الإعلان الدستوري لسوريا 2025سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 17 أذار 2025

تحديث 17 أذار 2025

—————————-

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

الإعلان الدستوري لسوريا 2025

——————————–

عندما تتحوّل أل التعريف فتنةً دستوريةً/ سميرة المسالمة

17 مارس 2025

تبدو الصراعات السورية قد انتقلت من حيّز الصراع مع النظام إلى الصراع على ترتيبات البيت الداخلي. وهذا، رغم كلّ التوتّر الحاصل، يعدّ حالةً إيجابيةً تعيد الكرة إلى ملعب الحراك المجتمعي، وتؤكّد أهمية التكتلات المدنية أو الحزبية في تنظيم عملية النقد والبناء عليها قوّةً ناعمةً في سورية. فالسوريون، الذين ينطلقون من لحظة تاريخية هي يوم انطلاقة الثورة في 18 مارس/ آذار 2011، في وقت كان يحكم فيه سورية واحد من أعتى الأنظمة القمعية، انقسموا بين موالين لنظام بشّار الأسد ومعارضين له، وضحّوا من أجل حرّيتهم بمئات آلاف من الشهداء والمعتقلين، كذلك تهجّر نحو نصف سكّان سورية لهذا السبب. ومع ذلك، يستطيعون بالتأكيد أن يجعلوا من يوم النصر، 8 ديسمبر/ كانون الأول 2025، يوم وحدتهم وبداية تأسيسية لسورية حرّة ومواطنين أحرار.

لا تضرّ وحدةَ السوريين خلافاتُهم بشأن أيّ أمر تشريعي أو تنفيذي أو حتى إداري، باعتبار أن القضية الأساسية التي توافق عليها الشعب هي فرحة خلاصهم من النظام الأسدي. ولهذا، الخلاف الحاصل، واحتدامه في وسائل التواصل بين مكوّنات الشعب، بدءاً من طريقة الحوار الوطني ولجنته التحضيرية، وآلية العمل القاصرة التي انتابته، وعدم قدرته على لمّ شمل كلّ المكونات السورية تحت عباءته، ووضوح قصور معرفته بالسوريين، مروراً بموضوع اللجنة الدستورية ومحدودية تمثيلها، وما أنتجته من مسوّدة دستور وقّع عليها الرئيس أحمد الشرع، والانتقادات التي طاولت بعض موادّه بتهم الإقصاء والتطرّف والغموض وعدم المنطقية… ذلك كلّه لا ينبغي أن يكون سبباً لانقسامات أعمق.

وإذا مرّت الانتقادات التي وُجّهت للحوار الوطني سريعاً، فذلك لأن السلطات أعلنت مسبقاً أن مُخرجاته غير ملزمة، أي أنها مجرّد عناوين للحوار “لا تسمن ولا تغني من جوع”. إلا أن الإعلان الدستوري يمثّل منظومة الحياة السورية، وحقوق المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والإثنية والعرقية، حتى قيام دستور جديد. فخلال السنوات الخمس التي تؤسّس لسورية الجديدة، ستُعتمد مواد الإعلان، ما يعني أن كلّ انتقاد لها قد يمثّل عثرةً في طريق المتبنّين لهذه الانتقادات، وقد تتحوّل واحدةً من أسباب استمرار النزاع على خريطة سورية ووحدة أرضها وجيشها، والعدالة في توزيع ثرواتها.

صحيحٌ أن رئيس اللجنة، عبد الحميد العواك، متحدّث “دبلوماسي” في وسائل الإعلام، وهو يخفّف من التوتّر الذي يزيده بعض أعضاء اللجنة بتصريحات صادمة ومُستغرَبة من قانونيين، وإذ يؤكّد (في أكثر من لقاء متلفز) اعتمادهم على الدساتير السورية السابقة منعاً لإحداث فوضى واختلاف بشأن قضايا معينة، ومنها دستور 1950، فإنه لا يوضّح، مثالاً، لماذا لم تُعتمَد المادّة الأولى منه، وهي الأكثر أهمية، التي سعى السوريون في ثورتهم من أجلها، وتخفّف من حدّة المواد التي تليها. فالمادّة الأولى منه تنصّ: “سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامّة. وهي وحدة سياسية لا تتجزأ ولا يجوز التخلّي عن جزء من أراضيها. والشعب السوري جزء من الأمة العربية”. كان يمكن لهذه المادة أن تمنع التأويلات اللاحقة وتمنح الأمل بتمثيل نيابي لكلّ مكوّنات الشعب السوري لتحقيق الحرّيات المطلوبة للأفراد والجماعات.

وعلى الرغم من أهمية مواد الإعلان الدستوري، الذي جاء على عجل كما الحوار الوطني، إلا أنه لم يلحظ الاتفاقيات التي عقدها الرئيس أخيراً مع مكوّنَين أساسيَّين من الشعب السوري (الكرد والدروز)، وهو ما فتح المجال لتأويلات تتعلّق بالانقلاب على مضمونهما، رغم ما ساد الأوساط السورية من ارتياح كبير لتوقيع الاتفاقيتَين وانعكاساتهما على استقرار سورية وتنميتها. وكان يمكن استيعاب الرغبة الجامحة لدى أطراف سورية بالخروج من الدائرة المغلقة للنظام المركزي، الذي خبروه خلال حكم الأسد، وارتباطه الوثيق بالفساد، وتهميش المحافظات البعيدة من العاصمة، عبر تهدئة المحتجّين، والتأكيد أن العمل بالنظام المركزي الحالي مؤقّت، ريثما تُعدّ بنيةٌُ تحتيةٌ تسمح بتعديله في شكل آخر أو أقلّ مركزية.

وفي السياق ذاته، اعتماد المادة الثالثة من الإعلان على حرفية ما جاء في دستور 1950، أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع” من دون الإبقاء على نصّ المادة الأولى من الدستور نفسه، التي تنصّ على “النظام الديمقراطي النيابي”، جعل التخوّفات مشروعة. إذ إن “أل” التعريف في عبارة “المصدر الرئيس” قد تعني إغلاق الأبواب أمام الاستفادة أو الاستعانة بمصادر التشريع الأخرى، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما يطمئن شرائح كبيرة من السوريين، ويضمن حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب كلّها، وهنا لا أريد أن أدخل في موضوع حقوق المرأة التي اختصرت في حقّ التعليم والعمل، ما يعني العودة إلى العمل من أول الطريق لحقوق كثيرة يصعب التنازل عنها.

عوّل السوريون على أن يحسم الإعلان الدستوري القضايا الأساسية المختلف عليها، وأن يكون جازماً في صياغته مانعاً للتأويل، وضامناً فصل السلطات، من دون أن تعتريه إشكالات مثل تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، وغياب مسألة مساءلة الرئيس، وموعد إقرار قانون الأحزاب. ولهذا تحديداً أهميته في المرحلة الانتقالية، التي تؤسّس لانتخابات حرّة واختيارات موضوعية لممثليها في مجلس الشعب وعلى كرسيّ الرئاسة. وهذا يعني أن تعطيل موعد السماح بترخيص الأحزاب يؤدّي إلى تهميش المشاركة الشعبية، كذلك يجعل تجمّعاتها الحالية تحت طائلة المساءلة القانونية. قد يتحوّل حرف واحد، أو تعريف زائد، معضلة دستورية أو قانونية، ما يجعل الحاجة إلى الخبرات القانونية الدستورية تفوق الحاجة إلى توسيع تمثيل “المكوّنات”. وقد يكون من المستغرب أن العودة إلى دستور 1950، أي الرجوع 75 عاماً تحقّق للسوريين حرّيتهم المطلوبة، أكثر من إعلان دستوري أُعدّ في زمن الذكاء الاصطناعي وبرامج الدردشة الذكية والمجّانية، والأكثر أهميةً أنه أُعدّ بعد يوم النصر الكبير.

العربي الجديد

——————————

علينا أن نكون واقعيين تجاه الإعلان الدستوري/ أسامة العاشور

17-03-2025

        تُكتب الدساتير من قبل لجان مُنتَخبة أو مُعيَّنة حسب ظروف كل بلد، ولكنها تُكتَب ليس وفق ما تراه هذه اللجان صحيحاً أو صائباً من وجهة نظرها أو حسب ما يقوله الفقه الدستوري، بل تكتُبه وفق التوافقات بين المُكوّنات والقوى السياسية والاجتماعية والعسكرية المؤثّرة في بلدٍ ما، وفي فترةٍ تاريخية معينة. ويتم عادةً الاستفتاء على الدستور شعبياً ليعكس الإرادة العامة، ليصبح بعدها نافذاً، ويتّصف عموماً بالديمومة والثبات، ولكي يخضع تعديلُه لإجراءاتٍ دستورية معقدة.

        الإعلان الدستوري ليس دستوراً، وآليات كتابته وإقراره مختلفة. الإعلان الدستوري هو وثيقةٌ مؤقتة تُصدرها سلطةٌ حاكمة بعد تغييرٍ سياسيٍّ كبير، مثل انقلاب أو ثورة أو تأسيس دولة جديدة. لا يخضع الإعلان الدستوري للاستفتاء، ويُعتبر إطاراً قانونياً مرحلياً يُنظّم السلطات، ويُحدّد أسس الحكم إلى حين صياغة دستور دائم.

        حدّدَ الإعلانُ الدستوري السوري الصادر عن رئيس الجمهورية بتاريخ 13 آذار (مارس) 2025 مدةَ المرحلة الانتقالية بخمس سنوات ميلادية، تبدأ من تاريخ نفاذ هذا الإعلان الدستوري، وتنتهي بعد إقرار دستورٍ دائمٍ للبلاد وتنظيم انتخاباتٍ وفقاً له. أي أننا لسنا في وضعٍ ديمقراطي حقيقي مُستنِد إلى انتخاباتٍ شعبية، وإنّما في مرحلةٍ انتقالية نتمنى أن تصل إلى الديمقراطية، وعليه لا يمكن تحميل الإعلان الدستوري أكثر مما يُطيق ويَحتمل.

        الإعلان الدستوري ضمن شرطه

        يجب مناقشة الإعلان الدستوري سياسياً في ظل شرطه التاريخي والواقعي، وليس فقط حقوقياً، لأن السياسة الواقعية وحدها هي التي تجد طرائِقها الواقعية والمُؤثرة.

        أولاً: بخصوص النقاش حول مصادر التشريع

        أوردَ الإعلانُ الدستوري أن الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. هذه مادةٌ كانت موجودةً في أغلب دساتير الدولة السورية، وليست بدعةً جديدةً جاء بها الإعلان، الذي لا يحق له الابتداع أو الفصل في القضايا الخلافية التي يمكن أن تُؤجّل إلى حين صدور الدستور الدائم، وقد حافظت على وجودها حتى أنظمةٌ كانت تدّعي «العلمانية». بالمقابل، كان حذفها سيسبّب غضباً ورفضاً كبيراً من قبل قطاعات أخرى من المجتمع، ويضع السلطة «ذات الطابع الإسلامي» في موقعٍ متناقضٍ ومواجهةٍ مباشرةٍ مع قاعدتها الاجتماعية التقليدية.

        لم يَعنِ وجود هذا النص في العديد من الدساتير السابقة، استناداً إلى تجربتنا التاريخية مع وجوده، أن الفقه الإسلامي بات هو أساس التشريع في سورية، بل كانت هذه المادة أقرب ما تكون إلى مادةٍ توجيهيةٍ للمُشرّعين بألّا يسنّوا قوانين تتناقض مع المفهوم الغامض: «الفقه الإسلامي»، وظلَّ التشريعُ، على الدوام، من عمل السلطة التشريعية.

        ورغم أني أرى عدم ضرورة وجود هذه المادة في الإعلان الدستوري أو في الدستور الدائم من حيث المبدأ، لأنها تعتبر مادةً تمييزيةً لصالح فئةٍ من المجتمع، وهذا غير مقبول في الدستور التي يستند إلى قاعدة المساواة في المواطنة؛ ولكن في المقابل لا ينبغي تجاهل إيراد المصادر الأخرى للتشريع التي تضمن الحريات والحقوق والمساواة ومدنية الدولة، والتي وردت في المادة 12 من الإعلان نفسه، والتي تَعتبِرُ «جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزءاً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري».

        ثانيا: بالنسبة لشكل نظام الحكم وصلاحيات رئيس الجمهورية

        المعروف أن أشكال الحُكم تتحدّد بثلاثة خياراتٍ أساسية؛ وهي النظام الرئاسي، وأشهر مثالٍ عليه هو نظام الولايات المتحدة الأميركية؛ والنظام البرلماني الذي يكون فيه رئيس الوزراء هو رأس السلطة التنفيذية، كما في حالة الهند وألمانيا؛ والنظام المُختلَط أو شبه الرئاسي، كما في فرنسا.

        أعتقد شخصياً أن أفضل شكل لنِظام الحكم في المرحلة الديمقراطية في سوريا هو النظام المُختَلَط، أما في المرحلة الانتقالية فلا أعتقد أن هناك أرضية موضوعية لتطبيق النظام البرلماني أو المُختَلَط، وذلك بسبب غياب الاستقرار الأمني والسياسي وتَعدُّد الفصائل العسكرية خارج الجيش المشكّل حديثاً، وعدم اعتراف بعض تشكيلات المكونات السورية العسكرية بشرعية السلطة الجديدة، والتدخلات الخارجية المتنوعة، وعدم وجود أحزاب سياسية وازنة، واستمرار العقوبات الدولية التي تُعيق عجلة الاقتصاد عن الدوران. وفي الواقع، إنّ أيَّ انتخاباتٍ حالية في ظل غياب الأطر السياسية، ورغم صعوبة إجرائها وعدم شموليتها، فإنها قد تنتج القوى الأكثر تطرفاً وطائفية، ومزيداً من حالة الفوضى وعدم الاستقرار. لذلك، أرى أن شكل النظام الأفضل لسوريا حالياً هو النظام الرئاسي، وما ورد في الإعلان الدستوري من صلاحياتٍ للرئيس هي نفسها المعمول بها في عددٍ من الدول التي تأخذ بهذا النظام، مع ضرورة وجود آليةٍ لمحاسبة الرئيس، وهي التي غابت عن الإعلان الدستوري، ويُعتبر غيابُها نقصاً خطيراً يجب تداركه.

        ثالثاً: الحريات والحقوق

        إن المادة الثانية المرتبطة بالفصل بين السلطات، والمواد من 7 حتى 22 حول الحريات وتنظيم السلطات، هي مواد مُتقدّمة جداً على الصعيد الحقوقي وتؤسّسُ قاعدةً راسخةً للشروع في بناء دولة ديمقراطية. ولأول مرةٍ في تاريخ سورية ينصُّ الإعلان الدستوري على حماية المرأة من العنف في الفقرة 2 من المادة 21: «تكفل الدولة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمرأة، وتحميها من جميع أشكال القهر والظلم والعنف».

        رابعاً: العدالة الانتقالية أساس بناء الدولة الجديدة

        يُشكّلُ ورود المادتين 48 و49 في الإعلان الدستوري التزاماً قوياً ببناء الدولة على أساسٍ من تحقيق العدالة الانتقالية التي تعتمد آلياتٍ فاعلةٍ تشاورية مُرتكِزة على الضحايا لتحديد سبل المساءلة، والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف الضحايا والناجين، بالإضافة إلى تكريم الشهداء، وتجريم تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، وتجريم إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها. وتحافظ المادة 51، التي تنصُّ على: «استمرار العمل بالقوانين النافذة ما لم يتم تعديلها أو إلغاؤها» على استمرار عمل الدولة ومؤسساتها.

        هل المطلوب رفضُ الإعلان أم تعديلُه؟

        أعتقد أن المهمة الأساس في سوريا حالياً هي استكمالُ بناء الدولة بمُستويَيْها: سلطة الدولة، أي الإطار الشرعي الذي يُوجّه عمل الدولة من دستور وقوانين، واستكمال بناء أجهزة الدولة التي تنتُجُ عن تلك السلطة، مثل الوزارات والبرلمان والمحاكم والشرطة والجيش.

        وهذه المهمة هي عملٌ تراكمي، وهي أسيرةُ الشروط التاريخية والتوافقات الاجتماعية والسياسية، و جميعنا نُدرك خطورة المرحلة الانتقالية وتحدياتها وحاجة السوريين والسوريات إلى توافقاتٍ وطنيةٍ جامعة، وإلى ضرورة  تغليب «أخلاق المسؤولية» على «أخلاق الاقتناع أو الاعتقاد». نواقص الإعلان الدستوري أو الاختلاف مع بعض مواده لا يجب أن تدفعنا الى رفضه، لما لغياب الالية الدستورية والضوابط القانونية من خطورةٍ على عمل الدولة وأجهزتها، وعلى دفع العملية السياسية في سوريا إلى الأمام. وأيُّ تأخيرٍ في ذلك سينعكس سلباً على الاستقرار الأمني والسلم الأهلي.

        إن الطريقة الأجدى سياسياً هي اعتبارُ مخرجات مؤتمر النصر ومؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري خطواتٍ منقوصةَ الشرعية لأنها لم تأتِ عبر توافقٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ شامل، ولذلك ينبغي الدفع لاستكمال هذه الخطوات. ويبدأ هذا الاستكمال بتحويل مجلس الشعب المُزمَع تشكيلُه إلى مجلسٍ وطنيٍّ تأسيسي حقيقي يُمثّل جميع القوى الديمقراطية والمجتمع المدني والمكونات السياسية والاجتماعية والقومية والدينية بكافة تلاوينها، ومن ثم تحديد النقاط والمَواد المُختَلف عليها، مثل اسم الدولة وصلاحيات رئيس الجمهورية ومرجعية التشريع وتجاهل التعددية القومية والدينية وكيفية تشكيل لجنة كتابة الدستور الدائم وغيرها من الاعتراضات المُحقّة. وينبغي أن تُفرَزَ هذه الاعتراضات بين مواضيع يمكن معالجتُها في إطار الدستور الدائم، وبين نقاط تحتاجُ تعديلاً في الإعلان الدستوري الراهن، ويمكن تعديلها وفق الآليات المعتمدة في الإعلان الدستوري، ليكون نقطةَ انطلاقٍ شرعية للسير قُدُماً في المرحلة انتقالية للوصول إلى دولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطية تعدّدية.

موقع الجمهورية

——————————

الإعلان الدستوري ومجلس تشخيص مصلحة النظام السوري/ نجيب جورج عوض

تحديث 17 أذار 2025

صدر مؤخراً الإعلان الدستوري الجديد، والذي كان السوريون يعلقون على إصداره ومضمونه آمالاً كباراً بأن تبرهن الإدارة الانتقالية ورئيسها بأنهم عازمون على تطبيق الوعود الكثيرة التي أهمروها على رؤؤس السوريين والسوريات في الأسابيع الماضية. أصر السوريون أن يمنحوا الإدارة الجديدة فرصة وأن ينتظروا من شجرة الزيتون أن تثمر تفاحاً، ومن غودو، الذي لم يأتِ في مسرحية صموئيل بيكيت، أن يصل على الموعد. ولكن، حدث ما توقعه آخرون وأنا منهم:

إعلان دستوري مفروض من علٍ غير خاضع لاستفتاء شعبي وغير مكترث لتطلعات الناس، يكرس نظام أتوقراطي-ثيوقراطي يمكن توصيفه بأنه المعادل السني السوري لمنظومة الحكم الأتوقراطي-ثيوقراطي في النظام الشيعي الإيراني.

في التوصيف الموضوعي السياسي لإطلاق الاعلان، وقَّعَ من صار بفضل الإعلان حاكماً بأمره جديد (بمشروعية باتت دستورية) على إعلان دستوري كارثي، قدمته له لجنة من الجهلة والمزيفين علمياً عينها هو شخصياً، كما سيعين ثلث مجلس الشورى الشعبي ومجلس القضاء الأعلى وكما سيعين نفسه كسلطة حكومية أيضًا ( ليصير ما كان حافظ الأسد قبله: المعلم الأول، والقاضي الأول، والجندي الأول، وكـلشي الأول).

وقد قام الإعلان المذكور بقوننة ثالوث العقل السياسي السلفي: خلافة-شريعة-مشورة. فعليًا، يمثل هذا الإعلان فرضًا لنظام أوتوقراطي أحادي يشرعن الاستبداد والاستئثار ويخلط السلطات ويذوبها في منصب الرئاسة ويعتبر البرلمان مجرد مجلس استشاري لمؤسسة الرئاسة ليس له سلطة النقد والمحاسبة والمراقبة:

عاد نظام البعث من النافذة وضاعت الدولة وتم دفنها في المهد. انتهى حلم المدنية والديمقراطية والانتخاب. وما عاد هناك مبرر أو حاجة لتأسيس أحزاب أو للتعاطي بالسياسة والشأن العام وفق تنافس حزبي وبرامج انتخابية. دخلت سوريا في عهد استبداد أسود جديد تم تدشينه بمذبحة مروعة في منطقة الساحل.

لم يبق للسوريين فعليًا أي نافذة ضوء حقيقية، بعد أن جاء الضوء الأخضر من إسرائيل والبيت الأبيض دعمًا غير مشروط، بل مفروض. سوريا الآن ستعود بعثية لخمس سنوات قادمة، يتولى المسؤولية فيها الاتباع والمحاظي ومن يثبتون الولاء المطلق للحاكم الأوحد ( في عهد الاسد، ما لم تكن بعثيا آو مرشحًا من الحزب لن يتم اختيارك).

ما يجعلني أعتقد أن هناك نسخة سنية معادلة لنظام إيران الثيوقراطي يتم تطبيقها في سوريا هو مشهد مثير للاهتمام شاهدناه أثناء إعلان الدستور. كان يجلس على شمال رئيس المرحلة الانتقالية مجموعة من ستة أشخاص يؤلفون “اللجنة الشرعية” التـي بدأ السوريون يلاحظون أنها تتولى مراقبة المشروعية الفقهية لكل ما يقرره أحمد الشرع وإدارته.

تتألف هذه اللجنة من حسن الدغيم، مصطفى موسى، عبد الرحيم عطون، مظهر الويس، الشيخ أسامة الرفاعي ونائبه في المجلس الإسلامي السوري. يمثل ثلاثة أشخاص من اللجنة أعضاء من منظومة مجلس الشورى الفقهي في هيئة تحرير الشام، والتي كانت تدير دويلة الهيئة في أدلب. أما حسن الدغيم، الذي ترأس لجنة التحضير للمؤتمر الوطني، فكان سابقاً مناهضاً للجولاني واليوم من أقرب المقربين إليه. أما الشيخ أسامة الرفاعي فهو عالم دين جليل من دمشق، ويحظى باحترامنا وتقديرنا جميعاً، فهو يمثل الإسلام الشامي التقليدي المحافظ ولكن المعتدل والمرن والبراغماتي.

إن الأدوار التي ستلعبها هذه اللجنة والتأثير الذي ستتركه على الساحة يقول لنا أنها تمثل “مجلس تشخيص مصلحة النظام” السوري المعادل في مهماته ودوره لمجلس تشخيص مصلحة النظام في النظام الثيوقراطي الإيراني. وفي مجلس تشخيص مصلحة النظام السوري المذكور، يجلس الشيخ أسامة الرفاعي كصوت سلفي إصلاحي (reformist Salafism) مقابل اصوات سلفية جهادية نكوصية (jihadist regressive Salafism) متشددة وصدامية .

وبالتالي، قد يلعب الشيخ الرفاعي دور “هاشمي رفسنجاني” النسخة السنية السورية للنموذج الإيراني الشيعي. سوريا ماضية إلى تطبيق نظام أتوقراطي-ثيؤقراطي يمثل المعادل السني لنظام الملالي الإيراني. والدليل أن الإعلان الدستوري الذي يعفي الرئيس من المحاسبة (عصمة سياسية) ويجعله مصدر تقرير كل شيء وتنصيب وتعيين كل طرف يذكرنا بعصمة الولي الفقيه من المحاسبة أيضاً (عصمة دينية وسياسية) من قبل أي سلطة أخرى في البلاد وسلطاته المطلقة في إيران.

والحال، أن النظام الجديد في سوريا يحظى ،كما يبدو لنا، بغطاء دولي خارجي من إسرائيل وأمريكـا وأوروبا. فإسرائيل تريد أن تخلق في سوريا نموذج أتوقراطي-ثيوقراطي لأنه يشبه النموذج السلطوي الذي تدير وفقه الحكومة اليمينية المتطرفة إسرائيل، ولأن النظام الأتوقراطي يعيد انتاج نظام استبداد يشبه النظام الأسدي الذي خلقته إسرائيل وفرضته على سوريا لمدة خمسة عقود.

أما أمريكـا ترامب، فيعنيها أن تكرر تطبيق النموذج المذكور لأنه أصلاً بضاعة أمريكية سوقتها أمريكا في إيران زخلقت بها ولاية الفقية التي أثبتت فاعليتها في تقرير مصير المنطقة، ولأن أي نموذج سلفي في سوريا سيرضي تركيا وقوى خليجية حليفة للأمريكي. أما الأوروبي فهو براغماتي لا يعنيه كثيراً من يحكم وكيف يحكم، بل أن ينفذ من يحكم لأوروبا ما تريده وهو إعادة اللاجئين ومنع عودة المجاهدين الأوروبيين إلى بلدانهم ومنع أي حركات جهادية من تهديد أوروبا في المستقبل انطلاقاً من سوريا أو عبوراً منها. وإذا كـان من ينفذ هذا نظام أتوقراطي-ثيوقراطي سوري فليكن.

تستمر سوريا في عبورها نفقاً مظلماً أسوداً سيفرض نفسه على السوريين من خمسة إلى خمسين عام قادمة. يعلم السوريون والسوريات هذا ولكنهم يستكينون ويصمتون خوفاً من عنف السلطة الجديدة وطائفيتها وتبريرها للقتل والقمع والترهيب باسم المظلومية. لكنهم يترجون فقط أن تنجح هذه الإدارة الحالية بأن تقدم بطريقة ما اقتصاداً وحياة إنسانية واعدة ومزدهرة وتؤمن لهم مصادر النجاة اليومية. عاد السوريون إلى مربع الاهتمام الوحيد بالعيش والنجاة، والذي استعبدهم نظام الأسد البعثي به لعقود…حما الله سوريا وأعانها.  

نداء الوطن

——————————

في نقد الإعلان الدستوري/ إياد الجعفري

2025.03.17

ما الضرر الذي كان سيحيق بالأغلبية “العربية” ضمن مكوّنات الطيف السوري، لو تم اعتماد “الجمهورية السورية”، كاسم رسمي للدولة، إرضاءً للمكوّن “الكردي”، و”التركماني”، مثلاً؟ وما الخطر الذي كان سيتهدد الأغلبية “المسلمة” بين السوريين، لو لم يتم تحديد دين رئيس الجمهورية، هل ستنتخب الأغلبية رئيساً “مسيحياً”، مثلاً؟ وأي “فقه إسلامي” ذاك الذي سيكون مصدراً رئيسياً للتشريع في سوريا، في ضوء تنوّع المدارس الفقهية والاختلافات الهائلة بينها؟ وكيف يمكن التأكد من أن سوريا لن تذهب باتجاه حكم استبدادي جديد، في ظل صلاحيات مطلقة ممنوحة لرئيسٍ غير منتخب؟

تلخّص التساؤلات آنفة الذكر، أبرز الانتقادات الموجّهة لمضمون الإعلان الدستوري الصادر عن رئاسة الجمهورية، مؤخراً. ورغم طبيعته، بوصفه مؤقتاً، مرتبطاً بمرحلة انتقالية، إلا أن مدة هذه المرحلة، المحددة وفق الإعلان ذاته، بخمس سنوات، تجعل المخاوف من ترسيخ سلطة قائمة، بحكم الأمر الواقع، باتجاه حكم استبدادي مديد، مخاوف مبررة.

ومن المثير للاستغراب، أن ديباجة الإعلان الدستوري المستفزة للمكوّن الكردي، صدرت بعد أيام فقط من توقيع اتفاق بين رئيس الجمهورية، أحمد الشرع، وقائد قوات سورية الديمقراطية، مظلوم عبدي. اتفاق أثار تفاؤل السوريين بوحدة التراب السوري. وصدرت تلك الديباجة، بعد أيام فقط على أحداث الساحل السوري الدامية، التي تم الإقرار فيها بوقوع انتهاكات بحق مدنيين من الطائفة العلوية. وجاء ذلك بالتزامن مع توترات مع قيادات ضمن المكوّن الدرزي. وهنا يصبح التساؤل ملحاً أكثر: أما كان بالإمكان البحث عن صيغ توافقية وحيادية أكثر بين عموم السوريين، باختلاف ألوان طيفهم العِرقي والديني والطائفي؟!

إحدى أبرز الأجوبة التي سنطالعها بهذا الخصوص، تتعلّق بمرجعية الإعلان الدستوري، “المُستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950 (دستور الاستقلال)”، وفق ما جاء في مقدمة الإعلان. ونقرّ هنا، بأن نص الإعلان الدستوري جاء متقدماً على دستور عام 1950، من زاوية أن هذا الأخير ركّز بشكل أكثر راديكالية، في مقدمته، على البعد القومي (العربي)، والديني (الإسلامي)، للدولة السورية. ولا يبدو هذا المبرِر سليماً في واقعنا الراهن. ففي سوريا اليوم، يرتفع التشنج بين المكوّنات المتنوعة إلى أقصاه، ويُنذر بخطر التقسيم الواقعي والانعزال بين ألوان الطيف، وصولاً إلى خطر الاقتتال الداخلي. والاضطرابات التي عاشها الساحل السوري قبل أسبوع، كفيلة بتقديم صورة أولية عما قد ينتظر الاستقرار في الدولة السورية الوليدة، من تحديات. في واقعٍ كهذا، أما كان من الأَوْلَى البحث عن صِيغ توافقية، قادرة على جذب “الأقليات”، لتشعر بأنها ممثَّلَة في رسم معالم المرحلة الانتقالية، التي ستؤسس بدورها لمستقبل البلاد، ربما لعقود قادمة!

تظهر إحدى الأجوبة على تساؤلاتنا آنفة الذكر، في طبيعة الشخصيات التي حضرت توقيع الرئيس أحمد الشرع، للإعلان الدستوري. فإلى جانب أعضاء لجنة صياغة الإعلان، كان لافتاً حضور شخصيات ذات صفة دينية (إسلامية)، كان أبرزها، الشيخ أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري المعارض سابقاً، إلى جانب عبد الرحيم عطون، ومظهر الويس، أبرز شرعيي “هيئة تحرير الشام” سابقاً، المقرّبين من الشرع. في حين غاب عن التوقيع أي شخصية ذات ثقل، من ممثلي المكوّنات السورية الأخرى، خارج الأغلبية “العربية المسلمة السُنيّة”.

عملية الإخراج هذه، لحقل توقيع الإعلان الدستوري، تحمل رسائل إقصاء من الصعب تجاهلها. ويبدو أنها تستهدف اللعب على شدّ عصب “الأكثرية” خلف قيادة السلطة القائمة في دمشق، في ظل التوترات مع باقي الفرقاء السوريين. وهو رهانٌ خَطِر من جانب السلطة، التي التقطت فيما يبدو، مؤشرات التشنّج الجليّة لدى شريحة واسعة من “الأكثرية”، الخائفة من “ثورة مضادة” تستند إلى حواضن اجتماعية من “الأقليات”. وجاءت أحداث الساحل، التي بدأت بتمرّد مسلح نظّمه فلول النظام البائد، لتصب المزيد من النار على حالة التشنّج تلك. والتي يقابلها تشنّجٌ مقابل، من باقي المكوّنات، تزكيّه بدورها، قيادات وزعامات دينية، لا تخشى أن ترهن حواضنها “الأقلوية” لحسابات ضيّقة الأفق، متقاطعة مع مصالح أطراف خارجية، حتى لو أدى ذلك إلى فقدان حالة السلم الأهلي، الذي ستكون تلك الحواضن “الأقلوية”، أبرز ضحاياه.

في ظل انخفاض الحسّ بالمسؤولية ذاك، كان الرهان أكبر على إدارة الرئيس أحمد الشرع، أن تسحب البساط من تحت أقدام المتطرفين من قيادات باقي مكوّنات الطيف السوري، عبر إرسال رسائل طمأنة، لحواضن تلك المكوّنات، بأنها شريكة في رسم معالم مستقبل سوريا. وبدلاً من التمترس خلف صياغات تعبّر عن انتماء “الأكثرية”، الديني والقومي، كان من الأَسلَم، اختيار صياغات حيادية، توافقية، تخلق مساحة مشتركة أكبر، لجميع السوريين.

ما سبق يدفعنا للتساؤل: ما الذي منع السلطة القائمة في دمشق من احتضان كل ألوان الطيف السوري، عبر الوثيقة الناظمة لعمل مؤسسات الحكم خلال المرحلة الانتقالية؟ من الصعب التقصّي عن حسن نوايا في سياق الإجابة على هذا السؤال. فسلطات الرئيس المطلقة في الإعلان الدستوري قد تكون مربط الفرس، المستند إلى شد عصب “الأكثرية”، خلفه. وفي هذه الحيثية، يبدو حديث أعضاء لجنة إعداد الإعلان الدستوري، عن اعتمادهم مبدأ “الفصل الجامد والمطلق” للسلطات، مثيراً للسخرية. فأين الفصل بين السلطات، إن كان الرئيس يختار ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويختار لجنة للإشراف على تشكيل هيئات فرعية تنتخب الثلثين الآخرين؟ أي أن الرئيس يعيّن الثلث بصورة مباشرة، والثلثين الآخرين، بصورة غير مباشرة. من دون أن ننسى أن لا دور مطلقاً للسلطة التشريعية بمساءلة السلطة التنفيذية، وفق ديباجة الإعلان الدستوري، التي أشارت –في سابقة متناقضة مع روح الدساتير السورية المنصرمة- إلى أن أعضاء مجلس الشعب سيؤدون القسم أمام رئيس الجمهورية. وتُعيَّن أبرز مؤسسات السلطة القضائية، المحكمة الدستورية العليا، من رئيس الجمهورية. مع التذكير بأن الرئيس هنا، غير منتخب.

أبرز الردود على الانتقادات آنفة التفصيل، هي أن الالتفاف حول سلطة أمر واقع قادرة على ضبط المشهد الميداني في البلاد، أمر ضروري لحفظ سلامة الكيان السوري. والبديل قد يكون الانجرار نحو اقتتال فصائلي، وربما، أهلي، وانهيار مؤسساتي أكبر مما هو قائم الآن. والحيثية الأخيرة، محقّة بالطبع. ونقرّ بأولويتها. لكنه ذات المبرر الذي كان يستند إليه النظام البائد، جزئياً، في تبرير استمرار سلطته الاستبدادية، عبر فزاعة التخويف بانفراط العقد المزعوم بين السوريين.

ورغم الإقرار بضيق هامش البدائل مقارنة بالسلطة القائمة في دمشق، في الوقت الراهن، إلا أنه يبقى أن الرهان كان أكبر، على أفق أوسع في أداء هذه السلطة. رهان منسجم مع وعودها، بأفقٍ يتيح أن تكون بحق تلك السلطة المؤسسة لـ “دولة حديثة قائمة على العدل والكرامة والمواطنة الحقة”، كما نصت ديباجة مقدمة الإعلان الدستوري الصادر عنها. سلطة تحترم ما قدّمه “أبناء سوريا الأحرار” من دماء وتضحيات، ليكنسوا “إرث الاستبداد”، وفق الديباجة نفسها. إرثٌ يخشى كثيرون أنه يورَّثُ الآن. وهي خشية باتت مبررة بشدة، ليصبح الرهان على انتزاع التنازلات على صعيد الحرية والممارسة السياسية من السلطة القائمة، بالتنظيم والنشاط السياسي السلمي، في الشارع السوري. وهو الرهان الوحيد المتاح اليوم، لحفظ الكيان السوري والسلم الأهلي بين مكوّناته، بالتوازي مع لجم الاتجاه نحو ديكتاتورية جديدة.

تلفزيون سوريا

——————————–

التجربة السورية المثقلة بخيبات أخواتها/ المهدي مبروك

17 مارس 2025

مع أحداث الساحل السوري، أخيراً، نتأكّد، أكثر من أيّ وقت مضى، أننا في تونس لا نحتاج إلى كثير عناء لنقرأ تفاصيل المشهد السوري، والاطلاع على دقائق وقائعه وأحداثه، وتوقّع بعض المآلات الممكنة. لا يُعدّ هذا ادّعاءً أو امتلاكاً للغيب، ولكن نستحضر في هذا كلّه بعضاً ممّا قاله ابن خلدون، الذي عاش في بلدان المغرب العربي، وتمكّن، في آخر عمره، من زيارة الشام، والتوسّط بين وجهائها والطاغية تيمورلنك، في مساعٍ لا تزال غامضةً. فالتاريخ في باطنه عبرة على نحو أن ما يجري فيه يخضع أحياناً لبعض القوانين، ولنا ما يفيد أن الماضي باعتباره خزّان “التاريخ” يمكن أن يمنحنا بعض مفاتيح قراءة الحاضر. سنكون آنذاك أمام ضرورة المقارنة بين الماضي والحاضر، بين تجارب متقاربة إلى حدّ الشبه الكبير، لنستنتج مفاتيح قراءة التاريخ كلّه.

حين اندلعت الثورة السورية، كانت آخر الثورات التي التحقت بالموجه الأولى من “الربيع العربي”، الذي سرعان ما غدا خريفاً أو شتاءً بلا غيث. انتكست كلّ التجارب من تونس إلى اليمن، مروراً بليبيا ومصر… إلخ، وكانت المآلات أحياناً كريهةً ومرعبةً: حرب أهلية واقتتال وصعود لموجات الإرهاب وسلسلة من الانقلابات التي صعد معها العسكر إلى الحكم. لم تبقَ شمعة عربية واحدة ملهمة، انطفأت بفعل رياح سموم عديدة هبّت عاتيةً. ثمّة ما يشبه المنوال، أو “باراديم”، بلغة توماس كوهين، مؤرّخ العلم الأميركي المرموق، صحاب كتاب “بنية الثورات العلمية”. لا يمنعنا هذا الباراديم من مجرّد قراءة التجارب العربية بنظّارات التجارب العربية السابقة، بل يمنحنا بعضاً من القدرة على التوقّع، تماماً كما يحدث في العلوم الصحيحة، فليس المستقبل سحراً أو غيباً، بل هو ظاهرة يمكن توقّعها، فضلاً عن مئات الظواهر الأخرى التي لا يكون وقوعها خارج ما نتوقّع، بشرط أن تكون لها المعارف والمناهج والأدوات الجديرة والكفوءة.

تخضع الثورة السورية حتى الآن لمسار رسمت خطواته الثورات العربية الأخرى: سقوط النظام وانتصار الثوار. تليها مرحلة انتقالية قد تقصر أو تدوم، تتخلّلها أنواع مختلفة من النزاعات والخلافات الداخلية التي تُلقي من فوّهة براكينها حمماً من الكراهية والأحقاد والرغبة الدفينة في هدم المعبد، حتى ولو أباد من فيه جميعاً، ثمّ اقتحام عتبة الخيبة الكبرى. ثمّة مسارات يُعاد إنتاجها في كلّ التجارب العربية، قبل أن تصل إلى النهاية المحتومة، أوهام الانتصار النهائي وحالة النشوة القصوى التي تحلّق بالثائرين في ملكوت السماء. قال أحد شعراء تونس (وقد تحوّل فيما بعد شاعراً خصماً لمن حكموا): “لقد وهبتنا الثورة سماءً من الحرية”. تمتزج الثورة بسقف عالٍ، حدّ الجنون والتخمّر، من الطموحات والأوهام والحرّية والفوضى، وتتهتك جميع الحدود حدّ العقلانية والعبث. في تلك الجنّة يتسلّل الخصوم والأعداء لصناعة الحنين إلى العهد الذي ثار عليه الناس، ويتم اصطياد الخيبات والعثرات لصناعة “عهد ذهبي نتحسّر عليه ونبكي انقضاءه”. حين أطالع ما يكتب حالياً حول الأحداث التي شهدها الساحل السوري، تقفز إلى ذهني كثير من العبارات التي حفظْتها عن ظهر قلب، وهي التي قالها التونسيون أيضاً حين مرّت ثوراتهم ببعض عثرات، لا تختلف كثيراً عمّا تشهد سورية حالياً، الفاعلون والأسباب فقط يختلفون نسبياً، خصوصاً أن تونس لم تشهد عنفاً طائفياً، لكن شهدت ما يضاهيه عنفاً سياسياً وأيديولوجياً أهوجَ وقاتلاً.

هذا المنوال لا يشتغل في حفر خنادق في مسار الثورة، وقد تحوّلت دولةً، بل يشتغل أيضاً، وبكثير من المردودية، في أثناء بناء الدولة ذاتها في ما توافر من وقت يطول أو يقصر، بحسب خصوصية التجربة وطبيعة فاعليها، تبدو القوى المنتصرة عادةً، ووفق ذلك المنوال، مصرّة على مسك الأجهزة المتهالكة من حطام الدولة، مؤسّسات صلبة وإدارة وأجهزة، لا تعرف تماماً كيف “تصفّي” تلك التركة الثقيلة، ولكنّها مضطرة بين الحين والأخر إلى التنازل وغضّ الطرف بحثاً عن “المؤلّفة قلوبهم” من أجل الحصول على الحدّ الأدنى من “أداء الدولة”، حتى ولو على حساب الثورة ومهجتها لإشباع الحاجات الملحّة للناس، فليس لها بدائل كبرى لصياغة أجهزة جديدة وخلق شعب جديد، منه تنتقي المنتسبين إلى تلك الجيوش، بما فيها الجيش المدني لمئات آلاف منتسبي الإدارة العمومية. يتسلّل في ذلك كلّه خصوم الثورة وانتهازييها، و'”ثوار الربع الأخير من الساعة”، وحتى الذين كانوا من رموز النظام السابق، ويتم ذلك تحت مبررات عديدة: الحاجة الملحّة للمرافقة، والخبرة والتجربة… إلخ، فتتحوّل أجهزة الدولة غنيمةً أو “جيشّ ردّةٍ يحمل في الداخل ضدّه”، كما يقول الشاعر مظفّر النُوّاب.

خارج أجهزة الدولة، التي تحمل عادةً عناصرَ خرابها في ذاتها، يبدأ الثوار في بناء سلطات مؤقّتة طمعاً في بناء بعض المشروعية: دستور مؤقّت سمّي في تونس “الدستور الصغير” أي “تنظم مؤقّت للسلطة”، وها إن أشقاءنا في سورية سمّوه الإعلان الدستوري، ولا يختلف الأمر في مصر وليبيا بقطع النظر عن مآلات الدستور القديم، ويبدأ تشكل هيئة تشريعية تسمّيها بعض التجارب مجالس تأسيسية أو مجاس نيابية مؤقتة. لا شكّ أن هذه البناءات كلها تظلّ هشّة قابلة للتفكّك السريع، يبدأ آنذاك الخصوم (وما أكثرهم) في سحب الشرعية من هذه البناءات الهشّة والوليدة كلّها، من أجل العودة إلى “العهد الذهبي”، أو الارتماء في مسار آخر هو مزيج من الفوضى والحرب الأهلية، خصوصاً في ظلّ اختبارات عسيرة: العدالة الانتقالية، وبركان الذاكرة وآلامها.

تمرّ التجارب الانتقالية كلّها باختبارات عسيرة، وكلّما طال أمدها، كانت عرضة للانتكاس، خصوصاً في ظلّ تحرّش إقليمي ودولي بكلّ ما له صلة بالثورات العربية ورغبات التحرّر. كلما لانت الثورات واقتربت من المؤلّفة قلوبهم، ابتعدت من مهجتها وأصابها المسخ، وكلّما مالت إلى مهجتها وروحها، تكالب عليها الجميع، وتلك هي المعضلة التي لا نرى لها حلّاً سهلاً. ولا يحتاج السوريون إلى الاطلاع على دروسنا الخائبة والاتعاظ من تجاربنا الفاشلة، فلهم من الإرادة والذكاء والنخب ما بها يختارون أقوم المسالك، ولكن قد يحتاجون إلى النظر في مرآة قطار ثورتهم العاكسة، حتى يتجنّبوا المحطّات الفاشلة، وإنهم على ذلك لقادرون.

العربي الجديد

—————————

الصراع على سوريا الانتقالية: إلى أين؟/ عصام نعمان

تحديث 17 أذار 2025

اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية، لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سوريا «الانتقالية». إلى أين ستنتقل سوريا، أو بالأحرى إلى أين تنوي أمريكا و»إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟ لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر، لأن أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال، وكيف ستكون سوريا شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سوريا في حاضرها المضطرب، ولعل أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.

للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكرية في سوريا منذ سنوات عدّة، بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي كان قد نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل في شمال العراق، ومحافظة الرقة في شمال شرق سوريا. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسية بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون.

مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أمريكا المتمردين الكرد، الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال، الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإن واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سوريا، شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا، التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور. «إسرائيل» تحتل نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، وتسيطر على حوض نهر اليرموك، وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً، وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحدين الدروز السوريين، في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أن «إسرائيل» بدأت بتنفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزية في الجنوب السوري، والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانية امتدادها لضم دروز لبنان أيضاً. تركيا يهمها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصالي في جنوبيّ شرق أراضيها وشمال شرق سوريا. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقالي في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكرية لها في شمال البلاد. وسط تدخلات هذه الدول الثلاث القوية النافذة، يحاول الحكم الانتقالي في دمشق بقيادة أحمد الشرع، تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدموية العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق إلى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي، ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع « الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات، مع استمراره لمدة خمسة أعوام على الأقل. «الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة، أولها من «مجلس سوريا الديمقراطية»، الذراع السياسية لـِ»قسد»، الذي وصف أحمد الشرع بأنه «يكرر ما كان يفعله بشار الأسد»، مضيفاً أن الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعي ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وأن «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».

في الجنوب السوري، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل»، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة، بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة. من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطورات يمكن استخلاص النقاط السياسية الآتية:

*ما زال الاضطراب السياسي والطائفي هو السمة الغالبة في حاضر سوريا الانتقالية.

*عملية توحيد جغرافية سوريا، سياسياً وإدارياً، التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.

*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق، والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سوريا.

*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن من احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.

*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سوريا حيث الكرد و»قسد»، ولذلك تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في شمال البلاد.

*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة اخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقالي في دمشق.

*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سوريا بالوقت الحاضر، وإن ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.

*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي إلى سوريا في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.

*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سوريا، بالوقت الحاضر، بل ثمة تسليم بالدور الأمريكي الناشط بلا ادنى منافسة.

*لعل أدق توصيف لحال سوريا في الوقت الحاضر هو، أنها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.

إلى أن تستيقظ وتتوحد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سوريا مفتوحاً على شتى الاحتمالات.

كاتب لبناني

القدس العربي

——————————–

المادة 49 في زمن الأسد الأب والشرع… البادي أظلم

دمشق – المدن

الإثنين 2025/03/17

شاب في منتصف العشرينات، يحمل في عينيه نظرة حادة تختزن حقداً دفيناً، ينحدر من مدينة حماة، التي شهدت واحدة من أكثر المجازر دموية في تاريخ الأسد الأب. لم يُخفِ مشاعره أثناء عمله صحافياً في موقع إلكتروني، بل وثّقها على الورق بجرأة، حين كتب مقالاً عن معالم مدينته السياحية، وتحديداً عن نواعيرها الشهيرة، لكنه لم يتحدث عن تدفق الماء عبرها، بل عن دماءٍ غمرت ضفافها.

لم يطل الوقت حتى وجد نفسه معتقلاً، رغم الشعارات التي كانت تتغنى بحرية الصحافة آنذاك. أما التهمة، فكانت جاهزة: الخوض في محظورات رسمها القائد الراحل، والذي لم يكتفِ بتكميم الأفواه، بل أصدر في عام 1980 ما عُرف بـ”قانون الأسد 49″، الذي جرّم الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين وحكم على أعضائها بالإعدام.

اليوم، ذلك الصحافي ذاته، الذي دوَّت كلماته ذات يوم قائلاً: “سننتقم ولو بعد حين… نحن رضعنا الحقد رضاعة”، يهلل لما جرى من مجازر في الساحل السوري، معتبراً أن العدالة قد أخذت مجراها، وأن الحق عاد إلى أصحابه.

بعد 45 عاماً، وقّع الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، على إعلان دستوري يتضمن مادة تحمل الرقم ذاته، 49، لكنها جاءت هذه المرة لتجرّم كل من يمجّد الأسد أو ينكر جرائمه. وكأن عجلة الزمن دارت، وها هي الـ”كارما” تعيد ترتيب المشهد من جديد، حيث يُطلب منك أن تضع أقدامك في النهر، وتنتظر أن تجرف المياه جثث خصومهم. وكما يقول المثل: “السن بالسن… والبادي أظلم”.

رافقت هذه اللحظة احتفالات حاشدة في الساحات السورية، حيث أحيا السوريون ذكرى الثورة التي أنهت عقوداً من الطغيان، فيما حلّقت الطائرات في السماء، لكن هذه المرة لم تحمل براميل الموت، بل نثرت الورود احتفاءً بالنصر. وعلى الجانب الآخر، غطّى السواد الساحل السوري بأكمله.

كانت الثورة السورية لتكون واحدة من أعظم ثورات العصر، لو بقيت راياتها بيضاء، وأياديها نظيفة. ولم تخلف وراءها جائع أو خائف .. كانت ثورة ضد القهر والظلم لكن الإرث الدموي الثقيل الذي خلّفه آل الأسد، جعل السوريين يدفعون الثمن حتى اللحظة، منذ أن وُلد “الدستور ذو اللقب الدائم”، الذي حمل معه لعنة لا تزال تطارد البلاد.

أنا ربكم الاعلى

منذ عام 1920، تعاقب على سوريا 16 دستوراً، عكست كل منها المزاج العام أو التحولات السياسية في البلاد. وبينما كانت بعض هذه الدساتير خطوة نحو الحريات وترسيخ الديمقراطية، جاءت أخرى لتكرّس الحكم الفردي وتقيّد المؤسسات التشريعية.

من بين تلك الدساتير، برز دستور عام 1950 كأكثرها علمانية وتقدّمية، حيث قيّد صلاحيات رئيس الجمهورية، فمنعه من إصدار المراسيم التشريعية بشكل منفرد، وألزمه بتوقيع مشاريع القوانين التي يقرّها مجلس النواب خلال سبعة أيام. كما حدّ من سلطته في حلّ البرلمان، في خطوة تعكس توجّه اللجنة الدستورية آنذاك نحو تعزيز سلطة المؤسسة التشريعية على حساب النفوذ التنفيذي.

لكن هذه المرحلة الديمقراطية لم تدم طويلاً، إذ شهدت سوريا انقلاباً جذرياً مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وهو الذي اعتبر نفسه “رب السوريين الأعلى”. في عهده، دخل الدستور السوري في حالة من الجمود غير المسبوق، بعد أن فرض عبر المادة الثامنة هيمنة حزب البعث على الدولة والمجتمع، إلى جانب المادة الثالثة التي نصّت على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام”.

لم يكتفِ الأسد الأب بذلك، بل منح نفسه سلطات مطلقة، شملت إصدار التشريعات، وحلّ مجلس الشعب، وإعلان حالة الطوارئ، وإعلان الحرب والتعبئة العامة، إضافة إلى كونه القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة.

ظل هذا الدستور سارياً طوال فترة حكمه، ما أدى إلى استشراء الفساد وتهميش السلطتين التشريعية والقضائية، حيث تحوّل البرلمان إلى أداة شكلية تخدم مراكز القوى الأمنية، فيما بات القضاء عاجزاً عن المحاسبة، مما أرسى دعائم نظام قائم على تحالفات مصلحية، مغلّفة بغطاء دستوري يخدم أجهزة القمع لا الدولة.

في عام 2000، مات حافظ الأسد، ليترك وراءه إرثاً من الاستبداد والقمع الذي حكم سوريا لأكثر من ثلاثين عاماً. وعلى الرغم من وفاته، لم يكن التغيير في الدستور السوري نتيجة لاحتياجات الشعب أو تطلعاته، بل كان جزءاً من خطة لتوريث السلطة داخل العائلة الحاكمة.

أولى الخطوات كانت تعديل السن القانوني للرئيس، حيث تم تخفيضه ليتيح لبشار الأسد أن يصبح “الوريث الشرعي” للعرش السوري، وهو ما تم بموافقة البرلمان الذي لا يعدو كونه جهازاً شكلياً تحت الهيمنة الأمنية.

لكن ما جاء بعد ذلك كان أكثر إثارة للقلق: بشار الأسد لم يتبنّ دستوراً جديداً يعكس تطلعات الشعب السوري، بل حافظ على دستور والده الذي أثبت فشله في تحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير البلاد. لقد وضع بشار دستور والده في “الثلاجة” ليظل سارياً، مما يعني أن النظام السوري استمر في تبني نفس السياسات الاستبدادية التي تعمقت خلال فترة حكم والده، دون أدنى اعتبار لتطلعات الشعب السوري نحو الديمقراطية والحرية.

هذا التعديل الدستوري لم يكن سوى خطوة من خطوات احتكار السلطة داخل العائلة الحاكمة، إذ تحوّل النظام السوري إلى مجرد مملكة غير معلنة، حيث يتوارث أبناء العائلة الحكم بينما الشعب السوري يدفع ثمن الاستبداد والتهميش.

تعديل اضطراري

عندما اندلعت الثورة السورية في عام 2011، وجد بشار الأسد نفسه في مأزق تاريخي لم يكن قادراً على مواجهته بنفس الأدوات القديمة. وهو ما دفعه إلى إصدار دستور جديد في 26 شباط/فبراير 2012، في محاولة يائسة لتلبية وعود الإصلاح التي زعم أنها ستكون حلاً للأزمة الشعبية المتصاعدة.

الخطوة الأولى كانت إلغاء المادة الشهيرة 8 من الدستور، التي كانت تكرّس حزب البعث العربي الاشتراكي كقائد للدولة والمجتمع، وهي محاولة لطمأنة الشعب السوري الذي خرج مطالباً بالحرية والتغيير. لكن رغم إلغاء هذه المادة، فإن الدستور الجديد لم يقدم أي تغييرات جوهرية. فحتى مع السماح بتأسيس أحزاب سياسية جديدة، لم يبرز أي حزب جديد على الساحة السياسية، بل بقي المشهد السياسي محكوماً بالسلطة المطلقة للنظام.

هذه التعديلات لم تكن سوى محاولة لتفريغ الاحتجاجات من مضمونها، وهي إشارة واضحة إلى أن النظام لم يكن يسعى إلى تغييرات حقيقية بل كان يحاول امتصاص الغضب الشعبي وتوجيهه إلى مسار بعيد عن مطالب الحرية والديمقراطية.

ومع مرور الوقت، استمر النظام في تعزيز قبضته الأمنية بشكل أكبر، وأصبحت السجون ملاذاً للمعتقلين السياسيين الذين تم احتجازهم منذ بداية الاحتجاجات. بدلاً من أن تفتح أبواب الحرية والتغيير، أصبحت أبواب السجون أوسع، لتكون شاهداً على فشل وعود الإصلاح المزعومة واستمرار القمع.

التفكك

مع سقوط النظام البائد، انهارت كل السلطات العسكرية والأمنية التي كانت تحكم البلاد بقبضة حديدية لعقود. لكن ما لم يكن يتوقعه البعض، هو أن الإعلان الدستوري الجديد سيركز بشكل أساسي على العدالة الانتقالية، ويُعتبر خطوة محورية نحو تصحيح الأخطاء التي ارتكبتها السلطة السابقة، ووضع حدٍ للانتهاكات التي كانت تُمارس بحق المواطنين.

كان الهدف الرئيس لهذا الدستور هو تجريم انتهاكات النظام البائد، ومنح مهمة حماية الوطن والمواطنين للجيش، فضلاً عن تأكيد أهمية الحفاظ على السلم الأهلي في مرحلة ما بعد سقوط النظام. لكن الأهم من كل ذلك، كان ضمان استقلالية القضاء وتمكينه من محاسبة الفاسدين والمجرمين الذين شاركوا في إذلال الشعب السوري على مدار سنوات من القمع.

ولعل الأبرز في هذا التعديل الدستوري هو محاولته رد اعتبار الحقائق التي حاول النظام السابق طمسها، وتحقيق العدالة للأجيال القادمة. استلهم الاعلان الدستوري السوري الجديد روح دساتير أكثر تقدماً مثل دستور 1950، الذي تميز بالعقلانية والحرص على فصل السلطات وتقديم الحق في العدالة على كل اعتبار آخر. ومع ذلك، لم يغفل الدستور الجديد عن توجيه رسالة صارمة لأولئك الذين قد يسعون إلى “تبييض” صفحة الأسد الأب والابن أو محو جرائمه. بل كان الهدف واضحاً: ضمان أن هذه الجرائم ستظل حية في الذاكرة الجمعية للشعب السوري، وأن محاسبتها ستكون جزءاً أساسياً من العملية السياسية المستقبلية.

—————————

حول الاعلان الدستوري/ جمال الشوفي

بالمبدأ لا يوجد رفض كلي او قبول كلي، بل يوجد نقد منه ايجابي ومنه سلبي.

من ثم من الضروري توضيح عدد من النقاط حول الاعلان الدستوري ومدى اخذها بمخرجات مؤتمر الحوار، عليه اوضح:

– بناء على توصيات مؤتمر الحوار فقد اخذ الاعلان الدستوري بمعظمها خاصة بما يتعلق بباب الحريات والحقوق الفردية والرأي والتعبير وحق المرأة وعدم التمييز بين السوريين والإلتزام  بمواثيق حقوق الانسان الموقعة عليها سوريا.

– اغفل الاعلان توصية المؤتمر حول دور المجتمع المدني السوري الهام في عملية التحول الديموقراطي وابقاها في طور النقابات والجمعيات.

– اغفل الاعلان المادة الاولى من دستور ١٩٥٠ والتي تنص على التعددية والديموقراطية والبرلمانية. فان كان اغفالها لانه غير ممكن اجراء انتخابات برلمانية اليوم مكتفيا بالنظام الرئاسي. ولكنه توسع في صلاحيات الرئيس خلافا لتوصيات المؤتمر.

– حددت توصيات مؤتمر الحوار صلاحيات الحكومة الانتقالية ومدتها سنتان يمكن تجديدها عند الضرورة مع تحديد صلاحيات الرئيس وعدم توسعتها. لكن الاعلان تجاوز المدة وأعطى صلاحيات تنفيذية واسعة للرئيس.

فان كان له قيادة السلطة التنفيذية وقائد اعلى للجيش لكن تعيين اعضاء المحكمة الدستورية افترضناها من اختصاص المجلس القضائي وبشكل مستقل.

اما تعيين ثلث اعضاء مجلس الشعب فهذه معضلة لا يمكن حلها بلا انتخابات فعلية … وهنا يوجد عدة اقتراحات من قبيل:

. ان تتشكل لجنة تشرف على اختيار ممثلين عن كل محافظة مثلا والسؤال هنا من سيسمي هذه اللجنة وكيف ستختار أعضائها؟

او اجراء استشارات مجتمعية واسعة بهذا الاطار وايضا ذات الاسئلة؟

لكن الافضل والمقترح خاصة في هذه المرحلة تشكيل هيئة استشارية وفق معايير الاستقلالية والحياد وعدم الترشح لمنصب خلال الفترة الانتقالية، بحيث يعلن عن تشكيلها ويتقدم اليها من بجد بنفسه الكفاءة لذلك وتشرف على تشكيل جسم تشريعي مؤقت وفق الصلاحيات التي وردت في الاعلان.

– وجدت اخطاء تقنية وفنية بالإعلان كشكل العلم مثلا والتطرف العنيف فالتطرف  عام لا به قليل او كثير. وعدم الربط بين نهاية المرحلة الانتقالية والانتهاء من صياغة الدستور… وهنا اكرر ذات الاقتراح لتشكيل هيئة تأسيسية لصياغة الدستور كما في اعلاه.

– تجريم الحقبة الاسدية وفكرها، والتأكيد على وحدة سوريا وتحقيق العدالة الانتقالية والوصول ولدولة المواطنة توصيات المؤتمر وتم الأخذ بها.

– العدالة الانتقالية وقد كان لها منبر خاص في مؤتمر الحوار يجب ان تؤخذ مخرجاته للعمل فيها.

– هناك تجاوز بالصلاحيات المنوطة بالرئيس

– بما يتعلق بدين الرئيس والمصدر الرئيسي للتشريع الفقه الإسلامي فهي مواد وردت في معظم الدساتير السابقة، لليوم تمثل حالة خلافية ولكن افراد مواد دستورية مستقلة لحرية الأديان والأفراد تعني اي تعارض بينها فالنص الدستوري سيكون فيصل فيها هذا وفقا لفهم النص الدستوري.

لكن هذه المواد لازلت مؤشر على ان مجتمعنا لم يتجاوز عقدته الأهلية وكل يرى حقه هو الأسمى على غيره، وحقيقة لو تم التصويت على هذه المواد لنجحت بالاكثرية المطلقة.

وبرأي تثبيت القانون الوضعي وممارسة النقد الايجابي والفعال افضل من الرفض او القبول الكلي ….

والمطلوب ايصال صوتنا النقدي للجنة المسؤولة عن صياغة الاعلان واللجنة التحضيرية للمؤتمر والعمل على إمكانية اجراء تعديلات عليه رغم اعلانه رسميا.

لازال هناك الكثير مما يقال معتذرا عن الإطالة…

الفيس بوك

———————————–

في المزاج السنّي/ ماهر سليمان العيسى

14/3/2025

مع أهمية التوقف عند الإعلان الدستوري الذي تسرب قبل أن يوقع، وربما قبل أن يُكتَب، وما يثيره من غبار أكثر مما ينتجه من هواء منعش، أجدني وإن كان الأمر متأخراً شيئاً ما مهتماً بالبحث في جذر ما يجري اليوم، وخصوصاً حين نسمع مباشرةً وبعد ساعات فقط من صدور ذلك الإعلان من يقول: خلاص (قرار وطلع) وبلّطوا البحر!

هناك أربعة عوامل رئيسة تظافرت وساهمت وإن بنسب مختلفة في إنتاج المشهد الذي نراه في الشارع السوري اليوم، أولها ما فرضه التجويف الناتج عن التجريف المستمر والممنهج الذي عمل عليه نظام الشبيحة المدحور في العقل السياسي والوطني السوري، وثانيها ما قابله من عجز وانعدام كفاءة في إدارة واقع الثورة السورية والعجز عن توجيهها نحو تجذير أهدافها الوطنية من قبل المعارضة التاريخية والنخب الديموقراطية السورية، وثالثها سيطرة الحركات الجهادية على واقع الصراع بعد أن تحول مبكراً إلى صراع مسلح حين تلاقت هذه الحركات مع النظام في منتصف الطريق، حيث كان الحل الأمني العسكري هو النموذج الوحيد الذي يتقنه النظام وحلفاؤه، كان تحويل الثورة من فعل شعبي مدني متنوع النشاطات إلى “جهاد” ضرورة حيوية لهذه الحركات الجهادية، كي تنتج شرعيتها وتفرض منطقها على عموم السوريين. أما الرابع فهو حالة “الاستنقاع ” الطويلة للصراع الذي أنهك السوريين وأدخل شريحة واسعة منهم باليأس حين كاد يبدو بلا نهاية.

كل هذا تظافر وأتاح، وعلى مدى أربعة عشر عاماً، أن تمتلئ تدريجياً عقول شريحة واسعة من السوريين بمفاهيم مختزلة، نزقة، دون وطنية، يقودها ويروجها، بعض الصغار والثانويين الذي يبحثون عن دور أو أهمية، ويلقون استجابة من السواد حيث كانت هذه المفاهيم التي يروجونها هي الأقرب والأسرع في ملء الفراغ الذي كان يتعاظم في التصور النموذج السياسي والوطني السوريين، مستفيدين من قاعدتين تاريخيتين الأولى تقول ” العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة ” والثانية تقول ” الطبيعة لا تحب الفراغ “.

الاستقطاب والتعيين في الشارع اليوم، مع استمرار عزلة النخب وضعف التيارات الوطنية والديموقراطية، يتم على أساس عصبوي وطائفي، حتى لو أغمضنا أعيننا، وأنكرنا ضوء الشمس، ولكن ربما يكون من المدهش أن يتم هذا بقيادة مزاج عام لدى (السنة) للمرة الأولى منذ إنشاء الكيان الوطني السوري بداية عشرينات القرن الماضي. وهذا المزاج السني الذي في أغلبه كما يُظهر المشهد العياني، يعتبر أن الثورة قد أنجزت مهمتها، فالدولة برأي هذا المزاج الذي اختطفت من قبل (طائفة العلويين) واستخدمت بكل أدواتها ومؤسساتها للتنكيل بهم، قد عادت لأصحابها المستحقين (طائفة السنة) باعتبارهم طائفة الأغلبية، ونَصبت هذه الثورة رئيساً سنياً (بل سنياً مكثفاً) يقيم صلاة الجماعة في قصر الشعب، وهذا لوحده يكفي.!

ولكن دون أن يلحظ أصحاب هذا المزاج، أن (السنة) في سورية ليسوا طائفة أصلاً، ولا تنطبق عليهم شروط تشكيل وتعيين الطائفة، بحكم أنهم الأغلبية العددية التي تتفوق على كل الطوائف الأخرى مجتمعة، في حين تكون الطائفة حكماً أقلية عددية، وبحكم أنهم غير محددين إقليمياً وديموغرافياً وينتشرون على كل مساحة سورية، والطوائف تتكثف وتحصر نفسها ديموغرافياً وجغرافياً، وبحكم أنهم لا يشكلون نسيجاً موحداً متجانساً فقهياً وفكرياً وسياسياً، والطوائف أحادية الخط الفقهي والمرجعي، وبحكم أنهم لا يحتاجون للانكماش والتكور خشية من الذوبان. والطوائف لكل ما سبق كثيراً ما تحتاج للانكماش والتكور لتبقى. ما يعني أن السنة ليسوا “عُصبة” حسب التعريف الخلدوني للطائفة، ولا يحتاجون موضوعياً لها.

وبشكل عام أصحاب هذا المزاج يعيّنون أهل السنة كطائفة دون أن يلحظوا أن أهل السنة في سورية حين يشكلون حالة معاكسة لكل شروط تشكيل وتعيين الطوائف. فهم أيضاً وبآن واحد يشكلون الهيكل العظمي وغالبية اللحم والشحم من الجسد الوطني السوري. ولأسباب موضوعية، حتى لو لم يختاروا سيكونون حملة المشروع الوطني الرئيسين والتاريخيين. وأصحاب المصلحة الرئيسة فيه. وقاطرة الجر. ولا يجوز أصلاً الانحدار بقيمة كتلة بشرية كبرى، إلى مستوى ” العصبة” لا على مستوى القيمة، ولا على مستوى التعيين.

الأخطر من كل هذا، فقد تبين أن المزاج العام – إياه – الذي بدأ يُحَقِّر ويزيح نخبه الوطنية الديموقراطية، بذريعة احتكار المظلومية على أهل هذا المزاج حتى لو كنت سنياً وممن قدموا التضحيات أضعاف ما قدموا، ولمجرد ألا تتفق مع هذا المزاج إلى حد التطابق سيقال لك (وين كنتو .. لما) مضافاً إليه الشعار المأثور على قلب هذا المزاج اليوم (من يحرّر يقرّر) فقد بدأ يستسيغ الخلط بين مفاهيم الفتح والتمكين التاريخية، والدولة المعاصرة ومفاهيمها، وكأنه في هذا يبحث من جديد عن “الدكتاتور العادل” مادام يعتقد أنه يشبهه” طائفياً “، وكأنه يقاوم السير في طريق دولة المواطنة العصرية، وبمقتضياتها ومكوناتها وعلى رأسها (الديموقراطية)، فهذه تراجعت في هذه الأوساط إلى الحد الذي بدأ يقبل بتوقف الحديث عنها، فهي بكل الأحوال نموذجاً سيحتاج للتدريب والتأهيل ، وتشكيل، أو إعادة تشكيل أحزاب وتيارات سياسية، وبرامج سياسية، وثقافة سياسية وحقوقية واجتماعية، مما يعني أنهم أمام جهد يعتقدونه فائض عن الحاجة وفي غير وقته إن لم يكن (كفراً)، فوصفة “الدكتاتور العادل ” في المخيال التاريخي مجربة، وهي التي ستكون الخلاص وأقصر الطرق.

هذا التراجع للخلف مطرد ومتواصل، وبخطوات لافتةـ وصولاً إلى قبوله حتى بأن يصمم النظام الجديد حياته كما يشاء، بل اعتباره النظام الجديد هو التجلي الأعلى للنصر، الذي يجب التمسك به بالنواجذ لأنها دولته، وبالتالي دولتهم، وهذا ليس ثقةً به فحسب، بل نكاية بالآخرين (أهل الطوائف) وانتقاماً. فهذا بذاته أصبح هدفاً إضافياً (يشف صدور قوم مؤمنين). وعليه يجب حشد أكبر قوة دعم شعبية ممكنة مادام الرجل منا وفينا، ولن يستخدمها ضدنا، هذا في لحظة لا يدرك فيها هذا المزاج الضبابي أن الثورة السورية أياً كان من يحسمها، أو الجهة التي ستسيطر على قصر الشعب فيها، فهي ليست إعادة إنتاج للسلطة فحسب، وستوجب حتماً إعلان (الجمهورية الثالثة) أي إعادة تأسيس الكيان الوطني بكامله، عبر عقد اجتماعي جديد، وتوافق وطني يشمل كل الجماعات الوطنية السورية، وإلا لن تكون هناك سورية أصلاً. ولن تنشأ دولة اليوم بالغلبة، فهذا هو الاستحقاق الموضوعي، والطبيعي، ولم يلحظ هؤلاء حتى الآن أنه وبكل الأحوال فدولة المواطنة العصرية، لن تتيح الاختطاف من جديد، لا من طائفة ولا من عصابة، وبكل الأحوال أيضاً سيكون (للأحقية السنية) التي ينشدها (المزاج السنيّ) الدور والحصة الرئيسة في أي شكل من أشكال الدولة الجديدة، فلم لا نسعى لدولة المواطنة التي ستلم جميع السوريين؟ والتي من الأكيد ستكون المسؤولية الكبرى هي مسؤولية قاطرة الجر فيها.

————————

==========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى