أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

حالنا يصعب على الكافر/ حسان الأسود

2025.03.18

حالُ السوريين وبلادهم يصعُبُ على الكافر كما يقول المثل، فالأزمات الداخلية المتمثلة بارتفاع الأسعار الجنوني وبانخفاض قيمة العملة يطحنان الناس بكل ما في الكلمة من معنى. أبواب الاقتصاد كلها موصدةٌ في وجه الإدارة الجديدة، فالنفط والغاز بغالبيتهما تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والزراعة في أدنى إنتاجيتها منذ عقود، أما التجارة فتكاد تستنزف العملة الصعبة دون أن تدرّ شيئًا من الدخل على الخزانة العامة، والسياحة شبه ميتة بسبب انعدام الخدمات والاضطرابات وعدم الاستقرار الأمني الكامل.

أتت فوق ذلك كله إجراءات صرف الموظفين الوهميين من العمل ومسائل وقف رواتب أعضاء الجيش وأجهزة الأمن والشرطة المنحلّة لتفاقم حالة العوز عند الشرائح الدنيا منها. هذه الشرائح التي لم تكن قادرة على مراكمة الثروات واقتصرت على التعيّش من منافذ الفساد التي أتاحها لها النظام البائد واسعة جدًا، بل تكاد تشمل مع الموظفين الوهميين نسبًا كبيرة من قطاع العاملين في الدولة. ويكاد المتتبّع أن يلحظ بحقّ كيف أنّ المغتربين والمهجّرين من السورين يحملون عبئًا كبيرًا عن أهلهم وعن الدولة ذاتها بواسطة التحويلات الشهرية التي يرسلونها من أوروبا وأميركا والخليج العربي، فلولا هذه المبالغ البسيطة لمات الناسُ من الجوع فعلًا وبلا مبالغة. إنّ عدم وجود إحصائيات دقيقة لا ينفي القيمة الكبرى لهذه التحويلات لأننا نرى أثرها من خلال الواقع بأعيننا ونسمعها بآذاننا.

لم تستطع الدول العربية الراغبة بتقديم العون للسورين أن تحوّل أموالًا أو تودع في المصرف المركزي أيّة ودائع خوفًا من العقوبات الأميركية، ولم يستطع المستثمرون السوريون ضخ أموالهم في شرايين اقتصاد البلاد للأسباب ذاتها ولغيرها مما يتعلّق بالإدارة الجديدة وبالظروف الموضوعية وأهمها غياب البنية التحتية اللازمة للاستثمار. إن عدم وجود نظامٍ مصرفي مرن وموثوق، وعدم وجود سياسة ضريبية واضحة وثابتة، وعدم وجود نظام قضائي حيادي ومستقر ونزيه وشفاف وفعّال، كلها من بين العوامل الموضوعية التي تعيق انخراط رأس المال عمومًا في الدورة الاقتصادية السورية. كذلك ثمّة بعض الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الجديدة والتي كان من شأنها إشاعة حالة الخوف عند المستثمرين، من ذلك على سبيل المثال ما أشيع عن تسوية أوضاع بعض رموز النظام البائد ممن كانوا أيامه منافذه وشرايينه الاقتصادية. هذه الإجراءات توحي بأنّ المنافسة قد لا تكون شريفة وأنّ المحسوبيات قد تلعب دورًا في العطاءات الحكومية لاحقًا، وأنّ دورة الفساد قد تُعيد إنتاج ذاتها بطرق وأساليب جديدة.

على الصعيدين الأمني والسياسي لم تستتبّ الأوضاع كليّة للإدارة الجديدة بعد، فملف الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية وقوات قسد ما يزال في بدايته بعد الاتفاق الأخير بين الرئيس الشرع والجنرال مظلوم عبدي، وقد يأخذ وقتًا طويلًا حتى يبدأ تأثيره في عموم البلاد. ثم هناك قوات الجيش الوطني العاملة في مناطق النفوذ التركي شمال سوريا، والحكومة المؤقتة التي لم تحلّ ذاتها بعد ولم تسلّم مناطقها وأعمالها ومواردها للحكومة المركزية في دمشق، وهناك أيضًا المشكلات التي خلقتها حالة الغموض وعدم الوضوح عند القوات العسكرية في السويداء، وحالة التجاذب الواضحة بين المرجعية الروحية المتمثلة بالشيخ حكمت الهجري ومن يقف معه من أهالي السويداء وبين الإدارة المركزية في العاصمة، ولا ندري بعد مدى تأثير اتفاق الإدارة الأخير في دمشق مع وجهاء من المحافظة على بعض القضايا والذي أُعلن عنه مؤخرًا. لا يخفى على أحد أيضًا كيف استغلّت إسرائيل هذه الحالة من التباين في المواقف والمصالح ودخلت على الخط محاولة فرض أجنداتها الخاصّة.

على الصعيد الدولي لم يؤثر رفع العقوبات الأوروبية بأي شكل ملحوظ على الأوضاع الاقتصادية، وسياسيًا باتت أوروبا الآن في مشغلة عن الوضع السوري بعد تبيّنها نهج إدارة الرئيس ترمب الخطير تجاه أوكرانيا والحلفاء الغربيين عمومًا. أمّا الإدارة الأميركية التي يتميّز فريقها الراهن بالانحياز المطلق لإسرائيل والعداء المعلن للإسلاميين بمختلف أشكالهم وألوانهم، فإنها ليست بوارد رفع العقوبات عن سوريا أو حتى تعليقها الآن. هنا مربط الفرس، فمن دون ذلك لن يكون بالإمكان التحرك وإعادة الحياة لسوريا وأهلها. الدول العربية لا تعدم المشكلات والانشغالات، فالأوضاع الملتهبة في الضفة الغربية وخطر تهجير أهالي غزّة يشكلان التحدّي الأكبر أمام مجموعة الدول العربية الفاعلة. أمّا تركيا فليست بوارد تقديم العون الاقتصادي لأنها لم تعتد ذلك أولًا ولأنها في وضع لا يسمح لها بذلك ثانيًا. يبقى خطر التخريب الإيراني قائمًا بكل الأحوال، ولا يتوقّع أحدٌ أن تسلّم إيران بالهزيمة في سوريا بعد المبالغ الهائلة التي أنفقتها دعمًا للنظام البائد هناك ولاعتبارات أخرى من بينها الموقع الجيوسياسي الذي خسرته في سوريا، وقد ظهرت جليًا الأيادي الإيرانية في هجمات الفلول الأخيرة في الساحل.

سيكون حجم التأثير الإيراني مرتبطًا بالمدى الذي ستذهب إليه الإدارة الأميركية بالضغط على الحكومة العراقية، فليس لإيران أن تؤثر ميدانيًا إلا من خلال هذا المنفذ بعد أن قلّمت إسرائيل أظافر حزب الله وخلعت أنيابه وجعلت لبنان كلّه بموانئه البحرية والجوية وبمنافذه البريّة تحت رقابتها المباشرة، لكننا نعلم جميعًا كيف يمكن تقديم الدعم المادي من خلال تهريب الأموال الذي تحتاجه الفلول أو التزويد بالمعلومات أو التحريض الإعلامي. وهنا نأتي أخيرًا للتدخلات الإسرائيلية التي لم تنقطع منذ اليوم الأول لفرار الأسد وانهيار نظامه. لم يُخفِ زعماء إسرائيل ألمهم من خسارة الأسد، كما لم يخفوا أيضًا عداءهم للإدارة الجديدة واتهاماتهم المستمرة لها بالتطرف. هذا عامل ضغط كبير لا يمكن تجاهله في حالة الإعاقة السورية الراهنة.

على صعيد آخر، نشهد جميعًا ارتفاع مناسيب التذمر من سياسات اللون الواحد التي تنفذها الإدارة الجديدة بتناقض واضح مع خطابات التطمين التي دأب عليها الرئيس الشرع ووزير خارجيته الشيباني. وصل الأمر بالاستحواذ أن يتمّ تعيين مدير للنقل في محافظة طرطوس من الفئة الثالثة، أي من حملة الشهادة الإعدادية، وهذا مثال من بين عشرات الأمثلة التي يمكن سوقها في هذا المضمار. موضوع تركيز السلطات في يد رئيس الدولة في المرحلة الانتقالية لا يخلو من انتقادات بعضها محقّ بلا ريب، وقد كان من المنتظر تغيير هذا النهج عند صدور الإعلان الدستوري، بيد أنّ التيّار غلبه السفين. هذه العوامل وغيرها الكثير تضع السوريين والسوريات على سندان العَوَزِ والفاقة وتحت مطرقة الضغوطات الأمنية والسياسية، ولا يوجد حلّ واحد للخروج من هذا المأزق الخطير، بل هناك حلول جزئية تصبّ في النهاية في جدول الخلاص والقيامة السورية، وأهمها مراجعة الإدارة الجديدة الكثير من قراراتها وإجراء جردة حساب أمام الشعب ليستمر في الوقوف معها كما هو حتى اللحظة الراهنة. مع ذلك كلّه يبدي السوريون والسوريات ارتياحًا لأداء الرئيس الشرع، فقد خرج يخاطب الشعب مرتين خلال 48 ساعة إثر أحداث الساحل، وأنشأ لجنة تحقيق ولجنة للسلم الأهلي، ثم استقبل وفدًا من ناشطي السويداء، وقد يستقبل وفودًا من أهالي الساحل أو يزورهم قريبًا، كذلك كان للتوقيع على الاتفاق مع الجنرال مظلوم عبدي أثر نفسي كبير على الناس.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى