منوعات

هكذا عبرت الدراما السورية مرحلتها الانتقالية/ موفق عماد الدين شخاشيرو

18 مارس 2025

كان سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لحظة مربكة أمام صنّاع الدراما السوريين، الذين توقفت كاميراتهم عن تصوير مشاهد أعمال الموسم الرمضاني الحالي، لكن سرعان مازال هذا الارتباك، وأثبتت الدراما السورية أن صنّاعها برعوا بالتعايش مع كل ظرف، والتحايل على كل عقبةٍ مرّت على اختلاف أنواعها.

فشلت كل محاولات القدر لتعطيل عجلة الدراما السورية منذ بواكيرها في المرحلة التي تزامنت مع سيطرة حافظ الأسد على الحكم، مروراً بتألقها بداية الألفية، تزامناً مع وصول الأسد الابن إلى سدة الرئاسة، وحتى انتكاستها مع وصول موجة الربيع العربي إلى البلاد عام 2011 للقضاء على حكم الأسدين.

الأمر مرتبط بتزامن هذه العلامات الفارقة في التاريخ السوري المعاصر مع تطوّر تقنيات الإنتاج، ومنجز المعهد العالي للفنون المسرحية بتخريج الممثلين السوريين الخبراء الذين قامت الصناعة على أكتافهم أو “على أكتاف وجوههم”، وفتح قنوات التسويق الخليجية، وحاجة المشاهد العربي للجديد. فيما كنا آنذاك “الجينز” السوري في سوقٍ تُغرقه الأقمشة المصرية، الراديو التايواني في متجر الراديوهات اليابانية، الكومبيوتر الصيني في مجمّع الكومبيوترات الأميركية.

أحدثت الدراما السورية خرقاً في السوق، وأخذت مساحةً في الفضاء العربي، وبرع صنّاعها بالتعايش مع كل ظرف، والتحايل على كل عقبةٍ مرّت على اختلاف أنواعها، من تقليم مقصّات الرقابة في سنوات الهدوء، إلى التصوير في المناطق الساخنة خلال سنوات الصراع، مع تطويع المنتَج السوري ليبقى قابلاً للبيع في سنواتٍ طويلةٍ حوصر فيها باعتباره منتَجاً يخرُج معظمه من أراضٍ تخضع لسيطرة النظام في ذروة عزله سياسياً عن محيطه العربي والخليجي بشكل خاص.

شهدت بداية ديسمبر/ كانون الأول الماضي فوضى في كواليس إنتاج المسلسلات. لم تهدأ هواتف المنتجين وهم يتردّدون باتخاذ قرار التوقف أو الإكمال. قرار يتلاعب بإعدادات سوقٍ بلغ حجمه حوالى 15 مليون دولار لهذا الموسم، ويغامر بسلامة فرق العمل وأمنها على الأرض خلال زحف الفاتحين إلى العاصمة، حين لم يكن أحدٌ يعلم متى ستكون المعركة الكبرى، وأين ستتوقف.

ومع غروب شمس الخامس من ديسمبر/ كانون الأول، اتخذت معظم الشركات قراراً بإيقاف التصوير مؤقتاً، ريثما تتضح الرؤية، خصوصاً في المسلسلات التي كان يجري تصويرها في الأرياف البعيدة، وبدأ نجوم سوريون يتقاطرون لمغادرة البلاد خوفاً من الفوضى المرتقبة. وبهذا، تزاحمت حجوزات الطيران، خصوصاً إلى دبي التي يحوز معظم الفنانين السوريين إقاماتٍ ذهبية فيها، كانوا قد خبّأوها ليومٍ كهذا. وبسبب ازدحام المغادرين، آثر من تبقّوا بلا حجوزات طيران أن يغادروا إلى لبنان، وأن يحجزوا من هناك مقعداً على أقرب رحلة متجهة من بيروت إلى دبي، وكانت للمصادفة الرحلة المتجهة على خطوط الشرق الأوسط ظهيرة يوم الثلاثاء العاشر من ديسمبر، بُعَيد سقوط النظام وفي ذروة الفوضى في دمشق، رحلة النجوم التي ضمّت أهم الوجوه السورية التي غادرت البلاد مع عائلاتها، ومنهم صباح الجزائري وبناتها.

كان هؤلاء ممن اتّخذت إدارات إنتاجهم قراراً باكراً بإيقاف التصوير، فيما استمرّت مسلسلاتٌ بالتصوير حتى مساء السبت، 7 ديسمبر، ليلة سقوط النظام. وصباح اليوم التالي، كان المنتجون أمام واقع جديد، لا يعلم أحدٌ منهم كيف يمكن التعامل معه لإتمام العمل المرتبط بعقودٍ مبرمة سابقاً مع القنوات العارضة.

لم تكن الثقافة والفن ضمن أولويات حكومة الإنقاذ التي تسلمت السلطة للتو، حتى إنها لم تسمّ وزيراً للثقافة، وسمّت وزيراً للإعلام كانت أولوياته تتعلق بإقصاء بقايا “إعلام النظام”، وتنسيق عمل الإعلام الخارجي في البلاد، فكان على صنّاع الدراما محاولة الوصول إلى أي بابٍ يحلّون عبره مشكلاتهم العالقة، وحصلوا على لقاءٍ خاص هنا، وطمأنة جانبيّة هناك، إلا أن الأيام الأولى كانت مشحونةً بتوتّرٍ لا تكفي بضعة لقاءات مع مسؤولين شبه رسميين لإطفائه. وتطوّرت اللقاءات لجلوس بعض صنّاع الدراما مخرجين ومنتجين مع مسؤولين “فوق رسميين”، والحصول منهم على الضمانات اللازمة لاستئناف عمليات التصوير مع إجراء تعديلاتٍ مناسبة. فمثلاً، نقل المخرج الليث حجو مسلسله “البطل” من ملاك شركة “بينتالينس” المملوكة لعلي محمد حمشو، إلى ملاك شركة تحمل اسم “ايفر أفتر بيكتشرز”، حتى يتسنّى له إكمال الإنتاج من دون عوائق العمل تحت مظلّة شركة يملكها رجل أعمال إشكالي في الفترة الحالية. وكان متوقعاً أن يفعل حجو ذلك، بالاستناد إلى مواقفه السابقة في الأزمات، التي كانت دائماً تضع الأولوية في “رزق عائلات الفنيين”، الذين لا ذنب لهم في ألعاب الكبار، فعمَد إلى قبول مخاطرات إنجاز العمل مالياً وأمنياً، وتحمّل كل صعوبات العمل في أقاصي ريف اللاذقية الشمالي في منطقةٍ متفلتةٍ نسبياً، شهدت انتهاكات ومجازر بحق مدنيين إثر الصراع الذي اندلع لملاحقة “فلول النظام المخلوع”، وقد شفّهم الخطر بأحداث تكلمت عنها بطلة العمل المذكور نور علي، وكشفت عن إطلاق النار تجاهها خلال فيديو نشرته على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد يكون هذا العمل الأكثر تشنّجاً في كواليسه لاعتباراتٍ تتعلق بالشركة المنتجة وجغرافيا التصوير والوقت الضيق جداً لإنجاز العمل.

وهروباً من ظروف مشابهة من التعب والتعقيد، آثرت المخرجة رشا شربتجي تأجيل عملها مع الشركة نفسها “مطبخ المدينة” إلى موسم لاحق، رغم اكتمال عمليات تحضيره، ما يعني فوات منفعةٍ على السوق لا تقلّ عن مليوني دولار، وغياب نجوم العمل، سلافة معمار، سامر إسماعيل، وعباس النوري، عن الموسم الرمضاني، بكل ما يحمله هذا من خساراتٍ مادّية ومعنوية لهم. على أن ذلك مرتبطٌ، بالدرجة الأولى، بقرار الشركة المنتجة للعمل “بينتالينس”، وليس بيد المخرجة وحدَها، لكنها استدركت هذا الوقوع سريعاً، فأغلقت المطبخ، واتّجهت إلى ريف حمص لإتمام مسلسلها “نسمات أيلول”، من إنتاج “الزعبي للإنتاج الفني”، الذي كانت قد أشرفت على بدء عمليات تصويره، ثم أولت مهمّة إتمامه إلى أخيها مدير الإضاءة والتصوير، المخرج يزن شربتجي، لأنها مشغولةٌ في التحضير لعملها الذي ألغته فيما بعد، فتشاركا بإخراج المسلسل “تلتين بتلت”، والثلث الذي كان من حصّتها أوجب وضع اسمها أولاً على بوسترات العمل.

مسلسل “حبق” الذي كافح مخرجه باسم سلكا ليرى النور في رمضان، لم يستطع النجاح بمهمته، لأنه أصيب بمصيبتين: أولاهما تلكؤ الشركة المنتجة “كابتن برودكشن” في دفع مستحقات العاملين وصرف الميزانية الإنتاجية لظرف إداري فيها أخّر إنجاز العمل، وأدّى إلى توقّفه عدة مرات قبيل سقوط النظام، وشلّ إتمام العمل بعد سقوط النظام الذي فاقم مشكلات الشركة وسهولة تحرّكاتها المالية، فعجزت عن إيفاء تكاليف العمل البالغة مليوناً ونصف مليون دولار على أقل تقدير.

أما “ليالي روكسي”، فقد عانى مخرجه محمد عبد العزيز بإنجازه كما يجب، لأن الوضع الأمني المنفلت في الأيام الأولى لسقوط النظام أدّى إلى رفض بعض الممثلين خروجهم من منازلهم لإتمام مشاهدهم في العمل، وفي مقدّمهم أيمن زيدان الذي أصرّ بعد اطمئنانه على تصوير مشاهده داخل مدينة دمشق حصراً من دون مغادرتها إلى ريفها في دير علي، حيث مدينة الإنتاج التي تستضيف ديكورات العمل. إلى جانب ذلك، كانت بطلة العمل، سلاف فواخرجي، قد غادرت سورية ليل السبت 7 ديسمبر/ كانون الأول، ولم تقبل العودة لتصوير مشاهدها القليلة المتبقية، التي لا يمكن إتمام قصة العمل من دونها، فاضطر عبد العزيز إلى الاستعاضة عنها بدوبلير (غدير عاصي)، والتعديل بالمونتاج حتى ينقذ روكسي ولياليها التي أشرف على كتابة ما جرى فيها بالتشارك مع معن سقباني، شادي كيوان، وبشرى عبّاس.

أعطت الإدارة الجديدة موافقتها على استئناف تصوير مسلسل “السبع” مع تحفّظها على إعطاء موافقة تصوير سيشارك فيها نجم العمل باسم ياخور (قبل ظهوره في لقاء تلفزيوني مع نايلة تويني) وكأنها كانت تنتظر منه موقفاً، وقد جاءهم وجاءنا الجواب عند ظهوره.

بعيداً عن ذلك كله، طبخ “شيخ الكار” مسلسله على نار هادئة، وأخّر استئناف عمليات تصويره إلى اللحظات الأخيرة، حتى بات قرار الاستئناف مقامرةً قد تؤدّي إلى خروجه من السباق الرمضاني، ولكن “الصبّاح” منتجٌ لا تلوي له الأقدار ذراعاً، مهّد الأرض تماماً وحصل على كل الضمانات والتسهيلات والحماية الكافية لفريق عمله، كي يطلق شرارة استئناف عملهم “تحت سابع أرض”. وقد بذل مخرجه سامر البرقاوي جهداً مضاعفاً بمشاركة أخيه المخرج مصطفى برقاوي للحاق بالموسم الرمضاني، وكالعادة، بإمكانات كبيرة وميزانية شبه مفتوحة يستطيع فريق الصبّاح دائماً القفز فوق الحواجز وإعطاء نتائج كبيرة واحتمالات نجاح شبه مفتوحة أيضاً.

“دبّر” كلُّ مسلسلٍ نفسه، وأجرى المنتجون لكل أمر مقتضاه، لكن المشكلة الكبيرة كانت في النصوص، فجزءٌ من أعمال السنة يتحدّث عن الفساد والصراع الذي كان في البلاد، والذي لم يعد هناك معنىً لعرضه حسب قواعد اللعبة القديمة، أو عرض رموز الدولة التي اختطفها النظام السابق من علم ونشيد وطني، وحتى مؤسّسات، كالشرطة والوزارات وغيرها من أذرع خدمية، فعلى الأرجح أن يجري الكتّاب تعديلاتهم على النصوص، خصوصاً أن معظم الأعمال الرمضانية تبدأ تصويرها قبل كتابة الحلقات العشرة الأخيرة، حيث يتركونها مساحة للعب، حسب رغبة القنوات العارضة، وردود أفعال المشاهدين خلال الموسم الرمضاني. وهذه القاعدة أنقذت أعمال السنة من الضياع، بما أن العبرة بالخواتيم، أغلب الظن أن كتّاب الأعمال التي تحاكي الواقع المعاصر، كمسلسلي “البطل” و”تحت سابع أرض”، سيعدّلون نهايات أعمالهم ويستعرضون فيها سقوط النظام بشكل أو بآخر، ليبرّروا فيها كل ما جاء ضمن العمل عن كواليس الدولة السورية التي انحلّت، والصراع الذي كان قائماً في البلاد.

يتشاءم مراقبون بتخيّل مستقبل الدراما السورية أنه ضبابي، في ظل إدارة تقول صراحةً إنها لا ترى الفن والثقافة ضمن أولوياتها، ويتنبأون برغبتها في إقصاء بعض الفنانين، مثل باسم ياخور وسلاف فواخرجي وسوزان نجم الدين، لأسباب لا تخفى على أحد، رغم تصريح فواخرجي بأنها تلقّت رسالة بالغة الإيجابية من الإدارة الجديدة. وفي المقابل، يرى متفائلون أن الدراما السورية ستمضي إلى عصرٍ ذهبي بعد فكّ القيود الرقابية وتعقيدات الموافقات الأمنية التي خنقت الصناعة عقوداً.

تقول الموضوعية إن الرأيين على صواب، هناك ما يدعو إلى التحفظ، وما يدعو إلى الإعجاب، فتقديم الإدارة الجديدة التسهيلات القانونية على الأقل من استصدار موافقات تصوير ومنح إجازات تصدير للأعمال بسرعة كبيرة حتى تستطيع شركات الإنتاج الوصول بأعمالها إلى برّ الأمان أمرٌ يستحقّ التقدير. وإذا أردنا أن نكون متفائلين، كما تستوجب الحالة الوطنية، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أمور لها دلالاتها المشرقة:

الأول، اختيار مازن الناطور نقيباً للفنانين، وهو فنان لا يُشكّ في وطنيّته وصدق نياته، بالإضافة إلى الأسماء التي اختيرت في مجلس النقابة، وكلها لفنانين غيورين على وطنيّتهم، ويدعون إلى الحالة السورية الجامعة، فيما يبقى مصير لجنة صناعة السينما الشريكة للجنة الوطنية للدراما حسب القوانين معلقاً، فلم يسمّ لها مجلس جديد، على أن مجلسها الحالي متعاون ويمكن له أن يؤدّي مهامّه على الوجه المطلوب.

الثاني والأهم، انطلاق تصوير مسلسل حمل اسم “قيصر” بعيد سقوط النظام، وهو خمس ثلاثيات تحمل كلٌّ منها حكاية، إذا نظرنا إلى كيفية تعامل الإدارة الجديدة مع العمل، السرعة التي حصلوا فيها على موافقات التصوير، تعامل الإدارة مع ردّة فعل الجمهور على اسم المسلسل واحتوائها له بإيقاف تصوير العمل مؤقتاً يومين، ريثما تبديل اسمه، والأكثر إبهاراً قرارها بتقديم التسهيلات، الذي وصل إلى تجهيزها قريباً أربعة آلاف مقاتل من “العصائب الحمراء” للمشاركة بتصوير ثلاثية تحاكي سقوط النظام، سيجري تصويرها انطلاقاً من حلب وصولاً إلى الشام، هذه الخطوة الجريئة في دعم الصناعة الفنية تحسب للإدارة الجديدة وتدفع صناعها إلى بناء آمال كبيرة على الأيام المقبلة.

الثالث، وهو العامل الحاسم في حساب مستقبل الصناعة الفنية في البلاد، توقيع الاتفاق التاريخي بين رئاسة الجمهورية وقوات سوريا الديمقراطية، وما سيتبعه من إجراءات تتّسق مع اعتبار الكرد جزءاً فاعلاً في العملية السياسية. بمعنى آخر، لدى كل المثقفين والليبراليين والخائفين على الحريات الشخصية بطاقة صفراء في السلطة سيشهرونها لإنذار من يقترب مما يرونه حقاً وخيراً وجمالاً.

ما من فنان أو مثقف متصالح مع أي سلطة، مهما كانت وأياً كانت، فالسلطة التي تسعى لتكريس القائم دائماً لا بد أن تتصارع مع الفن الذي يسعى لتغيير القائم في كل حين، وهذا الصراع الذي سيظهر، عاجلاً أو آجلاً، في مكاتب الرقابة، اعتاد صنّاع الدراما السورية خوضه وإتقان ترويض الرقيب.

هل بات مسموحاً أن يتحدّث السوريون بلا سقف؟ طبعاً، قل عن عائلة الأسد ما تشاء، وسنزوّدك بصفوة مقاتلينا ليشاركوا في إنجاح عملك. السؤال: هل سنستطيع تصوير ثلاثية عن مجازر حصلت بحقّ مدنيين في الساحل على هامش معركة مع “فلول النظام” وأحداثٍ كادت أن تفرط حبل البلاد، والحصول على التسهيلات والمرونة نفسها في الرقابة والتعامل والتيسير؟ نرجو ذلك.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى