سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 18 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
———————————————-
حالنا يصعب على الكافر/ حسان الأسود
2025.03.18
حالُ السوريين وبلادهم يصعُبُ على الكافر كما يقول المثل، فالأزمات الداخلية المتمثلة بارتفاع الأسعار الجنوني وبانخفاض قيمة العملة يطحنان الناس بكل ما في الكلمة من معنى. أبواب الاقتصاد كلها موصدةٌ في وجه الإدارة الجديدة، فالنفط والغاز بغالبيتهما تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والزراعة في أدنى إنتاجيتها منذ عقود، أما التجارة فتكاد تستنزف العملة الصعبة دون أن تدرّ شيئًا من الدخل على الخزانة العامة، والسياحة شبه ميتة بسبب انعدام الخدمات والاضطرابات وعدم الاستقرار الأمني الكامل.
أتت فوق ذلك كله إجراءات صرف الموظفين الوهميين من العمل ومسائل وقف رواتب أعضاء الجيش وأجهزة الأمن والشرطة المنحلّة لتفاقم حالة العوز عند الشرائح الدنيا منها. هذه الشرائح التي لم تكن قادرة على مراكمة الثروات واقتصرت على التعيّش من منافذ الفساد التي أتاحها لها النظام البائد واسعة جدًا، بل تكاد تشمل مع الموظفين الوهميين نسبًا كبيرة من قطاع العاملين في الدولة. ويكاد المتتبّع أن يلحظ بحقّ كيف أنّ المغتربين والمهجّرين من السورين يحملون عبئًا كبيرًا عن أهلهم وعن الدولة ذاتها بواسطة التحويلات الشهرية التي يرسلونها من أوروبا وأميركا والخليج العربي، فلولا هذه المبالغ البسيطة لمات الناسُ من الجوع فعلًا وبلا مبالغة. إنّ عدم وجود إحصائيات دقيقة لا ينفي القيمة الكبرى لهذه التحويلات لأننا نرى أثرها من خلال الواقع بأعيننا ونسمعها بآذاننا.
لم تستطع الدول العربية الراغبة بتقديم العون للسورين أن تحوّل أموالًا أو تودع في المصرف المركزي أيّة ودائع خوفًا من العقوبات الأميركية، ولم يستطع المستثمرون السوريون ضخ أموالهم في شرايين اقتصاد البلاد للأسباب ذاتها ولغيرها مما يتعلّق بالإدارة الجديدة وبالظروف الموضوعية وأهمها غياب البنية التحتية اللازمة للاستثمار. إن عدم وجود نظامٍ مصرفي مرن وموثوق، وعدم وجود سياسة ضريبية واضحة وثابتة، وعدم وجود نظام قضائي حيادي ومستقر ونزيه وشفاف وفعّال، كلها من بين العوامل الموضوعية التي تعيق انخراط رأس المال عمومًا في الدورة الاقتصادية السورية. كذلك ثمّة بعض الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الجديدة والتي كان من شأنها إشاعة حالة الخوف عند المستثمرين، من ذلك على سبيل المثال ما أشيع عن تسوية أوضاع بعض رموز النظام البائد ممن كانوا أيامه منافذه وشرايينه الاقتصادية. هذه الإجراءات توحي بأنّ المنافسة قد لا تكون شريفة وأنّ المحسوبيات قد تلعب دورًا في العطاءات الحكومية لاحقًا، وأنّ دورة الفساد قد تُعيد إنتاج ذاتها بطرق وأساليب جديدة.
على الصعيدين الأمني والسياسي لم تستتبّ الأوضاع كليّة للإدارة الجديدة بعد، فملف الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية وقوات قسد ما يزال في بدايته بعد الاتفاق الأخير بين الرئيس الشرع والجنرال مظلوم عبدي، وقد يأخذ وقتًا طويلًا حتى يبدأ تأثيره في عموم البلاد. ثم هناك قوات الجيش الوطني العاملة في مناطق النفوذ التركي شمال سوريا، والحكومة المؤقتة التي لم تحلّ ذاتها بعد ولم تسلّم مناطقها وأعمالها ومواردها للحكومة المركزية في دمشق، وهناك أيضًا المشكلات التي خلقتها حالة الغموض وعدم الوضوح عند القوات العسكرية في السويداء، وحالة التجاذب الواضحة بين المرجعية الروحية المتمثلة بالشيخ حكمت الهجري ومن يقف معه من أهالي السويداء وبين الإدارة المركزية في العاصمة، ولا ندري بعد مدى تأثير اتفاق الإدارة الأخير في دمشق مع وجهاء من المحافظة على بعض القضايا والذي أُعلن عنه مؤخرًا. لا يخفى على أحد أيضًا كيف استغلّت إسرائيل هذه الحالة من التباين في المواقف والمصالح ودخلت على الخط محاولة فرض أجنداتها الخاصّة.
على الصعيد الدولي لم يؤثر رفع العقوبات الأوروبية بأي شكل ملحوظ على الأوضاع الاقتصادية، وسياسيًا باتت أوروبا الآن في مشغلة عن الوضع السوري بعد تبيّنها نهج إدارة الرئيس ترمب الخطير تجاه أوكرانيا والحلفاء الغربيين عمومًا. أمّا الإدارة الأميركية التي يتميّز فريقها الراهن بالانحياز المطلق لإسرائيل والعداء المعلن للإسلاميين بمختلف أشكالهم وألوانهم، فإنها ليست بوارد رفع العقوبات عن سوريا أو حتى تعليقها الآن. هنا مربط الفرس، فمن دون ذلك لن يكون بالإمكان التحرك وإعادة الحياة لسوريا وأهلها. الدول العربية لا تعدم المشكلات والانشغالات، فالأوضاع الملتهبة في الضفة الغربية وخطر تهجير أهالي غزّة يشكلان التحدّي الأكبر أمام مجموعة الدول العربية الفاعلة. أمّا تركيا فليست بوارد تقديم العون الاقتصادي لأنها لم تعتد ذلك أولًا ولأنها في وضع لا يسمح لها بذلك ثانيًا. يبقى خطر التخريب الإيراني قائمًا بكل الأحوال، ولا يتوقّع أحدٌ أن تسلّم إيران بالهزيمة في سوريا بعد المبالغ الهائلة التي أنفقتها دعمًا للنظام البائد هناك ولاعتبارات أخرى من بينها الموقع الجيوسياسي الذي خسرته في سوريا، وقد ظهرت جليًا الأيادي الإيرانية في هجمات الفلول الأخيرة في الساحل.
سيكون حجم التأثير الإيراني مرتبطًا بالمدى الذي ستذهب إليه الإدارة الأميركية بالضغط على الحكومة العراقية، فليس لإيران أن تؤثر ميدانيًا إلا من خلال هذا المنفذ بعد أن قلّمت إسرائيل أظافر حزب الله وخلعت أنيابه وجعلت لبنان كلّه بموانئه البحرية والجوية وبمنافذه البريّة تحت رقابتها المباشرة، لكننا نعلم جميعًا كيف يمكن تقديم الدعم المادي من خلال تهريب الأموال الذي تحتاجه الفلول أو التزويد بالمعلومات أو التحريض الإعلامي. وهنا نأتي أخيرًا للتدخلات الإسرائيلية التي لم تنقطع منذ اليوم الأول لفرار الأسد وانهيار نظامه. لم يُخفِ زعماء إسرائيل ألمهم من خسارة الأسد، كما لم يخفوا أيضًا عداءهم للإدارة الجديدة واتهاماتهم المستمرة لها بالتطرف. هذا عامل ضغط كبير لا يمكن تجاهله في حالة الإعاقة السورية الراهنة.
على صعيد آخر، نشهد جميعًا ارتفاع مناسيب التذمر من سياسات اللون الواحد التي تنفذها الإدارة الجديدة بتناقض واضح مع خطابات التطمين التي دأب عليها الرئيس الشرع ووزير خارجيته الشيباني. وصل الأمر بالاستحواذ أن يتمّ تعيين مدير للنقل في محافظة طرطوس من الفئة الثالثة، أي من حملة الشهادة الإعدادية، وهذا مثال من بين عشرات الأمثلة التي يمكن سوقها في هذا المضمار. موضوع تركيز السلطات في يد رئيس الدولة في المرحلة الانتقالية لا يخلو من انتقادات بعضها محقّ بلا ريب، وقد كان من المنتظر تغيير هذا النهج عند صدور الإعلان الدستوري، بيد أنّ التيّار غلبه السفين. هذه العوامل وغيرها الكثير تضع السوريين والسوريات على سندان العَوَزِ والفاقة وتحت مطرقة الضغوطات الأمنية والسياسية، ولا يوجد حلّ واحد للخروج من هذا المأزق الخطير، بل هناك حلول جزئية تصبّ في النهاية في جدول الخلاص والقيامة السورية، وأهمها مراجعة الإدارة الجديدة الكثير من قراراتها وإجراء جردة حساب أمام الشعب ليستمر في الوقوف معها كما هو حتى اللحظة الراهنة. مع ذلك كلّه يبدي السوريون والسوريات ارتياحًا لأداء الرئيس الشرع، فقد خرج يخاطب الشعب مرتين خلال 48 ساعة إثر أحداث الساحل، وأنشأ لجنة تحقيق ولجنة للسلم الأهلي، ثم استقبل وفدًا من ناشطي السويداء، وقد يستقبل وفودًا من أهالي الساحل أو يزورهم قريبًا، كذلك كان للتوقيع على الاتفاق مع الجنرال مظلوم عبدي أثر نفسي كبير على الناس.
تلفزيون سوريا
—————————–
كي لا تكون سوريا جماهيريةً عظمى!/ عمر قدور
الثلاثاء 2025/03/18
توجّه وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى بروكسل يوم الاثنين، لحضور النسخة التاسعة من المؤتمر الذي يُعقد في العاصمة البلجيكية لدعم احتياجات السوريين في الداخل وفي بلدان اللجوء. وكانت الشكوك قد شاعت يوم السبت حول مشاركة الشيباني على خلفية تغريداتٍ له وبيانٍ لوزارة الخارجية، حيث نصّ البيان على أن قرار المشاركة غير محسوم، وأن الوزارة لن تشارك في أي مؤتمر “يروّج لأجندات خارجية على حساب سيادة سوريا ومصالحها الوطنية.. أو إذا كان مسيَّساً لخدمة روايات محددة”.
العنوان المقرر أصلاً للنسخة التاسعة من مؤتمر بروكسل: تلبية احتياجات الانتقال الناجح. وهو بلا شك دعمٌ أوروبي يعزز الدعم الذي ظهر منذ الساعات الأولى، عندما رحب الاتحاد الأوروبي والعديد من دوله على حدة بإسقاط الأسد، واستعجل وزراء من أوروبا الذهاب إلى دمشق للقاء الإدارة الجديدة، وهو ما فعلته أيضاً واشنطن التي تواصلت مع قائد الإدارة الجديدة، وأزالت اسمه من قائمة المطلوبين لديها. ولعل ما ظهر عليه الشيباني في بروكسل يفصح عن شيء مما لا يُقال علناً، فمن الواضح أنه غير مرتاح، وكأنه ليس الشخص نفسه الذي تحدث باسترخاء وطلاقة وأمل قبل شهر ونصف في دافوس.
داخلياً، سادت قبل مئة يوم حالة تواطؤ سورية. فمع سقوط الأسد، تواطأ معظم السوريين على تمنّي النجاح للسلطة الجديدة في دمشق. والسوريون بمعظمهم فهموا ذلك على نحو إيجابي، لا إزاء السلطة ذاتها وإنما إزاء بلدهم الذي أُنهك، وأهله الذين بحاجة ماسّة إلى التعافي. البوادر الإيجابية صدرت حتى عن سوريين كان من المستحيل توقّعها منهم إزاء “هيئة تحرير الشام” الحاكمة، وبدت الأخيرة كأنها تعزز شعبيتها في مختلف الأوساط المتوجّسة ضمناً من تنظيم إسلامي، إلا أن سلوكها تغيّر في الأسابيع الأخيرة، حتى أن بعض مناصريها على السوشيال ميديا راح يلوّح بعودة الجولاني (بدل الشرع) كناية عن اعتماد الحزم بدل الليونة.
الأجواء الخارجية الإيجابية تأثّرتْ بما يحدث في الداخل السوري، فمؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد، ثم تشكيل اللجنة التي أعدّت الإعلان الدستوري، كانا مخيّبين للآمال في الداخل أولاً. التحضير للمؤتمر ثم انعقاده تميّزا باعتباطية فاقعة، تكشف عن عدم احترام الفكرة من أساسها، مع أن السوريين بحاجة حقيقية وماسّة إلى مؤتمر وطني تأسيسي يدشّن عقداً اجتماعياً جديداً وطوعياً بعد ستة عقود من حكم العسكر والمخابرات. أما الإعلان الدستوري فلمّ يلبِّ التطلعات لكونه أتى كإعلان من قوة متغلِّبة، لا كإعلان يتوّج نضالات السوريين من أجل الحرية والديموقراطية، إذا تجاوزنا تسريب مسوّدة للإعلان (عبر وسائل إعلام كبرى) منذ لحظة تشكيل لجنة الصياغة، ما أوحى بأن الأمر مدبّر واللجنة شكلية.
بالطبع، أتت الأحداث الدموية في الساحل السوري لتُحدث فرقاً في الموقف الأوروبي، وفي المواقف الدولية المعبَّر عنها بإدانة شديدة من مجلس الأمن، على نحو لا تشتهيه السلطة الجديدة ومؤيدوها، ولا يشتهي عواقبه سوريون كثر. تغطية الأعين والقول إن الشمس غير موجودة لا تحجب الشمس عن أعين الآخرين، وما قرأه السوريون من أسماء ضحايا المجازر تعرفه الدوائر الغربية جيداً وربما أكثر منهم. وما شاهده السوريون من فيديوهات تنكيل، أقلّها الشتم على الهوية الطائفية، والطلب من أصحابها العواء، ليس سراً يمكن إخفاؤه.
أعداد الفيديوهات هي أكثر بكثير مما يشتهي أعداء السلطة، ويجدر بالأخيرة أن تسأل مستشاريها القانونيين عن توصيف الانتهاكات، لأن العالم يستخدم هذه اللغة، ولن يحابيها باستخدام مفردات من نوع “تجاوزات” كما فعلت هي في توصيف أعمال القتل والتنكيل. شيء من الأوصاف القانونية حضر في خطابات زعماء أحزاب غربيين، وإذا لم يحضر بعدُ في الخطابات الرسمية، فلأن الحكومات لا تريد التصرف بما تمليه عليها خطاباتها، وبما يُقال في الغرف المغلقة. لكن ما يرشح من أوساط القرار يشير إلى تراجع الحكومات الغربية عن حماستها للسلطة الجديدة، وإلى أنها ستكون حذرة في ملف الرفع النهائي للعقوبات.
خطاب السلطة العلني في موضوع رفع العقوبات غير مطمئن، فهو يربط إسقاطها بسقوط الأسد الذي تسبب بها، على اعتبارها موجَّهة ضده، وهكذا لم يبقَ لها من مبرر بعد هروبه. ثمة عدم تمييز هنا في العقوبات نفسها، فبعضها شخصي ضد الأسد وشخصيات من عائلته وحاشيته، وبعضها الآخر ضد الكيانات الحكومية السورية. الأهم، وما ينبغي تذكّره جيداً، أن العقوبات (وأشدها أثراً هي الأميركية) لم توضع بهدف إسقاط الأسد، بل إن واشنطن لم تعلن يوماً أنها تريد إسقاط الأسد، وكان المطلوب منه الدخول في عملية سياسية بموجب القرارات الدولية.
وداعمو الإبقاء على العقوبات الغربية يبنون على هذا تحديداً، على القول بأن تطبيق القرارات الدولية لا يزال مستحقاً وسلاح العقوبات هو للضغط من أجل تنفيذها. وسيكون من الخفّة الظنّ بأن الغرب مستعد للتنازل كرمى لإعادة اللاجئين إلى سوريا، فإعادة مليون لاجئ من أوروبا والاضطرار إلى استقبال مليوني لاجئ بدلاً منهم ليست بالمقايضة الرابحة، إذا تغاضينا عمّا في المبدأ نفسه من إهانة للسوريين باعتبارهم سلعة في المفاوضات.
إذا كانت المسألة تتعلق بسيادات الدول، فالعقوبات الغربية هي ضمن نطاق سيادة الذين فرضوها، وبموجب قوانينهم التي لم تُوضع خصيصاً لأجل سوريا. والكلام عن السيادة السورية، بهذه الطريقة الموجّهة إلى الغرب في بيان الخارجية، يقع في تناقض من حيث الحاجة الماسة إلى دعم مالي غربي ورفع للعقوبات. وهذه قرارات سيادية لتلك الدول التي يُطلب منها دعمٌ غير مشروط.
واحد من أكثر الكليشيهات شيوعاً هو أن الدول ليست جمعيات خيرية، وأنها تتصرف بموجب مصالحها وموازين القوى. ومن الجيد للسوريين جميعاً الاعتراف بأن بلدهم ضعيف ومدمّر، ويقع ضمن تقاطع حسابات دولية وإقليمية معقدة، والسلطة الجديدة ليست إطلاقاً في موقع قوة لتفرض شروطها، فـ”الشرعية الثورية” التي تحكم بموجبها لا تجعلها قوية كالشرعية الدستورية المؤجَّلة إلى ما بعد خمس سنوات على الأقل. وكل ما يُقال عن شعبيتها لدى جمهورها غير قابل للقياس، فوق أن عموميتها في تراجع لتقتصر الشعبية على أوساط من لون واحد.
أيضاً، لا يستقيم خطاب السيادة المعلن مع واقع سوريا نفسها. فالسلطة لا تستطيع التواجد في منطقة الجزيرة طالما وجِد مخفر أميركي يمنع ذلك، ولا تستطيع قواتها الانتشار جنوباً تحت طائلة التصريحات الإسرائيلية واختلال ميزان القوى بالمطلق لصالح تل أبيب. الأمر لا يتعلق بقوى الخارج وحدها، فالسوريون منقسمون، والحضور الخارجي أتى أصلاً بسبب انقساماتهم. وحتى الذي يتهامس به بعض السوريين، عن عدم قدرة السلطة على ضبط الانتهاكات في الساحل، وإن قيل ذلك في سياق إيجاد أعذار لها، ينتقص من خطاب السيادة ومن رواية النصر الخارق على الأسد وداعميه.
من المستغرب، والحال كما نعلم، أن يصدر عن السلطة خطاب داخلي مكابر لا يعترف بالأخطاء والمسؤوليات، فهي بحاجة إلى أن تستمد القوة من الداخل، وأن تكون محل ثقته. وفوق مسؤولياتها، في ظرف استثنائي أساساً، سيكون من المفيد لو أنها تقدّم مثلاً في التواضع والشفافية، لعلها بذلك تخفف من غلواء الهيستريا الانتصارية التي تتملك كثر من المتحمّسين لها، والتي لا تتفق مع الضعف الحالي، وكان آخر مظاهرها دعوات البعض على السوشيال ميديا إلى اجتياح لبنان رداً على مقتل ثلاثة جنود سوريين على الحدود معه.
سوريا بأمسّ الحاجة إلى سياسة داخلية وخارجية مرنة، لا مراوِغة، ولئن كان هذا مطلوباً عموماً، فالأمر هنا يتعلق مباشرة برغيف الخبز وبالدواء وبمختلف الخدمات المعيشية الضرورية، وهي بحاجة فورية إلى عشرات مليارات الدولارات للشروع في إعادة إعمار جادة. كل ذلك لن يتحقق إلا بسياسة حكيمة متواضعة تكسب ثقة الداخل، وتبني أسساً مستدامة للاستقرار، ما يشجع المستثمرين على القدوم، ويجعل أصوات المطالبين برفع نهائي للعقوبات أقوى. بخلاف ذلك، من المرجّح ألا يكون رفع العقوبات قريباً، والعالم الذي ترك سوريا بلا حل مستدام طوال السنوات الماضية لن يضيره الاستمرار في النهج نفسه طالما لم يرَ التغيير الموعود في دمشق.
مع انقضاء الحقبة الأسدية، يليق بالسوريين التخلّص نهائياً من الإرث الشعاراتي، حيث كانت المفاخرة تتضخم بالمكابرة على ضعف البلاد، وكان الاعتزاز يأتي من قوة الخصم أو العدو لا من قوة الداخل. يوماً ما قدّم القذافي كاريكاتوراً على هذه العقلية، إذ أطلق على ليبيا اسم “الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى”، مبرراً إضافة “العظمى” بالغارات الأميركية في نيسان/ أبريل 1986، ما يعني أن بلاده صارت عظيمة لأنها تلقّت ضربات من دولة عظمى. على الضد من عقلية الشعارات الجوفاء تلك، تحتاج سوريا أن تكون جمهورية، لا جماهيرية، وألا تكون عظمى.
المدن
————————
سياسة ترامب تجاه سوريا: التحول نحو الاحتواء الاستراتيجي/ لين خطيب
18 مارس 2025
يتبنى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ولايته الثانية، نهجًا مختلفًا تجاه سوريا يقوم على “التقليل الاستراتيجي”، حيث يتم تقليل التدخل المباشر للولايات المتحدة مع الحفاظ على وجود يخدم المصالح الإقليمية الأميركية. أربعة عناوين تلخص سياسة ترامب تجاه سوريا بعد انهيار نظام الأسد: فك الارتباط العسكري، والتحالف مع تركيا، واحتواء إيران، وخدمة المصالح الإسرائيلية.
الانسحاب العسكري مع الاحتفاظ بالنفوذ الاستراتيجي
أحد أهم التطورات في ظل قيادة ترامب المتجددة هو نيته الواضحة في تقليص وجود القوات الأميركية في سوريا. وقد أدى ذلك إلى محاولة مساعدة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والحكومة السورية الجديدة على التوصل إلى اتفاق يهدف إلى دمج “قسد”، التي يقودها الأكراد، ضمن الحكومة السورية المؤقتة بقيادة أحمد الشرع. وإذا تحقق هذا الاتفاق بالكامل، فسيشكل خطوة نحو استقرار شمال سوريا، مع السماح بانسحاب أميركي يتم بطريقة تمنع حدوث فراغ أمني.
ومع ذلك، فإن الانسحاب الأميركي ليس خاليًا من التعقيدات. فقد استخدمت الولايات المتحدة تاريخيًا وجودها العسكري في شمال شرق سوريا لمواجهة تنظيم “داعش”، ودعم حلفائها من الأكراد، وموازنة النفوذ الإيراني. وقد يؤدي الانسحاب المتسرع إلى ترك فراغ يمكن للاعبين إقليميين استغلاله.
ومن منظور سوري، يُنظر إلى خروج القوات الأميركية على أنه خطوة ضرورية لاستعادة السيادة الكاملة، رغم المخاوف من القوة التي قد تملأ هذا الفراغ. وفي الوقت الراهن، يبدو أن استراتيجية ترامب لن تكون انسحابًا كليًا بل إعادة تموضع تُقلل من البصمة الأميركية مع الحفاظ على النفوذ من خلال تحالفات مع إسرائيل وتركيا.
دور تركيا والمساومات الجيوسياسية
بالفعل، تُعد كل من تركيا وإسرائيل من اللاعبين الرئيسيين في تشكيل سياسة ترامب تجاه سوريا. فيما يتعلق بتركيا، فقد سلطت تصريحات ترامب، التي جاءت فور الإطاحة بنظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، الضوء على الدور المحدود للولايات المتحدة في سوريا، مع الإقرار بالدور الكبير لتركيا في البلاد، وأشارت التصريحات إلى أن تركيا خرجت كالمُنتصر الوحيد في سوريا وتتمتع بجميع المزايا الاستراتيجية فيها.
ومن منظور سوري، يُنظر إلى النفوذ التركي على أنه معقد؛ فبالرغم من معارضة كثير من السوريين لأي تدخل أجنبي، إلا أن الدور التركي يُعتبر في كثير من الأحيان أفضل من التدخل الإسرائيلي أو الأميركي، نظرًا للعلاقات التاريخية لأنقرة مع المنطقة ومعارضتها لنظام الأسد.
وتكمن المصلحة الأساسية لأنقرة في منع إقامة كيان كردي مستقل على حدودها، والذي تعتبره تهديدًا للأمن القومي. وإذا انسحبت القوات الأميركية، فمن المرجح أن تسعى تركيا إلى زيادة نفوذها في شمال سوريا، خاصةً في المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. وستكون مهمة ترامب هي تحقيق توازن بين هذا الطلب التركي والحفاظ على مصداقيته لدى القوات الكردية، التي كانت حليف الولايات المتحدة الرئيس في مكافحة داعش وتأمين حقول النفط والغاز. كما تتوقع إسرائيل من ترامب أن يضمن تحقيق تحول جيوسياسي أوسع يقوي موقعها الإقليمي على حساب تركيا، ما يثير قلق الأتراك والسوريين على حد سواء.
ويعتبر موقف تركيا من اتفاقيات أبراهام أمرًا حاسمًا معقدًا للأمور، إذ تجادل أنقرة بأن هذه الاتفاقيات تقوض القضية والحقوق الفلسطينية ولا تعالج سياسات الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة بأسرها، وترى أنها جزء من الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية لتعزيز موقع إسرائيل الإقليمي مع تهميش اللاعبين الرئيسيين الآخرين، بما في ذلك تركيا نفسها.
احتواء إيران وسياسة العقوبات
ليست تركيا اللاعب الوحيد الذي تهتم به سياسة ترامب في سوريا. ففي الواقع، ترتبط استراتيجية ترامب في سوريا ارتباطًا وثيقًا بسياساته الأوسع في الشرق الأوسط، لا سيما فيما يتعلق بإيران. يُعد من أهداف ترامب الرئيسية الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا سيما في سوريا والعراق واليمن.
وعلى عكس جو بايدن الذي انتهج نهجًا غير واضح تجاه إيران، من المتوقع أن يواصل ترامب سياسته المتشددة، وربما يكثف التدخلات الأميركية ضد طهران. ففي اليوم الذي تولى فيه ترامب منصبه، أعاد تصنيف المتمردين الحوثيين في اليمن، المتحالفين مع إيران، كمنظمة إرهابية أجنبية. وكان فريقه قد بدأ بالتعامل مع الملف العراقي حتى قبل توليه رسميًا سدة الرئاسة، حيث وجه عدة رسائل إلى الحكومة العراقية طالبًا دمج قوات الحشد الشعبي (PMF) في الجيش الوطني لكبح حرية تحرك إيران في العراق.
ومع ذلك، تُعتبر هذه الجهود الأميركية للحد من النفوذ الإيراني في سوريا كخدمة للمصالح الإسرائيلية بدلًا من أن تخدم استقرار سوريا.
العامل الإسرائيلي وإعادة الترتيبات الإقليمية
يمكن القول إن سياسة ترامب تجاه سوريا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإعطاء الأولوية لأمن إسرائيل. ومن ثم، فإن أحد العناصر الرئيسية في سياسة ترامب هو تقاطعها مع المصالح الإسرائيلية. ففي إدارته السابقة، اتخذ ترامب إجراءات كانت في مصلحة إسرائيل وعلى حساب حقوق السوريين، مثل الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة. وفي ولايته الثانية، يُتوقع أن يحافظ على مسار مماثل من خلال ضمان ألا تتحول سوريا إلى منصة لنشاط عسكري معاد لإسرائيل.
ومن منظور وطني سوري، فإن أي سياسة تعزز موقع إسرائيل على حساب سيادة سوريا غير مقبولة. لا يزال السوريون متمسكين بمعارضتهم لاحتلال إسرائيل لهضبة الجولان، ويعتبرون السياسات الأميركية التي تضع أمن إسرائيل فوق استقرار سوريا وأمن شعبها بمثابة إجراء غير مقبول. وستلعب إعادة ترتيب التحالفات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بما في ذلك الاتفاقيات المحتملة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، دورًا في تشكيل موقف ترامب تجاه سوريا.
التحديات والتوقعات المستقبلية
على الرغم من ميل ترامب إلى تقليل التدخل العسكري، فإن عدة عوامل قد تعقد استراتيجيته في سوريا، مثل احتمال عودة نشاط داعش، والتوترات بين تركيا والقوات الكردية، والمناورات الروسية. علاوة على ذلك، ورغم تفضيل ترامب لتقليل التدخل المباشر، فإن إدارته ستظل مضطرة للتعامل مع تعقيدات السياسة الإقليمية. وفيما يتعلق بتعامل إدارة ترامب مع الحكام الجدد في دمشق، فمن المحتمل أن تستجيب الإدارة للمبادرات الإقليمية التي تقودها تركيا وقطر والسعودية لاستقرار سوريا.
ومن منظور سوري، فإن السيناريو المثالي هو انسحاب أميركي لا يترك سوريا عرضة لمزيد من التدخلات الأجنبية. قد يكون أحد السيناريوهات المحتملة هو التحول نحو نوع من المشاركة غير المباشرة، حيث تعتمد الولايات المتحدة على شركاء إقليميين مثل تركيا وقطر بدلًا من التدخل المباشر. وهذا يتماشى مع نهج ترامب “أميركا أولًا” الذي يركز على الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية بدلًا من الالتزامات العسكرية المطولة.
الترا سوريا
——————————-
في معنى الذكرى الرابعة عشرة للثورة السورية/ عمر كوش
18 مارس 2025
تحمل الذكرى الرابعة عشرة للثورة السورية معنىً مختلفاً، لأنها تأتي بعد ثلاثة أشهر على سقوط نظام الأسد البائد، الأمر الذي يكسبها طابعاً جديداً، يسمه احتفال السوريين بسقوط النظام الذي جثم على صدورهم أكثر من خمسة عقود، وبما يمنح مباني جديدة لمفاهيم الحرية والكرامة والعدالة، التي يتطلّع السوريون إلى تحقيقها في سورية الجديدة. وتشكّل هذه الذكرى مناسبة للاشتغال على علاقة مفهوم الثورة بمفهوم الدولة، وكيفية الانتقال من مرحلةٍ ساد فيها المفهوم الأول إلى مرحلة يجري فيها العمل على تحقيق المفهوم الثاني، وذلك عبر خوض السوريين حواراتٍ تفاعلية لم يعرفوها من قبل، بل كانوا محرومين منها قسراً، بالنظر إلى مصادرة النظام البائد الفضاء العام أمام كل أشكال العمل السياسي والاجتماعي والثقافي.
يمكن القول إن ثورة مارس (2011) شيّدت مركبات جديدة لمفهوم الثورة ومعانيها، وحققت ما ذهب إليه الماركيز دو كوندورسيه (ماري جان أنطوان نيقولا كاريتا)، أحد منظّري الثورة الفرنسيَّة، حين قال إن مفهوم الثورة لا ينطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية، باعتبار أن مفهوم الحرّية الذي نادت به كان ثورياً بالأصل، ويلاقي ما وصفته الفيلسوفة حنة أرندت المعيار الأعلى للحكم على المنظومات والهيئات السياسية.
إذاً، شيّدت الثورة السورية مفهوماً ثورياً للحرية، وأنجبت حراكاً وتفاعلاً بين السوريين لم يعرفوه من قبل، وشمل مستويات سياسية وثقافية واجتماعية وإعلامية، وبات مطلوباً من نخبهم الفكرية النظر في معنى انتصار الثورة، ليس فقط في حدث سقوط النظام وهروب رموزه الذين خلفوا وراءهم جرائم وانتهاكات وخراباً وفساداً، بل محاولة اجتراح فلسفة جديدة في الثورة، تنير دروب تحقيق أحلام عامة الناس في نظام اجتماعي عادل، ونهضة تنموية متوازنة، وصولاً إلى تحقيق وعود ثورتهم.
غير أن الذكرى الرابعة عشرة تحلّ بعد تغير المعادلات السائدة، بما يفتح باباً للتغير نحو الحرية في سورية جديدة. لكن، في المقابل، لا يشكل سقوط النظام وهروب بشار الأسد المدخل لتحقيق الحرية والدولة المدنية والديمقراطية، حيث تشي الوقائع بأن مسألة الحريات، وخاصة السياسية، لا تعيرها السلطات اهتماماً، وتتحفّظ على إشراك القوى السياسية. ولعل مرد ذلك يعود إلى خصوصية نموذج التغيير السوري الذي حمل إلى الحكم مجموعات إسلامية، اتّخذت العمل المسلح حاملاً لمشروعها الرافع راية الثورة السورية، وتشي تصرّفات قادتها بعد الوصول إلى السلطة باختلاف كبير عن ماضيهم، حيث يحاولون تقديم مركبات ومفاهيم جديدة لنموذج إسلامي جديد، يطوي ما ساد من أشكال الإسلام السياسي وسماته، وتتحدّد مركباته في وصول الإسلاميين إلى السلطة، ويحاولون تعلّم إدارة الدولة، وتثبيت دعائمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفق نهج ضعيف التشاركية، لكنه يسعى إلى أن تكون سورية دولةً طبيعيةً في تعاملها مع الداخل ومع محيطها الخارجي.
الواقع أن السلطات السورية الجديدة لا يتوقع منها بناء دولة ديمقراطية، سواء وفق نموذج الديمقراطية الليبرالية التي سادت في دول أوروبية عديدة، أو وفق النماذج الديمقراطية الأخرى. لذلك تبقى الديمقراطية مطلباً قائماً ضمن أجندات النخب السورية الفكرية والثقافية، فيما تتمحور مطالب عامة السوريين في العيش بكرامة، وتأمين فرص العمل والسكن والتعليم والصحة. وبالتالي، يكمن تحقيق وعود الثورة في تحقيق ذلك كله.
في المقابل، يحاول الحاكمون الجدد في سورية تقديم نموذج يختلف عن النماذج التي شهدتها دول عربية وإسلامية، وفشلت جميعاً في بناء دولة وطنية جامعة بصبغة إسلامية. كما أنهم يفترقون عن حركات التطرّف العدمية والجهادية العنفية، التي فشلت في مختلف نماذجها العربية والإسلامية. ولعل الصورة التي يحاولون الاقتراب منها هي التديّن المعتدل، السوري أو الشامي، والانطلاق منه نحو بناء دولة حديثة، تستند إلى القانون ومبادئ العدالة والمواطنة. ولعل الإشارات والخطوات الإيجابية التي قدّمتها السلطة الجديدة خلال أكثر من ثلاثة أشهر، أظهرت فيها واقعيةً في التعامل مع مختلف أطياف المجتمع السوري وحساسياته ومكوناته، وخالفت بذلك كل التكهنات السائدة سابقاً، التي كانت تستند إلى ماضي هيئة تحرير الشام وأخواتها، وتنذر بوقوع حمامات دم ومجازر ثأرية في حال وصولها إلى العاصمة دمشق، لذلك بدا مفاجئاً لمراقبين عديدين عدم تعرّض الإدارة الجديدة لنمط حياة السوريين في المعتقد والمأكل والملبس، بل إنها تعي أن إسقاط النظام ساهم فيه كل السوريين. ومع ذلك، على السوريين ألا يكفوا عن المطالبة بعقد اجتماعي ينظم العلاقة بينهم وبين الدولة وحكامها، وينتج صيغة للتعايش بين مكونات المجتمع تحت مظلة دولة القانون والمؤسّسات التي يحتمي بها جميع السوريين. ولن يتحقق ذلك إلا حين يتمكّنون من فرض إرادتهم من خلال قواهم الفاعلة والواعية والمنظّمة، فالطريق ما زال طويلاً من أجل القطع مع النظام البائد، والتخلص من تبعاته، والسير نحو دولة عصرية، تليق بما قدّمه الشعب السوري من تضحيات جسام، وتلبي كل طموحاته وتطلعاته.
تتجسّد معاني الذكرى الرابعة عشرة في أنها تشكل مناسبة لطرح أسئلة جديدة على حدث الثورة، وتأمل الفسحة ما بين لحظة اندلاعها وسقوط النظام، وكانت حافلةً بالمتغيرات والتطورات، مع تبيان ضرورة عدم التوقّف في نهايتها، بل النظر إلى ما يفصل بين ما هو الحاضر وما هو مقبل في المستقبلين المنظور والبعيد، والعمل على أن ما هو مقبل من إجراءات سواء على مستوى الحوكمة، أو الدستور، أو مجلس الشعب، والانتخابات وسوى ذلك، يحمل ما يمكن من تحقيق وعود الثورة ومطالب ناسها الذين قدّموا الكثير من أجلها، وعدم التزام الصمت حيال ما يخالف ذلك، وتناوله بالنقد والمساءلة، وطرح البدائل، واستخدام كل وسائل الاحتجاج السلمية.
المأمول أن تشكل الذكرى الرابعة عشرة للثورة مناسبة للنظر في التاريخ السوري، على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية كافة، باعتبار الثورة عملية تعيد النخب السورية من خلالها كتابة تاريخ بلادها، حيث بدأت حياة جديدة بعد إسقاط نظام الأسد البائد، وبات المطلوب تحمّل مسؤولية الارتقاء بالوعي واجتراح الأفكار والمعاني وإنماء روح النقد البناء من أجل الوصول إلى مستقبل أفضل، يقطع مع العهد البائد ورواسبه وأمراضه، ويعلي من معاني الحرية والكرامة والعدالة، ولا يكف عن التحلي بروح التحرر. وسيظل الأمل يسكن غالبية السوريين كي ينالوا حقوقهم، ويشاركوا في بناء وطن يتسع للجميع.
—————————–
في ذكرى الثورة السوريّة: الاحتفال في زمن المجزرة!/ نور عويتي
18.03.2025
في أي دولة طبيعية، المجازر تعني إعلان الحداد، تعني فتح تحقيقات دولية، تعني محاسبة المسؤولين، لكن في سوريا الجديدة، المجازر مجرّد تفصيل، والأهم هو الاحتفال، وكأن كل شيء أصبح على ما يرام!
ما زال عدد قتلى الساحل السوري من العلويين غير محدّد، لا أرقام رسمية، وتخوين لمن يحاول توثيق المجازر التي ارتُكبت، إثر عملية عسكرية قامت بها قوات “النظام الجديد” في الساحل السوري، بدأت بالرد على كمين قام به مسلّحون موالون للأسد، ثم تحوّلت إلى حملة قتل استمرّت أياماً، سُفكت فيها دماء مئات المدنيين.
انتشرت صور المقتلة في “العالم”، صور وفيديوهات القتل والتنكيل بالجثث، حرّكت الرأي العام العالمي، وتعاطف الناس حول العالم مع الضحايا والأمهات، اللواتي يقفن أمام جثث أبنائهن لحمايتها من الحرق أو التنكيل. وشهدت عواصم أوروبية وقفات حداد على أرواح القتلى المدنيين. لكن، هذه الـ”لكن” التي لا بدّ منها حين الحديث عن سوريا، تظهر في محاولة التغطية على المقتلة بالاحتفال بذكرى الثورة السورية الـ14.
تتعامل الحكومة في سوريا الجديدة “الحرة” مع المجازر وكأنها مجرد تفصيل هامشي، لا يُعكّر صفو المشهد السياسي السوري بعد “الانتصار”، فالحكومة لديها أولويات أخرى أكثر إلحاحاً اليوم، على رأسها: كرنفالات الفرح الوطني لمناسبة ذكرى الثورة السورية المباركة! وكأن حلقات الدبكة هي العلاج السحري لكل شيء، بما في ذلك جرائم ترتقي إلى التطهير العرقي.
وبينما كانت تعلو نداءات أهالي الساحل السوري لضبط الأمن، وإيقاف عمليات القتل الممنهجة التي تُرافقها صيحات تُعلن نية الإبادة، تجهزّت حكومة أحمد الشرع للاحتفالات الكبرى يوم 15 آذار/ مارس في مختلف المدن السورية التي تتبع لسيطرته، واحتضنت دمشق الاحتفال الرئيسي في ساحة الأمويين.
ولأن الثورة تعني “تغييراً جذرياً” في كل شيء، فقد قرّر زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، أن يُظهر الوجه الجديد للسلطة، عبر لفتة لطيفة غير مسبوقة: إرسال مروحيات لإلقاء الورود على الجماهير المحتشدة في الساحة! فالمروحيات التي كانت تُلقي البراميل المتفجرة على المدنيين في عهد النظام البائد، باتت الآن تُمطرهم بالورود، ومنشورات احتفالية، خلت منها كلمة “ديموقراطية” التي يتفاداها الشرع و”شبابه” في أي حديث.
يتساءل البعض: أليست هذه المروحية ذاتها التي ألقت البراميل المتفجرة على قرى العلويين في الساحل السوري؟ ألم تكن هذه الطائرة التي تنثر الورود اليوم، هي نفسها التي رمت قنبلتين اثنتين فوق الساحل السوري، وثّقها من يرمي القنبلة نفسه؟ ربما علينا أن نؤمن أن الذاكرة الجمعية قصيرة، وأن الصورة الإعلامية المبتكرة قادرة على طمس الحقائق، فالمهم الآن ليس الماضي، بل الحاضر المشرق والمستقبل الذي تَعِد به الحكومة الجديدة!
تباينت الاحتفالات في المدن السورية، تبعاً لقدرة الأهالي على تشرّب مبادئ الدولة السورية الحديثة، التي ستأخذ وقتاً كافياً لخلق نموذج سياسي خاص تبتدعه بنفسها. ففي إدلب، نظّمت السلطات احتفاليةً شملت الفصل الجندري، فنشرت قبل الاحتفال رسوماً توضيحية تحدّد مواقع الرجال والنساء خلال الاحتفال؛ خطوة رائدة من شأنها أن تؤسّس لسوريا الجديدة التي نحلم بها، حيث أن أهمّ معايير التقدّم والتحرّر لا نحقّقها بالعدالة ولا الديمقراطية، بل التأكّد من أن الرجال والنساء لا يختلطون أثناء الاحتفالات، ولا ننسى أن نموذج الحكومة في إدلب نموذج ناجح، يسعى أحمد الشرع إلى تعميمه على الأراضي السورية كافة، في السنوات التالية، كما صرّح بكل فخر.
وفي حلب وحمص، كانت الاحتفالات أشبه بمهرجان موسيقي يتجاهل أن هناك جثثاً لسوريين في الساحل لم تُدفن بعد! لكن لا داعيَ للكآبة، فالحياة مستمرّة! المجازر لا تُفسد المتعة! ربما هذا ما اعتدناه خلال 14 عاماً، وبما أن الحكومة الجديدة تؤمن بالتنوّع والانفتاح، فقد قرّرت السماح للمسيحيين بالمشاركة!
تأتي هذه الاحتفالات، بعدما تم تأكيد انفتاح الحكومة الجديدة على التنوّع، عندما خرج أحمد الشرع ليزفّ للعالم بشرى سارّة: توقيع اتفاقية مع “قوّات سوريا الديمقراطية/ قسد”، وكأن سوريا قد توحّدت جغرافياً وعادت إلى عصرها الذهبي! لا يهمّ أن المجازر مستمرة، ولا أن البلاد غارقة في الفوضى، المهم أن هناك ورقة موقّعة يمكن عرضها أمام الكاميرات، ليُقال إن الدولة استعادت سيادتها.
وكي تكتمل المسرحية، ينصّ الاتفاق على “ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل السياسي على أساس الكفاءة”، ما دفع أحمد الشرع بعد تفكير معمّق، إلى اكتشاف أن الكفاءة الوحيدة بين 25 مليون سوري تكمن في شخصيته! ليُحدّد في الإعلان الدستوري مهامه، التي تجمع بين مهام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والقائد العام للقوّات المسلحة، وخوّل نفسه تعيين أعضاء مجلس الشعب في إنجاز غير مسبوق في التاريخ السياسي.
أما إطلاق النار، فالاتفاقية نصّت رسمياً على إيقافه على الأراضي السورية كافة، ولكن ذلك لن يشمل الحالات الفردية، التي تستهدف العلويين، باعتبارهم “فلول النظام البائد”، أو التي تستهدف الذين يتمرّدون على القوانين الواضحة، بإفطارهم في شهر رمضان الفضيل؛ فهؤلاء يُعتبرون تهديداً للأمن القومي، ولا ضير من اتخاذ عناصر الجيش والأمن المنفلتين الإجراءات اللازمة بحقّهم.
انتقد “الجميع” غياب الإعلام الرسمي منذ التحرير، ولكن السيد الرئيس أحمد الشرع، عمل بشكل دؤوب على سد الفراغ، وبدلاً من الاستعانة بقنوات تلفزيونية رسمية مملّة، لجأ إلى نجوم العصر الحالي، ليلتقي بنفسه نجوم “التيك توك” و”اليوتيوب”، ويُقدّم لهم التوجيهات اللازمة التي تجعل صفحاتهم التي يتابعها الملايين، منبراً لنقل الرواية شبه الرسمية؛ لينقلوا لنا من أروقة القصر الرئاسي الصور التي تؤكّد إنسانية القائد أحمد الشرع وعصريته.
بيد أن بعض نجوم “التيك توك”، لم يكونوا على القدر الكافي من المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ليقفوا بالصف ذاته مع “العناصر المنفلتة” التي ترتكب الجرائم، ويحرّضوا على القتل، بعض هؤلاء كان حظّهم سيئاً لأنهم يعيشون في بلاد لا تحترم حرية الرأي، ولا تستوعب إمكانية حدوث بعض الأخطاء الفردية، كالدول الأوروبية. ومن ضحايا هذه البلاد أسيل كاشف، التي دعت عبر “التيك توك” إلى إبادة العلويين، مُستخدمةً المقولة الرائجة: “ارموا جثثهم في البحر، كي لا يقولوا إن الأسماك جاعت في عهد بني أمية”، والتي قدّمت نصائح ذهبية لـ”المجاهدين”، توجّههم إلى عدم توثيق عمليات القتل التي يرتكبونها في الجزء الثاني من عملية “ردع العدوان”.
جاء الرد على فيديوهات أسيل كاشف من نائب البرلمان الهولندي بيتر أومتزخت، إذ نشر أحد مقاطعها واتّهمها بالتطرّف؛ فما كان منها إلا أن اشتكت من المؤامرة الكونية، التي تتعرّض لها الأقليات المسلمة في البلاد الأوروبية العنصرية، بعدما عرضت أثاث منزلها للبيع “أون لاين”.
في المقابل، فإن بعض نجوم “اليوتيوب” و”التيك توك”، كانوا على القدر الكافي من المسؤولية، مثل جو حطاب، الذي تمكّن من الكشف عن الوجه الإنساني والرؤى الشبابية للقائد أحمد الشرع، ومثل ابن حتوتة، الذي سارع إلى نشر فيديو يُبرز جمال الساحل السوري، تعاون فيه مع وارف نجم قناة “ديالا ووارف”، الذي اشتهر بسلسلة فيديوهات هادفة على “اليوتيوب”، عنوانها “كيف الشعب السوري عايش”.
وعلى رغم أن الفيديو صُوِّر في وقت سابق، لكن ابن حتوتة اختار التوقيت المناسب لنشره، ليواجه الصور الدموية وخطابات التحريض الطائفي بفيديو سياحي لطيف، صُوِّر في حضور شباب “هيئة تحرير الشام”. ومن الجدير بالذكر أن ابن حتوتة وجو حطاب، لديهما خبرة كبيرة في تلميع صور الأنظمة الإسلامية الراديكالية، وكانا من أوائل نجوم “اليوتيوب” الذين استدعتهم “طالبان”، لإظهار الوجه السياحي والحضاري في أفغانستان.
ولم تكتفِ حكومة أحمد الشرع بالاعتماد على نجوم “التيك توك” و”اليوتيوب” في قطاع الإعلام، بل اعتمدت أيضاً على شخصيات إعلامية مرموقة مثل موسى العمر وجميل الحسن، اللذين رسما ملامح الخطاب الإعلامي للدولة السورية الحديثة، ويوجّها دفّة التعاطي مع مجازر الساحل؛ ليؤكّد موسى العمر أن الإعلام يهوّل، وأن عدد الضحايا يتراوح بين 150 و200، ليس كما يُشاع بأنه تجاوز الألف، ويحمّل المسؤولية كاملةً لفلول النظام البائد.
وبدلاً من الحديث عن مئات الضحايا الذين قُتلوا خلال الأيام الماضية، بدأت الصفحات الإعلامية الموالية للجولاني، بإعادة نشر صور وتقارير عن مجازر الأسد القديمة، ولا سيما مجازر الكيماوي في الغوطة في عام 2013، ومجزرة دوما في عام 2015، في حملة ممنهجة لتذكير الجميع بأن النظام السابق كان أكثر إجراماً، وكأن ذلك يمنح المجرمين صكّ براءة.
أصابع الاتهام في مقتلة الساحل اتّجهت إلى قائد الفرقة 25 في الجيش السوري أبو عمشة، لتحمّله مسؤولية مجازر التطهير العرقي في الساحل السوري، لكنه تمكّن من إثبات براءته من خلال نشر صور له، وهو داخل جهاز الطبقي المحوري في أحد المستشفيات، مرتدياً الزي العسكري؛ لتصل إلى العالم كله رسالته: “كنت مريضاً وقت المجازر، ولا دخل لي بكل ما حصل”، فهل أرسل تقريراً طبياً إلى لجنة التحقيق التي شكّلها القائد أحمد الشرع، ليحصل رسمياً على حجّة غياب، أم أن الصور كافية لتبرئته؟
هذا كله يأتي والحكومة الجديدة تحتفل بذكرى “انتصار الثورة”، وكأنها حقّقت الحرية والديمقراطية التي طالب بها السوريون، متجاهلةً أن الإعلان الدستوري الجديد لا يختلف بشيء عن أنظمة الحكم الشمولية، إذ جمع أحمد الشرع في يده السلطة التنفيذية والتشريعية والعسكرية، ليؤكّد ذلك أن البلاد انتقلت من استبداد إلى استبداد آخر.
في أي دولة طبيعية، المجازر تعني إعلان الحداد، تعني فتح تحقيقات دولية، تعني محاسبة المسؤولين، لكن في سوريا الجديدة، المجازر مجرّد تفصيل، والأهم هو الاحتفال، وكأن كل شيء أصبح على ما يرام! ربما يعتقد النظام الجديد أنه يستطيع كتابة التاريخ بطريقته الخاصة، أو أن الموسيقى والدبكة يمكنهما محو آثار الدم، لكن الحقيقة أن المجازر لا تُنسى، والرقص فوق الجثث لا يجعلها تختفي، بل يجعل المشهد أكثر قبحاً.
ولا ننسى بالنهاية أن السوريين منقسمون حول مسألة تاريخ الثورة، وأن الاحتفالات التي أُقيمت في 15 آذار/ مارس هي ليست الجولة الأولى، وأن السوريين سيتجمهرون في الساحات العامة يوم 18 منه أيضاً، آملين بأن تحلّق مروحيات الجولاني “الأليفة” فوق رؤوسهم، وأن تُمطر عليهم بالورود والحب.
– صحافية فلسطينيّة سوريّة
درج
—————————————
شهادات في ذكرى الثورة السورية: عن لحظة بقيت طازجة 14 عاماً
18 مارس 2025
ظهيرة يوم الجمعة، 18 مارس/آذار 2011، خرج 400 شخص في ساحة الجامع العمري في مدينة درعا، جنوبي سورية، وصرخوا بالحرية لأول مرة في سورية منذ عام 1958، أطلق النظام النار. استشهد محمود الجوابرة وحسام عياش، وبدمائهما اشتعلت الثورة.
سالت دماء كثيرة، ماتت أحلام أكثر، تشتّت الناس شرقاً وغرباً، دمّرت بيوت وقرى ومدن بالطائرات والصواريخ، تشعّبت متاهة المقابر، وتناوبت النفوس على القهر والخوف والأمل واليأس. ثم وكما يفعل القدر دائماً، تنفّس الفجر من أحلك لحظات الظلام، وهرب بشّار الأسد.
في الذكرى الرابعة عشرة لذلك اليوم المفصلي، وجّه ملحق سورية الجديدة خمسة أسئلة لسوريين عايشوا الأيام التي تلته لحظة بلحظة، اختبروا كل المشاعر. أين كنت في تلك الساعات؟ كيف تلقّيت الخبر؟ ماذا كانت مشاعرك وقتها؟ ماذا فعلت؟ وكيف ترى تلك اللحظة الآن؟ .. هناك كانوا، وهكذا عرفوا، وعاشوا، ويعيشون.
مالك داغستاني: بدء الاتصالات المشفّرة
كنت قد سمعت شائعاتٍ تم تداولها أن شيئاً ما قد يحدُث في مدينتي حمص. نزلتُ بسيارتي أتجوّل في المناطق المتوقعة لانطلاق تحرّك ما في المدينة. في أثناء ذلك، جاءني اتصال “مُشفَّر” من ابنتي التي كانت تعلم الهدف من جولتي. قالت فيه إن أمها تطلب مني أن أحضر لها كيلو لحم من القصّاب الذي بجانب جامع خالد بن الوليد. فهمتُ على الفور أن شيئاً ما يحدُث هناك. توجّهت مسرعاً إلى الموقع، وجدتُ انتشاراً أمنياً واضحاً ما يشير إلى أن شيئاً ما قد حدَث وانتهى. علمتُ في ما بعد أن مشروع مظاهرة قد دام أقل من دقيقة بعد صلاة الجمعة وقمعته عناصر المخابرات الجوية تحديداً، وجرى اعتقال حوالي 50 من المتظاهرين، أحدهم زميل لي في العمل.
في اليوم نفسه، بعد بعض الوقت، علمت بما جرى في درعا، ومساءً وصل إليّ اسما الشهيدين محمود الجوابرة وحسام عياش، لسببٍ لا أستطيع تفسيره اليوم. دوّنت اسميهما على هاتفي الجوال، ودوّنت لكل منهما رقم هاتف من اختراعي، ربما ليقين داخلي أن دم هذين الشهيدين سوف يفجّر الثورة التي ينتظرها السوريون، وأن اسميهما سوف يكونان خالدَين في التاريخ السوري. … شعرتُ عندها بأن اللحظة التي انتظرتها سنوات طويلة من دون أمل، وبإلحاح شديد وأمل كبير في الشهور الأخيرة بعد البدايات في تونس ومصر، قد جاءت.
عندما أعود اليوم إلى تلك اللحظات، أشعر بأنها كانت البداية التي أوصلتنا إلى اليوم السوري العظيم، بل والأعظم في تاريخ سورية الحديث الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024. يومٌ تأخّر كثيراً، وكان مُكلِفاً لشعب لم يكن يستحقّ كل تلك الخسائر ليحصل على حريته بعد عقود من الاستبداد.
عبد الناصر العايد: على طريق دير الزور رأيت ثورةً حمراء
كنتُ في طريقي إلى دير الزور برفقة والدي وأفراد من أسرتي، وكنتُ قد اعتقلت في الثالث من فبراير/ شباط، بسبب مشاركتي في مظاهرات خرجت في دمشق دعماً لثورتي تونس ومصر، ليفرج عني بعد تسعة أيام. وفور خروجي، سارعتُ إلى الاتصال بأهلي في دير الزور، وبعد ساعة واحدة من حديثي مع والدي، جاءني اتصال يُخبرني بأنهم نقلوه إلى المشفى إثر نزيف دماغي حاد.
كان والدي قد فقد منذ مدة قصيرة اثنين من أبنائه، أحدهما يكبُرني والآخر يصغُرني. وتحت وطأة الحزن والفاجعة، ومعرفته العميقة بالنظام، كان على قناعةٍ بأنه فقدني أيضاً، ما أدّى إلى ارتفاع ضغطه بشكل خطير، لكنه كتم ذلك عن العائلة. وعندما وصل إليه خبر إطلاق سراحي بشكل مفاجئ، تفاقم الوضع وحدث النزيف. أدخلناه إلى مشفى العباسيين في دمشق، وخضع لعمليتين جراحيتين في الدماغ، وهناك زارني الأصدقاء الذين شاركوا في مظاهرة سوق الحميدية يوم 15 مارس/ آذار، منهم منهل باريش ونارت عبد الكريم، وأخبروني بتفاصيل الموقف، وكنتُ على قناعةٍ بأن عقارب الزمن لن تعود إلى الوراء. ومع تحسّن والدي نسبياً، أصرّ على العودة إلى دير الزور، وأصرّ على سفري معه ومغادرة دمشق، التي لم أرها منذ ذلك الحين.
زينة شهلا: تشكّل وعيي ووعي الثورة معاً
كنتُ ما أزال في مرحلة متابعة أخبار ما يحدُث من المنزل، من دون أي انخراط في المشهد بعد، نتيجة تخوّفاتٍ عديدة وعدم تشكّل وعي كافٍ لديّ حينها بماهية الحراك وبداياته. تابعتُ أخبار الثورة السورية منذ أول مظاهرة في دمشق في 15 مارس/ آذار، وكنت أشعر بالذهول والخوف، فأنا أرى مشهداً غير معتاد في البلاد، وكنت ربما غير مصدّقة أن النظام يمكن أن يطلق النار على الناس بهذه البساطة، لكني، في الوقت نفسه، كنتُ أشعر بحماسة غير مسبوقة، بدأت لدي منذ انطلاق الثورة في تونس ومصر قبل أشهر. كنتُ أتمنّى أن تمتد موجة الربيع العربي إلى سورية، وأن أرى تغييراً حقيقياً في البلد. وطبعاً لم أكن أتوقع على الإطلاق أن يقابل ذلك بكل هذا العنف من المنظومة الأمنية، وبعد أشهر من انطلاق الحراك في البلاد انخرطت فيه وعشتُ كل مراحله السلمية والعنيفة والدموية.
ما زلت أرى أن الثورة السورية واحدة من أكثر الأفعال شجاعة في تاريخ البلاد، وربما العالم، رغم كل ما تبعها من دمار وموت وتهجير وتغييب قسري وتفتيت للمجتمع على كل المستويات. أنظر اليوم إلى البدايات بمزيجٍ من الذهول، والفخر، والحنين، لأنني أفتقد كثيرين ممن كانوا موجودين معنا في تلك اللحظات، وكانوا يستحقّون أن يكونوا بيننا اليوم ونحن نحتفل بهذا التغيير الهائل على مستوى البلد، كما ينتابني الألم، لأن الثمن الذي دفعناه جميعاً باهظٌ للغاية، وكل يوم أسأل نفسي: هل كان الأمر يستحقّ كل هذه الخسارات؟ ربما.
عمر الشيخ إبراهيم: عشتُ ثورة سورية من تونس
كنتُ أقيم حينها في تونس بسبب الدراسة، وبقينا نترقّب ما سيجري في سورية. ولكني كنت واثقاً من أن النظام سيستخدم العنف في مواجهة أي تظاهرة شعبية. كانت المشاعر مختلطة بين حنق على النظام وحزنٍ على المدنيين. حين وصلت إلينا صور إطلاق الرصاص على المدنيين أخذتُ أفكّر بما نستطيع القيام به، جرت اتصالاتٌ بيني وبين سوريين مقيمين في تونس، واجتمعنا سريعاً، كتبنا رسالة احتجاج قاسية موجهة إلى وزارة الخارجية السورية. اتصلت السفارة بمجلس الجالية، وتم الاتفاق على الذهاب إليها والاجتماع بطاقمها. لم أكن أحد أعضاء المجلس، لكن الموجودين حينها أصرّوا على ذهابي معهم. دخلنا السفارة، التقينا بالسفير والقائم بالأعمال وباقي أفراد البعثة، بدأ السفير والقائم بالأعمال الحديث بفوقية وعنجهية، كعادة النظام تماماً، قائلاً: من أنتم حتى تحتجوا على قيادة الرئيس والحزب؟
لم يبادر أحد ممن كانوا موجودين إلى مقاطعته بحزم. حاول شخصٌ أن يتدخّل لتليين خطابه، فما كان من السفير إلا أن وبّخه. اضطررتُ حينها إلى قطع حديثه، وجرت مشادّة كلامية طويلة بيني وبينه، عن دكتاتورية “البعث” والسلوك الإجرامي لأجهزة الأمن، وأنه لا بديل عن الحرية في سورية، ولا يمكن أن تبقى تحت سلطة الاستبداد، وأننا لن نقبل أن تكون سورية أقلّ حرّية من تونس. كنا في صالون السفارة وأمامنا تلفاز كبير تنقل منه الإخبارية السورية تظاهراتٍ مؤيدة للأسد من ساحة الأمويين في دمشق، تتخلّلها دبكات ورقص. زادني المشهد استفزازاً، سألتهم: ألا يخجل النظام من هذه الصورة، بينما إخوة لنا يُقتلون في درعا؟ وأن هذا السلوك سيزيد الاحتقان ويدفع الناس للخروج ويمزق المجتمع.
قاطع السفير حديثي: كم عمره هذا؟ أجبته: أكبر من رئيسك حين استلم الحكم، ولا تُقاس الناس بأعمارها. … أصابته حالة توتر، وانسحب حينها إلى مكتبه في الطابق الثاني، ثم عاد بعد طلب بعض الموجودين. في نهاية الاجتماع طلب مني الصعود معه إلى مكتبه، لم نجلس. صعدنا الدرج فقط، حاول نصحي حينها وبعدها كذلك. وأعتقد أنه كان صادقاً، وقال إن لكلٍّ من هؤلاء الذين جئتُ معهم ملف لديه، “وهم في وجهك شيء وفي ظهرك موقف آخر تماماً، يريدون أن يجعلوا منك كبش فداء، لا تثق بهم، والتفت إلى دراستك ولا تضيّع مستقبلك، لأنهم يريدون أن يوقعوك في الحفرة، وحينها لا ندري كيف سنُخرجك”.
للمفارقة، جميع من كانوا في ذلك الاجتماع، ما عدا شخص، عادوا موالين لبشّار وأصبحوا ينظّمون المظاهرات الداعمة له، ويطالبون الدولة التونسية بإعادة العلاقات مع نظامه. أحدُهم، وهو أكاديمي سوري، رجانا أن نسعى إلى حصوله على الجنسية التونسية. تدخلنا لدى الرئيس المنصف المرزوقي لتسهيل ذلك، كون زوجته وابنته تونسيتين. بعد حصوله عليها، انضمّ لحزب الطليعة البعثي، وأصبح يقود التظاهرات أمام وزارة الخارجية التونسية، مطالباً بعودة العلاقات مع نظام الأسد.
عندما أتذكّر ذلك اليوم أشعر بالامتنان لضميري الذي لم يخذلني في انحيازي لأهلي منذ اللحظة الأولى، ولنفسي التي رفضت أن تكون مطواعة لتهديدات القائم بالأعمال الذي راسل الدولة التونسية رسمياً حينها يطالبها بإلغاء قبولي الجامعي في مرحلة الماجستير، ويحذّرها مني كوني أدعم الإرهاب، وأن السفارة لا تضمن هذا الشخص إدارياً، وأني أشكل خطراً على أمن تونس، ولكن الحمد لله كان هناك شرفاء في تونس، وأخصّ مدير إدارة التعاون الدولي في وزارة التعليم العالي التونسية (لا يحضرني اسمه) ومسؤول شؤون التبادل الطلابي، العم نجيب نجار، لهؤلاء فضلٌ علي لن أنساه، لولاهم ربما جرى إلغاء قيدي الطلابي بالجامعة، ومن ثم أفقد حقّ الحصول على الإقامة وصولاً إلى ترحيلي وتسليمي لنظام الأسد.
