للحفظ: الوفاة طبيعية/ يعرب العيسى

18 مارس 2025
منذ لحظة انفجار نبعه الأصلي، جرت مياهٌ كثيرة في هذا النهر. وككلِّ الأنهار، ألقيت فيه جثثٌ أيضاً. كنّا الجثث، وكان الماءُ أحلامَنا، تناوبتنا الفصول والأحداث. وبكل الأحوال كان النهر هو طريقنا الوحيد نحو المستقبل. بعد أن ضاقت بنا الحياة والخيارات نصف قرن. خلال عبورنا السنوات الأربع عشرة الماضية، مُتنا بحماس وجدّية وبساطة، وربما سنموت بحماس وجدية، وحتى بسلاسة أيضاً في السنة القادمة.
ما بيدنا أن نفعل؟ هكذا يعمل التاريخ. وهكذا يجري علينا، فيما نعيش فيه. لا يكترث كثيراً لعدد قتلانا. لذلك تبدو دماؤنا مجرّد زيت لتسليك مسنّناته، وتليينها كي تسير نحو الأمام. وهو أيضاً لا يكترث لقوانين الفيزياء. لذلك تبدو هذه السنة طويلةً جداً، أطول بكثير من السنة ذات الـ 365 يوماً التي علمونا إياها في المدرسة. يفعل ما يريد حين يريد، يمرّ ثقيلاً على النفوس، مبلبِلاً على العقول، لكنه مستمر.
الخيارات التي أمامنا كثيرة، وبيدنا فعل السيئة منها، أو انتظار القدر ليفعل بنفسه الأسوأ. بيدنا أن نلتصق بانتماءات ما دون الدولة، ونستمر برشق الكراهية في وجوه بعضنا ووجه العالم. ونجمّع القيح من جديد، ونخزّنه منتظراً لحظة انفجار جديد.
بيدنا أن نتمترس في رؤيتنا الضيقة لأنفسنا وللآخر، وننظر من نافذتها للعالم ونعيد إنتاج الحقد شاهدةً لقبرنا الجديد. ونعود بعد سنوات لنكرر ما نقوله الآن، ولنشعر بالحزن الذي نشعر به الآن، والخوف والقلق والعجز، وكل المشاعر التي يمكن تصيب إنساناً، مطلق إنسان، لاح له ضوء في لحظة حالكة، هبّ راكضاً إليه، لكن أصواتاً من خلفه تصرخ به: ارجع، ارجع، هذا كمين، إنه قطار قادم لدعسنا.
بيدنا أن نتعلم من أعدائنا، ونمنحهم أكبر انتصار حلموا به يوماً: أن نكرّرهم. بيدنا أن نتجول كجماعات شبحية، ونترك لمخيلات الآخرين أن ترسم لنا صورَ طوائف أو قوميات، والأرجح أنها ستلصق بها بعد ذلك صفات مضطربة لغوياً من قبيل: كفرة، خونة، زنادقة، قتلة، ارهابيون، فلول، عملاء. من دون أن يكون لدينا القدرة على تعريف دقيق لأي واحدة من تلك الصفات.
بيدنا أن نلمّ كل الماضي، ونلقيه في النهر ذاته، ونجلس قليلاً هادئين، حتى يعود صفاء الماء.
يقول أوسكار وايلد: “جميعنا نعيش في الحضيض لكن بعضنا ينظر إلى النجوم”. وهؤلاء الذين ينظرون إلى الأعلى، غالباً ما كان ينظر إليهم في أزمنة التشنج على أنهم مجانين، أو بالحد الأدنى، ضعفاء ومرهفو الحس و”كيوت”. ولطالما تحمّلوا سياط سوء الفهم، ومعاداة القطيع، ولطالما حزنوا ويئسوا.
عملياً كانوا هم الأقلية في أي مجتمع يظن نفسه أقليات وأكثريات، منتصرين ومنهزمين، ودائماً ما كان صوت هذه الأقلية خافتاً وخجولاً، لكنه كان ثابتاً وعميقاً، لذلك فقد حقّ حين أتت لحظة الحق.
الرهان على هذه الأصوات التي لا ترى نفسها أرقاماً ضمن جماعاتٍ بدائية، هو الأداة الوحيدة التي نملكها في هذا السرداب المظلم والطويل.
تعيش هذه الأصوات أسوأ أيامها الآن، لأن لسان حالها يقول: هذا سيخ محمّى يقترب من جلدي الآن، أعرف أن لا أحد يبقى ثابتاً أمام سيخ نار سوى فاقد وعيٍ أو صاحب ألم تعفّن القيح في جرحه. لا بأس اقترب أيها السيخ، اقترب، لا مناص من إخراج هذا القيح، افعلها، رغم أن رائحة الشواء التي أشمّها هي لحمي المحروق. الاحتفاء بذكرى انفجار النبع، لا يعني التعامي عن قتلى الضفتين. والنواح على القتلى لا ينفي قدرة الماء الأحمر على العودة نهراً. من بين مئات الخيارات، بيدنا أن ننتبه. وما أظننا نفعل.
العربي الجديد