسرائيل لاحقاً، ليس عبر مواجهة جيوش نظامية، بل بنموذج استنزاف شبيه بـ«حزب الله» في لبنان. ولهذا، تحاول إسرائيل منع النظام الجديد من امتلاك أدوات القوة، عبر ضرب مقدَّرات الجيش السوري القديم، وتدمير بنيته التحتية العسكرية، مما يستلزم عشرات السنين لإعادة بنائها، وبذلك تكسب إسرائيل وقتاً إضافياً لترويض النظام الجديد.
إضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى التواصل مع الطوائف المختلفة، وأبرزها الدروز في السويداء، حيث كان مشهد العشرات من شيوخهم الكبار لافتاً في زيارتهم للجولان، الأسبوع الماضي، فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي أكد فيها التزام إسرائيل بحماية دروز سوريا. فإذا التزمت إسرائيل بطائفة، فلمن تلجأ الطوائف الأخرى للحماية؟
السؤال الأكبر: أيُّ الرؤيتين سترسم ملامح النظام السوري الجديد؟ هل هي الرؤية التركية أم الرؤية الإسرائيلية؟ التجزئة والتناحر الطائفي، أم الاستقرار؟ وإلى أي رؤية يجب أن تنحاز الدول العربية، خصوصاً دول الجوار، فيما يخص مستقبل سوريا؟ أو بصيغة أخرى، أيُّ الرؤيتين يمكن أن تنتصر في المستقبل القريب؟
الموقف من أحداث الساحل السوري، والاتهامات المتبادلة بين مطاردة فلول نظام الأسد المتمردة على النظام الجديد من وجهة نظر النظام وأتباعه، أو الشروع في القتل على الهوية للعلويين حسب رؤية أصوات من الطائفة العلوية، كلها تصب في سيناريو التمزق المجتمعي، وتجعل سوريا مسرحاً لعدم استقرار قد يستمر لعشر سنوات مقبلة على أقل تقدير.
الرؤية التركية، رغم بعض التحفظات، قد تؤدي إلى حالة من الاستقرار في سوريا، وربما تنتج نظاماً شبيهاً بتركيا، كدولة جارة فاعلة، بالطريقة نفسها التي أنتجت بها إيران النظام الجديد في العراق بعد حرب 2003.
ومن هنا، قد تخرج الرؤية الثالثة من خلال حوار عربي-تركي يدفع نحو إنتاج نظام شبه ديمقراطي، كما هي الحال في تركيا. وهذا يتطلب إحياء الجهود السابقة من محادثات جنيف وآستانة بين نظام الأسد والمعارضة. يمكن أن تكون هذه الأوراق نقطة انطلاق جيدة لحوار جاد حول بناء سوريا الجديدة، إذا أضيفت إليها جهود حوار وطني داخلي.
إذا لم يستطع العرب التنسيق مع الأتراك بشكل عاجل وجاد، فسينسق غيرهم، وسيكون ذلك على حساب وحدة الأراضي السورية وسلامتها. دون عمل عربي-تركي مشترك وعاجل، قد تنتصر الرؤية الإسرائيلية، على الأقل خلال السنوات المقبلة، وسنشهد سوريا كما شهدنا لبنان من بداية الحرب الأهلية حتى اتفاق الطائف.
وبين هذه التطورات، قد تظهر جماعات مختلفة في سوريا، يكون نموذجها الأمثل شيئاً شبيهاً بظهور «حزب الله» في لبنان وتطوره إلى القوة الأولى في الدولة، أو ظهور «الحشد الشعبي» وعشرات الجماعات المتطرفة في العراق.
في سوريا، الرؤية الثالثة هي الحل.
الشرق الأوسط
———————————
الأحداث الدامية في الساحل/ لمى قنوت
تحديث 17 أذار 2025
على وقع جرائم القتل الطائفية الجماعية وهدر الكرامة الإنسانية وحرق الأرزاق في الساحل السوري، بعد كمائن واستهدافات غادرة شنتها مجموعات من “فلول” النظام البائد على قوى الأمن الداخلي أودت بحياة الكثير منهم، وهجمات على البنية التحتية المدنية كالمستشفيات في 6 من آذار الحالي، فقد فشلت الإدارة الانتقالية في حماية المدنيين ومنع إذلالهم، نساء ورجالًا، وهدمت جهودها الدبلوماسية أمام “المجتمع الدولي” حول قدرتها على إدارة بلد متنوع، بعد أن حاولت تصدير قدرتها “البراغماتية” على تغيير صورتها الأيديولوجية وماضي انتهاكاتها، ولا شك أن نهجها العسكري في الساحل الذي أفلت سعارًا طائفيًا من قبل فصائل محسوبة عليها، سيزيد من تفكك البلاد ويقوض السلم الأهلي وسيزيد من التدخل الخارجي، وسيبقي سيف العقوبات الاقتصادية مسلطًا على العنق السوري.
لقد كان إعلان النفير العام من منابر الجوامع وعبر قنوات “تلجرام”، وطلب المؤازرة من فصائل تضم جهاديين أجانب وفصائل ذات تاريخ معروف بالجرائم والانتهاكات ودخولهم إلى مدن الساحل خطأ جسيمًا أدى إلى قتل عائلات بأكملها، واقتحام المنازل بطريقة مرعبة مصحوبة بخطابات وممارسات طائفية شنيعة، أشاعت الذعر بين المدنيين وأطفالهم، وأبقت جثثًا لأيام على الطرقات، ودفعت الأهالي للهروب إلى الجبال والأحراش أو اللجوء إلى مطار “حميميم” أو الأراضي اللبنانية، وقطعت عدة مناطق من المواد الأولية، وهي ممارسات لم تُمحَ من ذاكرتنا أيام جرائم النظام البائد، وكان يفترض بالإدارة أن تتصرف بحكمة وضبط للنفس، وتخطط لتأمين ممرات آمنة لخروج المدنيين قبل أن تُدخل عناصر منضبطين مدربين كالذين شهدناهم في محافظة حلب مثلًا، خلال عملية “ردع العدوان”.
كما كان يفترض بالرئيس الشرع ألا يعترف بحصول “تجاوزات” فقط خلال كلمته التي ألقاها في 7 من آذار، بل إن المعالجات العادلة تبدأ بتسمية الأمور بمسمياتها والاعتراف بها كجرائم وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وهو مطالب باعتذار علني من جميع الضحايا وأسرهم، بوصفه رئيسًا انتقاليًا للبلاد ومسؤولًا عن حماية الشعب، كل الشعب، وبوصف بعض مرتكبي الجرائم صوروا وبثوا فيديوهات جرائمهم عبر الإنترنت، ووثقتها منظمات سورية، فالاعتذار العلني هو شكل من أشكال جبر الضرر الرمزي، وقد فعلها رؤساء سابقون مثل رئيس سيراليون، حين قدّم في عام 2010 اعتذارًا رسميًا للنساء ضحايا النزاع المسلح، وطلب منهن الصفح باسم القوات المسلحة وتعهّد بحماية حقوقهن.
أما عن تشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي في 10 من آذار، ضمت كلًا من حسن صوفان وأنس عيروط وخالد الأحمد، فالأحمد كان مستشارًا لبشار الأسد من عام 2012 إلى 2018 في ملفات سياسية ودبلوماسية وأمنية، ومن الخطأ أن يحظى بعضوية لجنة مكلفة بالتواصل مع الأهالي في الساحل السوري وتقديم الدعم بما يضمن حماية أمنهم واستقرارهم، وتعزيز الوحدة الوطنية، وهي مهام تحتاج إلى شخصيات محترمة ذات تاريخ نزيه، وكان مفترضًا أن تضم اللجنة أعضاء وعضوات من أسر الضحايا، وكان ضروريًا أيضًا أن يكون نصف أعضاء اللجنة من النساء، لقدرتهن على التواصل والاستماع إلى ناجيات ضمن مساحات مغلقة.
لقد أظهر هجوم “الفلول” على قوى الأمن العام فشلًا استخباراتيًا لدى الإدارة الانتقالية، حاولت ترميمه عبر تشكيل مجلس أمن قومي في 12 من آذار، ضم أربعة أعضاء يشغلون مناصب عليا في الإدارة الانتقالية، هم وزير الخارجية والدفاع والداخلية، بالإضافة إلى مدير الاستخبارات العامة، وكالعادة، فقد تم اختيارهم من الدائرة الضيقة لأحمد الشرع، أما المقاعد الثلاثة المتبقية فاثنان منها لاستشاريين يعينان وفقًا للكفاءة والخبرة، وهو عدد غير كافٍ للأفراد المتفرغين للعمل في المجلس قياسًا بالتحديات الأمنية، والمقعد السابع لتقني متخصص ذي صلة بمحضر الجلسة.
إن نهج العفو العشوائي غير الشفاف الذي انتهجته الإدارة الانتقالية في التعاطي مع مجرمي الحرب أو المشتبه بهم بعيدًا عن التحقيقات وإجراءات العدالة الانتقالية كان نهجًا خاطئًا، لأنه عزز غضب ناجين وناجيات من جرائم النظام البائد في وقت لا توجد فيه تحضيرات حقيقية وشفافة لمسار عدالة انتقالية تحولية شامل.
بيّنت سلوكيات الفصائل التي دخلت إلى الساحل عدم انضباطها وسوء خطابها التحريضي والطائفي وعدم أهليتها لدخول الجيش من جهة، وبيّنت عدم قدرة الشرع على ضبطها أو محدودية قدرته في أحسن الأحوال من جهة أخرى. أما بالنسبة للجهاديين الأجانب فقد كان خطأ إدخالهم إلى منطقة متنوعة مثل الساحل السوري لا يدركون الحساسيات الموجودة فيها، ويجب إخراجهم من الساحل وكافة المناطق الحساسة أولًا ومن سوريا ثانيًا، بعد محاسبة المتورطين منهم في جرائم القتل، بدل ضمهم للجيش.
وقد كان واضحًا أيضًا أن الفصائل لم يتم حلها ودمجها بشكل حقيقي، كما تحدث الشرع في “مؤتمر النصر”، وأن تحديات بناء جيش وطني حيادي، ضمن النهج الإقصائي للإدارة الانتقالية وعدم الاستفادة من خبرات الضباط المنشقين من الجيش، أو ممن لم يعلن انشقاقه وسُرّح قبل 2011 ولم يتورط في الدم السوري، لن يفضي إلى توطيد حكم الفرد والسيطرة على القطاع الأمني، بل سيؤدي إلى تفكك سوريا عبر بوابة تجدد النزاع واقتتال الفصائل.
عنب بلدي
————————–
لمَ كل هذا الاستقطاب في الشارع السوري؟/ أحمد عسيلي
تحديث 17 أذار 2025
تابع السوريون جميعًا، بقلق وخوف، أحداث الأسبوع الماضي، خاصة ما جرى في الساحل، وجع الوطن وأكثر نقاطه ضعفًا منذ لحظة هروب بشار، وأصعب اختبار للنظام الحالي في قدرته على حل الأزمات الداخلية.
فما الموقف الشخصي؟ وكيف تقرأ هذه الأحداث؟ هل ما حدث يتحمل أسبابه ونتائجه النظام بشكل كامل، وما طبيعة هذه المسؤولية؟ تقصير أم مشاركة بالجريمة؟ وما سبب الجرائم التي ارتكبتها بعض قوى الأمن ضد العلويين؟ هل هي نتيجة البلبلة والهرج الذي حصل بين يومي 6 و10 من آذار؟ هل هي نتيجة مشاعر الظلم التي يكبتها هؤلاء الناس منذ مجازر البيضا والحولة والكيماوي؟ أم ناتجة عن العقلية الإجرامية لدى الجهاديين التي تود قتل وإذلال الأقليات؟ أم هي مزيج من هذين العاملين وربما عوامل أخرى؟
من البداية أخبركم أنني لن أجيب عن أي من هذه الأسئلة، فليس لدينا جواب صحيح علميًا هنا، لكني سأتناول الموضوع من زاوية مختلفة، وأطرح سؤالًا آخر: فمهما كان الجواب، حسب تصور كل شخص للموضوع، ما نسبة الاعتماد على الوقائع في هذا الجواب وما نسبة العاطفة؟ وهل اتخذ هذا الموقف بناء على تحليل سليم للحقائق؟ دعونا نبدأ رحلتنا للإجابة عن هذا السؤال:
منذ سنوات عديدة، انشغل علماء النفس بآلية التفكير في أوقات الأزمات، وكأطباء نتعامل بشكل يومي مع حالات الإنسان في تلك المواقف، راكمنا خبرة متعددة في رد فعل الإنسان، وطريقه تفكيره وتصرفه في لحظات الشدة، فإعلان التشخيص الطبي مثلًا في السرطان أو بعض الأمراض المتقدمة الأخرى، ستقابل بداية بالرفض، بل والاحتجاج على الطبيب، وأحيانًا التشكيك بمهاراته وقدراته العلمية، هذا يتعلق بكل الحقائق التي يصعب على الدماغ معالجتها، لدرجة الوصول لمرحلة الاضطراب النفسي أو العقلي أحيانًا، أتذكر هنا حالة مريضة حُولت إلى عيادتي، نتيجة رفضها الدائم أن ابنها المحكوم بعملية اعتداء مجرم، كانت تصر على أن هناك مؤامرة من الدولة الفرنسية تجاه ولدها، وقد أصيبت بحالة اكتئاب شديد يكاد يقترب من الاكتئاب الذهاني، لأنها متمسكة بموقفها أن ابنها مظلوم، رغم أن جريمة ابنها قد التقطت بعدة كاميرات وبناء عليه اعترف أمام القاضي وبحضور الأم، رغم ذلك بقيت رافضة وشككت بكل تلك الإجراءات، ربما كانت ستتقبل تلك الحقائق وبشكل سهل جدًا لو كانت لشاب آخر غير ابنها (وهذا ما فعلته أنا كطبيب)، لكن تفكيرها وعاطفتها كأم يرفضان كل هذا، فالأمر صعب جدًا، هل تتخيلون كم الجهد العقلي والنفسي كي يستوعب عقل الأم أن ابنها مجرم!
هذه الصعوبة في تقبل بعض الحقائق، لا تتعلق بالأفراد المقربين فقط، بل وبالسياسيين أيضًا، فمن أشهر تجارب علم النفس، التي دُعمت بالحقائق العلمية، تجربة أجريت عام 2004 في أمريكا، أعطيت فيها تصريحات متناقضة عن عمد لمؤيدي بعض السياسيين، وطلب من هؤلاء المؤيدين إبداء رأيهم بتلك التصريحات، فقال معظم المشاركين إنه لا تناقض فيها وحاولوا إعطاء تفسيرات منطقية لكل ذلك. نعلم منذ سنوات عديدة أن هذا الأسلوب في التفكير أمر مكرر، وهو ما أطلق عليه في علم النفس بالتنافر المعرفي، لكن الجديد في تلك التجربة أنها أجريت على أشخاص في أثناء تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي، فلوحظ نشاط كبير لمناطق الدماغ المسؤولة عن العاطفة في أثناء تبرير التناقضات تلك، وهي مناطق لم تكن بتلك المستوى من النشاط في أثناء الكلام عن تصريحات لسياسيين لا يؤيدهم هؤلاء الأشخاص. إذًا أصبحنا نعرف وبالدليل العلمي المجرد أن للعاطفة دورًا كبيرًا في تفسير كل الأحداث السياسية، بما فيها المتناقضة.
فما موقفك من الهجري؟ الشرع؟ الطائفة الدرزية أو العلوية أو السنية؟
موقفك لا يتعلق بالانتماء فقط، فيمكن أن ترى بعض الأشخاص الذين يحملون مشاعر سلبية تجاه السنة مثلًا، حتى من أبناء الطائفة (دواعش، كلهم إرهابيون) ومن يحمل تلك المشاعر تجاه جميع العلويين (شبيحة، قتلة)، لكن بشكل عام معظم الأشخاص يفضلون الانغلاق على مجتمعاتهم في فترة الأزمات، فالخائف يأخذ الوضعية الجنينية كي يشعر بالأمان، فرحم الأم هو المكان المثالي للضعيف، هذا الرحم سيتحول إلى المجتمع بصيغته الأولى (طائفة، عشيرة، عائلة).
من يعتقد أن القيادة الحالية هم مجموعة إرهابيين، لن يقبل حتى بتحميلهم المسؤولية القانونية والأخلاقية كدولة، بل سيعتبرهم سبب كل مصائب البلد، ومن يحمل تصورًا إيجابيًا عنهم، سيتفاوت موقفه بين التحميل المباشر إلى التبرير المباشر، لكنه بالتأكيد لن يعتبرهم مشاركين بما حصل.
آلية اتخاذ الموقف هنا ستعتمد على الوقائع بنسبة ما تختلف من شخص لآخر، لكن الحقيقة ستشكل دومًا جزءًا من الموقف، ولن نجد أبدًا موقفًا ناتجًا عن الوقائع فقط، فمن يعتقد أن العلويين مسؤولون مباشرة وجميعًا عن جرائم الأسد، دماغه لن يعالج المعلومات التي تصله كمن يعتقد أن السنة كلهم “دواعش”، لن يكون الكردي (أو غير الكردي) الذي ينتظر إضعاف هذه القيادة كي تحتفظ “روجافا” بنوع من الاستقلال، كمواطن من اللاذقية، يخاف أي إضعاف لها، لأنه يعتقد أن مجازر مثل الحولة ستتكرر بحقه حالما تنسحب تلك القوات، غير ذاك العلوي المقتنع أن القوة كانت بيد الطائفة، وأن تلك القوات سلبت الحكم منهم، بغض النظر عن صحة تلك القراءات أو خطئها، أو وجود قراءات أخرى، فأنا هنا لست لتأييدها أو دحضها، وإنما لتحليل الموقف الذي سينتج عنها.
الانتماء ليس العامل الوحيد المتحكم بالرأي طبعًا، لكنها عملية معقدة من مشاعر وآراء مسبقة وتحليل وقراءات وتوجه، لذلك الحوار سيكون صعبًا جدًا بين المختلفين، لأنه دومًا يركز على واقعة واحدة، متناسيًا الظروف النفسية والأبعاد الاجتماعية التي قادت إلى ذاك الموقف، ومن هنا تأتي أهمية الحوار المجتمعي الحقيقي، ليناقش جميع المخاوف والتصورات بكل صراحة وشفافية، عندها فقط يمكن أن نفهم سر التمترسات تلك، ويحاول كل طرف أن يتفهم الطرف الآخر.
فهل السلطة الحالية قادرة على إجراء كل ذلك؟ مهما كان جوابي فلن يقنع الجميع، بسبب كل ما ناقشناه هنا.
عنب بلدي
——————————
محسن المصطفى يكشف في مقابلة معه، تفاصيل الأحداث الدامية التي شهدتها المناطق الساحلية
ماذا وراء أعمال العنف في سورية
مايكل يونغ
17 أذار 2025
مايكل يونغ: برأيِك، ما أهمية الأحداث التي شهدتها مناطق الساحل السوري الأسبوع الماضي، والتقارير التي أشارت إلى تورّط القوات المتحالفة مع حكومة أحمد الشرع في قتل مئات العلويين وغيرهم من الأقلّيات؟
محسن المصطفى: شكّلت هذه الاشتباكات نقطة تحوّل حاسمة في سورية ما بعد الأسد. فهي لم تكن حدثًا معزولًا، بل أول تمرّد منظّم وواسع النطاق يشنّه فلول النظام السابق. إلى جانب التداعيات الأمنية المباشرة، كشفت أعمال العنف هذه عن انقسامات طائفية راسخة لم تتمّ معالجتها بعد سقوط بشار الأسد. كان المتمرّدون يسعون، من خلال محاولة استنساخ النماذج القائمة في السويداء أو شمال شرق سورية حيث نشأت مناطق تتمتّع بالحكم الذاتي، إلى فرض واقعٍ جديدٍ، أو على الأقل إثارة مواجهةٍ طائفيةٍ يمكن أن تؤمّن لهم الغطاء السياسي اللازم للإفلات من العدالة.
أظهرت هذه الهجمات، التي أسفرت عن مقتل حوالى 300 من عناصر الأمن العام ومئات المدنيين، مدى هشاشة العملية الانتقالية في سورية. وما يزيد من تعقيد المشهد هو نمط استهداف المدنيين، الذي لجأت إليه على السواء الفصائل المتمرّدة من فلول نظام الأسد والمجموعات غير المنضبطة الموالية للحكومة. فبات العلويون والسنّة، إضافةً إلى أعداد أقلّ من المسيحيين، عالقين في دوّامة خطيرة من الأعمال الانتقامية. ويُشار إلى أن تورّط جهات مارقة في الهجمات الانتقامية ضدّ مدنيين من الطائفة العلوية لا يهدّد فحسب بتقويض الشرعية الأخلاقية للحكومة الجديدة، بل أيضًا بمنح خصوم الحكومة سرديةً متينةً يستخدمونها ضدّها، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.
وقد تحرّكت السلطات سريعًا لاحتواء تداعيات هذه الأحداث، فشكّلت لجنتَين متوازيتَين – أُوكلت إلى الأولى مهمّة التحقيق وتقصّي الحقائق، وإلى الثانية مهمّة الحفاظ على السلم الأهلي، وضمّت بشكل لافت ممثلّين عن الطائفة العلوية. تشكّل هذه التطوّرات تذكيرًا بأن العدالة الانتقالية والمساءلة المؤسساتية لم تعودا خيارًا محتملًا، بل هما ركيزتان أساسيتان للحؤول دون انزلاق البلاد من جديد في دوّامة الحرب الأهلية.
يونغ: نقلت إحدى الصحف اللبنانية عنك قولك إن أحد المسؤولين عن تنظيم الهجمات ضدّ قوات الأمن العام السورية ضابطٌ سابق في الفرقة المدرّعة الرابعة التي كانت تحت قيادة ماهر الأسد، هو غيّاث دلّا، الذي تم ترفيعه إلى رتبة عميد في العام 2020. ماذا يمكنك إخبارنا عنه، وما دوره في أحداث الأسبوع الماضي؟
المصطفى: لطالما ارتبط اسم العميد غيّاث دلّا بالنواة الداخلية للمؤسسة العسكرية في عهد الأسد. لقد تدرّج سابقًا في صفوف “اللواء 42 مدرّعات”، وهو مكوّن أساسي من الفرقة المدرّعة الرابعة، إلى أن تولّى في النهاية قيادته بنفسه. وفي أواخر حزيران/يونيو 2024، عُيّن دلّا رئيسًا لأركان الفرقة الرابعة التي يقودها اللواء ماهر الأسد. ويُعرَف عن دلّا تحالفه مع الفصائل المدعومة من إيران في ساحة المعركة، بما في ذلك حزب الله ولواء الإمام الحسين. وكانت تكتيكاته ذائعة الصيت في مختلف أنحاء ريف دمشق وجنوب سورية، وشملت حصار المدن والقصف العشوائي والتهجير القسري. يُضاف إلى ذلك ما جرى توثيقه عن تورّطه في جرائم جماعية ارتُكبت في مناطق مثل داريا والمليحة وريف دمشق ودرعا وإدلب.
بعد سقوط نظام الأسد، اختار دلّا عدم الانسحاب من الحياة العامة، بل على العكس أدّى دورًا أساسيًا في هندسة التمرّد في مرحلة ما بعد الأسد. وعمل بالتنسيق مع ضباط وعناصر سابقين، بمن فيهم مقداد فتيحة من الحرس الجمهوري، على تأسيس ما سُمّيَ المجلس العسكري لتحرير سورية. وضمّ هذا الكيان ميليشيات عدّة موالية للأسد، شارك أبرزها – مثل “لواء الجبل” و”درع الأسد” و”درع الساحل” الذي تأسس حديثًا – بشكلٍ مباشر في هجمات الأسبوع الماضي المنسّقة. لا شكّ في أن دلّا لم يكن مجرّد مسؤول رمزي، بل كان قائدًا ميدانيًا ومخطِّطًا استراتيجيًا. وتمثّل هدفه على ما يبدو في إعادة فرض النفوذ العسكري للنظام القديم، وزعزعة استقرار النظام الناشئ قبل أن يتسنّى له توطيد أركانه.
يونغ: هل تعتقد أن جهات أجنبية قد انخرطت في الهجمات ضدّ قوات الأمن العام السورية، ومن كانت؟
المصطفى: ثمّة سببٌ وجيه يدفعنا إلى الاعتقاد بأن جهاتٍ خارجية قد اضطلعت بدور مساندٍ في أحداث الأسبوع الفائت، وإن بشكل غير مباشر ومُبهم في معظم الأحيان. غالب الظن أن إيران هي الطرف الخارجي الأبرز، نظرًا إلى علاقتها المتينة مع غيّاث دلّا وشبكة الميليشيات التي نسّق معها خلال الحرب. صحيحٌ أن ما من اعتراف علني بانخراط طهران في هذه العملية تحديدًا، إلّا أن التنسيق التكتيكي والتطوّر اللوجستي وحشد الشبكات الموالية عوامل تشير إلى حدٍّ أدنى من الدعم الضمني الإيراني، سواء على شكل تبادل للمعلومات الاستخباراتية أو إنشاء الاتصالات الآمنة أو توفير الدعم المالي.
ولا تقلّ أهمية عن ذلك التسجيلات المسرّبة التي كشفت عن أن القوات الروسية في قاعدة حميميم الجوية كانت على علمٍ مسبق بتحركات المتمرّدين. علاوةً على ذلك، تثير التقارير عن غرفة عمليات مشتركة والأدلّة عن نقل جرحى من مقاتلي فلول النظام إلى القاعدة، تساؤلاتٍ حول موقف موسكو. وعلى الرغم من أن روسيا لم تضطلع ربما بدورٍ عملياتي نَشط، فإن تساهلها الواضح مع التمرّد – إن لم يكن تواطؤًا صريحًا – يعبّر عن التباسٍ أكبر في موقفها الحالي من السلطات السورية الجديدة.
يونغ: يبدو أن المشاكل بين الشرع والأقلّيات السورية تتنامى، ما يسلّط الضوء على أهمية الاتفاق الذي أبرمه هذا الأسبوع مع قوات سورية الديمقراطية التي يطغى عليها الأكراد. كيف ترى مستقبل العلاقات بين دمشق والأقلّيات السورية، بمن فيها الأكراد، وما المخاطر المحتملة؟
المصطفى: لا أعتقد أن علاقة الشرع بالأقلّيات تثير إشكاليةً بطبيعتها. فهو رفض استخدام مصطلح “أقلّيات” واستعاض عنه بالحديث عن “مكوّنات” الشعب السوري. والمخاوف التي عبّر عنها اليوم الأكراد والدروز والعلويون والإسماعيليون والمسيحيون، مشتركةٌ بين جميع شرائح المجتمع وتعكس الصدمة الأوسع التي أحدثتها الحرب. يواجه الشرع راهنًا مهمّة حساسة تتمثّل في استعادة ثقة هذه المجتمعات المحلية، ولا سيما بعد أعمال العنف التي شهدها الساحل السوري. ويُعدّ الاتفاق الذي أبرمه مع قوات سورية الديمقراطية التي يقودها الأكراد، ضروريًا وآنيًّا، ويبدو أن جهودًا مشابهة تُبذل على الخط نفسه مع الدروز في السويداء، الذين يعرب بعضهم عن قلقه من الحكومة.
في المرحلة المقبلة، ستحدّد أولويّتان شكل العلاقة بين الدولة والأقلّيات/المكوّنات، وهما: الحوكمة الشاملة للجميع التي تستند إلى الكفاءة لا إلى الطائفية، والالتزام الجدّي بالمصالحة الوطنية. يرى الأكراد أن الاتفاق يدلّ على تعاون براغماتي على الرغم من أن اندماجهم في المجتمع السوري لا يزال مسألةً شائكة. وستحكم المجموعات الأخرى على الحكومة من خلال قدرتها على ضمان الحماية والعدالة للجميع على قدم المساواة. في نهاية المطاف، يجب أن تستند عملية بناء الدولة إلى المواطنة، إضافةً إلى الاعتراف بتعدّدية سورية. فهذان العاملان كفيلان، إذا ما اقترنا أيضًا بالتعافي الاقتصادي وإدارة التهديدات الإقليمية، ومن ضمنها تلك المتأتية من إيران وإسرائيل، بتشكيل ملامح الاستقرار في سورية مستقبَلًا.
مايكل يونغ
محرّر مدوّنة ‘ديوان’, مدير تحرير في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
محسن المصطفى باحث مساعد في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، عمل سابقًا باحثًا مساعدًا في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، وزميلًا غير مقيم في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط من أيار/مايو 2022 ولغاية أيار/مايو 2023، حيث ركّزت أبحاثه على الشؤون الأمنية والعسكرية والحوكمة في سورية. وضع الكثير من الدراسات والمقالات حول هيكل المؤسسة العسكرية السورية وتطوّرها، يمكن الاطّلاع عليها على موقعه الإلكتروني www.muhsenalmustafa.com. أجرت “ديوان” مقابلة معه في بداية هذا الأسبوع للاطّلاع على وجهة نظره حيال الاشتباكات التي وقعت مؤخرًا في مناطق الساحل السوري وتداعياتها على مستقبل البلاد.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.
مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط
——————————-
==========================
===================
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 17 أذار 2025
تحديث 17 أذار 2025
————————-
المساعدة الأميركية الأمثل لسوريا هي الانسحاب منها/ روبرت س. فورد
على واشنطن سحب جنودها والتعاون مع الحكومة والنأي عن “قوات سوريا الديمقراطية”
الجمعة 14 مارس 2025
أن إجراء انتخابات واعتماد حصص للأقليات ضمن الحكومة لا يمثلان بحد ذاتهما ضمانة ضد الاستبداد. فتجربتا أفغانستان والعراق في القرن الـ21 تبينان مدى صعوبة حل مشكلات الثقافة السياسية الأعمق.
نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالة بقلم السفير الأميركي السابق في سوريا، روبرت فورد قبل إبرام الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات “قسد”، وأبرز ما جاء به هو الدعوة إلى سحب القوات الأميركية من سوريا. وتنشر اندبندنت عربية المقال هذا نظراً لأهميته. فهل يعبد هذا الاتفاق الطريق أمام الانسحاب الأميركي من سوريا؟ وفيما يلي نص المقال:
انتهت الحرب الأهلية السورية التي دامت 13 عاماً بصورة مفاجئة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عندما اجتاحت قوات تابعة للجماعة الإسلامية المسلحة “هيئة تحرير الشام” مناطق الجنوب انطلاقاً من معاقلها شمال غربي البلاد، مما أدى إلى سقوط حكومة الرئيس بشار الأسد. وخلال أسابيع قليلة، انتهى نظام استمر ستة عقود. واليوم تتولى “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع البراغماتي إدارة الحكومة السورية الموقتة، وهي في طريقها لرئاسة حكومة انتقالية سيُعلن عنها خلال الربيع. ولا يزال من غير المؤكد كيف سيتمكن الشرع من توحيد بلد متنوع ومنقسم، وما إذا كان سيكبح العناصر المتشددة داخل “هيئة تحرير الشام”، وما إذا كان سينجح في كسب دعم المجتمعات السورية الأخرى في حال تبنى نهجاً أكثر اعتدالاً وشمولية.
ومن بين الشكوك التي تواجه سوريا مستقبل الدور الأميركي داخل البلاد. فمنذ عام 2014 دعمت واشنطن حكومة ذاتية الحكم، بحكم الأمر الواقع، في شمال شرقي سوريا، تشكلت بصورة رئيسة – ولكن ليس حصرياً – من فصائل كردية. واستفادت هذه القوات التي تعمل تحت راية “قوات سوريا الديمقراطية” من الفوضى التي أطلقتها الحرب الأهلية السورية، لتشكيل كيان شبه مستقل على الحدود مع تركيا. وخاضت “قوات سوريا الديمقراطية” معارك ضد قوات الأسد والجيش التركي والميليشيات المدعومة من أنقرة، فضلاً عن جماعات مرتبطة بالقاعدة، وبخاصة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وعملت القوات الأميركية من كثب مع “قوات سوريا الديمقراطية” لطرد “داعش” من آخر معاقله داخل سوريا. ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 2000 جندي إضافة إلى متعاقدين، في نحو 12 موقعاً وقاعدة صغيرة في شرق سوريا لدعم جهود “قوات سوريا الديمقراطية” في القضاء على “داعش” وردع الهجمات التركية.
وعلى رغم هذا الدعم، لا يزال “داعش” نشطاً في سوريا. ومع انهيار نظام الأسد يمكن للولايات المتحدة أن تختار العمل مع شريك جديد من المرجح أن يكون أكثر نفوذاً وفعالية في مكافحة فلول “داعش”، الحكومة السورية الجديدة في دمشق. فمن شأن تعاون أكبر سواء كان مباشراً أو غير مباشر مع هذه الحكومة الناشئة أن يعزز الأمن الإقليمي، ويساعد في إنهاء القتال المستمر في شرق سوريا، ويسمح للولايات المتحدة بتقليل مواردها المخصصة لهذا الملف. وكثيراً ما أعرب الرئيس دونالد ترمب عن استيائه من تورط أميركا في النزاعات الخارجية، لا سيما داخل الشرق الأوسط. لذا، فإن الشراكة مع الحكومة الانتقالية الجديدة في دمشق ستتيح للولايات المتحدة الخروج من سوريا وفق شروطها الخاصة.
الأداة الخاطئة
يرى عدد من المسؤولين والمحللين الأميركيين أن الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا تمثل شريكاً موثوقاً لضمان ما تأمل واشنطن أن يكون “الهزيمة النهائية” لتنظيم “داعش” داخل البلاد. إلا أن قوات سوريا الديمقراطية الجناح العسكري لهذه الإدارة، فشلت في القضاء على هذا التنظيم الإرهابي الإسلاموي. فبعد ستة أعوام من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على آخر معقل لتنظيم “داعش” في سوريا، لا يزال مقاتلو التنظيم الإرهابي المذكور ينشطون في وسط سوريا وشرقها. وفي السياق عينه أثارت تصرفات قوات سوريا الديمقراطية استياء المجتمعات العربية المحلية، إذ تخضع هذه القوات لسيطرة مشددة من الميليشيات الكردية المعروفة باسم “وحدات حماية الشعب” YPG، والتي ارتكبت عمليات قتل خارج نطاق القضاء والقانون ونفذت عمليات اعتقال غير مشروعة بحق مدنيين عرب، وابتزت عرباً كانوا يحاولون الوصول إلى معلومات عن أقارب معتقلين أو يسعون إلى لإفراج عنهم، وأجبرت الشباب العرب على الانضمام إلى صفوفها، وحرفت النظام التعليمي ليتماشى مع الأجندة السياسية لـ”وحدات حماية الشعب”، وجندت مقاتلين أكراداً غير سوريين. ودفعت هذه الممارسات بعض السكان المحليين إلى أحضان “داعش”. وبالطبع، فإن هذه التجاوزات تبدو ضئيلة مقارنة بجرائم نظام الأسد، لكنها تسببت باحتكاك كبير مع السكان العرب خصوصاً في المناطق التي تعمل فيها قوات سوريا الديمقراطية تحت قيادة “وحدات حماية الشعب”.
وتواجه “قوات سوريا الديمقراطية” تحدياً آخر يتمثل في العداء المستمر بين تركيا و”وحدات حماية الشعب”، حيث تشن “وحدات حماية الشعب” هجمات بين الحين والآخر على مواقع تركية في سوريا وداخل تركيا نفسها، مما يعزز الرؤية التركية القديمة التي تعد هذه الوحدات جماعة إرهابية. وفي المقابل، تستهدف القوات العسكرية التركية والميليشيات السورية المدعومة من أنقرة “وحدات حماية الشعب” بصورة متكررة شمال سوريا. وهذا النزاع يصرف انتباه وموارد “قوات سوريا الديمقراطية” عن محاربة “داعش” في الجنوب.
في أواخر فبراير (شباط) الماضي قام زعيم كردي بارز بالدعوة إلى وقف إطلاق نار مع تركيا. هذا الزعيم هو عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعروف بـ”بي كي كي” – الميليشيات الكردية المسلحة المرتبطة بـ”وحدات حماية الشعب”، والتي تقاتل الحكومة التركية منذ فترة طويلة. أوجلان دعا المقاتلين الموالين له إلى إلقاء أسلحتهم ووقف شن الهجمات ضد تركيا. إلا أن قادة “وحدات حماية الشعب” رفضوا دعوة أوجلان، مصرين على أنها لا تشمل قواتهم. من جهتها، لا تزال تركيا غير مستعدة لتغيير سياستها أو قبول قيام منطقة كردية ذاتية الحكم في سوريا تلعب فيها “وحدات حماية الشعب” دوراً محورياً. ومنذ إدارة الرئيس باراك أوباما، حاولت الإدارات الأميركية الموازنة بين دعم الميليشيات الكردية السورية في قتال “داعش”، وبين استيعاب مخاوف أنقرة ورغبتها في استهداف قادة “وحدات حماية الشعب” ومقاتليها والمجتمعات الكردية السورية التي تحتضنهم.
هذه المظلة العسكرية الأميركية التي تحمي “وحدات حماية الشعب” من الهجمات التركية شرق سوريا جعلت الوحدات والإدارة الذاتية التي أنشأتها ترفض أية تسوية مع تركيا أو الحكومة الجديدة في دمشق. ونتيجة لهذا الوضع، بات لتنظيم “داعش” مساحة أكبر للعمل مما يكرس حال حرب لا نهاية لها.
وللحفاظ على الشراكة مع “قوات سوريا الديمقراطية” ستحتاج إدارة ترمب إلى دعم الجماعات الكردية بمعاركها المستقبلية ضد تركيا. بين عامي 2023 و2024، قامت إدارة بايدن بهدوء بمضاعفة عدد القوات الأميركية في شرق سوريا ليصل إلى نحو 2000 جندي، وذلك جزئياً لتمكين القوات الأميركية من توسيع دورياتها غرباً على طول الحدود التركية لتشمل بلدات مهمة مثل كوباني، التي لا تشهد نشاطاً لـ”داعش” لكنها تواجه ضغوطاً تركية. وخلال ديسمبر (كانون الأول) وبينما كان المتمردون السوريون يطيحون نظام الأسد، هاجمت ميليشيات متحالفة مع تركيا وطائرات مسيرة تركية مواقع كردية قرب كوباني. ومع وجود 2000 جندي أميركي منتشرين بالفعل، لن يكون ترمب في حاجة إلى إرسال مزيد من القوات الأميركية كحاجز أمام غزو بري تركي، لكنه سيحتاج إلى دعم الأكراد بمزيد من التمويل. وتعتمد “قوات سوريا الديمقراطية” على واشنطن لدفع الرواتب وتأمين المعدات والتدريب، وستصبح هذه الحاجة أكثر إلحاحاً الآن، إذ باتت تركيا أكثر حرية في التركيز على الإدارة الكردية الذاتية التي تقودها “وحدات حماية الشعب”. ومع سقوط الأسد خصم أنقرة في دمشق، ستوجه أنقرة انتباهها أكثر نحو هذه الإدارة الكردية على حدودها الجنوبية.
وفي خضم هذا المستنقع من العداوات الكردية – التركية، من السهل نسيان السبب الذي دفع الولايات المتحدة إلى التدخل في هذه المنطقة من سوريا في المقام الأول، وهو القضاء على داعش. ولم يكن الهدف الأميركي أبداً نشر قوات في شرق سوريا للدفاع عن كيان كردي ناشئ تقوده ميليشيات كردية كانت مغمورة سابقاً. تبني هذا الهدف الآن سيمثل انحرافاً كبيراً عن المهمة الأصلية. كما أن “قوات سوريا الديمقراطية”، بسبب هويتها وطريقة عملها، أثارت غضب المجتمعات المحلية (العربية تحديداً) والحكومة التركية على حد سواء. لقد سبق لهذه القوات خلال الحرب التقليدية ضد “داعش” أن شكلت أداة مفيدة للمساعدة في استعادة المناطق التي وقعت تحت سيطرة ما سمي بقوات “الخلافة”. لكن في الحرب لكسب قلوب وعقول المناطق العربية في شرق سوريا – التي ما زال “داعش” يجند في أوساطها – فإن قوات سوريا الديمقراطية بالتأكيد ليست أداة مناسبة.
الطريق عبر دمشق
يمكن للولايات المتحدة بدل الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية، أن تلجأ للحكومة الجديدة في دمشق للمساعدة والتعاون في القضاء على “داعش”. وهذا ظاهرياً وللوهلة الأولى قد يبدو اقتراحاً غريباً. فالولايات المتحدة تعد “هيئة تحرير الشام”، الميليشيات التي أطاحت الأسد وتقود الحكومة السورية راهناً، جماعة إرهابية، بيد أن هذا التصنيف إياه لم يمنع واشنطن من التعاون والعمل من كثب مع “وحدات حماية الشعب” المقربة من حزب العمال الكردستاني، الذي هو أيضاً جماعة إرهابية وفق تصنيف الولايات المتحدة. ومن المؤكد هنا أنه لا ينبغي التقليل من أهمية تشدد “هيئة تحرير الشام” وأيديولوجيتها العنفية. فأنا شخصياً حين كنت سفيراً للولايات المتحدة في سوريا قدت جهوداً أميركية في خريف عام 2012 لتصنيف جبهة النصرة، الجماعة المرتبطة بالقاعدة والتي انبثقت منها أخيراً “هيئة تحرير الشام” كمنظمة أجنبية إرهابية. وكان علينا خلال فبراير (شباط) 2012 إغلاق السفارة في دمشق بفعل تهديد حقيقي من هذه الجماعة. وخلال وقت لاحق قامت جبهة النصرة بسحق واستيعاب الجيش السوري الحر، التحالف الذي ضم متمردين مناهضين للأسد شمال سوريا دعمتهم وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية. وقامت جبهة النصرة بمضايقة الأقليات المسيحية والعلوية خلال الأعوام الأولى من الحرب الأهلية. وقاد (أحمد) الشرع هذه الجماعة عبر تغييرات مختلفة بالأسماء والمظاهر، إلى أن رست على مسمى “هيئة تحرير الشام” خلال عام 2017. على أن كثراً داخل واشنطن يشككون في أن تكون الصيغة الجديدة لهذه الجماعة ابتعدت حقاً من الإرهاب، أو تخلت عن نظرتها الأيديولوجية المتشددة وغير المتسامحة تجاه العالم.
بيد أن الشرع يصر على خلاف ذلك. لقد أمضت جبهة النصرة التي أصبحت في ما بعد “هيئة تحرير الشام” أعواماً عديدة في محاولة إبعاد نفسها من الجماعات الإرهابية الإسلامية. والشرع نفسه انفصل عن “داعش” عام 2014، ثم خاض مقاتلوه معارك دامية ضد ذاك التنظيم (داعش)، متمكنين في نهاية المطاف من طرده من شمال غربي سوريا. وانفصل الشرع علناً عن تنظيم”القاعدة” عام 2016، وقاتلت قواته ضد جماعة مرتبطة بالقاعدة تعرف باسم “حراس الدين” شمال غربي سوريا. ولم تشن جبهة النصرة ولا “هيئة تحرير الشام” أية هجمات إرهابية بعد انشقاقهما عن تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، كما أنهما قضيا على كل محاولة من قبل هذين التنظيمين لإعادة تأسيس وجودهما شمال غربي سوريا. ويمكن القول إن أفعال “هيئة تحرير الشام” على مدى الأعوام الثمانية الماضية تصعب تبرير إبقائها على القائمة الرسمية للمنظمات الإرهابية الأجنبية. كذلك حاولت “هيئة تحرير الشام” أيضاً تلميع صورتها أمام الرأي العام. فابتداءً من عام 2022 ودون التخلي عن هدفها المتمثل بتشكيل حكومة إسلامية في سوريا، بدأت بترميم بيوت المسيحيين وإعادة أراضيهم الزراعية المصادرة من قبل الميليشيات الإسلامية خلال أسوأ مراحل الحرب الأهلية شمال غربي سوريا. وقال لي قادة مسيحيون في إدلب خلال شهر سبتمبر (أيلول) 2023 إن معظم الأملاك تقريباً أعيدت لهم.
ويشير سجل الأفعال الحافل هذا إلى أن “هيئة تحرير الشام” وليس قوات سوريا الديمقراطية، هي من سيقوم على الأرجح بتقويض جاذبية “داعش” بأوساط مجتمعات معينة، لتتمكن في النهاية من استيعابه. لقد ألحق الشرع الهزيمة بـ”القاعدة” و”داعش” في شمال سوريا. والمناطق التي سيطر عليها خلال العقد الماضي كانت خالية من أنشطة “داعش”. وفي حين تعاني قوات سوريا الديمقراطية حصاراً تركياً، تتمتع الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” بدعم إقليمي متزايد، لا سيما من قبل تركيا. ولعل الأهم في هذا السياق أن بوسع الشرع وبسهولة أن يحوز دعم الجماعات والمناطق العربية شرق وشمال شرقي سوريا، التي يستمد تنظيم “داعش” مجنديه منها.
إلى هذا ستحتاج الحكومة الانتقالية السورية إلى تبني المجموعات العربية المقاتلة العاملة الآن بإمرة مباشرة من “وحدات حماية الشعب”، ووضعها تحت إشراف وزارة الدفاع الناشئة في دمشق. وبالتوازي سيتعين على حكومة دمشق أن تتوصل إلى صيغة تتولى بموجبها مسؤوليات الحكم في المناطق العربية بشرق سوريا، معفية قوات سوريا الديمقراطية من مسؤولياتها هناك. هذه الإجراءات ستثير استياء قوات سوريا الديمقراطية من دون شك، لكنها ستساعد سوريا وشركاءها الإقليميين في نهاية المطاف على إلحاق الهزيمة بـ”داعش”.
وإدارة ترمب من جهتها تحتاج إلى فتح قناة تواصل مع الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” لمناقشة الجهود المستقبلية لمواجهة “داعش”. وينبغي أن يتضمن الحديث بين الطرفين موضوعات مثل كيفية انضمام الميليشيات العربية المحلية العاملة الآن تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية إلى حملة حكومة دمشق ضد “داعش”، ومسألة نشر قوات تابعة لحكومة دمشق في مناطق ما زال ينشط فيها التنظيم، والجدول الزمني لتلك الإجراءات. ويمكن للطرفين أن يناقشا أيضاً كيفية تبادل المعلومات الاستخباراتية بين سوريا والولايات المتحدة، إذ إن الاستخبارات الأميركية بالفعل ساعدت الشرع في إحباط هجوم لـ”داعش” في دمشق خلال يناير (كانون الثاني) الماضي. كذلك على النقاش بين الطرفين أن يتناول القضية الأصعب وهي مستقبل مخيمي الهول والروج حيث لا يزال هناك قرابة 40 ألف شخص مرتبطين بـ”داعش” معتقلين لدى قوات سوريا الديمقراطية. فالشرع لم يتسامح مع أي تحد سياسي من العناصر الإسلامية الأكثر تشدداً، وأدارت حكومته في شمال غربي سوريا برنامجاً محدوداً لمكافحة التطرف هناك، إلا أن حجم التحدي في الهول يتجاوز بدرجات كبيرة كل ما تعامل معه الشرع سابقاً.
لمساعدة حكومة دمشق على تحقيق الاستقرار في سوريا ومحاربة تنظيم “داعش”، سيتعين على واشنطن تخفيف العقوبات على سوريا. فإعادة بناء سوريا بعد التدمير الهائل الذي لحق بها جراء الحرب الأهلية المديدة قد يتطلب أكثر من 200 مليار دولار، وفق تقديرات البنك الدولي عام 2021. وسيحتاج السوريون إلى المساعدة الدولية والاستثمار الخاص، فيما العقوبات الأميركية بحق الأجانب الذين يمارسون الأعمال التجارية في سوريا ستؤدي إلى إعاقة تدفقات رأس المال والبضائع التي تحتاج البلاد إليها. ورجال الأعمال الذين التقيتهم في دمشق خلال يناير الماضي شددوا على القول إن الإعفاءات الموقتة التي اعتمدتها إدارة بايدن في ذلك الشهر بمجالات الطاقة والمساعدات الإنسانية لا تكفي بأية صورة من الصور، وذلك نظراً إلى حجم عمليات إعادة البناء المطلوبة. وإن كانت إدارة ترمب مترددة في إلغاء جميع العقوبات على سوريا، فيمكنها في الأقل البدء باعتماد إعفاء لمدة عام واحد قابل للتجديد على العقوبات التي تؤثر في قطاعات المال والبناء والهندسة والصحة، والتعليم، والنقل، والزراعة. وهذه الإجراءات لن تحمل وزارة الخزانة الأميركية أية تكاليف، فدول المنطقة وغيرها من أطراف مانحة ستقدم المساعدات المطلوبة إلى سوريا. لكن على العقوبات الثانوية الأميركية أن لا تمنع أولئك المانحين ومستثمري القطاع الخاص من المضي قدماً. من دون هذه الاستثمارات، ستبقى سوريا في حال شلل، غير قادرة على هزيمة “داعش”، تماماً كما كانت حكومة الأسد الضعيفة بين عامي 2017 و2024.
اتركوا مقود القيادة
إن الابتعاد من قوات سوريا الديمقراطية لمصلحة التقرب من الحكومة الجديدة في دمشق لا يحكم على الأكراد السوريين بمستقبل مظلم، إذ إن أمن المجتمعات الكردية وازدهارها لا يعتمد على قوى أجنبية، بل على احترام الحكومة السورية لحقوقهم وحقوق جميع المواطنين السوريين. ولا يزال من غير الواضح مدى استعداد “هيئة تحرير الشام” لإقامة ديمقراطية شاملة في سوريا. لكن من الواضح أن السوريين الذين يعيشون اليوم في ظل الحكومة الجديدة يتمتعون عموماً بحقوق سياسية وشخصية تفوق ما تمتعوا به منذ تولي حزب البعث السلطة عام 1963. وكنت خلال النصف الثاني من يناير الماضي قضيت 10 أيام في سوريا، من ضمنها أسبوع في دمشق. ومظاهر حرية التعبير بدت واضحة في كل مكان. في المقاهي، سوريون لا أعرفهم شعروا بالحرية في المشاركة بأحاديث ونقاشات سياسية وفي انتقاد الحكومة التي تديرها “هيئة تحرير الشام”. كما أن الشرطة تركت التظاهرات الصغيرة التي قامت في دمشق دون مضايقات. وأقيمت زينة عيد الميلاد في الأحياء المسيحية بالمدينة القديمة، وقرعت أجراس الكنائس على نطاق واسع يوم الأحد. يشعر المسيحيون في دمشق بالتوتر، لكنهم أقروا بأن مخاوفهم لا تتعلق بسلوك “هيئة تحرير الشام”، بل نابعة من قلق تجاه خلفيتها الأيديولوجية.
لدى ترمب وجهة نظر محقة تتمثل بالابتعاد من الصيغ التوجيهية (التقريرية) تجاه التطور السياسي في سوريا. وغرد ترمب خلال الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، مباشرة بعد فرار الأسد من سوريا إلى روسيا، قائلاً إن مستقبل سوريا ليس مسألة تمليها الولايات المتحدة وتقررها. فالسوريون يحتاجون إلى دستور جديد، دستور ربما ينتهي الأمر به إلى استيعاب نمط من أنماط اللا مركزية والفيدرالية – وهذه سمات الدولة المستقبلية التي يحرص قادة قوات سوريا الديمقراطية وغيرهم من قادة الأقليات الأخرى في سوريا، على تأمينها وضمان تحققها. وصياغة هذا الدستور ستستغرق بالضرورة وقتاً طويلاً وستتطلب كثيراً من الصبر، إلا أن السوريين لن يتمكنوا من إجراء الانتخابات إلا عبر دستور قوي.
ومن المهم أن نتذكر بالطبع . الانتخابات في سوريا سيكون لها فرصة أفضل لتعزيز الاستقرار الحقيقي والحكم الرشيد إن عملت الحكومة الانتقالية بالفعل على تطبيق سيادة القانون وحماية الحريات السياسية والفردية، بما في ذلك حرية الرأي والخطاب، وحرية الدين وحرية التجمع، وابتعدت من ممارسات الاعتقال التعسفي. وعلى الدول الغربية أن تركز على تشجيع دمشق على معاملة السوريين كمواطنين في دولة واحدة يتمتعون جميعاً بالحقوق الأساس، وعلى القوى الخارجية أن لا تنحو أو تسعى إلى تأليب الأكراد والمسيحيين والدروز والعلويين والمسلمين السنة على بعضهم بعضاً.
وعلى الولايات المتحدة من جهتها أن تكون مستعدة للتخلي عن قوات سوريا الديمقراطية، وتشجيعها على الاندماج في هيكليات وبنى سوريا الجديدة. كذلك ينبغي من واشنطن الإصرار على أن القوات الأميركية لن تبقى في سوريا لأكثر من عامين إضافيين تزامناً مع تقدم الانتقال (في السلطة) شمال شرقي سوريا. فجميع المجموعات الكردية والعربية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية قادرة على الاندماج في الجيش السوري الجديد، ضمن هذا الإطار الزمني. وعلى واشنطن أن تضغط على دمشق وقوات سوريا الديمقراطية وعلى الإدارة المستقلة للتفاوض على ترتيب انتقالي يغطي المسائل الأمنية، والمستقبل القريب للهياكل الإدارية القائمة في منطقة الإدارة الذاتية، وعلى إعادة إدخال خدمات الحكومة المركزية، بما في ذلك مراقبة الحدود وإعادة فتح المكاتب الإدارية الحكومية المركزية التي تصدر جوازات السفر وتسجل معاملات الأملاك. لكن على واشنطن أن لا تغرق في التفاصيل، وهي لا تحتاج إلى ذلك. بل عليها أن توضح لدمشق مسألة بسيطة، إن حاولت الحكومة السورية الجديدة تهميش الإدارة المستقلة وفرضت انتقالاً من دون تعاون كردي، فهذا سيشعل نزاعاً جديداً ويعوق محاربة “داعش”، ويؤجل تفكير الولايات المتحدة بتخفيف مزيد من العقوبات. ورسالة واشنطن إلى قوات سوريا الديمقراطية يجب أن تكون بسيطة أيضاً، سقوط نظام الأسد يعني أن الوقت حان لتقديم تنازلات صعبة في جوانب الأمن والإدارة في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية – والأمر يتضمن حل هذه القوات تدريجاً.
لا ينبغي على الولايات المتحدة أن تضغط بغية الحصول على حصة أو منصب حكومي محدد للأكراد السوريين أو لأية فئة أخرى. فـ”هيئة تحرير الشام” رفضت فكرة توزيع الحصص على أسس عرقية أو طائفية، إذ عدت نظام التحاصص الإثني والديني الذي دعمته الولايات المتحدة في العراق الجار منذ 20 عاماً، نظاماً خاطئاً. إن الانخراط العام المعزز بسيادة القانون وحماية الحريات السياسية والشخصية يمثل السبيل الوحيد لبناء ديمقراطية حقيقية في سوريا. وستكون العملية بطيئة وفوضوية، وسيكون على السوريين قبل غيرهم حل هذه الأمور. لكن ينبغي أن لا يكون هناك حاجة ليد أميركية مباشرة على مقود القيادة، أو جزمات أميركية على الأرض السورية.
مترجم عن “فورين أفيرز” 8 مارس (آذار) 2025
روبرت س. فورد باحث رفيع في “معهد الشرق الأوسط”. شغل منصب السفير الأميركي لدى سوريا بين 2011 و2014.
المجلة
——————————
تحول رئيسي: نحو دمج قوات سوريا الديمقراطية في المؤسسات السورية
16 مارس 2025
يعد قبول قوات سوريا الديمقراطية الاندماج في مؤسسات الدولة السورية إنجازًا كبيرًا في مسعى القيادة السورية الجديدة نحو توحيد البلاد، وقد يسَّرَ هذا الاتفاقَ تغيرٌ في السياقين، الداخلي والخارجي، لكن لا تزال تعترضه عدة تحديات سواء في التوافق على مضامينه التفصيلية أو في التدخلات الخارجية التي تعد سوريا الموحدة عائقًا لنفوذها.
أُعلن في دمشق، مساء 10 مارس/آذار 2025، عن توقيع الرئيس السوري، أحمد الشرع، والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، على اتفاق من ثمانية بنود، يقضي باندماج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد ومؤسسات الدولة الأخرى، يؤكد على أن المجتمع الكردي مكوِّن أصيل من مكونات الشعب والدولة، ويتعهد بضمان حقوق كافة السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية، والعمل على بناء أجهزة الدولة السورية على أساس الكفاءة. كما أكد الاتفاق على وحدة أراضي البلاد، ورفض التقسيم، دون الإشارة إلى مسألتي اللامركزية أو الفيدرالية.
إلى جانب إقرار وقف إطلاق النار في كافة الأراضي السورية، نصَّ الاتفاق على انضواء كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا، المنطقة الواقعة تحت سيطرة قسد، ضمن أجنحة الإدارة السورية الجديدة، بما في ذلك المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط. كما نص الاتفاق على ضمان عودة كافة المهجَّرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم في شمال شرقي سوريا، وعلى دعم قسد جهود الدولة في مكافحة فلول النظام السابق، ومصادر تهديد أمن سوريا ووحدتها. وفي النهاية، أكد الطرفان على أن تطبيق بنود الاتفاق سيوكل إلى لجان تنفيذية، على أن يكتمل العمل التنفيذي قبل نهاية العام الحالي.
هذا، بالتأكيد، اتفاق تاريخي، ليس لسوريا الجديدة وحسب، بل ولكافة المشرق وشعوبه، التي عانت طويلًا من المظلومية التي استهدفت الأكراد، ومن الأعباء الاجتماعية والإنسانية الثقيلة للعنف الأهوج والكراهية والانقسام، التي خلَّفتها الحركات الكردية المسلحة. ولكن المؤكد أيضًا أن الاتفاق كُتب بلغة عامة، وتجاهل الكثير من التفاصيل التي قد تتحول إلى عناصر تفجير عند البدء في تطبيق ما اتُّفق عليه. فما العوامل والقوى التي دفعت نحو التوصل إلى هذا الاتفاق؟ وما الذي يعنيه الاتفاق لمسيرة ومستقبل الدولة السورية الجديدة، ولدول الجوار السوري؟ ولماذا يجب أن يُنظر إلى مستقبل الاتفاق بقدر كبير من الحذر والأمل على السواء؟
الطريق إلى الاتفاق
لم تتوقف اللقاءات بين قادة الدولة السورية الجديدة في دمشق وقادة قوات سوريا الديمقراطية طوال الشهور الثلاثة الماضية. كما أن اللقاء الذي نجم عنه توقيع الاتفاق، مساء 10 مارس/آذار، لم يكن الأول بين الشرع ومظلوم عبدي. ولكن الطرفين لم يستطيعا خلال جلسات المباحثات السابقة حل المعضلات التي تقف أمام وحدة البلاد وبسط سيادة الدولة السورية على منطقة شمال شرق الفرات، التي تخضع لسيطرة قسد. فقد حافظت قسد في جلسات المباحثات السابقة على المطالبة بإقامة الدولة السورية الجديدة على أساس فيدرالي، أو لا مركزي، كما طالبت بحصة محددة من إنتاج النفط والغاز في مناطق سيطرتها، وبانضمام قواتها إلى الجيش السوري الجديد ككتلة واحدة، وبأن يُضمن لها تمثيل ملموس في قيادة أركان الجيش وفي مؤسسات الدولة الأخرى. ولم يكن خافيًا أن هذه المطالب استبطنت المطالبة بحكم ذاتي كردي في منطقة سورية لا توجد فيها أصلًا أغلبية كردية، وفي دولة لم تعرف الانقسام الإثني أو الديني منذ استقلالها. وكان طبيعيًّا أن ترفض دمشق مثل هذه المطالب.
وعلى الرغم من أن قسد لم تزل منخرطة في المباحثات خلال الأسابيع القليلة الماضية، فثمة أدلة متضافرة على أنها قدمت مساعدات لمجموعات فلول النظام السابق التي قامت بحركة العصيان الدموية في 6-9 مارس/آذار. تقدر دمشق أن عدة آلاف من ضباط وجنود النظام السابق، سيما أولئك الذي عملوا تحت قيادة ماهر الأسد، قد فرُّوا إلى العراق وإلى مناطق سيطرة قسد بعد سقوط النظام، في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي. عدد من هذه العناصر عاد إلى الساحل السوري بمساعدة من قسد، وأسهم في تنظيم حركة العصيان التي استهدفت مدنَ وبلدات الساحل التي توجد فيها مجتمعات علوية. وهناك من يعتقد في دمشق بأنه لو كان العصيان قد نجح في السيطرة على الساحل، لكانت تحركات مناصرة للعصاة ستنطلق في السويداء ودرعا وشمال شرقي سوريا. بمعنى أن قسد كانت تعمل منذ سقوط نظام الأسد على طريقين: طريق تفاوض بطيء ومتقطع مع الحكم الجديد في دمشق، وطريق محاولة إضعاف هذا النظام ومحاصرته وإجباره على الخضوع لمطالب الجماعات الانقسامية بين الأقليات السورية. فلماذا إذن تبدو قسد وكأنها رمت أخيرًا بكل ثقلها في طريق التفاوض، وفاجأت الجميع بتوقيع اتفاق وحدوي التوجه مع دمشق؟
يعود السبب الأول إلى المناخ الذي ولَّده نداء عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، في 27 فبراير/شباط، داعيًا المسلحين الأكراد في كافة فروع الحزب إلى إلقاء السلاح وحل الحزب والانخراط في الساحة السياسية الديمقراطية في تركيا. وعلى الرغم من تلكؤ قيادات حزب العمال وغموض استجابتها الأولية لنداء أوجلان، إلا أنها أعلنت في النهاية عن وقف إطلاق النار. كما نشرت مصادر إعلام تركية، في أوائل مارس/آذار، تقارير تفيد بأن حزب العمال يخطط بالفعل لتنظيم مؤتمر عام خلال شهر، ربما في أربيل أو السليمانية، للإعلان عن حل نفسه.
ليس مؤكدًا بعدُ ما إن كان قطار السلم وحل المسألة الكردية في تركيا سيمضي قدمًا دون عقبات ملموسة، بل ولا توجد ضمانات لعدم حدوث ردة أخرى عن مسار السلم والحل. ولكن مبادرة أوجلان واستجابة قيادات حزب العمال أطلقت مناخًا من التفاؤل الحذر بأن المسألة الكردية في الشرق الأوسط ككل تتجه نحو منعطف تاريخي. ولأن القيادة الكردية لقوات سوريا الديمقراطية في سوريا وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، كان لابد لقسد أن تأخذ في الاعتبار المتغيرات المتسارعة في مسار المسألة الكردية في تركيا.
ويتعلق السبب الثاني بموقف إدارة ترامب من الوجود العسكري الأميركي في شرق سوريا، ومن التزام واشنطن برعاية قسد ماليًّا وعسكريًّا، المستمر منذ إدارة أوباما الثانية. وكان الوجود والرعاية الأميركية قد وفَّرا لقسد الموارد التي ساعدتها على تجنيد عشرات الآلاف من أبناء العشائر العربية في شرق الفرات، والحماية من مخططات اجتياح تركي متكررة. حاول ترامب، الذي لم يولِ سوريا مطلقًا أية أهمية في تصوره للإستراتيجية الأميركية العالمية، في إدارته الأولى سحب القوات الأميركية من شرق الفرات ووضع نهاية للعلاقة مع قسد، ولكن قيادات عسكرية أميركية في واشنطن والشرق الأوسط أقنعت الرئيس بضرورة المحافظة على الوضع الذي ورثه من الإدارة السابقة.
مؤخرًا، وعلى الرغم من عدم توافر إعلان صريح من واشنطن، ثمة تقارير تفيد بأن ضباطًا أميركيين كبارًا قاموا بزيارة منطقة شرق الفرات والتقوا قيادات قسد (وقيادات عشائرية عربية متحالفة معها)، وأخبروا كافة المعنيين بأن الانسحاب الأميركي من سوريا بات وشيكًا وأن عليهم العمل بجدية للتوصل إلى اتفاق مع دمشق. بل إن صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية نشرت في ساعة متأخرة من مساء 10 مارس/آذار تقريرًا يقول بأن ضباطًا أميركيين ساعدوا بالفعل على التوصل إلى الاتفاق.
أما السبب الثالث فيعود إلى الهزيمة التي ألحقتها الإدارة السورية الجديدة، وعموم الشعب السوري، بحركة العصيان المسلح في الساحل. فخلال ساعات من اندلاع العصيان، بعد ظهر 6 مارس/آذار، تحرك عشرات الآلاف من قوات الأمن الداخلي والقوات التابعة لوزارة الدفاع ومن أهالي محافظات سورية قريبة لتعزيز وجود الدولة في الساحل وإخماد العصيان. صحيح أن عمليات ملاحقة فلول النظام السابق واحتواء العصيان شهدت تجاوزات مؤلمة بحق مئات المدنيين العلويين، ولكن الصحيح أيضًا أنه مع حلول صباح يوم العاشر من مارس/آذار كان العصيان قد أُخمد وفلول النظام قد هُزمت، وعادت الحياة إلى طبيعتها في كافة مدن الساحل. وكان هذا الحسم السريع للعصيان هو ما دفع وزارة الدفاع إلى الإعلان عن انسحاب قوات الجيش، وعودة مسؤوليات حفظ النظام في الساحل إلى جهاز الأمن العام.
وجَّه إفشال العصيان في الساحل، ومظاهر التفاف عموم السوريين حول دولتهم الفتية، رسالة قاطعة لكافة الأطراف المتربصة بدمشق بأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وأن الأغلبية السورية تبدو أكثر استعدادًا من أي وقت مضى للدفاع عن الدولة ووحدة البلاد. ويبدو أن هذه الرسالة كانت كافية لأن تعيد القوى الانقسامية في شرق سوريا وجنوبها حساباتها من جديد.
الاتفاق في المنظور الخارجي
أغلب الدول العربية التي أسست لعلاقات جيدة مع نظام الحكم الجديد في دمشق سارعت خلال ساعات إلى الترحيب بالاتفاق، وفي مقدمتها السعودية وقطر والكويت. ولكن تركيا، وثيقة الصلة بدمشق، والمعنية بالمسألة الكردية أكثر من أية دولة أخرى في الإقليم، لم تصدر مباشرة بيانًا رسميًّا يحدد الموقف من الاتفاق.
ليس مستبعدًا أن الحكومة التركية كانت على دراية بمجريات التفاوض مع قسد لأنه يدخل في صميم أمنها القومي، ولأنها تحظى بعلاقات متينة ومميزة مع القيادة السورية. وفي اليوم التالي للإعلان، نقلت رويترز عن مسؤول تركي لم تسمه ترحيب أنقرة الحذر بالاتفاق، والإشارة إلى أن تركيا بانتظار تطبيق ما اتُّفق عليه. وبعد مرور ساعات قليلة على نشر تقرير رويترز، نُقل عن الرئيس التركي، أردوغان، قوله: إن السوريين هم الفائزون من الاتفاق وإن التنفيذ الكامل لبنوده هو فقط ما سيأتي بالسلام. في كل هذا، كان من الواضح أن الموقف التركي من الاتفاق تم التعبير عنه في لغة من الترحيب والتحفظ. وليس ثمة ما يدعو إلى الاستغراب من لغة التحفظ التركية. فطالما أن المسألة الكردية في شمال شرقي سوريا وثيقة الصلة بالمسألة الكردية في تركيا، وأن الدولة التركية ترى قوات سوريا الديمقراطية باعتبارها ذراعًا لحزب العمال الكردستاني، فإن أنقرة ستمتنع عن الإيحاء بالاطمئنان لنوايا حزب العمال، وستظل بانتظار استجابة الحزب العملية لنداء أوجلان بالحل السياسي وإلقاء السلاح.
من جهة أخرى، يبدو أن الاتفاق، على الأقل في ظل الوعود التي حملها، قد أوقع خيبة أمل عميقة في إسرائيل وإيران. فقد أسست إسرائيل مقاربتها لنظام الحكم الجديد في دمشق على رؤية تقول بأن هذا النظام يشكل تهديدًا لأمن الدولة العبرية، وأن من الضروري المحافظة على سوريا ضعيفة ومجزأة. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، سعت إسرائيل بصورة حثيثة، إلى إقناع إدارة ترامب بعدم سحب القوات الأميركية الموجودة في شرق الفرات. وأعرب كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية، ووزيري الدفاع والخارجية، عن استعداد إسرائيل لتوفير حماية للدروز في السويداء، والرغبة في إقامة علاقات تعاون مع الأكراد في شمال شرقي البلاد. ولذا، فإن إمكانية النجاح في تطبيق الاتفاق دون عقبات كبيرة، سيؤدي إلى انسحاب الأميركيين من شرق الفرات، ويسهم بالتالي في تعزيز سيادة دمشق على كافة أنحاء البلاد، ويجعل القيادة السورية الجديدة توجه ضربة مؤلمة لمخططات إسرائيل في سوريا.
في إيران، يبدو أن ثمة دوائر في نظام حكم الجمهورية الإسلامية لا تزال تأمل بإفشال النظام الجديد في دمشق، أو حتى إطاحته. وقد تكون هذه الدوائر علقت آمالًا كبيرة على قسد، سواء لتوفير الحماية والدعم لمعارضي دمشق في سوريا، أو المواجهة مع النظام السوري الجديد وأجهزته الدفاعية والأمنية. وبإغلاق أفق هذا التعاون، إن نجح الاتفاق بالفعل في إحداث هذا الإغلاق، ستكون إيران قد خسرت حليفًا كبيرًا في محاولة استعادة النفوذ في سوريا.
الشكوك المحيطة بالاتفاق
يوحي نص الاتفاق بالتزام إدارة الرئيس الشرع الثوابت التي أعلنتها منذ الأيام الأولى لتوليها أمر سوريا: الحفاظ على وحدة البلاد، والمواطنة المتساوية لكافة السوريين، والعمل على تمثيل عادل لكافة مكونات الشعب السوري في الحكم. كما أن النص يخلو كلية من أي توجه لقبول مبدأ المحاصصة، أو الحكم الذاتي، أو الإشارة لأي نظام يوحي بالتقسيم الإداري أو السيادي. ولكن بنود الاتفاق وُضعت أيضًا في صيغة عامة، ولم تتطرق لأية تفاصيل ضرورية لعملية اندماج قوات سوريا الديمقراطية وأجهزتها وقواتها. كما أن الاتفاق منح الطرفين (أو بالأحرى قسد) فترة طويلة، تصل إلى نهاية هذا العام، لتنفيذ بنوده.
يقول المتحفظون على الاتفاق: إن حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره تركيا (الحزب الأم لقسد)، سبق أن توصل إلى اتفاقين مع الحكومة التركية في الفترة بين 2013 و2015 لوقف إطلاق النار والتخلي عن العمل المسلح، ثم عاد ونكص على عقبيه. وبالنظر إلى الصيغة العامة لبنود الاتفاق، ليس ثمة ما يمنع قسد عند التطبيق من القول بأن نظام الحكم غير المركزي لا يتناقض بالضرورة مع النص على الحفاظ على وحدة سوريا، أو حتى بالعودة إلى المطالبة بأن يُنجز اندماج قوات قسد في عديد الجيش السوري بالمحافظة على التشكيلات الحالية للقوات كما هي. كما أن قسد قد تجد طريقة أو أخرى لتفسير النص القاضي باستعادة الدولة حقول النفط والغاز بما يضمن حصول إدارتها في محافظتي الحسكة والرقة على نسبة ما من عائدات النفط والغاز، طالما أن الاتفاق لم يقل بصورة واضحة وقاطعة بحل إدارة قسد، ولا كيفية استعادة الدولة المركزية لحقول النفط والغاز.
المشكلة الأكبر خلف هذه التخوفات أن قرار قسد ليس بالضرورة في يد قادتها المعروفين، مثل مظلوم عبدي، بل هو في النهاية قرار قيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل. ولأن تجربة قسد هي الأولى والوحيدة، التي استطاع فيها قادة سابقون في حزب العمال الكردستاني إقامة إدارة شبه حكومية، وشبه مستقلة، في منطقة تواجد كردي، فهناك قدر من الشك في إمكانية تخلي قيادات قنديل عن التجربة السورية. الأكثر مدعاة للشك أن قسد استطاعت منذ 2015 بناء علاقات دولية، سواء مع الولايات المتحدة، أو مع الأوروبيين، أو مع روسيا، وسيكون من الصعب عليها التخلي عن علاقاتها الدولية والانضواء في الساحة الوطنية السورية.
دلالات الاتفاق وأبعاده
ولكن، على الرغم من هذه المخاوف، لابد من الإقرار بأن الاتفاق يمثل إنجازًا كبيرًا لإدارة الرئيس الشرع. فمجرد التوقيع على الاتفاق في هذه اللحظة المبكرة والحرجة من عمر سوريا الجديدة هو في حدِّ ذاته رافعة هائلة لجهود النهوض بسوريا والحفاظ على وحدتها في الوقت نفسه. وإن جرى تنفيذ الاتفاق في إطار من رؤية الإدارة السورية الإيجابية لبنوده، فيمكن أن يترك أثرًا بعيد المدى على مجمل المسألة الكردية في المشرق.
جاء الإعلان عن الاتفاق بعد أيام أربعة فقط من اندلاع العصيان الدموي في الساحل السوري، وما أثاره من شعور بالقلق الجمعي والتشاؤم في صفوف الشعب السوري تجاه مستقبل بلادهم والآمال المعلقة على انتصار ثورتهم. وكان طبيعيًّا أن يولِّد توقيع الاتفاق مناخًا عاصفًا من التفاؤل والفرح، ليس في دمشق ودرعا وحمص وإدلب وحماة وحسب، بل وفي مدن الشرق والشمال الشرقي، كما في اللاذقية وطرطوس، التي شهدت جميعها تجمعات احتفالية حاشدة، جددت الثقة في الدولة الجديدة ومسارها. وحتى إن كانت قيادة قسد قد وقَّعت الاتفاق بحسابات تكتيكية وانتظارًا لفرصة أخرى مواتية لتحقيق أهدافها الانقسامية السابقة، فلابد أن الاتفاق يمنح دمشق وقتًا ثمينًا للعمل على بناء مؤسسات الدولة الجديدة الأمنية والدفاعية القادرة على صيانة وحدة البلاد وسيادة الدولة.
على المستوى السوري، أُعلن في اليوم التالي على توقيع الاتفاق عن التوصل إلى تفاهمات بين وزارة الداخلية السورية ووجهاء وممثلي أهالي السويداء حول الدمج الكامل لمحافظة السويداء في مؤسسات الحكم الجديدة. وقد سارع نشطاء وحدويون في السويداء بمجرد الإعلان عن التفاهمات إلى إعادة رفع العلم السوري الجديد على مبنى المحافظة في المدينة. تعزز هذه الخطوة من جهود توحيد البلاد، وربما ستعمل على إجهاض مساعي الإعلان عن الحكم الذاتي في السويداء، التي كان يخطط لها دعاة التقسيم وإضعاف الحكم المركزي. كما أُعلن في اليوم نفسه عن اكتمال أعمال لجنة صياغة الإعلان الدستوري المؤقت، الذي قُدمت مسودته لرئيس الجمهورية، وصدَّق عليها، 13 مارس/آذار، ما سيفتح الطريق أمام تشكيل مجلس النواب الانتقالي، وتشكيل حكومة انتقالية من الكفاءات واسعة التمثيل، تمتلك السلطة الدستورية التي تؤهلها لاتخاذ قرارات كبيرة.
لم تكن هذه التطورات ممكنة، أو على الأقل لم تكن ميسرة، دون هزيمة العصيان في الساحل وتوقيع اتفاق الاندماج مع قسد. وبعد أن تمكنت القيادة السورية الجديدة من احتواء تجاوزات المواجهة مع فلول النظام في الساحل التي كانت تنذر بموقف دولي متشدد من دمشق، فالأرجح أن مجمل هذه التطورات سيعزز من شرعية النظام الجديد ومن أسهمه في الساحة العربية والدولية، ويدفع نحو المزيد من خطوات رفع العقوبات الدولية وإجراءات الحصار ثقيلة الوطأة التي كانت قد فُرضت على النظام السابق.
خلف ذلك كله، يمكن لتجربة التفاوض بين دمشق وقسد أن تدفع عملية التحول السلمي-الديمقراطي في المسألة الكردية في تركيا إلى الأمام، وأن تساعد على تخفيف مستوى التوتر في العلاقة بين إقليم الحكم الذاتي في كردستان العراق وبغداد، وأن تعمل على إحداث انقلاب تاريخي في مسار الحركة القومية الكردية في المشرق، وفي علاقة الأكراد بمحيطهم العربي والتركي، وبالدول التي يعيشون في ظلها والتي ناضلوا طويلًا ضدها. فقد كان نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى في المشرق كارثة كبيرة على الأكراد والعرب والأتراك، على السواء. وربما جاء الوقت الذي يدرك فيه القوميون الأكراد، كما القوميون العرب والأتراك، أن الخلاص يكمن في العمل المشترك على تجاوز نظام ما بعد الحرب الأولى، وليس في المزيد من التجزئة والانقسام، أو المزيد من التطرف القومي وسياسات القهر والإخضاع.
مركز الجزيرة للدراسات
—————————————–
حدود ثابتة وجدران داخل الدول/ طوني فرنسيس
المشرق العربي يواجه تمزقاته الداخلية على يد مشاريع متناقضة لكن تقسيمات “سايكس بيكو” تبقى صامدة
الاثنين 17 مارس 2025
صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.
لم يتراجع الحديث عن تفتيت دول المشرق العربي إلى دويلات مذهبية وإثنية وعن تغيير للحدود الدولية القائمة طوال العقود الماضية، لكن تلك الحدود استمرت بصيغتها التاريخية فيما قامت الحواجز داخل كل بلد بين طوائف ومذاهب ومجموعات على حساب الدولة الوطنية.
كان حديث نسف الحدود وتعديلها يستند إلى وقائع تغذيها نظرية المؤامرة المتجذرة في عقول نخب كثيرة وجوهرها أن الغرب وإسرائيل يعملان على تنفيذ مخطط تقسيمي استعماري يلغي الدول الوطنية الناشئة بعد انهيار السلطنة العثمانية و”اتفاق سايكس بيكو” البريطاني- الفرنسي الذي بلور في “مؤتمر سان ريمو” عام 1920 الحدود الراهنة لدول المنطقة، ويقيم بدلاً منها مجموعة من الكيانات الضعيفة على أسس دينية خصوصاً، توفر في ضعفها وتفككها حماية طويلة الأمد للمشروع الإسرائيلي في امتداداته الاستعمارية.
مع الاعتراف بوجاهة هذه النظرية إلا أنها لا تغطي صورة المشهد بأكمله، فليست إسرائيل وحدها من تطمح إلى تغيير أوضاع قائمة، وتحت عنوان مواجهة ورفض تقسيمات “سايكس بيكو” نشطت قوى أخرى، قومية و”إسلامية” سعت وجهدت إلى إلغاء الحدود في المشرق العربي ودمج تلك الدول في مشاريع أوسع نطاقاً باسم القومية العربية والسورية تارة وباسم الإسلام طوراً، وعلى رغم الإمكانات الضخمة التي توافرت لكل تلك القوى، لم يتمكن أي طرف منها من تحقيق مشروعه كما يرغب وصمدت تقسيمات سان ريمو في شقها العراقي والسوري واللبناني متجاوزة ما يمكن تسميته بأقسى امتحانات قرن بكامله.
كان الامتحان الأحدث ولا يزال في سوريا، فما جرى ويجري في هذا البلد العربي قبل فرار الرئيس بشار الأسد وبعد لجوئه إلى روسيا، إذ بدت في ختام معركة الـ14 عاماً بين النظام ومعارضيه أقرب إلى دولة جاهزة للانقسام والتفكك، وترسخت عوامل الانقسام في ظل نظام الأسد وتفاقمت بعد رحيله واندلاع صدامات الساحل والجنوب والانفصال الواقعي للأكراد في الشرق، لكن في المحصلة الأولية تبين أن لا أحد يريد الانفصال وتشكيل دولته الخاصة، على رغم ارتفاع أصوات الاحتجاج والاستغاثة بالتدخلات الخارجية وسعي بعض الخارج، خصوصاً إسرائيل إلى استغلال الأوضاع.
لقد ظهر إلى جانب تمسك النخب السورية بوحدة بلادها، من الجزيرة إلى السويداء والساحل في ظل نظام يكفل المساواة والعدالة، أن القرار الدولي الذي يمسك بمصير الخرائط لا يزال أيضاً مؤمناً بخيارات رسمها مارك سايكس وجورج بيكو قبل 106 أعوام.
كانت تلك الخيارات وخرائطها تعرضت لامتحانات قاسية قبل الامتحانات السورية الأخيرة، فعام 2014 سيطر تنظيم “داعش” على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، وتحت وطأة المفاجأة اعتبر كثيرون أن مرحلة جديدة خطرة بدأت. وقال كثيرون ومن بينهم الزعيم الكردي العراقي مسعود برزاني، “في الحقيقة أن سايكس- بيكو فشل وانتهى”، ولاقاه السياسي اللبناني وليد جنبلاط في الاستنتاج أن “سايكس بيكو انتهى، ذلك أمر مؤكد، لكن كل شيء الآن غامض، وسيكون هناك وقت طويل قبل أن تتضح النتائج” (من تصريحات إلى “بي بي سي” مايو (أيار) 2014)، ومع ذلك لم تتغير الحدود وهزم مشروع “الدولة الإسلامية” المزعوم.
كان البرزاني يعرف أكثر من غيره أن حدود الإقليم الكردستاني التي أقرها مجلس الأمن الدولي عام 1991 كمنطقة محمية للأكراد العراقيين لم تتحول إلى كيان مستقل بحدود خاصة على رغم الغزو الأميركي وإسقاطه نظام صدام حسين عام 2003، وبقيت الحدود العراقية الدولية معترفاً بها كما كانت منذ العهد الملكي.
وربما تكون تجربة لبنان في الحرب الأهلية فاتحة أحاديث الانقسام وتشكيل الدويلات في المشرق، وخلال أعوام السبعينيات من القرن الماضي توالت التحذيرات من “البلقنة”، نسبة إلى انقسامات البلقان بعد الحرب العالمية الأولى، ثم نشط الحديث عن “قبرصة” نسبة إلى تقسيم قبرص إثر الانقلاب على الرئيس مكاريوس والغزو التركي واحتلاله شمال الجزيرة (1974). وحروب لبنان التي استمرت لمدة نحو 15 عاماً رسخت المخاوف من مصائر مماثلة، وقد جرى خلالها التصريح مراراً عن رغبات تقسيمية على أساس ديني، لكن كل ذلك صار أوهاماً وانتهى مع إقرار “اتفاق الطائف” في السعودية وبرعايتها، وعاد اللبنانيون جميعاً، بمقتضى الاتفاق، للبنانهم “كوطن نهائي لجميع أبنائه” بحدوده المرسومة قبل أكثر من قرن على يد الفرنسيين والإنجليز.
وكانت النظريات القومية العربية سباقة إلى الرغبة في نسف الحدود “المصطنعة”، فحزب البعث العربي الاشتراكي الذي نشأ في نهاية أربعينيات القرن الماضي بشر بإلغائها وتوحيد “الأمة العربية”، ثم نادى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بأهداف مماثلة وانتهت تجربة الطرفين إلى فشل ذريع. وحكم “البعث” العراق وسوريا فأقفلت الحدود بين البلدين وترسخت منافذها، وأقام عبدالناصر محاولة وحدوية مع سوريا سرعان ما انتهت إلى انفصال وصدام.
صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.
فقد جعلت إيران مجتمعات عدد من الدول العربية أجساداً مريضة عبر التركيز على ربط الشيعة العرب بالمرشد الإيراني وحساباته “القومية الإيرانية”، وأدى التحريض الإيراني المستمر منذ أكثر من 40 عاماً، مترافقاً مع عمليات تنظيم وتمويل واسعة، إلى خلق دويلات ضمن الدولة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفي المقابل كانت إسرائيل ومنذ زمن بعيد تسعى إلى تجذير انقسامات مذهبية ودينية مماثلة ضمن استراتيجية صريحة لإضعاف وتمزيق الدول المحيطة. لقد كانت مقالة الباحث الإسرائيلي عوديد ينون المنشورة في فبراير (شباط) عام 1982 بعنوان “استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات” ولا تزال مرجعاً تجري العودة له كلما تصاعد الحديث عن تفتيت دول المشرق. واليوم ومع التطورات الأخيرة في سوريا يصار إلى التذكير بهذه “الاستراتيجية” التي نادت في حينه بتقسيم لبنان وسوريا والعراق إلى دويلات مذهبية وإثنية، وهي خطط لا تزال تطل برأسها عبر السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا والعراق وأماكن أخرى.
ويوفر مستوى التمزقات المجتمعية الداخلية في المشرق على يد الإسلام السياسي بفروعه الإيرانية والإخوانية وضعف الدولة الوطنية المركزية فرصاً ثمينة لمزيد من التدخلات الخارجية الإسرائيلية خصوصاً، ومزيداً من أوهام الخلاص خارج دولها لدى الأقليات الخائفة والمضطهدة.
ومع ذلك تقول التجربة حتى الآن إن الحدود المرسومة قبل قرن ستبقى قائمة، لكن مزيداً من جدران الانقسام الداخلي سترتفع بين الناس أطيافاً وشرائح إذا لم تُعتمد صيغ جديدة للحكم تأخذ الحساسيات المختلفة في الاعتبار. ولن تتغير الحدود لأن صانعيها الدوليين لا يريدون تغييرها وليس لأن رافضيها المحليين أقوياء بما فيه الكفاية.
ورداً على سؤال طرحه الباحث في “معهد بروكينغز” غريغوري غوس قبل 10 أعوام على نفسه في مناخ صعود “دولة داعش”، “هل سنشهد إعادة رسم لحدود الشرق الأوسط؟”، أجاب “باختصار، كلا! الحدود لن تتغير. وفي الحقيقة ستؤول هذه الحدود إلى ما يشير إليه خبير العلوم السياسية روبرت جاكسون بـ’شبه الدول‘، المشار إليها دولياً كصاحبة سيادة، على رغم أنه لا يمكن تنفيذ الشروط التشغيلية التي تطلبها السيادة قبل السيطرة على الحدود والأراضي”. والأرجح أن السلطة الحقيقية في المشرق ستصبح متاحة للجميع إذا ترسخت المسارات الراهنة ولم تتغير، إلا أن حدود الشريكين سايكس وبيكو ستكون آخر المتغيرات.
——————————-
صحيفة تركية تكشف تفاصيل لقاء فيدان وغولر وكالن بالرئيس السوري أحمد الشرع
2025.03.17
كشفت صحيفة “حريت” التركية تفاصيل زيارة وزير الخارجية هاكان فيدان ووزير الدفاع يشار غولر ومدير الاستخبارات إبراهيم كالين إلى دمشق، الأسبوع الفائت، ولقائهم بالرئيس السوري أحمد الشرع.
وبحسب الصحيفة
، فإن توقيت هذه الزيارة كان مهماً لأربعة أسباب:
1- الاتفاق بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي.
2- الإعلان عن اجتماع مجلس الوزراء في سوريا هذا الأسبوع.
3- محاولة التمرد الفاشلة التي شنتها فلول جيش الأسد المدعوم من إيران في اللاذقية وطرطوس.
4- تصرفات (الجماعة) الدرزية المدعومة من إسرائيل.
وتتابع الصحيفة:
في الثامن من كانون الأول اندلعت الثورة في سوريا. لكن القوى الخارجية، وخاصة إيران وإسرائيل، تبذل جهوداً مكثفة لزعزعة استقرار سوريا، التي تعيش في حرباً دموية منذ 13 عاما ويحكمها نظام البعث منذ 61 عاماً. وقال وزير الخارجية هاكان فيدان: “لقد حذرنا في السابق من الاستفزازات بشأن هذه القضية. لن تكون هذه المرة الأولى والأخيرة. وأضاف أن “الإجراءات الإدارية والسياسية مهمة ضد مثل هذه الاستفزازات”. إن مهمة سوريا صعبة جداً، لكن تركيا هي الضامن للاستقرار في سوريا. ولهذا السبب لم تنجح تلك القوى.
تقييم هاكان فيدان
وبخصوص الملفات والقضايا التي ناقشها الوفد التركي مع الرئاسة السورية؛ في البداية تمت مناقشة الاتفاق الذي تم مع مظلوم عبدي. حيث جرى تقييم 8 نقاط، وخلصت المناقشة إلى أنه لم يكن هناك أي نقطة من شأنها أن تزعزع استقرار تركيا.
سُئل وزير الخارجية فيدان عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، فأجاب: “تتبع هذه المنظمة (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) استراتيجية زرع الألغام في الخلف أثناء التحرك للأمام. لهذا السبب أنا حذر، وأركز على النتيجة. وسوف أنظر أيضاً إلى نتائج هذا الاتفاق.. سأتابعه حتى النهاية”.
فيدان ليس مجرد وزير خارجية عادي، فهو قادم من وكالة الاستخبارات الوطنية التركية، وهو أحد أبرز الخبراء العالميين في مجال السياسات الأمنية.
سيكون التطبيق أساسياً
“نقلنا وجهة نظر أنقرة في خضم اللحظة. وترى تركيا أن الاتفاق إيجابي وتركّز على تنفيذه”. وفق قول وزير الدفاع يشار غولر، ويضيف: “يجب اتخاذ قرار إنهاء وجود (حزب العمال الكردستاني) العسكري في أقرب وقت ممكن ويجب عليهم تسليم أسلحتهم على الفور، ودون قيد أو شرط”.
ومن المتوقع أن يعقد قنديل مؤتمره، ربما في السليمانية، في منتصف نيسان المقبل، ويتخذ قرار الحل. ومع ذلك، فإننا سوف نتابع عملية نزع سلاح “حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب” ودمجها في الجيش السوري، من أجل منع تفجير الوضع في المستقبل، كما أشار حقان فيدان .
تعيين مستشار عسكري تركي
من المقرر أن يزور وفد عسكري تركي دمشق للمرة الثانية خلال الأيام المقبلة. وفي الواقع، خلال زيارة الوزراء إلى دمشق، كان المدير العام للدفاع والأمن اللواء “إلكاي ألتينداغ” ضمن الوفد أيضاً.
وفي إطار التعاون العسكري مع سوريا، ستساهم أنقرة في إعادة هيكلة الجيش السوري وتزويده بمنتجات صناعتها الدفاعية المتطورة لتعزيز قدرات الجيش السوري. كما سيتم تعيين أحد الضباط الأتراك مستشاراً عسكرياً للجيش السوري. وقد بدأ الملحق العسكري في السفارة التركية بأداء مهامه.
بوابات الحدود أولاً
ستتولى الدولة السورية مؤسسات الدولة في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية/حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب”، وخاصة المعابر الحدودية. وسيتم العمل على نزع السلاح، وضمان خروج الإرهابيين غير السوريين من البلاد، ودمج عناصر “قسد” البالغ عددهم 20 ألف عنصر في الجيش السوري.
وكان للاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الدولة السورية و”قسد” أثر إيجابي على إلقاء “حزب العمال الكردستاني” سلاحه وحل نفسه. إن قرار “العمال الكردستاني” بعقد مؤتمره القادم وحل نفسه سيعطي زخماً إيجابياً للاندماج في سوريا.
لماذا أبرمت الصفقة؟
وترى الصحيفة أن الأسباب التي دفعت مظلوم عبدي للتوقيع على الاتفاقية تتمثل في:
1- القضاء على محاولة الانقلاب في اللاذقية وطرطوس.
2- فشل الاستفزاز الإسرائيلي ضد الدروز.
3- بحسب مسؤول أميركي تحدث لصحيفة وول ستريت جورنال، فإن احتمال انسحاب القوات الأميركية من سوريا كان عامل ضغط دفع مظلوم عبدي نحو الاتفاق؛ لم يأتِ نقله إلى دمشق بواسطة مروحية أميركية من فراغ.
4- تصميم تركيا. وكان من المقرر توقيع هذه الاتفاقية في 20 شباط الفائت، وتمكن عبدي من تجنب الضغوط من إيران وإسرائيل، ولكنه رأى أن البلدين لن يكونا قادرين على حماية أنفسهما ضد عملية عسكرية كبيرة تشنها تركيا. لو نجحت محاولة الانقلاب في اللاذقية وطرطوس، لما جلس مظلوم عبدي على الطاولة.
إعلان عن مجلس الوزراء
سيتم اتخاذ خطوة مهمة أخرى في سوريا هذا الأسبوع، وتتمثل في الإعلان عن مجلس الوزراء. سوريا ستكون دولة موحدة يحكمها نظام رئاسي، وسيتولى أحمد الشرع أيضاً حكم البلاد كرئيس يتمتع بصلاحيات تنفيذية.
سيتم إلغاء منصب رئاسة الوزراء، مثل النموذج التركي. سوريا لديها نفط ولكن ليس لديها وزارة للطاقة. وسيكون هناك وزيراً للطاقة في الحكومة الجديدة. ومن المهم أن يتم نقل حقول النفط والغاز الطبيعي في مناطق “قسد” إلى الإدارة المركزية في أقرب وقت ممكن.
وحول شكل الحكومة السورية الجديدة، سيكون هناك حكومة تحتضن جميع السوريين. وسيكون لهذا أهمية كبيرة في الحفاظ على وحدة سوريا؛ حيث ستضم الحكومة ممثلين عن الأكراد والعرب والعلويين والمسيحيين والتركمان، بما يتناسب مع حجمهم في البلاد، وفق ما أوردت الصحيفة.
————————–
كيف تبدو تركيبة الجيش السوري الجديد بعد دمج الفصائل؟/ عبد الحليم سليمان
المشهد العسكري في جنوب البلاد معقد حيث لا تتبع القوى المسيطرة على هذه المنطقة وزارة الدفاع المشكلة حديثاً
الاثنين 17 مارس 2025
ملخص
محاولات دمج الفصائل مستمرة من قبل الإدارة الانتقالية في دمشق، فالمشهد يبدو معقداً على رغم إبداء معظم قادة هذه الفصائل استعدادهم للانضمام إلى وزارة الدفاع ليصبحوا جزءاً من جيش سوريا الجديد.
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط حكم بشار الأسد وانهيار جيشه، يمثل تشكيل جيش جديد تحت قيادة وإدارة وزارة الدفاع الجديدة أحد أكبر التحديدات التي تواجهها القيادة الحالية، فحال الفصائل لا تزال تهيمن على المشهد العسكري على رغم اجتماع عدد غير قليل من قادتها في ما عرف بـ “مؤتمر النصر” الذي منح الشرعية العسكرية والثورية للرئيس أحمد الشرع لتولي قيادة المرحلة الانتقالية، عبر إطلاق حوار وطني وإعلان دستوري وحكومة انتقالية تقود المرحلة.
ويبدو المشهد معقداً على رغم إبداء معظم قادة هذه الفصائل استعدادهم الانضمام إلى وزارة الدفاع ليصبحوا جزءاً من جيش البلاد، لكن معظم هذه الفصائل لا تزال تحتفظ بأسمائها وتبعيتها التنظيمية السابقة وكذلك سلاحها، سواء تلك المنضوية تحت الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا أو الفصائل في الجنوب السوري أو في التنف، في حين أن “هيئة تحرير الشام” والفصائل التي تحالفت معها في إدارة العمليات المشتركة، ولا سيما تلك التي أسقطت نظام بشار الأسد أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تدير المشهد العسكري الرسمي من خلال وزارة الدفاع التي تسلم مسؤوليتها القيادي العسكري في “هيئة تحرير الشام” مرهف أبو قصرة، وفي أواخر ديسمبر الماضي جرى ترقية نحو 49 من قادات وعناصر الفصائل المسلحة وتسميتهم ضباطاً رفيعين، ومنحهم رتب اللواء والعميد والعقيد في الجيش السوري المزمع تشكيله، وشملت الترقيات عناصر من “تحرير الشام” والفصال المتحالف معها وكذلك من الجيش الوطني الموالي لتركيا، في حين أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن من بين الأسماء الـ 49 الواردة في المرسوم “ستة متطرفين أجانب”، بينهم ألباني وأردني وطاجيكي وآخر من الإيغور ينتمي إلى “الحزب الإسلامي التركستاني”، وتركي كان “قائد لواء” في الهيئة.
المنطقة الجنوبية الرخوة
وفي الجنوب السوري يبدو الوضع العسكري الداخلي مقلقاً جداً لدمشق، ولا سيما بعد دخول غرفة عمليات الجنوب وفصيله الأبرز “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة دمشق والسيطرة على العاصمة ومؤسساتها في الثامن من ديسمبر الماضي، على رغم وجود الشرع وعناصره في حمص وقتها.
وعلى رغم حضور نائب العودة “مؤتمر النصر” وعقد اجتماعات عدة بين الطرفين، أبرزها لقاء الشرع والعودة، لكن الفصيل لم يسلم سلاحه خصوصاً وأنه يملك ترسانة كبيرة من السلاح الثقيل، لأنه بحسب معلومات متداولة يطالب بضمانات تمنح فصيله امتيازات خاصة واستقلالية عسكرية ضمن وزارة الدفاع.
وكان الفصيل تشكل جراء مفاوضات المسلحين مع روسيا ونظام الأسد كجزء من “الفيلق الخامس” المدعوم روسياً، إذ لا يزال العودة يحظى بهذا الدعم إضافة إلى علاقات مع الأردن ودول إقليمية، وفق مصادر سورية.
وعلى حدود مناطق سيطرة فصيل العودة يوجد الدروز في محافظة السويداء جنوباً وتسيطر على مناطقهم فصائل مسلحة محلية عدة أبرزها “المجلس العسكري للسويداء” و”لواء الجبل” وغيرها من فصائل تشكلت خلال أعوام الحرب، ومع سقوط النظام وتشكيل وزارة الدفاع الجديدة لم تنضم هذه الفصائل إلى الجيش السوري على رغم لقاءات عدة عقدت بين الطرفين، ومحاولة دخول وزارة الداخلية وقوى الأمن العام للمحافظة، لكنها غير مقبولة من قبل الدروز ولا سيما أن تحفظات وخلافات سياسية تعلن تجاه دمشق بين فترة وأخرى من قبل زعامات دينية، وهي صاحبة القول الفصل في شؤون الطائفة وبخاصة الشيخ حكمت الهجري الذي رفض أخيراً “الإعلان الدستوري” مطالباً بدولة مدنية تحفظ حقوقهم، وكذلك سجلت مآخذ وانتقادات من قبلهم تجاه الحكم الجديد بخصوص مؤتمر الحوار، مما يزيد تعقيد انضمام الفصائل الدرزية إلى الجيش السوري.
ويتزامن ذلك مع حوادث متفرقة عدة، فقد نشبت اشتباكات بين القوات التابعة لدمشق ومسلحين دروز في ضاحية جرمانية الدرزية المتاخمة لدمشق وأدت إلى إصابات بين الطرفين، لكن الحادثة طوقت سريعاً مع تدخل مسلحين دروز مقربين من دمشق على خط الوساطة لتنتهي بتسلم قوى الأمن العام، في حين أن سلاح الفصيل المسلح لا يزال في يد عناصره، ويعتبر إحدى أسباب المناكفة بين الدروز وحكومة الشرع، إضافة إلى تصريحات إسرائيلية بضرورة حماية الدروز في سوريا والتحذير من الاعتداء عليهم.
“قسد” الملف الأثقل
ملف الفصائل العسكرية في سوريا من أكثر الملفات الشائكة حالياً وبخاصة ملف اندماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الذي يعتبر من أعقد وأثقل القضايا، لما تحمله من خلافات بينها وبين قوات دمشق إضافة إلى صراعها المستمر مع الفصائل الموالية لتركيا، والتي انضمت جميعها إلى وزارة الدفاع في حكومة الشرع، في حين أنها لا تزال جزءاً من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا وتتلقى منها الدعم والرواتب، كما أن هذه الفصائل تقاتل منذ أواخر ديسمبر “قسد” في منطقة سد تشرين وجسر قره قوزاق في ريف كوباني الجنوبي، إضافة إلى مناوشات مستمرة بين الطرفين في مناطق نبع السلام أيضاً.
وبخلاف غيرها من الكيانات العسكرية في سوريا فإن مهمة “قسد” تتركز على مكافحة الإرهاب وحماية السجون التي تؤوي عناصر تنظيم “داعش” والبالغ عددهم نحو 10 آلاف، بينهم 2000 مقاتل أجنبي موزعين داخل 26 مركزاً للاحتجاز، وإضافة إلى مخيمي الهول وروج فإن التحدي الأكبر يكمن في الهجمات الجوية التي تتلقاها من تركيا، ومواجهة الفصائل التي تتزعم غالبيتها عناصر قيادات تركمانية، وأصبحت جزءاً من وزارة الدفاع التابعة لدمشق، وهي تقاتل “قسد” الذي يضع بند التزام الشرع بوقف إطلاق النار على المحك.
وعقب توقيع الاتفاق بين الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي الذي أنعش آمال الأكراد ومكونات أخرى ولاقى ترحيباً سورياً وعربياً ودولياً، إلا أن “الإعلان الدستوري” الذي صادق عليه الشرع بعد ثلاثة أيام من اتفاقه مع عبدي تجاهل إدراج حقوق الأكراد أو شكل الدولة اللامركزية كما يطمحون، إضافة إلى بنود أخرى أثارت حفيظة الأكراد الذين خرجوا بمواقف رافضة لـ “الإعلان الدستوري”، إضافة إلى السُريان الذين رفضوا الخطوة الحكومية للأسباب ذاتها، مما قد يلقي بظلاله على الاتفاق الذي ينص على دمج القوات العسكرية ويسهل الطريق أمام بقية المؤسسات.
ويقول الباحث من “مركز الفرات للدراسات” في القامشلي وليد جولي إن الكرد وباقي المكونات المنتشرة شمال شرقي سوريا سيكون لهم موقف حازم ضد هذه الفصائل التي ارتكبت انتهاكات ومجازر ضد السكان المدنيين في الساحل، يقضي بالإصرار على تسليمهم دمشق وإلقاء السلاح أو الدمج على شكل أفراد، “فما حصل في الساحل السوري كشف الأقنعة بصورة واضحة وأفقد الثقة في الإدارة الجديدة، ومن حق أي مكون سوري أو جماعة سياسية أن ترفض تسليم أمرها لهؤلاء”، على حد قول جولي.
أما بالنسبة إلى جيش “سوريا الحرة” المعدّ والمدرب أميركياً والذي يسيطر على قاعدة التنف وصولاً إلى تدمر، فقد شارك قائد الفصيل في “مؤتمر النصر” وأصبح جزءاً من وزارة الدفاع، لكن جميع تحركاته على الأرض تجري بالتنسيق مع التحالف الدولي والقوات الأميركية، إذ يعتبر الفصيل الوحيد في وزارة الدفاع والعامل مع الجيش الأميركي في إطار مكافحة الإرهاب رسمياً.
آمال بالانضمام للجيش الجديد
في بدايات يناير (كانون الثاني) الماضي قال وزير الدفاع مرهف أحمد أبو قصرة إنه من بين توجهات القيادة العامة إعادة هيكلة القوات المسلحة وتنظيم الجيش العربي السوري، مضيفاً “بدأنا جلسات مع الفصائل العسكرية من أجل وضع خطوات انضمامهم لوزارة الدفاع، إذ تهدف الجلسات إلى وضع خريطة طريق لتحقيق الاستقرار في البنية التنظيمية للقوات المسلحة”، ولا تزال تلك المشاورات والاجتماعات جارية على رغم مرور 100 يوم، لكن هيكلية الجيش السوري الحكومي لا تزال ضبابية جراء معوقات كبيرة تعترض سبيل نجاحها، في وقت لم تكتمل بعد شروط نجاح تشكيل الجيش وتزويده بما يلزم من عتاد وذخيرة ومال، ولا سيما وأن سلاح الجو الإسرائيلي قصف عشرات المطارات والمستودعات العسكرية التابعة للنظام السابق، ودمر نحو 80 في المئة من ترسانة السلاح، إضافة إلى عمليات خاصة ضد مخازن الأسلحة الكيماوية مما أدى إلى تعرية البلاد من السلاح، وغداة سقوط الأسد وعقب تنفيذ إسرائيل عدداً كبيراً من الهجمات على مواقع لتخزين الأسلحة التابعة لجيش الأسد، قال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إنه “جرى استهداف مواقع أسلحة كيماوية وصواريخ طويلة المدى في سوريا من أجل منع وقوعها في أيدي أطراف عدائية”.
—————————–
الصراع على سوريا الانتقالية: إلى أين؟/ عصام نعمان
تحديث 17 أذار 2025
اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية، لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سوريا «الانتقالية». إلى أين ستنتقل سوريا، أو بالأحرى إلى أين تنوي أمريكا و»إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟ لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر، لأن أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال، وكيف ستكون سوريا شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سوريا في حاضرها المضطرب، ولعل أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكرية في سوريا منذ سنوات عدّة، بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي كان قد نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل في شمال العراق، ومحافظة الرقة في شمال شرق سوريا. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسية بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون.
مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أمريكا المتمردين الكرد، الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال، الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإن واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سوريا، شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا، التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور. «إسرائيل» تحتل نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، وتسيطر على حوض نهر اليرموك، وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً، وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحدين الدروز السوريين، في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أن «إسرائيل» بدأت بتنفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزية في الجنوب السوري، والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانية امتدادها لضم دروز لبنان أيضاً. تركيا يهمها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصالي في جنوبيّ شرق أراضيها وشمال شرق سوريا. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقالي في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكرية لها في شمال البلاد. وسط تدخلات هذه الدول الثلاث القوية النافذة، يحاول الحكم الانتقالي في دمشق بقيادة أحمد الشرع، تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدموية العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق إلى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي، ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع « الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات، مع استمراره لمدة خمسة أعوام على الأقل. «الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة، أولها من «مجلس سوريا الديمقراطية»، الذراع السياسية لـِ»قسد»، الذي وصف أحمد الشرع بأنه «يكرر ما كان يفعله بشار الأسد»، مضيفاً أن الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعي ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وأن «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».
في الجنوب السوري، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل»، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة، بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة. من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطورات يمكن استخلاص النقاط السياسية الآتية:
*ما زال الاضطراب السياسي والطائفي هو السمة الغالبة في حاضر سوريا الانتقالية.
*عملية توحيد جغرافية سوريا، سياسياً وإدارياً، التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.
*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق، والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سوريا.
*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن من احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.
*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سوريا حيث الكرد و»قسد»، ولذلك تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في شمال البلاد.
*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة اخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقالي في دمشق.
*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سوريا بالوقت الحاضر، وإن ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.
*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي إلى سوريا في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.
*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سوريا، بالوقت الحاضر، بل ثمة تسليم بالدور الأمريكي الناشط بلا ادنى منافسة.
*لعل أدق توصيف لحال سوريا في الوقت الحاضر هو، أنها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.
إلى أن تستيقظ وتتوحد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سوريا مفتوحاً على شتى الاحتمالات.
كاتب لبناني
القدس العربي
——————————
المشرق: تجاهل السياسة ونشوة الاستقواء/ سام منسى
تحديث 17 أذار 2025
يبدو أن النزاعات في المشرق لم تقترب من نهايتها كما خُيل للكثيرين بعد حربي غزة ولبنان، وأطاحت آثارهما بحكم آل الأسد بسوريا بلمحة بصر بعد 54 عاماً من الاستبداد.
الأحداث في سوريا، من التمرد العسكري لفلول النظام، مروراً بزرع بذور الفتنة بين دروز سوريا والنظام الجديد إلى مسألة الأكراد، تبقى الأشد خطورة، لا سيما أنها واقعة تحت سطوة لاعبين كثر أبرزهم الإيراني والتركي والإسرائيلي ولو بنسب متفاوتة؛ ما يتيح لهؤلاء لعب أدوار تصب في مصالحهم.
إسرائيل موجودة في المشهد السوري منذ الساعات الأولى لسقوط بشار الأسد بمواقف وممارسات ملتبسة وخبيثة. وبعد تراجعها عن التمسك بالنظام البائد وسيده إثر السطوة الإيرانية عليه، عاد حنينها إليه بعد سقوطه، وتمادت في دورها المزعزع بقصف منشآت الجيش السوري وبناه التحتية وأسلحته، والتوغل في الأراضي السورية، وتحريض الطائفة الدرزية في الجنوب على السلطة الجديدة بحجة حمايتها وبقية الأقليات، في تكرار لسلوك كثيراً ما لجأت إليه بهدف تخريب الاستقرار وتفكيك الدول من حولها إلى كيانات طائفية.
أما طهران، فتحاول استعادة ما أمكن من نفوذها بسوريا ولو على حساب وحدتها، وقد تسعى لعودة الأسد إلى الساحل إذا نجح التمرد لتعود طريقها إلى لبنان سالكة لتزويد «حزب الله» بالمال والسلاح.
إن أهداف إسرائيل تتقاطع مع إيران في سوريا في محاولتهما تقطيع أوصالها والتخريب على السلطة الجديدة، فيما تحاربها في لبنان، وقد يؤدي هذا التخبط لاحقاً إلى عكس ما سعت وتسعى إليه من تقويض للوجود الإيراني على حدودها.
بدوره، يشهد لبنان خفوتاً لنشوة انتخاب رئيس الجمهورية جوزيف عون وتشكيل حكومة نواف سلام، بوصفهما سيفتحان صفحة جديدة تبدأ باستعادة الدولة من الدويلة، ومباشرة الإصلاح والنهوض. صحوة «حزب الله» بعد صدمة الهزيمة العسكرية في الحرب الأخيرة بددت هذه الصورة، بسبب تأكيده المتكرر على النصر واستمرار المقاومة المسلحة والاحتفاظ بالسلاح، متنصلاً من مضمون اتفاق وقف النار الأخير بشأن السلاح شمال الليطاني، ومتذرعاً بتفسير متقدم لما ورد باتفاق الطائف بشأن حل الميليشيات بأنه لا يشمله بوصفه مقاومة وليس ميليشيا. وجاءت حبة الكرز فيما أعلنه أمين عام الحزب نعيم قاسم أن «لا إنقاذ وإصلاح قبل إعادة الإعمار… وأن المقاومة مستمرة في الميدان»، وكلام لرئيس مجلس النواب نبيه بري حول استمرار المقاومة، والاتفاق لا يشمل السلاح شمال الليطاني في ملاقاة لكلام رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني بأن «المقاومة باقية لأن غالبية الشعب اللبناني تؤيدها». يضاف إلى ذلك ما يتردد عن عودة «حزب الله» للتدخل في سوريا بإرسال مقاتلين لدعم التمرد، وعودة احتلال إسرائيل لنقاط عدة في الجنوب، ومواصلة عملياتها العسكرية في لبنان على أنواعها مقدمة نفحة أكسجين للحزب.
لا يحتمل لبنان مثل هذه الصحوة؛ لأنها تعيده للمربع الأول، وتقطع طريق عودته للعرب، وعودتهم إليه بناسهم ومساعداتهم واستثماراتهم، وتؤدي لاستمرار التخبط للخروج من حالة الإحباط المزمنة جراء الأزمات المالية والاقتصادية والأمنية.
أما غزة فلا تزال ملعباً لمناورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السياسية الداخلية والخارجية، فاتحاً مصيرها على احتمالات عدة، أحلاهم مُر: من نجاح مشروع التهجير، إلى إمكانية تجدد الحرب دون أفق سياسي باستثناء دفع السكان للمغادرة أو البقاء تحت شبح المجاعة وويلات تجدُّد القتال. كل ذلك في ظل محادثات أميركية مباشرة مع «حماس» تبعث الريبة، لا بل الغضب عند نتنياهو وزمرته المتشددة.
عرقلة الحلول في سوريا ولبنان وغزة هي نتيجة انعدام السياسة بحكمتها وعقلانيتها وغلبة العسكرة بجموحها وجنونها، ليس في المنطقة فحسب، بل ربما في العالم أجمع. أكبر دليل على ذلك هو أن الجبروت العسكري الإسرائيلي لم يؤتِ ثماره: ما زالت النار في غزة تحت الرماد، «حزب الله» في لبنان يعلن النصر واستمرار المقاومة والتمسك بما بقي من سلاحه وبدوره في الحياة السياسية اللبنانية وقدراته على التعطيل، عمى إسرائيل قد يعيد إيران إلى سوريا بعد استماتتها لإخراجها منها. المحصلة، أن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان وسوريا من دون رؤية سياسية لم ولن يؤدي إلا لاستيلاد حروب جديدة.
علة العلل هي انعدام السياسة وخواؤها في أميركا نفسها التي تسمح لنتنياهو بالاستيلاء على كل فلسطين بالقوة، تحت غطاء تهجير إنمائي سياحي، وتغازل فلاديمير بوتين وتسامحه على ضم القرم وأجزاء من أوكرانيا، وتتبنى سرديته للحرب، كيف لا وهي نفسها حامية العالم الحر والديمقراطية والقيم تريد السطو على غرينلاند، وضم كندا، والسيطرة على بنما، وتعاقب المحكمة الجنائية الدولية، وتناصب العداء لحلفائها الأوروبيين التقليديين. مواقف تقدم رخصاً مجانية للعدوان والاستبداد، وتصمت مجدداً على ممارسات أنظمة على غرار نظام الأسد الذي سحق الأغلبية والأقلية في بلاده وجوارها لأكثر من 50 سنة.
الشرق الأوسط؟
——————————
سوريا والرؤية الثالثة/ مأمون فندي
تحديث 17 أذار 2025
تتقاسم سوريا الجديدة، الآن، رؤيتان خارجيتان؛ الأولى رؤية تركية تسعى إلى سوريا موحدة ومتماسكة كدولة جارة (مع بعض التحفظات)، والثانية رؤية إسرائيلية تريد سوريا مجزَّأة طائفياً، وربما مناطقياً، فهل هناك إمكانية لظهور رؤية ثالثة؛ إما وطنية سورية خالصة، أو عربية، أو خليط من رؤية عربية ومحلية سورية؟
أيُّ نظام جديد بعد ثورة أو بعد انهيار نظام، مهما كان تماسك المجتمع، يمر بمرحلة انتقالية بين نظامين. ويحدد مدى نجاح أو فشل هذه المرحلة أمران: سرعة التحول، وحجم أو عدد من ينخرطون فيه. فإلى أي رؤية يقترب مصير التحول السوري، اليوم؟ هل نحو الرؤية الإسرائيلية التي تسعى إلى سوريا مجزَّأة في حالة تناحر طائفي، كما كان لبنان في السبعينات وحتى نهاية الحرب الأهلية، أم نحو الرؤية التركية التي تسعى إلى نظام مركزي قوي لدولة متماسكة؟
قد يكون من التبسيط تحديد رؤية كل من تركيا وإسرائيل لسوريا بهذا الوضوح، بين رؤية التجزئة ورؤية التماسك، دون الالتفات إلى المساحة الرمادية بينهما. والمثال الأوضح على ذلك هو قضية المقاتلين الأجانب ضمن قوات النظام السوري الجديد، وكذلك مكافحة الإرهاب.
المقاتلون الأجانب بالنسبة للأتراك هم جماعات الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، الذين تَعدُّهم أنقرة إرهابيين. أما بالنسبة لإسرائيل، فالمتطرفون هم المتحالفون مع النظام الجديد، والذين جاؤوا مع الرئيس أحمد الشرع من إدلب إلى دمشق. وهنا تكمن المنطقة الرمادية التي تتعامل معها تركيا وإسرائيل بطرق مختلفة.
تركيا باركت اتفاق قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مع حكومة الشرع؛ بهدف دمج هذه القوات داخل المؤسسة الدفاعية السورية، والهدف من ذلك فصلها عن حزب العمال الكردستاني، وكذلك منح الحكومة الجديدة السيطرة على حقول النفط الواقعة في مناطق نفوذ «قسد»، والتي كانت تحت الحماية الأميركية. بالطبع، في هذا التبسيط لم نتطرق بعدُ للأدوار الأخرى التي تلعبها أميركا وروسيا وإيران، وقد تعمدت ذلك نظراً لانشغال هذه القوى بقضايا تراها أهم من استقرار سوريا حالياً.
أما إسرائيل فهي تسعى إلى إضعاف النظام الجديد، الذي تَعدُّه متطرفاً، وربما في حالة كمون إلى أن يتمكن ثم يواجه إسرائيل لاحقاً، ليس عبر مواجهة جيوش نظامية، بل بنموذج استنزاف شبيه بـ«حزب الله» في لبنان. ولهذا، تحاول إسرائيل منع النظام الجديد من امتلاك أدوات القوة، عبر ضرب مقدَّرات الجيش السوري القديم، وتدمير بنيته التحتية العسكرية، مما يستلزم عشرات السنين لإعادة بنائها، وبذلك تكسب إسرائيل وقتاً إضافياً لترويض النظام الجديد.
إضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى التواصل مع الطوائف المختلفة، وأبرزها الدروز في السويداء، حيث كان مشهد العشرات من شيوخهم الكبار لافتاً في زيارتهم للجولان، الأسبوع الماضي، فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي أكد فيها التزام إسرائيل بحماية دروز سوريا. فإذا التزمت إسرائيل بطائفة، فلمن تلجأ الطوائف الأخرى للحماية؟
السؤال الأكبر: أيُّ الرؤيتين سترسم ملامح النظام السوري الجديد؟ هل هي الرؤية التركية أم الرؤية الإسرائيلية؟ التجزئة والتناحر الطائفي، أم الاستقرار؟ وإلى أي رؤية يجب أن تنحاز الدول العربية، خصوصاً دول الجوار، فيما يخص مستقبل سوريا؟ أو بصيغة أخرى، أيُّ الرؤيتين يمكن أن تنتصر في المستقبل القريب؟
الموقف من أحداث الساحل السوري، والاتهامات المتبادلة بين مطاردة فلول نظام الأسد المتمردة على النظام الجديد من وجهة نظر النظام وأتباعه، أو الشروع في القتل على الهوية للعلويين حسب رؤية أصوات من الطائفة العلوية، كلها تصب في سيناريو التمزق المجتمعي، وتجعل سوريا مسرحاً لعدم استقرار قد يستمر لعشر سنوات مقبلة على أقل تقدير.
الرؤية التركية، رغم بعض التحفظات، قد تؤدي إلى حالة من الاستقرار في سوريا، وربما تنتج نظاماً شبيهاً بتركيا، كدولة جارة فاعلة، بالطريقة نفسها التي أنتجت بها إيران النظام الجديد في العراق بعد حرب 2003.
ومن هنا، قد تخرج الرؤية الثالثة من خلال حوار عربي-تركي يدفع نحو إنتاج نظام شبه ديمقراطي، كما هي الحال في تركيا. وهذا يتطلب إحياء الجهود السابقة من محادثات جنيف وآستانة بين نظام الأسد والمعارضة. يمكن أن تكون هذه الأوراق نقطة انطلاق جيدة لحوار جاد حول بناء سوريا الجديدة، إذا أضيفت إليها جهود حوار وطني داخلي.
إذا لم يستطع العرب التنسيق مع الأتراك بشكل عاجل وجاد، فسينسق غيرهم، وسيكون ذلك على حساب وحدة الأراضي السورية وسلامتها. دون عمل عربي-تركي مشترك وعاجل، قد تنتصر الرؤية الإسرائيلية، على الأقل خلال السنوات المقبلة، وسنشهد سوريا كما شهدنا لبنان من بداية الحرب الأهلية حتى اتفاق الطائف.
وبين هذه التطورات، قد تظهر جماعات مختلفة في سوريا، يكون نموذجها الأمثل شيئاً شبيهاً بظهور «حزب الله» في لبنان وتطوره إلى القوة الأولى في الدولة، أو ظهور «الحشد الشعبي» وعشرات الجماعات المتطرفة في العراق.
في سوريا، الرؤية الثالثة هي الحل.
الشرق الأوسط
———————————
لمَ كل هذا الاستقطاب في الشارع السوري؟/ أحمد عسيلي
تحديث 17 أذار 2025
تابع السوريون جميعًا، بقلق وخوف، أحداث الأسبوع الماضي، خاصة ما جرى في الساحل، وجع الوطن وأكثر نقاطه ضعفًا منذ لحظة هروب بشار، وأصعب اختبار للنظام الحالي في قدرته على حل الأزمات الداخلية.
فما الموقف الشخصي؟ وكيف تقرأ هذه الأحداث؟ هل ما حدث يتحمل أسبابه ونتائجه النظام بشكل كامل، وما طبيعة هذه المسؤولية؟ تقصير أم مشاركة بالجريمة؟ وما سبب الجرائم التي ارتكبتها بعض قوى الأمن ضد العلويين؟ هل هي نتيجة البلبلة والهرج الذي حصل بين يومي 6 و10 من آذار؟ هل هي نتيجة مشاعر الظلم التي يكبتها هؤلاء الناس منذ مجازر البيضا والحولة والكيماوي؟ أم ناتجة عن العقلية الإجرامية لدى الجهاديين التي تود قتل وإذلال الأقليات؟ أم هي مزيج من هذين العاملين وربما عوامل أخرى؟
من البداية أخبركم أنني لن أجيب عن أي من هذه الأسئلة، فليس لدينا جواب صحيح علميًا هنا، لكني سأتناول الموضوع من زاوية مختلفة، وأطرح سؤالًا آخر: فمهما كان الجواب، حسب تصور كل شخص للموضوع، ما نسبة الاعتماد على الوقائع في هذا الجواب وما نسبة العاطفة؟ وهل اتخذ هذا الموقف بناء على تحليل سليم للحقائق؟ دعونا نبدأ رحلتنا للإجابة عن هذا السؤال:
منذ سنوات عديدة، انشغل علماء النفس بآلية التفكير في أوقات الأزمات، وكأطباء نتعامل بشكل يومي مع حالات الإنسان في تلك المواقف، راكمنا خبرة متعددة في رد فعل الإنسان، وطريقه تفكيره وتصرفه في لحظات الشدة، فإعلان التشخيص الطبي مثلًا في السرطان أو بعض الأمراض المتقدمة الأخرى، ستقابل بداية بالرفض، بل والاحتجاج على الطبيب، وأحيانًا التشكيك بمهاراته وقدراته العلمية، هذا يتعلق بكل الحقائق التي يصعب على الدماغ معالجتها، لدرجة الوصول لمرحلة الاضطراب النفسي أو العقلي أحيانًا، أتذكر هنا حالة مريضة حُولت إلى عيادتي، نتيجة رفضها الدائم أن ابنها المحكوم بعملية اعتداء مجرم، كانت تصر على أن هناك مؤامرة من الدولة الفرنسية تجاه ولدها، وقد أصيبت بحالة اكتئاب شديد يكاد يقترب من الاكتئاب الذهاني، لأنها متمسكة بموقفها أن ابنها مظلوم، رغم أن جريمة ابنها قد التقطت بعدة كاميرات وبناء عليه اعترف أمام القاضي وبحضور الأم، رغم ذلك بقيت رافضة وشككت بكل تلك الإجراءات، ربما كانت ستتقبل تلك الحقائق وبشكل سهل جدًا لو كانت لشاب آخر غير ابنها (وهذا ما فعلته أنا كطبيب)، لكن تفكيرها وعاطفتها كأم يرفضان كل هذا، فالأمر صعب جدًا، هل تتخيلون كم الجهد العقلي والنفسي كي يستوعب عقل الأم أن ابنها مجرم!
هذه الصعوبة في تقبل بعض الحقائق، لا تتعلق بالأفراد المقربين فقط، بل وبالسياسيين أيضًا، فمن أشهر تجارب علم النفس، التي دُعمت بالحقائق العلمية، تجربة أجريت عام 2004 في أمريكا، أعطيت فيها تصريحات متناقضة عن عمد لمؤيدي بعض السياسيين، وطلب من هؤلاء المؤيدين إبداء رأيهم بتلك التصريحات، فقال معظم المشاركين إنه لا تناقض فيها وحاولوا إعطاء تفسيرات منطقية لكل ذلك. نعلم منذ سنوات عديدة أن هذا الأسلوب في التفكير أمر مكرر، وهو ما أطلق عليه في علم النفس بالتنافر المعرفي، لكن الجديد في تلك التجربة أنها أجريت على أشخاص في أثناء تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي، فلوحظ نشاط كبير لمناطق الدماغ المسؤولة عن العاطفة في أثناء تبرير التناقضات تلك، وهي مناطق لم تكن بتلك المستوى من النشاط في أثناء الكلام عن تصريحات لسياسيين لا يؤيدهم هؤلاء الأشخاص. إذًا أصبحنا نعرف وبالدليل العلمي المجرد أن للعاطفة دورًا كبيرًا في تفسير كل الأحداث السياسية، بما فيها المتناقضة.
فما موقفك من الهجري؟ الشرع؟ الطائفة الدرزية أو العلوية أو السنية؟
موقفك لا يتعلق بالانتماء فقط، فيمكن أن ترى بعض الأشخاص الذين يحملون مشاعر سلبية تجاه السنة مثلًا، حتى من أبناء الطائفة (دواعش، كلهم إرهابيون) ومن يحمل تلك المشاعر تجاه جميع العلويين (شبيحة، قتلة)، لكن بشكل عام معظم الأشخاص يفضلون الانغلاق على مجتمعاتهم في فترة الأزمات، فالخائف يأخذ الوضعية الجنينية كي يشعر بالأمان، فرحم الأم هو المكان المثالي للضعيف، هذا الرحم سيتحول إلى المجتمع بصيغته الأولى (طائفة، عشيرة، عائلة).
من يعتقد أن القيادة الحالية هم مجموعة إرهابيين، لن يقبل حتى بتحميلهم المسؤولية القانونية والأخلاقية كدولة، بل سيعتبرهم سبب كل مصائب البلد، ومن يحمل تصورًا إيجابيًا عنهم، سيتفاوت موقفه بين التحميل المباشر إلى التبرير المباشر، لكنه بالتأكيد لن يعتبرهم مشاركين بما حصل.
آلية اتخاذ الموقف هنا ستعتمد على الوقائع بنسبة ما تختلف من شخص لآخر، لكن الحقيقة ستشكل دومًا جزءًا من الموقف، ولن نجد أبدًا موقفًا ناتجًا عن الوقائع فقط، فمن يعتقد أن العلويين مسؤولون مباشرة وجميعًا عن جرائم الأسد، دماغه لن يعالج المعلومات التي تصله كمن يعتقد أن السنة كلهم “دواعش”، لن يكون الكردي (أو غير الكردي) الذي ينتظر إضعاف هذه القيادة كي تحتفظ “روجافا” بنوع من الاستقلال، كمواطن من اللاذقية، يخاف أي إضعاف لها، لأنه يعتقد أن مجازر مثل الحولة ستتكرر بحقه حالما تنسحب تلك القوات، غير ذاك العلوي المقتنع أن القوة كانت بيد الطائفة، وأن تلك القوات سلبت الحكم منهم، بغض النظر عن صحة تلك القراءات أو خطئها، أو وجود قراءات أخرى، فأنا هنا لست لتأييدها أو دحضها، وإنما لتحليل الموقف الذي سينتج عنها.
الانتماء ليس العامل الوحيد المتحكم بالرأي طبعًا، لكنها عملية معقدة من مشاعر وآراء مسبقة وتحليل وقراءات وتوجه، لذلك الحوار سيكون صعبًا جدًا بين المختلفين، لأنه دومًا يركز على واقعة واحدة، متناسيًا الظروف النفسية والأبعاد الاجتماعية التي قادت إلى ذاك الموقف، ومن هنا تأتي أهمية الحوار المجتمعي الحقيقي، ليناقش جميع المخاوف والتصورات بكل صراحة وشفافية، عندها فقط يمكن أن نفهم سر التمترسات تلك، ويحاول كل طرف أن يتفهم الطرف الآخر.
فهل السلطة الحالية قادرة على إجراء كل ذلك؟ مهما كان جوابي فلن يقنع الجميع، بسبب كل ما ناقشناه هنا.
عنب بلدي
——————————
==========================
===================
عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 17 أذار
تحديث 17 أذار 2025
—————————-
السويداء السورية تتأرجح بين تيارات سياسية متباينة/ ضياء الصحناوي و محمد أمين
17 مارس 2025
تشهد الطائفة الدرزية في سورية حالة من الانقسام السياسي وتبايناً حيال التعاطي مع التغييرات العميقة التي تشهدها البلاد منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والتي كما يبدو فجّرت مخاوف وهواجس لدى أبناء الطائفة، يحاول الاحتلال الإسرائيلي استثمارها لتحويل الجنوب السوري منطقة نفوذ له خالية من السلاح. حاولت الإدارة السورية الجديدة تبديد كل مخاوف الدروز في البلاد، إذ استقبل الرئيس أحمد الشرع عدة وفود من أبناء محافظة السويداء للتوصل إلى تفاهمات تتيح للدولة ممارسة مهامها في المحافظة. كما تسعى الإدارة إلى التوصل إلى اتفاق مع فصائل عسكرية في المحافظة لضبط السلاح المنفلت، ودمجها في قوام الجيش الجديد.
ولا تزال محافظة السويداء تشهد حراكاً مناهضاً ومعارضاً للتوجه العام للإدارة السورية الجديدة، إذ رفضت الإعلان الدستوري الناظم المرحلةَ الانتقالية، الخميس الماضي، معتبرة أنه “لا يؤسس لحكم وطني ديمقراطي، بل لاستبداد ديني” وفق لافتات رفعها متظاهرون، أمس الأحد، في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، المكان الذي يشهد حراكاً مجتمعياً منذ منتصف عام 2023. وتتأرجح محافظة السويداء، التي تضم العدد الأكبر من دروز سورية وتشتهر بتنوعها المجتمعي، بين عدة تيارات رئيسية تعكس انقسامات في الرؤى حول مستقبل سورية، بين الولاء المطلق لدمشق والمعارضة المرتبطة بالقيادة الدينية والدعوات الإصلاحية والمطالبات بالحكم الذاتي.
ثلاثة تيارات رئيسية في السويداء
ويُعتبر التيار الموالي للسلطات الحالية في دمشق الأصغر بين التيارات المتباينة، وهو منحاز بالكامل لإدارة الرئيس أحمد الشرع وسياساتها، من دون إبداء أي تحفظ على أدائها. ويعتبر أنصار هذا التيار أن البلاد أحوج ما تكون إلى الاستقرار في الوقت الراهن لـ”مواجهة المؤامرات الخارجية”، ويرون في الولاء للسلطات الحالية في دمشق الضمانة الوحيدة لوحدة سورية. وبحسب أحد الداعين لهذا التيار (فضّل عدم ذكر اسمه)، فإن “سورية تمر في مرحلة مصيرية تتطلب التمسك بالقيادة”، مشيراً في حديث لـ”العربي الجديد” إلى أن “من ينتقد الحكومة ينسى أن الحرب أنهكت البلاد، والبديل سيكون الفوضى”. ويضيف أن “الشعب السوري قدم تضحيات جسيمة للوطن. لا نريد تجارب جديدة تكرر أخطاء المناطق الأخرى”.
ويبرز في المشهد السياسي في السويداء تيار آخر يفضّل إعطاء فرصة للإدارة الجديدة مع محاسبتها إن أخطأت. ويرفض هذا التيار فكرة القطيعة مع دمشق، لكن يدعو في الوقت نفسه إلى محاسبة المسؤولين عن الأخطاء والتمكين لإدارة جديدة تُظهر مرونة في التعامل مع الملفات الاقتصادية والأمنية. يقول الناشط الإعلامي هاني عزام، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “هذا التيار يدعم الإصلاح من الداخل، ويطالب بمحاسبة الفاسدين وفتح حوار وطني”. ووفق عزام، فإن “التجربة السورية أثبتت أن إطاحة الدولة تؤدي إلى كارثة، خصوصاً في وضع الاقتصاد المنهار، لكن هذا لا يعفي السلطة من مسؤولية إصلاح نفسها”.
أما التيار الثالث، فهو التيار المعارض للسلطة في دمشق والملتف حول القيادة الدينية في السويداء. يوصف هذا التيار بأنه الأكبر في المحافظة، إذ يتمحور حول الزعيم الروحي للطائفة الدرزية الشيخ حكمت الهجري، الذي يتبنى خطاباً معارضاً للإدارة في دمشق، ويرفض أي تعاون معها من دون تغيير جذري في السياسات. ويتميز هذا التيار بتركيبته الشعبية الواسعة التي تمنح الهجري شرعية دينية اجتماعية وسياسية. لكن معارضي هذا التيار من النخب ينتقدونه لعدم امتلاكه برنامجاً سياسياً واضحاً خارج إطار الخطاب الرافض، رغم التقائهم معه بالخط الوطني الصريح. يقول أحد الموالين للشيخ الهجري طالباً عدم ذكر اسمه، لـ”العربي الجديد”، إن “الشيخ الهجري صوتنا الذي لا يُخادع”، معتبراً أن “دمشق لم تقدم لنا حتى الآن كوننا محافظةً ومكوناً درزياً سوى التهميش والإهمال”. ويتابع: “لذلك نرفض أي تفاوض مع حكومة كانت قد ساهمت خلال الحرب بتدمير البلاد، وتساهم اليوم بتدميرها من خلال تهميش التعددية وتبني سياسة اللون الواحد”. وبرأيه، فإن “معارضة منظومة كهذه ليست خياراً سياسياً فحسب، بل مسؤولية أخلاقية”.
تيارات أخرى
إلى جانب هذه التيارات، هناك تيار يندرج فيه عدد ليس بقليل من أبناء المحافظة ويتبنى الدعوة إلى العلمانية وتفعيل دور النخب والمجتمع المدني. يعارض هذا التيار السلطة في دمشق والتيارات الأخرى في السويداء، وعلى رأسها التيار الذي منح السلطة الكاملة في الحديث باسم المحافظة للقيادة الدينية. ويدعو هذا التيار إلى “قطيعة مع منطق الولاءات المطلقة” عبر تفعيل دور النخب الفكرية وبناء مجتمع مدني ودولة علمانية. ويُعتبر أنصاره الأكثر انخراطاً في النقاشات الفكرية، لكنهم يواجهون تحديات في الوصول إلى الجمهور العريض الذي يفضل الخطابات البسيطة أو الدينية.
تكمن المشكلة، بحسب الباحث السياسي هادي الحسين، “في غياب مؤسسات حكومية مدنية وطنية فاعلة تضمن التداول السلمي للسلطة”، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد” أن “العلمانية ليست عداءً للدين، بل حماية للتنوع”. ويوضح بالقول: “نحن ندعو للتعددية والتشاركية في صنع القرار بين كل المكونات الدينية والسياسية والثقافية في سورية”. في السياق، يشدد الناشط السياسي جهاد شهاب الدين، في حديث مع “العربي الجديد”، على أن أهالي محافظة السويداء متمسكون بـ”وحدة الجغرافيا السورية والشعب السوري ويرفضون أي تدخّل من خارج الحدود ويسعون جاهدين لإرساء نظام الدولة والخلاص من السلاح المنفلت”.
ينشط تيار سياسي آخر في السويداء يؤيد أنصاره فكرة إقامة نظام حكم فيدرالي في سورية، مع منح المحافظات صلاحيات إدارية واسعة. ورغم تأكيد أنصار هذا التيار أنهم “لا يسعون إلى الانفصال أو التبعية لإسرائيل”، إلا أنهم يتعرضون لهجوم من التيارات الأخرى، والمجتمع السوري عموماً الذي يتهمهم بـ”تمهيد الطريق للتقسيم”. بيد أن الناشط ربيع القنطار يوضح لـ”العربي الجديد” أن الفيدرالية “ليست تقسيماً، بل إدارة أفضل للموارد”، مضيفاً أن “الحكم الذاتي سيضمن حقوقنا من دون الحاجة إلى وصاية خارجية”.
فصائل عسكرية
وسط هذا التباين بين التيارات السياسية على ساحة السويداء، والتي تتفق على وحدة الوطن والشعب السوري وتضعها فوق كل اعتبار، تبرز عدة فصائل عسكرية تشكلت قبل سقوط نظام بشار الأسد وبعده، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ المحافظة الجنوبية التي كانت تعتمد على “الفزعة” لمواجهة أي خطر خارجي. واتفقت فصائل مع وزارة الدفاع والداخلية في الحكومة الانتقالية على الانضمام ضمن شروط متفق عليها. من أبرز هذه الفصائل المتحالفة: حركة رجال الكرامة ويقودها الشيخ يحيى الحجار، وفصيل مضافة الكرامة ويقوده الشيخ ليث البلعوس نجل مؤسس حركة رجال الكرامة الشيخ وحيد البلعوس، وتجمّع أحرار جبل العرب الذي يقوده الشيخ سليمان عبد الباقي، وفصيل لواء الجبل الذي يقوده الشيخ شكيب عزام. وهناك تنسيق مع تجمع عشائر الجنوب وبعض المجموعات الصغيرة، فيما بدأ هذا التحالف بالفعل في الاندماج وفتح باب الانتساب لوزارة الدفاع، واستلم معدات وتجهيزات لوجستية من هذه الوزارة.
في المقابل، هناك تجمّع عسكري يحمل “اسم أبناء الجبل” يضم تسعة فصائل مسلحة وضعت نفسها تحت تصرف الشيخ الهجري. وبرأي الأكاديمي المنحدر من محافظة السويداء يحيى العريضي، فهناك “تيار واحد وطني في السويداء”. ويوضح في حديث لـ”العربي الجديد أنه “عندما نقول وطنياً، تغيب عبارات مريضة خبيثة مثل انفصال وإسرائيلي وطائفية” مستنكراً محاولات البعض للتشكيك في وطنية أهالي السويداء. ويضيف العريضي أنه “معيب النظر إلى السويداء هكذا”، لافتاً إلى أن “أول اعتصام نقابي في تاريخ الثورة السورية كان في السويداء في عام 2011”. ويشير إلى أن “الاعتصام كان لنقابة المحامين وتعرض بعض المشاركين للاعتقال في حينه، ومن بقي منهم في الوطن شاركوا في تظاهرات السويداء المتقطعة خلال سنوات الثورة وكانوا عماد حراكها ضد عصابة الأسد من عام 2023 وحتى فراره في عام 2024”. ويشدد العريضي على أن السويداء “تقف دائماً ضد أي ديكتاتورية أو إقصاء أو ظلم أو فساد”، معتبراً أن “الهروب من الاستحقاقات الوطنية أو العبث بها إلى شيطنة السويداء وإلهاء الجماهير بذلك لا يعيد سورية إلى سكة الحياة”.
إلى ذلك، كان توجه نحو 100 من مشايخ الدروز في محافظة القنيطرة، جنوبي سورية، إلى إسرائيل، يوم الجمعة الماضي، مؤشراً واضحاً على أنه ليس هناك وفاق سياسي كامل بين قطاع من الطائفة الدرزية والإدارة الجديدة في دمشق. لكن الزيارة أثارت حفيظة فعاليات دينية ومجتمعية في الوسط الدرزي السوري، وهو ما أكده أحد أبرز شيوخ العقل في طائفة الموحدين الدروز الشيخ أبو أسامة يوسف جربوع الذي قال في تصريحات إذاعية: “حذرنا الوفد من استغلال الزيارة لأهداف سياسية”. وأوضح أنّ أطرافاً في السويداء “غير راضية عنها”، مشيراً إلى أن “هناك من يحاول فصلنا عن محيطنا العربي والإسلامي لأهداف سياسية”، نافياً وجود “خطر محدق”.
واعتبر جربوع أن تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن استعداد كيانه لـ”حماية الدروز” في سورية محاولة لـ”إظهارنا بمظهر المطبعين مع إسرائيل”، مضيفاً: “نحن متمسكون بسوريتنا”. وأكد انفتاحه على الحكومة في دمشق، مشيراً إلى أنها “لاقت اعترافاً دولياً وتعاملت بشكل إيجابي مع مطالبنا”. وجاءت تصريحات الجربوع بعد وصف الهجري السلطة الجديدة في دمشق بـ”المتطرفة”، و”المطلوبة للعدالة الدولية”، وهو ما عمّق حالة عدم الثقة ما بين الجانبين، وأظهر حجم الخلاف في الشارع السياسي الدرزي حيال التغييرات العميقة في البلاد.
العربي الجديد
————————–
حدود ثابتة وجدران داخل الدول/ طوني فرنسيس
المشرق العربي يواجه تمزقاته الداخلية على يد مشاريع متناقضة لكن تقسيمات “سايكس بيكو” تبقى صامدة
الاثنين 17 مارس 2025
صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.
لم يتراجع الحديث عن تفتيت دول المشرق العربي إلى دويلات مذهبية وإثنية وعن تغيير للحدود الدولية القائمة طوال العقود الماضية، لكن تلك الحدود استمرت بصيغتها التاريخية فيما قامت الحواجز داخل كل بلد بين طوائف ومذاهب ومجموعات على حساب الدولة الوطنية.
كان حديث نسف الحدود وتعديلها يستند إلى وقائع تغذيها نظرية المؤامرة المتجذرة في عقول نخب كثيرة وجوهرها أن الغرب وإسرائيل يعملان على تنفيذ مخطط تقسيمي استعماري يلغي الدول الوطنية الناشئة بعد انهيار السلطنة العثمانية و”اتفاق سايكس بيكو” البريطاني- الفرنسي الذي بلور في “مؤتمر سان ريمو” عام 1920 الحدود الراهنة لدول المنطقة، ويقيم بدلاً منها مجموعة من الكيانات الضعيفة على أسس دينية خصوصاً، توفر في ضعفها وتفككها حماية طويلة الأمد للمشروع الإسرائيلي في امتداداته الاستعمارية.
مع الاعتراف بوجاهة هذه النظرية إلا أنها لا تغطي صورة المشهد بأكمله، فليست إسرائيل وحدها من تطمح إلى تغيير أوضاع قائمة، وتحت عنوان مواجهة ورفض تقسيمات “سايكس بيكو” نشطت قوى أخرى، قومية و”إسلامية” سعت وجهدت إلى إلغاء الحدود في المشرق العربي ودمج تلك الدول في مشاريع أوسع نطاقاً باسم القومية العربية والسورية تارة وباسم الإسلام طوراً، وعلى رغم الإمكانات الضخمة التي توافرت لكل تلك القوى، لم يتمكن أي طرف منها من تحقيق مشروعه كما يرغب وصمدت تقسيمات سان ريمو في شقها العراقي والسوري واللبناني متجاوزة ما يمكن تسميته بأقسى امتحانات قرن بكامله.
كان الامتحان الأحدث ولا يزال في سوريا، فما جرى ويجري في هذا البلد العربي قبل فرار الرئيس بشار الأسد وبعد لجوئه إلى روسيا، إذ بدت في ختام معركة الـ14 عاماً بين النظام ومعارضيه أقرب إلى دولة جاهزة للانقسام والتفكك، وترسخت عوامل الانقسام في ظل نظام الأسد وتفاقمت بعد رحيله واندلاع صدامات الساحل والجنوب والانفصال الواقعي للأكراد في الشرق، لكن في المحصلة الأولية تبين أن لا أحد يريد الانفصال وتشكيل دولته الخاصة، على رغم ارتفاع أصوات الاحتجاج والاستغاثة بالتدخلات الخارجية وسعي بعض الخارج، خصوصاً إسرائيل إلى استغلال الأوضاع.
لقد ظهر إلى جانب تمسك النخب السورية بوحدة بلادها، من الجزيرة إلى السويداء والساحل في ظل نظام يكفل المساواة والعدالة، أن القرار الدولي الذي يمسك بمصير الخرائط لا يزال أيضاً مؤمناً بخيارات رسمها مارك سايكس وجورج بيكو قبل 106 أعوام.
كانت تلك الخيارات وخرائطها تعرضت لامتحانات قاسية قبل الامتحانات السورية الأخيرة، فعام 2014 سيطر تنظيم “داعش” على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، وتحت وطأة المفاجأة اعتبر كثيرون أن مرحلة جديدة خطرة بدأت. وقال كثيرون ومن بينهم الزعيم الكردي العراقي مسعود برزاني، “في الحقيقة أن سايكس- بيكو فشل وانتهى”، ولاقاه السياسي اللبناني وليد جنبلاط في الاستنتاج أن “سايكس بيكو انتهى، ذلك أمر مؤكد، لكن كل شيء الآن غامض، وسيكون هناك وقت طويل قبل أن تتضح النتائج” (من تصريحات إلى “بي بي سي” مايو (أيار) 2014)، ومع ذلك لم تتغير الحدود وهزم مشروع “الدولة الإسلامية” المزعوم.
كان البرزاني يعرف أكثر من غيره أن حدود الإقليم الكردستاني التي أقرها مجلس الأمن الدولي عام 1991 كمنطقة محمية للأكراد العراقيين لم تتحول إلى كيان مستقل بحدود خاصة على رغم الغزو الأميركي وإسقاطه نظام صدام حسين عام 2003، وبقيت الحدود العراقية الدولية معترفاً بها كما كانت منذ العهد الملكي.
وربما تكون تجربة لبنان في الحرب الأهلية فاتحة أحاديث الانقسام وتشكيل الدويلات في المشرق، وخلال أعوام السبعينيات من القرن الماضي توالت التحذيرات من “البلقنة”، نسبة إلى انقسامات البلقان بعد الحرب العالمية الأولى، ثم نشط الحديث عن “قبرصة” نسبة إلى تقسيم قبرص إثر الانقلاب على الرئيس مكاريوس والغزو التركي واحتلاله شمال الجزيرة (1974). وحروب لبنان التي استمرت لمدة نحو 15 عاماً رسخت المخاوف من مصائر مماثلة، وقد جرى خلالها التصريح مراراً عن رغبات تقسيمية على أساس ديني، لكن كل ذلك صار أوهاماً وانتهى مع إقرار “اتفاق الطائف” في السعودية وبرعايتها، وعاد اللبنانيون جميعاً، بمقتضى الاتفاق، للبنانهم “كوطن نهائي لجميع أبنائه” بحدوده المرسومة قبل أكثر من قرن على يد الفرنسيين والإنجليز.
وكانت النظريات القومية العربية سباقة إلى الرغبة في نسف الحدود “المصطنعة”، فحزب البعث العربي الاشتراكي الذي نشأ في نهاية أربعينيات القرن الماضي بشر بإلغائها وتوحيد “الأمة العربية”، ثم نادى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بأهداف مماثلة وانتهت تجربة الطرفين إلى فشل ذريع. وحكم “البعث” العراق وسوريا فأقفلت الحدود بين البلدين وترسخت منافذها، وأقام عبدالناصر محاولة وحدوية مع سوريا سرعان ما انتهت إلى انفصال وصدام.
صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.
فقد جعلت إيران مجتمعات عدد من الدول العربية أجساداً مريضة عبر التركيز على ربط الشيعة العرب بالمرشد الإيراني وحساباته “القومية الإيرانية”، وأدى التحريض الإيراني المستمر منذ أكثر من 40 عاماً، مترافقاً مع عمليات تنظيم وتمويل واسعة، إلى خلق دويلات ضمن الدولة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفي المقابل كانت إسرائيل ومنذ زمن بعيد تسعى إلى تجذير انقسامات مذهبية ودينية مماثلة ضمن استراتيجية صريحة لإضعاف وتمزيق الدول المحيطة. لقد كانت مقالة الباحث الإسرائيلي عوديد ينون المنشورة في فبراير (شباط) عام 1982 بعنوان “استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات” ولا تزال مرجعاً تجري العودة له كلما تصاعد الحديث عن تفتيت دول المشرق. واليوم ومع التطورات الأخيرة في سوريا يصار إلى التذكير بهذه “الاستراتيجية” التي نادت في حينه بتقسيم لبنان وسوريا والعراق إلى دويلات مذهبية وإثنية، وهي خطط لا تزال تطل برأسها عبر السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا والعراق وأماكن أخرى.
ويوفر مستوى التمزقات المجتمعية الداخلية في المشرق على يد الإسلام السياسي بفروعه الإيرانية والإخوانية وضعف الدولة الوطنية المركزية فرصاً ثمينة لمزيد من التدخلات الخارجية الإسرائيلية خصوصاً، ومزيداً من أوهام الخلاص خارج دولها لدى الأقليات الخائفة والمضطهدة.
ومع ذلك تقول التجربة حتى الآن إن الحدود المرسومة قبل قرن ستبقى قائمة، لكن مزيداً من جدران الانقسام الداخلي سترتفع بين الناس أطيافاً وشرائح إذا لم تُعتمد صيغ جديدة للحكم تأخذ الحساسيات المختلفة في الاعتبار. ولن تتغير الحدود لأن صانعيها الدوليين لا يريدون تغييرها وليس لأن رافضيها المحليين أقوياء بما فيه الكفاية.
ورداً على سؤال طرحه الباحث في “معهد بروكينغز” غريغوري غوس قبل 10 أعوام على نفسه في مناخ صعود “دولة داعش”، “هل سنشهد إعادة رسم لحدود الشرق الأوسط؟”، أجاب “باختصار، كلا! الحدود لن تتغير. وفي الحقيقة ستؤول هذه الحدود إلى ما يشير إليه خبير العلوم السياسية روبرت جاكسون بـ’شبه الدول‘، المشار إليها دولياً كصاحبة سيادة، على رغم أنه لا يمكن تنفيذ الشروط التشغيلية التي تطلبها السيادة قبل السيطرة على الحدود والأراضي”. والأرجح أن السلطة الحقيقية في المشرق ستصبح متاحة للجميع إذا ترسخت المسارات الراهنة ولم تتغير، إلا أن حدود الشريكين سايكس وبيكو ستكون آخر المتغيرات.
——————————-
دروز إدلب النازحون… مواقف متباينة إزاء العودة إلى بلداتهم/ عبد الله البشير
17 مارس 2025
شهدت محافظة إدلب، شمال غربي سورية، انفراجة في ما يخص أوضاع الطائفة الدرزية، إذ تمكنت عائلات من العودة إلى قراها وبلداتها بعد سنوات من النزوح، وبينما تسعى بعض العائلات إلى الاستقرار في ديارها، وجدت أخرى أن أماكن نزوحها باتت أكثر ملاءمة بعدما أسست فيها حياة جديدة، لكنها رغم ذلك، لا تزال تسعى لاستعادة ممتلكاتها.
ينحدر عبد المجيد شريف، من بلدة كفتين شمالي إدلب، وقد بقي مقيماً فيها، ويقول لـ”العربي الجديد”، إن “الأهالي شعروا بانفراجة حقيقية بعد سقوط نظام الأسد، إذ أتيحت الفرصة للغائبين لزيارة أهلهم وذويهم، والشهر الأول كان أشبه بحالة من الفرح العمومي. السكان يعتمدون على دخل الأرض وبعض المهن اليدوية في ظل غياب الموظفين الحكوميين، ما دفع معظم الشباب خلال الفترة الماضية إلى التوجه نحو جرمانا والسويداء، فدخل الأرض لا يكفيهم، والبعض قرروا الهجرة إلى أوروبا ودول الخليج، بينما كان عدد من عملوا في منظمات إنسانية قليلاً”.
من الناحية الأمنية، يشدد شريف على أن “أبناء الطائفة الدرزية في إدلب منسجمون مع بيئتهم ومجتمعهم، ولا يوجد بينهم مقاتلون مع النظام أو حتى مؤيدون له، والظروف التي عايشوها بعد تحرير إدلب من النظام مباشرة شملت تعرض بعضهم لعداء يعتمد على الهوية مارسه متطرفون، من دون أن يكون هناك أي عمل عدائي من جهتهم. حالياً، لا توجد مضايقات فعلية على أرض الواقع، لكنّ هناك أصواتاً متطرفة وغوغائية تحمّل الدروز مسؤولية الخلاف، وتحرض ضدهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كما تُكتب على جدران قراهم عبارات مسيئة أو تحريضية، فضلاً عن قيام بعض خطباء المساجد بممارسة التحريض، لكن السلطة لم تشارك في ذلك، وتحاول طمأنتنا، ورغم ذلك لا يخلو الأمر من شعور بالقلق، ومن واجب السلطة تجريم الخطاب التحريضي والمعاقبة عليه، فليس بين أبناء الطائفة الدرزية فلول أو أعداء للثورة”.
وحول أوضاع العائدين، يؤكد أن “بعض العائلات عادت وتسلّمت بيوتها وأراضيها، لكن ليس جميعهم، إذ يوجد غائبون، ومتوفون، ما يجعل تنفيذ الإجراءات المطلوبة لاستعادة الأراضي صعبة، كما أن بعضهم مرتبط بعمل في الداخل أو الخارج، ما يجعل عودتهم معقدة، وقد طرحنا على السلطة في إدلب، قبل سقوط النظام، وعندما بدأت بإعادة بعض الممتلكات، أن تردّ جميع الممتلكات إلى من كان يتسلّمها قبل المصادرة بدون تعقيدات، بحيث تُحل الخلافات بين المواطنين أمام المحاكم في حال الاعتراض”.
في سياق متصل، يشير شريف إلى قضية الأملاك العامة التي صودرت من دون سبب، ومن بينها فرنا في قريته (كفتين)، والذي تسلّموه من إحدى المنظمات الإنسانية، لكنه تمت مصادرته مع جميع لوازمه ومؤونته من دون وجه حق، وما زال حتى الآن على هذه الحال، معرباً عن أمله في أن يتمكنوا من استعادته بدعم من الجهات المعنية لخدمة أهالي القرية.
بدوره، يوضح راضي سليمان لـ”العربي الجديد”، أنه وصل إلى محافظة السويداء نازحاً من منطقة جبل السماق في ريف إدلب، عقب المعارك العسكرية هناك في عام 2015، وحينها ارتُكبت انتهاكات بحق الدروز في المنطقة القريبة من الحدود التابعة لمنطقة حارم.
يضيف سليمان: “بالنسبة لي، لا أفكر في العودة إلى بلدتي في الوقت الحالي، ولا حتى في المستقبل القريب، فقد تزوجت هنا في السويداء، وكونت أسرة، كما حققت نوعاً من الاستقرار في العمل الذي أسسته خلال سنوات إقامتي هنا. في هذه المنطقة لا أشعر أبداً بالتمييز، فأنا بين أناس كونت معهم صداقات وعلاقات أخوة. قد أذهب لزيارة منطقتي، لكن أن أستقر هناك فهذا الأمر مستبعد”.
ويوضح أن “قسماً من الأهالي بقي في المنطقة، واستمروا في العمل بالزراعة ومتابعة أمور ممتلكاتهم، وعلمت مؤخراً من بعض أقاربي أن بعض العوائل بدأت بالعودة إلى منازلها”.
ويقول إبراهيم الدغيم، وهو نازح من بلدة جرجناز في ريف إدلب الجنوبي، لـ”العربي الجديد”، إنه يقيم في كفتين منذ حوالي ستة أشهر، مشيراً إلى أن من تركوا منازلهم وغادروا قبل نحو عامين، كان يقيم في منازلهم أناس آخرون، لكن منذ أكثر من عام، بدأ هؤلاء بدفع إيجار هذه المنازل، ومنذ سقوط النظام، عادت بعض العوائل، في حين أن بعضهم العائدين غادروا مجدداً.
ويوضح الدغيم أن “الوضع في كفتين ومعرة الإخوان شهد بعض الإساءات في وقت سابق، لكن الأمور أصبحت جيدة مؤخراً، والكثير من الأهالي مرتبطون بأعمال أو وظائف، ولم يستقروا بعد، وجاري الذي لا يزال منزله مغلقاً، زار المنزل قبل فترة لتفقده، وأخبرني أنه لا يمانع في تأجيره إذا رغب أحد في استئجاره. أحد أقاربي كان منزله مأهولاً بأحد الأشخاص، وبعد سقوط النظام، طلب منه إخلاءه، فاستجاب المستأجر لذلك من دون أي إشكال”.
أما رياض العبد الله، وهو تاجر أحذية مقيم في مدينة السويداء، فيقول لـ”العربي الجديد”، إنه نزح من محافظة إدلب في عام 2013، واستقر مع عائلته في السويداء، وامتهنوا تجارة الأحذية، وأنهم تركوا خلفهم أرزاقهم حتى تتضح الصورة، وكلفوا أقاربهم بالاهتمام بها، خاصة مشاريع الزيتون. ويضيف أنه تزوج قبل خمس سنوات، ولديه طفلان، ولا يفكر في العودة إلى إدلب، بل يخطط لزيارتها فقط لأغراض اجتماعية بعد أن استقر به الحال في السويداء.
وتبقى القرى الدرزية في ريف إدلب شاهدة على تاريخ عريق يمتد إلى قرون، حيث يلتقي التراث المعماري بالحياة اليومية للسكان، وأبرز هذه القرى بنابل، وقلب لوزة، وبشندلنتي، وكفر كيلا، وعبريتا، وجدعين، وبشندلايا، وكفر مارس، وتلتيتا، وحلي، وكوكو، والدوير، وعرشين، وكفربني، كما توجد قرى في السهل مثل كفتين وبيرة كفتين، إضافة إلى معارة الإخوان التي تعد من أبرز المناطق التاريخية في شمال إدلب.
العربي الجديد
—————————–
كيف تبدو تركيبة الجيش السوري الجديد بعد دمج الفصائل؟/ عبد الحليم سليمان
المشهد العسكري في جنوب البلاد معقد حيث لا تتبع القوى المسيطرة على هذه المنطقة وزارة الدفاع المشكلة حديثاً
الاثنين 17 مارس 2025
ملخص
محاولات دمج الفصائل مستمرة من قبل الإدارة الانتقالية في دمشق، فالمشهد يبدو معقداً على رغم إبداء معظم قادة هذه الفصائل استعدادهم للانضمام إلى وزارة الدفاع ليصبحوا جزءاً من جيش سوريا الجديد.
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط حكم بشار الأسد وانهيار جيشه، يمثل تشكيل جيش جديد تحت قيادة وإدارة وزارة الدفاع الجديدة أحد أكبر التحديدات التي تواجهها القيادة الحالية، فحال الفصائل لا تزال تهيمن على المشهد العسكري على رغم اجتماع عدد غير قليل من قادتها في ما عرف بـ “مؤتمر النصر” الذي منح الشرعية العسكرية والثورية للرئيس أحمد الشرع لتولي قيادة المرحلة الانتقالية، عبر إطلاق حوار وطني وإعلان دستوري وحكومة انتقالية تقود المرحلة.
ويبدو المشهد معقداً على رغم إبداء معظم قادة هذه الفصائل استعدادهم الانضمام إلى وزارة الدفاع ليصبحوا جزءاً من جيش البلاد، لكن معظم هذه الفصائل لا تزال تحتفظ بأسمائها وتبعيتها التنظيمية السابقة وكذلك سلاحها، سواء تلك المنضوية تحت الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا أو الفصائل في الجنوب السوري أو في التنف، في حين أن “هيئة تحرير الشام” والفصائل التي تحالفت معها في إدارة العمليات المشتركة، ولا سيما تلك التي أسقطت نظام بشار الأسد أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تدير المشهد العسكري الرسمي من خلال وزارة الدفاع التي تسلم مسؤوليتها القيادي العسكري في “هيئة تحرير الشام” مرهف أبو قصرة، وفي أواخر ديسمبر الماضي جرى ترقية نحو 49 من قادات وعناصر الفصائل المسلحة وتسميتهم ضباطاً رفيعين، ومنحهم رتب اللواء والعميد والعقيد في الجيش السوري المزمع تشكيله، وشملت الترقيات عناصر من “تحرير الشام” والفصال المتحالف معها وكذلك من الجيش الوطني الموالي لتركيا، في حين أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن من بين الأسماء الـ 49 الواردة في المرسوم “ستة متطرفين أجانب”، بينهم ألباني وأردني وطاجيكي وآخر من الإيغور ينتمي إلى “الحزب الإسلامي التركستاني”، وتركي كان “قائد لواء” في الهيئة.
المنطقة الجنوبية الرخوة
وفي الجنوب السوري يبدو الوضع العسكري الداخلي مقلقاً جداً لدمشق، ولا سيما بعد دخول غرفة عمليات الجنوب وفصيله الأبرز “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة دمشق والسيطرة على العاصمة ومؤسساتها في الثامن من ديسمبر الماضي، على رغم وجود الشرع وعناصره في حمص وقتها.
وعلى رغم حضور نائب العودة “مؤتمر النصر” وعقد اجتماعات عدة بين الطرفين، أبرزها لقاء الشرع والعودة، لكن الفصيل لم يسلم سلاحه خصوصاً وأنه يملك ترسانة كبيرة من السلاح الثقيل، لأنه بحسب معلومات متداولة يطالب بضمانات تمنح فصيله امتيازات خاصة واستقلالية عسكرية ضمن وزارة الدفاع.
وكان الفصيل تشكل جراء مفاوضات المسلحين مع روسيا ونظام الأسد كجزء من “الفيلق الخامس” المدعوم روسياً، إذ لا يزال العودة يحظى بهذا الدعم إضافة إلى علاقات مع الأردن ودول إقليمية، وفق مصادر سورية.
وعلى حدود مناطق سيطرة فصيل العودة يوجد الدروز في محافظة السويداء جنوباً وتسيطر على مناطقهم فصائل مسلحة محلية عدة أبرزها “المجلس العسكري للسويداء” و”لواء الجبل” وغيرها من فصائل تشكلت خلال أعوام الحرب، ومع سقوط النظام وتشكيل وزارة الدفاع الجديدة لم تنضم هذه الفصائل إلى الجيش السوري على رغم لقاءات عدة عقدت بين الطرفين، ومحاولة دخول وزارة الداخلية وقوى الأمن العام للمحافظة، لكنها غير مقبولة من قبل الدروز ولا سيما أن تحفظات وخلافات سياسية تعلن تجاه دمشق بين فترة وأخرى من قبل زعامات دينية، وهي صاحبة القول الفصل في شؤون الطائفة وبخاصة الشيخ حكمت الهجري الذي رفض أخيراً “الإعلان الدستوري” مطالباً بدولة مدنية تحفظ حقوقهم، وكذلك سجلت مآخذ وانتقادات من قبلهم تجاه الحكم الجديد بخصوص مؤتمر الحوار، مما يزيد تعقيد انضمام الفصائل الدرزية إلى الجيش السوري.
ويتزامن ذلك مع حوادث متفرقة عدة، فقد نشبت اشتباكات بين القوات التابعة لدمشق ومسلحين دروز في ضاحية جرمانية الدرزية المتاخمة لدمشق وأدت إلى إصابات بين الطرفين، لكن الحادثة طوقت سريعاً مع تدخل مسلحين دروز مقربين من دمشق على خط الوساطة لتنتهي بتسلم قوى الأمن العام، في حين أن سلاح الفصيل المسلح لا يزال في يد عناصره، ويعتبر إحدى أسباب المناكفة بين الدروز وحكومة الشرع، إضافة إلى تصريحات إسرائيلية بضرورة حماية الدروز في سوريا والتحذير من الاعتداء عليهم.
“قسد” الملف الأثقل
ملف الفصائل العسكرية في سوريا من أكثر الملفات الشائكة حالياً وبخاصة ملف اندماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الذي يعتبر من أعقد وأثقل القضايا، لما تحمله من خلافات بينها وبين قوات دمشق إضافة إلى صراعها المستمر مع الفصائل الموالية لتركيا، والتي انضمت جميعها إلى وزارة الدفاع في حكومة الشرع، في حين أنها لا تزال جزءاً من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا وتتلقى منها الدعم والرواتب، كما أن هذه الفصائل تقاتل منذ أواخر ديسمبر “قسد” في منطقة سد تشرين وجسر قره قوزاق في ريف كوباني الجنوبي، إضافة إلى مناوشات مستمرة بين الطرفين في مناطق نبع السلام أيضاً.
وبخلاف غيرها من الكيانات العسكرية في سوريا فإن مهمة “قسد” تتركز على مكافحة الإرهاب وحماية السجون التي تؤوي عناصر تنظيم “داعش” والبالغ عددهم نحو 10 آلاف، بينهم 2000 مقاتل أجنبي موزعين داخل 26 مركزاً للاحتجاز، وإضافة إلى مخيمي الهول وروج فإن التحدي الأكبر يكمن في الهجمات الجوية التي تتلقاها من تركيا، ومواجهة الفصائل التي تتزعم غالبيتها عناصر قيادات تركمانية، وأصبحت جزءاً من وزارة الدفاع التابعة لدمشق، وهي تقاتل “قسد” الذي يضع بند التزام الشرع بوقف إطلاق النار على المحك.
وعقب توقيع الاتفاق بين الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي الذي أنعش آمال الأكراد ومكونات أخرى ولاقى ترحيباً سورياً وعربياً ودولياً، إلا أن “الإعلان الدستوري” الذي صادق عليه الشرع بعد ثلاثة أيام من اتفاقه مع عبدي تجاهل إدراج حقوق الأكراد أو شكل الدولة اللامركزية كما يطمحون، إضافة إلى بنود أخرى أثارت حفيظة الأكراد الذين خرجوا بمواقف رافضة لـ “الإعلان الدستوري”، إضافة إلى السُريان الذين رفضوا الخطوة الحكومية للأسباب ذاتها، مما قد يلقي بظلاله على الاتفاق الذي ينص على دمج القوات العسكرية ويسهل الطريق أمام بقية المؤسسات.
ويقول الباحث من “مركز الفرات للدراسات” في القامشلي وليد جولي إن الكرد وباقي المكونات المنتشرة شمال شرقي سوريا سيكون لهم موقف حازم ضد هذه الفصائل التي ارتكبت انتهاكات ومجازر ضد السكان المدنيين في الساحل، يقضي بالإصرار على تسليمهم دمشق وإلقاء السلاح أو الدمج على شكل أفراد، “فما حصل في الساحل السوري كشف الأقنعة بصورة واضحة وأفقد الثقة في الإدارة الجديدة، ومن حق أي مكون سوري أو جماعة سياسية أن ترفض تسليم أمرها لهؤلاء”، على حد قول جولي.
أما بالنسبة إلى جيش “سوريا الحرة” المعدّ والمدرب أميركياً والذي يسيطر على قاعدة التنف وصولاً إلى تدمر، فقد شارك قائد الفصيل في “مؤتمر النصر” وأصبح جزءاً من وزارة الدفاع، لكن جميع تحركاته على الأرض تجري بالتنسيق مع التحالف الدولي والقوات الأميركية، إذ يعتبر الفصيل الوحيد في وزارة الدفاع والعامل مع الجيش الأميركي في إطار مكافحة الإرهاب رسمياً.
آمال بالانضمام للجيش الجديد
في بدايات يناير (كانون الثاني) الماضي قال وزير الدفاع مرهف أحمد أبو قصرة إنه من بين توجهات القيادة العامة إعادة هيكلة القوات المسلحة وتنظيم الجيش العربي السوري، مضيفاً “بدأنا جلسات مع الفصائل العسكرية من أجل وضع خطوات انضمامهم لوزارة الدفاع، إذ تهدف الجلسات إلى وضع خريطة طريق لتحقيق الاستقرار في البنية التنظيمية للقوات المسلحة”، ولا تزال تلك المشاورات والاجتماعات جارية على رغم مرور 100 يوم، لكن هيكلية الجيش السوري الحكومي لا تزال ضبابية جراء معوقات كبيرة تعترض سبيل نجاحها، في وقت لم تكتمل بعد شروط نجاح تشكيل الجيش وتزويده بما يلزم من عتاد وذخيرة ومال، ولا سيما وأن سلاح الجو الإسرائيلي قصف عشرات المطارات والمستودعات العسكرية التابعة للنظام السابق، ودمر نحو 80 في المئة من ترسانة السلاح، إضافة إلى عمليات خاصة ضد مخازن الأسلحة الكيماوية مما أدى إلى تعرية البلاد من السلاح، وغداة سقوط الأسد وعقب تنفيذ إسرائيل عدداً كبيراً من الهجمات على مواقع لتخزين الأسلحة التابعة لجيش الأسد، قال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إنه “جرى استهداف مواقع أسلحة كيماوية وصواريخ طويلة المدى في سوريا من أجل منع وقوعها في أيدي أطراف عدائية”.
—————————–
الصراع على سوريا الانتقالية: إلى أين؟/ عصام نعمان
تحديث 17 أذار 2025
اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية، لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سوريا «الانتقالية». إلى أين ستنتقل سوريا، أو بالأحرى إلى أين تنوي أمريكا و»إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟ لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر، لأن أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال، وكيف ستكون سوريا شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سوريا في حاضرها المضطرب، ولعل أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكرية في سوريا منذ سنوات عدّة، بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي كان قد نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل في شمال العراق، ومحافظة الرقة في شمال شرق سوريا. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسية بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون.
مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أمريكا المتمردين الكرد، الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال، الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإن واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سوريا، شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا، التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور. «إسرائيل» تحتل نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، وتسيطر على حوض نهر اليرموك، وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً، وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحدين الدروز السوريين، في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أن «إسرائيل» بدأت بتنفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزية في الجنوب السوري، والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانية امتدادها لضم دروز لبنان أيضاً. تركيا يهمها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصالي في جنوبيّ شرق أراضيها وشمال شرق سوريا. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقالي في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكرية لها في شمال البلاد. وسط تدخلات هذه الدول الثلاث القوية النافذة، يحاول الحكم الانتقالي في دمشق بقيادة أحمد الشرع، تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدموية العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق إلى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي، ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع « الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات، مع استمراره لمدة خمسة أعوام على الأقل. «الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة، أولها من «مجلس سوريا الديمقراطية»، الذراع السياسية لـِ»قسد»، الذي وصف أحمد الشرع بأنه «يكرر ما كان يفعله بشار الأسد»، مضيفاً أن الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعي ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وأن «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».
في الجنوب السوري، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل»، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة، بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة. من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطورات يمكن استخلاص النقاط السياسية الآتية:
*ما زال الاضطراب السياسي والطائفي هو السمة الغالبة في حاضر سوريا الانتقالية.
*عملية توحيد جغرافية سوريا، سياسياً وإدارياً، التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.
*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق، والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سوريا.
*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن من احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.
*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سوريا حيث الكرد و»قسد»، ولذلك تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في شمال البلاد.
*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة اخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقالي في دمشق.
*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سوريا بالوقت الحاضر، وإن ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.
*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي إلى سوريا في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.
*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سوريا، بالوقت الحاضر، بل ثمة تسليم بالدور الأمريكي الناشط بلا ادنى منافسة.
*لعل أدق توصيف لحال سوريا في الوقت الحاضر هو، أنها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.
إلى أن تستيقظ وتتوحد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سوريا مفتوحاً على شتى الاحتمالات.
كاتب لبناني
القدس العربي
——————————
الجولان: بين النبي شعيب و»تلّة الصراخ»/ صبحي حديدي
تحديث 17 أذار 2025
للسوريات والسوريين أبناء بلدات وقرى هضبة الجولان السورية المحتلة، في مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنية والغجر أساساً، الإعراب عن الرأي في الزيارة التي قام بها رجال دين سوريون، أتباع الطائفة الدرزية، إلى مقام النبي شعيب قرب طبريا. وليست هذه الإحالة بمثابة اتكاء بسيط على مبدأ قديم يؤكد أنّ أهل الجولان أدرى بشعابها، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الجولانيين واقعون تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ 1967، أي قبل ضمّ الهضبة أواخر 1981، وسطروا ويواصلون تسطير فصول ملحمية في مقاومة الأسْرَلة والتهويد والاستيطان، والتشديد على الانتماء إلى الهوية الوطنية السورية.
وهذه سطور تشرفت بزيارة الجولان المحتلّ مراراً، لأسباب شتى وطنية وإنسانية وعاطفية، تكفّل أحد الأخوة الجولانيين بمنحها صفة خاصة تماماً من حيث المشروعية والحقّ والواجب معاً: نحن، أبناء الجولان، أسرى الاحتلال الإسرائيلي، وزيارة الأسير فريضة حدّ أدنى على أهله! بالطبع، ومطلقاً أيضاً، ومن هنا لصاحب هذا التوصيف وأخواته وإخوته أبناء الهضبة المحتلة أن يقرأوا عبور رجال الدين السوريين الدروز إلى عمق فلسطيني، وليس إلى مساحة جولانية فقط؛ وما إذا كانت تتقصد الحجّ إلى مقام ديني، أم تتّسق مع مساعٍ أخرى خبيثة أعرب عنها ساسة الاحتلال بصدد بني معروف في جنوب سوريا، بعد سقوط نظام «الحركة التصحيحية».
وهذه السطور لا تُغفل حقيقة كبرى مركزية، مفادها أنّ زيارة رجال الدين السوريين الدروز هي الأولى منذ 50 عاماً على الأقلّ؛ أي، في تشخيص آخر موازٍ، على امتداد حكم الأسدَين حافظ وبشار. وليس الأمر أنّ النظام البائد حظر الزيارات هذه من واقع الغيرة الوطنية ورفض التطبيع، بل لأنّ المنع كان مظهراً واحداً من سلسلة مظاهر تقمع الحريات العامة؛ وبالتالي من الإنصاف القول إنّ زائري مقام النبي شعيب اليوم امتلكوا من هوامش الحرّية ما يكفي للقيام بالزيارة من دون احتساب عواقب التنكيل والاضطهاد والتجريم، هذه التي لا يلوح أنّ أياً منها سوف ينتظرهم عند العودة إلى سوريا.
وهذه السطور تستذكر، ثالثاً، كتاباً متميزاً عن هضبة الجولان صدر بالإنكليزية سنة 2023 ضمن منشورات I.B. Tauris في لندن، تحت عنوان «مرتفعات الجولان: حكاية لم تُسرد»؛ بتحرير مشترك من منى دجاني ومنير فخر الدين ومايكل ميسون. والكتاب احتوى على 16 مساهمة، ومقدمة وافية، وخاتمة خلاصات، وفّرت جميعها مادة غنية ومتعددة الجوانب كانت (وبعضها غير القليل يظلّ) خافياً أو مخفياً، غائباً أو مغيّباً، على نحو ما في العنوان من تلميح إلى وقائع ومعطيات وحقائق لم تتكشف كما يليق بها في سردية متكاملة، وبالتالي لم تجد ما تستحقّ من إظهار علني. ثمة جانب آخر خاصّ الدلالة في أنّ محرّري الكتاب يجمعون بين الجنسية الفلسطينية (دجاني)، والسورية (فخر الدين)، والبريطانية (ميسون)؛ وهذا التقاء غير شائع على مستوى المحتد أوّلاً، ثمّ مستويات الاختصاص التي تبدأ من المناخ والبيئة والمياه، وتمرّ بالفلسفة والدراسات الثقافية، وتنتهي عند العلوم السياسية والاقتصاد. وهذا التنوّع منح الكتاب قابلية تحريرٍ عالية المرونة، أتاحت تسخير مناهج بحثية متعددة، ونُظُماً دراسية متقاطعة، وثراء ملحوظاً في تناول موضوعات الأقسام الخمسة: استيطان/ استعمار الحياة اليومية، سياسة المحكوم، سياسة الفنّ الجولاني، سياسة الشباب الجولاني والتربية، إيكولوجيا سياسية جولانية.
ويقول الناشر على الغلاف الأخير إنّ الكتاب «يركّز على جماعة أقوام أصلية تُعرف باسم الجولانيين، وبصفة خاصة على تجربتهم مع الاحتلال في واقع الحياة اليومية وسياسة المقاومة في وجه الاستعمار الاستيطاني (…) وهنالك مساهمات حول إضراب 1982 الذي دام ستة أشهر، وتعبئة الشباب في الجولان المحتل، وحركات التضامن الفلسطينية، والفنّ والكتابة في الجولان، وترسيم الخرائط المضاد، ثمّ التاريخ السرّي لمنتجع التزلج الإسرائيلي».
خاتمة الكتاب تقتبس الشاعر الجولاني ياسر خنجر، ابن مجدل شمس والأسير السابق لدى الاحتلال، من قصيدة «فجر»: أقفلَ الباب بإحكام/ أسدلَ الستائر على النوافذ كلّها/ سدّ الثقوب بأقمشة قديمة/ إلى أن ساد العتم/ كان يكفي أن يطرق الباب زائرٌ/ أو تائهٌ ضلّ الطريق/ كي يعود الضوء إليّ/ كان يكفي أن تعبر في خيالي/ كي تتعربش الشمسُ على رموشي/ وينسكب الفجر».
غلاف الكتاب لوحة بعنوان «تلّة الصراخ»، للفنان الجولاني علاء عرمون، تلتقط مشهداً من ذلك اللقاء الفريد الذي ظلّ يتكرر على مبعدة 3 كم من مجدل شمس، ملاصقاً لخطّ الهدنة Alpha؛ حيث يتجمع الجولانيون على التلّة المقابلة من الأرض السورية، وسفح الوادي في طرف الاحتلال، ويجري «اللقاء» العجيب: عبر الصراخ أوّلاً، ثمّ مكبرات الصوت، والمناظير المقرّبة. وهذه سطور كان لها شرف حضور العديد من عجائب ذلك الطقس، خلال خدمة مع قوّات حفظ السلام الأممية (أندوف) مطلع ثمانينيات القرن المنصرم؛ ولعلّ الأعجب فيها لم يكن الاحتفال بمناسبات عائلية مختلفة، بل إحياء العيد الوطني السوري، أو «عيد الجلاء» كما نسمّيه، يوم 17 نيسان (أبريل) من كلّ عام.
وأياً كانت السياقات المختلفة بين مقام النبي شعيب وتلّة الصراخ، يبقى ثابتاً أنّ من المحال اقتلاع هوية سورية جامعة، تضرب بجذورها في العميق الخافق من وجدان الجولان.
القدس العربي
——————————
السويداء: دعوات لاحتواء التوترات ونبذ العنف في ظل انقسامات سياسية/ ضياء الصحناوي
17 مارس 2025
أكد قائد حركة رجال الكرامة الشيخ يحيى الحجار، خلال لقاء مع وجهاء محافظة السويداء السورية، وعلى رأسهم الشيخ يوسف جربوع، أحد مشايخ عقل طائفة الموحدين الدروز، أن “الاختلاف في الرأي لا يعني انقسام السويداء”، مشدداً على أن الداعين لبناء الدولة ورفض مشاريع التقسيم “ليسوا خونة”، وأن من يتعاون مع الشرفاء لتحقيق هذا الهدف لن يكونوا خارجين على القانون.
جاء ذلك في خطابٍ هدف لتهدئة التوترات المتصاعدة بين فصائل المحافظة، والتي وصلت إلى حدّ التعديات على المحتجين، وتهديدهم من قبل بعض أنصار الفصائل في ساحة الكرامة. وأوضح الحجار أن المرجعية الروحية للطائفة تمثل إطاراً جامعاً للسويداء، مؤكداً أن سلاح حركته لن يُوجَّه إلى الداخل، ولن يكون إلا في خدمة الجبل والذود عنه ضد أي معتدٍ، في إشارة إلى رفض تحويل الخلافات السياسية إلى مواجهات مسلحة. وجاءت تصريحاته هذه رداً على انقساماتٍ حادّة ظهرت أخيراً بين مؤيدين للخط الحكومي، ومعارضين له، ما أدى إلى تحشيدات وتصعيد أمني انعكس على الشارع العام.
قائد حركة رجال الكرامة الشيخ أبو حسن يحيى الحجار: “الجبل واحد.. واختلاف الرأي لا يعني الانقسام”.. pic.twitter.com/JkeLwGZVTL
— السويداء 24 (@suwayda24) March 16, 2025
وفي سياق متصل، قام ممثلون عن الحراك الشعبي بجولةٍ يوم أمس الأحد، شملت لقاءات مع المرجعيات الدينية الثلاث الهجري، والحناوي، وجربوع، طالبوا خلالها بالتدخل لوقف الانفلات الأمني، واستخدام السلاح ضد المتظاهرين، وإبعاد التحشيدات العسكرية عن الخلافات السياسية. وأكدوا أن “الاختلاف في الرأي سياسة صحية لبناء وطن ديمقراطي، بينما الإكراه بالسلاح يدمر البلد”.
السويداء ساحة الكرامة وسط السويداء، 25 فبراير 2025 (شادي الدبيسي/فرانس برس)
تقارير عربية
السويداء السورية تتأرجح بين تيارات سياسية متباينة
ومن جانبها، قالت الإعلامية والناشطة المدنية هند العرموني لـ”العربي الجديد”، إن اللقاءات ركّزت على أهمية نبذ العنف، ومنع انتشار السلاح في الشوارع، لما يشكله من خطر على المدنيين، مع التأكيد على ضرورة فصل العمل العسكري عن الخلافات السياسية، وضمان حق التعبير دون ضغوط أو استفزازات. وأضافت أن الممثلين طالبوا بإزالة الرايات والأعلام الدينية والفئوية من المؤسسات العامة، والاكتفاء برفع العلم الوطني، مؤكدين أن “دور العبادة هي المكان المناسب لها”.
وبدورهم، أبدى المشايخ الثلاثة تفهماً لمطالب المحتجين، معتبرين أن “أحرار وحرائر السويداء هم أصحاب القرار في الشأن السياسي”، وفقاً للعرموني، التي أشارت إلى وعود قدمتها المرجعيات بالعمل على “تخفيف الخلافات، وحصر التباينات في إطار الحوار المدني، وليس الصراع المسلح”.
ومن ناحيةٍ أخرى، رفض عدد من محامي السويداء، في بيانٍ مفتوح للتوقيع، الإعلان الدستوري الذي أصدرته السلطة الانتقالية في 13 مارس/ آذار الحالي، معتبرين أنه “لا يستجيب لتطلعات الشعب السوري في بناء دولة ديمقراطية، بل يعيد إنتاج الاستبداد بصيغة جديدة”. وأكد الموقعون على البيان أن وثيقة الإعلان الدستوري “تفتقر إلى مبادئ الحكم التشاركي، وتعزز المركزية، وتُخاطر بمسار العدالة والحرية.
وحذّر البيان من أن النص الدستوري المقترح “يُهمل العدالة الانتقالية الحقيقية”، معتمداً على “إجراءات شكلية لا تحقق محاسبةً حقيقيةً أو مصالحة وطنية”، مشدداً على ضرورة بناء قضاء مستقل بعيداً عن هيمنة السلطة التنفيذية. ودعا المحامون إلى عقد مؤتمر وطني شامل لوضع دستور عصري يعكس إرادة جميع السوريين، معربين عن رفضهم ما وصفوه بـ”إعادة إنتاج أنظمة قمعية” تحت أي مسمّى.
وتعكس هذه التطورات حالة الاستقطاب السياسي والأمني التي تعيشها السويداء، في ظل مخاوف من تحوّل الخلافات إلى مواجهات مفتوحة، لا سيما مع تصاعد الحديث عن مشاريع تقسيمية وتأثيرات التدخلات الإقليمية، بينما تُظهر المبادرات الشعبية والدينية سعياً حثيثاً لاحتواء الأزمة، عبر التأكيد على أولوية الحوار وحماية الحريات.
العربي الجديد
—————————-
المشرق: تجاهل السياسة ونشوة الاستقواء/ سام منسى
تحديث 17 أذار 2025
يبدو أن النزاعات في المشرق لم تقترب من نهايتها كما خُيل للكثيرين بعد حربي غزة ولبنان، وأطاحت آثارهما بحكم آل الأسد بسوريا بلمحة بصر بعد 54 عاماً من الاستبداد.
الأحداث في سوريا، من التمرد العسكري لفلول النظام، مروراً بزرع بذور الفتنة بين دروز سوريا والنظام الجديد إلى مسألة الأكراد، تبقى الأشد خطورة، لا سيما أنها واقعة تحت سطوة لاعبين كثر أبرزهم الإيراني والتركي والإسرائيلي ولو بنسب متفاوتة؛ ما يتيح لهؤلاء لعب أدوار تصب في مصالحهم.
إسرائيل موجودة في المشهد السوري منذ الساعات الأولى لسقوط بشار الأسد بمواقف وممارسات ملتبسة وخبيثة. وبعد تراجعها عن التمسك بالنظام البائد وسيده إثر السطوة الإيرانية عليه، عاد حنينها إليه بعد سقوطه، وتمادت في دورها المزعزع بقصف منشآت الجيش السوري وبناه التحتية وأسلحته، والتوغل في الأراضي السورية، وتحريض الطائفة الدرزية في الجنوب على السلطة الجديدة بحجة حمايتها وبقية الأقليات، في تكرار لسلوك كثيراً ما لجأت إليه بهدف تخريب الاستقرار وتفكيك الدول من حولها إلى كيانات طائفية.
أما طهران، فتحاول استعادة ما أمكن من نفوذها بسوريا ولو على حساب وحدتها، وقد تسعى لعودة الأسد إلى الساحل إذا نجح التمرد لتعود طريقها إلى لبنان سالكة لتزويد «حزب الله» بالمال والسلاح.
إن أهداف إسرائيل تتقاطع مع إيران في سوريا في محاولتهما تقطيع أوصالها والتخريب على السلطة الجديدة، فيما تحاربها في لبنان، وقد يؤدي هذا التخبط لاحقاً إلى عكس ما سعت وتسعى إليه من تقويض للوجود الإيراني على حدودها.
بدوره، يشهد لبنان خفوتاً لنشوة انتخاب رئيس الجمهورية جوزيف عون وتشكيل حكومة نواف سلام، بوصفهما سيفتحان صفحة جديدة تبدأ باستعادة الدولة من الدويلة، ومباشرة الإصلاح والنهوض. صحوة «حزب الله» بعد صدمة الهزيمة العسكرية في الحرب الأخيرة بددت هذه الصورة، بسبب تأكيده المتكرر على النصر واستمرار المقاومة المسلحة والاحتفاظ بالسلاح، متنصلاً من مضمون اتفاق وقف النار الأخير بشأن السلاح شمال الليطاني، ومتذرعاً بتفسير متقدم لما ورد باتفاق الطائف بشأن حل الميليشيات بأنه لا يشمله بوصفه مقاومة وليس ميليشيا. وجاءت حبة الكرز فيما أعلنه أمين عام الحزب نعيم قاسم أن «لا إنقاذ وإصلاح قبل إعادة الإعمار… وأن المقاومة مستمرة في الميدان»، وكلام لرئيس مجلس النواب نبيه بري حول استمرار المقاومة، والاتفاق لا يشمل السلاح شمال الليطاني في ملاقاة لكلام رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني بأن «المقاومة باقية لأن غالبية الشعب اللبناني تؤيدها». يضاف إلى ذلك ما يتردد عن عودة «حزب الله» للتدخل في سوريا بإرسال مقاتلين لدعم التمرد، وعودة احتلال إسرائيل لنقاط عدة في الجنوب، ومواصلة عملياتها العسكرية في لبنان على أنواعها مقدمة نفحة أكسجين للحزب.
لا يحتمل لبنان مثل هذه الصحوة؛ لأنها تعيده للمربع الأول، وتقطع طريق عودته للعرب، وعودتهم إليه بناسهم ومساعداتهم واستثماراتهم، وتؤدي لاستمرار التخبط للخروج من حالة الإحباط المزمنة جراء الأزمات المالية والاقتصادية والأمنية.
أما غزة فلا تزال ملعباً لمناورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السياسية الداخلية والخارجية، فاتحاً مصيرها على احتمالات عدة، أحلاهم مُر: من نجاح مشروع التهجير، إلى إمكانية تجدد الحرب دون أفق سياسي باستثناء دفع السكان للمغادرة أو البقاء تحت شبح المجاعة وويلات تجدُّد القتال. كل ذلك في ظل محادثات أميركية مباشرة مع «حماس» تبعث الريبة، لا بل الغضب عند نتنياهو وزمرته المتشددة.
عرقلة الحلول في سوريا ولبنان وغزة هي نتيجة انعدام السياسة بحكمتها وعقلانيتها وغلبة العسكرة بجموحها وجنونها، ليس في المنطقة فحسب، بل ربما في العالم أجمع. أكبر دليل على ذلك هو أن الجبروت العسكري الإسرائيلي لم يؤتِ ثماره: ما زالت النار في غزة تحت الرماد، «حزب الله» في لبنان يعلن النصر واستمرار المقاومة والتمسك بما بقي من سلاحه وبدوره في الحياة السياسية اللبنانية وقدراته على التعطيل، عمى إسرائيل قد يعيد إيران إلى سوريا بعد استماتتها لإخراجها منها. المحصلة، أن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان وسوريا من دون رؤية سياسية لم ولن يؤدي إلا لاستيلاد حروب جديدة.
علة العلل هي انعدام السياسة وخواؤها في أميركا نفسها التي تسمح لنتنياهو بالاستيلاء على كل فلسطين بالقوة، تحت غطاء تهجير إنمائي سياحي، وتغازل فلاديمير بوتين وتسامحه على ضم القرم وأجزاء من أوكرانيا، وتتبنى سرديته للحرب، كيف لا وهي نفسها حامية العالم الحر والديمقراطية والقيم تريد السطو على غرينلاند، وضم كندا، والسيطرة على بنما، وتعاقب المحكمة الجنائية الدولية، وتناصب العداء لحلفائها الأوروبيين التقليديين. مواقف تقدم رخصاً مجانية للعدوان والاستبداد، وتصمت مجدداً على ممارسات أنظمة على غرار نظام الأسد الذي سحق الأغلبية والأقلية في بلاده وجوارها لأكثر من 50 سنة.
الشرق الأوسط؟
——————————
سوريا والرؤية الثالثة/ مأمون فندي
تحديث 17 أذار 2025
تتقاسم سوريا الجديدة، الآن، رؤيتان خارجيتان؛ الأولى رؤية تركية تسعى إلى سوريا موحدة ومتماسكة كدولة جارة (مع بعض التحفظات)، والثانية رؤية إسرائيلية تريد سوريا مجزَّأة طائفياً، وربما مناطقياً، فهل هناك إمكانية لظهور رؤية ثالثة؛ إما وطنية سورية خالصة، أو عربية، أو خليط من رؤية عربية ومحلية سورية؟
أيُّ نظام جديد بعد ثورة أو بعد انهيار نظام، مهما كان تماسك المجتمع، يمر بمرحلة انتقالية بين نظامين. ويحدد مدى نجاح أو فشل هذه المرحلة أمران: سرعة التحول، وحجم أو عدد من ينخرطون فيه. فإلى أي رؤية يقترب مصير التحول السوري، اليوم؟ هل نحو الرؤية الإسرائيلية التي تسعى إلى سوريا مجزَّأة في حالة تناحر طائفي، كما كان لبنان في السبعينات وحتى نهاية الحرب الأهلية، أم نحو الرؤية التركية التي تسعى إلى نظام مركزي قوي لدولة متماسكة؟
قد يكون من التبسيط تحديد رؤية كل من تركيا وإسرائيل لسوريا بهذا الوضوح، بين رؤية التجزئة ورؤية التماسك، دون الالتفات إلى المساحة الرمادية بينهما. والمثال الأوضح على ذلك هو قضية المقاتلين الأجانب ضمن قوات النظام السوري الجديد، وكذلك مكافحة الإرهاب.
المقاتلون الأجانب بالنسبة للأتراك هم جماعات الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، الذين تَعدُّهم أنقرة إرهابيين. أما بالنسبة لإسرائيل، فالمتطرفون هم المتحالفون مع النظام الجديد، والذين جاؤوا مع الرئيس أحمد الشرع من إدلب إلى دمشق. وهنا تكمن المنطقة الرمادية التي تتعامل معها تركيا وإسرائيل بطرق مختلفة.
تركيا باركت اتفاق قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مع حكومة الشرع؛ بهدف دمج هذه القوات داخل المؤسسة الدفاعية السورية، والهدف من ذلك فصلها عن حزب العمال الكردستاني، وكذلك منح الحكومة الجديدة السيطرة على حقول النفط الواقعة في مناطق نفوذ «قسد»، والتي كانت تحت الحماية الأميركية. بالطبع، في هذا التبسيط لم نتطرق بعدُ للأدوار الأخرى التي تلعبها أميركا وروسيا وإيران، وقد تعمدت ذلك نظراً لانشغال هذه القوى بقضايا تراها أهم من استقرار سوريا حالياً.
أما إسرائيل فهي تسعى إلى إضعاف النظام الجديد، الذي تَعدُّه متطرفاً، وربما في حالة كمون إلى أن يتمكن ثم يواجه إسرائيل لاحقاً، ليس عبر مواجهة جيوش نظامية، بل بنموذج استنزاف شبيه بـ«حزب الله» في لبنان. ولهذا، تحاول إسرائيل منع النظام الجديد من امتلاك أدوات القوة، عبر ضرب مقدَّرات الجيش السوري القديم، وتدمير بنيته التحتية العسكرية، مما يستلزم عشرات السنين لإعادة بنائها، وبذلك تكسب إسرائيل وقتاً إضافياً لترويض النظام الجديد.
إضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى التواصل مع الطوائف المختلفة، وأبرزها الدروز في السويداء، حيث كان مشهد العشرات من شيوخهم الكبار لافتاً في زيارتهم للجولان، الأسبوع الماضي، فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي أكد فيها التزام إسرائيل بحماية دروز سوريا. فإذا التزمت إسرائيل بطائفة، فلمن تلجأ الطوائف الأخرى للحماية؟
السؤال الأكبر: أيُّ الرؤيتين سترسم ملامح النظام السوري الجديد؟ هل هي الرؤية التركية أم الرؤية الإسرائيلية؟ التجزئة والتناحر الطائفي، أم الاستقرار؟ وإلى أي رؤية يجب أن تنحاز الدول العربية، خصوصاً دول الجوار، فيما يخص مستقبل سوريا؟ أو بصيغة أخرى، أيُّ الرؤيتين يمكن أن تنتصر في المستقبل القريب؟
الموقف من أحداث الساحل السوري، والاتهامات المتبادلة بين مطاردة فلول نظام الأسد المتمردة على النظام الجديد من وجهة نظر النظام وأتباعه، أو الشروع في القتل على الهوية للعلويين حسب رؤية أصوات من الطائفة العلوية، كلها تصب في سيناريو التمزق المجتمعي، وتجعل سوريا مسرحاً لعدم استقرار قد يستمر لعشر سنوات مقبلة على أقل تقدير.
الرؤية التركية، رغم بعض التحفظات، قد تؤدي إلى حالة من الاستقرار في سوريا، وربما تنتج نظاماً شبيهاً بتركيا، كدولة جارة فاعلة، بالطريقة نفسها التي أنتجت بها إيران النظام الجديد في العراق بعد حرب 2003.
ومن هنا، قد تخرج الرؤية الثالثة من خلال حوار عربي-تركي يدفع نحو إنتاج نظام شبه ديمقراطي، كما هي الحال في تركيا. وهذا يتطلب إحياء الجهود السابقة من محادثات جنيف وآستانة بين نظام الأسد والمعارضة. يمكن أن تكون هذه الأوراق نقطة انطلاق جيدة لحوار جاد حول بناء سوريا الجديدة، إذا أضيفت إليها جهود حوار وطني داخلي.
إذا لم يستطع العرب التنسيق مع الأتراك بشكل عاجل وجاد، فسينسق غيرهم، وسيكون ذلك على حساب وحدة الأراضي السورية وسلامتها. دون عمل عربي-تركي مشترك وعاجل، قد تنتصر الرؤية الإسرائيلية، على الأقل خلال السنوات المقبلة، وسنشهد سوريا كما شهدنا لبنان من بداية الحرب الأهلية حتى اتفاق الطائف.
وبين هذه التطورات، قد تظهر جماعات مختلفة في سوريا، يكون نموذجها الأمثل شيئاً شبيهاً بظهور «حزب الله» في لبنان وتطوره إلى القوة الأولى في الدولة، أو ظهور «الحشد الشعبي» وعشرات الجماعات المتطرفة في العراق.
في سوريا، الرؤية الثالثة هي الحل.
الشرق الأوسط
———————————
لمَ كل هذا الاستقطاب في الشارع السوري؟/ أحمد عسيلي
تحديث 17 أذار 2025
تابع السوريون جميعًا، بقلق وخوف، أحداث الأسبوع الماضي، خاصة ما جرى في الساحل، وجع الوطن وأكثر نقاطه ضعفًا منذ لحظة هروب بشار، وأصعب اختبار للنظام الحالي في قدرته على حل الأزمات الداخلية.
فما الموقف الشخصي؟ وكيف تقرأ هذه الأحداث؟ هل ما حدث يتحمل أسبابه ونتائجه النظام بشكل كامل، وما طبيعة هذه المسؤولية؟ تقصير أم مشاركة بالجريمة؟ وما سبب الجرائم التي ارتكبتها بعض قوى الأمن ضد العلويين؟ هل هي نتيجة البلبلة والهرج الذي حصل بين يومي 6 و10 من آذار؟ هل هي نتيجة مشاعر الظلم التي يكبتها هؤلاء الناس منذ مجازر البيضا والحولة والكيماوي؟ أم ناتجة عن العقلية الإجرامية لدى الجهاديين التي تود قتل وإذلال الأقليات؟ أم هي مزيج من هذين العاملين وربما عوامل أخرى؟
من البداية أخبركم أنني لن أجيب عن أي من هذه الأسئلة، فليس لدينا جواب صحيح علميًا هنا، لكني سأتناول الموضوع من زاوية مختلفة، وأطرح سؤالًا آخر: فمهما كان الجواب، حسب تصور كل شخص للموضوع، ما نسبة الاعتماد على الوقائع في هذا الجواب وما نسبة العاطفة؟ وهل اتخذ هذا الموقف بناء على تحليل سليم للحقائق؟ دعونا نبدأ رحلتنا للإجابة عن هذا السؤال:
منذ سنوات عديدة، انشغل علماء النفس بآلية التفكير في أوقات الأزمات، وكأطباء نتعامل بشكل يومي مع حالات الإنسان في تلك المواقف، راكمنا خبرة متعددة في رد فعل الإنسان، وطريقه تفكيره وتصرفه في لحظات الشدة، فإعلان التشخيص الطبي مثلًا في السرطان أو بعض الأمراض المتقدمة الأخرى، ستقابل بداية بالرفض، بل والاحتجاج على الطبيب، وأحيانًا التشكيك بمهاراته وقدراته العلمية، هذا يتعلق بكل الحقائق التي يصعب على الدماغ معالجتها، لدرجة الوصول لمرحلة الاضطراب النفسي أو العقلي أحيانًا، أتذكر هنا حالة مريضة حُولت إلى عيادتي، نتيجة رفضها الدائم أن ابنها المحكوم بعملية اعتداء مجرم، كانت تصر على أن هناك مؤامرة من الدولة الفرنسية تجاه ولدها، وقد أصيبت بحالة اكتئاب شديد يكاد يقترب من الاكتئاب الذهاني، لأنها متمسكة بموقفها أن ابنها مظلوم، رغم أن جريمة ابنها قد التقطت بعدة كاميرات وبناء عليه اعترف أمام القاضي وبحضور الأم، رغم ذلك بقيت رافضة وشككت بكل تلك الإجراءات، ربما كانت ستتقبل تلك الحقائق وبشكل سهل جدًا لو كانت لشاب آخر غير ابنها (وهذا ما فعلته أنا كطبيب)، لكن تفكيرها وعاطفتها كأم يرفضان كل هذا، فالأمر صعب جدًا، هل تتخيلون كم الجهد العقلي والنفسي كي يستوعب عقل الأم أن ابنها مجرم!
هذه الصعوبة في تقبل بعض الحقائق، لا تتعلق بالأفراد المقربين فقط، بل وبالسياسيين أيضًا، فمن أشهر تجارب علم النفس، التي دُعمت بالحقائق العلمية، تجربة أجريت عام 2004 في أمريكا، أعطيت فيها تصريحات متناقضة عن عمد لمؤيدي بعض السياسيين، وطلب من هؤلاء المؤيدين إبداء رأيهم بتلك التصريحات، فقال معظم المشاركين إنه لا تناقض فيها وحاولوا إعطاء تفسيرات منطقية لكل ذلك. نعلم منذ سنوات عديدة أن هذا الأسلوب في التفكير أمر مكرر، وهو ما أطلق عليه في علم النفس بالتنافر المعرفي، لكن الجديد في تلك التجربة أنها أجريت على أشخاص في أثناء تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي، فلوحظ نشاط كبير لمناطق الدماغ المسؤولة عن العاطفة في أثناء تبرير التناقضات تلك، وهي مناطق لم تكن بتلك المستوى من النشاط في أثناء الكلام عن تصريحات لسياسيين لا يؤيدهم هؤلاء الأشخاص. إذًا أصبحنا نعرف وبالدليل العلمي المجرد أن للعاطفة دورًا كبيرًا في تفسير كل الأحداث السياسية، بما فيها المتناقضة.
فما موقفك من الهجري؟ الشرع؟ الطائفة الدرزية أو العلوية أو السنية؟
موقفك لا يتعلق بالانتماء فقط، فيمكن أن ترى بعض الأشخاص الذين يحملون مشاعر سلبية تجاه السنة مثلًا، حتى من أبناء الطائفة (دواعش، كلهم إرهابيون) ومن يحمل تلك المشاعر تجاه جميع العلويين (شبيحة، قتلة)، لكن بشكل عام معظم الأشخاص يفضلون الانغلاق على مجتمعاتهم في فترة الأزمات، فالخائف يأخذ الوضعية الجنينية كي يشعر بالأمان، فرحم الأم هو المكان المثالي للضعيف، هذا الرحم سيتحول إلى المجتمع بصيغته الأولى (طائفة، عشيرة، عائلة).
من يعتقد أن القيادة الحالية هم مجموعة إرهابيين، لن يقبل حتى بتحميلهم المسؤولية القانونية والأخلاقية كدولة، بل سيعتبرهم سبب كل مصائب البلد، ومن يحمل تصورًا إيجابيًا عنهم، سيتفاوت موقفه بين التحميل المباشر إلى التبرير المباشر، لكنه بالتأكيد لن يعتبرهم مشاركين بما حصل.
آلية اتخاذ الموقف هنا ستعتمد على الوقائع بنسبة ما تختلف من شخص لآخر، لكن الحقيقة ستشكل دومًا جزءًا من الموقف، ولن نجد أبدًا موقفًا ناتجًا عن الوقائع فقط، فمن يعتقد أن العلويين مسؤولون مباشرة وجميعًا عن جرائم الأسد، دماغه لن يعالج المعلومات التي تصله كمن يعتقد أن السنة كلهم “دواعش”، لن يكون الكردي (أو غير الكردي) الذي ينتظر إضعاف هذه القيادة كي تحتفظ “روجافا” بنوع من الاستقلال، كمواطن من اللاذقية، يخاف أي إضعاف لها، لأنه يعتقد أن مجازر مثل الحولة ستتكرر بحقه حالما تنسحب تلك القوات، غير ذاك العلوي المقتنع أن القوة كانت بيد الطائفة، وأن تلك القوات سلبت الحكم منهم، بغض النظر عن صحة تلك القراءات أو خطئها، أو وجود قراءات أخرى، فأنا هنا لست لتأييدها أو دحضها، وإنما لتحليل الموقف الذي سينتج عنها.
الانتماء ليس العامل الوحيد المتحكم بالرأي طبعًا، لكنها عملية معقدة من مشاعر وآراء مسبقة وتحليل وقراءات وتوجه، لذلك الحوار سيكون صعبًا جدًا بين المختلفين، لأنه دومًا يركز على واقعة واحدة، متناسيًا الظروف النفسية والأبعاد الاجتماعية التي قادت إلى ذاك الموقف، ومن هنا تأتي أهمية الحوار المجتمعي الحقيقي، ليناقش جميع المخاوف والتصورات بكل صراحة وشفافية، عندها فقط يمكن أن نفهم سر التمترسات تلك، ويحاول كل طرف أن يتفهم الطرف الآخر.
فهل السلطة الحالية قادرة على إجراء كل ذلك؟ مهما كان جوابي فلن يقنع الجميع، بسبب كل ما ناقشناه هنا.
عنب بلدي
——————————
وليد جنبلاط لـ”بني معروف” في ذكرى المعلّم الشهيد: حافظوا على هويتكم العربية واحذروا استخدامكم إسفيناً لتقسيم سوريا
تأكيد على “أهمية تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي ومتابعة ترسيم الحدود”
تحديث 17 أذار 2025
أطلق رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الأسبق وليد جنبلاط سلسلة مواقف سياسية لبنانية وإقليمية، في الذكرى الـ48 لاغتيال المعلّم والزعيم كمال جنبلاط، بما تحمله من أهمية كبرى هذا العام بعد سقوط النظام السوري.
وفي مستهلّ كلمته أمام حشد من المناصرين وأبناء الطائفة الدرزية ورجال الدين، قال جنبلاط في ذكرى “المعلّم”: “طوال 48 عاماً كانت هذه المناسبة فرصة لاستمرار التحدي والمواجهة ومناسبة للتذكير والبقاء، ونستمد منها إرادة الصمود والحياة. كنّا نقف إجلالاً أمام أرواح الشهداء الأبرياء من ابناء المنطقة وخارجها الذين سقطوا ظلما وغدراً”.
View this post on Instagram
A post shared by Annahar (@annaharnews)
أضاف: “إذ أشرقت على سوريا بعد غياب طويل شمس الحرية، وإذ سقط نظام القهر والاستبداد بعد 54 عاماً وتحرَّر الشعب السوري، وحيث أنّ الحكم الجديد بقيادة احمد الشرع اعتقل المسؤول عن جريمة اغتيال كمال جنبلاط ذاك النهار الاسود المدعو إبراهيم حويجة، أعلن باسمي وباسم عائلتي وباسم الحزب التقديم الاشتراكي ختم هذا التقليد كون عدالة التاريخ أخذت مجراها ولو بعد حين”.
أضاف جنبلاط: “تتطلّع المختارة والحزب إلى مرحلة جديدة من النضال والتحدّي، كالتمثّل بالاشتراكية الأكثر إنسانية، ويُثبّت الحزب المبادئ على حساب القشور والشخصنة ممّا يتطلّب ورشة تنظيمية استثنائية”.
كما أكد جنبلاط على “يوم المصالحة التاريخي برعاية البطريرك صفير في 3 آب 2001، واعتبار هذا الحدث أساساً للعلاقات اللبنانية فوق الانقسامات السياسية”.
في الشأن السياسي اللبناني، شدّد جنبلاط على ضرورة “التمسّك بالهوية العربية للبنان، هوية شوّهتها أنظمة القمع والاستبداد والمخابرات”، مؤكداً على “أهمية تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي ومتابعة ترسيم الحدود حفاظا للقرارات الدولية وحفاظاً على السيادة، إضافة إلى إعادة إعمار الجنوب من خلال وضع آلية موثوقة عربيّاً ودوليّاً”، داعياً أيضاً إلى “إعادة بناء العلاقات اللبنانية السورية على قواعد جديدة وترسيم الحدود برّاً وبحراً”.
إقليميّاً، دعا جنبلاط إلى “التمّسك بالحقوق الفلسطينية المشروعة وفي مقدّمها حل الدولتين والتأكيد على حق العودة والتمسك باتفاق الهدنة”.
وفي خطابه، توجّه جنبلاط إلى “بني معروف” قائلاً: “في مئوية سلطان الأطرش، حافظوا على هويتكم العربية وعلى تاريخكم النضالي المشترك مع الوطنيين العرب والسوريين في مواجهة الاستعمار والانتداب، وفي مواجهة احتلال الأرض في الجولان السوري”.
تابع قائلاً: “حافظوا على تراثكم الإسلامي واحذروا من الاختراق الصهيوني، واستخدامكم كإسفين لتقسيم سوريا، وحافظوا على إرثكم الفكري والنضالي والسياسي”، منتقداً الزيارة الأخيرة لدروز سوريا إلى إسرائيل، بالقول: “الزيارات الدينية وغير الدينية لا تُلغي الاحتلال الأرض في فلسطين والجولان”.
————————-
==========================
الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 17 أذار 2025
تحديث 17 أذار 2025
—————————-
عندما تتحوّل أل التعريف فتنةً دستوريةً/ سميرة المسالمة
17 مارس 2025
تبدو الصراعات السورية قد انتقلت من حيّز الصراع مع النظام إلى الصراع على ترتيبات البيت الداخلي. وهذا، رغم كلّ التوتّر الحاصل، يعدّ حالةً إيجابيةً تعيد الكرة إلى ملعب الحراك المجتمعي، وتؤكّد أهمية التكتلات المدنية أو الحزبية في تنظيم عملية النقد والبناء عليها قوّةً ناعمةً في سورية. فالسوريون، الذين ينطلقون من لحظة تاريخية هي يوم انطلاقة الثورة في 18 مارس/ آذار 2011، في وقت كان يحكم فيه سورية واحد من أعتى الأنظمة القمعية، انقسموا بين موالين لنظام بشّار الأسد ومعارضين له، وضحّوا من أجل حرّيتهم بمئات آلاف من الشهداء والمعتقلين، كذلك تهجّر نحو نصف سكّان سورية لهذا السبب. ومع ذلك، يستطيعون بالتأكيد أن يجعلوا من يوم النصر، 8 ديسمبر/ كانون الأول 2025، يوم وحدتهم وبداية تأسيسية لسورية حرّة ومواطنين أحرار.
لا تضرّ وحدةَ السوريين خلافاتُهم بشأن أيّ أمر تشريعي أو تنفيذي أو حتى إداري، باعتبار أن القضية الأساسية التي توافق عليها الشعب هي فرحة خلاصهم من النظام الأسدي. ولهذا، الخلاف الحاصل، واحتدامه في وسائل التواصل بين مكوّنات الشعب، بدءاً من طريقة الحوار الوطني ولجنته التحضيرية، وآلية العمل القاصرة التي انتابته، وعدم قدرته على لمّ شمل كلّ المكونات السورية تحت عباءته، ووضوح قصور معرفته بالسوريين، مروراً بموضوع اللجنة الدستورية ومحدودية تمثيلها، وما أنتجته من مسوّدة دستور وقّع عليها الرئيس أحمد الشرع، والانتقادات التي طاولت بعض موادّه بتهم الإقصاء والتطرّف والغموض وعدم المنطقية… ذلك كلّه لا ينبغي أن يكون سبباً لانقسامات أعمق.
وإذا مرّت الانتقادات التي وُجّهت للحوار الوطني سريعاً، فذلك لأن السلطات أعلنت مسبقاً أن مُخرجاته غير ملزمة، أي أنها مجرّد عناوين للحوار “لا تسمن ولا تغني من جوع”. إلا أن الإعلان الدستوري يمثّل منظومة الحياة السورية، وحقوق المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والإثنية والعرقية، حتى قيام دستور جديد. فخلال السنوات الخمس التي تؤسّس لسورية الجديدة، ستُعتمد مواد الإعلان، ما يعني أن كلّ انتقاد لها قد يمثّل عثرةً في طريق المتبنّين لهذه الانتقادات، وقد تتحوّل واحدةً من أسباب استمرار النزاع على خريطة سورية ووحدة أرضها وجيشها، والعدالة في توزيع ثرواتها.
صحيحٌ أن رئيس اللجنة، عبد الحميد العواك، متحدّث “دبلوماسي” في وسائل الإعلام، وهو يخفّف من التوتّر الذي يزيده بعض أعضاء اللجنة بتصريحات صادمة ومُستغرَبة من قانونيين، وإذ يؤكّد (في أكثر من لقاء متلفز) اعتمادهم على الدساتير السورية السابقة منعاً لإحداث فوضى واختلاف بشأن قضايا معينة، ومنها دستور 1950، فإنه لا يوضّح، مثالاً، لماذا لم تُعتمَد المادّة الأولى منه، وهي الأكثر أهمية، التي سعى السوريون في ثورتهم من أجلها، وتخفّف من حدّة المواد التي تليها. فالمادّة الأولى منه تنصّ: “سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامّة. وهي وحدة سياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلّي عن جزء من أراضيها. والشعب السوري جزء من الأمة العربية”. كان يمكن لهذه المادة أن تمنع التأويلات اللاحقة وتمنح الأمل بتمثيل نيابي لكلّ مكوّنات الشعب السوري لتحقيق الحرّيات المطلوبة للأفراد والجماعات.
وعلى الرغم من أهمية مواد الإعلان الدستوري، الذي جاء على عجل كما الحوار الوطني، إلا أنه لم يلحظ الاتفاقيات التي عقدها الرئيس أخيراً مع مكوّنَين أساسيَّين من الشعب السوري (الكرد والدروز)، وهو ما فتح المجال لتأويلات تتعلّق بالانقلاب على مضمونهما، رغم ما ساد الأوساط السورية من ارتياح كبير لتوقيع الاتفاقيتَين وانعكاساتهما على استقرار سورية وتنميتها. وكان يمكن استيعاب الرغبة الجامحة لدى أطراف سورية بالخروج من الدائرة المغلقة للنظام المركزي، الذي خبروه خلال حكم الأسد، وارتباطه الوثيق بالفساد، وتهميش المحافظات البعيدة من العاصمة، عبر تهدئة المحتجّين، والتأكيد أن العمل بالنظام المركزي الحالي مؤقّت، ريثما تُعدّ بنيةٌُ تحتيةٌ تسمح بتعديله في شكل آخر أو أقلّ مركزية.
وفي السياق ذاته، اعتماد المادة الثالثة من الإعلان على حرفية ما جاء في دستور 1950، أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع” من دون الإبقاء على نصّ المادة الأولى من الدستور نفسه، التي تنصّ على “النظام الديمقراطي النيابي”، جعل التخوّفات مشروعة. إذ إن “أل” التعريف في عبارة “المصدر الرئيس” قد تعني إغلاق الأبواب أمام الاستفادة أو الاستعانة بمصادر التشريع الأخرى، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما يطمئن شرائح كبيرة من السوريين، ويضمن حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب كلّها، وهنا لا أريد أن أدخل في موضوع حقوق المرأة التي اختصرت في حقّ التعليم والعمل، ما يعني العودة إلى العمل من أول الطريق لحقوق كثيرة يصعب التنازل عنها.
عوّل السوريون على أن يحسم الإعلان الدستوري القضايا الأساسية المختلف عليها، وأن يكون جازماً في صياغته مانعاً للتأويل، وضامناً فصل السلطات، من دون أن تعتريه إشكالات مثل تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، وغياب مسألة مساءلة الرئيس، وموعد إقرار قانون الأحزاب. ولهذا تحديداً أهميته في المرحلة الانتقالية، التي تؤسّس لانتخابات حرّة واختيارات موضوعية لممثليها في مجلس الشعب وعلى كرسيّ الرئاسة. وهذا يعني أن تعطيل موعد السماح بترخيص الأحزاب يؤدّي إلى تهميش المشاركة الشعبية، كذلك يجعل تجمّعاتها الحالية تحت طائلة المساءلة القانونية. قد يتحوّل حرف واحد، أو تعريف زائد، معضلة دستورية أو قانونية، ما يجعل الحاجة إلى الخبرات القانونية الدستورية تفوق الحاجة إلى توسيع تمثيل “المكوّنات”. وقد يكون من المستغرب أن العودة إلى دستور 1950، أي الرجوع 75 عاماً تحقّق للسوريين حرّيتهم المطلوبة، أكثر من إعلان دستوري أُعدّ في زمن الذكاء الاصطناعي وبرامج الدردشة الذكية والمجّانية، والأكثر أهميةً أنه أُعدّ بعد يوم النصر الكبير.
العربي الجديد
——————————
علينا أن نكون واقعيين تجاه الإعلان الدستوري/ أسامة العاشور
17-03-2025
تُكتب الدساتير من قبل لجان مُنتَخبة أو مُعيَّنة حسب ظروف كل بلد، ولكنها تُكتَب ليس وفق ما تراه هذه اللجان صحيحاً أو صائباً من وجهة نظرها أو حسب ما يقوله الفقه الدستوري، بل تكتُبه وفق التوافقات بين المُكوّنات والقوى السياسية والاجتماعية والعسكرية المؤثّرة في بلدٍ ما، وفي فترةٍ تاريخية معينة. ويتم عادةً الاستفتاء على الدستور شعبياً ليعكس الإرادة العامة، ليصبح بعدها نافذاً، ويتّصف عموماً بالديمومة والثبات، ولكي يخضع تعديلُه لإجراءاتٍ دستورية معقدة.
الإعلان الدستوري ليس دستوراً، وآليات كتابته وإقراره مختلفة. الإعلان الدستوري هو وثيقةٌ مؤقتة تُصدرها سلطةٌ حاكمة بعد تغييرٍ سياسيٍّ كبير، مثل انقلاب أو ثورة أو تأسيس دولة جديدة. لا يخضع الإعلان الدستوري للاستفتاء، ويُعتبر إطاراً قانونياً مرحلياً يُنظّم السلطات، ويُحدّد أسس الحكم إلى حين صياغة دستور دائم.
حدّدَ الإعلانُ الدستوري السوري الصادر عن رئيس الجمهورية بتاريخ 13 آذار (مارس) 2025 مدةَ المرحلة الانتقالية بخمس سنوات ميلادية، تبدأ من تاريخ نفاذ هذا الإعلان الدستوري، وتنتهي بعد إقرار دستورٍ دائمٍ للبلاد وتنظيم انتخاباتٍ وفقاً له. أي أننا لسنا في وضعٍ ديمقراطي حقيقي مُستنِد إلى انتخاباتٍ شعبية، وإنّما في مرحلةٍ انتقالية نتمنى أن تصل إلى الديمقراطية، وعليه لا يمكن تحميل الإعلان الدستوري أكثر مما يُطيق ويَحتمل.
الإعلان الدستوري ضمن شرطه
يجب مناقشة الإعلان الدستوري سياسياً في ظل شرطه التاريخي والواقعي، وليس فقط حقوقياً، لأن السياسة الواقعية وحدها هي التي تجد طرائِقها الواقعية والمُؤثرة.
أولاً: بخصوص النقاش حول مصادر التشريع
أوردَ الإعلانُ الدستوري أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. هذه مادةٌ كانت موجودةً في أغلب دساتير الدولة السورية، وليست بدعةً جديدةً جاء بها الإعلان، الذي لا يحق له الابتداع أو الفصل في القضايا الخلافية التي يمكن أن تُؤجّل إلى حين صدور الدستور الدائم، وقد حافظت على وجودها حتى أنظمةٌ كانت تدّعي «العلمانية». بالمقابل، كان حذفها سيسبّب غضباً ورفضاً كبيراً من قبل قطاعات أخرى من المجتمع، ويضع السلطة «ذات الطابع الإسلامي» في موقعٍ متناقضٍ ومواجهةٍ مباشرةٍ مع قاعدتها الاجتماعية التقليدية.
لم يَعنِ وجود هذا النص في العديد من الدساتير السابقة، استناداً إلى تجربتنا التاريخية مع وجوده، أن الفقه الإسلامي بات هو أساس التشريع في سورية، بل كانت هذه المادة أقرب ما تكون إلى مادةٍ توجيهيةٍ للمُشرّعين بألّا يسنّوا قوانين تتناقض مع المفهوم الغامض: «الفقه الإسلامي»، وظلَّ التشريعُ، على الدوام، من عمل السلطة التشريعية.
ورغم أني أرى عدم ضرورة وجود هذه المادة في الإعلان الدستوري أو في الدستور الدائم من حيث المبدأ، لأنها تعتبر مادةً تمييزيةً لصالح فئةٍ من المجتمع، وهذا غير مقبول في الدستور التي يستند إلى قاعدة المساواة في المواطنة؛ ولكن في المقابل لا ينبغي تجاهل إيراد المصادر الأخرى للتشريع التي تضمن الحريات والحقوق والمساواة ومدنية الدولة، والتي وردت في المادة 12 من الإعلان نفسه، والتي تَعتبِرُ «جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزءاً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري».
ثانيا: بالنسبة لشكل نظام الحكم وصلاحيات رئيس الجمهورية
المعروف أن أشكال الحُكم تتحدّد بثلاثة خياراتٍ أساسية؛ وهي النظام الرئاسي، وأشهر مثالٍ عليه هو نظام الولايات المتحدة الأميركية؛ والنظام البرلماني الذي يكون فيه رئيس الوزراء هو رأس السلطة التنفيذية، كما في حالة الهند وألمانيا؛ والنظام المُختلَط أو شبه الرئاسي، كما في فرنسا.
أعتقد شخصياً أن أفضل شكل لنِظام الحكم في المرحلة الديمقراطية في سوريا هو النظام المُختَلَط، أما في المرحلة الانتقالية فلا أعتقد أن هناك أرضية موضوعية لتطبيق النظام البرلماني أو المُختَلَط، وذلك بسبب غياب الاستقرار الأمني والسياسي وتَعدُّد الفصائل العسكرية خارج الجيش المشكّل حديثاً، وعدم اعتراف بعض تشكيلات المكونات السورية العسكرية بشرعية السلطة الجديدة، والتدخلات الخارجية المتنوعة، وعدم وجود أحزاب سياسية وازنة، واستمرار العقوبات الدولية التي تُعيق عجلة الاقتصاد عن الدوران. وفي الواقع، إنّ أيَّ انتخاباتٍ حالية في ظل غياب الأطر السياسية، ورغم صعوبة إجرائها وعدم شموليتها، فإنها قد تنتج القوى الأكثر تطرفاً وطائفية، ومزيداً من حالة الفوضى وعدم الاستقرار. لذلك، أرى أن شكل النظام الأفضل لسوريا حالياً هو النظام الرئاسي، وما ورد في الإعلان الدستوري من صلاحياتٍ للرئيس هي نفسها المعمول بها في عددٍ من الدول التي تأخذ بهذا النظام، مع ضرورة وجود آليةٍ لمحاسبة الرئيس، وهي التي غابت عن الإعلان الدستوري، ويُعتبر غيابُها نقصاً خطيراً يجب تداركه.
ثالثاً: الحريات والحقوق
إن المادة الثانية المرتبطة بالفصل بين السلطات، والمواد من 7 حتى 22 حول الحريات وتنظيم السلطات، هي مواد مُتقدّمة جداً على الصعيد الحقوقي وتؤسّسُ قاعدةً راسخةً للشروع في بناء دولة ديمقراطية. ولأول مرةٍ في تاريخ سورية ينصُّ الإعلان الدستوري على حماية المرأة من العنف في الفقرة 2 من المادة 21: «تكفل الدولة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمرأة، وتحميها من جميع أشكال القهر والظلم والعنف».
رابعاً: العدالة الانتقالية أساس بناء الدولة الجديدة
يُشكّلُ ورود المادتين 48 و49 في الإعلان الدستوري التزاماً قوياً ببناء الدولة على أساسٍ من تحقيق العدالة الانتقالية التي تعتمد آلياتٍ فاعلةٍ تشاورية مُرتكِزة على الضحايا لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف الضحايا والناجين، بالإضافة إلى تكريم الشهداء، وتجريم تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، وتجريم إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها. وتحافظ المادة 51، التي تنصُّ على: «استمرار العمل بالقوانين النافذة ما لم يتم تعديلها أو إلغاؤها» على استمرار عمل الدولة ومؤسساتها.
هل المطلوب رفضُ الإعلان أم تعديلُه؟
أعتقد أن المهمة الأساس في سوريا حالياً هي استكمالُ بناء الدولة بمُستويَيْها: سلطة الدولة، أي الإطار الشرعي الذي يُوجّه عمل الدولة من دستور وقوانين، واستكمال بناء أجهزة الدولة التي تنتُجُ عن تلك السلطة، مثل الوزارات والبرلمان والمحاكم والشرطة والجيش.
وهذه المهمة هي عملٌ تراكمي، وهي أسيرةُ الشروط التاريخية والتوافقات الاجتماعية والسياسية، و جميعنا نُدرك خطورة المرحلة الانتقالية وتحدياتها وحاجة السوريين والسوريات إلى توافقاتٍ وطنيةٍ جامعة، وإلى ضرورة تغليب «أخلاق المسؤولية» على «أخلاق الاقتناع أو الاعتقاد». نواقص الإعلان الدستوري أو الاختلاف مع بعض مواده لا يجب أن تدفعنا الى رفضه، لما لغياب الالية الدستورية والضوابط القانونية من خطورةٍ على عمل الدولة وأجهزتها، وعلى دفع العملية السياسية في سوريا إلى الأمام. وأيُّ تأخيرٍ في ذلك سينعكس سلباً على الاستقرار الأمني والسلم الأهلي.
إن الطريقة الأجدى سياسياً هي اعتبارُ مخرجات مؤتمر النصر ومؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري خطواتٍ منقوصةَ الشرعية لأنها لم تأتِ عبر توافقٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ شامل، ولذلك ينبغي الدفع لاستكمال هذه الخطوات. ويبدأ هذا الاستكمال بتحويل مجلس الشعب المُزمَع تشكيلُه إلى مجلسٍ وطنيٍّ تأسيسي حقيقي يُمثّل جميع القوى الديمقراطية والمجتمع المدني والمكونات السياسية والاجتماعية والقومية والدينية بكافة تلاوينها، ومن ثم تحديد النقاط والمَواد المُختَلف عليها، مثل اسم الدولة وصلاحيات رئيس الجمهورية ومرجعية التشريع وتجاهل التعددية القومية والدينية وكيفية تشكيل لجنة كتابة الدستور الدائم وغيرها من الاعتراضات المُحقّة. وينبغي أن تُفرَزَ هذه الاعتراضات بين مواضيع يمكن معالجتُها في إطار الدستور الدائم، وبين نقاط تحتاجُ تعديلاً في الإعلان الدستوري الراهن، ويمكن تعديلها وفق الآليات المعتمدة في الإعلان الدستوري، ليكون نقطةَ انطلاقٍ شرعية للسير قُدُماً في المرحلة انتقالية للوصول إلى دولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطية تعدّدية.
موقع الجمهورية
——————————
الإعلان الدستوري ومجلس تشخيص مصلحة النظام السوري/ نجيب جورج عوض
تحديث 17 أذار 2025
صدر مؤخراً الإعلان الدستوري الجديد، والذي كان السوريون يعلقون على إصداره ومضمونه آمالاً كباراً بأن تبرهن الإدارة الانتقالية ورئيسها بأنهم عازمون على تطبيق الوعود الكثيرة التي أهمروها على رؤؤس السوريين والسوريات في الأسابيع الماضية. أصر السوريون أن يمنحوا الإدارة الجديدة فرصة وأن ينتظروا من شجرة الزيتون أن تثمر تفاحاً، ومن غودو، الذي لم يأتِ في مسرحية صموئيل بيكيت، أن يصل على الموعد. ولكن، حدث ما توقعه آخرون وأنا منهم:
إعلان دستوري مفروض من علٍ غير خاضع لاستفتاء شعبي وغير مكترث لتطلعات الناس، يكرس نظام أتوقراطي-ثيوقراطي يمكن توصيفه بأنه المعادل السني السوري لمنظومة الحكم الأتوقراطي-ثيوقراطي في النظام الشيعي الإيراني.
في التوصيف الموضوعي السياسي لإطلاق الاعلان، وقَّعَ من صار بفضل الإعلان حاكماً بأمره جديد (بمشروعية باتت دستورية) على إعلان دستوري كارثي، قدمته له لجنة من الجهلة والمزيفين علمياً عينها هو شخصياً، كما سيعين ثلث مجلس الشورى الشعبي ومجلس القضاء الأعلى وكما سيعين نفسه كسلطة حكومية أيضًا ( ليصير ما كان حافظ الأسد قبله: المعلم الأول، والقاضي الأول، والجندي الأول، وكـلشي الأول).
وقد قام الإعلان المذكور بقوننة ثالوث العقل السياسي السلفي: خلافة-شريعة-مشورة. فعليًا، يمثل هذا الإعلان فرضًا لنظام أوتوقراطي أحادي يشرعن الاستبداد والاستئثار ويخلط السلطات ويذوبها في منصب الرئاسة ويعتبر البرلمان مجرد مجلس استشاري لمؤسسة الرئاسة ليس له سلطة النقد والمحاسبة والمراقبة:
عاد نظام البعث من النافذة وضاعت الدولة وتم دفنها في المهد. انتهى حلم المدنية والديمقراطية والانتخاب. وما عاد هناك مبرر أو حاجة لتأسيس أحزاب أو للتعاطي بالسياسة والشأن العام وفق تنافس حزبي وبرامج انتخابية. دخلت سوريا في عهد استبداد أسود جديد تم تدشينه بمذبحة مروعة في منطقة الساحل.
لم يبق للسوريين فعليًا أي نافذة ضوء حقيقية، بعد أن جاء الضوء الأخضر من إسرائيل والبيت الأبيض دعمًا غير مشروط، بل مفروض. سوريا الآن ستعود بعثية لخمس سنوات قادمة، يتولى المسؤولية فيها الاتباع والمحاظي ومن يثبتون الولاء المطلق للحاكم الأوحد ( في عهد الاسد، ما لم تكن بعثيا آو مرشحًا من الحزب لن يتم اختيارك).
ما يجعلني أعتقد أن هناك نسخة سنية معادلة لنظام إيران الثيوقراطي يتم تطبيقها في سوريا هو مشهد مثير للاهتمام شاهدناه أثناء إعلان الدستور. كان يجلس على شمال رئيس المرحلة الانتقالية مجموعة من ستة أشخاص يؤلفون “اللجنة الشرعية” التـي بدأ السوريون يلاحظون أنها تتولى مراقبة المشروعية الفقهية لكل ما يقرره أحمد الشرع وإدارته.
تتألف هذه اللجنة من حسن الدغيم، مصطفى موسى، عبد الرحيم عطون، مظهر الويس، الشيخ أسامة الرفاعي ونائبه في المجلس الإسلامي السوري. يمثل ثلاثة أشخاص من اللجنة أعضاء من منظومة مجلس الشورى الفقهي في هيئة تحرير الشام، والتي كانت تدير دويلة الهيئة في أدلب. أما حسن الدغيم، الذي ترأس لجنة التحضير للمؤتمر الوطني، فكان سابقاً مناهضاً للجولاني واليوم من أقرب المقربين إليه. أما الشيخ أسامة الرفاعي فهو عالم دين جليل من دمشق، ويحظى باحترامنا وتقديرنا جميعاً، فهو يمثل الإسلام الشامي التقليدي المحافظ ولكن المعتدل والمرن والبراغماتي.
إن الأدوار التي ستلعبها هذه اللجنة والتأثير الذي ستتركه على الساحة يقول لنا أنها تمثل “مجلس تشخيص مصلحة النظام” السوري المعادل في مهماته ودوره لمجلس تشخيص مصلحة النظام في النظام الثيوقراطي الإيراني. وفي مجلس تشخيص مصلحة النظام السوري المذكور، يجلس الشيخ أسامة الرفاعي كصوت سلفي إصلاحي (reformist Salafism) مقابل اصوات سلفية جهادية نكوصية (jihadist regressive Salafism) متشددة وصدامية .
وبالتالي، قد يلعب الشيخ الرفاعي دور “هاشمي رفسنجاني” النسخة السنية السورية للنموذج الإيراني الشيعي. سوريا ماضية إلى تطبيق نظام أتوقراطي-ثيؤقراطي يمثل المعادل السني لنظام الملالي الإيراني. والدليل أن الإعلان الدستوري الذي يعفي الرئيس من المحاسبة (عصمة سياسية) ويجعله مصدر تقرير كل شيء وتنصيب وتعيين كل طرف يذكرنا بعصمة الولي الفقيه من المحاسبة أيضاً (عصمة دينية وسياسية) من قبل أي سلطة أخرى في البلاد وسلطاته المطلقة في إيران.
والحال، أن النظام الجديد في سوريا يحظى ،كما يبدو لنا، بغطاء دولي خارجي من إسرائيل وأمريكـا وأوروبا. فإسرائيل تريد أن تخلق في سوريا نموذج أتوقراطي-ثيوقراطي لأنه يشبه النموذج السلطوي الذي تدير وفقه الحكومة اليمينية المتطرفة إسرائيل، ولأن النظام الأتوقراطي يعيد انتاج نظام استبداد يشبه النظام الأسدي الذي خلقته إسرائيل وفرضته على سوريا لمدة خمسة عقود.
أما أمريكـا ترامب، فيعنيها أن تكرر تطبيق النموذج المذكور لأنه أصلاً بضاعة أمريكية سوقتها أمريكا في إيران زخلقت بها ولاية الفقية التي أثبتت فاعليتها في تقرير مصير المنطقة، ولأن أي نموذج سلفي في سوريا سيرضي تركيا وقوى خليجية حليفة للأمريكي. أما الأوروبي فهو براغماتي لا يعنيه كثيراً من يحكم وكيف يحكم، بل أن ينفذ من يحكم لأوروبا ما تريده وهو إعادة اللاجئين ومنع عودة المجاهدين الأوروبيين إلى بلدانهم ومنع أي حركات جهادية من تهديد أوروبا في المستقبل انطلاقاً من سوريا أو عبوراً منها. وإذا كـان من ينفذ هذا نظام أتوقراطي-ثيوقراطي سوري فليكن.
تستمر سوريا في عبورها نفقاً مظلماً أسوداً سيفرض نفسه على السوريين من خمسة إلى خمسين عام قادمة. يعلم السوريون والسوريات هذا ولكنهم يستكينون ويصمتون خوفاً من عنف السلطة الجديدة وطائفيتها وتبريرها للقتل والقمع والترهيب باسم المظلومية. لكنهم يترجون فقط أن تنجح هذه الإدارة الحالية بأن تقدم بطريقة ما اقتصاداً وحياة إنسانية واعدة ومزدهرة وتؤمن لهم مصادر النجاة اليومية. عاد السوريون إلى مربع الاهتمام الوحيد بالعيش والنجاة، والذي استعبدهم نظام الأسد البعثي به لعقود…حما الله سوريا وأعانها.
نداء الوطن
——————————
في نقد الإعلان الدستوري/ إياد الجعفري
2025.03.17
ما الضرر الذي كان سيحيق بالأغلبية “العربية” ضمن مكوّنات الطيف السوري، لو تم اعتماد “الجمهورية السورية”، كاسم رسمي للدولة، إرضاءً للمكوّن “الكردي”، و”التركماني”، مثلاً؟ وما الخطر الذي كان سيتهدد الأغلبية “المسلمة” بين السوريين، لو لم يتم تحديد دين رئيس الجمهورية، هل ستنتخب الأغلبية رئيساً “مسيحياً”، مثلاً؟ وأي “فقه إسلامي” ذاك الذي سيكون مصدراً رئيسياً للتشريع في سوريا، في ضوء تنوّع المدارس الفقهية والاختلافات الهائلة بينها؟ وكيف يمكن التأكد من أن سوريا لن تذهب باتجاه حكم استبدادي جديد، في ظل صلاحيات مطلقة ممنوحة لرئيسٍ غير منتخب؟
تلخّص التساؤلات آنفة الذكر، أبرز الانتقادات الموجّهة لمضمون الإعلان الدستوري الصادر عن رئاسة الجمهورية، مؤخراً. ورغم طبيعته، بوصفه مؤقتاً، مرتبطاً بمرحلة انتقالية، إلا أن مدة هذه المرحلة، المحددة وفق الإعلان ذاته، بخمس سنوات، تجعل المخاوف من ترسيخ سلطة قائمة، بحكم الأمر الواقع، باتجاه حكم استبدادي مديد، مخاوف مبررة.
ومن المثير للاستغراب، أن ديباجة الإعلان الدستوري المستفزة للمكوّن الكردي، صدرت بعد أيام فقط من توقيع اتفاق بين رئيس الجمهورية، أحمد الشرع، وقائد قوات سورية الديمقراطية، مظلوم عبدي. اتفاق أثار تفاؤل السوريين بوحدة التراب السوري. وصدرت تلك الديباجة، بعد أيام فقط على أحداث الساحل السوري الدامية، التي تم الإقرار فيها بوقوع انتهاكات بحق مدنيين من الطائفة العلوية. وجاء ذلك بالتزامن مع توترات مع قيادات ضمن المكوّن الدرزي. وهنا يصبح التساؤل ملحاً أكثر: أما كان بالإمكان البحث عن صيغ توافقية وحيادية أكثر بين عموم السوريين، باختلاف ألوان طيفهم العِرقي والديني والطائفي؟!
إحدى أبرز الأجوبة التي سنطالعها بهذا الخصوص، تتعلّق بمرجعية الإعلان الدستوري، “المُستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950 (دستور الاستقلال)”، وفق ما جاء في مقدمة الإعلان. ونقرّ هنا، بأن نص الإعلان الدستوري جاء متقدماً على دستور عام 1950، من زاوية أن هذا الأخير ركّز بشكل أكثر راديكالية، في مقدمته، على البعد القومي (العربي)، والديني (الإسلامي)، للدولة السورية. ولا يبدو هذا المبرِر سليماً في واقعنا الراهن. ففي سوريا اليوم، يرتفع التشنج بين المكوّنات المتنوعة إلى أقصاه، ويُنذر بخطر التقسيم الواقعي والانعزال بين ألوان الطيف، وصولاً إلى خطر الاقتتال الداخلي. والاضطرابات التي عاشها الساحل السوري قبل أسبوع، كفيلة بتقديم صورة أولية عما قد ينتظر الاستقرار في الدولة السورية الوليدة، من تحديات. في واقعٍ كهذا، أما كان من الأَوْلَى البحث عن صِيغ توافقية، قادرة على جذب “الأقليات”، لتشعر بأنها ممثَّلَة في رسم معالم المرحلة الانتقالية، التي ستؤسس بدورها لمستقبل البلاد، ربما لعقود قادمة!
تظهر إحدى الأجوبة على تساؤلاتنا آنفة الذكر، في طبيعة الشخصيات التي حضرت توقيع الرئيس أحمد الشرع، للإعلان الدستوري. فإلى جانب أعضاء لجنة صياغة الإعلان، كان لافتاً حضور شخصيات ذات صفة دينية (إسلامية)، كان أبرزها، الشيخ أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري المعارض سابقاً، إلى جانب عبد الرحيم عطون، ومظهر الويس، أبرز شرعيي “هيئة تحرير الشام” سابقاً، المقرّبين من الشرع. في حين غاب عن التوقيع أي شخصية ذات ثقل، من ممثلي المكوّنات السورية الأخرى، خارج الأغلبية “العربية المسلمة السُنيّة”.
عملية الإخراج هذه، لحقل توقيع الإعلان الدستوري، تحمل رسائل إقصاء من الصعب تجاهلها. ويبدو أنها تستهدف اللعب على شدّ عصب “الأكثرية” خلف قيادة السلطة القائمة في دمشق، في ظل التوترات مع باقي الفرقاء السوريين. وهو رهانٌ خَطِر من جانب السلطة، التي التقطت فيما يبدو، مؤشرات التشنّج الجليّة لدى شريحة واسعة من “الأكثرية”، الخائفة من “ثورة مضادة” تستند إلى حواضن اجتماعية من “الأقليات”. وجاءت أحداث الساحل، التي بدأت بتمرّد مسلح نظّمه فلول النظام البائد، لتصب المزيد من النار على حالة التشنّج تلك. والتي يقابلها تشنّجٌ مقابل، من باقي المكوّنات، تزكيّه بدورها، قيادات وزعامات دينية، لا تخشى أن ترهن حواضنها “الأقلوية” لحسابات ضيّقة الأفق، متقاطعة مع مصالح أطراف خارجية، حتى لو أدى ذلك إلى فقدان حالة السلم الأهلي، الذي ستكون تلك الحواضن “الأقلوية”، أبرز ضحاياه.
في ظل انخفاض الحسّ بالمسؤولية ذاك، كان الرهان أكبر على إدارة الرئيس أحمد الشرع، أن تسحب البساط من تحت أقدام المتطرفين من قيادات باقي مكوّنات الطيف السوري، عبر إرسال رسائل طمأنة، لحواضن تلك المكوّنات، بأنها شريكة في رسم معالم مستقبل سوريا. وبدلاً من التمترس خلف صياغات تعبّر عن انتماء “الأكثرية”، الديني والقومي، كان من الأَسلَم، اختيار صياغات حيادية، توافقية، تخلق مساحة مشتركة أكبر، لجميع السوريين.
ما سبق يدفعنا للتساؤل: ما الذي منع السلطة القائمة في دمشق من احتضان كل ألوان الطيف السوري، عبر الوثيقة الناظمة لعمل مؤسسات الحكم خلال المرحلة الانتقالية؟ من الصعب التقصّي عن حسن نوايا في سياق الإجابة على هذا السؤال. فسلطات الرئيس المطلقة في الإعلان الدستوري قد تكون مربط الفرس، المستند إلى شد عصب “الأكثرية”، خلفه. وفي هذه الحيثية، يبدو حديث أعضاء لجنة إعداد الإعلان الدستوري، عن اعتمادهم مبدأ “الفصل الجامد والمطلق” للسلطات، مثيراً للسخرية. فأين الفصل بين السلطات، إن كان الرئيس يختار ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويختار لجنة للإشراف على تشكيل هيئات فرعية تنتخب الثلثين الآخرين؟ أي أن الرئيس يعيّن الثلث بصورة مباشرة، والثلثين الآخرين، بصورة غير مباشرة. من دون أن ننسى أن لا دور مطلقاً للسلطة التشريعية بمساءلة السلطة التنفيذية، وفق ديباجة الإعلان الدستوري، التي أشارت –في سابقة متناقضة مع روح الدساتير السورية المنصرمة- إلى أن أعضاء مجلس الشعب سيؤدون القسم أمام رئيس الجمهورية. وتُعيَّن أبرز مؤسسات السلطة القضائية، المحكمة الدستورية العليا، من رئيس الجمهورية. مع التذكير بأن الرئيس هنا، غير منتخب.
أبرز الردود على الانتقادات آنفة التفصيل، هي أن الالتفاف حول سلطة أمر واقع قادرة على ضبط المشهد الميداني في البلاد، أمر ضروري لحفظ سلامة الكيان السوري. والبديل قد يكون الانجرار نحو اقتتال فصائلي، وربما، أهلي، وانهيار مؤسساتي أكبر مما هو قائم الآن. والحيثية الأخيرة، محقّة بالطبع. ونقرّ بأولويتها. لكنه ذات المبرر الذي كان يستند إليه النظام البائد، جزئياً، في تبرير استمرار سلطته الاستبدادية، عبر فزاعة التخويف بانفراط العقد المزعوم بين السوريين.
ورغم الإقرار بضيق هامش البدائل مقارنة بالسلطة القائمة في دمشق، في الوقت الراهن، إلا أنه يبقى أن الرهان كان أكبر، على أفق أوسع في أداء هذه السلطة. رهان منسجم مع وعودها، بأفقٍ يتيح أن تكون بحق تلك السلطة المؤسسة لـ “دولة حديثة قائمة على العدل والكرامة والمواطنة الحقة”، كما نصت ديباجة مقدمة الإعلان الدستوري الصادر عنها. سلطة تحترم ما قدّمه “أبناء سوريا الأحرار” من دماء وتضحيات، ليكنسوا “إرث الاستبداد”، وفق الديباجة نفسها. إرثٌ يخشى كثيرون أنه يورَّثُ الآن. وهي خشية باتت مبررة بشدة، ليصبح الرهان على انتزاع التنازلات على صعيد الحرية والممارسة السياسية من السلطة القائمة، بالتنظيم والنشاط السياسي السلمي، في الشارع السوري. وهو الرهان الوحيد المتاح اليوم، لحفظ الكيان السوري والسلم الأهلي بين مكوّناته، بالتوازي مع لجم الاتجاه نحو ديكتاتورية جديدة.
تلفزيون سوريا
——————————–
التجربة السورية المثقلة بخيبات أخواتها/ المهدي مبروك
17 مارس 2025
مع أحداث الساحل السوري، أخيراً، نتأكّد، أكثر من أيّ وقت مضى، أننا في تونس لا نحتاج إلى كثير عناء لنقرأ تفاصيل المشهد السوري، والاطلاع على دقائق وقائعه وأحداثه، وتوقّع بعض المآلات الممكنة. لا يُعدّ هذا ادّعاءً أو امتلاكاً للغيب، ولكن نستحضر في هذا كلّه بعضاً ممّا قاله ابن خلدون، الذي عاش في بلدان المغرب العربي، وتمكّن، في آخر عمره، من زيارة الشام، والتوسّط بين وجهائها والطاغية تيمورلنك، في مساعٍ لا تزال غامضةً. فالتاريخ في باطنه عبرة على نحو أن ما يجري فيه يخضع أحياناً لبعض القوانين، ولنا ما يفيد أن الماضي باعتباره خزّان “التاريخ” يمكن أن يمنحنا بعض مفاتيح قراءة الحاضر. سنكون آنذاك أمام ضرورة المقارنة بين الماضي والحاضر، بين تجارب متقاربة إلى حدّ الشبه الكبير، لنستنتج مفاتيح قراءة التاريخ كلّه.
حين اندلعت الثورة السورية، كانت آخر الثورات التي التحقت بالموجه الأولى من “الربيع العربي”، الذي سرعان ما غدا خريفاً أو شتاءً بلا غيث. انتكست كلّ التجارب من تونس إلى اليمن، مروراً بليبيا ومصر… إلخ، وكانت المآلات أحياناً كريهةً ومرعبةً: حرب أهلية واقتتال وصعود لموجات الإرهاب وسلسلة من الانقلابات التي صعد معها العسكر إلى الحكم. لم تبقَ شمعة عربية واحدة ملهمة، انطفأت بفعل رياح سموم عديدة هبّت عاتيةً. ثمّة ما يشبه المنوال، أو “باراديم”، بلغة توماس كوهين، مؤرّخ العلم الأميركي المرموق، صحاب كتاب “بنية الثورات العلمية”. لا يمنعنا هذا الباراديم من مجرّد قراءة التجارب العربية بنظّارات التجارب العربية السابقة، بل يمنحنا بعضاً من القدرة على التوقّع، تماماً كما يحدث في العلوم الصحيحة، فليس المستقبل سحراً أو غيباً، بل هو ظاهرة يمكن توقّعها، فضلاً عن مئات الظواهر الأخرى التي لا يكون وقوعها خارج ما نتوقّع، بشرط أن تكون لها المعارف والمناهج والأدوات الجديرة والكفوءة.
تخضع الثورة السورية حتى الآن لمسار رسمت خطواته الثورات العربية الأخرى: سقوط النظام وانتصار الثوار. تليها مرحلة انتقالية قد تقصر أو تدوم، تتخلّلها أنواع مختلفة من النزاعات والخلافات الداخلية التي تُلقي من فوّهة براكينها حمماً من الكراهية والأحقاد والرغبة الدفينة في هدم المعبد، حتى ولو أباد من فيه جميعاً، ثمّ اقتحام عتبة الخيبة الكبرى. ثمّة مسارات يُعاد إنتاجها في كلّ التجارب العربية، قبل أن تصل إلى النهاية المحتومة، أوهام الانتصار النهائي وحالة النشوة القصوى التي تحلّق بالثائرين في ملكوت السماء. قال أحد شعراء تونس (وقد تحوّل فيما بعد شاعراً خصماً لمن حكموا): “لقد وهبتنا الثورة سماءً من الحرية”. تمتزج الثورة بسقف عالٍ، حدّ الجنون والتخمّر، من الطموحات والأوهام والحرّية والفوضى، وتتهتك جميع الحدود حدّ العقلانية والعبث. في تلك الجنّة يتسلّل الخصوم والأعداء لصناعة الحنين إلى العهد الذي ثار عليه الناس، ويتم اصطياد الخيبات والعثرات لصناعة “عهد ذهبي نتحسّر عليه ونبكي انقضاءه”. حين أطالع ما يكتب حالياً حول الأحداث التي شهدها الساحل السوري، تقفز إلى ذهني كثير من العبارات التي حفظْتها عن ظهر قلب، وهي التي قالها التونسيون أيضاً حين مرّت ثوراتهم ببعض عثرات، لا تختلف كثيراً عمّا تشهد سورية حالياً، الفاعلون والأسباب فقط يختلفون نسبياً، خصوصاً أن تونس لم تشهد عنفاً طائفياً، لكن شهدت ما يضاهيه عنفاً سياسياً وأيديولوجياً أهوجَ وقاتلاً.
هذا المنوال لا يشتغل في حفر خنادق في مسار الثورة، وقد تحوّلت دولةً، بل يشتغل أيضاً، وبكثير من المردودية، في أثناء بناء الدولة ذاتها في ما توافر من وقت يطول أو يقصر، بحسب خصوصية التجربة وطبيعة فاعليها، تبدو القوى المنتصرة عادةً، ووفق ذلك المنوال، مصرّة على مسك الأجهزة المتهالكة من حطام الدولة، مؤسّسات صلبة وإدارة وأجهزة، لا تعرف تماماً كيف “تصفّي” تلك التركة الثقيلة، ولكنّها مضطرة بين الحين والأخر إلى التنازل وغضّ الطرف بحثاً عن “المؤلّفة قلوبهم” من أجل الحصول على الحدّ الأدنى من “أداء الدولة”، حتى ولو على حساب الثورة ومهجتها لإشباع الحاجات الملحّة للناس، فليس لها بدائل كبرى لصياغة أجهزة جديدة وخلق شعب جديد، منه تنتقي المنتسبين إلى تلك الجيوش، بما فيها الجيش المدني لمئات آلاف منتسبي الإدارة العمومية. يتسلّل في ذلك كلّه خصوم الثورة وانتهازييها، و'”ثوار الربع الأخير من الساعة”، وحتى الذين كانوا من رموز النظام السابق، ويتم ذلك تحت مبررات عديدة: الحاجة الملحّة للمرافقة، والخبرة والتجربة… إلخ، فتتحوّل أجهزة الدولة غنيمةً أو “جيشّ ردّةٍ يحمل في الداخل ضدّه”، كما يقول الشاعر مظفّر النُوّاب.
خارج أجهزة الدولة، التي تحمل عادةً عناصرَ خرابها في ذاتها، يبدأ الثوار في بناء سلطات مؤقّتة طمعاً في بناء بعض المشروعية: دستور مؤقّت سمّي في تونس “الدستور الصغير” أي “تنظم مؤقّت للسلطة”، وها إن أشقاءنا في سورية سمّوه الإعلان الدستوري، ولا يختلف الأمر في مصر وليبيا بقطع النظر عن مآلات الدستور القديم، ويبدأ تشكل هيئة تشريعية تسمّيها بعض التجارب مجالس تأسيسية أو مجاس نيابية مؤقتة. لا شكّ أن هذه البناءات كلها تظلّ هشّة قابلة للتفكّك السريع، يبدأ آنذاك الخصوم (وما أكثرهم) في سحب الشرعية من هذه البناءات الهشّة والوليدة كلّها، من أجل العودة إلى “العهد الذهبي”، أو الارتماء في مسار آخر هو مزيج من الفوضى والحرب الأهلية، خصوصاً في ظلّ اختبارات عسيرة: العدالة الانتقالية، وبركان الذاكرة وآلامها.
تمرّ التجارب الانتقالية كلّها باختبارات عسيرة، وكلّما طال أمدها، كانت عرضة للانتكاس، خصوصاً في ظلّ تحرّش إقليمي ودولي بكلّ ما له صلة بالثورات العربية ورغبات التحرّر. كلما لانت الثورات واقتربت من المؤلّفة قلوبهم، ابتعدت من مهجتها وأصابها المسخ، وكلّما مالت إلى مهجتها وروحها، تكالب عليها الجميع، وتلك هي المعضلة التي لا نرى لها حلّاً سهلاً. ولا يحتاج السوريون إلى الاطلاع على دروسنا الخائبة والاتعاظ من تجاربنا الفاشلة، فلهم من الإرادة والذكاء والنخب ما بها يختارون أقوم المسالك، ولكن قد يحتاجون إلى النظر في مرآة قطار ثورتهم العاكسة، حتى يتجنّبوا المحطّات الفاشلة، وإنهم على ذلك لقادرون.
العربي الجديد
—————————
الصراع على سوريا الانتقالية: إلى أين؟/ عصام نعمان
تحديث 17 أذار 2025
اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية، لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سوريا «الانتقالية». إلى أين ستنتقل سوريا، أو بالأحرى إلى أين تنوي أمريكا و»إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟ لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر، لأن أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال، وكيف ستكون سوريا شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سوريا في حاضرها المضطرب، ولعل أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكرية في سوريا منذ سنوات عدّة، بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي كان قد نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل في شمال العراق، ومحافظة الرقة في شمال شرق سوريا. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسية بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون.
مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أمريكا المتمردين الكرد، الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال، الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإن واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سوريا، شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا، التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور. «إسرائيل» تحتل نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، وتسيطر على حوض نهر اليرموك، وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً، وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحدين الدروز السوريين، في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أن «إسرائيل» بدأت بتنفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزية في الجنوب السوري، والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانية امتدادها لضم دروز لبنان أيضاً. تركيا يهمها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصالي في جنوبيّ شرق أراضيها وشمال شرق سوريا. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقالي في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكرية لها في شمال البلاد. وسط تدخلات هذه الدول الثلاث القوية النافذة، يحاول الحكم الانتقالي في دمشق بقيادة أحمد الشرع، تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدموية العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق إلى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي، ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع « الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات، مع استمراره لمدة خمسة أعوام على الأقل. «الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة، أولها من «مجلس سوريا الديمقراطية»، الذراع السياسية لـِ»قسد»، الذي وصف أحمد الشرع بأنه «يكرر ما كان يفعله بشار الأسد»، مضيفاً أن الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعي ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وأن «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».
في الجنوب السوري، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل»، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة، بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة. من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطورات يمكن استخلاص النقاط السياسية الآتية:
*ما زال الاضطراب السياسي والطائفي هو السمة الغالبة في حاضر سوريا الانتقالية.
*عملية توحيد جغرافية سوريا، سياسياً وإدارياً، التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.
*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق، والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سوريا.
*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن من احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.
*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سوريا حيث الكرد و»قسد»، ولذلك تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في شمال البلاد.
*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة اخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقالي في دمشق.
*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سوريا بالوقت الحاضر، وإن ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.
*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي إلى سوريا في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.
*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سوريا، بالوقت الحاضر، بل ثمة تسليم بالدور الأمريكي الناشط بلا ادنى منافسة.
*لعل أدق توصيف لحال سوريا في الوقت الحاضر هو، أنها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.
إلى أن تستيقظ وتتوحد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سوريا مفتوحاً على شتى الاحتمالات.
كاتب لبناني
القدس العربي
——————————–
المادة 49 في زمن الأسد الأب والشرع… البادي أظلم
دمشق – المدن
الإثنين 2025/03/17
شاب في منتصف العشرينات، يحمل في عينيه نظرة حادة تختزن حقداً دفيناً، ينحدر من مدينة حماة، التي شهدت واحدة من أكثر المجازر دموية في تاريخ الأسد الأب. لم يُخفِ مشاعره أثناء عمله صحافياً في موقع إلكتروني، بل وثّقها على الورق بجرأة، حين كتب مقالاً عن معالم مدينته السياحية، وتحديداً عن نواعيرها الشهيرة، لكنه لم يتحدث عن تدفق الماء عبرها، بل عن دماءٍ غمرت ضفافها.
لم يطل الوقت حتى وجد نفسه معتقلاً، رغم الشعارات التي كانت تتغنى بحرية الصحافة آنذاك. أما التهمة، فكانت جاهزة: الخوض في محظورات رسمها القائد الراحل، والذي لم يكتفِ بتكميم الأفواه، بل أصدر في عام 1980 ما عُرف بـ”قانون الأسد 49″، الذي جرّم الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين وحكم على أعضائها بالإعدام.
اليوم، ذلك الصحافي ذاته، الذي دوَّت كلماته ذات يوم قائلاً: “سننتقم ولو بعد حين… نحن رضعنا الحقد رضاعة”، يهلل لما جرى من مجازر في الساحل السوري، معتبراً أن العدالة قد أخذت مجراها، وأن الحق عاد إلى أصحابه.
بعد 45 عاماً، وقّع الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، على إعلان دستوري يتضمن مادة تحمل الرقم ذاته، 49، لكنها جاءت هذه المرة لتجرّم كل من يمجّد الأسد أو ينكر جرائمه. وكأن عجلة الزمن دارت، وها هي الـ”كارما” تعيد ترتيب المشهد من جديد، حيث يُطلب منك أن تضع أقدامك في النهر، وتنتظر أن تجرف المياه جثث خصومهم. وكما يقول المثل: “السن بالسن… والبادي أظلم”.
رافقت هذه اللحظة احتفالات حاشدة في الساحات السورية، حيث أحيا السوريون ذكرى الثورة التي أنهت عقوداً من الطغيان، فيما حلّقت الطائرات في السماء، لكن هذه المرة لم تحمل براميل الموت، بل نثرت الورود احتفاءً بالنصر. وعلى الجانب الآخر، غطّى السواد الساحل السوري بأكمله.
كانت الثورة السورية لتكون واحدة من أعظم ثورات العصر، لو بقيت راياتها بيضاء، وأياديها نظيفة. ولم تخلف وراءها جائع أو خائف .. كانت ثورة ضد القهر والظلم لكن الإرث الدموي الثقيل الذي خلّفه آل الأسد، جعل السوريين يدفعون الثمن حتى اللحظة، منذ أن وُلد “الدستور ذو اللقب الدائم”، الذي حمل معه لعنة لا تزال تطارد البلاد.
أنا ربكم الاعلى
منذ عام 1920، تعاقب على سوريا 16 دستوراً، عكست كل منها المزاج العام أو التحولات السياسية في البلاد. وبينما كانت بعض هذه الدساتير خطوة نحو الحريات وترسيخ الديمقراطية، جاءت أخرى لتكرّس الحكم الفردي وتقيّد المؤسسات التشريعية.
من بين تلك الدساتير، برز دستور عام 1950 كأكثرها علمانية وتقدّمية، حيث قيّد صلاحيات رئيس الجمهورية، فمنعه من إصدار المراسيم التشريعية بشكل منفرد، وألزمه بتوقيع مشاريع القوانين التي يقرّها مجلس النواب خلال سبعة أيام. كما حدّ من سلطته في حلّ البرلمان، في خطوة تعكس توجّه اللجنة الدستورية آنذاك نحو تعزيز سلطة المؤسسة التشريعية على حساب النفوذ التنفيذي.
لكن هذه المرحلة الديمقراطية لم تدم طويلاً، إذ شهدت سوريا انقلاباً جذرياً مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وهو الذي اعتبر نفسه “رب السوريين الأعلى”. في عهده، دخل الدستور السوري في حالة من الجمود غير المسبوق، بعد أن فرض عبر المادة الثامنة هيمنة حزب البعث على الدولة والمجتمع، إلى جانب المادة الثالثة التي نصّت على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام”.
لم يكتفِ الأسد الأب بذلك، بل منح نفسه سلطات مطلقة، شملت إصدار التشريعات، وحلّ مجلس الشعب، وإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الحرب والتعبئة العامة، إضافة إلى كونه القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة.
ظل هذا الدستور سارياً طوال فترة حكمه، ما أدى إلى استشراء الفساد وتهميش السلطتين التشريعية والقضائية، حيث تحوّل البرلمان إلى أداة شكلية تخدم مراكز القوى الأمنية، فيما بات القضاء عاجزاً عن المحاسبة، مما أرسى دعائم نظام قائم على تحالفات مصلحية، مغلّفة بغطاء دستوري يخدم أجهزة القمع لا الدولة.
في عام 2000، مات حافظ الأسد، ليترك وراءه إرثاً من الاستبداد والقمع الذي حكم سوريا لأكثر من ثلاثين عاماً. وعلى الرغم من وفاته، لم يكن التغيير في الدستور السوري نتيجة لاحتياجات الشعب أو تطلعاته، بل كان جزءاً من خطة لتوريث السلطة داخل العائلة الحاكمة.
أولى الخطوات كانت تعديل السن القانوني للرئيس، حيث تم تخفيضه ليتيح لبشار الأسد أن يصبح “الوريث الشرعي” للعرش السوري، وهو ما تم بموافقة البرلمان الذي لا يعدو كونه جهازاً شكلياً تحت الهيمنة الأمنية.
لكن ما جاء بعد ذلك كان أكثر إثارة للقلق: بشار الأسد لم يتبنّ دستوراً جديداً يعكس تطلعات الشعب السوري، بل حافظ على دستور والده الذي أثبت فشله في تحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير البلاد. لقد وضع بشار دستور والده في “الثلاجة” ليظل سارياً، مما يعني أن النظام السوري استمر في تبني نفس السياسات الاستبدادية التي تعمقت خلال فترة حكم والده، دون أدنى اعتبار لتطلعات الشعب السوري نحو الديمقراطية والحرية.
هذا التعديل الدستوري لم يكن سوى خطوة من خطوات احتكار السلطة داخل العائلة الحاكمة، إذ تحوّل النظام السوري إلى مجرد مملكة غير معلنة، حيث يتوارث أبناء العائلة الحكم بينما الشعب السوري يدفع ثمن الاستبداد والتهميش.
تعديل اضطراري
عندما اندلعت الثورة السورية في عام 2011، وجد بشار الأسد نفسه في مأزق تاريخي لم يكن قادراً على مواجهته بنفس الأدوات القديمة. وهو ما دفعه إلى إصدار دستور جديد في 26 شباط/فبراير 2012، في محاولة يائسة لتلبية وعود الإصلاح التي زعم أنها ستكون حلاً للأزمة الشعبية المتصاعدة.
الخطوة الأولى كانت إلغاء المادة الشهيرة 8 من الدستور، التي كانت تكرّس حزب البعث العربي الاشتراكي كقائد للدولة والمجتمع، وهي محاولة لطمأنة الشعب السوري الذي خرج مطالباً بالحرية والتغيير. لكن رغم إلغاء هذه المادة، فإن الدستور الجديد لم يقدم أي تغييرات جوهرية. فحتى مع السماح بتأسيس أحزاب سياسية جديدة، لم يبرز أي حزب جديد على الساحة السياسية، بل بقي المشهد السياسي محكوماً بالسلطة المطلقة للنظام.
هذه التعديلات لم تكن سوى محاولة لتفريغ الاحتجاجات من مضمونها، وهي إشارة واضحة إلى أن النظام لم يكن يسعى إلى تغييرات حقيقية بل كان يحاول امتصاص الغضب الشعبي وتوجيهه إلى مسار بعيد عن مطالب الحرية والديمقراطية.
ومع مرور الوقت، استمر النظام في تعزيز قبضته الأمنية بشكل أكبر، وأصبحت السجون ملاذاً للمعتقلين السياسيين الذين تم احتجازهم منذ بداية الاحتجاجات. بدلاً من أن تفتح أبواب الحرية والتغيير، أصبحت أبواب السجون أوسع، لتكون شاهداً على فشل وعود الإصلاح المزعومة واستمرار القمع.
التفكك
مع سقوط النظام البائد، انهارت كل السلطات العسكرية والأمنية التي كانت تحكم البلاد بقبضة حديدية لعقود. لكن ما لم يكن يتوقعه البعض، هو أن الإعلان الدستوري الجديد سيركز بشكل أساسي على العدالة الانتقالية، ويُعتبر خطوة محورية نحو تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها السلطة السابقة، ووضع حدٍ للانتهاكات التي كانت تُمارس بحق المواطنين.
كان الهدف الرئيس لهذا الدستور هو تجريم انتهاكات النظام البائد، ومنح مهمة حماية الوطن والمواطنين للجيش، فضلاً عن تأكيد أهمية الحفاظ على السلم الأهلي في مرحلة ما بعد سقوط النظام. لكن الأهم من كل ذلك، كان ضمان استقلالية القضاء وتمكينه من محاسبة الفاسدين والمجرمين الذين شاركوا في إذلال الشعب السوري على مدار سنوات من القمع.
ولعل الأبرز في هذا التعديل الدستوري هو محاولته رد اعتبار الحقائق التي حاول النظام السابق طمسها، وتحقيق العدالة للأجيال القادمة. استلهم الاعلان الدستوري السوري الجديد روح دساتير أكثر تقدماً مثل دستور 1950، الذي تميز بالعقلانية والحرص على فصل السلطات وتقديم الحق في العدالة على كل اعتبار آخر. ومع ذلك، لم يغفل الدستور الجديد عن توجيه رسالة صارمة لأولئك الذين قد يسعون إلى “تبييض” صفحة الأسد الأب والابن أو محو جرائمه. بل كان الهدف واضحاً: ضمان أن هذه الجرائم ستظل حية في الذاكرة الجمعية للشعب السوري، وأن محاسبتها ستكون جزءاً أساسياً من العملية السياسية المستقبلية.
—————————
==========================