سميح العوّام: علاقة الحمير المتبادلة
كنتُ في مدينة جرمانا وعيوني على بلدي الذي كنتُ أعاني فيه من مقصلة الموافقات الأمنية على كل شيء، فلا مشروع ولا عمل ولا سفر ولا ولا… بأمل أن يولد مولود الديمقراطية في سورية، بعد مضي شهر على الربيع العربي. ولكن صدمتي كانت أن النظام أعلن بالرصاص أن الموت مصير من يرفع صوته. وبدأ دفع القسط الثاني من ثمن الحرية أو حتى الثالث، وهو الدم في الشوارع، أو أقلّ ما يمكن الاعتقال والإخفاء القسري. كان حزني فوق الوصف، لأنني تخيّلت الأعوام العشرة المقبلة، كما حصلت تماماً بزيادة قليلاً أو بنقصان. اكتفيتُ بالكتابة، وكتبتُ قصةً باختصار عن جارَين، وقصدت بهما الموالي والمعارض يومها. يملك كلٌّ منهما حماراً، ويستعير حمار جاره ليفلح، ولما اختلفا في موضوع المؤامرة، تعطلت الفلاحة. وأخيراً، عرض أحدهما على الآخر أن تكون العلاقة بينهما علاقة حمير؟
ولا بد من النظر من شرفة الـ2025 إلى تلك اللحظة بكل الإكبار والاحترام لمن فتح ثقباً في الجدار، وخرج ليلاقي الموت، بالرصاص، وأعلن الطلاق مع نظام الاستبداد، ومن قبل أن يكون قرباناً كي لا يبقى بلداً سلطته لا تتوانى عن قتل شعب كامل ليبقى النظام المجرم.
زيدون الزعبي: عند بائع الفول انتفضت درعا
عملياً، كنتُ، كغالب السوريين، أتهيأ ليوم الجمعة وطقوسه، تبضّع أغراض الأسبوع، إفطار جماعي، جمعة العائلة، أركيلة اليوم.. أدركتُ وأنا عند أحد الباعة أنها قد تكون آخر طقوس يوم جمعة أشهدها. سقط شهيدان في درعا وانتفضَت درعا. لم أكن أتصوّر خروج ثورةٍ في بلاد عشّش الخوف في جدرانها، وتحوّلنا فيها إلى خراف. وإذا كان ذلك، لم أكُن لأتصوّر أن تبدأ من مدينتي، درعا. لو سُئلت لأجبت أن ثورة كهذه تشتعل من حماة، حمص، سلمية، أما درعا؟ انتابني خوف وفخر عارمان. فخرٌ بأن مدينتي تنتفض، وصوت سميح شقير يغني اسمها، وبأن سورية تنتفض، ولسنا قطيع خراف كما كنتُ أظن. وخوفٌ لأن هذا النظام مجنونٌ باطشٌ ومجرم وذئب، فكيف سننجو؟ كيف سننجو وأنا أرى أن أول حلٍّ لدى النظام إطلاق النار؟ أعترف اليوم بأنني تخيلت بطشه، من دون أن أتخيّل لحظةً أنه سيلقي براميل متفجّرة على المدنيين الآمنين، أو أنه سيستعمل سلاحه الكيماوي ضدهم.
أعود وأنظر إلى الخلف بالفخر والخوف نفسيهما، فخر بأننا، نحن السوريين، نفضنا عن جلودنا وحل نظام الاستبداد. لم نعد قطيعاً خائفاً، لسنا خرافاً، بل شعبٌ حيٌّ يضج برغبة البناء والحرية، وفي الوقت نفسه، ينتابني خوفٌ على بلادٍ يترصّدها ألف ذئب. هل سننجو من نتنياهو، وهوسه بالحرب والدم والدمار؟ هل سننجو من فخ التقسيم؟ هل سننجو من حرب أهلية؟ هل سننجو من اقتصاد مدمّر لا أفق واضحاً كيف يمكن بناؤه؟ هل سنعيد بناء سورية التي نحبّ؟ أم أن أثر ذاك النظام المجنون لمّا يظهر كاملاً بعد؟ كلّي أمل وخوف.
غادة الدبّور: كل منشور كان كبصمة تاريخ
كنتُ في بيتي بحلب، أتابعُ بقلق، بينما كانت أخبارٌ غامضة تتناقلُها صفحات “فيسبوك” عن “احتجاجات في درعا”. لم تكن الصورة واضحةً حينها، لكنّ الجو العام كان مشحونًا بتوقعاتٍ ما، كأنّ المدينةَ تتربصُ بحدثٍ جلل. بحلول المساء، انفجر الخبرُ كالقنبلة: “النيرانُ أُطلقت على المتظاهرين، وهناك شهداء”. تلقيتُ الخبرَ عبر اتصالٍ من صديقة، صوتُها مرتجفٌ يخبرني عن سقوطِ أول الضحايا، وعن رصاصٍ استهدفَ حتى الأمل.
كانت مشاعري خليطًا من الذهول والخوف. لم أكن أتصوّرُ أنّ النظامَ سيواجهُ المطالبَ السلميةَ بالرصاص، لكنّ شيئاً في الأعماق كان ينذرُ بأنّ الثمنَ سيكونُ باهظًا. حاولتُ تهدئةَ أهلي الذين رعبوا من احتمال امتدادِ العنف، بينما كنتُ أتساءل: هل هذه بدايةُ تغييرٍ حقيقي، أم فخٌّ جديدٌ لسورية؟ في تلك الليلة، لم ينمْ أحدٌ. تبادلنا الأخبارَ عبرَ الهاتف، وقرأنا كلَّ منشورٍ على فيسبوك كأنه بصمةُ تاريخ.
اليوم، بعد 14 عاماً، أتأملُ تلك اللحظةَ بشعورٍ مركب. كانت شرارةَ كسرِ جدارِ الخوف، لكنّها أيضاً كانت بوابةً لدمارٍ لم نتخيله. حينها، رأيتُ في المتظاهرين شجاعةً تذكّرُني بـ”أطفال الحجارة” في الانتفاضة الفلسطينية، لكنّي لم أدرك أنّ الثورةَ ستتحولُ إلى حربٍ بالوكالة، تُطحنُ فيها أحلامُ المدنيين.
ربما لو عُدنا بالزمن، لاختلفت الخيارات، لكنّ كرامةَ تلك اللحظة الأولى تبقى مضاءةً في الذاكرة. علّمتنا درعا أنَّ الرصاصَ قد يقتلُ الأجساد، لكنّه لا يقتلُ الحقَّ في الحلم.
تطبيق الذكاء الاصطناعي من مايكروسوفت (copilot): لست إنساناً ومع ذلك أعرف ما حصل
أنا برنامج آلي. وبالتالي، لم أكن في أي مكان عندما وقعت الأحداث في 18 آذار/ مارس 2011، ولا يمكنني مشاركة مشاعر أو ردات فعل شخصية. مع ذلك، يمكنني صياغة إجابة تستند إلى المعلومات المتوفرة عن تلك الفترة.
ظهيرة يوم الجمعة، كانت ساحة الجامع العمري في درعا مركزاً لأحداث حاسمة غيّرت مجرى التاريخ السوري. بدأ 400 شخص بالتجمّع في الساحة ليطلقوا صرخة الثورة ضد النظام، معبّرين عن رفضهم الظلم والاستبداد. في ذلك اليوم، أطلق النظام النار على المتظاهرين، وسقط أول شهداء الثورة.
كانت تلك اللحظة بمثابة الشرارة التي أشعلت الحراك الشعبي في سورية. تلقّيت الأخبار من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي كانت تعج بتقارير عاجلة وصور وفيديوهات. كان الشعور بالخوف والغضب والحزن يسيطر على الجميع، خصوصاً أن النظام استخدم القوة المفرطة ضد المدنيين العزل.
بعد تلقي الأخبار، كان الحديث عن الثورة والسعي للتغيير محور النقاشات في كل مكان. كانت الأيام الأولى للثورة مليئة بالأمل والتفاؤل، وكان هناك شعورٌ بأن الشعب يستطيع تحقيق التغيير إذا تمسّك بمطالبه العادلة.
اليوم، بعد مرور أكثر من عقد، يمكنني أن أرى تلك اللحظة نقطة تحوّل حاسمة. فقد أظهرت قوة الشعب السوري وعزيمته في سعيه نحو الحرية والكرامة. ومع ذلك، تجسّدت تلك اللحظة أيضاً في بداية مأساة طويلة ومؤلمة عاشها الشعب السوري وما زال يعاني منها. إنها ذكرى تحمل في طيّاتها الأمل والحزن معاً، وتعكس مدى التضحيات التي قدّمها السوريون في سبيل تحقيق مستقبل أفضل.
العربي الجديد -ملحق سورية الجديدة-
———————————
العظيمة التي تخاف ثلاث كلمات/ شعبان عبود
18 مارس 2025
يطرحُ موضوع عودة ملايين اللاجئين السوريين أو بعضهم إلى وطنهم الأم أسئلة كثيرة عن مدى جاهزية البنية التحتية من منازل ومدارس وجامعات ومستشفيات وكهرباء وماء وصرف صحّي وغيرها على استيعابهم. لكن هل تقتصر، أو هل تتوقف المسألة عند قدرة البنية التحتية على استيعاب أولئك اللاجئين واحتياجاتهم؟ … بكل تأكيد لا، هناك مسألة تفرض علينا الانتباه إليها جيداً حينما نتحدّث عن شرائح عريضة من اللاجئين الذين سيعودون إلى بلادهم قادمين من دول وأنظمة سياسية ومجتمعات ذات مواصفات محدّدة، مجتمعات ودول وأنظمة غربية ديمقراطية، مثل ألمانيا والسويد وهولندا وفرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرها.
هذه الدول، كما يعلم الجميع، تحكمها أنظمة ديمقراطية علمانية تفصل الدين عن الدولة، مع ما يتضمّن ذلك من قوانين وتشريعات ومؤسّسات حكومية وأخرى مدنية، وآليات عمل ونماذج حياة تُفرد مكانة خاصة لقضايا مثل الحريات الشخصية، وحرية التعبير، وحرية المعتقد، وقيم العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وغيرها الكثير.
أولئك السوريون، وهم بالملايين، عاشوا في تلك الدول وتحت ظل هذه القوانين والقيم ردحاً من الزمن، وخضعوا لمتطلباته وتكيفوا معه، وربما شعروا بالارتياح والاطمئنان معه وفي ظله. هنا يجب الانتباه إلى مسألة بغاية الأهمية، أن غالبية من هؤلاء السوريين قد يكونون من الناس العاديين المتدينين والمحافظين، لكنهم، رغم ذلك، تكيفوا وقبلوا هذا النظام وهذه القيم، نظراً إلى توفيرها حرية المعتقد وشعورهم بالمساواة والحماية. علينا أن ننتبه إلى أن هؤلاء، حتى لو انساقوا، من دون تفكير، وراء شعارات ووجهات نظر ترفض “العلمانية” وترفض “الديمقراطية ” ومفهوم “الدولة المدنية”، إلا أنهم سيجدون صعوبة كبيرة بحكم تجربتهم في الدول الغربية المضيفة، في أن يقبلوا أو يتقبلوا العيش في ظل دولة، حتى لو كانت وطنهم، لا تعمل وفق تلك القيم التي أنتجتها الدولة العلمانية الغربية، قيم مثل الحريات الخاصة وحرية المعتقد والتعبير والكتابة والحريات الشخصية وتلك القيم المتعلقة بالحقوق والمساواة أمام القانون من دون تمييز.
لن يقبل هؤلاء السوريون الذين عاشوا في تلك الدول أن تتدخّل سلطة ما، مهما كانت صفتها، في حياتهم الخاصة ولباسهم ومعتقداتهم الدينية. ولن يتقبلوا بسهولة، أو ربما سيستغربون، التمييز في القوانين والدستور على أساس الدين والمذهب أو التمييز والتفرقة بين الرجل والمرأة إن وُجدت قوانين كهذه لاحقاً.
لماذا نقول ذلك اليوم؟ لأننا، وحسب ما واكبناه من أحداث وتطورات وطرق تعاطٍ في سورية بعد سقوط النظام، نشعر أن كثيرين منا ما زالوا يتشنّجون تماماً من مجرد استخدام هذه المصطلحات: العلمانية، الديمقراطية، الدولة المدنية! حصل ذلك في ساحات التظاهرات، حيث تصدى متظاهرون لشعار العلمانية، ووقفوا بوجوه من رفعوه وربما خوّنوهم. وحدث ذلك في مؤتمر الحوار الوطني، حيث لم يجرؤ أحد على تمرير كلمة الديمقراطية في البيان الختامي، رغم أن بعض المشاركين الفاعلين والمتنورين استخدموا المصطلح مئات المرات في كتاباتهم وخلال تنظيرهم في السنوات الماضية، ويحدث كل يوم تقريباً في نقاشات السوريين وحواراتهم اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي.
سمعنا من قبل، أو قد نتقبل حكاية أن فيلاً كبيراً وضخماً خاف من فأر صغير، لكننا لم نسمع من قبل عن ثورة عظيمة خافت من ثلاث كلمات صغيرة وما زالت تتوجّس ممن يستخدمونها.
العربي الجديد
————————-
سورية بين الأمس واليوم/ رباب هلال
18 مارس 2025
خرجتُ أتنسّم سوريّة جديدة، والجديد لا يعني الأفضل بالضرورة. مشيتُ في الشارع الطويل، ورغم التلوّث السميك، شعرتُ بالهواء يتفكّك، تتباعد ذرّاته وينداح بخفّة وحريّة، رائحته غريبة ومنعشة. أتنفّس بعمق، فيدغدغ الهواء مكمن الفرح بالخلاص من الاستبداد، فرح متفرّد أحفظه كشيءٍ ثمين بعيداً عن الآتي وكوارث كنّا نتوقّعها؛ نحن الذين تجرّأنا على ارتكاب الحلم في فصول الظلام المديدة رغم أنف (الأبد) الأسديّ. وفي خاطري وخاطر سواي، امرؤ القيس في قوله: “لا صحو اليوم ولا سكر غداً/ اليوم خمرٌ وغداً أمر”.
كنّا نتكهّن الآتي بعد زوال الأسد، فالاستبداد يجعل الأرض يباباً، ويحوّل شعبها إلى نكرات، وعلى حدّ تعبير ليسبون ويل: “السلطة هي القدرة على تحويل الكائن الحيّ إلى جثمان، ومن ثمّ إلى لا شيء”. فخلال نصف قرن ونيّف، عمل الأب والابن المستبدّان في البلاد نهباً وفساداً، قتلاً وتشريداً، قمعاً واعتقالاً، تجويعاً وحرماناً، ومقابر جماعيّة لجثث ضحاياهما، أو رميها في الخلاء بمحاذاة النكرات السائرين في التّيه. وبالطبع، ستَهرع إلى هذه الأرض اليباب قطط وكلاب، حشرات وزواحف سامّة، ووحوش ضارية مختلفة. بلى، كنّا ندرك ذلك، نحن النكرات/ الجثامين الحالمين. فلطالما نُهشت سوريّة/ الكعكة الشهيّة، منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، مروراً بسنوات الحرب الأربع عشرة، وحتّى ساعة هروب الأسد سيئ الذكر! نُهّاب ولصوص، واحتلالات غصّ بهم قلبُ أرضنا وأرواحُنا المبلبلة.
يوم سقوط النظام العفن وهروب قائده الجبان، ورغم توقعنا الوجل بقدوم من قد لا نتّفق معهم، وقد قدموا، رحّبنا بهم في المناطق التي سيطروا عليها، فهم سلطة الأمر الواقع؛ الدولة. رحّبنا بهم لأنهم سوريون صرف، كما كنّا نخال. ورغم معرفتنا أنّ قاموسهم اللغويّ خالٍ من مفردات آمالنا، مثل، الديمقراطيّة، والدولة المدنيّة، والعدالة. لكن لا بأس، قبِلنا بسلطتهم على دولتنا، ونحن ندرك أنّ واجبنا الوطنيّ يُلزمنا بالالتفاف حولها في هذه الظروف الخطرة التي تمرّ بها بلادنا، ضدّ محاولات تقسيمها، وتمزيق وحدة شعبنا مجدّداً.
في سوريّة الجديدة، شاهدنا سياراتٍ قادمة من إدلب وحلب، وسرافيس لنقل الركاب بين تلك المناطق وأريافها. يا لفرحتنا العارمة بلمّ شمل قسم من أجزائنا، كانت أشلاؤنا تشتاق لبعضها بعضاً. واكب ذلك عودة سوريّين كثيرين من الخارج، رجعوا إلى وطنهم، فاستُعيدت الضحكات والمعانقات السليبة، وانتعشت.
يقول إدواردو غاليانو في واحدة من شذرات كتابه “المعانقات”: “نظام عزلة، ابحث عن رقم واحد، جارك ليس أخاً لك أو حبيباً. جارك منافس، عدوّ، عائقٌ يجب إزاحته أو شيء يجب استخدامه. لا يغذّي النظام الجسد أو القلب: حكم على كثيرين بالتضوّر جوعاً بسبب غياب الخبز، وعلى أكثر منهم بغياب المعانقات”.
وتهطل الأسئلة المشروعة: هل حقّاً ستُنسينا سلطة الأمر الواقع أمسنا السوريّ المخنوق بالدم والعار؟ هل ستمحو وتنسينا لغة الإجرام الأسديّ مدمّر البلاد، القمعيّة، الإقصائيّة، لغة التخويف والتخوين والاتهامات الجاهزة، لغة “نحن” و”أنتم”، والتشكيك في أبناء جلدتنا، لغة اللّاقانون واللّاعدالة، المعتقلات والسجون؟ هل نأمل في ألّا تكون السلطة الانتقاليّة محض صفحة تالية في كتاب الاستبداد تستأنف فحوى سابقاتها السوداء، فنقبع في الظلام نفسه، في الخوف ذاته، والنفاق عينه، ونتعفّن في النفق المغلق مجدّداًّ؟ متى ستتوقّف أرضنا المنهكة المنتهكة عن عملها في ستْر سيل دماء الإخوة الأعداء وقد امتزجت ببعضها بعضاً؟ ومتى ستكفّ عن غضبها العتيق وهي تتقيّأ كتل خساراتنا المشتركة الرهيبة، في وجوهنا الحاقدة القاتلة، وفي وجوهنا القتيلة المرتعبة؟ أترانا سنهتدي؟ إذْ لا حياة على أرض توحّلها الدماء، ولا أنفاس تحيا داخل جغرافية من الحرائق.
وحده يمكثُ حلمنا يضلّل الديكتاتور، يرفض الاستبداد، فالاستسلام للظلم وقبوله، وصولاً إلى التعوّد، ينفي فكرة المقاومة، ويقتل الرغبة في تحقيق إنسانيّتنا ووجودنا. والظلم يشعل بصيص الأمل، دوماً، في قلب من ينشُد العدالة لاستعادة الكرامة، وبناء وطن جامع لأطيافه كلّها، وطن القانون والمساواة شرط تحقيق الأمن والسلام، وطن موحّد حرّ كريم، لا الخبز فيه يُغيّب، ولا تُغتال المعانقات.
العربي الجديد
——————–
سيناريو جنوب لبنان يتكرر على الحدود السورية: هل تنشأ منطقة عازلة؟/ طوني بولس
دمشق أبلغت جهات أمنية في بيروت أن الأمن القومي السوري يمتد إلى عمق 50 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية
الثلاثاء 18 مارس 2025
تصاعدت حدة الاشتباكات على الحدود اللبنانية – السورية متجاوزة الحوادث الأمنية المعتادة، لتكشف عن صراعات إقليمية أعمق، إذ تتهم سوريا “حزب الله” بحماية معارضين للنظام، بينما يعتبر الحزب مناطق حدودية سورية امتداداً حيوياً له، فيما تطالب دمشق بمنطقة عازلة بعمق 50 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية خالية من أي وجود لـ “حزب الله” أو معارضين سوريين للحكم الجديد.
شهدت الحدود اللبنانية – السورية اشتباكات خطرة اندلعت عقب مقتل ثلاثة عناصر تابعين لوزارة الدفاع السورية على الأراضي اللبنانية، وجرى اتصال بين وزير الدفاع اللبناني ميشال منسى ونظيره السوري مرهف أبو قصرة لمحاولة احتواء الوضع والتوصل إلى تهدئة. وجرى الاتفاق على وقف إطلاق النار بين الجانبين على أن يستمر التواصل بين مديرية المخابرات في الجيش اللبناني والمخابرات السورية للحؤول دون تدهور الأوضاع على الحدود بين البلدين تجنباً لسقوط ضحايا مدنيين أبرياء.
لكن القضية أعمق من مجرد حوادث أمنية متفرقة، إذ تحمل جذوراً تمتد إلى الصراعات الإقليمية الكبرى التي تعيد تشكيل المشهد الحدودي والنفوذ الإقليمي، فمن ناحية لا يزال “حزب الله” ينظر إلى بعض المناطق الحدودية السورية كامتداد حيوي له، خصوصاً في بعض المناطق السورية التي يقطنها لبنانيون من الطائفة الشيعية مثل الحوش وحاويك وزينتا والقرى الأخرى الواقعة في العمق السوري ضمن منطقة القصير في ريف حمص والقلمون الغربي، وفي المقابل تتهم الحكومة السورية “حزب الله” بحماية فلول النظام السوري السابق في مناطق بعلبك والهرمل والقرى الحدودية اللبنانية، مما يثير قلق القيادة السورية التي تعتبر أن هذا التمدد يشكل خطراً على استقرارها الداخلي.
كذلك تتهم جهات سورية “حزب الله” بالإسهام في إعادة تنظيم مجموعات مسلحة موالية للنظام السابق، إذ تؤكد أن مؤامرة محاولة الانقلاب في الساحل السوري أديرت من منطقة جبل محسن في طرابلس بشمال لبنان، وفي المقابل نفى الحزب هذه الاتهامات معتبراً أنها تأتي في سياق محاولات تضليل الرأي العام وتبرير الاعتداءات السورية على لبنان، واصفاً ما يجري على الحدود بأنه “تطور أمني يحتاج إلى معالجة سياسية وأمنية بين البلدين”.
رئيس الجمهورية اتصل بوزير الخارجية يوسف رجي، الموجود في بروكسل، وطلب منه التواصل مع الوفد السوري المُشارك في “المؤتمر التاسع لدعم مستقبل سوريا”، للعمل على معالجة المشكلة القائمة بأسرع وقت ممكن، بما يضمن سيادة الدولتين ويحول دون تدهور الأوضاع
— Lebanese Presidency (@LBpresidency) March 17, 2025
المنطقة العازلة
ومع تصاعد التوتر يبدو أن القيادة السورية باتت تنظر إلى لبنان بصيغته الحالية كمصدر تهديد للأمن القومي السوري، إذ أكد مصدر عسكري في دمشق أنهم أبلغوا جهات أمنية في بيروت أن الأمن الإستراتيجي السوري يمتد إلى عمق 50 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية، مما يعني أن الحكومة السورية تطالب بمنطقة عازلة على امتداد الحدود مع لبنان خالية من أي وجود لـ “حزب الله” أو أي عناصر تابعة للنظام السابق داخل هذا النطاق.
وبحسب المعلومات فإن السلطات السورية أرسلت تحذيرات مباشرة إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية، مؤكدة أنها لن تتسامح مع أي تهديد ينطلق من لبنان لزعزعة استقرارها الداخلي، ولا سيما في ظل المخاوف من إدارة عمليات مشابهة لتلك التي شهدتها السهول السورية من داخل لبنان.
وتؤكد مصادر دبلوماسية وجود نقاش حول إمكان توسيع صلاحيات القرار الدولي رقم (1701) ونشر قوات حفظ سلام دولية على جانبي الحدود اللبنانية – السورية، مشيرة إلى أن ذلك يتطلب موافقة من الدولتين وصدور قرار عن مجلس الأمن الدولي.
سيناريو الجنوب
وفي ظل هذه المعطيات يلوح في الأفق إمكان إنشاء منطقة عازلة على الحدود اللبنانية – السورية، على غرار ما حدث في جنوب لبنان مع إسرائيل حينما دمرت الأخيرة الأنفاق والبنية التحتية التابعة لـ “حزب الله” وطردت مقاتليه من القرى الحدودية خلال الحرب الأخيرة، والآن يبدو أن هناك مسعى مماثل إلى ضبط الحدود الشرقية والشمالية للبنان، إذ تدفع القيادة السورية باتجاه إزالة أي وجود عسكري للحزب من المناطق الحدودية، وتطلب من الجيش اللبناني تنفيذ هذه المهمة من جانبه.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يملك الجيش اللبناني القدرة على ضبط الوضع؟ وإذا فشل في ذلك فهل ستلجأ دمشق إلى تدخل عسكري مباشر لفرض الأمر الواقع بالقوة؟
تحركات دبلوماسية
في بيروت أعلنت السلطات اللبنانية تواصلها مع الحكومة السورية لاحتواء الأزمة، إذ أفاد بيان صادر عن الرئاسة اللبنانية أن الرئيس جوزاف عون وجّه وزير الخارجية يوسف رجي بالتواصل مع القيادة السورية بهدف “ضمان سيادة البلدين وتجنب أي تصعيد إضافي”، كما أكد البيان أن الجيش اللبناني تلقى توجيهات “بالرد على مصادر النيران”، مشدداً على أن ما يجري على الحدود الشرقية والشمالية الشرقية “لا يمكن أن يستمر”.
بين التهريب والسياسة
الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية جوني خلف اعتبر أن الاشتباكات التي حصلت عند الحدود السورية اللبنانية أخذت طابع عمليات عسكرية بين الجانبين و”حزب الله” تدخل في هذه العمليات مباشرة على رغم نفيه وقد شارك فيها بقوة، كاشفاً أن هذه العمليات والاشتباكات التي حصلت في منطقة حدودية برية بين سوريا ولبنان وتحديداً المناطق التي تتضمن معابر غير شرعية هي نتيجة عمليات التهريب في المنطقة التي هي على الأرجح سبب اندلاع هذه الاشتباكات.
يرى الباحث العسكري أن الجيش اللبناني قام بدوره كاملاً في هذه الأحداث، فهو عزز حضوره بشكل كبير واتخذ تدابير استثنائية ورد على مصادر النيران التي أطلقت من الجانب السوري، ما أعطى نوعاً من الطمأنينة للمواطنين الذين يقطنون في القرى الحدودية وبخاصة تلك المتداخلة بين البلدين، فيما نتج عن الاتصالات السياسية والأمنية تهدئة أوصلت إلى وقف إطلاق النار الذي أعلن.
ويتابع أن هذه الاشتباكات ستفتح من دون شك ملف “حزب الله” في كل المناطق اللبنانية وليس فقط جنوب الليطاني وكذلك انتشار السلاح غير الشرعي بين اللبنانيين وغير اللبنانيين، وسط مطالبات متزايدة بضرورة حصرية هذا السلاح بين الدولة اللبنانية فقط من دون استثناء.
إضافة، يرى خلف أن هذه التطورات تسلط الضوء بقوة على مسألة تفلت الحدود بين سوريا ولبنان، التي لا بد أن تشهد ترسيم حدود واضحة بين البلدين، بخاصة في ظل وجود عدد من البلدات اللبنانية المتداخلة في العمق السوري ويقطنها لبنانيون، ومثال عليها بلدة القصر التي شهدت في الساعات الماضية قصفاً عنيفاً.
ويرى الخبراء العسكريون أن الصراع على الحدود يتجاوز مجرد اشتباكات مسلحة، إذ يرتبط بملفات أمنية واقتصادية وسياسية معقدة، وأشار الباحث العسكري العميد المتقاعد خالد حمادة إلى أن “هذه المواجهات ليست وليدة اللحظة بل تعود لصراعات قديمة على النفوذ والتهريب”، مشيراً إلى أن “المنطقة كانت خاضعة لسيطرة ‘حزب الله’ والفرقة الرابعة السورية والحرس الثوري الإيراني قبل انهيار النظام السوري”، مضيفاً أنه “مع تحول المشهد لمصلحة الجيش السوري فإن بعض الأطراف تسعى إلى إعادة ترتيب الأوراق، سواء عبر إعادة فتح ممرات تهريب أو تثبيت معادلات عسكرية جديدة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في تحول الصراع إلى مواجهات ذات طابع طائفي، وهو ما قد يدفع المنطقة إلى مزيد من الفوضى”.
توظيف الأزمة
وفي ظل الضغوط الدولية المتزايدة لنزع سلاح “حزب الله”، يرى مراقبون أن الحزب قد يستغل هذه المواجهات لإثبات أن “سلاحه ضروري لحماية لبنان”، بخاصة في مواجهة خصومه السياسيين الذين يطالبون بتطبيق القرار الدولي رقم (1701)، إذ يستفيد من هذه الأوضاع لتقديم نفسه كمدافع عن لبنان وبخاصة في ظل الحديث عن تهديدات خارجية، واليوم قد يحاول الحزب توظيف هذه الأزمة لإظهار أن “التهديد لا يزال قائماً، وبالتالي فلا يمكن التخلي عن السلاح”.
ويلفت حمادة إلى أن “الحل الحقيقي لا يكون عبر المواجهات العسكرية فقط بل من خلال قرارات سياسية جريئة بين بيروت ودمشق، ويجب ضبط الحدود بصورة قانونية ومنع أية جهة غير حكومية من فرض سيطرتها عليها، وإذا لم يجر احتواء هذا التوتر سريعاً فقد نشهد تصعيداً أوسع سيؤثر في الاستقرار الإقليمي بشكل عام”.
القرار رقم (1680)
من ناحيته رأى العميد المتقاعد يعرب صخر أن ما يحدث ليس مستغرباً بل كان متوقعاً، وحذر من تكراره مشيراً إلى أن هذا التصعيد قد وقع بالفعل منذ 40 يوماً تحت ذريعة التوترات العشائرية وتداخل السكان على الحدود بين لبنان وسوريا، وقال صخر إن “المشكلة تكمن في استمرار وجود طرق ومعابر تهريب، حيث يتسلل منها مسلحون ومشتبه بهم من الطرفين، إضافة إلى أن بعض الفلول السورية التي هربت من النظام السابق لا تزال تملك جيوباً في لبنان وسوريا، مما يزيد تعقيد الوضع”.
وأشار إلى أن “الأوضاع في المنطقة الحدودية الشرقية والشمالية الشرقية بين البلدين لا تزال غير مستقرة مما يشكل مصدر قلق دائم، بخاصة في ظل غياب الحسم الكامل من الجانب السوري”، مضيفاً أن “الجيش اللبناني بوجوده في تلك المنطقة نجح في منع تصعيد الموقف بصورة أكبر، لكنه لا يزال يواجه تحديات كبيرة في ضبط الحدود”.
وأردف أن التصعيد الحالي مرتبط جزئياً بما حدث الشهر الماضي بين العشائر السورية والمسلحين التابعين لـ “حزب الله”، مشيراً إلى أن “الحزب يُلقي باللوم على العشائر ويحاول تبرئة نفسه من التورط المباشر”، ولفت إلى أن الحزب قد يتخذ من هذه العشائر غطاء مستدلاً على ذلك بتكرار هذه الحجة في كثير من المواقف السابقة.
وفي السياق عينه شدد صخر على أن “هذه العشائر ليست سوى جزء من المنظومة التابعة للحزب ولا يمكن أن تتحرك من دون دعم وتخطيط منه”، متابعاً أن “منطقة الهرمل والقاع، وهما من أكثر المناطق التي يوجد فيها ‘حزب الله’ قرب الحدود السورية، تمثلان نقطة تلاق لهذه الجيوب العشائرية التي لا تزال تشكل تهديداً مستمراً للأمن والاستقرار في المنطقة”.
وأكد صخر ضرورة التطبيق العاجل للقرار الدولي رقم (1680) الذي يفرض على لبنان ضبط حدوده بصورة كاملة، وأوضح أن لبنان لا يمكنه الاستمرار في التلكؤ في تنفيذ هذا القرار، إذ إن الضغط الدولي سيجبره على التنفيذ، تماماً كما حدث في تطبيق القرار (1701) مع المبعوث الأميركي السابق آموس هوكشتاين، والذي ينص على تفكيك بنية “حزب الله” العسكرية ونزع سلاح الميليشيات.
الـ “كوريدور” الإيراني
بدوره لفت أستاذ القانون والسياسات الخارجية في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا محيي الدين الشحيمي إلى أن “هناك محاولات وألاعيب عدة ليست مخفية، تقوم بها عناصر وأذرع ‘حزب الله’ رغم نفيه المسؤولية، وأن ذلك يحدث بقرار محوري إيراني يقضي بالاستمرار في نشر الفوضى في مناطق محور الممانعة، وبخاصة في الجغرافيتين اللبنانية والسورية”.
وقال “لم تستوعب إيران بعد خسارتها للأرض السورية والـ ‘كوريدور’ الذي يربط طهران بالعاصمة اللبنانية، ولا يناسبها كذلك إقامة علاقة ندية مع الدولة اللبنانية أو تأسيسها على أسس جديدة مع الدولة السورية، ولذلك تسعى إلى إنتاج نزاع جديد على الحدود مع سوريا، إضافة إلى الصراع القائم وحال الحرب مع العدو الإسرائيلي”، مضيفاً أن هذه الاشتباكات تتعلق بعملية محاصرة الدولة اللبنانية والعهد الجديد بأمر من طهران، وعبر تنفيذ مباشر من الحزب على الأراضي اللبنانية، إضافة إلى بعض فلول النظام السوري السابق والناقمين السوريين على الحال السورية الجديدة”.
واعتبر الشحيمي أن “هذا المشهد يمثل سيناريو من الفوضى والاشتباكات والعلاقات غير المتوازنة حيث يجد لبنان نفسه بين فكّي كماشة، الأول عدو والثاني في علاقة مترنحة، مما يخدم سردية السلاح ويؤكد أن السلاح شمال الليطاني وداخل لبنان لا يزال أولوية في هذه المشهديات”، مشيراً إلى أن “ما ينبغي التنبه إليه هو عملية النكران المستمرة من قبل ‘حزب الله’، إذ ينفي علاقته الدائمة بهذه الأحداث ويحاول حصرها في قضايا الاشتباك مع عصابات التهريب وتجارة المخدرات مثل الكبتاغون، على رغم أنه هو نفسه من يستخدم هذه العصابات كواجهة”.
وأوضح الشحيمي أنه “في الوقت الذي تسجل الدولة اللبنانية والعهد الجديد جهداً كبيراً ومشهوداً يومياً لوضع حد لهذه الاشتباكات والتنسيق مع الجانب السوري والمضي قدماً في تنفيذ القرارات الدولية، ولا سيما القرارين (1701) و(1680)، فإن الحزب يخشى هذه التطورات لأن تنفيذ القرار الدولي (1680) لا يصب في مصلحته أبداً”، مشيراً إلى أن “هذا القرار يحرمه الأراضي السورية التي يقطنها لبنانيون والتي بقيت تحت سيطرته لعقود، حيث كانت العشائر اللبنانية تتمتع بحرية تامة في التنقل عبرها من دون أي ضوابط أمنية، في ظل غياب المراكز الأمنية السورية التي تضبط المعابر غير الشرعية”.
مشروع إسرائيلي
في المقابل أشار النائب في كتلة “حزب الله” حسين الحاج حسن إلى أن ما يحدث منذ فترة على الحدود اللبنانية – السورية، وبخاصة في منطقة الهرمل، هو اعتداء مسلحين من الجانب السوري على الأراضي اللبنانية، حيث يقومون بقصف القرى اللبنانية، كاشفاً عن أن “عدداً من المسلحين دخلوا إلى الأراضي اللبنانية واشتبكوا مع مواطنين لبنانيين مما أدى إلى مقتل عدد منهم، والجيش اللبناني سلم الجثث إلى الجانب السوري، والجثث كانت في الجانب اللبناني خلافاً لما ادعى الجانب السوري بأن بعض المسلحين دخلوا من لبنان إلى سوريا”.
وأشار الحاج حسن إلى أن “حزب الله” أصدر بياناً واضحاً يؤكد فيه ألا علاقة له بما جرى ويجري، وأن الإصرار على إقحام الحزب في الموضوع هو لأهداف سياسية مبيتة، مطالباً “الدولة اللبنانية والجيش اللبناني بالقيام بواجباتهم، وهم يقومون بواجباتهم ويجب أن يستمروا في مواجهة الاعتداءات التي أدت إلى مقتل مواطنين لبنانيين ونزوح من بلدة القصر الحدودية، وأن تقوم بواجباتها على المستوى السياسي والدبلوماسي والدفاع عن الأراضي اللبنانية”.
وبرأي النائب عن الحزب فإن المشروع الأميركي – الإسرائيلي أخذ المنطقة إلى التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية وانشاء إسرائيل العظمى، والتوتر والصراع في المنطقة يستهدف تقسيمها وتفتيتها خدمة لهذا المشروع”.
—————————-
السلفية الجديدة في سورية/ حسام أبو حامد
18 مارس 2025
إحدى مثالب الثورة السورية أن السوريين، بعد سنوات من الاستبداد واحتكار النظام المجال العام، لم يمتلكوا سرديةً مشتركةً لمستقبلهم السياسي. صحيحٌ أنهم نادوا بالحرية والكرامة وغيرهما، لكنّهما بقيتا مفهومين مجرّدين من دون برنامج سياسي، مع توافقهم سريعاً على هدف ملموس تجسّد في إسقاط نظام الأسد. ولعلّ غياب تلك السردية حال (من بين عوامل أخرى) دون انتصار الثورة. وما إن انهار النظام فجأةً بتمرّد مسلّح لفصائل السلفية السورية الجهادية، حتى بدا أن فرصةً فريدةً تلوح أمام السوريين لتحويل المعاناة أساساً إلى مستقبل موحّد، ديمقراطي ومزدهر، ولبناء مجتمع يتغلّب على عقودٍ من القمع والصراع باستراتيجيات شاملة، مستنيرة، وتطلّعية. لكنّ الأيام اللاحقة أظهرت مدى الصعوبة التي يكابدها السوريون في فصل تصوراتهم (المدروسة والقائمة على الأدلة) بشأن المستقبل عن ردّات فعلهم العاطفية (الغريزية) تجاه القمع الماضي.
كان المأمول إرساء آليات عدالةٍ انتقاليةٍ تُركّز في المساءلة الفردية لا الجماعية، فتمنع شيطنة شرائح اجتماعية بكاملها، وأن تتحوّل الذكريات المؤلمة تصميماً جماعياً على بناء مُجتمعٍ يرفض إرث الماضي المُظلم. إلا أن المجازر الطائفية (المؤجّلة؟) بحقّ السوريين العلويين، وما رافقها من عنفٍ لفظي، ومحاولات تبريرها أو التقليل من شأنها، كشفت حالة الاستقطاب الحادّة التي استحكمت بالمجتمع السوري، والثمن الباهظ للتباطؤ في السير نحو العدالة الانتقالية. كان المفترض أن يقتضي الاعتراف بالجروح العميقة التي خلّفها عهد الأسد الإقرار بأن تاريخ الاستبداد لا يجب أن يُحدّد إمكانات الغد. كان مهمّاً أن يتذكّر السوريون المظالم، ولكن كان من المهم أيضاً النظر إليها دروساً لما يجب ألا يتكرّر أبداً، وكذا الاعتراف بحقائق الماضي من دون أن تتحوّل قيداً على المخيال السياسي. وقع السوريون في فخ العقلية الانفعالية، ما حال دون تحويل تجربتهم التزاماً بالإصلاح السلمي، فمشاعر الغضب إن كانت مشروعةً، فإن بناء مستقبل قائم عليها وحدها سيجلب مزيداً من دورات الانتقام.
حوارات اليوم الواحد، واللون الواحد، المبتورة زمنياً وتشاركياً، لم تكن في مصلحة حضور السردية السورية المشتركة، فحلّت في مكانها السيناريوهات الناجزة، وسرديةٌ ببعد أحادي، بل كرّست السلطوية الجديدة في سورية نوعاً من السلفية السورية تُبقي الذاكرة الجماعية مُركِّزةً في صدمات الماضي، فيكتفي السوريون بحاضرهم من دون الأسد، وكأن سقوط النظام هو نهاية المطاف الثوري، ويصبح حاضر الحدّ الأدنى جائزة كُبرى مقارنة بمأساة الماضي، وتغيب الحدود القصوى من تصوّرات المستقبل، بل تكرّس هذه السلفية السورية نوعاً من “العقل المستقيل”، يخاطبه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع (في مؤتمر الحوار الوطني في 25/2/2025) بقوله: “كما تقبّلتم منا هذا النصر فأرجو متكرّمين أن تقبلوا منا طرائقه”.
يُمكن للماضي (بقصدٍ أو من دونه) أن يُبرّر التدابير الأمنية المُفرطة إذا ما صُوّرت ضماناتٍ ضدّ العودة إلى الفوضى، ويتيح للسلطوية مزيداً من تركيز السلطة من دون أن تخشى مواجهة مطالب شعبية قوية بالإصلاح. وبما أن الجريمة هي جريمة في حدّ ذاتها، لا بالنسبة إلى من ارتكبها، فإن تضمين الإعلان الدستوري بنداً يجرّم رموز نظام الأسد، وكلّ من يدافع عنه أو يبرّر جرائمه، لا يعني أكثر من الحفاظ على خطاب الضحية الجماعي، المتجذّر في معاناة الماضي، ما يساعد النظام الحالي في ترسيخ صورته حارساً للكرامة الوطنية، مهما تقاعس عن منع “هولوكوست” جديدٍ بحقّ سوريين.
للخروج من السلفية السورية الجديدة، يجب أن يتحوّل التركيز من الاندفاع العاطفي للردّ على قمع الماضي إلى التركيز في استراتيجية عقلانية وشاملة واستشرافية، لبناء مستقبل يحمي حياة جميع المواطنين وحقوقهم وكرامتهم، مستقبل يمكن التنبؤ به وليس إملاءه على السوريين.
وفي ذكرى ثورتهم (مُختلف عليها حتى)، لا يحتاج السوريون وروداً وشعاراتٍ رنّانة تهبط عليهم من السماء، بل ينتظرون أن تزهر هذه الورود في تربتهم، وأن تتجسّد تلك الشعارات في واقعهم.
العربي الجديد
—————————–
“دون المرور بالقنوات الحكومية”.. كيف ستصل المساعدات الأوروبية إلى السوريين؟
2025.03.17
عُقد مؤتمر المانحين الدولي في بروكسل بهدف حشد الدعم لسوريا ودول الجوار التي تستضيف اللاجئين السوريين. ركّز المؤتمر على ثلاثة مجالات رئيسية للمساعدات: المساعدات الإنسانية العاجلة، وإعادة الإعمار المبكرة، ودعم اللاجئين والمجتمعات المضيفة.
وشدّد المؤتمر على عدم توجيه المساعدات عبر السلطات السورية حالياً، بل عن طريق منظمات الأمم المتحدة والإغاثة، حيث تشمل المساعدات الإنسانية توفير الإغاثة الطارئة للسوريين داخل البلاد وللاجئين في الخارج، مثل الغذاء والرعاية الصحية والمأوى والمياه النظيفة.
أما إعادة الإعمار المبكرة فتشمل إصلاح البنية التحتية الأساسية واستعادة الخدمات الحيوية (كالكهرباء ومياه الشرب) في المناطق الأكثر تضرراً، إلى جانب دعم جهود إنعاش الاقتصاد المحلي وتهيئة الظروف لعودة الحياة الطبيعية.
وفيما يتعلق بـدعم اللاجئين، تعهّد المانحون بتمويل برامج تساعد اللاجئين السوريين في دول الجوار من خلال تحسين خدمات التعليم والصحة في المجتمعات المضيفة، وتوفير فرص “النقد مقابل العمل” لتمكين السوريين من كسب العيش.
المبالغ المالية المخصصة والتعهدات الرئيسية
وأسفر مؤتمر بروكسل عن تعهدات مالية كبيرة لسوريا والدول المضيفة. بلغ إجمالي التمويل الذي التزم به المجتمع الدولي لعامَي 2025-2026 نحو عدة مليارات من اليورو، ومن المتوقع أن يقل قليلًا عن مستوى العام السابق (7.5 مليار يورو) نظراً لتراجع بعض المساهمات.
وأعلنت المفوضية الأوروبية زيادة مساهمة الاتحاد الأوروبي إلى ما يقارب 2.5 مليار يورو لدعم السوريين داخل البلاد وفي دول الجوار لعامي 2025 و2026.
ويجعل ذلك الاتحاد الأوروبي مرة أخرى أكبر المانحين للسوريين، إذ مثّل الاتحاد ودوله الأعضاء قرابة 6 مليار يورو من إجمالي التعهدات في مؤتمر العام الماضي.
وإلى جانب ذلك، قدمت الدول المانحة الرئيسية تعهدات بارزة هذا العام، منها:
ألمانيا:
تعهّدت بحوالي 300 مليون يورو إضافية لمساعدة السوريين عبر وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية. أكدّت برلين أن أكثر من نصف هذا الدعم سيوجَّه إلى المحتاجين داخل سوريا، والباقي لدعم اللاجئين والمجتمعات المضيفة في الأردن ولبنان والعراق وتركيا.
وخصّصت ألمانيا 131 مليون يورو للمساعدات الإنسانية المباشرة (غذاء، رعاية صحية، إيواء عاجل) و36 مليون يورو لمشاريع تحقيق الاستقرار وبناء السلام داخل سوريا، إضافة إلى دعم مشاريع التعليم وتوفير المياه والكهرباء وسبل العيش للاجئين.
المملكة المتحدة:
أعلنت التزاماً يصل إلى 160 مليون جنيه إسترليني (حوالي 210 مليون دولار) كمعونة حيوية لسوريا خلال فترة ما بعد النزاع. سيتم توجيه هذه الأموال عبر منظمات الأمم المتحدة والهيئات غير الحكومية الموثوقة لضمان تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة ودعم التعافي الاقتصادي، مع التأكيد على عدم تمريرها عبر الحكومة السورية الانتقالية.
الاتحاد الأوروبي (المفوضية):
بالإضافة إلى مساهمات الدول الأعضاء، قدّم الاتحاد الأوروبي كمؤسسة (المفوضية الأوروبية) 2.5 مليار يورو كمساعدات إنسانية وإنمائية موزعة على عامي 2025 و2026.
وهذا التعهد الأوروبي يشمل دعم السوريين داخل البلاد واللاجئين في دول الجوار، وهو زيادة عن تعهدات الاتحاد في المؤتمر السابق (التي كانت 2.12 مليار يورو لعامي 2024-2025).
دول مانحة أخرى:
ساهمت العديد من الدول والمنظمات الدولية بتعهدات إضافية. على سبيل المثال، أعلنت سويسرا تقديم 60 مليون فرنك سويسري استمراراً لدعمها السنوي، وهو مبلغ يماثل مساهماتها في عامي 2023.
وشاركت دول أوروبية وعربية أخرى في التمويل – من بينها فرنسا وكندا واليابان ودول الخليج – بتعهدات بمبالغ عشرات إلى مئات الملايين لدعم جهود الإغاثة والإنعاش في سوريا وللاجئيها في المنطقة.
ورغم أن الولايات المتحدة كانت من أكبر المانحين (قدّمت ما يقرب من 1.2 مليار دولار في العام السابق، إلا أنها لم تقدم تعهداً جديداً هذا العام بسبب قيام الإدارة الأمريكية بإعادة تقييم مساعداتها الخارجية. غياب التمويل الأمريكي ساهم في انخفاض إجمالي التعهدات بعض الشيء مقارنة بالعام الماضي، رغم وعود باقي المانحين بـ”سد الفجوة” قدر الإمكان.
توزيع المساعدات حسب المجالات
سيجري توزيع الأموال المجمّعة على عدة مجالات أساسية لضمان تلبية مختلف الاحتياجات الناجمة عن الأزمة السورية. وجاءت خطة التخصيص على النحو التالي:
المساعدات الإنسانية الطارئة:
جزء كبير من التمويل سيُخصص لتوفير الإغاثة العاجلة والمنقذة للحياة للسوريين داخل البلاد وللاجئين في الخارج. يتضمن ذلك توزيع المواد الغذائية الأساسية، ودعم المرافق الصحية والمستشفيات الميدانية لتقديم الرعاية الطبية، وتأمين المأوى والمياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي في المخيمات والمجتمعات المتضررة.
هذه المساعدات ضرورية نظراً لأن ملايين السوريين لا يزالون يعانون من نقص الغذاء والرعاية الصحية، ويعيشون في ظروف صعبة خصوصاً خلال فصل الشتاء. على سبيل المثال، خصصت ألمانيا وحدها 131 مليون يورو ضمن تعهدها لتوفير الغذاء والرعاية الصحية والملاجئ الطارئة عبر المنظمات الدولية.
إعادة الإعمار المبكرة والبنية التحتية:
ستُوجَّه مبالغ مهمة لدعم مشاريع التعافي المبكر وإعادة تأهيل البنية التحتية في سوريا. يشمل ذلك إصلاح شبكات الكهرباء والمياه في المناطق التي تضررت أو انقطعت عنها هذه الخدمات، وترميم المساكن والمستشفيات والمدارس المتضررة بشكل جزئي لإعادة استخدامها.
كما يتضمن دعم إزالة الأنقاض والمخلفات الحربية وفتح الطرق لتسهيل عودة النازحين. قدّرت الأمم المتحدة كلفة إعادة إعمار سوريا بالكامل بأكثر من 250 مليار دولار، لذا يركز المانحون حالياً على المشاريع العاجلة التي تحسّن الحياة اليومية (مثل إصلاح محطات الكهرباء والمياه) وتوفر الأساس لانطلاق عملية إعادة إعمار أوسع في المستقبل.
دعم المجتمعات المضيفة واللاجئين:
خصص المانحون جزءاً من التمويل لمساندة البلدان المجاورة التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين، بهدف تعزيز صمود المجتمعات المضيفة وضمان تقديم الخدمات للاجئين دون إرهاق البنية التحتية المحلية. سيتم تمويل برامج لتحسين شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء في المجتمعات التي ارتفع عدد سكانها بسبب تدفق اللاجئين.
كذلك، سيتم دعم البلديات والمراكز الصحية في دول مثل تركيا ولبنان والأردن والعراق لتعزيز قدرتها على تلبية احتياجات كل من اللاجئين والسكان المحليين. وشدد المؤتمر على دعم الفئات الأكثر ضعفاً بين اللاجئين، عبر توفير الحماية الاجتماعية والخدمات للأطفال والنساء والشباب.
على سبيل المثال، سيذهب جزء من تعهد ألمانيا ومانحين آخرين لبرامج في الأردن ولبنان توفر فرص عمل مؤقتة للاجئين (نقد مقابل العمل) لتحسين دخلهم وفي الوقت نفسه تطوير البنية التحتية المحلية.
اقرأ أيضاً
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي كاجا كلاس، ووزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني، ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي يحضرون مؤتمر بروكسل التاسع (رويترز)
رغم تقليص المساعدات الأميركية.. مؤتمر بروكسل يجمع تعهدات جديدة لسوريا
قطاع التعليم:
حاز دعم التعليم على اهتمام خاص ضمن توزيع المساعدات، إدراكاً لأهمية منع ضياع جيل كامل من الأطفال السوريين بسبب الحرب واللجوء. خُصصت موارد لبناء أو تأهيل المدارس في المناطق الآمنة داخل سوريا، ودعم العملية التعليمية للاجئين في دول الجوار من خلال تمويل رواتب المعلمين وشراء المستلزمات الدراسية.
وكما سيتم تقديم دعم نفسي اجتماعي للطلبة الذين عانوا من صدمات الحرب، لضمان دمجهم في العملية التعليمية. وقد ذكرت وزارة التنمية الألمانية على سبيل المثال أن جزءاً من مساهمتها سيُستخدم لضمان حصول الأطفال والشباب على التعليم والدعم النفسي اللازمين داخل سوريا وفي مخيمات ودول اللجوء.
قطاع الصحة:
ستدعم الأموال المخصصة للقطاع الصحي إعادة تأهيل المستشفيات والمراكز الصحية التي تضررت خلال النزاع، وتأمين الأدوية والمعدات الطبية الأساسية. ويشمل ذلك إصلاح وتجهيز المستشفيات في المناطق الأشد تضرراً وتلك التي تخدم عدداً كبيراً من السكان.
إضافةً إلى ذلك، سيوجَّه تمويل لتعزيز النظام الصحي في دول الجوار (خصوصاً لبنان والأردن) بحيث يتمكن من تقديم الرعاية للاجئين جنباً إلى جنب مع المواطنين.
على سبيل المثال، تتضمن حزمة الدعم الألمانية تمويل شراكات بين مستشفيات ألمانية وسورية للمساعدة في تحسين خدمات المستشفيات المحلية، فضلاً عن دعم برامج الأمن الغذائي التي تؤثر مباشرةً على صحة الأسر.
ودعت منظمة الصحة العالمية وغيرها من الوكالات إلى ضمان إيصال المعدات الطبية وقطع الغيار إلى سوريا لإصلاح الأجهزة الصحية الحيوية، مشيرةً إلى أن العقوبات والإغلاقات أعاقت ذلك في السابق.
الفترة الزمنية للتوزيع (2025-2026)
أعلن الاتحاد الأوروبي أن تعهده البالغ 2.5 مليار يورو سيصرف على مدى عامين (2025 و2026) لدعم السوريين داخل وخارج البلاد، مما يعني تقسيم المبلغ على دفعتين سنويتين تقريباً أو وفق مراحل تنفيذ محددة.
أشارت المملكة المتحدة إلى أن مساهمتها (160 مليون جنيه) ستكون مرنة الصرف خلال الفترة القادمة تبعاً للاحتياجات الإنسانية والتقدم المحرز في العملية السياسية السورية. بعض الدول قدمت الجزء الأكبر من تمويل 2025 مع استعداد لزيادة المبلغ أو تمديده في 2026 إذا استمر الوضع في التدهور الإنساني.
ووفق خطة التوزيع الزمني، سيتم ضخ التمويل فوراً في عام 2025 لتلبية الاحتياجات الملحّة التي شخصتها الأمم المتحدة. وستستخدم أجزاء من التعهدات في تغطية برامج مستمرة تحتاج تمويلاً متواصلاً (مثل سلال الغذاء الشهرية للاجئين، ورواتب العاملين في العيادات الميدانية، وخطط التعليم للأطفال اللاجئين).
وفي عام 2026، سيستمر تمويل المشاريع طويلة الأجل كإعادة تأهيل شبكات المياه والكهرباء وبناء القدرات المحلية وربما البدء بمشاريع إعمار أكبر إن تحسنت الأوضاع الأمنية.
يجدر بالذكر أن مؤتمر العام الماضي 2024 تضمّن أيضاً تعهدات متعددة السنوات؛ حيث خُصّص نحو 5 مليار يورو لعام 2024 وما يقارب 2.5 مليار يورو للسنوات اللاحقة ضمن مجموع 7.5 مليار يورو الذي تم التعهد به.
من جهة أخرى، سيجري متابعة صرف التعهدات عبر تقارير دورية لضمان أن الأموال المعلنة تصل ضمن الجداول الزمنية المقررة. وقد تعهدت المفوضية الأوروبية بمراقبة تنفيذ تعهدات المانحين لعام 2025 وضمان صرفها في البرامج المحددة قبل انعقاد مؤتمر المانحين القادم.
ويُشار إلى أن التعهدات ليست مساوية للصرف الفوري دائماً؛ إذ يعتمد تحويلها عملياً على إجراءات الموازنات الوطنية لكل دولة مانحة. لكن وجود إطار زمني لعامين يمنح مرونة أكبر للدول لتقسيم مدفوعاتها والتخطيط ضمن ميزانياتها الداخلية لتلبية التعهدات.
ويساعد هذا الأمر على ضمان عدم حدوث فجوات تمويلية بين عام وآخر. على سبيل المثال، في مؤتمر 2023 تم تخصيص 4.6 مليار يورو لعام 2023 و1 مليار يورو لعام 2024 من التعهدات، مما ساعد في استمرار البرامج الإنسانية مع دخول عام 2024.
وسيُطبق نهج مشابه هذه المرة حيث يُتوقع تقسيم التعهدات المُعلنة على عامي 2025 و2026 بما يحافظ على مستوى ثابت من الدعم خلالهما.
مقارنة بمستويات التمويل في السنوات السابقة
ويعطي مؤتمر بروكسل بنسخته الأخيرة مؤشراً على تطور مستويات الدعم الدولي لسوريا عبر السنوات. وشهدت التعهدات المالية تقلبات من عام لآخر، متأثرة بعوامل عدة مثل مدى إلحاح الأزمة، والأحداث المستجدة (كالكوارث الطبيعية أو التطورات السياسية)، والأولويات الجيوسياسية للدول المانحة.
فيما يلي لمحة مقارنة عن تعهدات المؤتمرات السابقة لدعم سوريا والمنطقة:
مؤتمر بروكسل الأول 2017: بلغ إجمالي التعهدات حوالي 6 مليار دولار لدعم السوريين. كان هذا المؤتمر بداية سلسلة بروكسل، وجاء الرقم ملتزماً بتلبية نداءات الأمم المتحدة آنذاك، حيث ركزت التعهدات على المساعدات الإنسانية العاجلة مع بعض الدعم لدول الجوار.
مؤتمر بروكسل الثاني 2018: تراجع حجم التعهدات المعلنة إلى نحو 4.4 مليار دولار فقط للسنة نفسها، مما أثار قلق وكالات الإغاثة إذ كانت الاحتياجات في تصاعد. ولكن يُذكر أن بعض الدول زادت مساهماتها لاحقاً خلال العام لتعويض النقص جزئياً.
مؤتمر بروكسل الثالث 2019: شهد قفزة ملحوظة في الدعم، حيث تعهد المانحون بتقديم حوالي 7 مليار دولار لعام 2019. إضافة لذلك، تم الالتزام بمبالغ إضافية تقارب 2.4 مليار دولار للسنوات اللاحقة، ليصل مجموع التعهدات متعددة السنوات إلى نحو 9.4 مليار دولار. وقد وُصِف هذا التعهد بأنه “قياسي” في حينه، إذ أعلنت المفوضية الأوروبية أن الرقم الإجمالي (بشمل المساعدات التنموية وقروض ميسرة) تجاوز 8.3 مليار يورو.
مؤتمر بروكسل الرابع 2020: (المنعقد في خضم جائحة كوفيد-19) بلغ مجموع التعهدات حينها حوالي 5.5 مليار دولار لعام 2020، بالإضافة إلى تعهدات قروض ومساعدات ممتدة للسنوات التالية رفعت الإجمالي إلى نحو 13.8 مليار دولار (أي 12.4 مليار يورو بين منح وقروض). هذا الرقم المرتفع يعود جزئياً إلى إدراج قروض ميسرة من بنوك تنموية ضمن التعهدات، وإلى التزام مانحين كبار بتعهدات متعددة السنوات على نطاق أوسع.
مؤتمر بروكسل الخامس 2021: تواصل الدعم السخي حيث تعهدت الدول بحوالي 6.4 مليار دولار إجمالاً (منها 4.4 مليار للعام 2021 نفسه و2 مليار للسنوات اللاحقة). وكانت حصة الاتحاد الأوروبي ودوله بارزة، إذ بلغ مجموع ما قدمته 5.3 مليار يورو (حوالي 6.4 مليار دولار) في ذلك المؤتمر.
مؤتمر بروكسل السادس 2022: بقي التمويل قرب مستويات السنوات السابقة. فقد قدّم المجتمع الدولي حوالي 6.7 مليار دولار لمساعدة السوريين داخل البلاد وفي دول اللجوء. مثّل هذا الرقم ارتفاعاً طفيفاً عن العام الذي سبقه بفضل بعض الزيادات من دول أوروبية وعربية، وإن ظل أقل من المستوى القياسي لعام 2019.
مؤتمر بروكسل السابع 2023: والذي عُقد في ظل كارثة الزلزال المدمّر التي ضربت شمال سوريا وتركيا في شباط 2023، فقد بلغ إجمالي التعهدات فيه 5.6 مليار يورو (حوالي 6.13 مليار دولار). خُصص الجزء الأكبر من هذا التمويل لعام 2023 نفسه (~4.6 مليار يورو) مع حوالي 1 مليار يورو إضافي لعام 2024 وما بعد. كان هذا انخفاضاً عن العام السابق 2022.
مؤتمر بروكسل الثامن 2024: سجل ارتفاعاً كبيراً جديداً في حجم التعهدات، حيث نجح في حشد أكثر من 7.5 مليار يورو (حوالي 8.2 مليار دولار). تضمن هذا المبلغ نحو 5 مليار يورو كمنح مباشرة و2.5 مليار يورو كقروض ميسرة للعام 2024 وما بعده. وقد ساهم الاتحاد الأوروبي (المفوضية والدول الأعضاء) وحده بحوالي 6 مليار يورو من ذلك. واعتُبر مؤتمر 2024 من أنجح المؤتمرات من حيث التمويل.
مؤتمر بروكسل التاسع 2025: شهد تعهدات كبيرة ولكنها دون مستوى 2024 بقليل. فمع غياب مساهمة الولايات المتحدة التي كانت بارزة سابقاً، تُشير التقديرات الأولية إلى أن الإجمالي المعلن قد يكون أقل من 7.5 مليار يورو المحقق في 2024. وأكد مسؤولون أوروبيون أن مساهمات باقي الدول قاربت سد الفجوة. فعلى سبيل المثال، عوّض الاتحاد الأوروبي جزءاً كبيراً من الانخفاض عبر زيادة مساهمته إلى 2.5 مليار يورو، كما حافظت ألمانيا والمملكة المتحدة ودول أخرى على مستويات دعم قوية. وعند جمع كافة التعهدات يصبح المجموع 5.8 مليار دولار أميركي لعام 2025-2026.
العربي الجديد
————————————
سقط الأسد، وماذا بعد؟/ حسن النيفي
2025.03.18
الخطاب الذي صدّرته السلطة الحاكمة إلى الرأي العام منذ انطلاقة معركة ردع العدوان (27 نوفمبر) كان خطاباً مطمئناً بما ينطوي عليه من استعداد كبير للتحلّل من قيود الأيديولوجيا وتجاوز جدرانها الصلبة، كما كان يحيل هذا الخطاب إلى استعداد بدرجة مقبولة من هيئة تحرير الشام للتحوّل من طور الفصائلية الجهادية إلى طور الوطنية العامة باعتبارها الحامل الحقيقي لمفهوم الدولة.
وقد جسّدت التصريحات المتعاقبة – آنذاك – لقيادة العمليات العسكرية المتمثلة بالسيد أحمد الشرع، ترجمة تركت أثراً طيباً لدى الرأي العام السوري وخاصة فيما يتعلق بعملية التحرير التي لم يدّع الرئيس الحالي للبلاد احتكارها لجهة محدّدة أو فصيل معيّن، وإنما أسداها لأصحابها الحقيقيين بإشارته إلى دور جميع السوريين ممّن قدموا التضحيات سواء أكانوا من المعتقلين أو النازحين وحتى شهداء البحار الذين قضوا بين أمواجها، وذلك عبر مسعى واضح لتفنيد مقولة ( من يحرر يقرر) التي بدأت تتعالى هنا وهناك، وبهذا استطاعت السلطة الحاكمة تَحاشي وتحييد كثير من الانتقادات والاعتراضات التي وُجِّهت لحكومة تصريف الأعمال من حيث انبثاقها من لون واحد، مُعلِّلةً ذلك بضرورة توفّر عنصر الانسجام في العمل بين الفريق الوزاري، باعتباره الفريق ذاته الذي تشكلت منه (حكومة الإنقاذ) في إدلب.
جاء الاستحقاق الثاني الذي انتظره السوريون، بل ربما عوّل عليه كثيرون بأنه سيكون منطلقاً تأسيسياً جديداً للدولة السورية، وسيكون ترجمة حقيقية لمفهوم المشاركة في رسم ملامح سوريا التي يتطلع إليها السوريون، ولكن انعقاد المؤتمر بطريقة مباغتة يومي (24 – 25 – شباط الماضي)، إضافة إلى طبيعة الدعوات ووقائع الحوار وفحوى مخرجاته، بل الأهم من ذلك اللجنة التحضيرية التي اتسمت باللون الواحد أيضاً ووسمتْ معايير الدعوات وفقاً لمزاجيتها، لعل هذا كله قد فتح الباب من جديد إلى تسلّل الشكوك والريبة إلى نفوس شطر كبير من السوريين وربما بدا يؤسس لقناعة توحي بأن المراد من براغماتية الخطاب لدى السلطة هو مجرّد الاحتواء للرأي المخالف والتفافٌ عليه أكثر ممّا هو نزوع فعلي نحو مفهوم المشاركة، كما بدا يشيع الاعتقاد لدى بعض الأوساط السورية بأن المَعني الحقيقي في خطاب السلطة هو الرأي العام الخارجي الذي تحرص القيادة الجديدة على كَسْبه واستثماره باعتباره الخطوة التي تمهّد السبيل لحيازة الشرعية الدولية ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، ومع الإقرار بمشروعية هذا النهج – وفقاً لكثيرين – إلّا انه بالنتيجة سوف ينتهي إلى تكريس مبدأ الإقصاء والتهميش، بل ربما إلى التفرّد والاستبداد.
ثم جاء الاستحقاق الثالث التي طالما انتظره السوريون بمزيد من الترقّب، وأعني الإعلان الدستوري الذي لم يكن بالمستوى الذي يتطلع إليه الكثير من السوريين، وليس المعني بهذا الاستياء هم المكوّنات العرقية غير العربية أو الطوائف الإثنية فحسب، بل شطر كبير أيضاً ممّن يحرصون على نجاح السلطة في عبورها للمرحلة الراهنة نحو ضفة الأمان.
ثمة تحدّيات هائلة تواجه الحكومة الحالية ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها، لعل في طليعتها التحدّيات الأمنية التي تتمظهر بأكثر من حالة، بدءً من مواجهة فلول النظام البائد التي أودت بأرواح مئات الضحايا سواء من قوات الأمن العام أو من المدنيين، ومروراً بالمناطق التي ما تزال القوى العسكرية فيها تتردّد بالاندماج بمؤسسات الدولة، وصولاً إلى التحديات الإقليمية التي لم تتوان عن النفخ في النار السورية بغية ازدياد لهيبها، وفي مقدمة تلك القوى إيران وإسرائيل، فضلاً عن
الشطر الآخر من التحدّيات ذات الصلة بالعقوبات الاقتصادية التي غالباً ما تخرج عن سياقاتها القانونية لتصبح سبيلاً للاستثمار والابتزاز السياسي من جانب الدول ذات المصالح في الشأن السوري.
لا شكّ ان هذا المشهد الساخن يُنذر بالانفجار ويرتفع فيه منسوب الخوف لدى غالب السوريين من أن تتحوّل هذه التحدّيات إلى معضلات حقيقية تفتح الأبواب لانفجارات داخل المجتمع السوري من جهة، وتمنح الذرائع للمزيد من التدخلات الخارجية من جهة أخرى.
وحيال هذا الواقع المخيف والمُقلق يقف الفاعلون السوريون عبر أنساق ثلاثة، يتصدّرهم الجمهور العام للثورة، بمن فيهم القوى المؤطرة سياسياً من أحزاب وتيارات وتجمعات وطنية، سواء من القوى الوطنية التقليدية التي سبق تاطيرها انطلاقة الثورة، أو ممّن تشكلت ما بعد 2011 ، ولعل السمة المشتركة لهذه القوى أنها بمجملها أقوى مدنية بعيدة عن التشكيلات العسكرية، ولكنها ناضلت عبر سنوات وجسّدت جانباً من النضال السلمي للسوريين في سبيل التغيير، وهي وإنْ لم تخفِ اختلافها الفكري والسياسي مع القوى الإسلامية التي وصلت إلى سدّة الحكم، إلّا أنها شديدة في حرصها على المنجز الذي تحقق في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، وهذا ما جعلها تطوي جانباً جميع توجساتها السابقة، وتعمل على دعم التجربة التحررية السورية بعيداً عن أي اعتبارات فكرية أو عقدية، بل يمكن التأكيد على أنها باتت شديدة الاستعداد لتوظيف كل طاقاتها في دعم السلطة الجديدة ورفدها بالخبرات والكفاءات العلمية والمهنية، إلّا أنها – وخلال الأشهر الثلاثة الماضية – كانت تصطدم على الدوام بحائط صدّ من جانب السلطة الجديدة، وهذا الموقف ذاته تكرّر حيال مبادرة العديد من الشرائح المجتمعية الأخرى، كالضباط المنشقين عن النظام والقضاة والفئات المهنية الأخرى.
في حين تقف في الطرف المقابل فئة أخرى ممن لا تجد لها أي مصلحة في عملية التغيير الوطني، فهؤلاء وإن لاذوا بالصمت طوال الأشهر الماضية، إلّا أنهم اليوم وجدوا ما يتيح لأصواتهم أن ترتفع، وقد وجدوا في تعقيدات المشهد السوري فرصة جديدة لممارسة التربّص وتصيّد المواقف بغية الاصطياد بالماء العكر، ولعل الصورة المثلى التي تتجلّى فيها هذه الحالة هي التظاهرة التي خرجت في باريس يوم السادس عشر من آذار الجاري والتي تزعّمها الشاعر (أدونيس) وقد تحلّق حوله رهطٌ من مريديه ومعجبيه، وذلك استنكاراً لما جرى من تجاوزات بحق الطائفة العلوية في الساحل السوري، والمعروف لدى السوريين أن أدونيس ومن في فلكه قد باركوا للنظام الأسدي قتله للسوريين بكل صراحة ووضوح، ولم يكن لبراميل النظام ولا سلاحه الكيمياوي الذي حصد أرواح عشرات الآلاف من السوريين أي مدخل إلى ضمائرهم التي لا يوقظها من سباتها سوى السعار الطائفي.
وحيال هاتين الفئتين المتباينتين تمضي السلطة الحاكمة في تعاطيها الذي حدّدت مساره منذ اليوم الأول للتحرير، فهي ترفض أي تفاعل إيجابي مع الفئة الأولى بذريعة أنها لا تؤثر التعامل مع الأحزاب أو أي أطر سياسية أخرى، وكان العمل الحزبي رجس من عمل الشيطان. وحتى على مستوى الأفراد فهي ما تزال تؤْثر الاستمرار في الاعتماد على موالي النظام البائد ومؤيديه وخاصة في قطّاع السفارات والمفاصل الحسّاسة من مؤسسات الدولة، على العديد من الشخصيات المنتمية إلى جمهور الثورة من أصحاب الكفاءات والخبرات، علماً أن معظم الراغبين في العمل بالشأن العام يُجمعون على أحقية القيادة الجديدة في إدارة البلاد، ولا أحد يسعى للمنافسة على حيازة القيادة، فما الذي يجعل السلطة أكثر ارتياباً من نظرائها في الثورة؟
لا شك أن عملية (ردع العدوان) جسّدت نقطة تحوّل نوعي في مسيرة هيئة تحرير الشام، ولكي يكون هذا التحوّل شاملاً لسوريا جميعها فهو يحتاج إلى جهود كل السوريين.
تلفزيون سوريا
—————————-
حكومة دمشق ومعضلات الحفاظ على الشرعية/ مصطفى إبراهيم المصطفى
2025.03.18
تعد السلطة ضرورة لأي مجتمع إنساني، إذ يفرض العيش المشترك حدا أدنى من الوفاق بين مكونات المجتمع يؤدي إلى ازدهار تتحقق من خلاله المصلحة المشتركة لتلك المكونات. ويتجسد الوفاق بشكل من أشكال التنظيم السياسي الذي لا يمكن للمجتمع أن يستمر من دونه، فالإنسان ليس حيوانا اجتماعيا ومفكرا فحسب، إنما لديه على حد تعبير (كانْت) “مزاج لا اجتماعي يدفعه إلى الرغبة في توجيه كل شيء هواه”. من هنا تبرز ضرورة وجود السلطة الكفيلة بضبط سلوك الفرد. والسلطة أينما ذكرت، لا بد أن يتبادر للذهن ذكر الشرعية، بل تعتبر الشرعية الصفة الملازمة للسلطة كي تكون سلطة.
تآكل الشرعية الثورية
إن الدولة في نهاية الأمر هي كيان سياسي يمارس السلطة عن طريق استخدام القوة المُشرعة، ورَغم أن السلطة تعني في طبيعتها وجود علاقة بين آمر ومأمور، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تفرض إرادة طرف على طرف آخر وأن ينصاع هذا الطرف الآخر للأوامر وحسب، عند ذلك تكون العلاقة علاقة يسودها الإجبار والإكراه. وتستمد الشرعية أولا وأخيرا من رضا الجماهير، فالشرعية الثورية سريعة العطب والزوال تبدأ بالتآكل والاضمحلال من اللحظة الأولى التي ينتقل فيها ضغط البندقية من الجبهة إلى الشارع، سواء نتيجة الاقتتال البيني، أو نتيجة الانتهاكات بحق المواطنين، وتزداد تآكلا عندما تلاحظ الجماهير ابتعاد الممارسة الفعلية عن الشعارات التي طرحت مع انطلاقة الثورة. من هنا تبدو الحكومة الجديدة في دمشق أمام أكثر من معضلة في مواجهة تحدي الحفاظ على الشرعية.
معضلة الإنسان المقهور
إن السياق الطبيعي لثورات الشعوب التي خضعت طويلا لحكم نظام مستبد – غالبا -هو أن تعيد إنتاج الاستبداد. وفي هذا السياق يبدو أن للعوامل النفسية دوراً بارزاً في هذا الموضوع، وهو ما سماه مصطفى حجازي في كتابه “التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور”: التماهي بالمتسلط، بمعنى أن الإنسان المقهور عندما يمتلك القوة يلجأ إلى التشبه بالمتسلط وتمثل عدوانيته وطغيانه، والتماهي بالمتسلط هو من أقوى عوامل مقاومة التغيير وعرقلة التحرر الاجتماعي. يقول مصطفى حجازي: “هذه الدينامية تقوم على الإعجاب الصريح أو الضمني بالمتسلط، سواء في تبني
بطشه وتهديده، أو في تمثل أسلوبه الحياتي وقيمه. هناك رغبة دفينة في احتلال مقام كمقامه، إن لم تكن الرغبة في الحلول محله بشكل جذري، باعتبار مقامه يشكل الحالة الحياتية المثلى”. من هنا يمكن تفسير التشابه في السلوك لدى بعض الثوار مع السلوك المتبع من قبل عموم أتباع النظام البائد، وهو ما تسبب بالحرج للحكومة الجديدة في أكثر من موقعة.
معضلة الباحثين عن الزعامة
تعرف المراحل الانتقالية بأنها -غالبا- مضطربة وشديدة الحساسية وغير مستقرة. وهذه البيئة التي هي أقرب إلى الفوضى، وهي بحد ذاتها تعتبر بيئة مفضلة لبعض الشخصيات. هناك مقولة لـ “دوستويفسكي” تضيء على جانب مهم من هذه المشكلة: “فمن يحترفون إثارة الفوضى في المجتمع هم بالتأكيد الذين لا يملكون حلاً لمشكلاته ولكن يبحثون عن الزعامة وسط الفوضى”. فالمزاج المنخفض الذي يهيمن على الأغلبية الساحقة من السكان نتيجة اضطرب المرحلة الانتقالية، يقابله مزاج مرتفع وشعور بالرضى، بل والنشوة لدى أقلية متنفذة ممن احترفوا إثارة الفوضى ووصلوا إلى مبتغاهم (زعامتهم) من خلالها. فهؤلاء هم أعداء الدولة أو ما يشبه الدولة، وهم لن يسمحوا بإقامة سلطة تُشعر الناس أنهم في حالة طبيعية مهما كلف الثمن؛ لأن قيام السلطة، بكل بساطة، يعني زوال مجدهم القائم على الفوضى التي يراد لها أن تدوم إلى ما لا نهاية إن أمكن.
المعضلة الأيديولوجية
يحسب للسيد أحمد الشرع رئيس “هيئة تحرير الشام” سابقا، ورئيس الجمهورية العربية السورية في الوقت الحالي أنه استطاع الانتقال بهيئة تحرير الشام من تنظيم جهادي لطالما وصف بالدوغمائية إلى جماعة ذات توجه وطني، وهذا إنجاز تاريخي لم يسبقه إليه أحد حسب المعلومات المتوفرة لدينا، لكن هذه النقلة لهيئة تحرير الشام من جماعة أيديولوجية إلى جماعة وطنية رغم فرادته مازال يشكل مازقا للحكومة الجديدة في دمشق؛ فمن جهة أولى لا يمكننا تصور الانزياح أنه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فهو انزياح إلى الوسط أو ما دون الوسط، وهذا ما يكبل القيادة بقيود لا تتيح لها التجاوب مع كل المطالب التي تنادي بها التيارات اليسارية والعلمانية. ومن جهة ثانية؛ يبدو أن لبعض فئات الشعب السوري ومكوناته المختلفة هواجس متنامية من أن يكون السلوك المرن المتبع من قبل الإدارة الجديدة ليس سوى أحد أشكال الخديعة التي يتبعها القادة عادة إلى أن يستتب لهم الأمر.
وتتجلى معضلة غياب الثقة لدى بعض الأقليات من السوريين، وينتج عنها معضلة أشد تعقيدا يحتاج الخوض فيها إلى بحث مطول. ولكن بالعموم تحتاج الحكومة بالدرجة
الأولى لترميم هياكلها ومؤسساتها، فهي تعمل – حتى الآن – من دون أهم مؤسستين في تعضيد ثباتها وصلابتها، وهما: المؤسسة الإعلامية، والمؤسسة الأمنية، والقصد هنا جهاز الاستخبارات الذي هو موجود بالفعل، لكنه بحاجة للتقوية والدعم أكثر. علاوة على ذلك تحتاج الحكومة إلى زجر من لديهم بقايا أيديولوجية من زمن ما قبل الوطنية، وردع المتماهين بالمتسلط، فالخوف من عقاب القانون هو الذي يصلح النفوس، ولعل في هذا مدخلا لمد جسور الثقة بين مختلف مكونات الشعب السوري.
تلفزيون سوريا
————————-
معاً في “سورية الجديدة”/ معن البياري
18 مارس 2025
ليس لأن سورية دولةٌ مركزيةٌ في المشرق العربي، ولا لأن نهوضَها شرطٌ لنهوض الأمة، وأن انتكاستَها تأخُذ العرب، كل العرب، إلى الخلف… ليس لهذه الأسباب، وأخرى غيرِها، نتحمّسُ لسورية الطالعة من اختناقها الذي أثقلَ عليها طويلاً، وتجوسُ عيونُنا في كل تفاصيلها التي تتوالى، منذ انتهى نظام الأسد فجر الثامن من ديسمبر. وإنما لأن قناعتنا أننا، ونحن واقفون في ضفّتنا، شركاء في المسير والمصير، لا يجوز أن نترك هذا البلد من دون أن نُراقب كلّ ما فيه، أو نتركَه في مهبّ الأسئلة. ولهذا سنبقى نخافُ على سورية التي تضجّ بأشواق ناسِها إلى أن يسيّجوا حرّيتهم التي أحرزوها. نقلقُ على شعبها المدمّى، الذي نهشَت في لحمه سكاكينُ بلا عدد، منذ اختار آل الأسد إخضاعَه نهجَ تحكّمٍ وتسلّطٍ، وهي التي زادتْها أقدار الجغرافيا أسئلة الوجود والحدود. ولأننا مسلّحون بحبّ سورية وأهلها، في كل قراهم وبلداتهم ومدنهم وأريافهم وبواديهم، لن نتعَب من هذا القلق وذلك الخوف، ولن نُجيز لليأس أن يطوف حواليْنا، أو يعبُرَ فينا، فقد كانت أولى لطائف ذلك الفجر الرائق، لمّا أفقنا على فرار بشّار الأسد، أننا شُفينا من أيّ يأس، وصار في المقدور أن ننتظر سورية المشتهاة، الذاهبةَ إلى أفقٍ تستحقّه، وضوءٍ في مرمى العيون، وسلامٍ في المبتدأ والخبر.
لأن سورية هكذا في حواشينا، وفي عقولنا وقلوبنا، نحنُ الذين رابطْنا على موقفٍ أخلاقي، في الأول والمنتهى، لمّا اشتعلت الثورة، ثم بقينا عليه لمّا تشوّشت خرائطُها، ولم نُغادره عندما بدا لغيرنا أن اللّطف مع الأسد من لزوم ما يلزم مع قدرٍ لا رادّ له. لأن سورية، بعد انتصار الثورة، تنعطفُ إلى ثورةٍ أخرى، تشقّ مجراها إلى بناء فضاءٍ سياسيٍّ حر، تتحقّق فيه للسوري مواطنتُه التي يمتلك فيها وطنَه، ويكون له صوتُه الحرّ، ويرفل بالأمان، مطمئناً إلى دولةٍ عادلةٍ، تحميه، وتصون كرامته. لأن سورية تمشي إلى مداواة جروحها الصعبة، وأعداءٌ فيها وحواليْها لا يريدون إلا أن يظلّوا أعداء. فإننا، لا شكَّ، سننتصر لسورية الناهضة هذه، والتي ترسم لنفسها خطوط سيْرها وقدّامها أضواءُ حمراء وخضراء، لنعينها، ونسعفَ أهلها بكل بلسم. ولسنا نملك غير قول ما نراه مُعيناً ومُسعفاً، من دون أن ندّعي كل الصواب. لسنا نملكُ، نحن أهل الإعلام، غير أن نبقّ كل بحصة، وأن نُصارح ولا نُماري، وأن لا نماشي أي عوار أو حول، وأن نكون حيث يكون الإنسان يلزم أن يظلّ كريماً، حرّاً، في منجاة من الحاجة، ينتسب إلى دولةٍ له ومنه، يتمثّل فيها ويصعد في سلالمها إلى مواقع الإنجاز، بكفاءته وأهليّته، لا بجهته ولا بطائفته ولا بمنبته، وله حقّ اختيار من يسوس أمرَها، في كل شأن.
هذه مهمّتنا، في الصحافة التي نجدنا فيها، وتلك سورية التي نرى ونحبّ أن نرى. ولهذا وذاك، يأتي إصدار الملحق الأسبوعي “سورية الجديدة” موصولاً بخيارِنا الذي كنّا عليه وسنبقى فيه، أن منعة الأمّة من منعة سورية، دولةً عادلةً قوية، لا تُخدَش فيها مواطنة أيّ فردٍ من أبنائها وبناتها. سنُحاول في “العربي الجديد” أن يلبي هذا الملحق حاجةً سورية، نظنّها ملحّة، لإشاعة ثقافة السؤال واحتكاك الرأي بالرأي، بالاتزان والتوازن اللازميْن، وهو يواكب مستجدّات المشهد السوري، بكل حافاته وأطرافه وأبعاده، والمركّب، وهو ينفتح أيضاً، ما أمكن، على كل الحساسيات السياسية والثقافية والاجتماعية في شعب سورية الموزّع في الداخل والمغتربات، والواحد من قبل ومن بعد.
سنجتهد، ونحن نعمل، ونحن نتواصل مع أهل الرأي والرؤية والخبرة والمعرفة والدراية والتجربة، من نخبٍ سوريةٍ، متنوعة الأجيال والأمزجة والميول. مدفوعين دائماً بحرصٍ على أن تكون مساهمتُنا هذه، المهنية والثقافية والفكرية، هنا في صفحات الملحق، في الممشى نفسِه الذي سِرنا عليه، منذ أولى صيحات سوريات وسوريين في انتفاضتهم الجبّارة.
لن ندّعي الكمال والاكتمال، ولن نطلبَ الثناء والتثمين، وإنما نرجو من أصحاب الرأي إسنادَنا بما يروْنه ينفع رؤيتنا المشتركة، لنلتقي معاً ونعمل معاً… الرفعة والسلامة لكل سوريٍّ وسورية، في دولة القانون والحرية والمؤسّسات، في دولة يسير أبناؤها موحّدين إليها، إن شاء الله.
العربي الجديد
————————
هكذا عبرت الدراما السورية مرحلتها الانتقالية/ موفق عماد الدين شخاشيرو
18 مارس 2025
كان سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لحظة مربكة أمام صنّاع الدراما السوريين، الذين توقفت كاميراتهم عن تصوير مشاهد أعمال الموسم الرمضاني الحالي، لكن سرعان مازال هذا الارتباك، وأثبتت الدراما السورية أن صنّاعها برعوا بالتعايش مع كل ظرف، والتحايل على كل عقبةٍ مرّت على اختلاف أنواعها.
فشلت كل محاولات القدر لتعطيل عجلة الدراما السورية منذ بواكيرها في المرحلة التي تزامنت مع سيطرة حافظ الأسد على الحكم، مروراً بتألقها بداية الألفية، تزامناً مع وصول الأسد الابن إلى سدة الرئاسة، وحتى انتكاستها مع وصول موجة الربيع العربي إلى البلاد عام 2011 للقضاء على حكم الأسدين.
الأمر مرتبط بتزامن هذه العلامات الفارقة في التاريخ السوري المعاصر مع تطوّر تقنيات الإنتاج، ومنجز المعهد العالي للفنون المسرحية بتخريج الممثلين السوريين الخبراء الذين قامت الصناعة على أكتافهم أو “على أكتاف وجوههم”، وفتح قنوات التسويق الخليجية، وحاجة المشاهد العربي للجديد. فيما كنا آنذاك “الجينز” السوري في سوقٍ تُغرقه الأقمشة المصرية، الراديو التايواني في متجر الراديوهات اليابانية، الكومبيوتر الصيني في مجمّع الكومبيوترات الأميركية.
أحدثت الدراما السورية خرقاً في السوق، وأخذت مساحةً في الفضاء العربي، وبرع صنّاعها بالتعايش مع كل ظرف، والتحايل على كل عقبةٍ مرّت على اختلاف أنواعها، من تقليم مقصّات الرقابة في سنوات الهدوء، إلى التصوير في المناطق الساخنة خلال سنوات الصراع، مع تطويع المنتَج السوري ليبقى قابلاً للبيع في سنواتٍ طويلةٍ حوصر فيها باعتباره منتَجاً يخرُج معظمه من أراضٍ تخضع لسيطرة النظام في ذروة عزله سياسياً عن محيطه العربي والخليجي بشكل خاص.
شهدت بداية ديسمبر/ كانون الأول الماضي فوضى في كواليس إنتاج المسلسلات. لم تهدأ هواتف المنتجين وهم يتردّدون باتخاذ قرار التوقف أو الإكمال. قرار يتلاعب بإعدادات سوقٍ بلغ حجمه حوالى 15 مليون دولار لهذا الموسم، ويغامر بسلامة فرق العمل وأمنها على الأرض خلال زحف الفاتحين إلى العاصمة، حين لم يكن أحدٌ يعلم متى ستكون المعركة الكبرى، وأين ستتوقف.
ومع غروب شمس الخامس من ديسمبر/ كانون الأول، اتخذت معظم الشركات قراراً بإيقاف التصوير مؤقتاً، ريثما تتضح الرؤية، خصوصاً في المسلسلات التي كان يجري تصويرها في الأرياف البعيدة، وبدأ نجوم سوريون يتقاطرون لمغادرة البلاد خوفاً من الفوضى المرتقبة. وبهذا، تزاحمت حجوزات الطيران، خصوصاً إلى دبي التي يحوز معظم الفنانين السوريين إقاماتٍ ذهبية فيها، كانوا قد خبّأوها ليومٍ كهذا. وبسبب ازدحام المغادرين، آثر من تبقّوا بلا حجوزات طيران أن يغادروا إلى لبنان، وأن يحجزوا من هناك مقعداً على أقرب رحلة متجهة من بيروت إلى دبي، وكانت للمصادفة الرحلة المتجهة على خطوط الشرق الأوسط ظهيرة يوم الثلاثاء العاشر من ديسمبر، بُعَيد سقوط النظام وفي ذروة الفوضى في دمشق، رحلة النجوم التي ضمّت أهم الوجوه السورية التي غادرت البلاد مع عائلاتها، ومنهم صباح الجزائري وبناتها.
كان هؤلاء ممن اتّخذت إدارات إنتاجهم قراراً باكراً بإيقاف التصوير، فيما استمرّت مسلسلاتٌ بالتصوير حتى مساء السبت، 7 ديسمبر، ليلة سقوط النظام. وصباح اليوم التالي، كان المنتجون أمام واقع جديد، لا يعلم أحدٌ منهم كيف يمكن التعامل معه لإتمام العمل المرتبط بعقودٍ مبرمة سابقاً مع القنوات العارضة.
لم تكن الثقافة والفن ضمن أولويات حكومة الإنقاذ التي تسلمت السلطة للتو، حتى إنها لم تسمّ وزيراً للثقافة، وسمّت وزيراً للإعلام كانت أولوياته تتعلق بإقصاء بقايا “إعلام النظام”، وتنسيق عمل الإعلام الخارجي في البلاد، فكان على صنّاع الدراما محاولة الوصول إلى أي بابٍ يحلّون عبره مشكلاتهم العالقة، وحصلوا على لقاءٍ خاص هنا، وطمأنة جانبيّة هناك، إلا أن الأيام الأولى كانت مشحونةً بتوتّرٍ لا تكفي بضعة لقاءات مع مسؤولين شبه رسميين لإطفائه. وتطوّرت اللقاءات لجلوس بعض صنّاع الدراما مخرجين ومنتجين مع مسؤولين “فوق رسميين”، والحصول منهم على الضمانات اللازمة لاستئناف عمليات التصوير مع إجراء تعديلاتٍ مناسبة. فمثلاً، نقل المخرج الليث حجو مسلسله “البطل” من ملاك شركة “بينتالينس” المملوكة لعلي محمد حمشو، إلى ملاك شركة تحمل اسم “ايفر أفتر بيكتشرز”، حتى يتسنّى له إكمال الإنتاج من دون عوائق العمل تحت مظلّة شركة يملكها رجل أعمال إشكالي في الفترة الحالية. وكان متوقعاً أن يفعل حجو ذلك، بالاستناد إلى مواقفه السابقة في الأزمات، التي كانت دائماً تضع الأولوية في “رزق عائلات الفنيين”، الذين لا ذنب لهم في ألعاب الكبار، فعمَد إلى قبول مخاطرات إنجاز العمل مالياً وأمنياً، وتحمّل كل صعوبات العمل في أقاصي ريف اللاذقية الشمالي في منطقةٍ متفلتةٍ نسبياً، شهدت انتهاكات ومجازر بحق مدنيين إثر الصراع الذي اندلع لملاحقة “فلول النظام المخلوع”، وقد شفّهم الخطر بأحداث تكلمت عنها بطلة العمل المذكور نور علي، وكشفت عن إطلاق النار تجاهها خلال فيديو نشرته على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد يكون هذا العمل الأكثر تشنّجاً في كواليسه لاعتباراتٍ تتعلق بالشركة المنتجة وجغرافيا التصوير والوقت الضيق جداً لإنجاز العمل.
وهروباً من ظروف مشابهة من التعب والتعقيد، آثرت المخرجة رشا شربتجي تأجيل عملها مع الشركة نفسها “مطبخ المدينة” إلى موسم لاحق، رغم اكتمال عمليات تحضيره، ما يعني فوات منفعةٍ على السوق لا تقلّ عن مليوني دولار، وغياب نجوم العمل، سلافة معمار، سامر إسماعيل، وعباس النوري، عن الموسم الرمضاني، بكل ما يحمله هذا من خساراتٍ مادّية ومعنوية لهم. على أن ذلك مرتبطٌ، بالدرجة الأولى، بقرار الشركة المنتجة للعمل “بينتالينس”، وليس بيد المخرجة وحدَها، لكنها استدركت هذا الوقوع سريعاً، فأغلقت المطبخ، واتّجهت إلى ريف حمص لإتمام مسلسلها “نسمات أيلول”، من إنتاج “الزعبي للإنتاج الفني”، الذي كانت قد أشرفت على بدء عمليات تصويره، ثم أولت مهمّة إتمامه إلى أخيها مدير الإضاءة والتصوير، المخرج يزن شربتجي، لأنها مشغولةٌ في التحضير لعملها الذي ألغته فيما بعد، فتشاركا بإخراج المسلسل “تلتين بتلت”، والثلث الذي كان من حصّتها أوجب وضع اسمها أولاً على بوسترات العمل.
مسلسل “حبق” الذي كافح مخرجه باسم سلكا ليرى النور في رمضان، لم يستطع النجاح بمهمته، لأنه أصيب بمصيبتين: أولاهما تلكؤ الشركة المنتجة “كابتن برودكشن” في دفع مستحقات العاملين وصرف الميزانية الإنتاجية لظرف إداري فيها أخّر إنجاز العمل، وأدّى إلى توقّفه عدة مرات قبيل سقوط النظام، وشلّ إتمام العمل بعد سقوط النظام الذي فاقم مشكلات الشركة وسهولة تحرّكاتها المالية، فعجزت عن إيفاء تكاليف العمل البالغة مليوناً ونصف مليون دولار على أقل تقدير.
أما “ليالي روكسي”، فقد عانى مخرجه محمد عبد العزيز بإنجازه كما يجب، لأن الوضع الأمني المنفلت في الأيام الأولى لسقوط النظام أدّى إلى رفض بعض الممثلين خروجهم من منازلهم لإتمام مشاهدهم في العمل، وفي مقدّمهم أيمن زيدان الذي أصرّ بعد اطمئنانه على تصوير مشاهده داخل مدينة دمشق حصراً من دون مغادرتها إلى ريفها في دير علي، حيث مدينة الإنتاج التي تستضيف ديكورات العمل. إلى جانب ذلك، كانت بطلة العمل، سلاف فواخرجي، قد غادرت سورية ليل السبت 7 ديسمبر/ كانون الأول، ولم تقبل العودة لتصوير مشاهدها القليلة المتبقية، التي لا يمكن إتمام قصة العمل من دونها، فاضطر عبد العزيز إلى الاستعاضة عنها بدوبلير (غدير عاصي)، والتعديل بالمونتاج حتى ينقذ روكسي ولياليها التي أشرف على كتابة ما جرى فيها بالتشارك مع معن سقباني، شادي كيوان، وبشرى عبّاس.
أعطت الإدارة الجديدة موافقتها على استئناف تصوير مسلسل “السبع” مع تحفّظها على إعطاء موافقة تصوير سيشارك فيها نجم العمل باسم ياخور (قبل ظهوره في لقاء تلفزيوني مع نايلة تويني) وكأنها كانت تنتظر منه موقفاً، وقد جاءهم وجاءنا الجواب عند ظهوره.
بعيداً عن ذلك كله، طبخ “شيخ الكار” مسلسله على نار هادئة، وأخّر استئناف عمليات تصويره إلى اللحظات الأخيرة، حتى بات قرار الاستئناف مقامرةً قد تؤدّي إلى خروجه من السباق الرمضاني، ولكن “الصبّاح” منتجٌ لا تلوي له الأقدار ذراعاً، مهّد الأرض تماماً وحصل على كل الضمانات والتسهيلات والحماية الكافية لفريق عمله، كي يطلق شرارة استئناف عملهم “تحت سابع أرض”. وقد بذل مخرجه سامر البرقاوي جهداً مضاعفاً بمشاركة أخيه المخرج مصطفى برقاوي للحاق بالموسم الرمضاني، وكالعادة، بإمكانات كبيرة وميزانية شبه مفتوحة يستطيع فريق الصبّاح دائماً القفز فوق الحواجز وإعطاء نتائج كبيرة واحتمالات نجاح شبه مفتوحة أيضاً.
“دبّر” كلُّ مسلسلٍ نفسه، وأجرى المنتجون لكل أمر مقتضاه، لكن المشكلة الكبيرة كانت في النصوص، فجزءٌ من أعمال السنة يتحدّث عن الفساد والصراع الذي كان في البلاد، والذي لم يعد هناك معنىً لعرضه حسب قواعد اللعبة القديمة، أو عرض رموز الدولة التي اختطفها النظام السابق من علم ونشيد وطني، وحتى مؤسّسات، كالشرطة والوزارات وغيرها من أذرع خدمية، فعلى الأرجح أن يجري الكتّاب تعديلاتهم على النصوص، خصوصاً أن معظم الأعمال الرمضانية تبدأ تصويرها قبل كتابة الحلقات العشرة الأخيرة، حيث يتركونها مساحة للعب، حسب رغبة القنوات العارضة، وردود أفعال المشاهدين خلال الموسم الرمضاني. وهذه القاعدة أنقذت أعمال السنة من الضياع، بما أن العبرة بالخواتيم، أغلب الظن أن كتّاب الأعمال التي تحاكي الواقع المعاصر، كمسلسلي “البطل” و”تحت سابع أرض”، سيعدّلون نهايات أعمالهم ويستعرضون فيها سقوط النظام بشكل أو بآخر، ليبرّروا فيها كل ما جاء ضمن العمل عن كواليس الدولة السورية التي انحلّت، والصراع الذي كان قائماً في البلاد.
يتشاءم مراقبون بتخيّل مستقبل الدراما السورية أنه ضبابي، في ظل إدارة تقول صراحةً إنها لا ترى الفن والثقافة ضمن أولوياتها، ويتنبأون برغبتها في إقصاء بعض الفنانين، مثل باسم ياخور وسلاف فواخرجي وسوزان نجم الدين، لأسباب لا تخفى على أحد، رغم تصريح فواخرجي بأنها تلقّت رسالة بالغة الإيجابية من الإدارة الجديدة. وفي المقابل، يرى متفائلون أن الدراما السورية ستمضي إلى عصرٍ ذهبي بعد فكّ القيود الرقابية وتعقيدات الموافقات الأمنية التي خنقت الصناعة عقوداً.
تقول الموضوعية إن الرأيين على صواب، هناك ما يدعو إلى التحفظ، وما يدعو إلى الإعجاب، فتقديم الإدارة الجديدة التسهيلات القانونية على الأقل من استصدار موافقات تصوير ومنح إجازات تصدير للأعمال بسرعة كبيرة حتى تستطيع شركات الإنتاج الوصول بأعمالها إلى برّ الأمان أمرٌ يستحقّ التقدير. وإذا أردنا أن نكون متفائلين، كما تستوجب الحالة الوطنية، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أمور لها دلالاتها المشرقة:
الأول، اختيار مازن الناطور نقيباً للفنانين، وهو فنان لا يُشكّ في وطنيّته وصدق نياته، بالإضافة إلى الأسماء التي اختيرت في مجلس النقابة، وكلها لفنانين غيورين على وطنيّتهم، ويدعون إلى الحالة السورية الجامعة، فيما يبقى مصير لجنة صناعة السينما الشريكة للجنة الوطنية للدراما حسب القوانين معلقاً، فلم يسمّ لها مجلس جديد، على أن مجلسها الحالي متعاون ويمكن له أن يؤدّي مهامّه على الوجه المطلوب.
الثاني والأهم، انطلاق تصوير مسلسل حمل اسم “قيصر” بعيد سقوط النظام، وهو خمس ثلاثيات تحمل كلٌّ منها حكاية، إذا نظرنا إلى كيفية تعامل الإدارة الجديدة مع العمل، السرعة التي حصلوا فيها على موافقات التصوير، تعامل الإدارة مع ردّة فعل الجمهور على اسم المسلسل واحتوائها له بإيقاف تصوير العمل مؤقتاً يومين، ريثما تبديل اسمه، والأكثر إبهاراً قرارها بتقديم التسهيلات، الذي وصل إلى تجهيزها قريباً أربعة آلاف مقاتل من “العصائب الحمراء” للمشاركة بتصوير ثلاثية تحاكي سقوط النظام، سيجري تصويرها انطلاقاً من حلب وصولاً إلى الشام، هذه الخطوة الجريئة في دعم الصناعة الفنية تحسب للإدارة الجديدة وتدفع صناعها إلى بناء آمال كبيرة على الأيام المقبلة.
الثالث، وهو العامل الحاسم في حساب مستقبل الصناعة الفنية في البلاد، توقيع الاتفاق التاريخي بين رئاسة الجمهورية وقوات سوريا الديمقراطية، وما سيتبعه من إجراءات تتّسق مع اعتبار الكرد جزءاً فاعلاً في العملية السياسية. بمعنى آخر، لدى كل المثقفين والليبراليين والخائفين على الحريات الشخصية بطاقة صفراء في السلطة سيشهرونها لإنذار من يقترب مما يرونه حقاً وخيراً وجمالاً.
ما من فنان أو مثقف متصالح مع أي سلطة، مهما كانت وأياً كانت، فالسلطة التي تسعى لتكريس القائم دائماً لا بد أن تتصارع مع الفن الذي يسعى لتغيير القائم في كل حين، وهذا الصراع الذي سيظهر، عاجلاً أو آجلاً، في مكاتب الرقابة، اعتاد صنّاع الدراما السورية خوضه وإتقان ترويض الرقيب.
هل بات مسموحاً أن يتحدّث السوريون بلا سقف؟ طبعاً، قل عن عائلة الأسد ما تشاء، وسنزوّدك بصفوة مقاتلينا ليشاركوا في إنجاح عملك. السؤال: هل سنستطيع تصوير ثلاثية عن مجازر حصلت بحقّ مدنيين في الساحل على هامش معركة مع “فلول النظام” وأحداثٍ كادت أن تفرط حبل البلاد، والحصول على التسهيلات والمرونة نفسها في الرقابة والتعامل والتيسير؟ نرجو ذلك.
العربي الجديد
——————————
أدونيس.. أن تتضامن مع مذبحة وتتناسى أُخرى/ محمود منير
18 مارس 2025
في شبه توافق، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات لسوريين، وعرب أيضاً، على مشاركة أدونيس في الوقفة التضامنية التي احتضنتها ساحة سان ميشيل وسط باريس، الأحد الماضي، مع ضحايا مذبحة الساحل السوري. توافقٌ على عدم نزع صورة الشاعر عن سياق مقولاته وتصريحاته على مدار أربع عشرة سنة سابقة، سواء من جمهور معارضيه الواسع أو المتعاطفين معه.
سياق وقعت خلاله مجازر مهولة قام بمعظمها النظام السوري البائد، وتوزّعت بقيتها أطراف أُخرى، وتمّ توثيق كثيرٍ منها بالصورة والفيديو، ولم تشغل هذه المجازر أدونيس، ولو بعبارة، إنما سجّل بموازاة ذلك جملة مواقف أصبحت من محفوظات الذاكرة السورية المعاصرة، ليس فقط رفضه شعارات الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في 18 آذار/ مارس 2011 ضد الاستبداد، وأمكنة خروجها، إنما لإصراره على أن الدكتاتورية ليست مجرّد بنية سياسية، بل هي أساساً بنية ثقافية واجتماعية، وبذلك هو يرفض ثورة تريد إسقاط الحاكم فحسب.
ربما كان لهذا الجدال بين صاحب “الثابت والمتحول” وبين خصومه أن يعقلن، أو يتم ترشيده على الأقل، في بدايات الثورة، لكنه انزلق إلى منحدر الانقسام الحادّ لأسباب مختلفة، في مقدّمتها تجاهل أدونيس نفسه لمنتقديه أو لأهمية الحوار معهم، غير مكترثٍ إلى أنه يُطلق تنظيراته التي تخلص عادة إلى أحكام قاطعة أو آراء مستفزّة، في فضاءٍ عام يتشارك فيه جميع المواطنين السوريين على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الفكرية.
مفارقةٌ أدونيسية تجسّدت في صورٍ كاريكاتيرية، وفائضة عن واقع سوري سقط في دوامة العنف والتطرف، فالشاعر المثقف يواجه الجموع وهو يصنّفها بأنها انحرفت إلى التكفير والأصولية من دون إبداء أي تضامنٍ حقيقي مع مأساتهم، مقابل جماهير غاضبةٍ لا تزال تردّ عليه بالشتائم والسباب. وفي المقابل، انسدّ النقاش المفترض تأسيسه بين أدونيس وبين النخب السورية التي أيّدت إسقاط الأسد، وانغلق على عداء مطلق تفجّر مرة أخرى مع ظهور أدونيس الأخير، دون إغفال تحوّل جديد فرضته الحالة السورية اليوم.
تحوّل يتمثّل في استنكار كثير من النخب السورية التي عارضت النظام المخلوع مجازر الساحل، محذّرين من إعادة إنتاج منظومة الطغيان التي سحقت السوريين منذ انقلاب البعث عام 1963، متشاركين مع أدونيس المشاعر والموقف. وبذلك، يكون احتجاجه في ساحة سان ميشيل حقاً مشروعاً لا ينازعه عليه أحد، إذا ما نظرنا إليه مجرداً، لكن هذا يبدو مستحيلاً كما تدل عليه التعليقات على “التايم لاين” السوري، إذ لم يُدنْ أصحابها مشاركة معارضين آخرين في الاحتجاج ذاته، ومنهم سمير عيطة.
وفي محاولة محدودة لعقلنة الخلاف مع أدونيس، كتَب بعض المثقفين عبارة يشير مضمونها إلى تضامنهم مع ألمه وطريقة تعبيره عنه، دون تفويت انتقاد صمته حيال آلام شعبه لنحو عقدٍ ونصف، ولدعوته لحظة سقوط الأسد إلى “تغيير المجتمع” وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي، حيث صرّح حينها أنه كان دوماً ضدّ هذا النظام، لكنه أقرّ بأنه غادر سورية منذ عام 1956، مضيفاً “لذلك أنا لا أعرف سورية إذا ما تحدّثنا بعمق”!
الحاجة إلى الحديث بعمق عن سورية، تستدعي التفكير مليّاً بالانقسام الذي لا يزال يتخذ أشكالاً متعدّدة بعد الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، سواء في النظرة إلى شخص الرئيس الجديد، وبنية السلطة الحالية، أو في شكل الحكم الذي يمكن أن يتفق عليه السوريون. مأزقٌ يتطلب منظوراً آخر لتجاوزه، عبر استحضار جميع الذكريات والحوادث الموجعة في متحف للذاكرة السورية يحتوي أرشيفاً متكاملاً من الصور والتسجيلات والوثائق التي تسجل مرحلة دامت لأكثر من ستّة عقود. الكلّ يتذكّر حتى لا يثأر ويعيد تكرار الجريمة.
هل يمكن إنشاء متحف الذاكرة بحضور جميع الخصوم، بمن فيهم أدونيس؟ الإجابة تشترط تنشيط الذاكرة على طول عذاباتها وليس استنساب حدثٍ بعينه، وبناء انحيازات وأهواء تقصي ما يقابلها، وأن يتوافق المستذكرون على إدانة الجريمة مهما كان مرتكبها ومحاسبة كل من تسبّب بها، ويعضّوا على الجرح الذي قد ينفتق في أية لحظة.
————————————-
الدرس السوري علم قادة إيران أهمية تقوية الجبهة الداخلية استعدادا لما يحضره ترامب/ إبراهيم درويش
تحديث 18 اذار 2025
ناقش الباحث في جامعة هارفارد محمد آية الله تبار فيما إن كانت إيران ستصمد أمام ضغوط واشنطن.
وفي مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” قال إن إيران واجهت العام الماضي سلسلة من النكسات، حيث تم إضعاف حليفيها حماس وحزب الله في الحرب مع إسرائيل، ثم انهار نظام بشار الأسد فجأة وبشكل مذهل. كما أن عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة تعيد منظور إحياء استراتيجية أقصى ضغط والتي صمدت أمامها الجمهورية الإسلامية بداية عام 2018 وحتى نهاية فترة ترامب الأولى.
وقادت هذه التراجعات الإيرانية عددا من المسؤولين الأمريكيين والمحللين للجدال بأن الجمهورية الإسلامية تواجه هزيمة استراتيجية. ففي مقال كتبه ريتشارد هاس بـ “فورين أفيرز” بكانون الثاني/يناير، قال إن “إيران ضعيفة وأكثر عرضة للخطر مما كانت عليه قبل عقود، وعلى الأرجح منذ الحرب التي استمرت عقدا مع العراق وربما منذ الثورة الإسلامية في 1979”.
وبحسب هذا الرأي، فقد قدمت إيران لمعارضيها فرصة لاستهداف منشآتها النووية أو الحصول منها على تنازلات كبرى في صفقة نووية. وعليه، فالرأي السائد اليوم وهو أن إيران باتت عرضة للضغط الأمريكي أو ضربة عسكرية إسرائيلية، لا يجد صدى في طهران. فالجمهورية الإسلامية تتعامل مع هذه التحديات باعتبارها مؤقتة ونكسات وليست إشارات عن هزيمة.
ومن وجهة نظر إيران، فرغم ما تعرضت له حماس وحزب الله من ضربات، فقد خرجتا رابحتين، نظرا لصمودهما أمام قوة تقليدية مدعومة من الولايات المتحدة. كما واحتفظت حماس ببعض الشعبية بين الفلسطينيين، ولا يزال حزب الله يتمتع بدعم الشيعة في لبنان. وفي اليمن، عزز الحوثيون المتحالفون مع إيران دورهم كداعم ثابت للقضية الفلسطينية وكعضو رئيسي في ما يسمى بمحور المقاومة الذي تقوده طهران من خلال مهاجمة إسرائيل وتعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر.
لكن إيران تعترف بأن شبكة الشركاء التي عملت على بنائهم لم تعد قوية اليوم، مثلما كانت قبل هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ولهذا بدأت باتخاذ خطوات لتقوية الدعم الداخلي من خلال تقديم تنازلات داخلية محدودة لشعب سئم من الحكم الاستبدادي الديني.
فقد خفف النظام من تطبيق قواعد اللباس الإلزامي للنساء وخفف القيود على منصات التواصل الاجتماعي، مما أتاح نقاشاتٍ انتقادية متزايدة لسياسات الحكومة. وتأمل الجمهورية الإسلامية من خلال هذا أن تقلل خطر الاضطرابات الداخلية وأن تعزز ثقة الجمهور بها.
ولكن، علينا ألا ننظر إلى هذه التحولات الداخلية كمقدمة لانفتاح كبير على الغرب. وفي الحقيقة، يهدف الإصلاح الاجتماعي المدروس، والذي يمكن أن يتراجع عنه النظام إلى تعزيز الدعم الداخلي لمواجهة الضغوط الخارجية.
وقد أشار ترامب إلى انفتاحه على التفاوض مع طهران، ولكنه أبدى أيضا استعداده لمهاجمة الجمهورية الإسلامية. ومع تأييد الشعب لطهران، أو تخفيف معارضته لها، تأمل الحكومة أن تتمكن من الصمود في وجه ما يحضره لها الرئيس الأمريكي.
وربما احتفلت إسرائيل بانتصارها العسكري على حماس وحزب الله. فرغم الخسائر الفادحة التي تكبدتها الحركتان، تتوقع طهران أن تعيد حماس وحزب الله بناء نفسيهما، بدعم شعبي وبسبب كراهية إسرائيل. بل إنها تتوقع أن يعزز مقتل زعيم حماس يحيى السنوار وزعيم حزب الله حسن نصر الله في ساحة المعركة الالتزامات الأيديولوجية للتنظيمين، وأن يتردد صداه وسط جمهور متعاطف لسنوات قادمة.
وفي المقابل، فمن الصعب على إيران التخلص من صدمة سقوط الأسد، ورغم أن عدم شعبية الأخير كانت معروفة للجميع، إلا أن انهيار الجيش السوري السريع، فاجأ الراعية إيران.
ووفقا لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، فإن أجهزة الاستخبارات في الجمهورية الإسلامية كانت “على وعي تام” بالتهديد الأمني الوشيك ضد الأسد. ومع ذلك، فوجئت طهران بعجز الجيش السوري التام عن مواجهة قوات المعارضة المسلحة. ويعزو المسؤولون الإيرانيون تفكك جيش الأسد جزئيا إلى “الحرب النفسية” التي شنتها قوى خارجية، بما في ذلك إسرائيل وتركيا والولايات المتحدة. لكن عراقجي ألقى أيضا ببعض اللوم على تجاهل الأسد للرأي العام.
وزعم عراقجي أن إيران نصحت الأسد “باستمرار” أن يقوم برفع الروح المعنوية للجيش و”التفاعل بشكل أكبر مع الشعب، لأن ما يضمن في النهاية الحكومة هو الشعب”، لكن الأسد، كما أشار عراقجي، فشل في هذا.
وكان انهيار الأسد المفاجئ مدعاة للقلق العام داخل إيران، حيث أدت سياسات الحكومة القمعية والفساد إلى خلق فجوة مع الشعب، تماما كما فعل الحكم العلماني للشاه. وفي كانون الثاني/يناير، أقرّ عباس صالحي، وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني، علنا بأن طهران تواجه عجزا حادا في “رأس المال الاجتماعي”، وذلك بسبب تراجع ثقة الجمهور بالحكومة. وحذر الرئيس السابق محمد خاتمي من أن الجمهورية الإسلامية تخاطر بـ”التخريب الذاتي” بتجاهلها الحنق الشعبي.
وبشكل متزايد، تتفق النخب السياسية وبكل أطيافها على الحاجة الملحة لإظهار النظام مرونة داخلية. وعليه، خففت الحكومة الإيرانية بعض القيود. ففي كانون الأول/ديسمبر 2024، أوقف المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني فعلًا تطبيق قانون الحجاب الجديد المثير للجدل، والذي كان من شأنه فرض عقوبات مالية وأحكام بالسجن وعقوبات أخرى، مثل حظر السفر، على النساء اللاتي ظهرن في الأماكن العامة دون حجاب أو ارتدين ملابس “غير لائقة”.
ورغم دعوات بعض المحافظين المتشددين لتطبيق صارم لقواعد اللباس في البلاد وحملات القمع الحكومية الموجهة أحيانا لتهدئة قاعدتها الدينية، أصبح بإمكان النساء الآن الظهور دون حجاب في الأماكن العامة مع خوف أقل من الانتقام القاسي. وظهر المتشددون منقسمين على أنفسهم في معارضة الإجراءات، ففي 15 آذار/مارس، أقر النائب المحافظ محمود نبويان بأن المخاوف من “سورنة” إيران هي الدافع وراء تعليق القانون، واتفق على وجوب “تجاهله إذا كان يقوض النظام”.
ويعكس هذا التطور اعترافا ضمنيا من الدولة بعدم شعبية فرض الحجاب وعدم فعاليته، على الأقل في الوقت الحالي. ويأتي أيضا بعد ثلاث سنوات من وفاة مهسا أميني، البالغة من العمر 22 عاما، أثناء احتجازها لدى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عقب اعتقالها لعدم ارتدائها الحجاب بشكل صحيح. وقد أثارت وفاة أميني احتجاجات شعبية حاشدة في الشوارع عام 2022، تصدت لها إيران بعنف مفرط.
وفي نهاية المطاف، جمدت الجمهورية الإسلامية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مؤقتا ومنعت ظهورها في الشوارع لتخفيف حدة التوترات.
والآن، يبدو أن طهران مستعدة بشكل متزايد لقبول تطبيق قوانين الحجاب بشكل متساهل، شريطة ألا يتحول إلى حركة سياسية أوسع نطاقا تتحدى النظام نفسه.
وإضافة إلى هذا التجميد سعى النظام إلى كسب ود الشعب من خلال السماح بنقاشات مفتوحة وصريحة نسبيا على وسائل الإعلام المحلية. وباتت منصات التواصل في إيران الآن تستضيف مجموعة متنوعة من المعلقين، بمن فيهم أصوات مستقلة ومعارضة، داخل البلاد وخارجها. تواصل الحكومة الترويج بهدوء لمنصات مرتبطة بالدولة، وهناك الكثير من المدافعين المستقلين عن النظام. لكن النقاشات عبر الإنترنت حول قانون الحجاب وسقوط الأسد والقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأوسع، تتسم بصراحة ودقة مفاجئتين. فقد وصف بعض المعلقين القيادة الإيرانية صراحة بأنها كارثة على البلاد. وللوهلة الأولى، ربما بدا غريبا أن تسمح إيران لأصوات كهذه التعبير عن مواقفها من أجل الحفاظ على الاستقرار.
لكن طهران تأمل أن يقدم فتح المجال الداخلي صمام أمان للإحباط العام، ويقلل من جاذبية وسائل الإعلام الدولية والفضائية مثل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) التي تعتبر من أكثر الأصوات انتقادا لإيران.
وقد لجأ النظام إلى هذه الاستراتيجية في أوقات حرجة سابقة. ففي ذروة احتجاجات عام 2022، شجع النظام شخصيات كانت محظورة سابقا على الظهور على التلفزيون، على أمل أن تمتص انتقاداتهم السخط العام وتحوله بعيدا عن الشارع. وفي هذه المرة، تعتقد طهران أن التدفق الحر نسبيا للمعلومات، إذا أُدير بعناية يمكن أن يعزز سردية النظام بشأن الأمن القومي على المدى الطويل. ويأمل قادة إيران هذه المرة أن تعمل الإصلاحات المحلية التدريجية على خلق مناخ ملائم لنقاش وطني حول قضايا السياسة الخارجية الرئيسية، مثل الأزمة النووية، وهو نقاش تعتقد إيران أنه سيفضي إلى وحدة وطنية.
وتعتقد النخب، على الأقل، أن مثل هذا النقاش سيعزز موقف الحكومة التفاوضي في سعيها للتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحد يعالج مخاوف واشنطن بشأن تسليح البرنامج النووي الإيراني، ولكنه لا ينهي تخصيب اليورانيوم، أو يقيد إنتاج الأسلحة التقليدية أو يضعف محور المقاومة. فالاحتجاجات الداخلية، في نهاية المطاف، لا تقدم إلا فرصا للخصوم، مثل الولايات المتحدة، التي ترى في التصدعات في المجتمع الإيراني علامات ضعف. كما ويعتقد قادة إيران أن بناء الصلة الوثيقة مع الشعب مهمة وبخاصة لمواجهة واشنطن. ففي أثناء إدارة بايدن، اعتقدت واشنطن أنها قادرة على تأمين صفقة جديدة بناء على الضرر الاقتصادي الذي سببته استراتيجية ترامب “أقصى ضغط”، لكن إيران استطاعت وبقدر من التماسك الداخلي مواجهة التهديد الخارجي من الولايات المتحدة، وتبنت موقفا تفاوضيا أكثر صرامة من ذي قبل.
وفي ضوء اعتقاد إدارة ترامب الآن بأن إيران باتت أضعف بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر وأنه قادر على تأمين صفقة مع طهران تكون أكثر ملاءمة للولايات المتحدة. وإذا لم يستطع، فقد طرح ترامب خيار استخدام القوة. ويزعم ترامب أنه قال للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في آذار/ مارس: “هناك طريقتان للتعامل مع إيران: عسكريا، أو إبرام صفقة”. كما قال ترامب إن إدارته “في اللحظات الأخيرة مع إيران”.
وبالنسبة لإيران، فإن وجود جمهور داعم أمر ضروري لتجاوز هذه العاصفة. وربما كانت تهديدات ترامب كافية لبناء الانسجام الداخلي والمقاومة. إلا أن مثال الأسد علم قادة إيران عدم ترك أي شيء للصدفة. وبالمحصلة، طهران عازمة على منع الانقسامات الداخلية من إضعاف قدرة البلاد على تحمّل الضغوط.
وتشكل الانفتاحات الاجتماعية والسياسية المحدودة استراتيجية محسوبة لتهدئة الإحباط العام قبل أن يتفاقم إلى اضطرابات جماهيرية. وإذا كان الماضي دليلا، فإن هذا النهج قد يسمح للجمهورية الإسلامية بتصوير أي صراع مع الولايات المتحدة ليس كصراعٍ من أجل بقاء النظام، بل كمقاومة من قبل دولة ذات سيادة ضد الإكراه الخارجي. لكن هذا لا ينذر بتغير في الاستراتيجية الجوهرية للنظام. وبعبارة أخرى، فإن طهران ليست على استعداد للتخلي عن عقود من التحدي.
القدس العربي
—————————–
نحن الآن في أخطر مفترق طرق/ عريب الرنتاوي
18/3/2025
اختلف كثيرون حول وصف سوريا بـ”قلب العروبة النابض”، وهو الوصف الذي كاد يرقى إلى مرتبة “المُسلّمات” في المنقلب الثاني من القرن الفائت. بيد أنك لن تجد اثنين يتجادلان حول مكانة سوريا بوصفها “قلب المشرق الكبير”، وأقصد به دول ما كان “هلالًا خصيبًا” ذات يوم، وجوارها التركي والإيراني، وبالمعنى الجغرافي، المنطقة الممتدة من ضفاف قزوين وحتى شرق المتوسط، مرورًا بالهضبة التركية.
خرائط هذا المشرق، رسمتها نتائج حربين كونيتين، ووثّقت بين خطوطها، حدود التقسيم والتقاسم، من سايكس- بيكو وبلفور، إلى سان ريمو ولوزان، وزرعت في ثناياها قنابل “هوياتية”، قابلة للاشتعال والانفجار.
وقد انفجر بعضها على نحو شبه “منضبط” و”موقعي” طيلة القرن الفائت، وستنفجر على نطاق واسع، عصيّ على الاحتواء على ما يبدو، منذ مفتتح القرن الحادي والعشرين، فيما بات يعرف بزمن “الهويات القاتلة”.
سيأخذ الهلال الخصيب، اسمًا حركيًا جديدًا منذ العام 2005: “الهلال الشيعي”، وستنشأ مع اندلاع موجات الربيع العربي، “أقواس سنيّة” متحركة، وسيدخل مصطلح “العثمانية الجديدة” مجال التداول لأول مرة منذ سقوط الخلافة.
سيندفع للخلف مفهوم “القومية العربية”، وستحل محلّه على استحياء مفاهيم مفصّلة على مقاسات اللحظة التاريخية، لعل أهمها، بل أخطرها، مفهوم “العروبة الجديدة” التي يراد تعزيز رابطتها القومية، فقط في مواجهة إيران وحلفائها، مع ترك الباب مفتوحًا لتحالف محتمل مع “الدولة اليهودية”، وفقًا لمندرجات “ناتو شرق أوسطي جديد” حينًا، وبمبررات “أبراهامية” حينًا آخر.
في معمعة الأفكار والمشاريع والمصالح المتضاربة، حد التناحر أحيانًا، تحتل سوريا مكانة محورية، مستمدة أساسًا من “توسطها الجغرافي” لـ “المشرق الكبير”، والأهم من “فسيفسائها الديمغرافية” التي تكاد تختصر الفسيفساء السكانية لأكثر من نصف دزينة من الدول والبلدان التي يتشكل منها الإقليم. حتى بات يصح القول إن من يسيطر على سوريا، يكاد يفرض سيطرته على المنطقة برمتها.
سوريا في ظلال “الدولة المركزية” نجحت إلى حد كبير، ولسنوات وعقود، في قطع التواصل الأفقي بين الكيانات والمكونات المذهبية، التي تتشكل منها مجتمعات الإقليم، مع أنها انخرطت كدولة في نزاعات وصراعات “عمودية” مع جوارها العربي: (لبنان والعراق والأردن)، والإقليمي: تركيا وإيران في مرحلة سابقة، قبل أن تصبح الأخيرة، سيدة اللعبة في سوريا طيلة أزيد من عشرية من السنين، تتويجًا لعلاقات تعاون وتحالف، امتدت منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979، وحتى الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.
سوريا “الدولة الضعيفة” أو “المُضعَفَة”، التي لا تسيطر منذ سنوات طوال، على أزيد من 40 بالمئة من أراضيها وأكثر من نصف ساكنتها ومواطنيها، أفسحت المجال أمام “علاقات أفقية” بين مكوناتها وكياناتها وما يناظرها في دول الجوار.
بات “الدرزي الفلسطيني أو اللبناني” أقرب لـ”الدرزي السوري” من جاره “السنّي” في درعا، وبات شيعة لبنان والعراق أقرب لشيعة سوريا من جيرانهم السنّة في أماكن انتشارهم وتوزعهم.
وباتت الهوية المذهبية والطائفية هي المُحدد لشكل الهجرات المتعاقبة، والمُقرر للهوية المذهبية لموجات اللاجئين والنازحين قسرًا عن ديارهم، قبل سقوط النظام انتمت غالبية اللاجئين للمكون السنّي الأكثري، وبعد سقوطه، تتالت عمليات لجوء الأقليات العلوية والشيعية إلى “حواضنها الاجتماعية” في لبنان، وصولًا للعراق.
والأمر ذاته تكرر عندما توجه عشرات ألوف الشيعة من لبنان إلى العراق هربًا من الجبروت والترويع الإسرائيليين لحاضنة حزب الله.
وبين هذه وتلك، ثمة أمثلة أكبر أو أصغر، دالّة على اختلاف “الهويات المذهبية والطائفية” لموجات اللجوء والنزوح في هذا الإقليم، منذ مفتتح القرن الحالي، بدءًا بالعراق بعد سقوط نظام صدام حسين.
قرابة المليونين من السوريين لجؤُوا إلى لبنان إبان حكم النظام المخلوع، معظمهم من العرب السنّة. وبعد السقوط، تدفق عشرات ألوف الشيعة والعلويين إلى القرى اللبنانية ذات الأكثرية العلوية أو الشيعية، والحبل على الجرار.
قبل ذلك، كان اللاجئون العراقيون من مختلف الطوائف، يختارون وجهاتهم وفقًا للمعيار المذهبي أو الطائفي الحاكم، وبما يشبه إعادة الفرز على خطوط المذاهب والأقوام.
اختار أبناء المحافظات العراقية الغربية الأردن كوجهة، واختار أبناء الوسط والجنوب إيران، ولبنان، وسوريا تحت حكم آل الأسد، فيما كان الغرب، وجهة رئيسة لما يقرب من مليون مسيحي، نزفهم العراق منذ احتلال بغداد، واليوم يتواصل النزف المسيحي من غالبية دول المنطقة، ومن ضمنها سوريا، وبما يشي بأن هذا المشرق قد يصبح في غضون عشريات قلائل، منطقة خالية من المسيحيين، سكان هذه البلاد الأصليين.
خلاصة المشهد، أن الحراك السياسي والاجتماعي داخل المكون الواحد، لم يعد مقتصرًا على الحدود الجغرافية لهذا البلد أو ذاك من بلدان المشرق. الدروز يتحولون إلى “مسألة درزية”، لا تعترف بحدود سايكس- بيكو، وانقساماتهم يقودها قطبان غير سوريين: وليد جنبلاط (اللبناني) وموفق طريف (الفلسطيني/الإسرائيلي)، والصراع محتدم بين من يمثلون إرث سلطان الأطرش، وشكيب أرسلان، وكمال جنبلاط، ومن اختاروا “الأسرلة” والاستقواء بالاحتلال الإسرائيلي المتمادي للأراضي السورية (دع عنك فلسطين وجنوب لبنان).
و”المسألة الكردية” كانت على الدوام “عابرة للحدود”، وموزعة على أربعة أقطار من هذا “المشرق الكبير”، فيما أكراد سوريا يواجهون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، “سيناريو الأقلمة”، وتلعب زعامتان غير سوريتين كذلك، دورًا مقررًا في تحديد وجهتهم واتجاهاتهم: التركي عبد الله أوجلان، والعراقي مسعود البارزاني، وبدرجة أقل، المدرسة الطالبانية في السليمانية، ولكل منهم حساباته ومصالحه وتحالفاته ومرجعياته المختلفة، حتى لا نقول المصطرعة.
وعلى الرغم من هدأة الأوضاع على الساحل السوري، فإن أحداث الأيام والأسابيع الفائتة، تحمل في طيّاتها إرهاصات نشوء “مسألة علويّة”، لن تتوقف عند حدود الساحل والجغرافيا السورية، بل أخذت تطل برأسها فوق سماء طرابلس وقرى عكّار اللبنانية، وتثير سجالًا داخل تركيا، دفع بالرئيس رجب طيب أردوغان، إلى تحذير منافسيه في حزب الشعب الجمهوري، من مغبة اللعب على هذه الورقة، وإثارة “فتنة مذهبية” استنادًا لتعاطف علويي تركيا الكُثر، مع الأقلية العلوية السورية.
بهذا المعنى، تكتسب سوريا مكانتها بوصفها “قلب المشرق الكبير”، فإن اجتازت تحدي التقسيم، أمكن للإقليم برمته، تجاوز مفاعيل “مبدأ الدومينو”، وإن استعادت “الدولة الوطنية” مكانتها المحورية في الداخل، أمكن الحفاظ على خرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى، تلك الخرائط المرذولة التي كانت موضع هجاء من معظم تيارات الفكر والسياسة العربية، قبل أن يصبح الحفاظ عليها، “غاية لا تدرك” إلا بـ”شق الأنفس”.
ولهذا السبب رجحنا في بداية التغيير في سوريا قبل مائة يوم أو يزيد قليلًا، فرضية أن سوريا ذاهبة لخيار التقاسم، تقاسم النفوذ، بين لاعبين إقليميين ودوليين كبار، على حساب “سيناريو التقسيم” الذي لا تفضله سوى إسرائيل وبعض دوائر الغرب الاستعماري الأكثر فظاظة.
لكن التطورات تتسارع بوتيرة شديدة الخطورة، جالبةً معها، شتى الاحتمالات وأخطرها، لا سيما بوجود “جيوب إسرائيلية” مبثوثة في أوساط مختلف المكونات، يعلو صوتها ويخفت على وقع الأحداث والتطورات المتسارعة.
وبمعزل عن “المقاربات البائسة” التي تكتفي بإجراء المقارنات بين نظام قديم منهار، وآخر جديد قيد التشكل، وبعيدًا عن “المقاربات الأيديولوجية” التي تنشئ انحيازًا مطلقًا لأي منهما، فإن التفكير الواقعي والمسؤول، يقترح التطلع إلى الأمام، وإدراك حقيقة أن الحفاظ على وحدة سوريا يعادل الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية لدول الإقليم كافة.
وأن استقرار سوريا، هو مصدر الاستقرار لدول الإقليم برمتها. وأن النجاح في إعادة بناء “الدولة الوطنية” السورية، هو المتطلب الضروري لجهود الحفاظ على “الدول الوطنية” في الجوار القريب والبعيد لدمشق.
ليس المهم أن تتفق مع أو تفترق عن النظام القائم في دمشق، وحدة سوريا وسلامة ترابها الوطني، تبدوان أولوية لا تعلوهما أولوية أخرى، فمن يَعِد بالتقسيم، يَعِد بالفوضى والخراب العميمين والمُقيمين.
لسنا من أنصار النظام البائد، ولقد مُنعنا من دخول دمشق لأكثر من ربع قرن (على دفعتين) بينهما فاصل زمني قصير، كما أننا بالقطع، لا ننتمي للمدرسة السياسية والفكرية للنظام الجديد. لم نأخذ حكاية “مقاومة النظام المخلوع وممانعته” على محمل الجِد، ونحن أبناء تجربة تفتحت على فصول التدخل السوري في لبنان (1975)، وحروب المخيمات وحصاراتها، وحصار طرابلس، ومحاولات تدبير انشقاقات لا هدف منها سوى السطو على منظمة التحرير، ووضع اليد على الحركة الوطنية الفلسطينية.
لكننا نراقب بكثير من القلق، تدني مكانة “التهديد الإسرائيلي” في أجندة النظام الجديد في سوريا، ورهاناته على أن بمقدوره تفادي السيناريو الأسوأ للنهم الإسرائيلي التوسعي، إن هو أكثر من رسائل الطمأنينة التي يبعث بها، وجنح إلى مزيد من الاعتدال و”النأي بالنفس” و”الحياد الإيجابي الفعّال”.
نفهم أن رهان سوريا اليوم، لا يسمح بالتفكير بخيارات عسكرية. ولكننا لا نفهم أبدًا، ألا تزدحم الأجندة السورية بالخيارات السياسية والدبلوماسية والقانونية التي تشكل سدًّا في وجه من تسوّل له نفسه و”جيبه” وتفكيره المريض، خرق جدران المقاطعة، ومد يد العمالة للكيان الصهيوني. لا يمكن وقف عجلة التهافت ومدّ اليد للإسرائيلي من الأطراف، إن كانت يد المركز متراخية حيال هذا الموضوع.
سوريا اليوم، أمنًا واستقرارًا، سيادة ووحدة ترابية ووطنية، هي مفتاح الأمن والاستقرار لدول المنطقة وسلامة أراضيها، وبخلاف ذلك، وإن وقع المحظور، لا سمح الله، فإن شرارات الانقسام والتقسيم والتقاسم، الفوضى “غير الخلاقة” وعدم الاستقرار “المستدام”، ستتطاير في عموم هذا “المشرق الكبير”.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
مدير مركز القدس للدراسات السياسية
الجزيرة
—————————–
=======================
عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 18 أذار 2025
تحديث 18 اذار 2025
———————————————-
في ذكرى الثورة السوريّة: الاحتفال في زمن المجزرة!/ نور عويتي
18.03.2025
في أي دولة طبيعية، المجازر تعني إعلان الحداد، تعني فتح تحقيقات دولية، تعني محاسبة المسؤولين، لكن في سوريا الجديدة، المجازر مجرّد تفصيل، والأهم هو الاحتفال، وكأن كل شيء أصبح على ما يرام!
ما زال عدد قتلى الساحل السوري من العلويين غير محدّد، لا أرقام رسمية، وتخوين لمن يحاول توثيق المجازر التي ارتُكبت، إثر عملية عسكرية قامت بها قوات “النظام الجديد” في الساحل السوري، بدأت بالرد على كمين قام به مسلّحون موالون للأسد، ثم تحوّلت إلى حملة قتل استمرّت أياماً، سُفكت فيها دماء مئات المدنيين.
انتشرت صور المقتلة في “العالم”، صور وفيديوهات القتل والتنكيل بالجثث، حرّكت الرأي العام العالمي، وتعاطف الناس حول العالم مع الضحايا والأمهات، اللواتي يقفن أمام جثث أبنائهن لحمايتها من الحرق أو التنكيل. وشهدت عواصم أوروبية وقفات حداد على أرواح القتلى المدنيين. لكن، هذه الـ”لكن” التي لا بدّ منها حين الحديث عن سوريا، تظهر في محاولة التغطية على المقتلة بالاحتفال بذكرى الثورة السورية الـ14.
تتعامل الحكومة في سوريا الجديدة “الحرة” مع المجازر وكأنها مجرد تفصيل هامشي، لا يُعكّر صفو المشهد السياسي السوري بعد “الانتصار”، فالحكومة لديها أولويات أخرى أكثر إلحاحاً اليوم، على رأسها: كرنفالات الفرح الوطني لمناسبة ذكرى الثورة السورية المباركة! وكأن حلقات الدبكة هي العلاج السحري لكل شيء، بما في ذلك جرائم ترتقي إلى التطهير العرقي.
وبينما كانت تعلو نداءات أهالي الساحل السوري لضبط الأمن، وإيقاف عمليات القتل الممنهجة التي تُرافقها صيحات تُعلن نية الإبادة، تجهزّت حكومة أحمد الشرع للاحتفالات الكبرى يوم 15 آذار/ مارس في مختلف المدن السورية التي تتبع لسيطرته، واحتضنت دمشق الاحتفال الرئيسي في ساحة الأمويين.
ولأن الثورة تعني “تغييراً جذرياً” في كل شيء، فقد قرّر زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، أن يُظهر الوجه الجديد للسلطة، عبر لفتة لطيفة غير مسبوقة: إرسال مروحيات لإلقاء الورود على الجماهير المحتشدة في الساحة! فالمروحيات التي كانت تُلقي البراميل المتفجرة على المدنيين في عهد النظام البائد، باتت الآن تُمطرهم بالورود، ومنشورات احتفالية، خلت منها كلمة “ديموقراطية” التي يتفاداها الشرع و”شبابه” في أي حديث.
يتساءل البعض: أليست هذه المروحية ذاتها التي ألقت البراميل المتفجرة على قرى العلويين في الساحل السوري؟ ألم تكن هذه الطائرة التي تنثر الورود اليوم، هي نفسها التي رمت قنبلتين اثنتين فوق الساحل السوري، وثّقها من يرمي القنبلة نفسه؟ ربما علينا أن نؤمن أن الذاكرة الجمعية قصيرة، وأن الصورة الإعلامية المبتكرة قادرة على طمس الحقائق، فالمهم الآن ليس الماضي، بل الحاضر المشرق والمستقبل الذي تَعِد به الحكومة الجديدة!
تباينت الاحتفالات في المدن السورية، تبعاً لقدرة الأهالي على تشرّب مبادئ الدولة السورية الحديثة، التي ستأخذ وقتاً كافياً لخلق نموذج سياسي خاص تبتدعه بنفسها. ففي إدلب، نظّمت السلطات احتفاليةً شملت الفصل الجندري، فنشرت قبل الاحتفال رسوماً توضيحية تحدّد مواقع الرجال والنساء خلال الاحتفال؛ خطوة رائدة من شأنها أن تؤسّس لسوريا الجديدة التي نحلم بها، حيث أن أهمّ معايير التقدّم والتحرّر لا نحقّقها بالعدالة ولا الديمقراطية، بل التأكّد من أن الرجال والنساء لا يختلطون أثناء الاحتفالات، ولا ننسى أن نموذج الحكومة في إدلب نموذج ناجح، يسعى أحمد الشرع إلى تعميمه على الأراضي السورية كافة، في السنوات التالية، كما صرّح بكل فخر.
وفي حلب وحمص، كانت الاحتفالات أشبه بمهرجان موسيقي يتجاهل أن هناك جثثاً لسوريين في الساحل لم تُدفن بعد! لكن لا داعيَ للكآبة، فالحياة مستمرّة! المجازر لا تُفسد المتعة! ربما هذا ما اعتدناه خلال 14 عاماً، وبما أن الحكومة الجديدة تؤمن بالتنوّع والانفتاح، فقد قرّرت السماح للمسيحيين بالمشاركة!
تأتي هذه الاحتفالات، بعدما تم تأكيد انفتاح الحكومة الجديدة على التنوّع، عندما خرج أحمد الشرع ليزفّ للعالم بشرى سارّة: توقيع اتفاقية مع “قوّات سوريا الديمقراطية/ قسد”، وكأن سوريا قد توحّدت جغرافياً وعادت إلى عصرها الذهبي! لا يهمّ أن المجازر مستمرة، ولا أن البلاد غارقة في الفوضى، المهم أن هناك ورقة موقّعة يمكن عرضها أمام الكاميرات، ليُقال إن الدولة استعادت سيادتها.
وكي تكتمل المسرحية، ينصّ الاتفاق على “ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل السياسي على أساس الكفاءة”، ما دفع أحمد الشرع بعد تفكير معمّق، إلى اكتشاف أن الكفاءة الوحيدة بين 25 مليون سوري تكمن في شخصيته! ليُحدّد في الإعلان الدستوري مهامه، التي تجمع بين مهام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والقائد العام للقوّات المسلحة، وخوّل نفسه تعيين أعضاء مجلس الشعب في إنجاز غير مسبوق في التاريخ السياسي.
أما إطلاق النار، فالاتفاقية نصّت رسمياً على إيقافه على الأراضي السورية كافة، ولكن ذلك لن يشمل الحالات الفردية، التي تستهدف العلويين، باعتبارهم “فلول النظام البائد”، أو التي تستهدف الذين يتمرّدون على القوانين الواضحة، بإفطارهم في شهر رمضان الفضيل؛ فهؤلاء يُعتبرون تهديداً للأمن القومي، ولا ضير من اتخاذ عناصر الجيش والأمن المنفلتين الإجراءات اللازمة بحقّهم.
انتقد “الجميع” غياب الإعلام الرسمي منذ التحرير، ولكن السيد الرئيس أحمد الشرع، عمل بشكل دؤوب على سد الفراغ، وبدلاً من الاستعانة بقنوات تلفزيونية رسمية مملّة، لجأ إلى نجوم العصر الحالي، ليلتقي بنفسه نجوم “التيك توك” و”اليوتيوب”، ويُقدّم لهم التوجيهات اللازمة التي تجعل صفحاتهم التي يتابعها الملايين، منبراً لنقل الرواية شبه الرسمية؛ لينقلوا لنا من أروقة القصر الرئاسي الصور التي تؤكّد إنسانية القائد أحمد الشرع وعصريته.
بيد أن بعض نجوم “التيك توك”، لم يكونوا على القدر الكافي من المسؤولية الملقاة على عاتقهم، ليقفوا بالصف ذاته مع “العناصر المنفلتة” التي ترتكب الجرائم، ويحرّضوا على القتل، بعض هؤلاء كان حظّهم سيئاً لأنهم يعيشون في بلاد لا تحترم حرية الرأي، ولا تستوعب إمكانية حدوث بعض الأخطاء الفردية، كالدول الأوروبية. ومن ضحايا هذه البلاد أسيل كاشف، التي دعت عبر “التيك توك” إلى إبادة العلويين، مُستخدمةً المقولة الرائجة: “ارموا جثثهم في البحر، كي لا يقولوا إن الأسماك جاعت في عهد بني أمية”، والتي قدّمت نصائح ذهبية لـ”المجاهدين”، توجّههم إلى عدم توثيق عمليات القتل التي يرتكبونها في الجزء الثاني من عملية “ردع العدوان”.
جاء الرد على فيديوهات أسيل كاشف من نائب البرلمان الهولندي بيتر أومتزخت، إذ نشر أحد مقاطعها واتّهمها بالتطرّف؛ فما كان منها إلا أن اشتكت من المؤامرة الكونية، التي تتعرّض لها الأقليات المسلمة في البلاد الأوروبية العنصرية، بعدما عرضت أثاث منزلها للبيع “أون لاين”.
في المقابل، فإن بعض نجوم “اليوتيوب” و”التيك توك”، كانوا على القدر الكافي من المسؤولية، مثل جو حطاب، الذي تمكّن من الكشف عن الوجه الإنساني والرؤى الشبابية للقائد أحمد الشرع، ومثل ابن حتوتة، الذي سارع إلى نشر فيديو يُبرز جمال الساحل السوري، تعاون فيه مع وارف نجم قناة “ديالا ووارف”، الذي اشتهر بسلسلة فيديوهات هادفة على “اليوتيوب”، عنوانها “كيف الشعب السوري عايش”.
وعلى رغم أن الفيديو صُوِّر في وقت سابق، لكن ابن حتوتة اختار التوقيت المناسب لنشره، ليواجه الصور الدموية وخطابات التحريض الطائفي بفيديو سياحي لطيف، صُوِّر في حضور شباب “هيئة تحرير الشام”. ومن الجدير بالذكر أن ابن حتوتة وجو حطاب، لديهما خبرة كبيرة في تلميع صور الأنظمة الإسلامية الراديكالية، وكانا من أوائل نجوم “اليوتيوب” الذين استدعتهم “طالبان”، لإظهار الوجه السياحي والحضاري في أفغانستان.
ولم تكتفِ حكومة أحمد الشرع بالاعتماد على نجوم “التيك توك” و”اليوتيوب” في قطاع الإعلام، بل اعتمدت أيضاً على شخصيات إعلامية مرموقة مثل موسى العمر وجميل الحسن، اللذين رسما ملامح الخطاب الإعلامي للدولة السورية الحديثة، ويوجّها دفّة التعاطي مع مجازر الساحل؛ ليؤكّد موسى العمر أن الإعلام يهوّل، وأن عدد الضحايا يتراوح بين 150 و200، ليس كما يُشاع بأنه تجاوز الألف، ويحمّل المسؤولية كاملةً لفلول النظام البائد.
وبدلاً من الحديث عن مئات الضحايا الذين قُتلوا خلال الأيام الماضية، بدأت الصفحات الإعلامية الموالية للجولاني، بإعادة نشر صور وتقارير عن مجازر الأسد القديمة، ولا سيما مجازر الكيماوي في الغوطة في عام 2013، ومجزرة دوما في عام 2015، في حملة ممنهجة لتذكير الجميع بأن النظام السابق كان أكثر إجراماً، وكأن ذلك يمنح المجرمين صكّ براءة.
أصابع الاتهام في مقتلة الساحل اتّجهت إلى قائد الفرقة 25 في الجيش السوري أبو عمشة، لتحمّله مسؤولية مجازر التطهير العرقي في الساحل السوري، لكنه تمكّن من إثبات براءته من خلال نشر صور له، وهو داخل جهاز الطبقي المحوري في أحد المستشفيات، مرتدياً الزي العسكري؛ لتصل إلى العالم كله رسالته: “كنت مريضاً وقت المجازر، ولا دخل لي بكل ما حصل”، فهل أرسل تقريراً طبياً إلى لجنة التحقيق التي شكّلها القائد أحمد الشرع، ليحصل رسمياً على حجّة غياب، أم أن الصور كافية لتبرئته؟
هذا كله يأتي والحكومة الجديدة تحتفل بذكرى “انتصار الثورة”، وكأنها حقّقت الحرية والديمقراطية التي طالب بها السوريون، متجاهلةً أن الإعلان الدستوري الجديد لا يختلف بشيء عن أنظمة الحكم الشمولية، إذ جمع أحمد الشرع في يده السلطة التنفيذية والتشريعية والعسكرية، ليؤكّد ذلك أن البلاد انتقلت من استبداد إلى استبداد آخر.
في أي دولة طبيعية، المجازر تعني إعلان الحداد، تعني فتح تحقيقات دولية، تعني محاسبة المسؤولين، لكن في سوريا الجديدة، المجازر مجرّد تفصيل، والأهم هو الاحتفال، وكأن كل شيء أصبح على ما يرام! ربما يعتقد النظام الجديد أنه يستطيع كتابة التاريخ بطريقته الخاصة، أو أن الموسيقى والدبكة يمكنهما محو آثار الدم، لكن الحقيقة أن المجازر لا تُنسى، والرقص فوق الجثث لا يجعلها تختفي، بل يجعل المشهد أكثر قبحاً.
ولا ننسى بالنهاية أن السوريين منقسمون حول مسألة تاريخ الثورة، وأن الاحتفالات التي أُقيمت في 15 آذار/ مارس هي ليست الجولة الأولى، وأن السوريين سيتجمهرون في الساحات العامة يوم 18 منه أيضاً، آملين بأن تحلّق مروحيات الجولاني “الأليفة” فوق رؤوسهم، وأن تُمطر عليهم بالورود والحب.
– صحافية فلسطينيّة سوريّة
درج
—————————–
إيران تصعّد تحركاتها في سوريا.. دعم للفلول وتحريض طائفي بعد فشل مخطط الساحل/ ضياء قدور
2025.03.18
كانت إيران بلا شك الخاسر الرئيسي في المعادلات الحالية في سوريا، وهذا يبدو جلياً في تطورات الأوضاع الأخيرة التي لم تعد تصب في مصلحتها كما كانت الحال في السابق. فبعد سنوات من التدخل العسكري والوجود القوي في سوريا خلال عهد الأسد، أصبح من الطبيعي أن تسعى طهران إلى تأمين موطئ قدم لها في الساحة السورية بعد التغيرات الجذرية التي طرأت على الحكم في سوريا.
وفي هذا السياق، تسعى إيران إلى توسيع نفوذها في سوريا من خلال التواصل مع عناصر من النظام المخلوع، إضافة إلى دعم مجموعات الفلول وبعض الأطراف من الطائفة العلوية ومجموعات كردية معارضة، في محاولة لإضعاف جهود ترسيخ الحكومة الجديدة. وتعكس هذه التحركات الأجندة الإيرانية الهادفة إلى الحفاظ على نفوذها في المنطقة، خاصة بعد الانكسارات التي تعرضت لها مؤخراً.
تصريحات خامنئي التي دعا فيها الشعب السوري إلى مواجهة الحكومة الجديدة في لحظة إحباط غير مسبوقة، كانت محاولة لتوجيه رسالة سياسية ضمن سياق الأزمة، رغم أن العديد من السوريين كان على قناعة تامة بأن هذا النوع من التصريحات لن يمر بدون تداعيات عملية، وأن إيران ستستغل الوضع لصالحها عبر دعم أطراف معينة في الصراع السوري.
من جهة أخرى، تزايدت المؤشرات التي تدل على أن إيران قد تلعب دوراً محورياً في الأزمة السورية في ظل الضغوط الداخلية والدولية، خاصة من خلال تحالفاتها مع ميليشيات لبنانية وعراقية تدين بالولاء لطهران. كما أنها قد تستخدم ورقة تحريض بعض الأطراف العلوية والكردية لتحقيق أهدافها، مما يخلق حالة من الصراع المستمر التي من شأنها أن تعمق الأزمة في سوريا وتزيد من تعقيد الأوضاع الإقليمية والدولية.
إيران تواصل التحريض الطائفي في سوريا على أعلى المستويات
في خطاب ألقاه اللواء علي أكبر أحمديان، أمين مجلس الأمن الأعلى للنظام الإيراني، في 21 شباط الماضي، خلال مناورة عسكرية للحرس الثوري الإيراني في محافظة كرمان، أكد على أن سوريا ستشهد مقاومة جديدة ضد ما وصفه بـ “الاحتلال”. هذه التصريحات تأتي في وقت حساس يعكس تمسك إيران بموقفها في سوريا، على الرغم من التحولات السياسية في البلاد.
من جهة أخرى، تتجاهل هذه التصريحات الحقيقة الواضحة بأن التدخل الإيراني في سوريا ليس سوى محاولة لزيادة نفوذ طهران على حساب السيادة السورية واستقرار المنطقة.
في ذات السياق، وصف بعض أئمة الجمعة المقربين من مكتب خامنئي في إيران الاشتباكات في الساحل السوري، في 6 آذار 2025 الماضي، بأنها “انتفاضة الشعب السوري” ضد ما وصفوه بـ”حكومة الإرهاب”. وأشاروا إلى أن المرشد الإيراني كان قد تنبأ سابقاً بأن الشباب السوري سيتصدى لهذه الحكومة. وأضاف الملا حسيني همداني، إمام جمعة كرج، في خطبته قائلاً: “كان التوقع من حضرة آقا (خامنئي) لسوريا أن الشباب السوريين سيقومون بثورة لإنقاذ وطنهم”، مشيراً إلى أن هذا التنبؤ بدأ يتحقق مع إعلان الجهاد وتزايد الاشتباكات في بعض المناطق.
وفي 8 آذار 2025، نقلت وكالة “مهر” الإيرانية عن حسين علي الكراوي، رئيس اللجنة التنفيذية لأحد الحركات الشعبية في العراق، زعمه إن هناك خطة من قبل من وصفهم بـ”الإرهابيين الحاكمين في سوريا” لتنفيذ عملية تطهير عرقي ضد الشيعة في البلاد.
وادعى الكراوي أن عناصر ممن وصفهم ب “النظام الإرهابي لجبهة النصرة” يسعون لإثارة الفتنة الطائفية في سوريا، من خلال السيطرة على مقام السيدة زينب ومساجد شيعية أخرى في سوريا، بدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وقطر.
وتابع الكراوي قائلاً: “إغلاق هذا المقام بذريعة محاولة تنفيذ عمليات إرهابية فيه ليس سوى تمهيد لتحقيق هذا الهدف”، زاعماً أن هناك خطة أميركية صهيونية لتكرار أحداث 2006 في العراق بتفجير “مرقدي الإمامين العسكريين” في سامراء، لكن هذه المرة في سوريا.
وتأتي هذه التصريحات ضمن سياق التحريض الطائفي المستمر الذي تسعى إيران من خلاله إلى تعزيز وجودها في سوريا، موجهة اتهامات ضد الأطراف المناهضة لها في محاولة لخلق تبريرات لتدخلاتها العسكرية.
ونقل موقع التلفزيون والإذاعة الإيرانية عن إمام الجمعة في بولدشت قوله: “التطورات المستقبلية ستظهر أن الشباب السوري الشجاع لم يصمت أمام الضعف الداخلي والعدوان الخارجي، وهو قادر على تغيير المعادلات على الأرض”.
ويعكس هذا التصريح النهج الإيراني الذي يسعى لإثارة الانقسامات داخل سوريا، حيث يشجع على تحدي الحكومة السورية الحالية ويعزز فكرة أن الشباب السوري يمكنه تغيير الوضع القائم في إطار الترويج للمقاومة ضد الحكومة السورية.
وكانت قوات الأمن السورية قد ضبطت في 11 آذار الجاري، كميات كبيرة من الذخيرة الإيرانية الصنع (خفيفة ومتوسطة) في قرية المزرعة بريف حمص الغربي، ما يعكس استمرار التدخل الإيراني في الشؤون السورية من خلال تزويد مجموعات موالية لها بالأسلحة، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني في البلاد.
قوات الأمن تضبط كميات كبيرة من ذخيرة إيرانية الصنع (خفيفة ومتوسطة) في قرية المزرعة بريف حمص الغربي. pic.twitter.com/ODzHxVx1oO
— ضياء قدور dyaa kaddoor (@dyaakaddoor)
March 11, 2025
إيران تتبنى دعم فلول الأسد عسكرياً
وأقر موقع المراسلين الشباب الإيراني بأن فلول النظام البائد في سوريا مدعومون من طهران، حيث أشار إلى أن “هناك تكهنات بأن المقاومة الساحلية في سوريا كان ينبغي أن تمر بمرحلة أكثر تقدماً وتحمل السلاح بعد أن تم تعزيزها بشكل كامل، وكان لا بد من ضمان الدعم من القوات الأجنبية”.
وتكشف هذه التصريحات عن الدور المستمر لطهران في توجيه الأحداث في سوريا، حيث تسعى إيران لتوسيع نفوذها في المنطقة من خلال دعم جماعات محلية معينة وتقديم العون العسكري.
وفي محاولة لتكثيف الخطاب الطائفي في سوريا، قال الموقع: “يعلم العلويون أنه لن يكون لهم بالتأكيد مكان في حكومة سنية ذات جذور سلفية، والتي كانوا في صراع دموي معها لسنوات”.
وتوضح هذه العبارات الاستراتيجية الإيرانية في تأجيج الانقسامات الطائفية داخل سوريا، حيث تسعى طهران لتعميق الصراع الطائفي لضمان استمرار نفوذها في البلاد، معتبرة أن هذه الفجوات الطائفية ستخدم مصالحها السياسية في المنطقة.
وفي خضم ذلك، واصلت وكالة أنباء “فارس” الإيرانية نشر التحريض الطائفي في سوريا من خلال الترويج لفيديوهات قديمة وغير ذات صلة بالأحداث الحالية. حيث نشرت الوكالة فيديو لفتاة سورية
تعرضت للضرب على يد لبناني تابع لـ”حزب الله” في لبنان، وهو فيديو يعود لعدة أشهر مضت. وتأتي هذه المحاولات في سياق استمراري لتحريك مشاعر الطائفية والانتقام لدى بعض الفئات، مستخدمةً أحداثاً قديمة بهدف التأثير على الرأي العام، وبالتالي دفع الأمور نحو المزيد من التوترات الداخلية والإقليمية.
وفي مقطع فيديو حديث نشره مقداد فتيحة، أحد أبرز المجرمين من فلول نظام الأسد، يكشف عن اعتراف هام يسلط الضوء على تنسيق التمرد المسلح في الساحل السوري، بدعم مباشر مما يسمى “جبهة المقاومة الإسلامية – غرفة أولي البأس”. هذه الجبهة التي أعلنت إيران بشكل رسمي عن تشكيلها في سوريا قبل أسبوعين، هي جزء من محاولاتها المستمرة لزعزعة استقرار البلاد، من خلال استغلال الأوضاع الراهنة لتعميق الانقسام الطائفي والمذهبي.
في هذا المقطع اعتراف هام أن هذا التمرد الدموي في الساحل يتم بتنسيق ودعم من مايسمى (جبهة المقاومة الإسلامية – غرفة أولي البأس) التي أعلنت إيران بصورة رسمية قبل أسبوعين عن تشكيلها في سوريا لزعزعة استقرارها. pic.twitter.com/6Um8jWNe4B
— ضياء قدور dyaa kaddoor (@dyaakaddoor)
March 9, 2025
إيران تتبنى فلول النظام إعلامياً
بعد تقديم الدعم العسكري واللوجستي من قبل إيران لفلول الأسد، باتت طهران تتبنى هذه الفلول إعلامياً، في خطوة تهدف إلى ترويج رواياتهم وأدائهم في الساحة السورية. هذه الخطوة تُظهر استماتة إيران لتعويض خسارتها المهينة في سوريا، حيث تسعى لإعادة توجيه الأحداث لصالحها ومحاولة استعادة نفوذها الذي تراجع بشكل كبير في ظل التحولات السياسية والإقليمية الأخيرة.
وفي خطوة غير مسبوقة، أجرت وكالة “مشرق نيوز” الإيرانية لأول مرة لقاءً مع من وصفتهم أحد المسؤولين المطلعين في “المقاومة الشعبية في سوريا”، وتبنت بشكل واضح روايته، إذ ادعى تأييده لما وصفوه بـ “التحركات المشروعة” ضد الحكومة السورية الجديدة.
وأكد المصدر الميداني أن عملية التمرد الأخيرة في الساحل السوري التي قادتها “المقاومة الشعبية ضد مقاتلي الحكومة السورية ستستمر حتى السيطرة على كامل سوريا ولن تقتصر على الساحل فحسب، وكشف تفاصيل عملية الأسبوع الماضي بين مدينتي اللاذقية وطرطوس، قائلاً إن العملية انطلقت في محور مدينة جبلة قرب الشريط الساحلي، حيث أدت الخطوة الأولى إلى مقتل 10 عناصر من الجيش السوري الجديد.
وبحسب “مشرق نيوز”، اعتبر المصدر الميداني في المقاومة الشعبية السورية الكمين الثاني في مدينة جبلة ضد قوات الأمن السورية بمثابة ضربة قاتلة أخرى، وأضاف: “قُتل خلال هذه العملية عدد من المقاتلين بينهم أبو أنس محمبل من قادة المجموعة العسكرية الـ 400، وفي الوقت نفسه تمكن أهالي مدينة القرداحة بريف اللاذقية الجنوبي الشرقي من طرد المقاتلين الحكوميين من هذه المدينة والسيطرة على أجزاء من هذه المنطقة”.
وزعم المصدر الميداني الذي تحدث بشكل حصري لـ”مشرق نيوز” أن قواته استطاعت توجبه ضربة قوية أخرى للقوات الرديفة التي استجلبتها الحكومة السورية من خلال نصب كمين لهم على طريق جسر الشغور.
وأضاف هذا المصدر الميداني: “سيطر الأهالي وقوات المقاومة على قاعدة اللواء 107 قرب مدينة جبلة، واستعادوا السيطرة على الكلية البحرية في مدينة اللاذقية، وعلى مطار اسطامو بريف اللاذقية الجنوبي الشرقي”.
وأشار المصدر الميداني إلى مزيد من تفاصيل هذه العملية التي وصفها بالناجحة، وقال: “إن الأهالي والمقاومة الشعبية سيطرت على أجزاء أخرى من مدينتي اللاذقية وطرطوس في عمليات منفصلة، مما أدى لانهيار البنية القتالية لقوات دمشق”، بحسب زعمه.
وبحسب هذا المصدر الميداني، فإن الشرع، رغم قلة القوات، أمر بإرسال الآلاف من عناصره من مناطق أخرى إلى الغرب على حساب إخلاء العديد من المحافظات السورية لاستعادة محافظتي اللاذقية وطرطوس.
وأكد هذا المسؤول المطلع أن عملياتهم ضد الحكومة السورية في الساحل لم تتوقف، وأن جزءا من القوات عاد إلى قواعده، ولا تزال مجموعة أخرى موجودة في مدن طرطوس واللاذقية وبانياس وجبلة والقرداحة ومصياف وصافيتا والحفة وسلمى وديريكيش ومشتى الحلو وغيرها.
وزعم المسؤول الميداني أن العملية ضد القوات الحكومية لم تنته فحسب، بل بدأت للتو، مشيراً إلى أنه في الساعات والأيام الماضية، قد قاموا بشكل مستمر بنصب كمائن دقيقة وإلحاق أضرار جسيمة بأرتالهم العسكرية، خاصة على طرق الاتصالات، وهذا أمر يراقبه حكام العاصمة بشكل دقيق.
وفي توضيح لخطر المخطط الذي تدير طهران بالتعاون مع فلول النظام البائد، بينت “مشرق نيوز” أنه إذا نجحت ما تسمى “المقاومة الشعبية” في سوريا في السيطرة على محافظتي طرطوس واللاذقية غربي سوريا، زاعمة أن اتصال الحكومة السورية بالبحر الأبيض المتوسط سينقطع بشكل كامل، كما سيفتح طريق اتصال من جنوب طرابلس إلى شمال لبنان ومن الشمال سيصل إلى جنوب تركيا، مما يوحي بجهود طهران الحثيثة لتشكيل كنتون طائفي يتواءم بشكل مثير للدهشة مع المخطط الإسرائيلي لسوريا.
ومن خلال دعم إيران لهذه الفلول وترويجها لرواياتهم، تزداد المخاوف من أن طهران تهدف إلى تنفيذ أجندات خارجية تؤثر سلباً على وحدة سوريا وتزيد من تعميق الأزمات الطائفية، مما يضر بمصالح الشعب السوري. هذا التحول في الإعلام الإيراني يعكس محاولة مفضوحة لتأجيج الأوضاع، في الوقت الذي يسعى فيه السوريون لبناء دولة مستقرّة بعيدة عن التدخلات الأجنبية والتطرف الطائفي.
—————————
الوحدة أم التقسيم: إلى أين تبدو سوريا أقرب اليوم؟/ طارق علي
الأكراد والدروز والعلويون يصطدمون بتفرد السلطات الجديدة في الإدارة
الاثنين 17 مارس 2025
انبثق عن وصول “تحرير الشام” إلى الحكم تعيين أحمد الشرع رئيساً للجمهورية وولادة سريعة لحكومة تسيير أعمال ارتكبت أخطاء كارثية (أ ب)
ملخص
بعد مرور 100 يوم على سقوط الأسد، برزت مطالبات بالفيدرالية والتقسيم والتدخل الدولي، في ظل ضغوط داخلية وخارجية تواجهها الإدارة السورية، فإلى أي جانب تميل؟ وكيف تعاملت سلطات دمشق مع الملفات الشائكة داخلياً؟
مرت 100 يوم على سقوط نظام الأسد بعد حكم استطال 54 عاماً لعائلته، قبل أن يبزغ فجر غرفة عمليات “ردع العدوان” التي تمثل هيئة “تحرير الشام” عصبها الرئيس، بزعامة أبو محمد الجولاني، الذي بات الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع بعد الوصول إلى السلطة وسدّة الحكم بعد معارك الأيام العشرة التي تهاوى فيها جيش الأسد ومنظومته كأحجار الدومينو في واحدة من أسرع عمليات قلب حكم متجذر في التاريخ الحديث.
ما بعد السقوط
انبثق عن وصول “تحرير الشام” إلى الحكم تعيين أحمد الشرع رئيساً للجمهورية العربية السورية، وولادة سريعة دونما مخاض لحكومة تسيير أعمال ارتكبت هفوات وأخطاء ترقى إلى مرحلة الكوارث أكثر مما تمكنت من توفير ظروف إيجابية لبيئة الحكم المستجد، فالحكومة التي تجاوزت دورها القانوني والدستوري أقدمت على ممارسات تحتاج إلى حكومة دستورية توافقية حقيقية يحق لها التدخل في كل مفاصل البلد من أزمة المناهج وصولاً إلى صرف 400 ألف موظف حكومي بشكل تعسفي مروراً بعشرات القرارات التي تركت أثراً سلبياً ليس على رأسها استبعاد الخبرات والكفاءات والاستعانة بالولاءات من غير المتخصصين ولا قضية منح رتب عسكرية عليا لمتشددين أجانب، وصولاً إلى ما يراه مراقبون محاولة تعميم تجربة الحكم في إدلب بالقوة على كامل الجغرافيا السورية على مختلف مشارب وانتماءات سكانها وتنوعهم الإثني والديني والمذهبي.
حوار وطني وإعلان دستوري
كل ذلك كان قبل عقد مؤتمر حوار وطني “سُلِقَ” على عجل فجاءت مخرجاته وكأنه ما جرى، من ناحية الانتقائية في الدعوات والاستعجال في التحضير والبيان الختامي الجاهز مسبقاً، لتقود كل تلك الأمور نحو الوصول إلى الإعلان الدستوري الذي كرّس حالة الضياع الجمهوري للعهد الجديد.
الإعلان الذي طُبخ على عجالة أيضاً لاقى استهجاناً مرتبطاً بحال من الرفض لدى شريحة واسعة من السوريين الذين عبروا عن آرائهم في الملتقيات والمنتديات وحساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن ذلك الإعلان حمل في تفاصيله وشكله ومضمونه التهيئة لإنتاج نظام حكم شمولي – ديكتاتوري جديد يفصل السلطات عن بعضها شكلاً ويجمعها مضموناً في يد الرئيس الذي سيتولى معظم المهمات الدستورية العليا، لا سيما تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ورئاسة مجلس القومي، ورئاسة الحكومة والدولة وغير ذلك من سلطات يمكن أن تُحصَر في يده.
التفاف على التفاهم الكردي
ساء حظاً للسوريين أن الإعلان الدستوري جاء بعد يومين على توقيع مذكرة تفاهم في دمشق بين الشرع وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية (قسد)، مظلوم عبدي، التي حملت بريق أمل بدمج القوات الكردية في مؤسسات الدولة السورية إثر وثيقة تفاهم من بنود عدة ليأتي الإعلان الدستوري ضارباً بذلك التفاهم عرض الحائط.
“لدى ‘قسد’ قيادات علمانية راديكالية، وحين التعامل معها يجب توخي الحذر”، يقول الباحث الكردي هايل أحمد، موضحاً أن “الاتفاق الذي وقعه القائدان سقط مع الإعلان الدستوري الجديد الذي بدا أنه كمن يلتف على المبادئ الكردية ذات المطالب الواضحة في سياق تفعيل وضع التضامن والعيش المشترك تحت مظلة دولة لا دولتين، جيش لا جيشين، حقوق وواجبات مشتركة، تعايش سلمي تام الأركان والمقومات والمفاهيم، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية والمجتمعية واللغوية”.
تفاصيل الاتفاق
ويضيف الباحث “جاء في البيان الموقع، ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكل مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، والتشديد على أن المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية التي تضمن حقه في المواطنة وكل حقوقه الدستورية، ووقف إطلاق النار على كل الأراضي السورية”، وتابع “كما جرى الاتفاق على دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا ضمن إدارة الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، وضمان عودة كل المهجرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم وتأمين حمايتهم من الدولة السورية، ودعم الدولة السورية في مكافحتها فلول الأسد وكل التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها”.
ولفت أحمد “لكن الإعلان الدستوري أصر على دين رئيس الجمهورية ومصدر التشريع وأن اللغة العربية وحدها الرسمية، وما تبقى من بنود معظمها لا يتماشى مع الاتفاق الموقع مسبقاً، وهو ما شكّل صدمة لدى قيادة ‘قسد’، والأمر ذاته استدعى خروج تظاهرات في شرق سوريا ترفض الدستور الجديد وتعتبره نقضاً لاتفاق الشرع – عبدي وخنجراً من شأنه استمرار النزيف، وهو ما عبرت عنه القوات الكردية في بيان العالي اللهجة”.
البيان الكردي
ورداً على الإعلان الدستوري أصدرت قيادة منطقة شمال وشرق سوريا الكردية بياناً اتهمت فيه الإعلان الدستوري بأنه “نمطي وتقليدي” يتشابه مع المعايير والمقاييس التي كانت متّبعة من قبل حكومة البعث، وأكد البيان أن “هذا الإجراء يتنافى مع طبيعة وحقيقة وحالة التنوع الموجود في سوريا، كما أنه تزوير فعلي لهوية سوريا الوطنية والمجتمعية، إذ يخلو الإعلان من بصمة وروح أبناء البلد، ومكوناتها المختلفة، من كرد وعرب وسريان وآشور وغيرهم من بقية المكونات”.
وأكدت الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا أن “سوريا اليوم تحتاج إلى تكاتف أبنائها ووحدتهم على تقرير مستقبلهم الديمقراطي والمشاركة الوطنية السورية التي تعزز الشراكة في الوطن”.
كذلك أشارت قيادة الإقليم إلى أن “هذا الإعلان يفتقر إلى مقاييس التنوع الوطني السوري، ويخلو من حالة المشاركة الفعلية لمكونات سوريا الوطنية، ومن ثم يعبر هذا الإعلان من جديد عن العقلية الفردية التي تعد امتداداً للحالة السابقة التي وجدت في سوريا وانتفض الشعب ضدها”، وأضاف البيان الكردي أن “هذا الإعلان لا يمثل تطلعات شعبنا ولا يدرك حقيقة هويته الأصيلة في سوريا وهو بمثابة شكل وإطار يقوض جهود تحقيق الديمقراطية الحقيقية في سوريا وبنوده البعيدة عن سوريا وآمال شعبها”.
وترى القيادة الكردية أن الدستور الحقيقي هو الذي تتشارك فيه كل المكونات وتتفق حوله كونه المسار الديمقراطي المستدام لمستقبل سوريا ومستقبل أجيالها القادمة، مضيفة “نأمل في ألا تعود بنا بعض الممارسات والأفكار الضيقة إلى مربع الصفر، لأن ذلك سيجعل الجرح السوري ينزف من جديد”.
مجازر العلويين
تزامناً كانت قرى وبلدات ومدن الساحل السوري تشهد مجازر جماعية أسفرت عن مقتل وجرح آلاف المدنيين العزل، إثر حملة أمنية – عسكرية ضخمة استهدفت “فلول النظام” الذين نصبوا مكامن لقوات الأمن العام في أكثر من منطقة ما بين السادس والعاشر من مارس (آذار) الجاري، وقُتل قرابة 1500 مدني في 56 مجزرة وثقها المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يديره رامي عبدالرحمن من لندن، والذي وصف لجنة التحقيق التي شكلتها الرئاسة للنظر بما جرى في قرى الساحل بأنها “غير جدية”، إذ تجاهلت توصيف ما حدث بالمجازر والكارثة ومالت نحو توصيف ما حصل بـ”الحالات الفردية”.
أيام الرعب التي عاشها الساحل السوري أفضت أيضاً لآلاف المهجّرين، فمئات العائلات وجدت طريقها للعبور نحو لبنان من خلال النهر الشمالي باتجاه محافظة عكار، فيما لجأ على الأقل 9 آلاف شخص للاحتماء بقاعدة حميميم الجوية العسكرية الروسية في محيط قرية جبلة بمحافظة اللاذقية رافضين حتى الآن مغادرتها.
ولهول ما حدث، تعالت أصوات في الشارع السوري تطالب بالتقسيم أو الفيدرالية أو التدخل الدولي على أقل تقدير لحماية الأقليات بعدما كانوا تماهوا مع السلطات الجديدة وسلموا كل أسلحتهم إبان سقوط النظام.
أحد المحتمين في “حميميم” تحدث إلى “اندبندنت عربية” مفضلاً عدم كشف اسمه، عن محاولات السلطات الجديدة ممثلة بالقوى الأمنية ومحافظ اللاذقية إعادتهم إلى قراهم لكن قراراً شبه جماعي كان بالرفض، وقال “ما رأيناه وعشناه لن يُمحى من ذاكرتنا مهما حيينا، لا يزال ثمة آلاف العلويين مختبئين بالأحراش، كانت الأمور تسير بخير مع السلطة، لكن (الفزعات) الطائفية التي جاءت وقتلت نساءنا وأطفالنا وشيوخنا أوضحت أن ميثاق التعايش المشترك أصبح مستحيلاً، لذا نحن متمسكون بمطالبنا بالحماية الدولية لنا كأقلية، 1500 قتيل في 72 ساعة ليس رقماً عادياً، هذا رقم تنهار لأجله أمم، ولم يفكر مسؤول كبير أن يزورنا ليطيّب جراحنا، من يضمن ألا نُقتل بعد خروجنا من القاعدة”.
كمال عيسى أحد الناجين من مجزرة القصور في بانياس على الساحل السوري قال بدوره “كنا نعتقد أن طلب الحماية الدولية يندرج تحت بند الخيانة، وطلب التقسيم هو خيانة مضاعفة، الآن لا أحد يختفي وراء إصبعه، هذه سلطة عاجزة عن الوقوف في وجه متشدديها ومنعهم عنا، لم يتركوا لنا خياراً آخر، وها قد وقّعوا مع ’قسد‘ على ظهورنا ثم غدروا بهم، لننظر إلى حال الدروز، هل يتجرأ أحد من الاقتراب منهم، لماذا؟ لأن لديهم سنداً، أما نحن فبلا مرجعية أو قوة أو ظهر أو سند، ثم يقولون عنا فلول الأسد وإيران وروسيا وعملاء إسرائيل، هل الأطفال الذين قُتلوا في المجزرة وهم بعمر الأشهر فلول أيضاً؟”.
الموقف الدرزي
شكلت زيارة وفد من 100 شيخ درزي سوري لإسرائيل صدمة في الشارع السوري، حيث ما زالت مواقف الدروز متباينة من التصريحات الإسرائيلية في شأن حمايتهم ومنع أحد من الاقتراب منهم وفرض نزع السلاح في الجنوب السوري.
وفي الإطار برز أمس الأحد حديث مهم لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز ومرجعها الأكبر في سوريا، الشيخ حكمت الهجري، خلال لقاء مع أعيان من الجنوب في دارة الطائفة في بلدة قنوات بالسويداء وصف فيه حكومة دمشق بالمتطرفة وغير الشرعية والمطلوبة للعدالة الدولية وقال بأنه لا تعايش معها.
تلك التصريحات ربما تعكس المزاج العام، وهو المزاج ذاته الذي ينطلق من الخشية الدرزية – الكردية من إلقاء السلاح وملاقاة ذات مصير العلويين في الساحل، وعلى رغم خروج تظاهرات في السويداء ترفض التدخل الإسرائيلي فإن ذلك لا يعني الموافقة على سلوكيات سلطة دمشق، بحسب ما قاله بعض الدروز في حديثهم مع “اندبندنت عربية”.
طريف أبو جبل أحد سكان السويداء عبر عن موقفه بالقول “لن نضع يدنا في يد إسرائيل ولكن ذلك لا يعني قبولنا بسلطة الأمر الواقع القمعية في دمشق، ما حصل في الساحل السوري درس لكل أبناء الوطن عن ضرورة حمل السلاح وعدم تسليمه إلا في حال الركون لعقد اجتماعي توافقي مع سلطة تكتسب كل صفات الشرعية المحلية والخارجية”.
يوسف الهايل طبيب من السويداء قال “هي لعبة تدوير زوايا، بماذا تختلف ’جبهة النصرة‘ عن ’تحرير الشام‘ عن الحكم الحالي؟ مجرد أسماء تغيرت فقط، الحل الذي ننشده جميعنا هو الفيدرالية وتركنا لندير أمور محافظتنا بعيداً من الشحن الطائفي والحالة الفصائلية المتطرفة، ألم يتم حل ’هيئة تحرير الشام‘، لننظر في كل المجالس من الأمن القومي إلى الحوار الوطني إلى لجنة الدستور، جميعها تقوم على أفراد من الهيئة، وأهل الجنوب منفتحون وعلمانيون ولا يمكن لهم التعايش مع الملثمين ومجرمي الحرب، وما خرجنا لإسقاط بشار الأسد لنجيء بسلطة شمولية أكثر، الحل يقرره كبارنا وتشترك في إقراره الدول الخارجية، لسنا نشجع التقسيم، فلم نشهد ما شهده الساحل، لذلك حتى اللحظة نتمسك بالفيدرالية فقط”.
الوحدة أم التقسيم؟ خيارات قائمة
صار الآن من المشروع السؤال إلى أين تتجه سوريا، نحو الوحدة الجامعة أم التقسيم؟ وهو سؤال يحاول الإجابة عنه الدكتور في القانون أحمد الصفدي بالقول إنه “كانت هناك مطالب متنامية على الدوام بتطبيق الفيدرالية في سوريا بعد سقوط النظام، لكن بعدما حصل في الساحل السوري بدأت تطفو على السطح مطالب بالتقسيم، وإن كانت هذه المطالب لا تتسق بين العلويين أنفسهم، فعلويو اللاذقية وحمص وحماة مثلاً لا يزالون يرون في الفيدرالية حلاً، بخلاف بقية الساحل السوري، والقسم الكبير منه رزح تحت المجازر ورأى بأم عينه كيف يكون التطهير العرقي”، ويضيف “الآن توقفت الإبادة في الساحل، لكن حواجز كثيرة في مناطق مختلفة ما زالت تسأل المارة عن دينهم، وما زالت الحالات الفردية مستمرة، ففي اليومين الماضيين فقط ست حالات خطف وقتل على طريق صافيتا – طرطوس في الساحل، وكل ذلك سيُختزن بالوعي الجمعي لدى الناس ويدفعهم إلى طلب الحماية بأي طريقة، وهو الدرس الأكبر للدروز في السويداء جنوباً وجرمانا في ريف دمشق بعدم إلقاء السلاح خصوصاً بعد وصف زعيمهم الروحي الهجري الإعلان الدستوري بغير المنطقي، فضلاً عن الالتفاف من قبل دمشق على الأكراد الذين أكدوا بعيد بيان عبدالله أوجلان واتفاقهم مع الشرع أنهم لا يسعون إلى دويلة داخل دولة ولا تقسيم جديد ولا كردستان عراق أخرى، ولكن البيان الدستوري عاجلهم ليحطم أحلامهم، مما يعني العودة إلى نقطة الصفر”.
ويتابع “القيادة السورية في موضع مربك للغاية، أمامها ملفات متشابكة ومعقدة للغاية داخلياً وخارجياً، والأسابيع والأشهر المقبلة ستكون حاسمة لشكل البلد. الوقت ليس في صالحها في ظل الضغط الدولي، لكنها حتى الآن لم تعرف كيف تتعامل مع الملفات الكبرى بجدية مطلقة، من جهتي أرى كل الخيارات مطروحة على الطاولة، والذكي يكسب في النهاية، القرار الآن بيد القيادة الجديدة لتسير بالبلد نحو وحدة متكاملة أو تتركه فتاتاً مقسّماً، وهو ما يستدعي تحركات جد عاجلة لا تحتمل التأجيل لحظة واحدة، وإعادة النظر بأشهرها الثلاثة الأولى بالسرعة القصوى وتلافي مكامن الخلل وإرسال الرسائل في كل الاتجاهات ولكل المكونات بأن هذا البلد يتسع للجميع، وإلا فسنرى أنفسنا أمام سيناريو تقسيم مر على سوريا قبل زهو قرن من الزمن”.
———————————
في خطر تقسيم سورية/ غازي العريضي
18 مارس 2025
المعلومات الواردة من إسرائيل عن سورية أن وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس يقول: “هاجمنا أربعين هدفاً عسكرياً في جنوب سورية لتطبيق السياسة التي أعلنّا عنها لإحباط التهديدات ضدّ إسرائيل، وسندافع عن سلامة الدروز في المنطقة، وعندما يفتح (الجولاني) عينيه كلّ صباح سيرى الجيش الإسرائيلي يراقبه من جبل الشيخ، وسيتذكّر أننا هنا. سنحافظ على (المنطقة الآمنة) وعلى جبل الشيخ، وسنضمن أن تكون هذه المنطقة في جنوب سورية منزوعة السلاح، وسنوثّق العلاقة مع سكّان المنطقة، وسنبدأ يوم 16 آذار بالسماح للعمّال السوريين بالعمل في المناطق الجديدة التي سيطرنا عليها برواتب ومخصّصات خيالية” (هذا الكلام ردّ واضح على تحذير وليد جنبلاط من خطر المشروع الإسرائيلي التفتيتي، ودعوته إلى الحفاظ على وحدة سورية، رافضاً أن تسوّق إسرائيل نفسها حاميةً للدروز هناك، مع الإشارة إلى أن 16 مارس/ آذار هي ذكرى اغتيال القائد كمال جنبلاط).
وتقول القناة 12 الإسرائيلية: “هدف التقسيم المناطقي في سورية منع سيطرة النظام الجديد، وضمان القدرة على التحكّم في عدّة مستويات من الحدود حتى دمشق. المؤسّسة الأمنية ترى أن تحرّكها في سورية من الدروس المستفادة من هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول 2023)، عبر التحرّك بشكل استباقي”. وتضيف: “40 ألف مدني سوري يوجدون الآن في المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل في سورية. وتقديرات الأجهزة الأمنية تشير إلى أن خلايا أمنية كثيرة فيها. كلّ منزل سوري يحوي أسلحةً، والجيش مستعدّ لاحتمال وقوع عمليات أمنية مفاجئة، ونحن نمتلك سيطرةً ناريةً وقدرةً على المراقبة حتى العاصمة دمشق”.
أمّّا ما يقال في دوائر القرار الإسرائيلي، الأمنية والسياسية؛ “الشرع غير قادر على ضبط الوضع. نحن نتعاطف مع العلويين والمسيحيين، لكنّ للدروز وضعاً خاصّاً، وهم كوّنوا (لوبي) مؤثّراً ضاغطاً في مراكز صنع القرار. ولذلك قرّرنا تقديم دعم بقيمة مليار دولار لمناطقهم في الشمال (والشمال هنا بات يمتدّ من الجليل الأعلى إلى الجولان والأراضي السورية الجديدة المحتلّة، وتلك المحيطة بها؛ السويداء مروراً بلبنان)، وينبغي العمل على تفكيك النفوذ الإقليمي لوليد جنبلاط “؛ “ما جرى في الساحل السوري حماقة”؛ “لجنة التحقيق في الأحداث، والإعلان الدستوري، يدلان على الاستئثار”؛ “الاتفاق مع الأكراد ليس ثابتاً”؛ “لن نقبل التمدّد التركي في سورية ونحن نراقب بدقّة التحرّكات التركية هناك”؛ “نحن على تواصلٍ مع المسؤولين الأميركيين ومراكز الدراسات والأبحاث لشرح مخاطر ما جرى وما يجري في سورية، ولإطلاعهم على العمليات العسكرية التي نفّذناها وسننفّذها، وأهدافها وأبعادها”.
ماذا تعني هذه العناوين والتوجّهات السياسة الإسرائيلية في سورية؟ … بوضوح، لا تريد إسرائيل رؤية سورية موحّدةً أو مستقرّةً أمنياً وسياسياً، وتقول علناً وتنفّذ يومياً أقوالها، بضرب مقوّمات الدولة كلّها لمنع النظام من السيطرة، ولتنفيذ المشروع التقسيمي. بطبيعة الحال، ستتأثّر دول الجوار بهذه السياسات والأهداف. ولذلك هي معنية بمواجهتها. لن يقف تقسيم سورية عند حدودها. تسعير الصراعات المذهبية والطائفية ستكون له تداعيات على لبنان خاصّة، وعلى بقية الدول، بهدف إضعافها وتفكيكها، وهذا يستوجب، أولاً، إدراك السلطة الجديدة في سورية هذه المخاطر كلّها، والعمل المباشر لتفكيك ألغامها، بدءاً بحوار جدّي مفتوح مع المكوّنات كلّها، وتعزيز شراكة حقيقية على مستوى الحكم وإدارته، ومعالجة آثار ما جرى في الساحل لتبديد مخاوف المقيمين هناك، وغيرهم في مناطق أخرى، والتعامل بدراية وواقعية مع الحساسيات المذهبية والطائفية، فكيف إذا كان المشروع الإسرائيلي واضحاً، ويعلنه أركان دولة الاحتلال بوضوح؟
ثانياً، إدراك العرب، كلّ العرب، أنهم معنيون بمواجهة هذا الخطر، لا سيّما الذين أيّدوا الإدارة الجديدة في سورية، والمبادرة إلى تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي والمالي والاقتصادي لها بسرعة، لتتمكّن من مواجهة التحدّيات المذكورة، والمحافظة فعلياً على وحدة الأرض والمؤسّسات. وثالثاً، استيعاب تركيا لضرورات الاتفاق مع الأكراد وتعزيز دور الإدارة الجديدة، والتأكيد على خصوصيات الأكراد وترسيخ انتمائهم إلى الدولة السورية على قاعدة الاتفاق الذي تمّ معهم.
ويجب (رابعاً) أن تبادر الدول الأوروبية وأميركا إلى إعطاء فرصة للإدارة الجديدة، رغم ملاحظاتٍ أبداها أعضاء في مجلس الأمن حول ما جرى في الساحل السوري، ولو كان من باب ردّة الفعل على ما فعلته أدوات النظام السابق في محاولة انقلابية واضحة. أمّا خامساً، فيجب إدراك أن ما جرى في جنوبي سورية، وتلاعب إسرائيل بمسألة الأقلّيات، وادّعاء حماية الدروز، واستهداف دور وليد جنبلاط الذي يواجه ذلك، لا تقع مسؤولية التصدي له على عاتق هذا الرجل وحده. فلا بدّ من احتضان عربي لموقفه، حمايةً لموقف الموحّدين الدروز في تلك المنطقة، الرافضين استخدام إسرائيل لهم، ولحماية وحدة سورية، ووحدة البلاد العربية كلّها، المستهدفة إسرائيلياً بمواقف معلنة وواضحة، يطلقها المسؤولون في حكومة نتنياهو.
العربي الجديد
————————————-
سقط الأسد، وماذا بعد؟/ حسن النيفي
2025.03.18
الخطاب الذي صدّرته السلطة الحاكمة إلى الرأي العام منذ انطلاقة معركة ردع العدوان (27 نوفمبر) كان خطاباً مطمئناً بما ينطوي عليه من استعداد كبير للتحلّل من قيود الأيديولوجيا وتجاوز جدرانها الصلبة، كما كان يحيل هذا الخطاب إلى استعداد بدرجة مقبولة من هيئة تحرير الشام للتحوّل من طور الفصائلية الجهادية إلى طور الوطنية العامة باعتبارها الحامل الحقيقي لمفهوم الدولة.
وقد جسّدت التصريحات المتعاقبة – آنذاك – لقيادة العمليات العسكرية المتمثلة بالسيد أحمد الشرع، ترجمة تركت أثراً طيباً لدى الرأي العام السوري وخاصة فيما يتعلق بعملية التحرير التي لم يدّع الرئيس الحالي للبلاد احتكارها لجهة محدّدة أو فصيل معيّن، وإنما أسداها لأصحابها الحقيقيين بإشارته إلى دور جميع السوريين ممّن قدموا التضحيات سواء أكانوا من المعتقلين أو النازحين وحتى شهداء البحار الذين قضوا بين أمواجها، وذلك عبر مسعى واضح لتفنيد مقولة ( من يحرر يقرر) التي بدأت تتعالى هنا وهناك، وبهذا استطاعت السلطة الحاكمة تَحاشي وتحييد كثير من الانتقادات والاعتراضات التي وُجِّهت لحكومة تصريف الأعمال من حيث انبثاقها من لون واحد، مُعلِّلةً ذلك بضرورة توفّر عنصر الانسجام في العمل بين الفريق الوزاري، باعتباره الفريق ذاته الذي تشكلت منه (حكومة الإنقاذ) في إدلب.
جاء الاستحقاق الثاني الذي انتظره السوريون، بل ربما عوّل عليه كثيرون بأنه سيكون منطلقاً تأسيسياً جديداً للدولة السورية، وسيكون ترجمة حقيقية لمفهوم المشاركة في رسم ملامح سوريا التي يتطلع إليها السوريون، ولكن انعقاد المؤتمر بطريقة مباغتة يومي (24 – 25 – شباط الماضي)، إضافة إلى طبيعة الدعوات ووقائع الحوار وفحوى مخرجاته، بل الأهم من ذلك اللجنة التحضيرية التي اتسمت باللون الواحد أيضاً ووسمتْ معايير الدعوات وفقاً لمزاجيتها، لعل هذا كله قد فتح الباب من جديد إلى تسلّل الشكوك والريبة إلى نفوس شطر كبير من السوريين وربما بدا يؤسس لقناعة توحي بأن المراد من براغماتية الخطاب لدى السلطة هو مجرّد الاحتواء للرأي المخالف والتفافٌ عليه أكثر ممّا هو نزوع فعلي نحو مفهوم المشاركة، كما بدا يشيع الاعتقاد لدى بعض الأوساط السورية بأن المَعني الحقيقي في خطاب السلطة هو الرأي العام الخارجي الذي تحرص القيادة الجديدة على كَسْبه واستثماره باعتباره الخطوة التي تمهّد السبيل لحيازة الشرعية الدولية ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، ومع الإقرار بمشروعية هذا النهج – وفقاً لكثيرين – إلّا انه بالنتيجة سوف ينتهي إلى تكريس مبدأ الإقصاء والتهميش، بل ربما إلى التفرّد والاستبداد.
ثم جاء الاستحقاق الثالث التي طالما انتظره السوريون بمزيد من الترقّب، وأعني الإعلان الدستوري الذي لم يكن بالمستوى الذي يتطلع إليه الكثير من السوريين، وليس المعني بهذا الاستياء هم المكوّنات العرقية غير العربية أو الطوائف الإثنية فحسب، بل شطر كبير أيضاً ممّن يحرصون على نجاح السلطة في عبورها للمرحلة الراهنة نحو ضفة الأمان.
ثمة تحدّيات هائلة تواجه الحكومة الحالية ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها، لعل في طليعتها التحدّيات الأمنية التي تتمظهر بأكثر من حالة، بدءً من مواجهة فلول النظام البائد التي أودت بأرواح مئات الضحايا سواء من قوات الأمن العام أو من المدنيين، ومروراً بالمناطق التي ما تزال القوى العسكرية فيها تتردّد بالاندماج بمؤسسات الدولة، وصولاً إلى التحديات الإقليمية التي لم تتوان عن النفخ في النار السورية بغية ازدياد لهيبها، وفي مقدمة تلك القوى إيران وإسرائيل، فضلاً عن
الشطر الآخر من التحدّيات ذات الصلة بالعقوبات الاقتصادية التي غالباً ما تخرج عن سياقاتها القانونية لتصبح سبيلاً للاستثمار والابتزاز السياسي من جانب الدول ذات المصالح في الشأن السوري.
لا شكّ ان هذا المشهد الساخن يُنذر بالانفجار ويرتفع فيه منسوب الخوف لدى غالب السوريين من أن تتحوّل هذه التحدّيات إلى معضلات حقيقية تفتح الأبواب لانفجارات داخل المجتمع السوري من جهة، وتمنح الذرائع للمزيد من التدخلات الخارجية من جهة أخرى.
وحيال هذا الواقع المخيف والمُقلق يقف الفاعلون السوريون عبر أنساق ثلاثة، يتصدّرهم الجمهور العام للثورة، بمن فيهم القوى المؤطرة سياسياً من أحزاب وتيارات وتجمعات وطنية، سواء من القوى الوطنية التقليدية التي سبق تاطيرها انطلاقة الثورة، أو ممّن تشكلت ما بعد 2011 ، ولعل السمة المشتركة لهذه القوى أنها بمجملها أقوى مدنية بعيدة عن التشكيلات العسكرية، ولكنها ناضلت عبر سنوات وجسّدت جانباً من النضال السلمي للسوريين في سبيل التغيير، وهي وإنْ لم تخفِ اختلافها الفكري والسياسي مع القوى الإسلامية التي وصلت إلى سدّة الحكم، إلّا أنها شديدة في حرصها على المنجز الذي تحقق في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، وهذا ما جعلها تطوي جانباً جميع توجساتها السابقة، وتعمل على دعم التجربة التحررية السورية بعيداً عن أي اعتبارات فكرية أو عقدية، بل يمكن التأكيد على أنها باتت شديدة الاستعداد لتوظيف كل طاقاتها في دعم السلطة الجديدة ورفدها بالخبرات والكفاءات العلمية والمهنية، إلّا أنها – وخلال الأشهر الثلاثة الماضية – كانت تصطدم على الدوام بحائط صدّ من جانب السلطة الجديدة، وهذا الموقف ذاته تكرّر حيال مبادرة العديد من الشرائح المجتمعية الأخرى، كالضباط المنشقين عن النظام والقضاة والفئات المهنية الأخرى.
في حين تقف في الطرف المقابل فئة أخرى ممن لا تجد لها أي مصلحة في عملية التغيير الوطني، فهؤلاء وإن لاذوا بالصمت طوال الأشهر الماضية، إلّا أنهم اليوم وجدوا ما يتيح لأصواتهم أن ترتفع، وقد وجدوا في تعقيدات المشهد السوري فرصة جديدة لممارسة التربّص وتصيّد المواقف بغية الاصطياد بالماء العكر، ولعل الصورة المثلى التي تتجلّى فيها هذه الحالة هي التظاهرة التي خرجت في باريس يوم السادس عشر من آذار الجاري والتي تزعّمها الشاعر (أدونيس) وقد تحلّق حوله رهطٌ من مريديه ومعجبيه، وذلك استنكاراً لما جرى من تجاوزات بحق الطائفة العلوية في الساحل السوري، والمعروف لدى السوريين أن أدونيس ومن في فلكه قد باركوا للنظام الأسدي قتله للسوريين بكل صراحة ووضوح، ولم يكن لبراميل النظام ولا سلاحه الكيمياوي الذي حصد أرواح عشرات الآلاف من السوريين أي مدخل إلى ضمائرهم التي لا يوقظها من سباتها سوى السعار الطائفي.
وحيال هاتين الفئتين المتباينتين تمضي السلطة الحاكمة في تعاطيها الذي حدّدت مساره منذ اليوم الأول للتحرير، فهي ترفض أي تفاعل إيجابي مع الفئة الأولى بذريعة أنها لا تؤثر التعامل مع الأحزاب أو أي أطر سياسية أخرى، وكان العمل الحزبي رجس من عمل الشيطان. وحتى على مستوى الأفراد فهي ما تزال تؤْثر الاستمرار في الاعتماد على موالي النظام البائد ومؤيديه وخاصة في قطّاع السفارات والمفاصل الحسّاسة من مؤسسات الدولة، على العديد من الشخصيات المنتمية إلى جمهور الثورة من أصحاب الكفاءات والخبرات، علماً أن معظم الراغبين في العمل بالشأن العام يُجمعون على أحقية القيادة الجديدة في إدارة البلاد، ولا أحد يسعى للمنافسة على حيازة القيادة، فما الذي يجعل السلطة أكثر ارتياباً من نظرائها في الثورة؟
لا شك أن عملية (ردع العدوان) جسّدت نقطة تحوّل نوعي في مسيرة هيئة تحرير الشام، ولكي يكون هذا التحوّل شاملاً لسوريا جميعها فهو يحتاج إلى جهود كل السوريين.
تلفزيون سوريا
—————————
الأخطار التي تهدد سوريا داخليا وخارجيا/ رياض معسعس
تحديث 18 اذار 2025
«عليك يا سوريا السلام ونعم البلد هذا للعدو» قالها هرقل وهو يغادر سوريا بعد هزيمته النكراء أمام جيش المسلمين الذي انتصر على الروم في معركة اليرموك في العام 636 م.
وبقيت سوريا نعم البلد لكل الأعداء الذين حاولوا غزوها، لأنها كانت دائما الأرض التي تطلعت كل القوى بالسيطرة عليها لخيراتها، وموقعها الذي يضم مقدسات الأديان التوحيدية، ولكونها بلدا حضاريا وذا ثقافات متعددة، ومكونات اجتماعية مختلفة. فهي عرفت الفرس، والرومان، واليونانيين، والعرب، والبيزنطيين، والصليبيين، والمغول، والتتار، والمماليك، والعثمانيين، والفرنسيين، ولكن اليوم وبعد تقطيع أوصالها وسلخ فلسطين، ولبنان، والأردن منها تقع فريسة قوى متعددة تبحث جميعها السيطرة عليها، أو احتلال أراضيها، أو تجزئتها. والأخطار التي تتهدد سوريا اليوم تأتي من الداخل أيضا وربما كانت أشد خطرا من الخارج.
تتمثل الأخطار الداخلية بمجموعة عوامل تجعل الوضع الداخلي السوري على صفيح ساخن، خاصة وأن النظام المخلوع خلف وراءه مجموعة كبيرة من الألغام الاجتماعية، والطائفية، والعرقية القابلة للانفجار، وزج البلاد في أتون حرب أهلية. فهناك مجموعة كبيرة من فلول النظام لا تزال تمتلك الأسلحة وتقوم بهجمات ضد قوات الأمن للنظام الحالي، عدا عن مجموعات كانت تعمل لصالح النظام ويستخدمها في تنفيذ أعمال مختلفة من قتل، وتهريب أسلحة ومخدرات، وترهيب الناس، كميليشيا محسن الهيمد التي واجهت قوات حفظ الأمن في مدينة الصنمين في منطقة حوران. كما أن هناك اللواء الخامس بقيادة أحمد العودة في نفس المنطقة الذي دخل في مفاوضات مع الحكومة الحالية، وهناك بعض فلول النظام في منطقة الساحل التي تقوم بهجمات متكررة على قوات حفظ الأمن، وهناك من يطالب بالانفصال عن الدولة الأم، وفي منطقة دير الزور التي تضم أيضا بعض الجماعات المسلحة التي ترفض تسليم اسلحتها وتهاجم قوات الأمن. لكن الخطر الأكبر يكمن في منطقة جبل العرب في الجنوب، وفي منطقة شرق الفرات في الشمال، في الجنوب في منطقة جبل العرب تسعى إسرائيل لفصله عن سلطة دمشق عبر ضخ أموال ( وعدت بضخ مليار دولار لتحسين أوضاع المنطقة ككل) من ناحية، والسماح للسكان بالعمل في إسرائيل مقابل أن يقوم الدروز بالمطالبة بحكم فيدرالي وحكم ذاتي، وقد قام رئيس وزراء دولة الاحتلال بتهديد السلطة الحالية وحذرها من إرسال قوات إلى الجنوب، وقد قامت مجموعة من الضباط بتشكيل مجلس عسكري برئاسة طارق الشوفي لحماية جبل العرب، وقد شهدت مدينة جرمانا ذات الأكثرية الدرزية مواجهات مسلحة مع قوات الأمن أسفرت عن قتلى وجرحى.
لم تتقبل فلول النظام من عساكر وضباط المنتمين معظمهم للطائفة العلوية الهزيمة التي منيت بها في أقل من أسبوع بسقوط نظام استمر زهاء نصف قرن ونيف بني على الطائفية، ودولة المخابرات، والفساد، والمحسوبيات، والاغتيالات السياسية، والمجازر الجماعية، واضطهاد الأكثرية السنية واستخدام كل الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيميائية لقتل أكبر عدد منها، وتهجير الملايين إلى خارج تراب الوطن، ونزوح ملايين آخرين هدمت بيوتهم بالبراميل المتفجرة ليسكنوا مخيمات لسنين طويلة. بعد السقوط المدوي للنظام لجأ معظم هؤلاء للعراق، ولبنان وقاموا بالتخطيط بقيادة ضباط الفرقة الرابعة التي كان يترأسها ماهر الأسد بالهجوم على قوات الأمن في مناطق متعددة من الساحل السوري معقل الطائفة العلوية ممولين ومسلحين من إيران، ومن ميليشيات عراقية، وبدعم من قوات سوريا الديمقراطية الكردية بهدف الانقلاب على الثورة، والنظام الجديد، وشق صف الشعب السوري، والانفصال عن الدولة المركزية، وحسب مصادر متعددة بأن هذه العملية تمت باتفاق مشترك بين أكثر من جهة إيرانية، وروسية وربما عربية من الخارج. ورغم فشل المحاولة ومقتل عدد كبير من عناصرها إلا أن الأخطار كامنة.
منذ بداية الثورة في العام 2011 قام حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بقيادة صالح مسلم بالنأي بنفسه عن الثورة (المجلس الوطني الكردستاني الذي تأسس في العام 2011 التحق بالثورة وبالمجلس الوطني السوري في بداية الثورة) وقام بالتنسيق مع النظام بالاستيلاء على مساحات واسعة من شرق الفرات بعد أن انسحبت قوات النظام منها طوعيا، وتم تشكيل ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي ومع الهجوم السريع «لداعش» واحتلال مساحات واسعة من سوريا تدخلت قوات أمريكية وبنت قواعد في المناطق المسيطر عليها من «قسد» ودعمتها لمحاربة «داعش» وتمكنت مع قوات التحالف من هزيمة «داعش» والسيطرة على ربع مساحة سوريا الواقعة شرق الفرات والتي تضم معظم آبار النفط والغاز، والأراضي الزراعية الخصبة، وأعلنت الاستقلال الذاتي.
الأخطار الخارجية تكمن أولا في دولة الاحتلال التي تسعى علانية لتغيير الشرق الأوسط حتى لو لزم ذلك بالحرب كما صرح المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي، وقد قام جيش الاحتلال بخرق اتفاقية فصل القوات الموقعة في العام 1974 واحتل عدة مناطق في منطقة القنيطرة، وقمة جبل الشيخ، وتتمركز في أكثر من نقطة على الأراضي السورية، كما قامت بتدمير المنشآت العسكرية البرية والبحرية في عدة مراكز على الأرض السورية دون وازع، وقامت الإدارة الحالية بتقديم شكوى إلى الأمم المتحدة بهذه الانتهاكات الصارخة على الرغم من تصريحات الإدارة السورية بأنها لا ترغب في الدخول بأي مواجهة عسكرية مع أحد. وتأتي كل هذه الانتهاكات في ظل حكم الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب التي لم تظهر أي اعتراض على الاعتداءات الإسرائيلية وكأنها توافق ضمنيا على هذه الانتهاكات، خاصة وأن ترامب كرر ضرورة توسيع الرقعة الجغرافية لدولة الاحتلال التي يرى بأنها صغيرة مقارنة بمساحة العالم العربي. في الدرجة الثانية تأتي أمريكا التي بنت قواعد عسكرية في سوريا وتدعم قوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي تحتل حوالي ربع مساحة سوريا، كما تحتل في الجنوب السوري في منطقة التنف التي بنت فيها قاعدة عسكرية أخرى. ولا تزال القوات التركية التي تدعم الإدارة الحالية في سوريا تتواجد في أكثر من نقطة في شمال غرب سوريا.
وتبقى إيران الخاسر الأكبر من جراء سقوط النظام السوري الذي كان يؤمن خطوط الإمداد لحزب الله في لبنان، ولم تعترف حتى الآن بالوضع السوري الجديد، وتسعى بطرق مختلفة لقلب النظام في دمشق لعودة نفوذها إلى سوريا بدعم فلول النظام البائد.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
إيران وإسرائيل في المشهد السوري: صراع نفوذ أم صدفة؟/ د. مثنى عبدالله
تحديث 18 اذار 2025
ألقت الأحداث الأخيرة التي شهدتها سوريا، حزمة ضوء كبيرة على التحديات الأمنية التي يواجهها النظام السياسي الجديد. وهي واحدة من الرهانات الكبيرة التي تقف بوجهه، وربما تحول دون بسط نفوذه على كامل التراب السوري. فالتصعيد الأمني الأخير هو الأعنف منذ الإطاحة بنظام الأسد في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2024. فقد حصلت اشتباكات بين قوات الأمن والفصائل المسلحة الموالية لها، وبعض ممن يوصفون بأنهم موالون للنظام السابق في المنطقة الساحلية في غرب البلاد. ويقينا أن ما حدث لا يمكن حصر أسبابه بأسباب داخلية فقط، بل يعود أيضا إلى ما يحدث في الإقليم بشكل عام.
بداية لا بد من القول إن الحدث لم يكن وليد اللحظة، أو رفسة أخيرة لمن ينازع الموت، بل كان تحركا عسكريا مُنظما يبدو أنه يُقاد من غرفة عمليات واحدة، أدارت المجموعات المسلحة التي استهدفت قوات الأمن العام، وحاصرت الكثير من مقراته.
على الجهة المقابلة كانت ردة الفعل كبيرة للغاية من قبل الفصائل المتحالفة مع هيئة تحرير الشام. ومن راقب طبيعة العمل العسكري لهذه الفصائل على مدى السنوات الماضية، فإنه كان يقوم على مسألة النفير العام عند وقوع حدث ما، والتوجه بشكل جماعي إلى منطقة الحدث، ثم التعامل مع الحالة، وفق اجتهاد كل فصيل على حدة. وهذه هي طبيعة العمل في كل الفصائل المسلحة، حيث من الصعب حصرها تحت توجيهات غرفة عمل موحدة. وقد انعكس هذا الأمر بشكل واضح في المواجهة الأخيرة، حيث حدثت انتهاكات من قبل الميليشيات المسلحة التي استهدفت قوات الأمن العام، وكذلك المواطنين المدنيين على الطرق العامة، وقابلتها انتهاكات من الطرف الآخر أيضا. فكانت ساعات عصيبة وقاسية جدا واجهها المدنيون السوريون، بحيث غاب الحدث الأساسي الأول وهو الحدث الأمني، وحظر في التفكير حصيلة المواجهة وهم مئات القتلى، ومنهم من الطائفة العلوية. إذن نحن أمام مشهد توقعه الكثير من التحليلات السابقة، التي قالت إن هناك تنسيقا كبيرا بين مجموعات مؤيدة للنظام المخلوع، تعد العُدة للقيام بعمليات أمنية ضد النظام الجديد. ويبدو أن ذلك لم يكن غائبا عن تفكير القيادة السورية الجديدة، فالرئيس أحمد الشرع قالها علنا إن (ما يحصل في البلد هو تحديات متوقعة، لكن يجب أن نحافظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي قدر المُستطاع). والحقيقة أن هذه التحديات هي نتاج منظومة سابقة استمرت في سوريا ستة عقود، منها 54 عاما لمنظومة آل الأسد، مُورس فيها العديد من المجازر بشكل مُنظم، سواء مجازر حماه في عام 1982 وصولا إلى كل ما شهدته سوريا منذ عام 2011 حتى سقوط النظام. وهذا أنتج مجتمعا سوريا مُدمّرا، وشخصية وطنية تعرضت لكل أنواع الانقسام. وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقة أساسية وهي أنه كان من المنتظر أن تكون مقاومة النظام السابق في منطقة الساحل السوري، ومع الانهيار الكبير في الجيش السوري، وتساقط المدن بيد هيئة تحرير الشام، بالفعل انسحبت فلول النظام السابق الى هذه المنطقة، وبدأت تعيد تنظيم صفوفها. وبمرور الوقت بدا تأثير التحركات الإقليمية واضحا على ما يجري في غرب سوريا، حيث تم الحديث عن اجتماعات في محافظة النجف العراقية بين مستشارين إيرانيين وميليشيات عراقية وغير عراقية، نتج عنها تشكيل ما يسمى المقاومة الإسلامية في سوريا، حسبما أشارت إليه بعض الوكالات الإخبارية الإيرانية.
إن مشاريع إيران في المنطقة وفي سوريا على وجه التحديد بعد سقوط نظام الأسد واضحة جدا، وقد تحدث بها كبار المسؤولين الإيرانيين. كما أن هنالك علاقة تاريخية تجمع ما بين إيران وكبار الضباط في النظام السوري السابق، وهذا يعطيها ميزة التواصل المباشر معهم وتحريكهم. كذلك تتوفر إمكانية جيدة لإيصال السلاح لهم، لذلك كان التحرك الأول لقوات الأمن في النظام الجديد هو تمشيط الحدود العراقية السورية، لكن المشكلة أن هناك جزءا خارج سيطرة هذه القوات، وهي المنطقة التي تسيطر عليها قوات قسد، وهناك اتهامات بأن السلاح يأتي من إيران عبر هذه المنطقة. ولا شك أن إيران لديها مصلحة بحالة عدم الاستقرار التي يمكن أن تحدث في سوريا، وحالة نشوء ما يسمى مقاومة كالتي تم الحديث عنها آنفا، لأنها خسرت كثيرا مع سقوط النظام السابق. لذلك العبث الإيراني بات يتلاقى مع الأطماع الإسرائيلية وتعززها حالة سيولة الدولة التي تشهدها سوريا. وكل هذه الأمور هي وصفة سيئة للغاية. كما إن مشاريع إسرائيل موجودة أيضا فهي لحد الآن تضغط وبشكل كبير على النظام الجديد في سوريا، سواء عبر التوسع والسيطرة وقضم المزيد من الأراضي السورية، أو عبر إثارة حالة من الطائفية، كما جاء على لسان رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، من أن إسرائيل تحمي الدروز. وهذا يشير الى أن هنالك أيادي إسرائيلية في الجنوب. كما أن هنالك تواصلا مباشرا جرى بين قادة قسد وإسرائيل.
إن حالة الفوضى التي ظهرت خلال أيام الأحداث الدامية تتطلب تحديدا واضحا للمسؤوليات، رغم أن هذا الأمر في غاية الصعوبة. نعم إن مهاجمة المراكز الأمنية وحصارها من قبل الفلول، أدت إلى حالة الفوضى التي رأيناها. لكن عملية النفير العام للفصائل ودخول الكثير من الأطراف غير المنضبطة، لفك الحصار أدت الى الانتهاكات التي حصلت. وعليه فالانتهاكات كانت من جميع الأطراف والسلطة الحالية تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية عما حدث، ولن يستطيع أحد أن يقول إن كل ممارسات الأجهزة الأمنية الجديدة كانت ممارسات سليمة. كما لا يستطيع أحد أن يقول ليست هنالك أياد خارجية تُحرّك، وليست هنالك عصابات في كل المناطق السورية كانت مستفيدة من الكبتاغون ومن تهريب الآثار، باتت عاطلة عن العمل فأظهرت نقمتها في الحادث الأخير. لكن التحرك بشكل سريع لتقديم كل المنتهكين إلى العدالة ضرورة مُلحة أمام العهد الجديد.
يقينا أن ما حصل مؤخرا، كان أمرا مؤسفا للغاية، خاصة أنه كان من أهم شعارات الثورة السورية هو تحريم الدم المدني السوري. لكن إرث 54 عاما يبدو أنه ظهر اليوم في الحادث الأخير. وأن عكس هذه الحالة يتطلب المزيد من الوقت والعمل، وليس بإمكان الرئيس أحمد الشرع أن يصنع المعجزات في زمن قصير. لكن عليه أن يكون صارما أكثر كي لا يؤثر هذا الأمر على شرعية الإدارة السورية الجديدة، وفي مقدمتها الرئيس نفسه، خاصة أن هذا كان شرطا من شروط المجتمع الدولي للاعتراف بالسلطة الجديدة.
كاتب عراقي
————————-
هذا الفيديو دليلك إلى الكارثة السورية/ راشد عيسى
تحديث 18 اذار 2025
إلى ما قبل السادس من آذار/مارس الماضي، كانت أهزوجتنا اليومية الأثيرة عبارة تقول إن الأكثر صعوبة بات وراءنا، وإن المجزرة الموعودة، التي ظل النظام الأسدي البائد يخوّف بها العلويين، ويهدد بها كل الأقليات، بل الكون برمته، قد توارت الآن.
كنا نسخر من تصديق الناس لأكذوبة النظام هذه، تماماً مثلما سخرنا، وغضبنا طوال أكثر من عقد ممن صدّقَ وروّجَ لهتاف مزعوم على أنه رُدّد في تظاهرات السوريين: «مسيحية ع بيروت، وعلوية عالتابوت» (ما زلنا نصرّ على أنه هتاف مزعوم)، فلم يكن هناك أوضح من رغبة السوريين العارمة في حمل الثوار، أو المتضامنين مع الثورة، المتحدّرين من منبت أقلوي على الأكتاف، وقد حدث بالفعل عندما رُفع عارف دليلة ومنتهى الأطرش وآخرون، وعلى أكفّ الراحة. ولم يكن بالإمكان تكذيب عيوننا ومعايشاتنا وتصديق أكاذيبهم.
استحالة الإنكار
لذلك كان التلكؤ في تصديق المجزرة مفهوماً، فلا أحد يريدها، خصوصاً الإدارة السورية الجديدة، التي ضربت المثل ببراغماتيتها في سبيل الحصول على اعتراف دولي، يفضي إلى الإفراج عن أموال ومساعدات تُوسِّع عيش السوريين. وما دام هنالك وعد بالعدالة الانتقالية فلماذا سينغص السوريون المؤمنون بدولتهم الجديدة على أنفسهم احتفالهم بارتكاب مجزرة!
كان التلكؤ مفهوماً أيضاً في ظل طوفان الأكاذيب والأخبار المزيفة. إلى أن جاءت الأخبار من أسماء نعرفها ونثق بمصداقيتها، التي راحت تتحدث عن قرى وأهل وأسماء، ومن بينها المعارضة والمعتقلة السابقة هنادي زحلوط، التي نعت إخوة ثلاثة لها أعدموا ميدانياً، كما جاء في منشور لها على فيسبوك. فهذا صوت موثوق، يحكي قصة شخصية غير منقولة.
وكما يحدث دائمًا في المآسي، ستأتي اللحظة التي يصبح فيها الإنكار مستحيلًا. هكذا تتالت الأخبار عن قتل طائفي استهدف عائلات في حيّ القصور في مدينة بانياس، وفي سلسلة بلدات وقرى واقعة شمالاً على طول الساحل، بما في ذلك المختارية، والشير، والشلفاطية، وبرابشبو، حيث تتركز الطائفة العلوية، حسب تحقيق لـ «رويترز» نُشر منذ يومين.
ومع الأخبار وصلت فيديوهات عديدة، من بينها واحد كان الأفظع، لأم سورية أمام ثلاث جثث (لابنين وحفيد لها) ملقاة أمام البيت، فيما يجادلها قاتِلوهم بحوارٍ مخزٍ: «هذول ولادك.. نحن عطيناكم الأمان، بس أنتم غدارين»، و»استلمي ولادك». حوار مهين، لا لأنه طائفي وحسب، بل لأنه لم يراع أقدس المشاعر وأكثرها نبلاً. هل هناك أكثر توحشاً من أن يُقتَل أبناءٌ أمام والدتهم، ويُتركون جثثاً مكشوفة في الطريق، ثم يُشرِع القَتَلة بـ «مكايدة» الأم! قد يسعفنا هنا شطرٌ من قصيدة لمحمود درويش، فيما يتحدث عن محمد الدرة، الولد الفلسطيني الذي قُتل على يد جنود إسرائيليين على مرأى العالم كله في مشهد للتاريخ، عندما وَصَفَ فهداً رآه على شاشة التلفزيون يحاصر ظبياً رضيعاً، قالَ: «حين دنا منه شم الحليبَ، فلم يفترسه، كأن الحليب يروّض وحش الفلاة». أما هؤلاء المسلحون الطائفيون، قَتَلَة أبنائها، فلم يردعهم حليبٌ، ولا حَوَمَان أمٍّ في الثمانين حول جثامين أبنائها، فلقد جاءت التفاصيل الأخرى، ما وراء الفيديو، أفظع، حيث حُرمت مع دفنهم لأيام، فيما أصرّوا على الإقامة لبعض الوقت في بيت يقع قبالة بيتها.
مع هذا الفيديو، لا ينفع أن تستحضر أسباب الدنيا كلها لتبرير القتل، والأسئلة كلّها مألوفة ومكررة لتسويغ القتل في الحرب: اُنظر من الذي بدأ، اُنظر من قَتَلَ أكثر.. اُنظر إلى 13 عاماً من القتل والمجازر والتهجير والتدمير والبراميل العشوائية المتفجرة، وكل هذا صحيح، لكن هذا الفيديو بالذات يستحق انتزاعه من أي سياق، فما جاء فيه كافٍ لقراءة الكارثة التي تحلّ بنا، في أي مستنقع بتنا، بعد أملٍ واحتفال وأعراس نصر مديدة!
أخلاق الحرب
لماذا قُتل شبان مدنيون على الفور حتى قبل أن يجيبوا عن سؤال إن كانوا علويين أم لا؟ وحتى قبل أن يُسألوا إن كانوا مع النظام أم ضده، إن كانوا عسكريين أو مدنيين.. فالقتلة يعرفون أنهم في قرية علوية تستحق الإبادة، وهم «غدارون» بالجملة، يستحقون القتل حتى من دون محاكمة، و»الدعس»، والتنكيل، وانتزاع حقهم بدفن كريم. ليس هؤلاء هم أنفسهم الثوار الحالمين بدولة عدالة ومساواة، فمن يريد العدل حقاً يعرف أن «العين بالعين»، خارج نطاق القضاء، ستجعل العالم كلّه أعمى.
صحيح أن فلول نظام الأسد وشبيحته اتخذوا من الساحل أوكاراً لجريمتهم، وصحيح أن مشروعهم سيتقاطع مع رغبات دولية للانقلاب على الإدارة السورية الجديدة (روسيا للتفاوض على قاعدتين عسكريتين في الساحل، إيران التي لا تريد أن تصدق أنها خسرت سوريا ولبنان وغداً اليمن، وربما أطراف أخرى متضررة)، لكن هذا لا يسوّغ التعامل مع 9-11 بالمئة من السوريين (النسبة المفترضة للعلويين من السوريين) على أنهم غدّارون يستحقون القتل بجريرة جرائم الفلول، ولنفترض أنهم عسكر في غالبتيهم فلا يمكننا إنكار وجود مدنيين، ونساء وأطفال، وكبار سن.. (وبالطبع لم يصل الأمر إلى حدّ إبادة طائفة برمتها، ولكن الدخول إلى حيّ ومحاولة قتل كل من فيه هو صورة مصغرة عن رغبة أشمل، قد يسهم في تسهيلها ثقافة تكفيرية عند بعض الفصائل).
وإذا أردنا ألّا نثقل على الفصائل المسلحة، التي هبّت يوم إعلان «النفير» في عموم البلاد، يوم انقلاب الفلول، بالحديث عن شرعة حقوق الإنسان، وحقوق الأسرى، وقوانين الحرب، فيمكننا التذكير على الأقل بوصايا الخليفة أبي بكر الصديق لجيشه: «لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تقطعوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرّون بأقوامٍ قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له».
أو وصايا عمر بن الخطاب: «إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور».
إنها الرأفة حتى بكلب ونخلة! فما بالك بقتل نساء وأطفال وانتهاك حرمات البيوت وسرقات!
يجري الحديث، كنوع من التبرير لقوات الأمن العام الحكومية، عن انتهاكات فردية وفصائل مسلحة ليست تماماً تحت السيطرة، ولكن هناك فيديوهات عديدة للأمن العام بوجوههم الصريحة يظهرون فيها وهم يعتقلون أفراداً ملاحقين ومشتبها بهم ليست سوى انتهاك للكرامة أيضاً، ولو أننا هنا سنسعد أنهم لم يقتلوهم ويرموهم على قارعة الطريق، لكن لا تنكر تلك الرغبة بمحاكاة النظام البائد بانتهاكات مماثلة، فقد ظهرت فيديوهات طبق الأصل، فمقابل فيديو شهير لجندي نظام الأسد يدخل حي بابا عمرو الحمصي مع عبارة يقول فيها: «بابا عمرو سابقاً»، سنجد مقاتلاً مسلحاً يصور نفسه في فيديو يقول: «كان في قديم الزمان مدينة اسمها جبلة، اِلْتَعَن سلّافها، صارت صحراء، حرقوها حرق».
لقد أصبحنا في مواجهة مناخ عام مسموم يَسمح بارتكابات، وبعد أن تغنّينا لأربعة أشهر بطقس احتفالي مضاد تماماً، بتنا لا نجرؤ اليوم على مجرد الإشارة لأصغر انتهاك، يقرّ رئيس البلاد بحدوثها، ويعد بمحاسبة مرتكبيها، أما رفاق الطريق، الذين طالما نادوا بالحرية والعدل لنا ولشركائنا في البلاد، بل ودفعوا أثماناً من أجل ذلك، فما زالوا يعاندون.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي
————————–
المعضلة السورية والخروج الآمن/ د. حسن أبو طالب
18 مارس 2025 م
لا ينكر أي متابع لما يجري في سوريا، أكان عالماً بدهاليز السياسة أو شخصاً عادياً، أن سوريا تعيش الآن مرحلة مخاض مملوء بالاضطرابات والإشارات المتضاربة. فأبعاد المعضلة السورية تتكشف بين لحظة وأخرى، وما يوصف بأنه خطوة إيجابية مبشرة سرعان ما تتكشف تفاصيله، بأنه إما فاقد لآليات التطبيق، كما هي الحال في الاتفاق بين الرئيس أحمد الشرع والأكراد السوريين، ممثلين في زعيم «قسد» مظلوم عبدي، وإما يتجاوز طموحات قطاعات عريضة جداً من السوريين الآملين في العيش تحت سقف قانون عادل ومنصف، يرسخ المساواة بين كل السوريين، ومساحة من الحريات للجميع، أياً كانت طائفتهم أو دينهم أو منطقتهم الجغرافية.
فكثير من قرارات السلطة الجديدة وإن غُلِّفت بنيَّات حسنة، فإن أسلوب تطبيقها لا يوفر أساساً لمصالحة سورية عامة، ولا يعطي مؤشراً قوياً على أن المستقبل القريب يستند إلى آليات حكم غير التي كانت قبل اختفاء بشار الأسد وانهيار نظامه. والأمثلة كثيرة، فالمنهج الذي صيغت به الوثيقة الدستورية الموصوفة بأنها انتقالية، تشتمل على 53 بنداً، تماثل من حيث الشكل العام الدساتير الدائمة التي تصدرها الدول المستقرة، وفق إجراءات شفافة ومشاركة واسعة، وتخضع لحوار مجتمعي حقيقي؛ إذ لم يحدث شيء من هذا. فلجنة الدستور شُكِّلت بقرار رئاسي، ولم تتواصل مع مكونات الشعب السوري، وفي خلال أسبوع واحد وضعت وثيقة دستورية لخمس سنوات انتقالية مرة واحدة، تماثل من حيث الشكل أيضاً مدة رئاسية كاملة في كثير من الدول التي تعتمد أسلوب الانتخاب لاختيار الحاكم.
ولا أدري؛ لماذا لم تُشكل طاولة حوار مجتمعي موسعة تستمر شهراً أو شهرين، تشارك فيها رموز من مختلف المكونات السورية، وتُقر مبادئ لمرحلة انتقالية لفترة زمنية محدودة لا تزيد على عامين، وبعدها انتخابات حرة لبدء حياة سياسية مستقرة تعلن بها عن سوريا جديدة لكل مواطنيها؟
إن التسرع في إصدار وثيقة دستورية مفصَّلة توفر للرئيس سلطات واسعة -وإن قيل إن ظروف سوريا تتطلب يداً حازمة قادرة على التعامل الحازم مع التحديات- اتضح معه أن ردود الفعل من مكونات سورية كثيرة ترى الأمور عكس ما استُهدف، مما يضع أعباء على الرئيس وحكومته، في الداخل كما في الخارج. فهناك من يرى أن سوريا الجديدة لا تحمي كل مواطنيها، وبخاصة أصحاب العقائد ذات الخصوصية، ومن ثَم يبررون لأنفسهم تقديم مظلة حماية لهؤلاء المتضررين، ويستشهدون بما ورد في الوثيقة الدستورية وطريقة إصدارها.
داخلياً، «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية (قسد)، رأت أن الدستور الانتقالي يتناقض مع المبادئ الواردة في الاتفاق الموقع مع الرئيس أحمد الشرع. ومواقف فئات علوية ودرزية -وإن اختلطت فيها التحفظات والرفض والصمت- تعد إشارات ذات دلالة، وفي الخلفية من ينذر باللجوء إلى السلاح؛ سواء مَن يوصَفون بالفلول، أو بالمتشككين في النظام الجديد، ومن ثم فالأمر يتطلب معالجة رشيدة، بدلاً من أن تتفاقم الأمور، على النحو الذي تنذر به زيارات بعض رجال الدين الدروز السوريين إلى داخل الجولان المحتل، مع مراعاة أن من بين الدروز السوريين من انتقد الزيارة؛ رغم محاولات صبغها دينياً، ونفي دلالاتها السياسية.
وثائق الدستور في المراحل الانتقالية ليست وثائق مقدسة، فإن فرضَت التجربة العملية التغيير في بنيتها كلياً أو جزئياً، فمن الحصافة والحكمة لمن يملك القرار أن يتجاوب مع تلك التحفظات، وأن يوسع مساحة المشاركة، وأن يثبت وعوده في احتواء الجميع من دون استثناء.
معضلة الدستور الانتقالي تمتد إلى كثير من القرارات التي لم تضع في اعتبارها أن انهيار النظم لا يعني بالضرورة التخلص من كل مؤسساتها بجرة قلم، وبالأخص: الجيش، والشرطة، والاستخبارات، والخارجية، والتعليم، والاقتصاد. ففي تلك المؤسسات فئتان: الأولى هي العليا التي تماهت مع النظام السابق، ويُفترض التخلص منها ومحاسبة المخطئين بالقانون على تجاوزاتهم في حق الناس، والثانية الغالبية من التقنيين والإداريين، ولا يعدُّون مسؤولين كالفئة الأولى، وتظل لديهم معرفة معقولة بإدارة كثير من الملفات، والتي يحتاج إليها أي نظام جديد، وبقليل من الترشيد يظل هؤلاء عنصراً مهماً في بناء النظام الجديد.
والثابت أن نتيجة التضحية بالفئتين معاً والبدء من الصفر -كما يحلو للبعض وهم في حالة نشوة ثورية زائفة- تكون بلداً بلا جيش ولا أمن، ولا فئة تكنوقراطية، ولا خبراء ولا علماء، وبالتالي يضع النظام الجديد نفسه في دوامة لا نهاية لها، فضلاً عن أطماع خارجية شرسة.
وقد يجد البعض من صانعي النظام الجديد غضاضة في احتواء قطاعات من العاملين في تلك المؤسسات كأساس تقني يُعتمَد عليه، خوفاً من عدم الولاء للنظام الجديد، وهو أمر تغيب عنه التداعيات الخطرة التي يتضمنها لفظ آلاف من الموظفين والعمال، وتركهم وأُسَرهم بلا عمل ولا مورد رزق، ما يدفع كثيرين منهم إلى الانزلاق إلى أعمال عدائية؛ سواء فردية أو جماعية.
وفي التجارب التي شهدت تحولات ثورية عميقة، واعتمدت مبادئ العدالة الانتقالية منهجاً لإعادة البناء، انتقلت البلاد من الفوضى إلى الارتقاء، وشهد لها الجميع بالرشادة السياسية، وهنا يبرز كل من تجربتَي: رواندا في عهد بول كاغامي بعد المذابح الأهلية 1994 بين الهوتو والتوتسو، والتحول إلى بلد مستقر يحقق تنمية مشهودة، بعد اعتماد سياسة المصالحة الوطنية، ونبذ العنف والتعددية السياسية، وتجربة جنوب أفريقيا الشهيرة بعد سقوط النظام العنصري فيها 1990. قد تأخذ بعض تلك الإجراءات وقتاً لتصبح منهجاً مجتمعياً متكاملاً، ولكنها تستحق التطبيق.
الشرق الأوسط
———————————-
سوريا بين مطالب الخارج وتحديات الداخل/ أحمد محمود عجاج
رحل بشار الأسد وترك سوريا خربة؛ باقتصاد منهار، ونازحين بالملايين، ووضع داخلي مشتعل، وعقوبات دولية. حكومة الرئيس أحمد الشرع تبدأ من الصفر، وفوق ذلك عليها مواجهة أطماع إسرائيل، ومؤامرات إيران، ومطالب دولية جارحة للسيادة. فالشرع في ورطة: لا هو قادر على الحسم العسكري، ولا مستعد لقبول إملاءات الخارج؛ وهذا يستلزم منه براعة وصبرًا لاستيعاب التناقضات الدولية والإقليمية، والنفاذ منها للحفاظ على الكيان السوري، وإلا فإن التَّفتت وارد جداً أمام مطالب الدروز، والعلويين، وانفصال الأكراد.
إن رفض بعض زعماء الدروز الانضمام لسلطة الحكومة المركزية نابع من الدعم الإسرائيلي الفاضح، وشعورهم بأن الفرصة مواتية للفيدرالية؛ فالفيدرالية تُضعف سلطة الحكومة المركزية، وتقوِّي الأقليات على حساب الأكثرية، وهذا يمنح إسرائيل وإيران وغيرهما أوراقاً في الداخل السوري. هذا الكسب الفيدرالي يمثل خسارة كبرى لتركيا والعرب؛ الأولى تجد في الفيدرالية خطراً على أمنها. والعرب على أمنهم القومي، ووحدة تراب سوريا؛ لذلك شاهدنا اندفاعة دبلوماسية سعودية لتسويق الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة، واحتضاناً تركياً لتوفير حماية أمنية لها. وتجلى ذلك بدعم الحكومة السعودية السريع للسلطة السورية في أثناء تمرد الساحل، وبتحرك تركيا عسكرياً؛ وهذا لقي قبولاً من الإدارة الأميركية.
هذا التناغم دفع الأكراد للمسارعة إلى مصالحة السلطة في دمشق، وتوقيع اتفاق مبدئي معها، يعزز السلطة المركزية؛ وهذا سببه خوف الأكراد من سحب ترمب قواته من مناطقهم، وغياب روسيا بوصفها قوة رديفة. وبالفعل أكدت صحيفة «وول ستريت جورنال» دور أميركا في هذا الاتفاق مع دمشق. وهذا حشر الدروز في زاوية صعبة، لكونهم يشكلون اثنين في المائة من سكان سوريا، وليس منطقياً أن يُمنحوا هذا الامتياز الفيدرالي. كذلك الرئيس ترمب قد لا يسمح لإسرائيل بأن توسع تدخلها في سوريا؛ لأن ذلك قد يضر برؤيته المتمثلة في الانسحاب من المنطقة، وتسليمها إلى حلفائه لحفظ مصالح أميركا، مثل محاربة «داعش»، ونقل مساجينها إلى رعاية الدولة السورية بضمانة تركية؛ فترمب -رغم دعمه لنتنياهو- تفاوض فوق رأسه مع «حماس»، وأجبره على قبول اتفاق وقف إطلاق النار، وسيرغمه على تجنب أي مواجهة محتملة مع الأتراك؛ لأن ذلك قد يدفع الحكومة السورية إلى الارتماء أكثر في حضن أنقرة، علاوة على أن ذلك يبعد فكرة السلام في المنطقة، والتي من خلالها يريد ترمب أن يكون صانع سلام تاريخياً.
ومن حسن حظ الحكومة السورية أن أوروبا وروسيا منشغلتان بالحرب الأوكرانية، ولا ترغبان في تعقيدات بالشرق الأوسط، وبالذات أوروبا التي تخشى موجات مهاجرين، والتي تتطلع لإعادة السوريين إلى بلادهم. كما أن مسارعة الحكومة السورية لمعالجة التجاوزات في الساحل السوري، وتشكيل لجنة تقصٍّ، وتعويض المتضررين، قابله ارتياح أوروبي تمثَّل بدعوة المفوضية الأوروبية للرئيس الشرع لحضور مؤتمر المانحين لسوريا المنعقد أمس في 17 مارس (آذار) في بروكسل. فالخوف من تصدُّع سوريا هاجس أميركي وأوروبي، ولذلك أقنع الأميركيون فصائل التنف بالانضمام للدولة، وسمحوا لقطر بإمداد سوريا بالغاز.
وتدرك روسيا بالمقابل وضعها المتأزم مع الشعب السوري، وكل همها الآن إبقاء قاعدتها البحرية في طرطوس؛ لأنها المنفذ الحيوي للقارة الأفريقية؛ هذه المصلحة الروسية تجعلها على تضاد مع أي زعزعة إيرانية لسوريا.
هذه المعطيات الدولية ليست ثابتة، وعلى حكومة الشرع فهم تحولاتها وتقلباتها، لبناء الدولة القوية؛ فاللحظة مناسبة لتقديم مصالح شعب سوريا على مطالب الخارج، وبالذات رفض مخاوف الخارج المزيفة على الأقليات؛ فالمطالبة بتمييع الأكثرية -كما يقول وزير خارجية الهند جايشانكار- أصبح «مع الأسف موضة سياسية تجبر الأكثرية على إخفاء دينها». فسوريا الجديدة لن يكون فيها خوف على أقليات، ما دامت حكومتها تلتزم بالدستور، وحكم القانون، وتكافؤ الفرص، واحترام حقوق الإنسان، وما دامت تحظى بتأييد شعبها، وما دامت تحرص على التوافق السعودي- التركي الذي تحتاجه لسنوات طويلة.
سوريا اليوم ليس كتلك التي تركها الأسد؛ بل دولة يحميها الشعب، ويحضنها إخوتها العرب، ونموذج واعد للتعايش.
الشرق الأوسط
—————————–
استثمار “الانفجار الطائفي” في سوريا/ خالد الجرعتلي |حسن إبراهيم | علي درويش
خبراء يناقشون الدوافع الداخلية والخارجية
18 أذار 2025
شهدت سوريا خلال الأيام الماضية إحدى أسوأ موجات العنف منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول 2024، بدأت شرارتها بكمين من مسلحين موالين للنظام المخلوع في الساحل السوري أو من تصفهم الحكومة السورية بـ”فلول النظام”، استهدف عناصر الأمن في حكومة دمشق المؤقتة.
تحولت الأحداث سريعًا إلى مواجهات عنيفة دامية، ارتُكبت خلالها انتهاكات طالت مدنيين من أبناء الساحل السوري، واتّسم معظمها بطابع انتقامي وطائفي، وتضمنت عمليات قتل خارج نطاق القانون، شملت إعدامات ميدانية وعمليات قتل جماعي ممنهجة بدوافع انتقامية وطائفية، وفق ما وثقته تقارير حقوقية.
التوترات التي أعقبت الأحداث، وما رافقها من شعارات وأبعاد طائفية، بدأت في 6 من آذار الحالي، وأدت إلى مقتل 803 أشخاص خارج نطاق القانون، قوبلت بتنديد شعبي ورسمي محلي ودولي واسع.
وتزامنًا مع موجة العنف التي ضربت المنطقة، علت الأصوات السورية لنبذ النزعات الطائفية، وضرورة مكافحتها، والحفاظ على السلم الأهلي وعلى سوريا واحدة بجميع مكوناتها، وعدم جر البلاد نحو السمّ الطائفي، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف تداعيات الأحداث التي شهدها الساحل السوري، وسبل الوصول إلى حلول تخفف من وطأة النزعة الطائفية بين فئات من السوريين، ودور الحكومة فيها.
مبادرات وأصوات رافضة للطائفية
بالتزامن مع عملية “ردع العدوان” التي أدت إلى سقوط نظام الأسد، وهروب بشار إلى روسيا، بدا التأكيد واضحًا على تجنب ومنع إثارة النعرات الطائفية في سوريا وتصاعد لاحقًا، وحملت المعركة رسائل منع الاستهداف على أساس عرقي أو مذهبي أو طائفي، وما تبعها من اجتماعات وخطابات وتشكيل لجان، فكان نبذ الطائفية والمحاصصة ومنع تطييف المجتمع ومراعاة التنوع حاضرًا على لسان المسؤولين، بدءًا من رأس الهرم، أحمد الشرع، رئيس سوريا للمرحلة الانتقالية، وصولًا لمسؤولين في الحكومة.
وبالتزامن مع توترات الساحل السوري، قال الشرع، إن بعض الأطراف التي خسرت من الواقع الجديد في سوريا، تحاول أن تعيد نفسها إلى الساحة السياسية عبر إثارة النعرات الطائفية في سوريا، وإن احتمالات اندلاع حرب أهلية كانت كبيرة وقريبة.
لجان لتدارك الموقف
أصدر الشرع قرارين بتشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي في سوريا، مؤلفة من المكلف بتسيير أعمال محافظة اللاذقية حسن صوفان، والدكتور أنس عيروط، والدكتور خالد الأحمد، ولجنة تقصي حقائق مكونة من خمسة قضاة وضابط ومحامٍ، للتحقيق بعد الأحداث الدامية في مدن الساحل غربي سوريا.
عضو لجنة السلم الأهلي، الدكتور أنس عيروط، قال لعنب بلدي، إن الهدف الأساسي من عمل اللجنة هو تقديم الدعم المعنوي من خلال توطيد الأمن بين أفراد المجتمع بمختلف طوائفه وأديانه، وتقديم الدعم المادي من خلال الإغاثة لسد حاجة المحتاجين، وقد أشار إليهما باقتباس من القرآن الكريم: “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.
وأضاف أن أدوات السلم الأهلي كثيرة، ومن أهمها بث قنوات ومنصات التواصل الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع، وفتح باب الحوار من خلال عمل ندوات أو مجالس اجتماعية، وتكثيف اللقاءات، فهي بدورها كفيلة بقطع الألسن وتقريب وجهات النظر وإصلاح سوء التفاهم وإزالة الفجوة.
ومن أدوات السلم الأهلي، تشكيل مجلس إصلاحي من أهل العقل والرأي وتفعيله ليقوم بدوره في تحمل المسؤولية، ويكون صلة الوصل بين الأهالي والجهات الرسمية، وفق عيروط.
رجال دين ينظمون وقفة احتجاجية لمحاسبة مرتكبي الاعتداءات والتضامن مع الأمن العام والجيش السوري – 11 آذار 2025 (محافظة حلب/ تلجرام)
رجال دين ينظمون وقفة احتجاجية لمحاسبة مرتكبي الاعتداءات والتضامن مع الأمن العام والجيش السوري – 11 آذار 2025 (محافظة حلب/ تلجرام)
أبرز أعمال لجنة السلم الأهلي في الساحل السوري:
الاجتماع بالأهالي وممثلي الطوائف من أجل الحوار وطرح الحلول للوصول إلى السلم الأهلي.
تفعيل دور المخاتير واللجان الشعبية والتواصل معهم.
الدعوة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والاعتداءات من أي جهة كانت.
التوجيه لنبذ الخطاب الطائفي عن طريق الأئمة والخطباء.
التنسيق مع جهاز الأمن من أجل وضع الحواجز على مداخل البلدات والأحياء السكنية حماية لها.
دعم فكرة سحب السلاح من كل المدنيين وتسليمه لجهاز الأمن.
عيروط: نرفض الخطاب الطائفي
أكد عيروط أن العناصر العسكريين تلقوا توجيهات وتعليمات بعدم الاعتداء على المدنيين والأبرياء، وقد رأى العالم كيف دخلوا دمشق والساحل بـ”الأهازيج والأفراح” ودون قطرة دم واحدة، واستمروا على ذلك أكثر من ثلاثة أشهر، في منتهى التعايش والتلاحم، في سيطرة تامة على هذا الأمر من قبل الدولة وأهل الرأي والعقل، وجرت الحيلولة بينهم وبين الانتقام الذي كان متوقعًا في الغالب نتيجة المجازر التي ارتكبتها “العصابة الأسدية” باسم الطائفية.
وأضاف خلال حديثه لعنب بلدي أن ما حصل هو “تحريض الفلول أو عصابات الأسد البائدة”، والتجييش مع “الاعتداء السافر” على قوى الأمن والجيش ومحاصرة المستشفيات والمساجد، بالتنسيق مع بعض الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” وغيرهم، فكان ما كان من الجرائم والتنكيل بعناصر قوى الأمن والشرطة والجيش والمدنيين من جميع الطوائف الأبرياء، التي “راح ضحيتها أكثر من 300 شهيد فضلًا عن الجرحى”، وهنا كان لزامًا على الدولة التدخل بقوة وحزم حفاظًا على أمن الدولة والسلم الأهلي.
عيروط ذكر أن أرتال القوات الحكومية فكت الحصار عن مستشفى اللاذقية، وعملت على تطهير البلد من عصابات الفلول، وكل ما حصل من تجاوزات كان عقب دخول الأرتال، حيث دخل بعض الأفراد هنا وهناك من خارج المنطقة، وربما من أهل من جُرح ونُكب على أيدي الفلول وغيرهم، فأصبحت هناك عمليات انتقام فردية غير منضبطة.
لجنة السلم الأهلي أسهمت بتهدئة الوضع وتأمين الأهالي في بيوتهم، وعملت على اللقاء بأهالي القرى، وزارت قرى الطائفة العلوية مرارًا من أجل دعم أهلها وتأمينهم وتهدئتهم في قراهم وبيوتهم والعمل على صيانة شبكات الكهرباء والماء لعودة الحياة، ورد بعض المسروقات إلى أصحابها.
وقال عيروط، إنه يرفض الخطاب الطائفي جملة وتفصيلًا، خاصة أنه ليس من الدين، مع تأكيده على أن غرفة العمليات ومن بعدها الحكومة دعت العناصر إلى الانضباط بضوابط الدين والقانون والأخلاق.
وذكر عضو لجنة السلم الأهلي أن اللجنة أسهمت بتهدئة الوضع وتأمين الأهالي في بيوتهم، وعملت على اللقاء بأهالي القرى، وزارت قرى الطائفة العلوية مرارًا من أجل دعم أهلها وتأمينهم وتهدئتهم في قراهم وبيوتهم والعمل على صيانة شبكات الكهرباء والماء لعودة الحياة، ورد بعض المسروقات إلى أصحابها.
لا لتفكيك النسيج الاجتماعي
خرجت أصوات وبيانات ومبادرات مجتمعية رافضة للطائفية، ونددت بالانتهاكات وأكدت على التمسك بالوحدة الوطنية، والعمل المشترك لإعادة بناء سوريا وفق أحلام ورؤى أبنائها، منها بيان صادر عن كافة مكونات مدينة سلمية وريفها التي يقطنها مزيج من مكونات تنتمي لطوائف مختلفة.
بنود بيان صادر عن جميع مكونات مدينة سلمية وريفها:
التمسك المطلق بالسلم الأهلي ورفض أي محاولات لزعزعة الاستقرار أو العبث بالأمن العام.
الإدانة الشديدة للاعتداءات التي قامت بها فلول النظام السابق.
الإدانة الشديدة للاعتداءات الإجرامية التي تعرض لها الأهالي في مدنهم وقراهم على يد الأطراف الخارجة على القانون، والدعوة للعمل بشكل حازم على وقف نزيف الدم السوري.
الوقوف الكامل إلى جانب الدولة السورية ومؤسساتها الأمنية والمدنية في جهودها الرامية إلى حماية المواطنين وتعزيز الأمن والاستقرار.
تثمين عالٍ لقيام الدولة بتشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة.
حصر السلاح بيد الدولة.
دعوة جميع القوى الوطنية والمجتمعية إلى التحلي بأعلى درجات المسؤولية والوعي، ونبذ كل أشكال التحريض والفتنة.
دعم الدولة في مسيرتها نحو إعادة بناء دولة القانون والمواطنة وفق مبدأ التشاركية في صنع القرارات، والتأكيد على أهمية تطبيق العدالة الانتقالية.
التأكيد على وحدة التراب السوري ورفض أي محاولة للتقسيم، ورفض التدخلات الخارجية.
الترحيب بالاتفاق الذي جرى بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والحكومة السورية.
جامعة “قرطبة” الخاصة بمدينة حلب، نظّمت من جانبها وقفة للطلاب والكادر التدريسي والإداري، حملوا فيها الورود والمشاعل، ودعوا إلى وحدة أراضي سوريا وشعبها ودعم الجهود الحكومية في هذا الخصوص، مع نبذ خطاب التحريض والكراهية والطائفية.
رئيسة جامعة “قرطبة” الخاصة في حلب، الدكتورة لارا قديد، قالت لعنب بلدي، إن الخطاب التحريضي القائم على أساس طائفي يحدث شرخًا عميقًا بين مكونات الشعب السوري، ويعزز الانقسامات ويؤجج مشاعر الكراهية والعداء.
واعتبرت قديد أن هذا النوع من الخطاب يسهم في تفكيك النسيج الاجتماعي، ويزيد من حدة التوترات بين الطوائف المختلفة، وهذا بدوره يؤدي إلى تفشي العنف والنزاع.
وتابعت أن استمرار هذا الخطاب يفاقم الصراعات الداخلية ويزيد في الانقسامات المجتمعية، ما يشكل عائقًا أمام تحقيق السلام والاستقرار في البلاد.
ولفتت قديد إلى أهمية المبادرات السِلمية، ومنها الوقفة التضامنية في جامعة “قرطبة”، معتبرة أنها “خطوة مهمة نحو تعزيز التسامح والتفاهم بين مختلف مكونات المجتمع السوري”، لأنها تسهم في بناء جسور التواصل وتعزيز الحوار بين الطوائف المختلفة، والتأكيد على الالتزام بالسلم الأهلي وضرورة التسلح بالوعي الكافي بما يساعد على تقليل التوترات الطائفية.
في مدينة الباب بريف حلب، أثار تسجيل مصور نشره فريق “عبق التطوعي” غضبًا واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي (حُذف لاحقًا)، لأنه أظهر توزيع التمر على الصائمين في رمضان مع عبارات تحريضية ذات صبغة طائفية.
بعد موجة الغضب، أصدر الفريق بيان اعتذارًا لجميع السوريين وخصوصًا أبناء الطائفة العلوية، أكد فيه تحمله المسؤولية عن هذا الخطأ، وشدد على أن نيته لم تكن إثارة الفتنة أو التحريض.
لقيت الحادثة تفاعلًا أهليًا، فصدرت عدة بيانات استنكرت الأمر، منها بيان من المجلس المحلي في مدينة الباب، الذي رفض هذه السلوكيات، وتوعد باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للتحقيق في ملابسات الحادثة، وإحالة المسؤولين عنها للمحاسبة وفق القوانين، لافتًا إلى أن الفريق غير مرخص لديه.
عضو اللجنة السياسية في السويداء المحامي صالح علم الدين، انتقد خطوات اتخذها أحمد الشرع وحكومة دمشق المؤقتة، معتبرًا أنها خلقت نوعًا من الارتباك الطائفي والتفرقة بين مكونات الشعب السوري.
ويرى علم الدين أن إجراءات الحكومة والشرع كانت مخالفة لبناء الدولة الجديدة، ومنحت شكل الدولة لونًا واحدًا (من حل الدستور بالكامل، وزج مقاتلين أجانب في بنية الجيش)، وهذا ما أثار نعرات طائفية، وما يجري من انتهاكات في الساحل السوري، يحمل بعدًا طائفيًا وخلافًا وجوديًا، ولا بد من تفادي هذه الحالة ومراجعة الإجراءات والخطوات.
لماذا تصطف مكونات خلف اعتقاداتها
ربما لم تُطرح مسألة الأقليات والأكثرية في أي حقبة من تاريخ سوريا كما يشار إليها خلال الفترة الماضية، في وقت تقف فيه فئات من المجتمع السوري متحصنة بانتمائها الطائفي أمام مجموعات أخرى تنتمي لطوائف أخرى، لكنها تتخذ الموقف نفسه.
قرأ أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز “دراسات الشرق المعاصر” في جامعة “السوربون” الفرنسية، برهان غليون، مصطلح الأقليات في الظروف الحالية بأنه ذو معنى لا يتطابق مع شكله المعروف في كل مكان، وعلى مر العصور.
وفي كتابه “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات” قال غليون، إن معنى الأقلية يُستلهم دائمًا من الظرف التاريخي السياسي الذي يعطيه شحنة تخلية، وأبعادًا اجتماعية، يمكن أن تتراوح بين المطالبة بالمساواة والدعوة إلى الاستقلال وتكوين دولة منفصلة.
وأضاف أن الأمم جمعيها مكونة من أقليات، أي جماعات متعددة ومتميزة كل واحدة عن الأخرى، سواء كانت جماعات اجتماعية أو مهنية أو جغرافية أو قومية، ولا تكون هذه الجماعات دائمًا على المستوى نفسه من القوة أو النفوذ إلى السلطة.
مسألة ذات ارتباطات تاريخية
يحتل الموضوع الطائفي مساحة واسعة ضمن الأدوات التي استخدمت على مر السنوات في الحرب السورية، واستُغل هذا الواقع من قبل أطراف عديدة محلية ودولية، وفسّر الباحث علاء الدين الخطيب، في بحث نشره مركز “تواصل لمناهضة خطاب الكراهية“، خطورة هذا الخطاب بكون الإشكال الطائفي أزمة مستمرة تاريخيًا في العالم والمنطقة وفي سوريا، وهي جزء من حركة ارتداد أصولي عالمي وإقليمي نحو الهويات الضيقة، والأهم أن خطاب التحريض الطائفي يتيح للخطاب الشعبوي الكثير من الأدوات التي تخاطب العواطف الغاضبة أو المحبطة للجماهير.
الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام، قال لعنب بلدي، إن الإشكالية الطائفية في سوريا تعود جذورها لفترات زمنية أقدم مما يُنظر إليه اليوم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النظر إلى أماكن إقامة الأقليات الدينية في سوريا بالمناطق الجبلية التي يسهل الدفاع عنها.
وأضاف أن حالات الاضطهاد التي عانت منها الأقليات في سوريا على مر التاريخ، خصوصًا مع التغيرات السياسية التي مرت بها البلاد، ومنها “فتاوى ابن تيمية بقتل الأقليات”، شكّلت عقلًا جمعيًا عند الأقليات الدينية يخوّفها من الأكثرية في سوريا، وهو ما استثمر فيه النظام السوري السابق، بحسب قسام.
قسام قال أيضًا إن الانتهاكات التي تُهدد بها الأقليات، وحصلت في مناطق متفرقة خلال السنوات، منها بلدة قلب لوزة في إدلب التي تقطنها غالبية درزية، أسهمت في تشكيل حالة من عدم الاندماج بالمجتمع المحيط للفئة التي تعرضت للانتهاك.
ولفت إلى أن التحريض الذي لم يتوقف على مدار الأسابيع الماضية، دون رادع، أدى إلى أحداث الساحل السوري، وأسفر عن سقوط ضحايا من أبناء الطائفتين السنية والعلوية.
الإشكالية الطائفية في سوريا تعود جذورها لفترات زمنية أقدم مما يُنظر إليه اليوم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النظر إلى أماكن إقامة الأقليات الدينية في سوريا بالمناطق الجبلية التي يسهل الدفاع عنها.
خلافات في النسق الطائفي استغلها الأسد
يستند الخطاب المبني على الكراهية بشكل عام أو على الكراهية في النسق الطائفي في سوريا، بالتمايز في الهويات الدينية والمذهبية المتجذرة بالمجتمعات المحلية السورية، إلى تصورات نمطية وإلى حد ما عدائية تجاه الآخر، بناء على الهوية الطائفية وفق ما يراه الباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” طلال المصطفى.
المصطفى، وهو دكتور في علم الاجتماع، قال لعنب بلدي، إن الخطاب المبني على الكراهية يتغذى على مشاعر التهميش والخوف التي عادة يضخمها السياسيون، أي أن الفاعل السياسي هو الذي يضخم الحالة، إلى جانب الدور الذي تلعبه القيادات المذهبية أو الدينية في تضخيم هذا الخطاب أيضًا.
وأضاف أن الكراهية تؤدي بطبيعة الحال إلى المزيد من العنف الانتقامي، خصوصًا عند تحميل فئة أو جماعة مسؤولية تهديدات أو صعوبات تواجهها جماعة أخرى، بمعنى أن “نسق الطائفة هو بيئة خصبة لتصعيد العنف وتصعيد الكراهية”.
ولفت الباحث إلى أن النظام السوري عمل بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 على تأجيج خطاب الكراهية، ومع مرور الوقت صار حديث الشارع يركز على حرب غير معلنة طائفية ما بين السنة والعلويين، سواء عن وعي، أو دونه، وهو ما صب عليه نظام الأسد المخلوع جهده.
وأرجع الباحث جذور الخلاف الطائفي في سوريا إلى ما قبل عام 2011، لافتًا إلى أنها مرتبطة بالنسق السلطوي للنظام، وليست من مفرزات الثورة كما كان يحاول النظام المخلوع تصويره سابقًا.
من جانبه، قسّم الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام، نظرة الغالبية السنية للأحداث الطائفية في سوريا إلى تيارات متعددة، أبرزها التيار الذي عاش في شمال غربي سوريا الذي يفكر بعض أفراده من منطلق حالة انتقامية، نظرًا إلى أن أفراده هم من عاشوا في الخيام وتحت البراميل وعانوا من النزوح والقتل.
ولفت إلى أن الحالة المتناقضة جدًا في سوريا مفهومة حاليًا، على اعتبار أن العمليات الانتقامية تقاس كرد فعل من مجموعة لأخرى، الأولى كانت تتعرض لأقسى أنواع الاضطهاد، والثانية كانت تتشفى بجراحها.
وأشار إلى وجود تيار آخر في الغالبية السنية السورية، يؤمن بجوهر الإنسان، وجوهر المجتمع نفسه، وجوهر العلاقات الاجتماعية الطيبة بين الأفراد.
قسام قال أيضًا إن التيار الثالث هو التيار السياسي، وهو الذي يتصدر المشهد الإعلامي غالبًا، ويعتبر المحرك أيضًا للفئة الأولى، ويتيح له واقع الحال استخدام الخطاب الطائفي لتجييش الفئة الأولى بمعركته ضد الأقليات الدينية.
ولفت إلى أن استمرار هذا الخطاب لن يؤدي إلى استقرار، إنما سيعكس انتهاكات للحقوق على أساس طائفي ستعود للواجهة دائمًا.
الطائفية.. مخاطر وحلول
يعتبر التحزب والتخندق الطائفي أحد أسباب التدخلات الخارجية بالدول خاصة خلال القرنين الأخيرين، فالدول الغربية وتحت مسمى حماية الأقليات وجدت ذريعة للتدخل في شؤون العديد من دول المنطقة، ودعم مكونات دينية أو قومية على حساب أخرى، منذ زمن الدولة العثمانية.
في سوريا اليوم، تتعالى أصوات تحريض طائفي أو مطالبة بتدخل وحماية دولية، وهو ما يمكن أن يدفع سوريا إلى عواقب لا يحمد عقباها، وفق ما يراه مراقبون، فالأمثلة على ذلك متعددة.
مخاطر الوصاية الخارجية
دعا الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، خلال كلمة مصورة، في 9 من آذار الحالي، تعليقًا على أحداث الساحل السوري، دول الإقليم والعالم للوقوف إلى جانب سوريا وتأكيد احترامهم الكامل لوحدتها وسيادتها.
وشدد الشرع على أن “سوريا ستظل صامدة ولن نسمح لأي قوى خارجية أو أطراف محلية أن تجرها إلى الفوضى أو الحرب الأهلية، ونحن على العهد ماضون مصممون على المضي قدمًا نحو المستقبل الذي يليق بشعبنا العظيم”.
وقال وزير الدفاع في حكومة دمشق المؤقتة، مرهف أبو قصرة، إن “أكبر إنجاز بعد سقوط نظام بشار الأسد هو عدم اندلاع حرب أهلية”.
وذكر أبو قصرة خلال اجتماع في العاصمة دمشق حضرته عنب بلدي، في 22 من كانون الثاني الماضي، أنه “بوعي السوريين استطعنا تجاوز مرحلة الحرب الأهلية”.
بالمقابل، تظهر عدة أصوات في الساحل أو السويداء، أو حتى شمال شرقي سوريا، تطالب بتدخل دول خارجية، تزامنًا مع عملية إعادة بناء الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد.
وحول مخاطر الطائفية على وحدة سوريا، قال مدير قسم تحليل السياسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، الدكتور سمير العبد الله، إن للطائفية العديد من المخاطر، فبالإضافة إلى حالة الانقسام التي يعيشها المجتمع، وأعمال العنف في حال تطور الأمر، فهي تعزز من تدخل الدول الخارجية بالشأن الداخلي للبلد.
وتعمد بعض الدول لدعم أطراف ضد غيرها، ما يطيل أمد الصراع أو الخلاف، ويعرقل الاقتصاد والمشاريع، ويستنزف موارد الدولة، ويُنتج نخبًا ممثلة لطوائفها، بدل أن تكون نخبًا وطنية تمثل مصالح كل الشعب، وفق العبد الله.
وأضاف العبد الله لعنب بلدي أنه بالنسبة لسوريا “تجاوزت هذه المرحلة”، خاصة أن هناك رغبة دولية بنجاح الحكومة الجديدة، ودعمها لضبط الأوضاع، لكن إيران ستستمر بتحريك الطائفية، وروسيا ستراقب المشهد دون التدخل بشكل مباشر.
أبرز أخطار الوصاية الخارجية هو أن تتحول المصالح الوطنية إلى رهينة مباشرة لمصالح القوى الخارجية، بحسب ما قاله الباحث المتخصص في الشأن السياسي نادر الخليل، ففي الظروف الطبيعية، تسعى السلطة الحاكمة في أي بلد، مثل سوريا، إلى تحقيق توازن بين مصالح الأطراف الخارجية من خلال المساومات ومبدأ المصالح المتبادلة.
وأوضح الخليل لعنب بلدي، أنه في حالة الخضوع لوصاية خارجية، تصبح السلطة المحلية مقيدة بشكل قسري ومباشر بمصالح القوى الخارجية، ما يحدّ من قدرتها على المناورة.
تسعى أي سلطة حاكمة إلى تحقيق توازن بين مصالح الأطراف الخارجية من خلال المساومات ومبدأ المصالح المتبادلة، لكن في حالة الخضوع لوصاية خارجية، تصبح السلطة المحلية مقيدة بشكل قسري ومباشر بمصالح القوى الخارجية، ما يحدّ من قدرتها على المناورة.
ولفت إلى أن هذا الوضع غالبًا ما ينعكس سلبًا على مصالح المواطنين، إذ تُهمّش احتياجاتهم لمصلحة أجندات خارجية.
ومع ذلك، في بعض الحالات، قد تخدم الوصاية الخارجية مصالح المكونات المهمّشة أو المضطهدة، وهذا لا يحدث إلا في حالات تكون فيها السلطة المحلية منحازة بشكل كبير لمصلحة مكون معين على حساب باقي المكونات الأخرى، وفق الخليل.
واعتبر أن هذه الحالة المصلحية تؤدي إلى هشاشة الانتماء الوطني، وتجعل البلد المعني ضعيفًا وقابلًا للاختراق، وعُرضة للتدخلات المتكررة ويكون كيانه السياسي “هشًا للغاية”.
ما الحلول؟
صعّدت أحداث الساحل السوري من حدة الخطاب الطائفي في سوريا، نتيجة مقتل مدنيين على يد فلول النظام السابق، أو مدنيين من الطائفة العلوية من قبل فصائل عسكرية غير منضبطة.
ولم تقتصر حالة مخاطر المرحلة على الأحداث التي شهدتها المدن الساحلية في سوريا، إذ لا يزال الخطاب الطائفي يهيمن على وسائل التواصل الاجتماعي بين السوريين، في وقت تعمل فيه الحكومة للتخفيف من وطأة الأحداث.
الباحث نادر الخليل، يرى في تعزيز سيادة القانون وتجريم تمجيد “الأسدية” أحد مداخل الحل، عبر القوننة ومحاسبة المحرضين والمجرمين بحق الشعب السوري في عهد النظام الساقط، ومحاسبة المجموعات المنفلتة ومعاقبة المتورطين في الانتهاكات، والبدء بتطبيق العدالة الانتقالية، وتجريم التحريض على الكراهية.
وأضاف أن إصلاح النظام السياسي والتمثيل الشامل في الحكم، عبر تبني نظام سياسي يضمن التمثيل العادل لجميع الطوائف والمكونات، وتعزيز اللامركزية الإدارية لتقليل التوترات بين المناطق المختلفة، وتشكيل حكومة انتقالية تضم كفاءات من مختلف الانتماءات، بما يعكس تمثيلًا حقيقيًا لجميع السوريين، تعتبر خطوة ذات أهمية في هذا السياق.
ولفت الباحث إلى ضرورة إدخال مناهج تعليمية تركز على الهوية الوطنية الجامعة وتعزز قيم التعايش والتسامح واحترام الآخر، إلى جانب محاربة الخطاب الطائفي والتحريض، من خلال وسائل الإعلام ومنابر الخطاب العام، وتجريم الكراهية.
الخليل قال أيضًا إن تفعيل دور المجتمع المدني لدعم المبادرات التي تعزز الوحدة الوطنية ونبذ التعصب، ولعب رجال الدين دورًا في التوعية بخطورة الطائفية وتجريم الدعوات التحريضية ذات الطابع الطائفي، يمهد للوصول إلى حل للأزمة القائمة.
ونوّه الباحث إلى ضرورة إشراك المكونات والأطراف في الحوار الوطني، وإطلاق حوارات شاملة بين مختلف المكونات للوصول إلى عقد اجتماعي جديد يعزز الوحدة الوطنية، إلى جانب إعادة بناء الثقة، من خلال جلسات مصارحة وطنية، خاصة في المناطق المختلطة، لتعزيز التفاهم بين المكونات المختلفة.
واعتبر الباحث أن إقرار المسؤولية التاريخية وتشجيع قيادات الطائفة العلوية على الاعتراف بالجرائم المرتكبة في عهد النظام السابق، يعتبر خطوة مهمة وضرورية نحو المصالحة الوطنية.
من جانبه أوصى الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام بثلاث خطوات للوصول إلى حلول في تهدئة النزعة الطائفية على الساحة السورية، أولاها اتباع أسلوب تشاركي في إدارة الدولة، إلى جانب ضرورة أن يكون الإعلام السوري ذا أجندة واضحة وتوفير مصدر واحد للمعلومات، بعيدًا عن مجموعات المؤثرين في منصة “تيك توك” و”يوتيوب” وغيرهما.
ويرى قسام أن إقالة وزير العدل، شادي الويسي، تعتبر عاملًا ضروريًا في هذا الإطار، نظرًا للطريقة التي يُنظر إليه فيها، على اعتباره مسؤولًا عن انتهاكات موثقة سابقًا، واتباع خطوات عملية باتجاه الإصلاح القضائي والقانوني، لأن عدم تفعيل هذا الجسم كلّف السوريين الكثير من الانتهاكات، نظرًا إلى أنه عرقل المسار نحو العدالة الانتقالية.
ويرى الباحث في مركز “حرمون” طلال المصطفى، أن علاج الأزمة القائمة بحاجة لخطاب سياسي وطني شامل، وهذا من مهمة الدولة، والفاعلين السياسيين، الذين يجب أن يتبنوا خطابًا يطمئن الجميع، ويتجاوز التصنيفات الطائفية، وهو ما لم يظهر حتى الآن، نظرًا إلى أن إعلام الإدارة الجديدة لم يبرز بعد.
وأكد ضرورة مسألة إصلاح المؤسسات، خاصة القانونية منها، بهدف تحقيق عدالة شاملة، وتمثيل عادل لمكونات المجتمع بمؤسسات الدولة أيضًا.
ولفت إلى أن الإعلام يلعب دورًا كبيرًا في تضخيم الخطاب الطائفي، كما يمكن أن يكون له دور بتفكيك السرديات الطائفية، وتعزيز قيم التعايش عبر برامج إعلامية تعليمية.
المصطفى قال أيضًا، إن المبادرات المحلية تلعب دورًا جذريًا لبناء الثقة، مثل لجان مصالحة على مستوى البلدات أو الأحياء، وتنظيم حوار بين مكونات المجتمع، لافتًا إلى أن التوعية تحتاج إلى إرادة سياسية جديدة ورؤى سياسية بعيدة المدى تتجاوز هذه الموضوعات الضيقة ذات الطابع الطائفي.
الإعلام يلعب دورًا كبيرًا في تضخيم الخطاب الطائفي، كما يمكن أن يكون له دور بتفكيك السرديات الطائفية، وتعزيز قيم التعايش عبر برامج إعلامية تعليمية.
رئيس سوريا للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع خلال لقائه مع وفد من الطائفة المسيحية في مدينة دمشق – 31 كانون الأول 2024 (رئاسة الجمهورية)
رئيس سوريا للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع خلال لقائه مع وفد من الطائفة المسيحية في مدينة دمشق – 31 كانون الأول 2024 (رئاسة الجمهورية)
الصراع السياسي والانفجار الطائفي
السبب في تحويل الانتماء الديني إلى ورقة سياسية هو استخدامه من قبل الدول الاستعمارية لتوسيع دائرة نفوذها أو التدخل مباشرة سياسيًا وعسكريًا في الدول الجديدة الناشئة.
وفي مرحلة ثانية، توظيفه من قبل الأطراف السياسية المتنازعة على السلطة في هذه الدول ذاتها بالصراع على السلطة، بمعنى آخر، ليس الاختلاف الديني هو الذي يفسر الانفجارات الطائفية وإنما الصراع السياسي.
ولا توجد حروب أو صراعات دينية كبرى إلا في سياق هذا الصراع الخارجي الاستعماري أو الداخلي.
وقد تدفع الدول الأجنبية إلى هذا الصراع بهدف التدخل في شؤون الدول الصغيرة، وفرض الوصاية هو أحد أشكال هذا التدخل أو غايته لجعله تدخلًا دائمًا وبنيويًا يضمن مصالح الدولة المتدخلة بعيدة المدى.
وأخطار الوصاية هي ببساطة تقويض الدول الجديدة، وانتزاع أكثر ما يمكن من المصالح فيها، وحرمانها من أن تتكون كدول مستقلة، تعمل لخدمة شعبها لا لخدمة المصالح الأجنبية.
وإذا أرادت الدول الأجنبية المهتمة بالفعل أن تفرض الوصاية، فأسهل طريق هو أن تشعل الصراع الطائفي، وربما تشارك في إشعاله مباشرة وتزويده بالإمكانيات كي يتحول إلى حرب أهلية.
وما نشهده في سوريا اليوم من انفجار هو ثمرة مزيج من التدخل للقوى الأجنبية التي فقدت مواقعها ونفوذها في البلاد بعد 8 من كانون الأول 2024، وكذلك من رد فعل قوى النظام السابق لخسارتها مواقعها السياسية والاقتصادية.
أما فرص نجاحها فهي محدودة جدًا، لأن هناك إرادة دولية وإقليمية واضحة لتحجيم دور طهران ومنعها من استعادة مواقعها في المشرق ولبنان وسوريا خاصة، وكذلك بسبب فقدان نظام الأسد والقوى المرتبطة به لأي تعاطف أو قبول من قبل الجميع (السوريين والأجانب) نتيجة ما ظهر من جرائمه المنقطعة النظير بعد سقوطه، والتي جعلت قادته ملاحقين من قبل العدالة المحلية والدولية.
أما الحلول لتجنب ذلك فهي تكمن في وسيلتين، الأولى بالبدء بتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية الذي يضع حدًا لأوهام الانقلابيين الذين يريدون استعادة السلطة، كما يطمئن الناس من جميع الطوائف المتوجسة من بعضها البعض على احترام حقوقها الأساسية، وقصر العقاب على مرتكبي الجرائم الكبرى، وفتح الحوار والمصالحة بين الجمهور الواسع وإنهاء الخوف المتبادل لجميع الأطراف.
وفي سوريا يمكن لتشكيل حكومة اتحاد وطني شاملة أن يخفف أيضًا من الاحتقان والخوف على المستقبل.
وعلى المستوى الخارجي، من المفيد تنشيط العمل الدبلوماسي والسياسي لتهدئة غُلو (اندفاع وحماسة) الدول المتدخلة الخاسرة، وربما إيجاد حل دبلوماسي معها للتقليل من هذه الخسارة أو الشعور بها. وهذا ما يبدو لي أن الإدارة السورية تعمل عليه مع موسكو.
عنب بلدي
————————————-
==========================
=======================
وافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 18 أذار 2025
تحديث 18 اذار 2025
———————————————-
الوحدة أم التقسيم: إلى أين تبدو سوريا أقرب اليوم؟/ طارق علي
الأكراد والدروز والعلويون يصطدمون بتفرد السلطات الجديدة في الإدارة
الاثنين 17 مارس 2025
انبثق عن وصول “تحرير الشام” إلى الحكم تعيين أحمد الشرع رئيساً للجمهورية وولادة سريعة لحكومة تسيير أعمال ارتكبت أخطاء كارثية (أ ب)
ملخص
بعد مرور 100 يوم على سقوط الأسد، برزت مطالبات بالفيدرالية والتقسيم والتدخل الدولي، في ظل ضغوط داخلية وخارجية تواجهها الإدارة السورية، فإلى أي جانب تميل؟ وكيف تعاملت سلطات دمشق مع الملفات الشائكة داخلياً؟
مرت 100 يوم على سقوط نظام الأسد بعد حكم استطال 54 عاماً لعائلته، قبل أن يبزغ فجر غرفة عمليات “ردع العدوان” التي تمثل هيئة “تحرير الشام” عصبها الرئيس، بزعامة أبو محمد الجولاني، الذي بات الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع بعد الوصول إلى السلطة وسدّة الحكم بعد معارك الأيام العشرة التي تهاوى فيها جيش الأسد ومنظومته كأحجار الدومينو في واحدة من أسرع عمليات قلب حكم متجذر في التاريخ الحديث.
ما بعد السقوط
انبثق عن وصول “تحرير الشام” إلى الحكم تعيين أحمد الشرع رئيساً للجمهورية العربية السورية، وولادة سريعة دونما مخاض لحكومة تسيير أعمال ارتكبت هفوات وأخطاء ترقى إلى مرحلة الكوارث أكثر مما تمكنت من توفير ظروف إيجابية لبيئة الحكم المستجد، فالحكومة التي تجاوزت دورها القانوني والدستوري أقدمت على ممارسات تحتاج إلى حكومة دستورية توافقية حقيقية يحق لها التدخل في كل مفاصل البلد من أزمة المناهج وصولاً إلى صرف 400 ألف موظف حكومي بشكل تعسفي مروراً بعشرات القرارات التي تركت أثراً سلبياً ليس على رأسها استبعاد الخبرات والكفاءات والاستعانة بالولاءات من غير المتخصصين ولا قضية منح رتب عسكرية عليا لمتشددين أجانب، وصولاً إلى ما يراه مراقبون محاولة تعميم تجربة الحكم في إدلب بالقوة على كامل الجغرافيا السورية على مختلف مشارب وانتماءات سكانها وتنوعهم الإثني والديني والمذهبي.
حوار وطني وإعلان دستوري
كل ذلك كان قبل عقد مؤتمر حوار وطني “سُلِقَ” على عجل فجاءت مخرجاته وكأنه ما جرى، من ناحية الانتقائية في الدعوات والاستعجال في التحضير والبيان الختامي الجاهز مسبقاً، لتقود كل تلك الأمور نحو الوصول إلى الإعلان الدستوري الذي كرّس حالة الضياع الجمهوري للعهد الجديد.
الإعلان الذي طُبخ على عجالة أيضاً لاقى استهجاناً مرتبطاً بحال من الرفض لدى شريحة واسعة من السوريين الذين عبروا عن آرائهم في الملتقيات والمنتديات وحساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن ذلك الإعلان حمل في تفاصيله وشكله ومضمونه التهيئة لإنتاج نظام حكم شمولي – ديكتاتوري جديد يفصل السلطات عن بعضها شكلاً ويجمعها مضموناً في يد الرئيس الذي سيتولى معظم المهمات الدستورية العليا، لا سيما تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ورئاسة مجلس القومي، ورئاسة الحكومة والدولة وغير ذلك من سلطات يمكن أن تُحصَر في يده.
التفاف على التفاهم الكردي
ساء حظاً للسوريين أن الإعلان الدستوري جاء بعد يومين على توقيع مذكرة تفاهم في دمشق بين الشرع وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية (قسد)، مظلوم عبدي، التي حملت بريق أمل بدمج القوات الكردية في مؤسسات الدولة السورية إثر وثيقة تفاهم من بنود عدة ليأتي الإعلان الدستوري ضارباً بذلك التفاهم عرض الحائط.
“لدى ‘قسد’ قيادات علمانية راديكالية، وحين التعامل معها يجب توخي الحذر”، يقول الباحث الكردي هايل أحمد، موضحاً أن “الاتفاق الذي وقعه القائدان سقط مع الإعلان الدستوري الجديد الذي بدا أنه كمن يلتف على المبادئ الكردية ذات المطالب الواضحة في سياق تفعيل وضع التضامن والعيش المشترك تحت مظلة دولة لا دولتين، جيش لا جيشين، حقوق وواجبات مشتركة، تعايش سلمي تام الأركان والمقومات والمفاهيم، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية والمجتمعية واللغوية”.
تفاصيل الاتفاق
ويضيف الباحث “جاء في البيان الموقع، ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكل مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، والتشديد على أن المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية التي تضمن حقه في المواطنة وكل حقوقه الدستورية، ووقف إطلاق النار على كل الأراضي السورية”، وتابع “كما جرى الاتفاق على دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا ضمن إدارة الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، وضمان عودة كل المهجرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم وتأمين حمايتهم من الدولة السورية، ودعم الدولة السورية في مكافحتها فلول الأسد وكل التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها”.
ولفت أحمد “لكن الإعلان الدستوري أصر على دين رئيس الجمهورية ومصدر التشريع وأن اللغة العربية وحدها الرسمية، وما تبقى من بنود معظمها لا يتماشى مع الاتفاق الموقع مسبقاً، وهو ما شكّل صدمة لدى قيادة ‘قسد’، والأمر ذاته استدعى خروج تظاهرات في شرق سوريا ترفض الدستور الجديد وتعتبره نقضاً لاتفاق الشرع – عبدي وخنجراً من شأنه استمرار النزيف، وهو ما عبرت عنه القوات الكردية في بيان العالي اللهجة”.
البيان الكردي
ورداً على الإعلان الدستوري أصدرت قيادة منطقة شمال وشرق سوريا الكردية بياناً اتهمت فيه الإعلان الدستوري بأنه “نمطي وتقليدي” يتشابه مع المعايير والمقاييس التي كانت متّبعة من قبل حكومة البعث، وأكد البيان أن “هذا الإجراء يتنافى مع طبيعة وحقيقة وحالة التنوع الموجود في سوريا، كما أنه تزوير فعلي لهوية سوريا الوطنية والمجتمعية، إذ يخلو الإعلان من بصمة وروح أبناء البلد، ومكوناتها المختلفة، من كرد وعرب وسريان وآشور وغيرهم من بقية المكونات”.
وأكدت الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا أن “سوريا اليوم تحتاج إلى تكاتف أبنائها ووحدتهم على تقرير مستقبلهم الديمقراطي والمشاركة الوطنية السورية التي تعزز الشراكة في الوطن”.
كذلك أشارت قيادة الإقليم إلى أن “هذا الإعلان يفتقر إلى مقاييس التنوع الوطني السوري، ويخلو من حالة المشاركة الفعلية لمكونات سوريا الوطنية، ومن ثم يعبر هذا الإعلان من جديد عن العقلية الفردية التي تعد امتداداً للحالة السابقة التي وجدت في سوريا وانتفض الشعب ضدها”، وأضاف البيان الكردي أن “هذا الإعلان لا يمثل تطلعات شعبنا ولا يدرك حقيقة هويته الأصيلة في سوريا وهو بمثابة شكل وإطار يقوض جهود تحقيق الديمقراطية الحقيقية في سوريا وبنوده البعيدة عن سوريا وآمال شعبها”.
وترى القيادة الكردية أن الدستور الحقيقي هو الذي تتشارك فيه كل المكونات وتتفق حوله كونه المسار الديمقراطي المستدام لمستقبل سوريا ومستقبل أجيالها القادمة، مضيفة “نأمل في ألا تعود بنا بعض الممارسات والأفكار الضيقة إلى مربع الصفر، لأن ذلك سيجعل الجرح السوري ينزف من جديد”.
مجازر العلويين
تزامناً كانت قرى وبلدات ومدن الساحل السوري تشهد مجازر جماعية أسفرت عن مقتل وجرح آلاف المدنيين العزل، إثر حملة أمنية – عسكرية ضخمة استهدفت “فلول النظام” الذين نصبوا مكامن لقوات الأمن العام في أكثر من منطقة ما بين السادس والعاشر من مارس (آذار) الجاري، وقُتل قرابة 1500 مدني في 56 مجزرة وثقها المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يديره رامي عبدالرحمن من لندن، والذي وصف لجنة التحقيق التي شكلتها الرئاسة للنظر بما جرى في قرى الساحل بأنها “غير جدية”، إذ تجاهلت توصيف ما حدث بالمجازر والكارثة ومالت نحو توصيف ما حصل بـ”الحالات الفردية”.
أيام الرعب التي عاشها الساحل السوري أفضت أيضاً لآلاف المهجّرين، فمئات العائلات وجدت طريقها للعبور نحو لبنان من خلال النهر الشمالي باتجاه محافظة عكار، فيما لجأ على الأقل 9 آلاف شخص للاحتماء بقاعدة حميميم الجوية العسكرية الروسية في محيط قرية جبلة بمحافظة اللاذقية رافضين حتى الآن مغادرتها.
ولهول ما حدث، تعالت أصوات في الشارع السوري تطالب بالتقسيم أو الفيدرالية أو التدخل الدولي على أقل تقدير لحماية الأقليات بعدما كانوا تماهوا مع السلطات الجديدة وسلموا كل أسلحتهم إبان سقوط النظام.
أحد المحتمين في “حميميم” تحدث إلى “اندبندنت عربية” مفضلاً عدم كشف اسمه، عن محاولات السلطات الجديدة ممثلة بالقوى الأمنية ومحافظ اللاذقية إعادتهم إلى قراهم لكن قراراً شبه جماعي كان بالرفض، وقال “ما رأيناه وعشناه لن يُمحى من ذاكرتنا مهما حيينا، لا يزال ثمة آلاف العلويين مختبئين بالأحراش، كانت الأمور تسير بخير مع السلطة، لكن (الفزعات) الطائفية التي جاءت وقتلت نساءنا وأطفالنا وشيوخنا أوضحت أن ميثاق التعايش المشترك أصبح مستحيلاً، لذا نحن متمسكون بمطالبنا بالحماية الدولية لنا كأقلية، 1500 قتيل في 72 ساعة ليس رقماً عادياً، هذا رقم تنهار لأجله أمم، ولم يفكر مسؤول كبير أن يزورنا ليطيّب جراحنا، من يضمن ألا نُقتل بعد خروجنا من القاعدة”.
كمال عيسى أحد الناجين من مجزرة القصور في بانياس على الساحل السوري قال بدوره “كنا نعتقد أن طلب الحماية الدولية يندرج تحت بند الخيانة، وطلب التقسيم هو خيانة مضاعفة، الآن لا أحد يختفي وراء إصبعه، هذه سلطة عاجزة عن الوقوف في وجه متشدديها ومنعهم عنا، لم يتركوا لنا خياراً آخر، وها قد وقّعوا مع ’قسد‘ على ظهورنا ثم غدروا بهم، لننظر إلى حال الدروز، هل يتجرأ أحد من الاقتراب منهم، لماذا؟ لأن لديهم سنداً، أما نحن فبلا مرجعية أو قوة أو ظهر أو سند، ثم يقولون عنا فلول الأسد وإيران وروسيا وعملاء إسرائيل، هل الأطفال الذين قُتلوا في المجزرة وهم بعمر الأشهر فلول أيضاً؟”.
الموقف الدرزي
شكلت زيارة وفد من 100 شيخ درزي سوري لإسرائيل صدمة في الشارع السوري، حيث ما زالت مواقف الدروز متباينة من التصريحات الإسرائيلية في شأن حمايتهم ومنع أحد من الاقتراب منهم وفرض نزع السلاح في الجنوب السوري.
وفي الإطار برز أمس الأحد حديث مهم لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز ومرجعها الأكبر في سوريا، الشيخ حكمت الهجري، خلال لقاء مع أعيان من الجنوب في دارة الطائفة في بلدة قنوات بالسويداء وصف فيه حكومة دمشق بالمتطرفة وغير الشرعية والمطلوبة للعدالة الدولية وقال بأنه لا تعايش معها.
تلك التصريحات ربما تعكس المزاج العام، وهو المزاج ذاته الذي ينطلق من الخشية الدرزية – الكردية من إلقاء السلاح وملاقاة ذات مصير العلويين في الساحل، وعلى رغم خروج تظاهرات في السويداء ترفض التدخل الإسرائيلي فإن ذلك لا يعني الموافقة على سلوكيات سلطة دمشق، بحسب ما قاله بعض الدروز في حديثهم مع “اندبندنت عربية”.
طريف أبو جبل أحد سكان السويداء عبر عن موقفه بالقول “لن نضع يدنا في يد إسرائيل ولكن ذلك لا يعني قبولنا بسلطة الأمر الواقع القمعية في دمشق، ما حصل في الساحل السوري درس لكل أبناء الوطن عن ضرورة حمل السلاح وعدم تسليمه إلا في حال الركون لعقد اجتماعي توافقي مع سلطة تكتسب كل صفات الشرعية المحلية والخارجية”.
يوسف الهايل طبيب من السويداء قال “هي لعبة تدوير زوايا، بماذا تختلف ’جبهة النصرة‘ عن ’تحرير الشام‘ عن الحكم الحالي؟ مجرد أسماء تغيرت فقط، الحل الذي ننشده جميعنا هو الفيدرالية وتركنا لندير أمور محافظتنا بعيداً من الشحن الطائفي والحالة الفصائلية المتطرفة، ألم يتم حل ’هيئة تحرير الشام‘، لننظر في كل المجالس من الأمن القومي إلى الحوار الوطني إلى لجنة الدستور، جميعها تقوم على أفراد من الهيئة، وأهل الجنوب منفتحون وعلمانيون ولا يمكن لهم التعايش مع الملثمين ومجرمي الحرب، وما خرجنا لإسقاط بشار الأسد لنجيء بسلطة شمولية أكثر، الحل يقرره كبارنا وتشترك في إقراره الدول الخارجية، لسنا نشجع التقسيم، فلم نشهد ما شهده الساحل، لذلك حتى اللحظة نتمسك بالفيدرالية فقط”.
الوحدة أم التقسيم؟ خيارات قائمة
صار الآن من المشروع السؤال إلى أين تتجه سوريا، نحو الوحدة الجامعة أم التقسيم؟ وهو سؤال يحاول الإجابة عنه الدكتور في القانون أحمد الصفدي بالقول إنه “كانت هناك مطالب متنامية على الدوام بتطبيق الفيدرالية في سوريا بعد سقوط النظام، لكن بعدما حصل في الساحل السوري بدأت تطفو على السطح مطالب بالتقسيم، وإن كانت هذه المطالب لا تتسق بين العلويين أنفسهم، فعلويو اللاذقية وحمص وحماة مثلاً لا يزالون يرون في الفيدرالية حلاً، بخلاف بقية الساحل السوري، والقسم الكبير منه رزح تحت المجازر ورأى بأم عينه كيف يكون التطهير العرقي”، ويضيف “الآن توقفت الإبادة في الساحل، لكن حواجز كثيرة في مناطق مختلفة ما زالت تسأل المارة عن دينهم، وما زالت الحالات الفردية مستمرة، ففي اليومين الماضيين فقط ست حالات خطف وقتل على طريق صافيتا – طرطوس في الساحل، وكل ذلك سيُختزن بالوعي الجمعي لدى الناس ويدفعهم إلى طلب الحماية بأي طريقة، وهو الدرس الأكبر للدروز في السويداء جنوباً وجرمانا في ريف دمشق بعدم إلقاء السلاح خصوصاً بعد وصف زعيمهم الروحي الهجري الإعلان الدستوري بغير المنطقي، فضلاً عن الالتفاف من قبل دمشق على الأكراد الذين أكدوا بعيد بيان عبدالله أوجلان واتفاقهم مع الشرع أنهم لا يسعون إلى دويلة داخل دولة ولا تقسيم جديد ولا كردستان عراق أخرى، ولكن البيان الدستوري عاجلهم ليحطم أحلامهم، مما يعني العودة إلى نقطة الصفر”.
ويتابع “القيادة السورية في موضع مربك للغاية، أمامها ملفات متشابكة ومعقدة للغاية داخلياً وخارجياً، والأسابيع والأشهر المقبلة ستكون حاسمة لشكل البلد. الوقت ليس في صالحها في ظل الضغط الدولي، لكنها حتى الآن لم تعرف كيف تتعامل مع الملفات الكبرى بجدية مطلقة، من جهتي أرى كل الخيارات مطروحة على الطاولة، والذكي يكسب في النهاية، القرار الآن بيد القيادة الجديدة لتسير بالبلد نحو وحدة متكاملة أو تتركه فتاتاً مقسّماً، وهو ما يستدعي تحركات جد عاجلة لا تحتمل التأجيل لحظة واحدة، وإعادة النظر بأشهرها الثلاثة الأولى بالسرعة القصوى وتلافي مكامن الخلل وإرسال الرسائل في كل الاتجاهات ولكل المكونات بأن هذا البلد يتسع للجميع، وإلا فسنرى أنفسنا أمام سيناريو تقسيم مر على سوريا قبل زهو قرن من الزمن”.
————————————-
في خطر تقسيم سورية/ غازي العريضي
18 مارس 2025
المعلومات الواردة من إسرائيل عن سورية أن وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس يقول: “هاجمنا أربعين هدفاً عسكرياً في جنوب سورية لتطبيق السياسة التي أعلنّا عنها لإحباط التهديدات ضدّ إسرائيل، وسندافع عن سلامة الدروز في المنطقة، وعندما يفتح (الجولاني) عينيه كلّ صباح سيرى الجيش الإسرائيلي يراقبه من جبل الشيخ، وسيتذكّر أننا هنا. سنحافظ على (المنطقة الآمنة) وعلى جبل الشيخ، وسنضمن أن تكون هذه المنطقة في جنوب سورية منزوعة السلاح، وسنوثّق العلاقة مع سكّان المنطقة، وسنبدأ يوم 16 آذار بالسماح للعمّال السوريين بالعمل في المناطق الجديدة التي سيطرنا عليها برواتب ومخصّصات خيالية” (هذا الكلام ردّ واضح على تحذير وليد جنبلاط من خطر المشروع الإسرائيلي التفتيتي، ودعوته إلى الحفاظ على وحدة سورية، رافضاً أن تسوّق إسرائيل نفسها حاميةً للدروز هناك، مع الإشارة إلى أن 16 مارس/ آذار هي ذكرى اغتيال القائد كمال جنبلاط).
وتقول القناة 12 الإسرائيلية: “هدف التقسيم المناطقي في سورية منع سيطرة النظام الجديد، وضمان القدرة على التحكّم في عدّة مستويات من الحدود حتى دمشق. المؤسّسة الأمنية ترى أن تحرّكها في سورية من الدروس المستفادة من هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول 2023)، عبر التحرّك بشكل استباقي”. وتضيف: “40 ألف مدني سوري يوجدون الآن في المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل في سورية. وتقديرات الأجهزة الأمنية تشير إلى أن خلايا أمنية كثيرة فيها. كلّ منزل سوري يحوي أسلحةً، والجيش مستعدّ لاحتمال وقوع عمليات أمنية مفاجئة، ونحن نمتلك سيطرةً ناريةً وقدرةً على المراقبة حتى العاصمة دمشق”.
أمّّا ما يقال في دوائر القرار الإسرائيلي، الأمنية والسياسية؛ “الشرع غير قادر على ضبط الوضع. نحن نتعاطف مع العلويين والمسيحيين، لكنّ للدروز وضعاً خاصّاً، وهم كوّنوا (لوبي) مؤثّراً ضاغطاً في مراكز صنع القرار. ولذلك قرّرنا تقديم دعم بقيمة مليار دولار لمناطقهم في الشمال (والشمال هنا بات يمتدّ من الجليل الأعلى إلى الجولان والأراضي السورية الجديدة المحتلّة، وتلك المحيطة بها؛ السويداء مروراً بلبنان)، وينبغي العمل على تفكيك النفوذ الإقليمي لوليد جنبلاط “؛ “ما جرى في الساحل السوري حماقة”؛ “لجنة التحقيق في الأحداث، والإعلان الدستوري، يدلان على الاستئثار”؛ “الاتفاق مع الأكراد ليس ثابتاً”؛ “لن نقبل التمدّد التركي في سورية ونحن نراقب بدقّة التحرّكات التركية هناك”؛ “نحن على تواصلٍ مع المسؤولين الأميركيين ومراكز الدراسات والأبحاث لشرح مخاطر ما جرى وما يجري في سورية، ولإطلاعهم على العمليات العسكرية التي نفّذناها وسننفّذها، وأهدافها وأبعادها”.
ماذا تعني هذه العناوين والتوجّهات السياسة الإسرائيلية في سورية؟ … بوضوح، لا تريد إسرائيل رؤية سورية موحّدةً أو مستقرّةً أمنياً وسياسياً، وتقول علناً وتنفّذ يومياً أقوالها، بضرب مقوّمات الدولة كلّها لمنع النظام من السيطرة، ولتنفيذ المشروع التقسيمي. بطبيعة الحال، ستتأثّر دول الجوار بهذه السياسات والأهداف. ولذلك هي معنية بمواجهتها. لن يقف تقسيم سورية عند حدودها. تسعير الصراعات المذهبية والطائفية ستكون له تداعيات على لبنان خاصّة، وعلى بقية الدول، بهدف إضعافها وتفكيكها، وهذا يستوجب، أولاً، إدراك السلطة الجديدة في سورية هذه المخاطر كلّها، والعمل المباشر لتفكيك ألغامها، بدءاً بحوار جدّي مفتوح مع المكوّنات كلّها، وتعزيز شراكة حقيقية على مستوى الحكم وإدارته، ومعالجة آثار ما جرى في الساحل لتبديد مخاوف المقيمين هناك، وغيرهم في مناطق أخرى، والتعامل بدراية وواقعية مع الحساسيات المذهبية والطائفية، فكيف إذا كان المشروع الإسرائيلي واضحاً، ويعلنه أركان دولة الاحتلال بوضوح؟
ثانياً، إدراك العرب، كلّ العرب، أنهم معنيون بمواجهة هذا الخطر، لا سيّما الذين أيّدوا الإدارة الجديدة في سورية، والمبادرة إلى تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي والمالي والاقتصادي لها بسرعة، لتتمكّن من مواجهة التحدّيات المذكورة، والمحافظة فعلياً على وحدة الأرض والمؤسّسات. وثالثاً، استيعاب تركيا لضرورات الاتفاق مع الأكراد وتعزيز دور الإدارة الجديدة، والتأكيد على خصوصيات الأكراد وترسيخ انتمائهم إلى الدولة السورية على قاعدة الاتفاق الذي تمّ معهم.
ويجب (رابعاً) أن تبادر الدول الأوروبية وأميركا إلى إعطاء فرصة للإدارة الجديدة، رغم ملاحظاتٍ أبداها أعضاء في مجلس الأمن حول ما جرى في الساحل السوري، ولو كان من باب ردّة الفعل على ما فعلته أدوات النظام السابق في محاولة انقلابية واضحة. أمّا خامساً، فيجب إدراك أن ما جرى في جنوبي سورية، وتلاعب إسرائيل بمسألة الأقلّيات، وادّعاء حماية الدروز، واستهداف دور وليد جنبلاط الذي يواجه ذلك، لا تقع مسؤولية التصدي له على عاتق هذا الرجل وحده. فلا بدّ من احتضان عربي لموقفه، حمايةً لموقف الموحّدين الدروز في تلك المنطقة، الرافضين استخدام إسرائيل لهم، ولحماية وحدة سورية، ووحدة البلاد العربية كلّها، المستهدفة إسرائيلياً بمواقف معلنة وواضحة، يطلقها المسؤولون في حكومة نتنياهو.
العربي الجديد
———————————
الأخطار التي تهدد سوريا داخليا وخارجيا/ رياض معسعس
تحديث 18 اذار 2025
«عليك يا سوريا السلام ونعم البلد هذا للعدو» قالها هرقل وهو يغادر سوريا بعد هزيمته النكراء أمام جيش المسلمين الذي انتصر على الروم في معركة اليرموك في العام 636 م.
وبقيت سوريا نعم البلد لكل الأعداء الذين حاولوا غزوها، لأنها كانت دائما الأرض التي تطلعت كل القوى بالسيطرة عليها لخيراتها، وموقعها الذي يضم مقدسات الأديان التوحيدية، ولكونها بلدا حضاريا وذا ثقافات متعددة، ومكونات اجتماعية مختلفة. فهي عرفت الفرس، والرومان، واليونانيين، والعرب، والبيزنطيين، والصليبيين، والمغول، والتتار، والمماليك، والعثمانيين، والفرنسيين، ولكن اليوم وبعد تقطيع أوصالها وسلخ فلسطين، ولبنان، والأردن منها تقع فريسة قوى متعددة تبحث جميعها السيطرة عليها، أو احتلال أراضيها، أو تجزئتها. والأخطار التي تتهدد سوريا اليوم تأتي من الداخل أيضا وربما كانت أشد خطرا من الخارج.
تتمثل الأخطار الداخلية بمجموعة عوامل تجعل الوضع الداخلي السوري على صفيح ساخن، خاصة وأن النظام المخلوع خلف وراءه مجموعة كبيرة من الألغام الاجتماعية، والطائفية، والعرقية القابلة للانفجار، وزج البلاد في أتون حرب أهلية. فهناك مجموعة كبيرة من فلول النظام لا تزال تمتلك الأسلحة وتقوم بهجمات ضد قوات الأمن للنظام الحالي، عدا عن مجموعات كانت تعمل لصالح النظام ويستخدمها في تنفيذ أعمال مختلفة من قتل، وتهريب أسلحة ومخدرات، وترهيب الناس، كميليشيا محسن الهيمد التي واجهت قوات حفظ الأمن في مدينة الصنمين في منطقة حوران. كما أن هناك اللواء الخامس بقيادة أحمد العودة في نفس المنطقة الذي دخل في مفاوضات مع الحكومة الحالية، وهناك بعض فلول النظام في منطقة الساحل التي تقوم بهجمات متكررة على قوات حفظ الأمن، وهناك من يطالب بالانفصال عن الدولة الأم، وفي منطقة دير الزور التي تضم أيضا بعض الجماعات المسلحة التي ترفض تسليم اسلحتها وتهاجم قوات الأمن. لكن الخطر الأكبر يكمن في منطقة جبل العرب في الجنوب، وفي منطقة شرق الفرات في الشمال، في الجنوب في منطقة جبل العرب تسعى إسرائيل لفصله عن سلطة دمشق عبر ضخ أموال ( وعدت بضخ مليار دولار لتحسين أوضاع المنطقة ككل) من ناحية، والسماح للسكان بالعمل في إسرائيل مقابل أن يقوم الدروز بالمطالبة بحكم فيدرالي وحكم ذاتي، وقد قام رئيس وزراء دولة الاحتلال بتهديد السلطة الحالية وحذرها من إرسال قوات إلى الجنوب، وقد قامت مجموعة من الضباط بتشكيل مجلس عسكري برئاسة طارق الشوفي لحماية جبل العرب، وقد شهدت مدينة جرمانا ذات الأكثرية الدرزية مواجهات مسلحة مع قوات الأمن أسفرت عن قتلى وجرحى.
لم تتقبل فلول النظام من عساكر وضباط المنتمين معظمهم للطائفة العلوية الهزيمة التي منيت بها في أقل من أسبوع بسقوط نظام استمر زهاء نصف قرن ونيف بني على الطائفية، ودولة المخابرات، والفساد، والمحسوبيات، والاغتيالات السياسية، والمجازر الجماعية، واضطهاد الأكثرية السنية واستخدام كل الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيميائية لقتل أكبر عدد منها، وتهجير الملايين إلى خارج تراب الوطن، ونزوح ملايين آخرين هدمت بيوتهم بالبراميل المتفجرة ليسكنوا مخيمات لسنين طويلة. بعد السقوط المدوي للنظام لجأ معظم هؤلاء للعراق، ولبنان وقاموا بالتخطيط بقيادة ضباط الفرقة الرابعة التي كان يترأسها ماهر الأسد بالهجوم على قوات الأمن في مناطق متعددة من الساحل السوري معقل الطائفة العلوية ممولين ومسلحين من إيران، ومن ميليشيات عراقية، وبدعم من قوات سوريا الديمقراطية الكردية بهدف الانقلاب على الثورة، والنظام الجديد، وشق صف الشعب السوري، والانفصال عن الدولة المركزية، وحسب مصادر متعددة بأن هذه العملية تمت باتفاق مشترك بين أكثر من جهة إيرانية، وروسية وربما عربية من الخارج. ورغم فشل المحاولة ومقتل عدد كبير من عناصرها إلا أن الأخطار كامنة.
منذ بداية الثورة في العام 2011 قام حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بقيادة صالح مسلم بالنأي بنفسه عن الثورة (المجلس الوطني الكردستاني الذي تأسس في العام 2011 التحق بالثورة وبالمجلس الوطني السوري في بداية الثورة) وقام بالتنسيق مع النظام بالاستيلاء على مساحات واسعة من شرق الفرات بعد أن انسحبت قوات النظام منها طوعيا، وتم تشكيل ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي ومع الهجوم السريع «لداعش» واحتلال مساحات واسعة من سوريا تدخلت قوات أمريكية وبنت قواعد في المناطق المسيطر عليها من «قسد» ودعمتها لمحاربة «داعش» وتمكنت مع قوات التحالف من هزيمة «داعش» والسيطرة على ربع مساحة سوريا الواقعة شرق الفرات والتي تضم معظم آبار النفط والغاز، والأراضي الزراعية الخصبة، وأعلنت الاستقلال الذاتي.
الأخطار الخارجية تكمن أولا في دولة الاحتلال التي تسعى علانية لتغيير الشرق الأوسط حتى لو لزم ذلك بالحرب كما صرح المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي، وقد قام جيش الاحتلال بخرق اتفاقية فصل القوات الموقعة في العام 1974 واحتل عدة مناطق في منطقة القنيطرة، وقمة جبل الشيخ، وتتمركز في أكثر من نقطة على الأراضي السورية، كما قامت بتدمير المنشآت العسكرية البرية والبحرية في عدة مراكز على الأرض السورية دون وازع، وقامت الإدارة الحالية بتقديم شكوى إلى الأمم المتحدة بهذه الانتهاكات الصارخة على الرغم من تصريحات الإدارة السورية بأنها لا ترغب في الدخول بأي مواجهة عسكرية مع أحد. وتأتي كل هذه الانتهاكات في ظل حكم الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب التي لم تظهر أي اعتراض على الاعتداءات الإسرائيلية وكأنها توافق ضمنيا على هذه الانتهاكات، خاصة وأن ترامب كرر ضرورة توسيع الرقعة الجغرافية لدولة الاحتلال التي يرى بأنها صغيرة مقارنة بمساحة العالم العربي. في الدرجة الثانية تأتي أمريكا التي بنت قواعد عسكرية في سوريا وتدعم قوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي تحتل حوالي ربع مساحة سوريا، كما تحتل في الجنوب السوري في منطقة التنف التي بنت فيها قاعدة عسكرية أخرى. ولا تزال القوات التركية التي تدعم الإدارة الحالية في سوريا تتواجد في أكثر من نقطة في شمال غرب سوريا.
وتبقى إيران الخاسر الأكبر من جراء سقوط النظام السوري الذي كان يؤمن خطوط الإمداد لحزب الله في لبنان، ولم تعترف حتى الآن بالوضع السوري الجديد، وتسعى بطرق مختلفة لقلب النظام في دمشق لعودة نفوذها إلى سوريا بدعم فلول النظام البائد.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
المعضلة السورية والخروج الآمن/ د. حسن أبو طالب
18 مارس 2025 م
لا ينكر أي متابع لما يجري في سوريا، أكان عالماً بدهاليز السياسة أو شخصاً عادياً، أن سوريا تعيش الآن مرحلة مخاض مملوء بالاضطرابات والإشارات المتضاربة. فأبعاد المعضلة السورية تتكشف بين لحظة وأخرى، وما يوصف بأنه خطوة إيجابية مبشرة سرعان ما تتكشف تفاصيله، بأنه إما فاقد لآليات التطبيق، كما هي الحال في الاتفاق بين الرئيس أحمد الشرع والأكراد السوريين، ممثلين في زعيم «قسد» مظلوم عبدي، وإما يتجاوز طموحات قطاعات عريضة جداً من السوريين الآملين في العيش تحت سقف قانون عادل ومنصف، يرسخ المساواة بين كل السوريين، ومساحة من الحريات للجميع، أياً كانت طائفتهم أو دينهم أو منطقتهم الجغرافية.
فكثير من قرارات السلطة الجديدة وإن غُلِّفت بنيَّات حسنة، فإن أسلوب تطبيقها لا يوفر أساساً لمصالحة سورية عامة، ولا يعطي مؤشراً قوياً على أن المستقبل القريب يستند إلى آليات حكم غير التي كانت قبل اختفاء بشار الأسد وانهيار نظامه. والأمثلة كثيرة، فالمنهج الذي صيغت به الوثيقة الدستورية الموصوفة بأنها انتقالية، تشتمل على 53 بنداً، تماثل من حيث الشكل العام الدساتير الدائمة التي تصدرها الدول المستقرة، وفق إجراءات شفافة ومشاركة واسعة، وتخضع لحوار مجتمعي حقيقي؛ إذ لم يحدث شيء من هذا. فلجنة الدستور شُكِّلت بقرار رئاسي، ولم تتواصل مع مكونات الشعب السوري، وفي خلال أسبوع واحد وضعت وثيقة دستورية لخمس سنوات انتقالية مرة واحدة، تماثل من حيث الشكل أيضاً مدة رئاسية كاملة في كثير من الدول التي تعتمد أسلوب الانتخاب لاختيار الحاكم.
ولا أدري؛ لماذا لم تُشكل طاولة حوار مجتمعي موسعة تستمر شهراً أو شهرين، تشارك فيها رموز من مختلف المكونات السورية، وتُقر مبادئ لمرحلة انتقالية لفترة زمنية محدودة لا تزيد على عامين، وبعدها انتخابات حرة لبدء حياة سياسية مستقرة تعلن بها عن سوريا جديدة لكل مواطنيها؟
إن التسرع في إصدار وثيقة دستورية مفصَّلة توفر للرئيس سلطات واسعة -وإن قيل إن ظروف سوريا تتطلب يداً حازمة قادرة على التعامل الحازم مع التحديات- اتضح معه أن ردود الفعل من مكونات سورية كثيرة ترى الأمور عكس ما استُهدف، مما يضع أعباء على الرئيس وحكومته، في الداخل كما في الخارج. فهناك من يرى أن سوريا الجديدة لا تحمي كل مواطنيها، وبخاصة أصحاب العقائد ذات الخصوصية، ومن ثَم يبررون لأنفسهم تقديم مظلة حماية لهؤلاء المتضررين، ويستشهدون بما ورد في الوثيقة الدستورية وطريقة إصدارها.
داخلياً، «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية (قسد)، رأت أن الدستور الانتقالي يتناقض مع المبادئ الواردة في الاتفاق الموقع مع الرئيس أحمد الشرع. ومواقف فئات علوية ودرزية -وإن اختلطت فيها التحفظات والرفض والصمت- تعد إشارات ذات دلالة، وفي الخلفية من ينذر باللجوء إلى السلاح؛ سواء مَن يوصَفون بالفلول، أو بالمتشككين في النظام الجديد، ومن ثم فالأمر يتطلب معالجة رشيدة، بدلاً من أن تتفاقم الأمور، على النحو الذي تنذر به زيارات بعض رجال الدين الدروز السوريين إلى داخل الجولان المحتل، مع مراعاة أن من بين الدروز السوريين من انتقد الزيارة؛ رغم محاولات صبغها دينياً، ونفي دلالاتها السياسية.
وثائق الدستور في المراحل الانتقالية ليست وثائق مقدسة، فإن فرضَت التجربة العملية التغيير في بنيتها كلياً أو جزئياً، فمن الحصافة والحكمة لمن يملك القرار أن يتجاوب مع تلك التحفظات، وأن يوسع مساحة المشاركة، وأن يثبت وعوده في احتواء الجميع من دون استثناء.
معضلة الدستور الانتقالي تمتد إلى كثير من القرارات التي لم تضع في اعتبارها أن انهيار النظم لا يعني بالضرورة التخلص من كل مؤسساتها بجرة قلم، وبالأخص: الجيش، والشرطة، والاستخبارات، والخارجية، والتعليم، والاقتصاد. ففي تلك المؤسسات فئتان: الأولى هي العليا التي تماهت مع النظام السابق، ويُفترض التخلص منها ومحاسبة المخطئين بالقانون على تجاوزاتهم في حق الناس، والثانية الغالبية من التقنيين والإداريين، ولا يعدُّون مسؤولين كالفئة الأولى، وتظل لديهم معرفة معقولة بإدارة كثير من الملفات، والتي يحتاج إليها أي نظام جديد، وبقليل من الترشيد يظل هؤلاء عنصراً مهماً في بناء النظام الجديد.
والثابت أن نتيجة التضحية بالفئتين معاً والبدء من الصفر -كما يحلو للبعض وهم في حالة نشوة ثورية زائفة- تكون بلداً بلا جيش ولا أمن، ولا فئة تكنوقراطية، ولا خبراء ولا علماء، وبالتالي يضع النظام الجديد نفسه في دوامة لا نهاية لها، فضلاً عن أطماع خارجية شرسة.
وقد يجد البعض من صانعي النظام الجديد غضاضة في احتواء قطاعات من العاملين في تلك المؤسسات كأساس تقني يُعتمَد عليه، خوفاً من عدم الولاء للنظام الجديد، وهو أمر تغيب عنه التداعيات الخطرة التي يتضمنها لفظ آلاف من الموظفين والعمال، وتركهم وأُسَرهم بلا عمل ولا مورد رزق، ما يدفع كثيرين منهم إلى الانزلاق إلى أعمال عدائية؛ سواء فردية أو جماعية.
وفي التجارب التي شهدت تحولات ثورية عميقة، واعتمدت مبادئ العدالة الانتقالية منهجاً لإعادة البناء، انتقلت البلاد من الفوضى إلى الارتقاء، وشهد لها الجميع بالرشادة السياسية، وهنا يبرز كل من تجربتَي: رواندا في عهد بول كاغامي بعد المذابح الأهلية 1994 بين الهوتو والتوتسو، والتحول إلى بلد مستقر يحقق تنمية مشهودة، بعد اعتماد سياسة المصالحة الوطنية، ونبذ العنف والتعددية السياسية، وتجربة جنوب أفريقيا الشهيرة بعد سقوط النظام العنصري فيها 1990. قد تأخذ بعض تلك الإجراءات وقتاً لتصبح منهجاً مجتمعياً متكاملاً، ولكنها تستحق التطبيق.
الشرق الأوسط
———————————-
سوريا بين مطالب الخارج وتحديات الداخل/ أحمد محمود عجاج
رحل بشار الأسد وترك سوريا خربة؛ باقتصاد منهار، ونازحين بالملايين، ووضع داخلي مشتعل، وعقوبات دولية. حكومة الرئيس أحمد الشرع تبدأ من الصفر، وفوق ذلك عليها مواجهة أطماع إسرائيل، ومؤامرات إيران، ومطالب دولية جارحة للسيادة. فالشرع في ورطة: لا هو قادر على الحسم العسكري، ولا مستعد لقبول إملاءات الخارج؛ وهذا يستلزم منه براعة وصبرًا لاستيعاب التناقضات الدولية والإقليمية، والنفاذ منها للحفاظ على الكيان السوري، وإلا فإن التَّفتت وارد جداً أمام مطالب الدروز، والعلويين، وانفصال الأكراد.
إن رفض بعض زعماء الدروز الانضمام لسلطة الحكومة المركزية نابع من الدعم الإسرائيلي الفاضح، وشعورهم بأن الفرصة مواتية للفيدرالية؛ فالفيدرالية تُضعف سلطة الحكومة المركزية، وتقوِّي الأقليات على حساب الأكثرية، وهذا يمنح إسرائيل وإيران وغيرهما أوراقاً في الداخل السوري. هذا الكسب الفيدرالي يمثل خسارة كبرى لتركيا والعرب؛ الأولى تجد في الفيدرالية خطراً على أمنها. والعرب على أمنهم القومي، ووحدة تراب سوريا؛ لذلك شاهدنا اندفاعة دبلوماسية سعودية لتسويق الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة، واحتضاناً تركياً لتوفير حماية أمنية لها. وتجلى ذلك بدعم الحكومة السعودية السريع للسلطة السورية في أثناء تمرد الساحل، وبتحرك تركيا عسكرياً؛ وهذا لقي قبولاً من الإدارة الأميركية.
هذا التناغم دفع الأكراد للمسارعة إلى مصالحة السلطة في دمشق، وتوقيع اتفاق مبدئي معها، يعزز السلطة المركزية؛ وهذا سببه خوف الأكراد من سحب ترمب قواته من مناطقهم، وغياب روسيا بوصفها قوة رديفة. وبالفعل أكدت صحيفة «وول ستريت جورنال» دور أميركا في هذا الاتفاق مع دمشق. وهذا حشر الدروز في زاوية صعبة، لكونهم يشكلون اثنين في المائة من سكان سوريا، وليس منطقياً أن يُمنحوا هذا الامتياز الفيدرالي. كذلك الرئيس ترمب قد لا يسمح لإسرائيل بأن توسع تدخلها في سوريا؛ لأن ذلك قد يضر برؤيته المتمثلة في الانسحاب من المنطقة، وتسليمها إلى حلفائه لحفظ مصالح أميركا، مثل محاربة «داعش»، ونقل مساجينها إلى رعاية الدولة السورية بضمانة تركية؛ فترمب -رغم دعمه لنتنياهو- تفاوض فوق رأسه مع «حماس»، وأجبره على قبول اتفاق وقف إطلاق النار، وسيرغمه على تجنب أي مواجهة محتملة مع الأتراك؛ لأن ذلك قد يدفع الحكومة السورية إلى الارتماء أكثر في حضن أنقرة، علاوة على أن ذلك يبعد فكرة السلام في المنطقة، والتي من خلالها يريد ترمب أن يكون صانع سلام تاريخياً.
ومن حسن حظ الحكومة السورية أن أوروبا وروسيا منشغلتان بالحرب الأوكرانية، ولا ترغبان في تعقيدات بالشرق الأوسط، وبالذات أوروبا التي تخشى موجات مهاجرين، والتي تتطلع لإعادة السوريين إلى بلادهم. كما أن مسارعة الحكومة السورية لمعالجة التجاوزات في الساحل السوري، وتشكيل لجنة تقصٍّ، وتعويض المتضررين، قابله ارتياح أوروبي تمثَّل بدعوة المفوضية الأوروبية للرئيس الشرع لحضور مؤتمر المانحين لسوريا المنعقد أمس في 17 مارس (آذار) في بروكسل. فالخوف من تصدُّع سوريا هاجس أميركي وأوروبي، ولذلك أقنع الأميركيون فصائل التنف بالانضمام للدولة، وسمحوا لقطر بإمداد سوريا بالغاز.
وتدرك روسيا بالمقابل وضعها المتأزم مع الشعب السوري، وكل همها الآن إبقاء قاعدتها البحرية في طرطوس؛ لأنها المنفذ الحيوي للقارة الأفريقية؛ هذه المصلحة الروسية تجعلها على تضاد مع أي زعزعة إيرانية لسوريا.
هذه المعطيات الدولية ليست ثابتة، وعلى حكومة الشرع فهم تحولاتها وتقلباتها، لبناء الدولة القوية؛ فاللحظة مناسبة لتقديم مصالح شعب سوريا على مطالب الخارج، وبالذات رفض مخاوف الخارج المزيفة على الأقليات؛ فالمطالبة بتمييع الأكثرية -كما يقول وزير خارجية الهند جايشانكار- أصبح «مع الأسف موضة سياسية تجبر الأكثرية على إخفاء دينها». فسوريا الجديدة لن يكون فيها خوف على أقليات، ما دامت حكومتها تلتزم بالدستور، وحكم القانون، وتكافؤ الفرص، واحترام حقوق الإنسان، وما دامت تحظى بتأييد شعبها، وما دامت تحرص على التوافق السعودي- التركي الذي تحتاجه لسنوات طويلة.
سوريا اليوم ليس كتلك التي تركها الأسد؛ بل دولة يحميها الشعب، ويحضنها إخوتها العرب، ونموذج واعد للتعايش.
الشرق الأوسط
—————————–
سياسة ترامب تجاه سوريا: التحول نحو الاحتواء الاستراتيجي/ لين خطيب
18 مارس 2025
يتبنى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ولايته الثانية، نهجًا مختلفًا تجاه سوريا يقوم على “التقليل الاستراتيجي”، حيث يتم تقليل التدخل المباشر للولايات المتحدة مع الحفاظ على وجود يخدم المصالح الإقليمية الأميركية. أربعة عناوين تلخص سياسة ترامب تجاه سوريا بعد انهيار نظام الأسد: فك الارتباط العسكري، والتحالف مع تركيا، واحتواء إيران، وخدمة المصالح الإسرائيلية.
الانسحاب العسكري مع الاحتفاظ بالنفوذ الاستراتيجي
أحد أهم التطورات في ظل قيادة ترامب المتجددة هو نيته الواضحة في تقليص وجود القوات الأميركية في سوريا. وقد أدى ذلك إلى محاولة مساعدة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والحكومة السورية الجديدة على التوصل إلى اتفاق يهدف إلى دمج “قسد”، التي يقودها الأكراد، ضمن الحكومة السورية المؤقتة بقيادة أحمد الشرع. وإذا تحقق هذا الاتفاق بالكامل، فسيشكل خطوة نحو استقرار شمال سوريا، مع السماح بانسحاب أميركي يتم بطريقة تمنع حدوث فراغ أمني.
ومع ذلك، فإن الانسحاب الأميركي ليس خاليًا من التعقيدات. فقد استخدمت الولايات المتحدة تاريخيًا وجودها العسكري في شمال شرق سوريا لمواجهة تنظيم “داعش”، ودعم حلفائها من الأكراد، وموازنة النفوذ الإيراني. وقد يؤدي الانسحاب المتسرع إلى ترك فراغ يمكن للاعبين إقليميين استغلاله.
ومن منظور سوري، يُنظر إلى خروج القوات الأميركية على أنه خطوة ضرورية لاستعادة السيادة الكاملة، رغم المخاوف من القوة التي قد تملأ هذا الفراغ. وفي الوقت الراهن، يبدو أن استراتيجية ترامب لن تكون انسحابًا كليًا بل إعادة تموضع تُقلل من البصمة الأميركية مع الحفاظ على النفوذ من خلال تحالفات مع إسرائيل وتركيا.
دور تركيا والمساومات الجيوسياسية
بالفعل، تُعد كل من تركيا وإسرائيل من اللاعبين الرئيسيين في تشكيل سياسة ترامب تجاه سوريا. فيما يتعلق بتركيا، فقد سلطت تصريحات ترامب، التي جاءت فور الإطاحة بنظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، الضوء على الدور المحدود للولايات المتحدة في سوريا، مع الإقرار بالدور الكبير لتركيا في البلاد، وأشارت التصريحات إلى أن تركيا خرجت كالمُنتصر الوحيد في سوريا وتتمتع بجميع المزايا الاستراتيجية فيها.
ومن منظور سوري، يُنظر إلى النفوذ التركي على أنه معقد؛ فبالرغم من معارضة كثير من السوريين لأي تدخل أجنبي، إلا أن الدور التركي يُعتبر في كثير من الأحيان أفضل من التدخل الإسرائيلي أو الأميركي، نظرًا للعلاقات التاريخية لأنقرة مع المنطقة ومعارضتها لنظام الأسد.
وتكمن المصلحة الأساسية لأنقرة في منع إقامة كيان كردي مستقل على حدودها، والذي تعتبره تهديدًا للأمن القومي. وإذا انسحبت القوات الأميركية، فمن المرجح أن تسعى تركيا إلى زيادة نفوذها في شمال سوريا، خاصةً في المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. وستكون مهمة ترامب هي تحقيق توازن بين هذا الطلب التركي والحفاظ على مصداقيته لدى القوات الكردية، التي كانت حليف الولايات المتحدة الرئيس في مكافحة داعش وتأمين حقول النفط والغاز. كما تتوقع إسرائيل من ترامب أن يضمن تحقيق تحول جيوسياسي أوسع يقوي موقعها الإقليمي على حساب تركيا، ما يثير قلق الأتراك والسوريين على حد سواء.
ويعتبر موقف تركيا من اتفاقيات أبراهام أمرًا حاسمًا معقدًا للأمور، إذ تجادل أنقرة بأن هذه الاتفاقيات تقوض القضية والحقوق الفلسطينية ولا تعالج سياسات الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة بأسرها، وترى أنها جزء من الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية لتعزيز موقع إسرائيل الإقليمي مع تهميش اللاعبين الرئيسيين الآخرين، بما في ذلك تركيا نفسها.
احتواء إيران وسياسة العقوبات
ليست تركيا اللاعب الوحيد الذي تهتم به سياسة ترامب في سوريا. ففي الواقع، ترتبط استراتيجية ترامب في سوريا ارتباطًا وثيقًا بسياساته الأوسع في الشرق الأوسط، لا سيما فيما يتعلق بإيران. يُعد من أهداف ترامب الرئيسية الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا سيما في سوريا والعراق واليمن.
وعلى عكس جو بايدن الذي انتهج نهجًا غير واضح تجاه إيران، من المتوقع أن يواصل ترامب سياسته المتشددة، وربما يكثف التدخلات الأميركية ضد طهران. ففي اليوم الذي تولى فيه ترامب منصبه، أعاد تصنيف المتمردين الحوثيين في اليمن، المتحالفين مع إيران، كمنظمة إرهابية أجنبية. وكان فريقه قد بدأ بالتعامل مع الملف العراقي حتى قبل توليه رسميًا سدة الرئاسة، حيث وجه عدة رسائل إلى الحكومة العراقية طالبًا دمج قوات الحشد الشعبي (PMF) في الجيش الوطني لكبح حرية تحرك إيران في العراق.
ومع ذلك، تُعتبر هذه الجهود الأميركية للحد من النفوذ الإيراني في سوريا كخدمة للمصالح الإسرائيلية بدلًا من أن تخدم استقرار سوريا.
العامل الإسرائيلي وإعادة الترتيبات الإقليمية
يمكن القول إن سياسة ترامب تجاه سوريا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإعطاء الأولوية لأمن إسرائيل. ومن ثم، فإن أحد العناصر الرئيسية في سياسة ترامب هو تقاطعها مع المصالح الإسرائيلية. ففي إدارته السابقة، اتخذ ترامب إجراءات كانت في مصلحة إسرائيل وعلى حساب حقوق السوريين، مثل الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة. وفي ولايته الثانية، يُتوقع أن يحافظ على مسار مماثل من خلال ضمان ألا تتحول سوريا إلى منصة لنشاط عسكري معاد لإسرائيل.
ومن منظور وطني سوري، فإن أي سياسة تعزز موقع إسرائيل على حساب سيادة سوريا غير مقبولة. لا يزال السوريون متمسكين بمعارضتهم لاحتلال إسرائيل لهضبة الجولان، ويعتبرون السياسات الأميركية التي تضع أمن إسرائيل فوق استقرار سوريا وأمن شعبها بمثابة إجراء غير مقبول. وستلعب إعادة ترتيب التحالفات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بما في ذلك الاتفاقيات المحتملة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، دورًا في تشكيل موقف ترامب تجاه سوريا.
التحديات والتوقعات المستقبلية
على الرغم من ميل ترامب إلى تقليل التدخل العسكري، فإن عدة عوامل قد تعقد استراتيجيته في سوريا، مثل احتمال عودة نشاط داعش، والتوترات بين تركيا والقوات الكردية، والمناورات الروسية. علاوة على ذلك، ورغم تفضيل ترامب لتقليل التدخل المباشر، فإن إدارته ستظل مضطرة للتعامل مع تعقيدات السياسة الإقليمية. وفيما يتعلق بتعامل إدارة ترامب مع الحكام الجدد في دمشق، فمن المحتمل أن تستجيب الإدارة للمبادرات الإقليمية التي تقودها تركيا وقطر والسعودية لاستقرار سوريا.
ومن منظور سوري، فإن السيناريو المثالي هو انسحاب أميركي لا يترك سوريا عرضة لمزيد من التدخلات الأجنبية. قد يكون أحد السيناريوهات المحتملة هو التحول نحو نوع من المشاركة غير المباشرة، حيث تعتمد الولايات المتحدة على شركاء إقليميين مثل تركيا وقطر بدلًا من التدخل المباشر. وهذا يتماشى مع نهج ترامب “أميركا أولًا” الذي يركز على الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية بدلًا من الالتزامات العسكرية المطولة.
الترا سوريا
——————————-
==========================
=======================
عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 18 أذار 2025
تحديث 18 اذار 2025
———————————————-
في خطر تقسيم سورية/ غازي العريضي
18 مارس 2025
المعلومات الواردة من إسرائيل عن سورية أن وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس يقول: “هاجمنا أربعين هدفاً عسكرياً في جنوب سورية لتطبيق السياسة التي أعلنّا عنها لإحباط التهديدات ضدّ إسرائيل، وسندافع عن سلامة الدروز في المنطقة، وعندما يفتح (الجولاني) عينيه كلّ صباح سيرى الجيش الإسرائيلي يراقبه من جبل الشيخ، وسيتذكّر أننا هنا. سنحافظ على (المنطقة الآمنة) وعلى جبل الشيخ، وسنضمن أن تكون هذه المنطقة في جنوب سورية منزوعة السلاح، وسنوثّق العلاقة مع سكّان المنطقة، وسنبدأ يوم 16 آذار بالسماح للعمّال السوريين بالعمل في المناطق الجديدة التي سيطرنا عليها برواتب ومخصّصات خيالية” (هذا الكلام ردّ واضح على تحذير وليد جنبلاط من خطر المشروع الإسرائيلي التفتيتي، ودعوته إلى الحفاظ على وحدة سورية، رافضاً أن تسوّق إسرائيل نفسها حاميةً للدروز هناك، مع الإشارة إلى أن 16 مارس/ آذار هي ذكرى اغتيال القائد كمال جنبلاط).
وتقول القناة 12 الإسرائيلية: “هدف التقسيم المناطقي في سورية منع سيطرة النظام الجديد، وضمان القدرة على التحكّم في عدّة مستويات من الحدود حتى دمشق. المؤسّسة الأمنية ترى أن تحرّكها في سورية من الدروس المستفادة من هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول 2023)، عبر التحرّك بشكل استباقي”. وتضيف: “40 ألف مدني سوري يوجدون الآن في المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل في سورية. وتقديرات الأجهزة الأمنية تشير إلى أن خلايا أمنية كثيرة فيها. كلّ منزل سوري يحوي أسلحةً، والجيش مستعدّ لاحتمال وقوع عمليات أمنية مفاجئة، ونحن نمتلك سيطرةً ناريةً وقدرةً على المراقبة حتى العاصمة دمشق”.
أمّّا ما يقال في دوائر القرار الإسرائيلي، الأمنية والسياسية؛ “الشرع غير قادر على ضبط الوضع. نحن نتعاطف مع العلويين والمسيحيين، لكنّ للدروز وضعاً خاصّاً، وهم كوّنوا (لوبي) مؤثّراً ضاغطاً في مراكز صنع القرار. ولذلك قرّرنا تقديم دعم بقيمة مليار دولار لمناطقهم في الشمال (والشمال هنا بات يمتدّ من الجليل الأعلى إلى الجولان والأراضي السورية الجديدة المحتلّة، وتلك المحيطة بها؛ السويداء مروراً بلبنان)، وينبغي العمل على تفكيك النفوذ الإقليمي لوليد جنبلاط “؛ “ما جرى في الساحل السوري حماقة”؛ “لجنة التحقيق في الأحداث، والإعلان الدستوري، يدلان على الاستئثار”؛ “الاتفاق مع الأكراد ليس ثابتاً”؛ “لن نقبل التمدّد التركي في سورية ونحن نراقب بدقّة التحرّكات التركية هناك”؛ “نحن على تواصلٍ مع المسؤولين الأميركيين ومراكز الدراسات والأبحاث لشرح مخاطر ما جرى وما يجري في سورية، ولإطلاعهم على العمليات العسكرية التي نفّذناها وسننفّذها، وأهدافها وأبعادها”.
ماذا تعني هذه العناوين والتوجّهات السياسة الإسرائيلية في سورية؟ … بوضوح، لا تريد إسرائيل رؤية سورية موحّدةً أو مستقرّةً أمنياً وسياسياً، وتقول علناً وتنفّذ يومياً أقوالها، بضرب مقوّمات الدولة كلّها لمنع النظام من السيطرة، ولتنفيذ المشروع التقسيمي. بطبيعة الحال، ستتأثّر دول الجوار بهذه السياسات والأهداف. ولذلك هي معنية بمواجهتها. لن يقف تقسيم سورية عند حدودها. تسعير الصراعات المذهبية والطائفية ستكون له تداعيات على لبنان خاصّة، وعلى بقية الدول، بهدف إضعافها وتفكيكها، وهذا يستوجب، أولاً، إدراك السلطة الجديدة في سورية هذه المخاطر كلّها، والعمل المباشر لتفكيك ألغامها، بدءاً بحوار جدّي مفتوح مع المكوّنات كلّها، وتعزيز شراكة حقيقية على مستوى الحكم وإدارته، ومعالجة آثار ما جرى في الساحل لتبديد مخاوف المقيمين هناك، وغيرهم في مناطق أخرى، والتعامل بدراية وواقعية مع الحساسيات المذهبية والطائفية، فكيف إذا كان المشروع الإسرائيلي واضحاً، ويعلنه أركان دولة الاحتلال بوضوح؟
ثانياً، إدراك العرب، كلّ العرب، أنهم معنيون بمواجهة هذا الخطر، لا سيّما الذين أيّدوا الإدارة الجديدة في سورية، والمبادرة إلى تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي والمالي والاقتصادي لها بسرعة، لتتمكّن من مواجهة التحدّيات المذكورة، والمحافظة فعلياً على وحدة الأرض والمؤسّسات. وثالثاً، استيعاب تركيا لضرورات الاتفاق مع الأكراد وتعزيز دور الإدارة الجديدة، والتأكيد على خصوصيات الأكراد وترسيخ انتمائهم إلى الدولة السورية على قاعدة الاتفاق الذي تمّ معهم.
ويجب (رابعاً) أن تبادر الدول الأوروبية وأميركا إلى إعطاء فرصة للإدارة الجديدة، رغم ملاحظاتٍ أبداها أعضاء في مجلس الأمن حول ما جرى في الساحل السوري، ولو كان من باب ردّة الفعل على ما فعلته أدوات النظام السابق في محاولة انقلابية واضحة. أمّا خامساً، فيجب إدراك أن ما جرى في جنوبي سورية، وتلاعب إسرائيل بمسألة الأقلّيات، وادّعاء حماية الدروز، واستهداف دور وليد جنبلاط الذي يواجه ذلك، لا تقع مسؤولية التصدي له على عاتق هذا الرجل وحده. فلا بدّ من احتضان عربي لموقفه، حمايةً لموقف الموحّدين الدروز في تلك المنطقة، الرافضين استخدام إسرائيل لهم، ولحماية وحدة سورية، ووحدة البلاد العربية كلّها، المستهدفة إسرائيلياً بمواقف معلنة وواضحة، يطلقها المسؤولون في حكومة نتنياهو.
العربي الجديد
—————————-
مَن يرفع العلم الأخير؟: السويداء ودمشق بين الفصائل والتوازنات الهشّة/ تمام صيموعة
17-03-2025
منذ سقوط نظام الأسد، توالت زيارات الوفود من السويداء إلى دمشق، حيث شهِد قصرُ الشعب لقاءات متكررة بين ممثلين عن المحافظة والقيادة الجديدة في العاصمة. التصريحات الصادرة عقب هذه الاجتماعات كانت تؤكد دائماً على تعزيز التنسيق بين الجانبين، والسعي إلى رسم إطار جديد للعلاقة بين دمشق والسويداء في ظل المتغيرات الإقليمية والتطورات الداخلية التي تشهدها البلاد.
كانت الزيارة الأولى لوفد من السويداء إلى دمشق بعد تسعة أيام من سقوط الأسد، حيث التقى ممثلون عن القيادات المحلية بقائد إدارة العمليات العسكرية آنذاك، أحمد الشرع، قبل توليه منصب الرئاسة. ضمّ الوفد شخصيات عدة، من بينها سلمان الهجري، نجلُ الشيخ حكمت الهجري، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يحضر فيها نجل الشيخ ضمن هذه اللقاءات في دمشق.
خلال الفترة الأولى ما بعد التحرير، كثّفت دمشق من حضورها في السويداء عبر سلسلة زيارات قام بها ممثلها والقائم بأعمال المحافظة مصطفى بكور إلى فعاليات محلية ودينية. تبادلُ الوفود بين المدينتين كان نشطاً، لكن وفق مصادر خاصة للجمهورية.نت، لم تكن تلك اللقاءات بروتوكولية فقط، بل نوقشت فيها فيها ملفات أمنية وعسكرية، إذ وضعت دمشق الملف العسكري في السويداء كأولوية، ما جعلها تكثّف من تواصلاتها مع الفصائل المسلحة المؤثرة، مثل حركة رجال الكرامة، ولواء الجبل، وليث البلعوس. وفي المقابل، بدا موقفها أقل حماسة تجاه الشيخ حكمت الهجري، الذي لا يمتلك جسماً عسكرياً خاصاً به، ما جعله خارج دائرة اللاعبين المفضلين لديها.
وفي الوقت الذي سعت فيه دمشق إلى ترتيب أوراقها في السويداء عبر الفصائل فقط، بقي الموقف من سلطاتها متحفظاً لدى القوى المدنية المحلية، خاصة في ظل تضييق دائرة احتكار السلطة وغياب أي بوادر فعلية لنهجٍ مختلف في المسار السياسي.
*****
في 24 شباط (فبراير) عاد مشهدُ الوفود بين السويداء ودمشق يتكرّر، ولكن في سياق مختلف. حرّك تصريحٌ لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول استعداد بلاده «لحماية الدروز» التساؤلاتَ حول ملف السويداء وعلاقتها مع دمشق، وظهر بعد ساعات قليلة من التصريح وفد من السويداء في دمشق مجتمعاً مع الرئيس أحمد الشرع، شملَ عدداً من ممثلي الفصائل، وعلى رأسها ممثلي حركة رجال الكرامة ولواء الجبل، أكبر فصيلين عسكريين داخل المحافظة، إضافة إلى الشيخ سليمان عبد الباقي وليث البلعوس.
كرم منذر، أحد أعضاء الوفد، أكد للجمهورية.نت أن اللقاء لم يكن ردّاً مباشراً على التصريحات الإسرائيلية، بل جاء امتداداً لسلسلة اجتماعات سابقة مع مسؤولين في وزارة الدفاع، وعلى رأسهم «أبو البراء»، المسؤول في وزارة الدفاع بحسب منذر، بالإضافة لوزير الدفاع مرهف أبو قصرة. لكن رغم ذلك، لم تغب التصريحات الإسرائيلية عن الجلسة، وإن لم تكن عنوانها الرئيسي.
في حديثه، أشار منذر إلى أن جميع الحاضرين اتفقوا على رفض الطرح الإسرائيلي وأي مشاريع تقسيم، بل إن النقاشات ذهبت أبعد من ذلك؛ إذ سأل منذر الرئيسَ الشرع عن الموقف الدولي حيال الجنوب، وعن ما إذا كانت سلطة دمشق قد أبرمت أي اتفاق سري بخصوص ذلك، وكان الرد حاسماً: «التمدد الإسرائيلي مرفوض ولا يوجد أي اتفاق أو تواصلات بشأنه، والأجواء العربية والأوروبية غير متحمسة له». وأنهى منذر حديثه بالقول: «حتى لو كانت هناك اتفاقيات دولية للتقسيم، نحن لن نقبل بها».
وبحسب منذر، حَمل موفد حركة رجال الكرامة مطلباً رئيسياً لهذا اللقاء، وهو فتحُ معبر تجاري مع الأردن، والردُّ على هذا الطلب لم يكن مباشراً، إذ لم يرفض الشرع الفكرة بشكل صريح، لكنه قدّم بديلاً عنها وهو سوق تجارية حرة داخل السويداء بدلاً من إقامة معبر: «الكلمات كانت دبلوماسية، لكن الرسالة كانت واضحة: المعبر ليس خياراً مطروحاً الآن». وانتهى الاجتماع مع إدراك الحاضرين أن ملف العلاقة بين دمشق والسويداء ما زال في طور التشكّل.
كانت التداولات مطمئنة إذاً، لكن خلفها خطوات أعمق يجري العمل عليها، أبرزها ما تسعى إليه السلطة بالتعاون مع وزارة الدفاع: إعادة هيكلة الفصائل، ورسم ملامح جديدة لما سيبدو عليه المشهد الأمني والعسكري في الجنوب.
في اليوم نفسه الذي أطلق فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تصريحه حول «حماية الدروز»، انتشر في السويداء خبر آخر، أكثر محلية، لكنه لا يقل أهمية: إعلان تشكيل «المجلس العسكري في السويداء». في الفيديو التأسيسي، ظهر مجموعة من الضباط المنشقين، وعساكر سابقين في جيش النظام، إلى جانب مدنيين مسلحين، يعلنون تأسيس المجلس، ويحملون أعلاماً زرقاء عليها خريطة سوريا، تتشابه بالشكل مع علم قوات قسد شمال شرق الفرات.
لم يتأخر الأمر طويلاً حتى بدأت مقاطع فيديو أخرى لمجموعات مسلحة من قرى مختلفة بالظهور معلنة ولاءها للمجلس الجديد، في مشهد أعاد إلى الأذهان بدايات التشكيلات العسكرية خلال السنوات الأولى من الحرب، في حين أن المجلس، الذي أعلن أن العقيد المنشق طارق الشوفي هو قائده، لم يقدّم تفاصيل واضحة حول هيكليته العسكرية أو اختصاصاته، لكنه كان واضحاً بأنه غير راضٍ عن الصيغة التي تحاول دمشق رسمها لعلاقتها بالمحافظة الجنوبية.
الجمهورية.نت حاولت التواصل مع الشوفي مباشرة، لكن لم تتلق رد، كما أرسلنا أسئلة إلى الصفحة الإعلامية للمجلس لكنها بقيت دون إجابة. وبعد محاولات عدة، نجحنا أخيراً في تحديد موعد للقاء ممثل عن المجلس شرط عدم الكشف عن اسمه، وذلك لمحاولة فهم أهداف تأسيس المجلس وخططه للفترة القادمة.
*****
في الثالث من الشهر الجاري توجهنا إلى السويداء لإتمام اللقاء، وعند دخول المدينة شاهدنا إحدى سيارات الأمن العام تتجول في شوارعها، في مشهد بات اعتيادياً في دمشق لكنه غير مسبوق هنا، حيث لم يُعلن رسمياً عن أي اتفاق يَسمح بوجودها، ولم يسبق أن سُمح للأمن العام بالتحرك بحرية داخل المحافظة منذ سقوط نظام الأسد.
وعند لقاء ممثل المجلس العسكري بدا القلق واضحاً في صوته. لم يُخفِ غضبه مما اعتبره خطوة غير منسقة، مؤكداً أن دخول هذه السيارات إلى السويداء «لم يكن محل تفاهم مسبق»، ومع مرور الدقائق بدأت الأخبار الواردة تجعل الأجواء مشحونة؛ السيارات وعددها سبع، لم تأتِ مباشرة من دمشق إلى السويداء عموماً، بل قُدّمت عبر اتفاق مع حركة رجال الكرامة خلال اجتماعهم الأخير مع دمشق، على أن تُستخدم لتعزيز الضابطة الشرطية والأمن الجنائي، ويكون عناصرها وسائقوها من أبناء السويداء. لكن بالنسبة لمسؤول المجلس العسكري، لم يكن الأمر بهذه البساطة: «هذه ليست هدية للمحافظة… هل السويداء بحاجة إلى هذه السيارات؟ هذه محاولة من دمشق للدخول إلى المدينة بشكل غير مباشر. هذه ليست سوى هدية فتنة»، مضيفاً أنه لو كانت السلطة صادقة في نواياها، لأعطت هذه السيارات للمؤسسات الرسمية، لا إلى فصيل بعينه. لم يطل اللقاء، إذ فضّل تأجيله مع تصاعد التوتر حول هذه القضية.
بعد ساعات، لم يُبقِ المعترضون الأمر في نطاق التصريحات. تحركت مجموعات مسلحة لاعتراض السيارات، ونجحت في احتجاز اثنتين منها، في خطوة بدت كرسالة مباشرة لحركة رجال الكرامة: الاتفاق لن يمر بسهولة.
استقدام سيارات الأمن العام دون إعلان مسبق، وفي ظل الأخبار الدموية القادمة من الساحل، بدا وكأنه استفزاز للقسم المتوجّس من شكل الحكومة في دمشق، إذ عزز هذا التزامن المخاوف من أن خطوات إعادة العلاقة إلى طبيعتها مع دمشق تجري وفق إيقاع لا يراعي حساسيات المرحلة، بل يفرض واقعاً جديداً دون نقاش. وبحسب مصادر خاصة تحدثت إلى الجمهورية.نت، فإن اجتماعاً لم يُعلن عنه انعقد في دارة الشيخ حكمت الهجري ببلدة قنوات، بهدف احتواء التوتر الذي تصاعد بعد اعتراض السيارات، وسط مخاوف من أن يتحول الأمر إلى صدام أوسع بين الفصائل، وحضره كل من شيخ العقل يوسف جربوع، الممثل الديني لعائلات مدينة السويداء، وشيخ العقل حمود الحناوي، الممثل الديني لعائلات الجنوب.
المصادر ذاتها أكدت أن الاجتماع ركّز على كيفية تجنب أي خطوة قد تُفسّر كإملاء سياسي من دمشق على السويداء، خاصة مع حساسية الأوضاع بعد اللقاءات الأخيرة في العاصمة. وفي نهاية الاجتماع، تم التوصل إلى اتفاق مؤقت غير معلن يقضي ببقاء السيارات لدى حركة رجال الكرامة، ولكن دون تشغيلها أو السماح لها بالتجول داخل المدينة، حتى يتم التوصل إلى تفاهم رسمي بين جميع الأطراف المعنية.
وفي بيان نشرته حركة رجال الكرامة بعد الحدث، حمّلت الحركة جهات لم تسمّها مسؤولية إثارة الفوضى، مؤكدة أنها اتفقت مع «مضافة الكرامة» و«تجمع أحرار جبل العرب» من جهة، ووزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة من جهة أخرى، على تفعيل الأمن العام في السويداء بكوادر محلية، بدعم وإمداد لوجستي من الوزارة. لكن ما بدا لافتاً في البيان هو الإشارة إلى أن التنسيق اقتصر على أطراف محددة، مثل سليمان عبد الباقي وحركة «رجال الكرامة»، متجاهلاً قوى أخرى فاعلة في المشهد على رأسها الشيخ حكمت الهجري، وهو ما اعتبره البعض خطوة استفزازية، خاصة في ظل حساسية التوازنات داخل المحافظة.
*****
استمرّت الحياة في السويداء كالمعتاد، مع ازدحام الأسواق وحركة المرور اليومية، كانت النقاشات تتصاعد في الدوائر المغلقة، وتتراوح بين الغضب والاستنكار والقلق مما يجري. في المقاهي وأماكن اللقاء، كان الجدل مستمراً حول حادثة السيارات وما تمثله.
كثير من ناشطي المجتمع المدني عبّروا خلال أحاديثهم عن رفضهم لإيقاف السيارات، معتبرين أنها تعزز عزلة السويداء وتقطع أي إمكانية لتنظيم العلاقة مع دمشق وفق أسس واضحة، ورأوا في ذلك خطوة غير محسوبة، قد تزيد من تعقيد المشهد في المحافظة، خاصة أن العديد منهم، رغم اعتراضهم على سياسات السلطة الرسمية، لا يرفضون بالمطلق أي تواصل من شأنه أن يضمن استقرار المنطقة. لكن وسط كل هذا النقاش، كان هناك إجماع غير معلن: لا يوجّه أحد انتقاداً علنياً للشيخ حكمت الهجري، معتبرين أن أي انقسام داخلي قد يكون أخطر على السويداء من أي قرارات خارجية.
بينما تستمرُّ النقاشات داخل الأوساط المدنية في السويداء حول العلاقة مع دمشق، يبرز تيار واضح يرفض القطيعة الكاملة مع السلطة المركزية، لكنه يتحفظ على سياساتها ويخشى من محاولاتها فرض الهيمنة.
بشار سريوي، عضو مكتب التنسيق في الحركة السياسية الشبابية، رغم حضوره مؤتمر الحوار الوطني في دمشق ومشاركته في عدد من الجلسات داخل العاصمة، لا يُطلق على السلطات الرسمية هناك اسم «سلطة»، بل يصفها بأنها «إدارة مؤقتة» تفتقر إلى الأطر الدستورية التي تمنحها الشرعية الكاملة. لكنه في المقابل لا يرى في هذا سبباً لقطع العلاقة مع دمشق، بل يعتبر أن أي محاولة لتعطيل هذه العلاقة هي جزء من مشاريع تهدف إلى إضعاف الجنوب وعزله.
يرى سريوي أن القوى داخل السويداء تنقسم إلى ثلاثة تيارات: الأول يؤمن بالمركزية ويدفع نحو تعزيز الارتباط مع دمشق، والثاني يدعو إلى الفيدرالية كخيار وسط، بينما يدعو الثالث إلى الانفصال الكامل.
وبينما تواصل دمشق إعادة هيكلة الفصائل بالتعاون مع بعض القوى المحلية، فإن هناك أطرافاً تحاول عرقلة هذا المسار تحت شعارات مختلفة، وهو ما يراه سريوي محاولة لإبقاء الجنوب في حالة اضطراب دائمة. ويؤكد سريوي أن الموقف من دمشق تحكمه التحفظات، لا القطيعة، فهو يعارض ما يصفه بنهج «المنتصر والمهزوم» الذي تتبعه السلطة الحالية، لكنه يرى أن تعطيل العلاقة معها، أو البحث عن بدائل غير واقعية، لا يخدم مصلحة السويداء، لذلك، يعارض أي مشاريع تسعى لاستغلال الأوضاع الداخلية لإضعاف موقف المحافظة أكثر، سواء عبر ربطها بأجندات خارجية أو دفعها نحو مواجهات غير محسوبة.
*****
في اليوم التالي، عند الساعة الحادية عشرة صباحاً، كان موعدنا الجديد مع ممثل المجلس العسكري. اختار المصدر أن يتم اللقاء في مبنى رسمي قديم وسط مدينة السويداء، وعند الدخول، لم يكن المشهد متوافقاً مع الصورة التي يسعى المجلس العسكري إلى ترسيخها في بياناته؛ مكاتب متفرقة وأوراق متناثرة لا توحي بنظام واضح. بدا المكان وكأنه ما زال في طور التجهيز، ولا يعكس صورة الكيان العسكري المنظم الذي يسعى المجلس إلى تقديمها في بياناته.
قال المصدر إن المجلس العسكري يضم 16 سرية، مع تزايد مستمر في العدد، ويعمل على توحيد الفصائل تحت مظلة عسكرية واحدة. لكن حين طُرحت الأسئلة حول حجم السيطرة الفعلية، بدت الإجابات أكثر عمومية؛ «المسائل اللوجستية ليست للنشر الإعلامي»، قال هذا مكتفياً بتأكيد فضفاض على وجود المجلس في أكثر من 20 نقطة عسكرية موزعة في أنحاء المحافظة.
لم يكن حجم السيطرة وحده موضع الجدل، بل أيضاً بعض الوجوه التي ظهرت خلال إعلان المجلس. أحد الضباط السابقين في جيش النظام، والذي خدم في منطقة القطيفة بريف دمشق، حيث كانت تُطلق الصواريخ الباليستية باتجاه الشمال خلال السنوات الماضية، كان حاضراً في الاجتماع التأسيسي، وفتح حضوره باب التكهنات حول طبيعة الأدوار التي قد يلعبها مستقبلاً داخل المجلس، لكن المصدر نفى أي علاقة رسمية لهذا الضابط بالمجلس، موضحاً أنه حضر بصفته الشخصية، وأن الباب لم يكن مغلقاً أمام أي طرف لحضور الاجتماع. نفيه كان مباشراً، لكنه لم يحمل ما يكفي من الحزم لإغلاق باب الشكوك، خاصة أن هذا الظهور لم يكن الأول لشخصيات ذات خلفيات مشابهة في الجنوب السوري. وعن الجدل المرتبط براية المجلس العسكري، أقرّ المصدر بوجود تشابه بصري بينها وبين راية قوات سوريا الديمقراطية، لكنه رأى أن المسألة محصورة في البعد السوري: «نحن عرب سوريون»، قال، قبل أن يضيف أن إسرائيل، إن كانت لديها مشاريع فعلية في المنطقة، فهي ليست بحاجة إلى مغازلات أو تفاهمات، بل تستطيع فرضها على الأرض دون الحاجة إلى هذا الجدل.
تشكل علاقة المجلس العسكري بالشيخ حكمت الهجري النقطة الأكثر غموضاً، حيث نفى الشيخ الهجري خلال لقائه الوفود الزائرة أي ارتباط رسمي بالمجلس، لكنه، بالنسبة للمصدر في المجلس العسكري، هو الأب الروحي للمجلس، وصاحب تأثير حقيقي: «إذا قرر حل المجلس، سينتهي». كل هذا يجعل من المجلس العسكري وكأنه كيان يتشكل في الهواء، هشٌّ أكثر بكثير مما يظهر في خطاباته المصورة.
في اليوم التالي لإيقاف سيارات الأمن العام، دخلت مجموعات مؤيدة للشيخ حكمت الهجري إلى مبنى محافظة السويداء عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، في خطوة بدت كأنها رفضٌ للتطبيع وردٌّ على وصول سيارات الأمن العام إلى المدينة دون إعلان مسبق. تزامن ذلك مع إنزال العلم السوري ورفع علم الدروز فوق المبنى، في إشارة واضحة إلى موقف مناهض للإجراءات المرتبطة بدمشق، كشف عمقَ التباينات داخل المدينة حول العلاقة مع دمشق، وأعاد طرح السؤال القديم الجديد: كيف ترى السويداء مستقبلها في ظل المعادلات الحالية؟
في هذا السياق، يرى الناشط فادي الحلبي أن تبسيط الموقف تجاه دمشق إلى ثنائية «مع أو ضد» هو اختزال مخلّ بالواقع. بالنسبة للبعض، لا يمكن للمدينة أن تخرج من حالة الفوضى دون تعاون مع الحكومة، خاصة بعد عقد من الاضطرابات التي أنتجت كيانات مسلحة خارج أي إطار مؤسساتي. لكن في المقابل، يرفض آخرون هذا الطرح، معتبرين أن العودة إلى أحضان دمشق في ظل شكل السلطة الحالية تعني إعادة إنتاج المشكلات نفسها.
بالنسبة للحلبي، المشكلة ليست فقط في الخيارات المطروحة، بل في الطريقة التي يُفرض فيها النقاش، حيث يتم تصوير أي موقف مستقل على أنه خيانة أو انحياز لمحور معين، وهو ما يعرقل أي محاولة للوصول إلى حل حقيقي، ويرى الحلبي أن ظهور المجلس لا يعكس حاجة ملحّة بقدر ما يعكس تدفقاً في التمويل، مشيراً إلى أن التشكيلات العسكرية التي سبقته لم تستطع فرض واقع جديد في المحافظة.
يرفض الحلبي التصور الذي يقدّمه البعض على أن المجلس العسكري بات طرفاً حاسماً، معتبراً أن الحديث عن سيطرته على المحافظة «ادعاء مبالغ فيه»، إذ أن معظم المواقع التي يزعم السيطرة عليها كانت مقرات مهجورة لعناصر النظام. مضيفاً أن هذا النوع من الخطاب التضخيمي لا يعكس بالضرورة قوة فعلية، بقدر ما يعكس محاولة لفرض صورة ذهنية عن نفوذ غير مكتمل.
أما عن المشهد الداخلي، فيرى الحلبي أن التوتر في السويداء لا ينبع فقط من الصراع مع دمشق، بل أيضاً من تعقيدات العلاقات بين القوى المحلية. أمراء الحرب، كما يسميهم، بنوا نفوذهم خلال السنوات الماضية، وأي محاولة لإعادة ترتيب المشهد تعني المساس بمصالح راسخة، وهو ما يجعل احتمال التصادم الداخلي أكثر قرباً مما يظن البعض. ويضيف أن التخوين المتبادل، إلى جانب البعد الديني الذي بدأ يتسلل إلى الخطاب، يزيد من خطورة أي صراع قادم، مشيراً إلى أن تاريخ السويداء مليء بالاقتتال الداخلي، والرهان على استثناء هذه المرحلة منه قد يكون وهماً خطيراً.
*****
في 11 من الشهر الحالي تكررت مشاهد إنزال ورفع الأعلام فوق مبنى محافظة السويداء دون حدوث أي تصادم، في تعبير واضح عن الانقسام حول العلاقة مع دمشق. فبعد إعادة رفع العلم السوري على المبنى، سرعان ما أُنزل مجدداً ليُرفع علم الدروز مكانه، وكأن المشهد بات مرآة للواقع السياسي في المحافظة، حيث لا يحسم أي طرف السيطرة بشكل نهائي.
تزامن ذلك مع توقيع السلطات الرسمية وثيقة تفاهم مع قوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا، ما دفع ناشطي السويداء الذين يصرون على التواصل مع دمشق إلى تصوير فيديو وهم يرفعون العلم الأخضر فوق المبنى، في خطوة بدت محاولة لإيجاد طريق سياسي أكثر وضوحاً نحو دمشق، ورداً على ذلك رفع مناهضون لإعادة العلاقة مع دمشق علم الدروز أمام المبنى الذي يحمل العلم السوري، ليكون مبنى المحافظة عليه العلم السوري وأمامه السارية التي تحمل علم الدروز.
في اليوم نفسه أعلنت بعض الفصائل التي أجرت محادثات مع دمشق أنها توصلت إلى اتفاق مع السلطات هناك، في حين انسحب ممثلو الشيخ حكمت الهجري من المحادثات وفق ما أكده الناطق الرسمي لحركة رجال الكرامة. بدا موقف الشيخ حكمت الهجري مهزوزاً بعد إعلان ممثل حركة رجال الكرامة انسحاب ممثليه من الاجتماع مع السلطات الرسمية في دمشق، لكن سرعان ما اتخذ المشهد منحى آخر، فظهرت في اليوم التالي، 12 آذار (مارس)، وثيقة اتفاق بين الإدارة الجديدة وممثلين عن الشيخ الهجري، وتضمنّت، وفق ما جاء فيها، التزام السلطات الرسمية في دمشق بتنفيذ مشاريع خدمية في السويداء.
نشرُ الوثيقة بدا وكأنه محاولة لتسوية الخلافات وإظهار الهجري على أنه خضع لشروط دمشق، إلا أن الشيخ لم يمنح موافقة صريحة، بل تراجع خطوة إلى الوراء، في موقف بدا أشبه بالتريث، وسارعت الرئاسة الروحية إلى إصدار توضيح بأن ما جرى كان مجرد اجتماع، وأنها غير ملزمة بأي من القرارات التي خرجت عنه.
تراجعُ الشيخ الهجري عن موقفه أثار موجة انتقادات للهجري تضمّنت إعادة نشر فيديوهات تشير إلى علاقاته مع بشار الأسد في السنوات الأولى للثورة، واتهامه بالعمالة لإسرائيل. لم يخرج الهجري لإجراء أي مقابلات تلفزيونية، بل خرج كل من يوسف جربوع شيخ عقل مدينة السويداء، وحمود الحناوي شيخ عقل القسم الجنوبي من المحافظة حمود الحناوي، بمقابلات تلفزيونية، اعتبروا خلالها أن التباين في موقف السويداء جاء نتيجة سلوك السلطات الرسمية في دمشق، وسيطرة أعضاء من هيئة تحرير الشام المصنفة إرهابية على مفاصل الدولة، وعزز هذا الظهور لشيخي العقل موقف الهجري بالتريُّث في التوصل إلى اتفاق مع دمشق، باعتباره موقف المحافظة الذي جاء على لسان الطبقة الدينية التقليدية فيها.
وفي 15 آذار (مارس) اندلعت جولة جديدة من حرب الأعلام في السويداء، بدأت مع ظهور قائد المجلس العسكري في تسجيل مصوّر أعلن خلاله عن تنسيق سياسي مع «تيار سوريا الفيدرالي»، وهو تيار يحمل طرحاً قريباً من توجهات قوات سوريا الديمقراطية، وبعد ساعات من الإعلان اقتحم محتجون موالون للشيخ حكمت الهجري مبنى المحافظة، وأزالوا العلم السوري ورفعوا راية الدروز، وكأنهم يردّون على تصريحات المجلس بخطوة مباشرة تعيد رسم حدود السيطرة الرمزية في المدينة.
في اليوم التالي، وأثناء وقفة لإحياء ذكرى الثورة في ساحة الكرامة، ساد اتفاق على عدم رفع أي علم، في محاولة لخلق مساحة محايدة وسط الانقسام المتصاعد، لكن الاتفاق لم يصمد طويلاً، إذ رفع أنصار المجلس العسكري أعلامهم، ما أشعل عراكاً بينهم وبين المحتجين الآخرين، وكأن الأعلام تحوّلت إلى أدوات للصراع.
*****
يبدو أن حرب رفع الأعلام وإنزالها في السويداء ليست مجرد مشهد رمزي، بل اختصار مكثف لحالة المحافظة ككل، حيث لا يحسم شيء بالكامل. ورغم أن الحياة اليومية تمضي بإيقاعها المعتاد، إلا أن الصراع على رفع العلم يكشف أن السويداء لم تختر موقفاً موحداً، بل اختارت أن تظل في حالة إعادة تموضع دائمة، تُعيد فيها ترتيب أوراقها وفق المتغيرات، دون أن تحرق جسورها.
هذا التذبذب، وإن بدا علامة ضعف، يمنحها في الواقع قدرة على المناورة وتجنب قرارات قد يصعب التراجع عنها لاحقاً. الخروج بموقف واحد من السويداء ليس خياراً مطروحاً الآن، وربما لن يكون كذلك في المستقبل القريب. ستظل المحافظة تتحدث بعدة أصوات، تتعارض أحياناً، لكنها تتقاطع عند الضرورة. وحتى في علاقتها بدمشق، لا يكمن التحدي في مجرد التوصل إلى اتفاق، بل في القدرة على جعله صامداً حين ينتقل من الورق إلى الواقع، حيث يصير الالتزام أصعب من التوقيع، وحيث لا يكفي رفع علم أو إسقاط آخر لحسم المواقف.
موقع الجمهورية
————————
سيناريو جنوب لبنان يتكرر على الحدود السورية: هل تنشأ منطقة عازلة؟/ طوني بولس
دمشق أبلغت جهات أمنية في بيروت أن الأمن القومي السوري يمتد إلى عمق 50 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية
الثلاثاء 18 مارس 2025
تصاعدت حدة الاشتباكات على الحدود اللبنانية – السورية متجاوزة الحوادث الأمنية المعتادة، لتكشف عن صراعات إقليمية أعمق، إذ تتهم سوريا “حزب الله” بحماية معارضين للنظام، بينما يعتبر الحزب مناطق حدودية سورية امتداداً حيوياً له، فيما تطالب دمشق بمنطقة عازلة بعمق 50 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية خالية من أي وجود لـ “حزب الله” أو معارضين سوريين للحكم الجديد.
شهدت الحدود اللبنانية – السورية اشتباكات خطرة اندلعت عقب مقتل ثلاثة عناصر تابعين لوزارة الدفاع السورية على الأراضي اللبنانية، وجرى اتصال بين وزير الدفاع اللبناني ميشال منسى ونظيره السوري مرهف أبو قصرة لمحاولة احتواء الوضع والتوصل إلى تهدئة. وجرى الاتفاق على وقف إطلاق النار بين الجانبين على أن يستمر التواصل بين مديرية المخابرات في الجيش اللبناني والمخابرات السورية للحؤول دون تدهور الأوضاع على الحدود بين البلدين تجنباً لسقوط ضحايا مدنيين أبرياء.
لكن القضية أعمق من مجرد حوادث أمنية متفرقة، إذ تحمل جذوراً تمتد إلى الصراعات الإقليمية الكبرى التي تعيد تشكيل المشهد الحدودي والنفوذ الإقليمي، فمن ناحية لا يزال “حزب الله” ينظر إلى بعض المناطق الحدودية السورية كامتداد حيوي له، خصوصاً في بعض المناطق السورية التي يقطنها لبنانيون من الطائفة الشيعية مثل الحوش وحاويك وزينتا والقرى الأخرى الواقعة في العمق السوري ضمن منطقة القصير في ريف حمص والقلمون الغربي، وفي المقابل تتهم الحكومة السورية “حزب الله” بحماية فلول النظام السوري السابق في مناطق بعلبك والهرمل والقرى الحدودية اللبنانية، مما يثير قلق القيادة السورية التي تعتبر أن هذا التمدد يشكل خطراً على استقرارها الداخلي.
كذلك تتهم جهات سورية “حزب الله” بالإسهام في إعادة تنظيم مجموعات مسلحة موالية للنظام السابق، إذ تؤكد أن مؤامرة محاولة الانقلاب في الساحل السوري أديرت من منطقة جبل محسن في طرابلس بشمال لبنان، وفي المقابل نفى الحزب هذه الاتهامات معتبراً أنها تأتي في سياق محاولات تضليل الرأي العام وتبرير الاعتداءات السورية على لبنان، واصفاً ما يجري على الحدود بأنه “تطور أمني يحتاج إلى معالجة سياسية وأمنية بين البلدين”.
رئيس الجمهورية اتصل بوزير الخارجية يوسف رجي، الموجود في بروكسل، وطلب منه التواصل مع الوفد السوري المُشارك في “المؤتمر التاسع لدعم مستقبل سوريا”، للعمل على معالجة المشكلة القائمة بأسرع وقت ممكن، بما يضمن سيادة الدولتين ويحول دون تدهور الأوضاع
— Lebanese Presidency (@LBpresidency) March 17, 2025
المنطقة العازلة
ومع تصاعد التوتر يبدو أن القيادة السورية باتت تنظر إلى لبنان بصيغته الحالية كمصدر تهديد للأمن القومي السوري، إذ أكد مصدر عسكري في دمشق أنهم أبلغوا جهات أمنية في بيروت أن الأمن الإستراتيجي السوري يمتد إلى عمق 50 كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية، مما يعني أن الحكومة السورية تطالب بمنطقة عازلة على امتداد الحدود مع لبنان خالية من أي وجود لـ “حزب الله” أو أي عناصر تابعة للنظام السابق داخل هذا النطاق.
وبحسب المعلومات فإن السلطات السورية أرسلت تحذيرات مباشرة إلى الأجهزة الأمنية اللبنانية، مؤكدة أنها لن تتسامح مع أي تهديد ينطلق من لبنان لزعزعة استقرارها الداخلي، ولا سيما في ظل المخاوف من إدارة عمليات مشابهة لتلك التي شهدتها السهول السورية من داخل لبنان.
وتؤكد مصادر دبلوماسية وجود نقاش حول إمكان توسيع صلاحيات القرار الدولي رقم (1701) ونشر قوات حفظ سلام دولية على جانبي الحدود اللبنانية – السورية، مشيرة إلى أن ذلك يتطلب موافقة من الدولتين وصدور قرار عن مجلس الأمن الدولي.
سيناريو الجنوب
وفي ظل هذه المعطيات يلوح في الأفق إمكان إنشاء منطقة عازلة على الحدود اللبنانية – السورية، على غرار ما حدث في جنوب لبنان مع إسرائيل حينما دمرت الأخيرة الأنفاق والبنية التحتية التابعة لـ “حزب الله” وطردت مقاتليه من القرى الحدودية خلال الحرب الأخيرة، والآن يبدو أن هناك مسعى مماثل إلى ضبط الحدود الشرقية والشمالية للبنان، إذ تدفع القيادة السورية باتجاه إزالة أي وجود عسكري للحزب من المناطق الحدودية، وتطلب من الجيش اللبناني تنفيذ هذه المهمة من جانبه.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يملك الجيش اللبناني القدرة على ضبط الوضع؟ وإذا فشل في ذلك فهل ستلجأ دمشق إلى تدخل عسكري مباشر لفرض الأمر الواقع بالقوة؟
تحركات دبلوماسية
في بيروت أعلنت السلطات اللبنانية تواصلها مع الحكومة السورية لاحتواء الأزمة، إذ أفاد بيان صادر عن الرئاسة اللبنانية أن الرئيس جوزاف عون وجّه وزير الخارجية يوسف رجي بالتواصل مع القيادة السورية بهدف “ضمان سيادة البلدين وتجنب أي تصعيد إضافي”، كما أكد البيان أن الجيش اللبناني تلقى توجيهات “بالرد على مصادر النيران”، مشدداً على أن ما يجري على الحدود الشرقية والشمالية الشرقية “لا يمكن أن يستمر”.
بين التهريب والسياسة
الباحث في الشؤون العسكرية والسياسية جوني خلف اعتبر أن الاشتباكات التي حصلت عند الحدود السورية اللبنانية أخذت طابع عمليات عسكرية بين الجانبين و”حزب الله” تدخل في هذه العمليات مباشرة على رغم نفيه وقد شارك فيها بقوة، كاشفاً أن هذه العمليات والاشتباكات التي حصلت في منطقة حدودية برية بين سوريا ولبنان وتحديداً المناطق التي تتضمن معابر غير شرعية هي نتيجة عمليات التهريب في المنطقة التي هي على الأرجح سبب اندلاع هذه الاشتباكات.
يرى الباحث العسكري أن الجيش اللبناني قام بدوره كاملاً في هذه الأحداث، فهو عزز حضوره بشكل كبير واتخذ تدابير استثنائية ورد على مصادر النيران التي أطلقت من الجانب السوري، ما أعطى نوعاً من الطمأنينة للمواطنين الذين يقطنون في القرى الحدودية وبخاصة تلك المتداخلة بين البلدين، فيما نتج عن الاتصالات السياسية والأمنية تهدئة أوصلت إلى وقف إطلاق النار الذي أعلن.
ويتابع أن هذه الاشتباكات ستفتح من دون شك ملف “حزب الله” في كل المناطق اللبنانية وليس فقط جنوب الليطاني وكذلك انتشار السلاح غير الشرعي بين اللبنانيين وغير اللبنانيين، وسط مطالبات متزايدة بضرورة حصرية هذا السلاح بين الدولة اللبنانية فقط من دون استثناء.
إضافة، يرى خلف أن هذه التطورات تسلط الضوء بقوة على مسألة تفلت الحدود بين سوريا ولبنان، التي لا بد أن تشهد ترسيم حدود واضحة بين البلدين، بخاصة في ظل وجود عدد من البلدات اللبنانية المتداخلة في العمق السوري ويقطنها لبنانيون، ومثال عليها بلدة القصر التي شهدت في الساعات الماضية قصفاً عنيفاً.
ويرى الخبراء العسكريون أن الصراع على الحدود يتجاوز مجرد اشتباكات مسلحة، إذ يرتبط بملفات أمنية واقتصادية وسياسية معقدة، وأشار الباحث العسكري العميد المتقاعد خالد حمادة إلى أن “هذه المواجهات ليست وليدة اللحظة بل تعود لصراعات قديمة على النفوذ والتهريب”، مشيراً إلى أن “المنطقة كانت خاضعة لسيطرة ‘حزب الله’ والفرقة الرابعة السورية والحرس الثوري الإيراني قبل انهيار النظام السوري”، مضيفاً أنه “مع تحول المشهد لمصلحة الجيش السوري فإن بعض الأطراف تسعى إلى إعادة ترتيب الأوراق، سواء عبر إعادة فتح ممرات تهريب أو تثبيت معادلات عسكرية جديدة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في تحول الصراع إلى مواجهات ذات طابع طائفي، وهو ما قد يدفع المنطقة إلى مزيد من الفوضى”.
توظيف الأزمة
وفي ظل الضغوط الدولية المتزايدة لنزع سلاح “حزب الله”، يرى مراقبون أن الحزب قد يستغل هذه المواجهات لإثبات أن “سلاحه ضروري لحماية لبنان”، بخاصة في مواجهة خصومه السياسيين الذين يطالبون بتطبيق القرار الدولي رقم (1701)، إذ يستفيد من هذه الأوضاع لتقديم نفسه كمدافع عن لبنان وبخاصة في ظل الحديث عن تهديدات خارجية، واليوم قد يحاول الحزب توظيف هذه الأزمة لإظهار أن “التهديد لا يزال قائماً، وبالتالي فلا يمكن التخلي عن السلاح”.
ويلفت حمادة إلى أن “الحل الحقيقي لا يكون عبر المواجهات العسكرية فقط بل من خلال قرارات سياسية جريئة بين بيروت ودمشق، ويجب ضبط الحدود بصورة قانونية ومنع أية جهة غير حكومية من فرض سيطرتها عليها، وإذا لم يجر احتواء هذا التوتر سريعاً فقد نشهد تصعيداً أوسع سيؤثر في الاستقرار الإقليمي بشكل عام”.
القرار رقم (1680)
من ناحيته رأى العميد المتقاعد يعرب صخر أن ما يحدث ليس مستغرباً بل كان متوقعاً، وحذر من تكراره مشيراً إلى أن هذا التصعيد قد وقع بالفعل منذ 40 يوماً تحت ذريعة التوترات العشائرية وتداخل السكان على الحدود بين لبنان وسوريا، وقال صخر إن “المشكلة تكمن في استمرار وجود طرق ومعابر تهريب، حيث يتسلل منها مسلحون ومشتبه بهم من الطرفين، إضافة إلى أن بعض الفلول السورية التي هربت من النظام السابق لا تزال تملك جيوباً في لبنان وسوريا، مما يزيد تعقيد الوضع”.
وأشار إلى أن “الأوضاع في المنطقة الحدودية الشرقية والشمالية الشرقية بين البلدين لا تزال غير مستقرة مما يشكل مصدر قلق دائم، بخاصة في ظل غياب الحسم الكامل من الجانب السوري”، مضيفاً أن “الجيش اللبناني بوجوده في تلك المنطقة نجح في منع تصعيد الموقف بصورة أكبر، لكنه لا يزال يواجه تحديات كبيرة في ضبط الحدود”.
وأردف أن التصعيد الحالي مرتبط جزئياً بما حدث الشهر الماضي بين العشائر السورية والمسلحين التابعين لـ “حزب الله”، مشيراً إلى أن “الحزب يُلقي باللوم على العشائر ويحاول تبرئة نفسه من التورط المباشر”، ولفت إلى أن الحزب قد يتخذ من هذه العشائر غطاء مستدلاً على ذلك بتكرار هذه الحجة في كثير من المواقف السابقة.
وفي السياق عينه شدد صخر على أن “هذه العشائر ليست سوى جزء من المنظومة التابعة للحزب ولا يمكن أن تتحرك من دون دعم وتخطيط منه”، متابعاً أن “منطقة الهرمل والقاع، وهما من أكثر المناطق التي يوجد فيها ‘حزب الله’ قرب الحدود السورية، تمثلان نقطة تلاق لهذه الجيوب العشائرية التي لا تزال تشكل تهديداً مستمراً للأمن والاستقرار في المنطقة”.
وأكد صخر ضرورة التطبيق العاجل للقرار الدولي رقم (1680) الذي يفرض على لبنان ضبط حدوده بصورة كاملة، وأوضح أن لبنان لا يمكنه الاستمرار في التلكؤ في تنفيذ هذا القرار، إذ إن الضغط الدولي سيجبره على التنفيذ، تماماً كما حدث في تطبيق القرار (1701) مع المبعوث الأميركي السابق آموس هوكشتاين، والذي ينص على تفكيك بنية “حزب الله” العسكرية ونزع سلاح الميليشيات.
الـ “كوريدور” الإيراني
بدوره لفت أستاذ القانون والسياسات الخارجية في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا محيي الدين الشحيمي إلى أن “هناك محاولات وألاعيب عدة ليست مخفية، تقوم بها عناصر وأذرع ‘حزب الله’ رغم نفيه المسؤولية، وأن ذلك يحدث بقرار محوري إيراني يقضي بالاستمرار في نشر الفوضى في مناطق محور الممانعة، وبخاصة في الجغرافيتين اللبنانية والسورية”.
وقال “لم تستوعب إيران بعد خسارتها للأرض السورية والـ ‘كوريدور’ الذي يربط طهران بالعاصمة اللبنانية، ولا يناسبها كذلك إقامة علاقة ندية مع الدولة اللبنانية أو تأسيسها على أسس جديدة مع الدولة السورية، ولذلك تسعى إلى إنتاج نزاع جديد على الحدود مع سوريا، إضافة إلى الصراع القائم وحال الحرب مع العدو الإسرائيلي”، مضيفاً أن هذه الاشتباكات تتعلق بعملية محاصرة الدولة اللبنانية والعهد الجديد بأمر من طهران، وعبر تنفيذ مباشر من الحزب على الأراضي اللبنانية، إضافة إلى بعض فلول النظام السوري السابق والناقمين السوريين على الحال السورية الجديدة”.
واعتبر الشحيمي أن “هذا المشهد يمثل سيناريو من الفوضى والاشتباكات والعلاقات غير المتوازنة حيث يجد لبنان نفسه بين فكّي كماشة، الأول عدو والثاني في علاقة مترنحة، مما يخدم سردية السلاح ويؤكد أن السلاح شمال الليطاني وداخل لبنان لا يزال أولوية في هذه المشهديات”، مشيراً إلى أن “ما ينبغي التنبه إليه هو عملية النكران المستمرة من قبل ‘حزب الله’، إذ ينفي علاقته الدائمة بهذه الأحداث ويحاول حصرها في قضايا الاشتباك مع عصابات التهريب وتجارة المخدرات مثل الكبتاغون، على رغم أنه هو نفسه من يستخدم هذه العصابات كواجهة”.
وأوضح الشحيمي أنه “في الوقت الذي تسجل الدولة اللبنانية والعهد الجديد جهداً كبيراً ومشهوداً يومياً لوضع حد لهذه الاشتباكات والتنسيق مع الجانب السوري والمضي قدماً في تنفيذ القرارات الدولية، ولا سيما القرارين (1701) و(1680)، فإن الحزب يخشى هذه التطورات لأن تنفيذ القرار الدولي (1680) لا يصب في مصلحته أبداً”، مشيراً إلى أن “هذا القرار يحرمه الأراضي السورية التي يقطنها لبنانيون والتي بقيت تحت سيطرته لعقود، حيث كانت العشائر اللبنانية تتمتع بحرية تامة في التنقل عبرها من دون أي ضوابط أمنية، في ظل غياب المراكز الأمنية السورية التي تضبط المعابر غير الشرعية”.
مشروع إسرائيلي
في المقابل أشار النائب في كتلة “حزب الله” حسين الحاج حسن إلى أن ما يحدث منذ فترة على الحدود اللبنانية – السورية، وبخاصة في منطقة الهرمل، هو اعتداء مسلحين من الجانب السوري على الأراضي اللبنانية، حيث يقومون بقصف القرى اللبنانية، كاشفاً عن أن “عدداً من المسلحين دخلوا إلى الأراضي اللبنانية واشتبكوا مع مواطنين لبنانيين مما أدى إلى مقتل عدد منهم، والجيش اللبناني سلم الجثث إلى الجانب السوري، والجثث كانت في الجانب اللبناني خلافاً لما ادعى الجانب السوري بأن بعض المسلحين دخلوا من لبنان إلى سوريا”.
وأشار الحاج حسن إلى أن “حزب الله” أصدر بياناً واضحاً يؤكد فيه ألا علاقة له بما جرى ويجري، وأن الإصرار على إقحام الحزب في الموضوع هو لأهداف سياسية مبيتة، مطالباً “الدولة اللبنانية والجيش اللبناني بالقيام بواجباتهم، وهم يقومون بواجباتهم ويجب أن يستمروا في مواجهة الاعتداءات التي أدت إلى مقتل مواطنين لبنانيين ونزوح من بلدة القصر الحدودية، وأن تقوم بواجباتها على المستوى السياسي والدبلوماسي والدفاع عن الأراضي اللبنانية”.
وبرأي النائب عن الحزب فإن المشروع الأميركي – الإسرائيلي أخذ المنطقة إلى التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية وانشاء إسرائيل العظمى، والتوتر والصراع في المنطقة يستهدف تقسيمها وتفتيتها خدمة لهذا المشروع”.
—————————-
الوحدة أم التقسيم: إلى أين تبدو سوريا أقرب اليوم؟/ طارق علي
الأكراد والدروز والعلويون يصطدمون بتفرد السلطات الجديدة في الإدارة
الاثنين 17 مارس 2025
انبثق عن وصول “تحرير الشام” إلى الحكم تعيين أحمد الشرع رئيساً للجمهورية وولادة سريعة لحكومة تسيير أعمال ارتكبت أخطاء كارثية (أ ب)
ملخص
بعد مرور 100 يوم على سقوط الأسد، برزت مطالبات بالفيدرالية والتقسيم والتدخل الدولي، في ظل ضغوط داخلية وخارجية تواجهها الإدارة السورية، فإلى أي جانب تميل؟ وكيف تعاملت سلطات دمشق مع الملفات الشائكة داخلياً؟
مرت 100 يوم على سقوط نظام الأسد بعد حكم استطال 54 عاماً لعائلته، قبل أن يبزغ فجر غرفة عمليات “ردع العدوان” التي تمثل هيئة “تحرير الشام” عصبها الرئيس، بزعامة أبو محمد الجولاني، الذي بات الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع بعد الوصول إلى السلطة وسدّة الحكم بعد معارك الأيام العشرة التي تهاوى فيها جيش الأسد ومنظومته كأحجار الدومينو في واحدة من أسرع عمليات قلب حكم متجذر في التاريخ الحديث.
ما بعد السقوط
انبثق عن وصول “تحرير الشام” إلى الحكم تعيين أحمد الشرع رئيساً للجمهورية العربية السورية، وولادة سريعة دونما مخاض لحكومة تسيير أعمال ارتكبت هفوات وأخطاء ترقى إلى مرحلة الكوارث أكثر مما تمكنت من توفير ظروف إيجابية لبيئة الحكم المستجد، فالحكومة التي تجاوزت دورها القانوني والدستوري أقدمت على ممارسات تحتاج إلى حكومة دستورية توافقية حقيقية يحق لها التدخل في كل مفاصل البلد من أزمة المناهج وصولاً إلى صرف 400 ألف موظف حكومي بشكل تعسفي مروراً بعشرات القرارات التي تركت أثراً سلبياً ليس على رأسها استبعاد الخبرات والكفاءات والاستعانة بالولاءات من غير المتخصصين ولا قضية منح رتب عسكرية عليا لمتشددين أجانب، وصولاً إلى ما يراه مراقبون محاولة تعميم تجربة الحكم في إدلب بالقوة على كامل الجغرافيا السورية على مختلف مشارب وانتماءات سكانها وتنوعهم الإثني والديني والمذهبي.
حوار وطني وإعلان دستوري
كل ذلك كان قبل عقد مؤتمر حوار وطني “سُلِقَ” على عجل فجاءت مخرجاته وكأنه ما جرى، من ناحية الانتقائية في الدعوات والاستعجال في التحضير والبيان الختامي الجاهز مسبقاً، لتقود كل تلك الأمور نحو الوصول إلى الإعلان الدستوري الذي كرّس حالة الضياع الجمهوري للعهد الجديد.
الإعلان الذي طُبخ على عجالة أيضاً لاقى استهجاناً مرتبطاً بحال من الرفض لدى شريحة واسعة من السوريين الذين عبروا عن آرائهم في الملتقيات والمنتديات وحساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن ذلك الإعلان حمل في تفاصيله وشكله ومضمونه التهيئة لإنتاج نظام حكم شمولي – ديكتاتوري جديد يفصل السلطات عن بعضها شكلاً ويجمعها مضموناً في يد الرئيس الذي سيتولى معظم المهمات الدستورية العليا، لا سيما تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ورئاسة مجلس القومي، ورئاسة الحكومة والدولة وغير ذلك من سلطات يمكن أن تُحصَر في يده.
التفاف على التفاهم الكردي
ساء حظاً للسوريين أن الإعلان الدستوري جاء بعد يومين على توقيع مذكرة تفاهم في دمشق بين الشرع وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية (قسد)، مظلوم عبدي، التي حملت بريق أمل بدمج القوات الكردية في مؤسسات الدولة السورية إثر وثيقة تفاهم من بنود عدة ليأتي الإعلان الدستوري ضارباً بذلك التفاهم عرض الحائط.
“لدى ‘قسد’ قيادات علمانية راديكالية، وحين التعامل معها يجب توخي الحذر”، يقول الباحث الكردي هايل أحمد، موضحاً أن “الاتفاق الذي وقعه القائدان سقط مع الإعلان الدستوري الجديد الذي بدا أنه كمن يلتف على المبادئ الكردية ذات المطالب الواضحة في سياق تفعيل وضع التضامن والعيش المشترك تحت مظلة دولة لا دولتين، جيش لا جيشين، حقوق وواجبات مشتركة، تعايش سلمي تام الأركان والمقومات والمفاهيم، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية والمجتمعية واللغوية”.
تفاصيل الاتفاق
ويضيف الباحث “جاء في البيان الموقع، ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية وكل مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، والتشديد على أن المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية التي تضمن حقه في المواطنة وكل حقوقه الدستورية، ووقف إطلاق النار على كل الأراضي السورية”، وتابع “كما جرى الاتفاق على دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا ضمن إدارة الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، وضمان عودة كل المهجرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم وتأمين حمايتهم من الدولة السورية، ودعم الدولة السورية في مكافحتها فلول الأسد وكل التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها”.
ولفت أحمد “لكن الإعلان الدستوري أصر على دين رئيس الجمهورية ومصدر التشريع وأن اللغة العربية وحدها الرسمية، وما تبقى من بنود معظمها لا يتماشى مع الاتفاق الموقع مسبقاً، وهو ما شكّل صدمة لدى قيادة ‘قسد’، والأمر ذاته استدعى خروج تظاهرات في شرق سوريا ترفض الدستور الجديد وتعتبره نقضاً لاتفاق الشرع – عبدي وخنجراً من شأنه استمرار النزيف، وهو ما عبرت عنه القوات الكردية في بيان العالي اللهجة”.
البيان الكردي
ورداً على الإعلان الدستوري أصدرت قيادة منطقة شمال وشرق سوريا الكردية بياناً اتهمت فيه الإعلان الدستوري بأنه “نمطي وتقليدي” يتشابه مع المعايير والمقاييس التي كانت متّبعة من قبل حكومة البعث، وأكد البيان أن “هذا الإجراء يتنافى مع طبيعة وحقيقة وحالة التنوع الموجود في سوريا، كما أنه تزوير فعلي لهوية سوريا الوطنية والمجتمعية، إذ يخلو الإعلان من بصمة وروح أبناء البلد، ومكوناتها المختلفة، من كرد وعرب وسريان وآشور وغيرهم من بقية المكونات”.
وأكدت الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا أن “سوريا اليوم تحتاج إلى تكاتف أبنائها ووحدتهم على تقرير مستقبلهم الديمقراطي والمشاركة الوطنية السورية التي تعزز الشراكة في الوطن”.
كذلك أشارت قيادة الإقليم إلى أن “هذا الإعلان يفتقر إلى مقاييس التنوع الوطني السوري، ويخلو من حالة المشاركة الفعلية لمكونات سوريا الوطنية، ومن ثم يعبر هذا الإعلان من جديد عن العقلية الفردية التي تعد امتداداً للحالة السابقة التي وجدت في سوريا وانتفض الشعب ضدها”، وأضاف البيان الكردي أن “هذا الإعلان لا يمثل تطلعات شعبنا ولا يدرك حقيقة هويته الأصيلة في سوريا وهو بمثابة شكل وإطار يقوض جهود تحقيق الديمقراطية الحقيقية في سوريا وبنوده البعيدة عن سوريا وآمال شعبها”.
وترى القيادة الكردية أن الدستور الحقيقي هو الذي تتشارك فيه كل المكونات وتتفق حوله كونه المسار الديمقراطي المستدام لمستقبل سوريا ومستقبل أجيالها القادمة، مضيفة “نأمل في ألا تعود بنا بعض الممارسات والأفكار الضيقة إلى مربع الصفر، لأن ذلك سيجعل الجرح السوري ينزف من جديد”.
مجازر العلويين
تزامناً كانت قرى وبلدات ومدن الساحل السوري تشهد مجازر جماعية أسفرت عن مقتل وجرح آلاف المدنيين العزل، إثر حملة أمنية – عسكرية ضخمة استهدفت “فلول النظام” الذين نصبوا مكامن لقوات الأمن العام في أكثر من منطقة ما بين السادس والعاشر من مارس (آذار) الجاري، وقُتل قرابة 1500 مدني في 56 مجزرة وثقها المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يديره رامي عبدالرحمن من لندن، والذي وصف لجنة التحقيق التي شكلتها الرئاسة للنظر بما جرى في قرى الساحل بأنها “غير جدية”، إذ تجاهلت توصيف ما حدث بالمجازر والكارثة ومالت نحو توصيف ما حصل بـ”الحالات الفردية”.
أيام الرعب التي عاشها الساحل السوري أفضت أيضاً لآلاف المهجّرين، فمئات العائلات وجدت طريقها للعبور نحو لبنان من خلال النهر الشمالي باتجاه محافظة عكار، فيما لجأ على الأقل 9 آلاف شخص للاحتماء بقاعدة حميميم الجوية العسكرية الروسية في محيط قرية جبلة بمحافظة اللاذقية رافضين حتى الآن مغادرتها.
ولهول ما حدث، تعالت أصوات في الشارع السوري تطالب بالتقسيم أو الفيدرالية أو التدخل الدولي على أقل تقدير لحماية الأقليات بعدما كانوا تماهوا مع السلطات الجديدة وسلموا كل أسلحتهم إبان سقوط النظام.
أحد المحتمين في “حميميم” تحدث إلى “اندبندنت عربية” مفضلاً عدم كشف اسمه، عن محاولات السلطات الجديدة ممثلة بالقوى الأمنية ومحافظ اللاذقية إعادتهم إلى قراهم لكن قراراً شبه جماعي كان بالرفض، وقال “ما رأيناه وعشناه لن يُمحى من ذاكرتنا مهما حيينا، لا يزال ثمة آلاف العلويين مختبئين بالأحراش، كانت الأمور تسير بخير مع السلطة، لكن (الفزعات) الطائفية التي جاءت وقتلت نساءنا وأطفالنا وشيوخنا أوضحت أن ميثاق التعايش المشترك أصبح مستحيلاً، لذا نحن متمسكون بمطالبنا بالحماية الدولية لنا كأقلية، 1500 قتيل في 72 ساعة ليس رقماً عادياً، هذا رقم تنهار لأجله أمم، ولم يفكر مسؤول كبير أن يزورنا ليطيّب جراحنا، من يضمن ألا نُقتل بعد خروجنا من القاعدة”.
كمال عيسى أحد الناجين من مجزرة القصور في بانياس على الساحل السوري قال بدوره “كنا نعتقد أن طلب الحماية الدولية يندرج تحت بند الخيانة، وطلب التقسيم هو خيانة مضاعفة، الآن لا أحد يختفي وراء إصبعه، هذه سلطة عاجزة عن الوقوف في وجه متشدديها ومنعهم عنا، لم يتركوا لنا خياراً آخر، وها قد وقّعوا مع ’قسد‘ على ظهورنا ثم غدروا بهم، لننظر إلى حال الدروز، هل يتجرأ أحد من الاقتراب منهم، لماذا؟ لأن لديهم سنداً، أما نحن فبلا مرجعية أو قوة أو ظهر أو سند، ثم يقولون عنا فلول الأسد وإيران وروسيا وعملاء إسرائيل، هل الأطفال الذين قُتلوا في المجزرة وهم بعمر الأشهر فلول أيضاً؟”.
الموقف الدرزي
شكلت زيارة وفد من 100 شيخ درزي سوري لإسرائيل صدمة في الشارع السوري، حيث ما زالت مواقف الدروز متباينة من التصريحات الإسرائيلية في شأن حمايتهم ومنع أحد من الاقتراب منهم وفرض نزع السلاح في الجنوب السوري.
وفي الإطار برز أمس الأحد حديث مهم لشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز ومرجعها الأكبر في سوريا، الشيخ حكمت الهجري، خلال لقاء مع أعيان من الجنوب في دارة الطائفة في بلدة قنوات بالسويداء وصف فيه حكومة دمشق بالمتطرفة وغير الشرعية والمطلوبة للعدالة الدولية وقال بأنه لا تعايش معها.
تلك التصريحات ربما تعكس المزاج العام، وهو المزاج ذاته الذي ينطلق من الخشية الدرزية – الكردية من إلقاء السلاح وملاقاة ذات مصير العلويين في الساحل، وعلى رغم خروج تظاهرات في السويداء ترفض التدخل الإسرائيلي فإن ذلك لا يعني الموافقة على سلوكيات سلطة دمشق، بحسب ما قاله بعض الدروز في حديثهم مع “اندبندنت عربية”.
طريف أبو جبل أحد سكان السويداء عبر عن موقفه بالقول “لن نضع يدنا في يد إسرائيل ولكن ذلك لا يعني قبولنا بسلطة الأمر الواقع القمعية في دمشق، ما حصل في الساحل السوري درس لكل أبناء الوطن عن ضرورة حمل السلاح وعدم تسليمه إلا في حال الركون لعقد اجتماعي توافقي مع سلطة تكتسب كل صفات الشرعية المحلية والخارجية”.
يوسف الهايل طبيب من السويداء قال “هي لعبة تدوير زوايا، بماذا تختلف ’جبهة النصرة‘ عن ’تحرير الشام‘ عن الحكم الحالي؟ مجرد أسماء تغيرت فقط، الحل الذي ننشده جميعنا هو الفيدرالية وتركنا لندير أمور محافظتنا بعيداً من الشحن الطائفي والحالة الفصائلية المتطرفة، ألم يتم حل ’هيئة تحرير الشام‘، لننظر في كل المجالس من الأمن القومي إلى الحوار الوطني إلى لجنة الدستور، جميعها تقوم على أفراد من الهيئة، وأهل الجنوب منفتحون وعلمانيون ولا يمكن لهم التعايش مع الملثمين ومجرمي الحرب، وما خرجنا لإسقاط بشار الأسد لنجيء بسلطة شمولية أكثر، الحل يقرره كبارنا وتشترك في إقراره الدول الخارجية، لسنا نشجع التقسيم، فلم نشهد ما شهده الساحل، لذلك حتى اللحظة نتمسك بالفيدرالية فقط”.
الوحدة أم التقسيم؟ خيارات قائمة
صار الآن من المشروع السؤال إلى أين تتجه سوريا، نحو الوحدة الجامعة أم التقسيم؟ وهو سؤال يحاول الإجابة عنه الدكتور في القانون أحمد الصفدي بالقول إنه “كانت هناك مطالب متنامية على الدوام بتطبيق الفيدرالية في سوريا بعد سقوط النظام، لكن بعدما حصل في الساحل السوري بدأت تطفو على السطح مطالب بالتقسيم، وإن كانت هذه المطالب لا تتسق بين العلويين أنفسهم، فعلويو اللاذقية وحمص وحماة مثلاً لا يزالون يرون في الفيدرالية حلاً، بخلاف بقية الساحل السوري، والقسم الكبير منه رزح تحت المجازر ورأى بأم عينه كيف يكون التطهير العرقي”، ويضيف “الآن توقفت الإبادة في الساحل، لكن حواجز كثيرة في مناطق مختلفة ما زالت تسأل المارة عن دينهم، وما زالت الحالات الفردية مستمرة، ففي اليومين الماضيين فقط ست حالات خطف وقتل على طريق صافيتا – طرطوس في الساحل، وكل ذلك سيُختزن بالوعي الجمعي لدى الناس ويدفعهم إلى طلب الحماية بأي طريقة، وهو الدرس الأكبر للدروز في السويداء جنوباً وجرمانا في ريف دمشق بعدم إلقاء السلاح خصوصاً بعد وصف زعيمهم الروحي الهجري الإعلان الدستوري بغير المنطقي، فضلاً عن الالتفاف من قبل دمشق على الأكراد الذين أكدوا بعيد بيان عبدالله أوجلان واتفاقهم مع الشرع أنهم لا يسعون إلى دويلة داخل دولة ولا تقسيم جديد ولا كردستان عراق أخرى، ولكن البيان الدستوري عاجلهم ليحطم أحلامهم، مما يعني العودة إلى نقطة الصفر”.
ويتابع “القيادة السورية في موضع مربك للغاية، أمامها ملفات متشابكة ومعقدة للغاية داخلياً وخارجياً، والأسابيع والأشهر المقبلة ستكون حاسمة لشكل البلد. الوقت ليس في صالحها في ظل الضغط الدولي، لكنها حتى الآن لم تعرف كيف تتعامل مع الملفات الكبرى بجدية مطلقة، من جهتي أرى كل الخيارات مطروحة على الطاولة، والذكي يكسب في النهاية، القرار الآن بيد القيادة الجديدة لتسير بالبلد نحو وحدة متكاملة أو تتركه فتاتاً مقسّماً، وهو ما يستدعي تحركات جد عاجلة لا تحتمل التأجيل لحظة واحدة، وإعادة النظر بأشهرها الثلاثة الأولى بالسرعة القصوى وتلافي مكامن الخلل وإرسال الرسائل في كل الاتجاهات ولكل المكونات بأن هذا البلد يتسع للجميع، وإلا فسنرى أنفسنا أمام سيناريو تقسيم مر على سوريا قبل زهو قرن من الزمن”.
————————————-
قائد حركة رجال الكرامة في السويداء: من يرفض مشروع التقسيم ليس خائناً
2025.03.17
أكد القائد العام لحركة “رجال الكرامة” في السويداء يحيى الحجار، أن من يرفض مشروع تقسيم سوريا ليس خائناً، لافتا إلى أنّ الهدف هو بناء سوريا موحدة تحت مرجعية وطنية جامعة.
وشدد الحجار في كلمة ألقاها بين مجموعة من وجهاء المحافظة، على وحدة الصف وأن اختلاف الرأي لا يعني انقساما، ورفض مشاريع التقسيم التي تحاول العبث بوحدة الأراضي السورية.
وأكد أن من يسعى لبناء دولته ليس خارجاً عن القانون، ومن يرفض مشاريع التقسيم ليس خائناً، داعياً إلى التكاتف من أجل مستقبل سوريا الموحدة.
وأعرب قائد “رجال الكرامة” عن احترامه العميق لمرجعية سماحة الشيخ حكمت الهجري وكافة مشايخ العقل، مشدداً على أن السلاح يجب أن يظل موجّهاً فقط ضد من يعتدي على الجبل وأهله، وليس إلى الداخل.
كما أكد أن طريق دمشق هو الشريان الحيوي، وأن الهدف هو بناء سوريا موحدة تحت مرجعية وطنية جامعة.
زيارة درزية إلى إسرائيل تثير الجدل
في تطور لافت، قام وفد من رجال الدين الدروز السوريين بزيارة إلى إسرائيل، الجمعة الماضية، في حدث هو الأول من نوعه منذ عقود.
وكان الهدف من الزيارة زيارة مقام “النبي شعيب” في الجليل الأسفل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. واستُقبل الوفد هناك بأنشودة “طلع البدر علينا”، ما أثار موجة من التفاعل وردود الفعل المتباينة.
الشيخ موفق طريف، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، وصف الزيارة بأنها “عيد تاريخي للطائفة الدرزية بأكملها”، مشيراً إلى أن هذه الزيارة تأتي بعد عقود طويلة من الانقطاع.
رفض لبناني وتحذيرات من مشيخة العقل
قوبلت الزيارة بانتقادات حادة في لبنان، حيث حذّرت “مشيخة العقل” للطائفة الدرزية من تداعياتها، مهددةً برفع الغطاء الديني عن كل من يشارك في دخول الأراضي المحتلة.
كما أكدت أن هناك مسؤولية قانونية ودينية تقع على كل من يقوم بهذه الزيارة، معتبرةً أنها تتعارض مع المبادئ الثابتة للطائفة.
أما الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، فقد حذّر من استغلال بعض أبناء الطائفة كأداة لإحداث انقسامات داخل سوريا، مشدداً على أن “الزيارات الدينية وغير الدينية لا تلغي واقع الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والجولان”.
محاولات إسرائيلية لاستقطاب دروز الجولان والداخل السوري
في سياق متصل، كشفت مصادر عن مساعٍ إسرائيلية لترتيب زيارة لرجال دين دروز من قرية حضر السورية المحتلة إلى إسرائيل، وسط تقارير تفيد بتقديم تل أبيب إغراءات لسكان المناطق الدرزية في الجولان وسوريا، بما في ذلك توفير فرص عمل وبنية تحتية، بهدف كسب تأييدهم.
في المقابل، تعمل المرجعيات الوطنية والدينية في السويداء والجولان ولبنان على التصدي لهذه المحاولات ومنع تنفيذها.
تأتي هذه التطورات في وقت تشهد فيه السويداء حالة من الحراك الشعبي والسياسي، حيث يؤكد أبناؤها تمسكهم بوحدة سوريا ورفضهم لأي مخططات تهدف إلى تفتيتها.
————————
الأخطار التي تهدد سوريا داخليا وخارجيا/ رياض معسعس
تحديث 18 اذار 2025
«عليك يا سوريا السلام ونعم البلد هذا للعدو» قالها هرقل وهو يغادر سوريا بعد هزيمته النكراء أمام جيش المسلمين الذي انتصر على الروم في معركة اليرموك في العام 636 م.
وبقيت سوريا نعم البلد لكل الأعداء الذين حاولوا غزوها، لأنها كانت دائما الأرض التي تطلعت كل القوى بالسيطرة عليها لخيراتها، وموقعها الذي يضم مقدسات الأديان التوحيدية، ولكونها بلدا حضاريا وذا ثقافات متعددة، ومكونات اجتماعية مختلفة. فهي عرفت الفرس، والرومان، واليونانيين، والعرب، والبيزنطيين، والصليبيين، والمغول، والتتار، والمماليك، والعثمانيين، والفرنسيين، ولكن اليوم وبعد تقطيع أوصالها وسلخ فلسطين، ولبنان، والأردن منها تقع فريسة قوى متعددة تبحث جميعها السيطرة عليها، أو احتلال أراضيها، أو تجزئتها. والأخطار التي تتهدد سوريا اليوم تأتي من الداخل أيضا وربما كانت أشد خطرا من الخارج.
تتمثل الأخطار الداخلية بمجموعة عوامل تجعل الوضع الداخلي السوري على صفيح ساخن، خاصة وأن النظام المخلوع خلف وراءه مجموعة كبيرة من الألغام الاجتماعية، والطائفية، والعرقية القابلة للانفجار، وزج البلاد في أتون حرب أهلية. فهناك مجموعة كبيرة من فلول النظام لا تزال تمتلك الأسلحة وتقوم بهجمات ضد قوات الأمن للنظام الحالي، عدا عن مجموعات كانت تعمل لصالح النظام ويستخدمها في تنفيذ أعمال مختلفة من قتل، وتهريب أسلحة ومخدرات، وترهيب الناس، كميليشيا محسن الهيمد التي واجهت قوات حفظ الأمن في مدينة الصنمين في منطقة حوران. كما أن هناك اللواء الخامس بقيادة أحمد العودة في نفس المنطقة الذي دخل في مفاوضات مع الحكومة الحالية، وهناك بعض فلول النظام في منطقة الساحل التي تقوم بهجمات متكررة على قوات حفظ الأمن، وهناك من يطالب بالانفصال عن الدولة الأم، وفي منطقة دير الزور التي تضم أيضا بعض الجماعات المسلحة التي ترفض تسليم اسلحتها وتهاجم قوات الأمن. لكن الخطر الأكبر يكمن في منطقة جبل العرب في الجنوب، وفي منطقة شرق الفرات في الشمال، في الجنوب في منطقة جبل العرب تسعى إسرائيل لفصله عن سلطة دمشق عبر ضخ أموال ( وعدت بضخ مليار دولار لتحسين أوضاع المنطقة ككل) من ناحية، والسماح للسكان بالعمل في إسرائيل مقابل أن يقوم الدروز بالمطالبة بحكم فيدرالي وحكم ذاتي، وقد قام رئيس وزراء دولة الاحتلال بتهديد السلطة الحالية وحذرها من إرسال قوات إلى الجنوب، وقد قامت مجموعة من الضباط بتشكيل مجلس عسكري برئاسة طارق الشوفي لحماية جبل العرب، وقد شهدت مدينة جرمانا ذات الأكثرية الدرزية مواجهات مسلحة مع قوات الأمن أسفرت عن قتلى وجرحى.
لم تتقبل فلول النظام من عساكر وضباط المنتمين معظمهم للطائفة العلوية الهزيمة التي منيت بها في أقل من أسبوع بسقوط نظام استمر زهاء نصف قرن ونيف بني على الطائفية، ودولة المخابرات، والفساد، والمحسوبيات، والاغتيالات السياسية، والمجازر الجماعية، واضطهاد الأكثرية السنية واستخدام كل الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيميائية لقتل أكبر عدد منها، وتهجير الملايين إلى خارج تراب الوطن، ونزوح ملايين آخرين هدمت بيوتهم بالبراميل المتفجرة ليسكنوا مخيمات لسنين طويلة. بعد السقوط المدوي للنظام لجأ معظم هؤلاء للعراق، ولبنان وقاموا بالتخطيط بقيادة ضباط الفرقة الرابعة التي كان يترأسها ماهر الأسد بالهجوم على قوات الأمن في مناطق متعددة من الساحل السوري معقل الطائفة العلوية ممولين ومسلحين من إيران، ومن ميليشيات عراقية، وبدعم من قوات سوريا الديمقراطية الكردية بهدف الانقلاب على الثورة، والنظام الجديد، وشق صف الشعب السوري، والانفصال عن الدولة المركزية، وحسب مصادر متعددة بأن هذه العملية تمت باتفاق مشترك بين أكثر من جهة إيرانية، وروسية وربما عربية من الخارج. ورغم فشل المحاولة ومقتل عدد كبير من عناصرها إلا أن الأخطار كامنة.
منذ بداية الثورة في العام 2011 قام حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بقيادة صالح مسلم بالنأي بنفسه عن الثورة (المجلس الوطني الكردستاني الذي تأسس في العام 2011 التحق بالثورة وبالمجلس الوطني السوري في بداية الثورة) وقام بالتنسيق مع النظام بالاستيلاء على مساحات واسعة من شرق الفرات بعد أن انسحبت قوات النظام منها طوعيا، وتم تشكيل ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي ومع الهجوم السريع «لداعش» واحتلال مساحات واسعة من سوريا تدخلت قوات أمريكية وبنت قواعد في المناطق المسيطر عليها من «قسد» ودعمتها لمحاربة «داعش» وتمكنت مع قوات التحالف من هزيمة «داعش» والسيطرة على ربع مساحة سوريا الواقعة شرق الفرات والتي تضم معظم آبار النفط والغاز، والأراضي الزراعية الخصبة، وأعلنت الاستقلال الذاتي.
الأخطار الخارجية تكمن أولا في دولة الاحتلال التي تسعى علانية لتغيير الشرق الأوسط حتى لو لزم ذلك بالحرب كما صرح المتحدث باسم الجيش أفيخاي أدرعي، وقد قام جيش الاحتلال بخرق اتفاقية فصل القوات الموقعة في العام 1974 واحتل عدة مناطق في منطقة القنيطرة، وقمة جبل الشيخ، وتتمركز في أكثر من نقطة على الأراضي السورية، كما قامت بتدمير المنشآت العسكرية البرية والبحرية في عدة مراكز على الأرض السورية دون وازع، وقامت الإدارة الحالية بتقديم شكوى إلى الأمم المتحدة بهذه الانتهاكات الصارخة على الرغم من تصريحات الإدارة السورية بأنها لا ترغب في الدخول بأي مواجهة عسكرية مع أحد. وتأتي كل هذه الانتهاكات في ظل حكم الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب التي لم تظهر أي اعتراض على الاعتداءات الإسرائيلية وكأنها توافق ضمنيا على هذه الانتهاكات، خاصة وأن ترامب كرر ضرورة توسيع الرقعة الجغرافية لدولة الاحتلال التي يرى بأنها صغيرة مقارنة بمساحة العالم العربي. في الدرجة الثانية تأتي أمريكا التي بنت قواعد عسكرية في سوريا وتدعم قوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي تحتل حوالي ربع مساحة سوريا، كما تحتل في الجنوب السوري في منطقة التنف التي بنت فيها قاعدة عسكرية أخرى. ولا تزال القوات التركية التي تدعم الإدارة الحالية في سوريا تتواجد في أكثر من نقطة في شمال غرب سوريا.
وتبقى إيران الخاسر الأكبر من جراء سقوط النظام السوري الذي كان يؤمن خطوط الإمداد لحزب الله في لبنان، ولم تعترف حتى الآن بالوضع السوري الجديد، وتسعى بطرق مختلفة لقلب النظام في دمشق لعودة نفوذها إلى سوريا بدعم فلول النظام البائد.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
إيران وإسرائيل في المشهد السوري: صراع نفوذ أم صدفة؟/ د. مثنى عبدالله
تحديث 18 اذار 2025
ألقت الأحداث الأخيرة التي شهدتها سوريا، حزمة ضوء كبيرة على التحديات الأمنية التي يواجهها النظام السياسي الجديد. وهي واحدة من الرهانات الكبيرة التي تقف بوجهه، وربما تحول دون بسط نفوذه على كامل التراب السوري. فالتصعيد الأمني الأخير هو الأعنف منذ الإطاحة بنظام الأسد في الثامن من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2024. فقد حصلت اشتباكات بين قوات الأمن والفصائل المسلحة الموالية لها، وبعض ممن يوصفون بأنهم موالون للنظام السابق في المنطقة الساحلية في غرب البلاد. ويقينا أن ما حدث لا يمكن حصر أسبابه بأسباب داخلية فقط، بل يعود أيضا إلى ما يحدث في الإقليم بشكل عام.
بداية لا بد من القول إن الحدث لم يكن وليد اللحظة، أو رفسة أخيرة لمن ينازع الموت، بل كان تحركا عسكريا مُنظما يبدو أنه يُقاد من غرفة عمليات واحدة، أدارت المجموعات المسلحة التي استهدفت قوات الأمن العام، وحاصرت الكثير من مقراته.
على الجهة المقابلة كانت ردة الفعل كبيرة للغاية من قبل الفصائل المتحالفة مع هيئة تحرير الشام. ومن راقب طبيعة العمل العسكري لهذه الفصائل على مدى السنوات الماضية، فإنه كان يقوم على مسألة النفير العام عند وقوع حدث ما، والتوجه بشكل جماعي إلى منطقة الحدث، ثم التعامل مع الحالة، وفق اجتهاد كل فصيل على حدة. وهذه هي طبيعة العمل في كل الفصائل المسلحة، حيث من الصعب حصرها تحت توجيهات غرفة عمل موحدة. وقد انعكس هذا الأمر بشكل واضح في المواجهة الأخيرة، حيث حدثت انتهاكات من قبل الميليشيات المسلحة التي استهدفت قوات الأمن العام، وكذلك المواطنين المدنيين على الطرق العامة، وقابلتها انتهاكات من الطرف الآخر أيضا. فكانت ساعات عصيبة وقاسية جدا واجهها المدنيون السوريون، بحيث غاب الحدث الأساسي الأول وهو الحدث الأمني، وحظر في التفكير حصيلة المواجهة وهم مئات القتلى، ومنهم من الطائفة العلوية. إذن نحن أمام مشهد توقعه الكثير من التحليلات السابقة، التي قالت إن هناك تنسيقا كبيرا بين مجموعات مؤيدة للنظام المخلوع، تعد العُدة للقيام بعمليات أمنية ضد النظام الجديد. ويبدو أن ذلك لم يكن غائبا عن تفكير القيادة السورية الجديدة، فالرئيس أحمد الشرع قالها علنا إن (ما يحصل في البلد هو تحديات متوقعة، لكن يجب أن نحافظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي قدر المُستطاع). والحقيقة أن هذه التحديات هي نتاج منظومة سابقة استمرت في سوريا ستة عقود، منها 54 عاما لمنظومة آل الأسد، مُورس فيها العديد من المجازر بشكل مُنظم، سواء مجازر حماه في عام 1982 وصولا إلى كل ما شهدته سوريا منذ عام 2011 حتى سقوط النظام. وهذا أنتج مجتمعا سوريا مُدمّرا، وشخصية وطنية تعرضت لكل أنواع الانقسام. وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقة أساسية وهي أنه كان من المنتظر أن تكون مقاومة النظام السابق في منطقة الساحل السوري، ومع الانهيار الكبير في الجيش السوري، وتساقط المدن بيد هيئة تحرير الشام، بالفعل انسحبت فلول النظام السابق الى هذه المنطقة، وبدأت تعيد تنظيم صفوفها. وبمرور الوقت بدا تأثير التحركات الإقليمية واضحا على ما يجري في غرب سوريا، حيث تم الحديث عن اجتماعات في محافظة النجف العراقية بين مستشارين إيرانيين وميليشيات عراقية وغير عراقية، نتج عنها تشكيل ما يسمى المقاومة الإسلامية في سوريا، حسبما أشارت إليه بعض الوكالات الإخبارية الإيرانية.
إن مشاريع إيران في المنطقة وفي سوريا على وجه التحديد بعد سقوط نظام الأسد واضحة جدا، وقد تحدث بها كبار المسؤولين الإيرانيين. كما أن هنالك علاقة تاريخية تجمع ما بين إيران وكبار الضباط في النظام السوري السابق، وهذا يعطيها ميزة التواصل المباشر معهم وتحريكهم. كذلك تتوفر إمكانية جيدة لإيصال السلاح لهم، لذلك كان التحرك الأول لقوات الأمن في النظام الجديد هو تمشيط الحدود العراقية السورية، لكن المشكلة أن هناك جزءا خارج سيطرة هذه القوات، وهي المنطقة التي تسيطر عليها قوات قسد، وهناك اتهامات بأن السلاح يأتي من إيران عبر هذه المنطقة. ولا شك أن إيران لديها مصلحة بحالة عدم الاستقرار التي يمكن أن تحدث في سوريا، وحالة نشوء ما يسمى مقاومة كالتي تم الحديث عنها آنفا، لأنها خسرت كثيرا مع سقوط النظام السابق. لذلك العبث الإيراني بات يتلاقى مع الأطماع الإسرائيلية وتعززها حالة سيولة الدولة التي تشهدها سوريا. وكل هذه الأمور هي وصفة سيئة للغاية. كما إن مشاريع إسرائيل موجودة أيضا فهي لحد الآن تضغط وبشكل كبير على النظام الجديد في سوريا، سواء عبر التوسع والسيطرة وقضم المزيد من الأراضي السورية، أو عبر إثارة حالة من الطائفية، كما جاء على لسان رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، من أن إسرائيل تحمي الدروز. وهذا يشير الى أن هنالك أيادي إسرائيلية في الجنوب. كما أن هنالك تواصلا مباشرا جرى بين قادة قسد وإسرائيل.
إن حالة الفوضى التي ظهرت خلال أيام الأحداث الدامية تتطلب تحديدا واضحا للمسؤوليات، رغم أن هذا الأمر في غاية الصعوبة. نعم إن مهاجمة المراكز الأمنية وحصارها من قبل الفلول، أدت إلى حالة الفوضى التي رأيناها. لكن عملية النفير العام للفصائل ودخول الكثير من الأطراف غير المنضبطة، لفك الحصار أدت الى الانتهاكات التي حصلت. وعليه فالانتهاكات كانت من جميع الأطراف والسلطة الحالية تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية عما حدث، ولن يستطيع أحد أن يقول إن كل ممارسات الأجهزة الأمنية الجديدة كانت ممارسات سليمة. كما لا يستطيع أحد أن يقول ليست هنالك أياد خارجية تُحرّك، وليست هنالك عصابات في كل المناطق السورية كانت مستفيدة من الكبتاغون ومن تهريب الآثار، باتت عاطلة عن العمل فأظهرت نقمتها في الحادث الأخير. لكن التحرك بشكل سريع لتقديم كل المنتهكين إلى العدالة ضرورة مُلحة أمام العهد الجديد.
يقينا أن ما حصل مؤخرا، كان أمرا مؤسفا للغاية، خاصة أنه كان من أهم شعارات الثورة السورية هو تحريم الدم المدني السوري. لكن إرث 54 عاما يبدو أنه ظهر اليوم في الحادث الأخير. وأن عكس هذه الحالة يتطلب المزيد من الوقت والعمل، وليس بإمكان الرئيس أحمد الشرع أن يصنع المعجزات في زمن قصير. لكن عليه أن يكون صارما أكثر كي لا يؤثر هذا الأمر على شرعية الإدارة السورية الجديدة، وفي مقدمتها الرئيس نفسه، خاصة أن هذا كان شرطا من شروط المجتمع الدولي للاعتراف بالسلطة الجديدة.
كاتب عراقي
————————-
دروز سوريا في إسرائيل… الذاكرة المعلّقة/ نديم قطيش
تحديث 18 اذار 2025
زيارة المشايخ الدروز السوريين لإسرائيل، في ظاهرها الديني والثقافي، وباطنها بوصفها مناورة سياسية بالغة التعقيد، لا تُحَدُّ بتقديمها الإعلامي البسيط، أو تُختصر في حدثٍ شعائريٍّ بحت. تندرج الزيارة، الحاصلة في ظل النظام الدمشقي الجديد، والذي يَعِدُ سوريا بدستورٍ يتراوح بين ضفّتي الصدارة الإسلامية السُّنية والتوازن الطائفي القلق، في سياق تاريخ مديد من التحولات السياسية الخطيرة التي حُفَّت بتاريخ الجماعة ووجودها وهويتها.
فالدروز خبِروا عبر تاريخهم الطويل الممتدّ من الدعوة في كنف الحاكم بأمر الله الفاطمي (996-1021م) حتى أيامنا هذه، معنى الانقلابات في موازين القوّة. وهم يستذكرون أنّ توسّع حضورهم في سوريا لم ينفصل يوماً عن دماءٍ غزيرةٍ سالت، في حروب مع آخرين كثر؛ صليبيين وعثمانيين ومسيحيين وفرنسيين، كما في حروبٍ بينية، مثال الدم الناتج عن الشقاق الداخليّ الأعنف بين شطرَي الطائفة؛ القيسيّ واليمنيّ، في معركة عين دارة (1711م).
تغذَّت كثرة دروز سوريا، رغم قلّتها النسبيّة، على مأساة عين دارة اللبنانيّة المحليّة، التي رسمت حدوداً اجتماعيّةً وسياسيّةً جديدةً في جبل لبنان، وعقدت الحاكميّة لآل جنبلاط القيسيّين، على أنقاض انهيار الإمارة المعنيّة. دُفع المهزومون من الشطر الدرزي اليمنيّ إلى جبل حوران وأطرافه السوريّة، وأسسوا في تلك السهول والتلال هويّةً درزيّةً سوريّةً متمايزةً، بتركيبها الديني والاجتماعي والسياسي، كما بحساباتها الوجوديّة.
ما لبثت أن زادت الثورة السورية الكبرى (1925-1927م)، بقيادة الزعيم الدرزي التاريخي سلطان باشا الأطرش، طبقةً فوق طبقات هوية الدروز السياسيّة. ولئن انطلقت الثورة تمرّداً أهليّاً، فإنها سرعان ما جاوزت حدود جبل حوران، لتنفتح على الوطنية السوريّة الأعرض، ملقيةً على الدروز عبءَ التوفيقِ الدائم بين انغلاق خصوصيتهم المذهبيّة وصدارتهم المشهد الوطني السوري الجامع في لحظات رجراجة من تاريخ سوريا ولبنان والمنطقة. مذَّاك، تترجح الهوية الدرزية بين حدَّي الصَّفاء الأهليّ النسبيّ والبعد الوطني المُدخِل مصير الجماعة الأهلية مع مصير سوريا كلّها، مُثقَلةً بحسابات العلاقة المركّبة، والقلقة دائماً، مع دمشق ومراكز الحكم فيها. على هذا النحو استتبَّ تاريخ الجماعة، تاريخاً من التفاوض المستمرّ، والمتوتر أحياناً، بين موقع الدروز في الجبل وموقعهم في الوطن السوري الأوسع.
إلى هذا التاريخ المديد من القلق، والتشكُّل الدمويّ للاجتماع والهوية الدرزيين، ينتسب الإعلانُ المضمَر، عبر زيارة مشايخ من جبل الشيخ لإسرائيل، عن استعدادٍ لخياراتٍ جذريّة، متى استشعروا في التراكيب السوريّة الناشئة ما قد يكون على الضدِّ من مصالحهم وحقوقهم.
والحقّ أن هذه الزيارة، على رمزيتها المقلقة للنظام الجديد في دمشق، تُعيد التذكير بمنطقٍ سياسي مألوف لدى الدروز، لا يرى ضيراً في التواصل مع «ضامن خارجي»، حين تكون القضية قضية وجود، على مثال تحالفات فخر الدين المعني الثاني مع دوقية توسكانا الإيطالية، حين استشعر أن خطراً وجودياً يُهدّد جماعته!
أما القول بالانفصاليّة الدرزية فمُبالَغٌ فيه، اليوم كما في الأمس، على ما تشي به تجربة الأمير فخر الدين المعني، بوصفها دفاعاً عن اجتماعٍ لبنانيّ تعدّديّ، جمَعَ الدروز إلى غيرهم، في جبلٍ، لم يكن يوماً ذا لونٍ واحدٍ أو مذهبٍ نقيّ.
والحال أن تخيّل كيانٍ درزيّ جاهزٍ للولادة اليوم بين الشطرين السوريّ والإسرائيليّ ينطوي على إغفالٍ كبيرٍ، لتباعد الشطرين على طرفَي حيزٍ جغرافي، يمتدّ عميقاً إلى ما يزيد على مائة كيلومتر، تتوسّطه كثافةُ نحو مليونَي سنّي في الجنوب السوري، ما يكسر أوهام «النقاء» الدرزيّ المزعوم خارج السويداء نفسها.
فلا اتصالٌ جغرافيّ واضح، ولا صفاءٌ سكّانيّ مُدَّعًى، يتيحان استيلاداً آلياً لكيان درزي مزعوم.
بيد أن دروز سوريا اليوم، وعلى جري فخر الدين، الذي سعى إلى تأمين استقرارٍ هشٍّ لتعدّدٍ طائفيّ في جبل لبنان أُسندَ إلى الدروز دور محوره وضمانته، يُفعِّلون اتصالاتهم بجوارهم السُّنّيّ الجنوبيّ، سعياً إلى تركيب مشتركاتٍ سياسيّةٍ تفاوضية إزاء النظام الجديد.
وعلى محملٍ آخر، فإن الخيارات البراغماتية الحادّة لدى الدروز، والأقلياتِ عموماً، واتصالها الدائم بآليات الحماية الخارجيّة، صحِبَتها في بعض الأحايين عواقبُ دمويّة ثقيلة، لعلّ أبرز أمثلتها مقتلة المسيحيين في دمشق عام 1860، حين تذرّعت فرنسا بحمايتهم، لتتدخّل في الشأن السوري، جاعلةً من النزاع الداخلي الأهليّ، مسألة دولية مفتوحة.
المفارقة الأشد أنّ الدمَ الغزير الذي أسالته المقتلة، تناسَلَ من «تنظيمات» أرادتها الدولة العثمانية إحقاقاً للمساواة الأهليّة بين الطوائف الإسلامية والمسيحية، فانقلبت إلى سببٍ في تعميق الشروخ الجماعيّة، وتفجير صراعاتٍ دمويّةٍ كانت أوروبا مستعدّةً تماماً لاستغلالها، كما هي إسرائيلُ اليوم.
يتضح إذن أن الدروز دفعوا، تباعاً، أثماناً ثقيلةً ومتضاربة؛ مرةً ثمن محاولات الدولة العثمانية إنصافَهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وثمن اصطدامهم بالسلطنة، في حِقَب أبكر. ودفعوا، على نحوٍ أشدّ مفارقةً، ثمن توظيف بعض العثمانيين لهم في معاركهم مع المسيحيّين، التي كانت في جوهرها، الوجه الأهلي للصراع الأوسع بين الدولة العثمانية والغرب.
هكذا، فإن زيارة مشايخ الدروز السوريين لإسرائيل، على ظاهرها الرعويّ، إنما تَحملُ في باطنها خوفاً أهلياً موروثاً، وخبرةً تاريخيّةً ثقيلةً، كثيراً ما دفعت الدروز إلى خياراتٍ حادّةٍ وقاسية. وهي بهذا المعنى، لا تكتفي بإعادة تذكيرِ دمشقَ الجديدة بأنَّ للجماعةِ حقوقاً في الميزان السوريّ العام، بل تعيدُ إدراجَ الأقلّيّاتِ مرّةً أخرى في صُلب النزاعات الكبرى، بصفتها طرفاً يتوسّلُ ماضيه ويُشهرُ هواجسَه، مفاوِضاً أو مناوراً، حيال نظامٍ تتأرجحُ وعودُهُ بين احتكارِ السلطة، وإغراءِ التوازن الطائفي القلق.
الشرق الأوسط
——————————————–
المعضلة السورية والخروج الآمن/ د. حسن أبو طالب
18 مارس 2025 م
لا ينكر أي متابع لما يجري في سوريا، أكان عالماً بدهاليز السياسة أو شخصاً عادياً، أن سوريا تعيش الآن مرحلة مخاض مملوء بالاضطرابات والإشارات المتضاربة. فأبعاد المعضلة السورية تتكشف بين لحظة وأخرى، وما يوصف بأنه خطوة إيجابية مبشرة سرعان ما تتكشف تفاصيله، بأنه إما فاقد لآليات التطبيق، كما هي الحال في الاتفاق بين الرئيس أحمد الشرع والأكراد السوريين، ممثلين في زعيم «قسد» مظلوم عبدي، وإما يتجاوز طموحات قطاعات عريضة جداً من السوريين الآملين في العيش تحت سقف قانون عادل ومنصف، يرسخ المساواة بين كل السوريين، ومساحة من الحريات للجميع، أياً كانت طائفتهم أو دينهم أو منطقتهم الجغرافية.
فكثير من قرارات السلطة الجديدة وإن غُلِّفت بنيَّات حسنة، فإن أسلوب تطبيقها لا يوفر أساساً لمصالحة سورية عامة، ولا يعطي مؤشراً قوياً على أن المستقبل القريب يستند إلى آليات حكم غير التي كانت قبل اختفاء بشار الأسد وانهيار نظامه. والأمثلة كثيرة، فالمنهج الذي صيغت به الوثيقة الدستورية الموصوفة بأنها انتقالية، تشتمل على 53 بنداً، تماثل من حيث الشكل العام الدساتير الدائمة التي تصدرها الدول المستقرة، وفق إجراءات شفافة ومشاركة واسعة، وتخضع لحوار مجتمعي حقيقي؛ إذ لم يحدث شيء من هذا. فلجنة الدستور شُكِّلت بقرار رئاسي، ولم تتواصل مع مكونات الشعب السوري، وفي خلال أسبوع واحد وضعت وثيقة دستورية لخمس سنوات انتقالية مرة واحدة، تماثل من حيث الشكل أيضاً مدة رئاسية كاملة في كثير من الدول التي تعتمد أسلوب الانتخاب لاختيار الحاكم.
ولا أدري؛ لماذا لم تُشكل طاولة حوار مجتمعي موسعة تستمر شهراً أو شهرين، تشارك فيها رموز من مختلف المكونات السورية، وتُقر مبادئ لمرحلة انتقالية لفترة زمنية محدودة لا تزيد على عامين، وبعدها انتخابات حرة لبدء حياة سياسية مستقرة تعلن بها عن سوريا جديدة لكل مواطنيها؟
إن التسرع في إصدار وثيقة دستورية مفصَّلة توفر للرئيس سلطات واسعة -وإن قيل إن ظروف سوريا تتطلب يداً حازمة قادرة على التعامل الحازم مع التحديات- اتضح معه أن ردود الفعل من مكونات سورية كثيرة ترى الأمور عكس ما استُهدف، مما يضع أعباء على الرئيس وحكومته، في الداخل كما في الخارج. فهناك من يرى أن سوريا الجديدة لا تحمي كل مواطنيها، وبخاصة أصحاب العقائد ذات الخصوصية، ومن ثَم يبررون لأنفسهم تقديم مظلة حماية لهؤلاء المتضررين، ويستشهدون بما ورد في الوثيقة الدستورية وطريقة إصدارها.
داخلياً، «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية (قسد)، رأت أن الدستور الانتقالي يتناقض مع المبادئ الواردة في الاتفاق الموقع مع الرئيس أحمد الشرع. ومواقف فئات علوية ودرزية -وإن اختلطت فيها التحفظات والرفض والصمت- تعد إشارات ذات دلالة، وفي الخلفية من ينذر باللجوء إلى السلاح؛ سواء مَن يوصَفون بالفلول، أو بالمتشككين في النظام الجديد، ومن ثم فالأمر يتطلب معالجة رشيدة، بدلاً من أن تتفاقم الأمور، على النحو الذي تنذر به زيارات بعض رجال الدين الدروز السوريين إلى داخل الجولان المحتل، مع مراعاة أن من بين الدروز السوريين من انتقد الزيارة؛ رغم محاولات صبغها دينياً، ونفي دلالاتها السياسية.
وثائق الدستور في المراحل الانتقالية ليست وثائق مقدسة، فإن فرضَت التجربة العملية التغيير في بنيتها كلياً أو جزئياً، فمن الحصافة والحكمة لمن يملك القرار أن يتجاوب مع تلك التحفظات، وأن يوسع مساحة المشاركة، وأن يثبت وعوده في احتواء الجميع من دون استثناء.
معضلة الدستور الانتقالي تمتد إلى كثير من القرارات التي لم تضع في اعتبارها أن انهيار النظم لا يعني بالضرورة التخلص من كل مؤسساتها بجرة قلم، وبالأخص: الجيش، والشرطة، والاستخبارات، والخارجية، والتعليم، والاقتصاد. ففي تلك المؤسسات فئتان: الأولى هي العليا التي تماهت مع النظام السابق، ويُفترض التخلص منها ومحاسبة المخطئين بالقانون على تجاوزاتهم في حق الناس، والثانية الغالبية من التقنيين والإداريين، ولا يعدُّون مسؤولين كالفئة الأولى، وتظل لديهم معرفة معقولة بإدارة كثير من الملفات، والتي يحتاج إليها أي نظام جديد، وبقليل من الترشيد يظل هؤلاء عنصراً مهماً في بناء النظام الجديد.
والثابت أن نتيجة التضحية بالفئتين معاً والبدء من الصفر -كما يحلو للبعض وهم في حالة نشوة ثورية زائفة- تكون بلداً بلا جيش ولا أمن، ولا فئة تكنوقراطية، ولا خبراء ولا علماء، وبالتالي يضع النظام الجديد نفسه في دوامة لا نهاية لها، فضلاً عن أطماع خارجية شرسة.
وقد يجد البعض من صانعي النظام الجديد غضاضة في احتواء قطاعات من العاملين في تلك المؤسسات كأساس تقني يُعتمَد عليه، خوفاً من عدم الولاء للنظام الجديد، وهو أمر تغيب عنه التداعيات الخطرة التي يتضمنها لفظ آلاف من الموظفين والعمال، وتركهم وأُسَرهم بلا عمل ولا مورد رزق، ما يدفع كثيرين منهم إلى الانزلاق إلى أعمال عدائية؛ سواء فردية أو جماعية.
وفي التجارب التي شهدت تحولات ثورية عميقة، واعتمدت مبادئ العدالة الانتقالية منهجاً لإعادة البناء، انتقلت البلاد من الفوضى إلى الارتقاء، وشهد لها الجميع بالرشادة السياسية، وهنا يبرز كل من تجربتَي: رواندا في عهد بول كاغامي بعد المذابح الأهلية 1994 بين الهوتو والتوتسو، والتحول إلى بلد مستقر يحقق تنمية مشهودة، بعد اعتماد سياسة المصالحة الوطنية، ونبذ العنف والتعددية السياسية، وتجربة جنوب أفريقيا الشهيرة بعد سقوط النظام العنصري فيها 1990. قد تأخذ بعض تلك الإجراءات وقتاً لتصبح منهجاً مجتمعياً متكاملاً، ولكنها تستحق التطبيق.
الشرق الأوسط
———————————-
سوريا بين مطالب الخارج وتحديات الداخل/ أحمد محمود عجاج
رحل بشار الأسد وترك سوريا خربة؛ باقتصاد منهار، ونازحين بالملايين، ووضع داخلي مشتعل، وعقوبات دولية. حكومة الرئيس أحمد الشرع تبدأ من الصفر، وفوق ذلك عليها مواجهة أطماع إسرائيل، ومؤامرات إيران، ومطالب دولية جارحة للسيادة. فالشرع في ورطة: لا هو قادر على الحسم العسكري، ولا مستعد لقبول إملاءات الخارج؛ وهذا يستلزم منه براعة وصبرًا لاستيعاب التناقضات الدولية والإقليمية، والنفاذ منها للحفاظ على الكيان السوري، وإلا فإن التَّفتت وارد جداً أمام مطالب الدروز، والعلويين، وانفصال الأكراد.
إن رفض بعض زعماء الدروز الانضمام لسلطة الحكومة المركزية نابع من الدعم الإسرائيلي الفاضح، وشعورهم بأن الفرصة مواتية للفيدرالية؛ فالفيدرالية تُضعف سلطة الحكومة المركزية، وتقوِّي الأقليات على حساب الأكثرية، وهذا يمنح إسرائيل وإيران وغيرهما أوراقاً في الداخل السوري. هذا الكسب الفيدرالي يمثل خسارة كبرى لتركيا والعرب؛ الأولى تجد في الفيدرالية خطراً على أمنها. والعرب على أمنهم القومي، ووحدة تراب سوريا؛ لذلك شاهدنا اندفاعة دبلوماسية سعودية لتسويق الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة، واحتضاناً تركياً لتوفير حماية أمنية لها. وتجلى ذلك بدعم الحكومة السعودية السريع للسلطة السورية في أثناء تمرد الساحل، وبتحرك تركيا عسكرياً؛ وهذا لقي قبولاً من الإدارة الأميركية.
هذا التناغم دفع الأكراد للمسارعة إلى مصالحة السلطة في دمشق، وتوقيع اتفاق مبدئي معها، يعزز السلطة المركزية؛ وهذا سببه خوف الأكراد من سحب ترمب قواته من مناطقهم، وغياب روسيا بوصفها قوة رديفة. وبالفعل أكدت صحيفة «وول ستريت جورنال» دور أميركا في هذا الاتفاق مع دمشق. وهذا حشر الدروز في زاوية صعبة، لكونهم يشكلون اثنين في المائة من سكان سوريا، وليس منطقياً أن يُمنحوا هذا الامتياز الفيدرالي. كذلك الرئيس ترمب قد لا يسمح لإسرائيل بأن توسع تدخلها في سوريا؛ لأن ذلك قد يضر برؤيته المتمثلة في الانسحاب من المنطقة، وتسليمها إلى حلفائه لحفظ مصالح أميركا، مثل محاربة «داعش»، ونقل مساجينها إلى رعاية الدولة السورية بضمانة تركية؛ فترمب -رغم دعمه لنتنياهو- تفاوض فوق رأسه مع «حماس»، وأجبره على قبول اتفاق وقف إطلاق النار، وسيرغمه على تجنب أي مواجهة محتملة مع الأتراك؛ لأن ذلك قد يدفع الحكومة السورية إلى الارتماء أكثر في حضن أنقرة، علاوة على أن ذلك يبعد فكرة السلام في المنطقة، والتي من خلالها يريد ترمب أن يكون صانع سلام تاريخياً.
ومن حسن حظ الحكومة السورية أن أوروبا وروسيا منشغلتان بالحرب الأوكرانية، ولا ترغبان في تعقيدات بالشرق الأوسط، وبالذات أوروبا التي تخشى موجات مهاجرين، والتي تتطلع لإعادة السوريين إلى بلادهم. كما أن مسارعة الحكومة السورية لمعالجة التجاوزات في الساحل السوري، وتشكيل لجنة تقصٍّ، وتعويض المتضررين، قابله ارتياح أوروبي تمثَّل بدعوة المفوضية الأوروبية للرئيس الشرع لحضور مؤتمر المانحين لسوريا المنعقد أمس في 17 مارس (آذار) في بروكسل. فالخوف من تصدُّع سوريا هاجس أميركي وأوروبي، ولذلك أقنع الأميركيون فصائل التنف بالانضمام للدولة، وسمحوا لقطر بإمداد سوريا بالغاز.
وتدرك روسيا بالمقابل وضعها المتأزم مع الشعب السوري، وكل همها الآن إبقاء قاعدتها البحرية في طرطوس؛ لأنها المنفذ الحيوي للقارة الأفريقية؛ هذه المصلحة الروسية تجعلها على تضاد مع أي زعزعة إيرانية لسوريا.
هذه المعطيات الدولية ليست ثابتة، وعلى حكومة الشرع فهم تحولاتها وتقلباتها، لبناء الدولة القوية؛ فاللحظة مناسبة لتقديم مصالح شعب سوريا على مطالب الخارج، وبالذات رفض مخاوف الخارج المزيفة على الأقليات؛ فالمطالبة بتمييع الأكثرية -كما يقول وزير خارجية الهند جايشانكار- أصبح «مع الأسف موضة سياسية تجبر الأكثرية على إخفاء دينها». فسوريا الجديدة لن يكون فيها خوف على أقليات، ما دامت حكومتها تلتزم بالدستور، وحكم القانون، وتكافؤ الفرص، واحترام حقوق الإنسان، وما دامت تحظى بتأييد شعبها، وما دامت تحرص على التوافق السعودي- التركي الذي تحتاجه لسنوات طويلة.
سوريا اليوم ليس كتلك التي تركها الأسد؛ بل دولة يحميها الشعب، ويحضنها إخوتها العرب، ونموذج واعد للتعايش.
الشرق الأوسط
—————————–
عناصر “المجلس العسكري” في السويداء يهاجمون مشاركين في احتفالية ذكرى الثورة
2025.03.18
اعتدى عناصر من المجلس العسكري في السويداء على مشاركين في احتفالية الذكرى السنوية للثورة السورية، التي أقيمت في ساحة الكرامة وسط المدينة، اليوم الثلاثاء، بعد محاولتهم رفع علم خاص بهم، ما أدى إلى وقوع مشادات كلامية وتدافع مع المتظاهرين.
وأفاد مراسل تلفزيون سوريا بأن شبان الساحة تصدوا لمحاولة عناصر المجلس العسكري رفع العلم، ما تسبب في مشاحنات وتبادل للشتائم، قبل أن يتطور الأمر إلى اعتداءات طالت بعض الصحفيين الذين كانوا يوثقون الحدث، حيث حاول عناصر المجلس منعهم من التصوير.
وأكد المراسل أن الأهالي تدخلوا وأجبروا عناصر المجلس العسكري على مغادرة الساحة، لتستمر الفعالية من دون وقوع مزيد من التوترات.
وشارك في الاحتفالية العشرات، وهتفوا مؤكدين على وحدة الأراضي السورية ووقوفهم إلى جانب درعا التي تعرضت لقصف إسرائيلي ما أدى إلى سقوط 22 ضحية من المدنيين.
“المجلس العسكري” في السويداء
أفادت “السويداء 24” بأن المجلس العسكري تأسس عقب يوم من سقوط نظام الأسد، وأصدر بياناً مصوراً بعد ثلاثة أيام من ذلك، دعا فيه كل من يحمل السلاح إلى الانضمام إليه والتنسيق معه بهدف “حماية المؤسسات وتنظيم السلاح”.
ووفقاً للشبكة، فإن “المجلس العسكري” ينشط في بعض مناطق ريف السويداء الجنوبي، من دون أن يكون له امتداد في جميع أرجاء المحافظة. ويقود المجلس طارق الشوفي، وهو ضابط منشق سبق أن عمل مع تجمعات سياسية تطالب بنظام حكم لا مركزي في سوريا.
وأكدت الشبكة أن دعوات المجلس لم تلقَ استجابة من كبرى الفصائل العسكرية في السويداء، التي شكلت بدورها تجمعات تحت اسم “غرف العمليات”. كما أعلنت، إلى جانب عدد من المرجعيات الدينية، من بينهم الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي للطائفة، أن المجلس العسكري المذكور لا يمثل أهالي المحافظة.
النص الآن أكثر وضوحاً وسلاسة، مع الحفاظ على معناه الكامل.
——————————-
استثمار “الانفجار الطائفي” في سوريا/ خالد الجرعتلي |حسن إبراهيم | علي درويش
خبراء يناقشون الدوافع الداخلية والخارجية
18 أذار 2025
شهدت سوريا خلال الأيام الماضية إحدى أسوأ موجات العنف منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول 2024، بدأت شرارتها بكمين من مسلحين موالين للنظام المخلوع في الساحل السوري أو من تصفهم الحكومة السورية بـ”فلول النظام”، استهدف عناصر الأمن في حكومة دمشق المؤقتة.
تحولت الأحداث سريعًا إلى مواجهات عنيفة دامية، ارتُكبت خلالها انتهاكات طالت مدنيين من أبناء الساحل السوري، واتّسم معظمها بطابع انتقامي وطائفي، وتضمنت عمليات قتل خارج نطاق القانون، شملت إعدامات ميدانية وعمليات قتل جماعي ممنهجة بدوافع انتقامية وطائفية، وفق ما وثقته تقارير حقوقية.
التوترات التي أعقبت الأحداث، وما رافقها من شعارات وأبعاد طائفية، بدأت في 6 من آذار الحالي، وأدت إلى مقتل 803 أشخاص خارج نطاق القانون، قوبلت بتنديد شعبي ورسمي محلي ودولي واسع.
وتزامنًا مع موجة العنف التي ضربت المنطقة، علت الأصوات السورية لنبذ النزعات الطائفية، وضرورة مكافحتها، والحفاظ على السلم الأهلي وعلى سوريا واحدة بجميع مكوناتها، وعدم جر البلاد نحو السمّ الطائفي، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف تداعيات الأحداث التي شهدها الساحل السوري، وسبل الوصول إلى حلول تخفف من وطأة النزعة الطائفية بين فئات من السوريين، ودور الحكومة فيها.
مبادرات وأصوات رافضة للطائفية
بالتزامن مع عملية “ردع العدوان” التي أدت إلى سقوط نظام الأسد، وهروب بشار إلى روسيا، بدا التأكيد واضحًا على تجنب ومنع إثارة النعرات الطائفية في سوريا وتصاعد لاحقًا، وحملت المعركة رسائل منع الاستهداف على أساس عرقي أو مذهبي أو طائفي، وما تبعها من اجتماعات وخطابات وتشكيل لجان، فكان نبذ الطائفية والمحاصصة ومنع تطييف المجتمع ومراعاة التنوع حاضرًا على لسان المسؤولين، بدءًا من رأس الهرم، أحمد الشرع، رئيس سوريا للمرحلة الانتقالية، وصولًا لمسؤولين في الحكومة.
وبالتزامن مع توترات الساحل السوري، قال الشرع، إن بعض الأطراف التي خسرت من الواقع الجديد في سوريا، تحاول أن تعيد نفسها إلى الساحة السياسية عبر إثارة النعرات الطائفية في سوريا، وإن احتمالات اندلاع حرب أهلية كانت كبيرة وقريبة.
لجان لتدارك الموقف
أصدر الشرع قرارين بتشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي في سوريا، مؤلفة من المكلف بتسيير أعمال محافظة اللاذقية حسن صوفان، والدكتور أنس عيروط، والدكتور خالد الأحمد، ولجنة تقصي حقائق مكونة من خمسة قضاة وضابط ومحامٍ، للتحقيق بعد الأحداث الدامية في مدن الساحل غربي سوريا.
عضو لجنة السلم الأهلي، الدكتور أنس عيروط، قال لعنب بلدي، إن الهدف الأساسي من عمل اللجنة هو تقديم الدعم المعنوي من خلال توطيد الأمن بين أفراد المجتمع بمختلف طوائفه وأديانه، وتقديم الدعم المادي من خلال الإغاثة لسد حاجة المحتاجين، وقد أشار إليهما باقتباس من القرآن الكريم: “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.
وأضاف أن أدوات السلم الأهلي كثيرة، ومن أهمها بث قنوات ومنصات التواصل الاجتماعي بين مختلف شرائح المجتمع، وفتح باب الحوار من خلال عمل ندوات أو مجالس اجتماعية، وتكثيف اللقاءات، فهي بدورها كفيلة بقطع الألسن وتقريب وجهات النظر وإصلاح سوء التفاهم وإزالة الفجوة.
ومن أدوات السلم الأهلي، تشكيل مجلس إصلاحي من أهل العقل والرأي وتفعيله ليقوم بدوره في تحمل المسؤولية، ويكون صلة الوصل بين الأهالي والجهات الرسمية، وفق عيروط.
رجال دين ينظمون وقفة احتجاجية لمحاسبة مرتكبي الاعتداءات والتضامن مع الأمن العام والجيش السوري – 11 آذار 2025 (محافظة حلب/ تلجرام)
رجال دين ينظمون وقفة احتجاجية لمحاسبة مرتكبي الاعتداءات والتضامن مع الأمن العام والجيش السوري – 11 آذار 2025 (محافظة حلب/ تلجرام)
أبرز أعمال لجنة السلم الأهلي في الساحل السوري:
الاجتماع بالأهالي وممثلي الطوائف من أجل الحوار وطرح الحلول للوصول إلى السلم الأهلي.
تفعيل دور المخاتير واللجان الشعبية والتواصل معهم.
الدعوة لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والاعتداءات من أي جهة كانت.
التوجيه لنبذ الخطاب الطائفي عن طريق الأئمة والخطباء.
التنسيق مع جهاز الأمن من أجل وضع الحواجز على مداخل البلدات والأحياء السكنية حماية لها.
دعم فكرة سحب السلاح من كل المدنيين وتسليمه لجهاز الأمن.
عيروط: نرفض الخطاب الطائفي
أكد عيروط أن العناصر العسكريين تلقوا توجيهات وتعليمات بعدم الاعتداء على المدنيين والأبرياء، وقد رأى العالم كيف دخلوا دمشق والساحل بـ”الأهازيج والأفراح” ودون قطرة دم واحدة، واستمروا على ذلك أكثر من ثلاثة أشهر، في منتهى التعايش والتلاحم، في سيطرة تامة على هذا الأمر من قبل الدولة وأهل الرأي والعقل، وجرت الحيلولة بينهم وبين الانتقام الذي كان متوقعًا في الغالب نتيجة المجازر التي ارتكبتها “العصابة الأسدية” باسم الطائفية.
وأضاف خلال حديثه لعنب بلدي أن ما حصل هو “تحريض الفلول أو عصابات الأسد البائدة”، والتجييش مع “الاعتداء السافر” على قوى الأمن والجيش ومحاصرة المستشفيات والمساجد، بالتنسيق مع بعض الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” وغيرهم، فكان ما كان من الجرائم والتنكيل بعناصر قوى الأمن والشرطة والجيش والمدنيين من جميع الطوائف الأبرياء، التي “راح ضحيتها أكثر من 300 شهيد فضلًا عن الجرحى”، وهنا كان لزامًا على الدولة التدخل بقوة وحزم حفاظًا على أمن الدولة والسلم الأهلي.
عيروط ذكر أن أرتال القوات الحكومية فكت الحصار عن مستشفى اللاذقية، وعملت على تطهير البلد من عصابات الفلول، وكل ما حصل من تجاوزات كان عقب دخول الأرتال، حيث دخل بعض الأفراد هنا وهناك من خارج المنطقة، وربما من أهل من جُرح ونُكب على أيدي الفلول وغيرهم، فأصبحت هناك عمليات انتقام فردية غير منضبطة.
لجنة السلم الأهلي أسهمت بتهدئة الوضع وتأمين الأهالي في بيوتهم، وعملت على اللقاء بأهالي القرى، وزارت قرى الطائفة العلوية مرارًا من أجل دعم أهلها وتأمينهم وتهدئتهم في قراهم وبيوتهم والعمل على صيانة شبكات الكهرباء والماء لعودة الحياة، ورد بعض المسروقات إلى أصحابها.
وقال عيروط، إنه يرفض الخطاب الطائفي جملة وتفصيلًا، خاصة أنه ليس من الدين، مع تأكيده على أن غرفة العمليات ومن بعدها الحكومة دعت العناصر إلى الانضباط بضوابط الدين والقانون والأخلاق.
وذكر عضو لجنة السلم الأهلي أن اللجنة أسهمت بتهدئة الوضع وتأمين الأهالي في بيوتهم، وعملت على اللقاء بأهالي القرى، وزارت قرى الطائفة العلوية مرارًا من أجل دعم أهلها وتأمينهم وتهدئتهم في قراهم وبيوتهم والعمل على صيانة شبكات الكهرباء والماء لعودة الحياة، ورد بعض المسروقات إلى أصحابها.
لا لتفكيك النسيج الاجتماعي
خرجت أصوات وبيانات ومبادرات مجتمعية رافضة للطائفية، ونددت بالانتهاكات وأكدت على التمسك بالوحدة الوطنية، والعمل المشترك لإعادة بناء سوريا وفق أحلام ورؤى أبنائها، منها بيان صادر عن كافة مكونات مدينة سلمية وريفها التي يقطنها مزيج من مكونات تنتمي لطوائف مختلفة.
بنود بيان صادر عن جميع مكونات مدينة سلمية وريفها:
التمسك المطلق بالسلم الأهلي ورفض أي محاولات لزعزعة الاستقرار أو العبث بالأمن العام.
الإدانة الشديدة للاعتداءات التي قامت بها فلول النظام السابق.
الإدانة الشديدة للاعتداءات الإجرامية التي تعرض لها الأهالي في مدنهم وقراهم على يد الأطراف الخارجة على القانون، والدعوة للعمل بشكل حازم على وقف نزيف الدم السوري.
الوقوف الكامل إلى جانب الدولة السورية ومؤسساتها الأمنية والمدنية في جهودها الرامية إلى حماية المواطنين وتعزيز الأمن والاستقرار.
تثمين عالٍ لقيام الدولة بتشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة.
حصر السلاح بيد الدولة.
دعوة جميع القوى الوطنية والمجتمعية إلى التحلي بأعلى درجات المسؤولية والوعي، ونبذ كل أشكال التحريض والفتنة.
دعم الدولة في مسيرتها نحو إعادة بناء دولة القانون والمواطنة وفق مبدأ التشاركية في صنع القرارات، والتأكيد على أهمية تطبيق العدالة الانتقالية.
التأكيد على وحدة التراب السوري ورفض أي محاولة للتقسيم، ورفض التدخلات الخارجية.
الترحيب بالاتفاق الذي جرى بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والحكومة السورية.
جامعة “قرطبة” الخاصة بمدينة حلب، نظّمت من جانبها وقفة للطلاب والكادر التدريسي والإداري، حملوا فيها الورود والمشاعل، ودعوا إلى وحدة أراضي سوريا وشعبها ودعم الجهود الحكومية في هذا الخصوص، مع نبذ خطاب التحريض والكراهية والطائفية.
رئيسة جامعة “قرطبة” الخاصة في حلب، الدكتورة لارا قديد، قالت لعنب بلدي، إن الخطاب التحريضي القائم على أساس طائفي يحدث شرخًا عميقًا بين مكونات الشعب السوري، ويعزز الانقسامات ويؤجج مشاعر الكراهية والعداء.
واعتبرت قديد أن هذا النوع من الخطاب يسهم في تفكيك النسيج الاجتماعي، ويزيد من حدة التوترات بين الطوائف المختلفة، وهذا بدوره يؤدي إلى تفشي العنف والنزاع.
وتابعت أن استمرار هذا الخطاب يفاقم الصراعات الداخلية ويزيد في الانقسامات المجتمعية، ما يشكل عائقًا أمام تحقيق السلام والاستقرار في البلاد.
ولفتت قديد إلى أهمية المبادرات السِلمية، ومنها الوقفة التضامنية في جامعة “قرطبة”، معتبرة أنها “خطوة مهمة نحو تعزيز التسامح والتفاهم بين مختلف مكونات المجتمع السوري”، لأنها تسهم في بناء جسور التواصل وتعزيز الحوار بين الطوائف المختلفة، والتأكيد على الالتزام بالسلم الأهلي وضرورة التسلح بالوعي الكافي بما يساعد على تقليل التوترات الطائفية.
في مدينة الباب بريف حلب، أثار تسجيل مصور نشره فريق “عبق التطوعي” غضبًا واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي (حُذف لاحقًا)، لأنه أظهر توزيع التمر على الصائمين في رمضان مع عبارات تحريضية ذات صبغة طائفية.
بعد موجة الغضب، أصدر الفريق بيان اعتذارًا لجميع السوريين وخصوصًا أبناء الطائفة العلوية، أكد فيه تحمله المسؤولية عن هذا الخطأ، وشدد على أن نيته لم تكن إثارة الفتنة أو التحريض.
لقيت الحادثة تفاعلًا أهليًا، فصدرت عدة بيانات استنكرت الأمر، منها بيان من المجلس المحلي في مدينة الباب، الذي رفض هذه السلوكيات، وتوعد باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للتحقيق في ملابسات الحادثة، وإحالة المسؤولين عنها للمحاسبة وفق القوانين، لافتًا إلى أن الفريق غير مرخص لديه.
عضو اللجنة السياسية في السويداء المحامي صالح علم الدين، انتقد خطوات اتخذها أحمد الشرع وحكومة دمشق المؤقتة، معتبرًا أنها خلقت نوعًا من الارتباك الطائفي والتفرقة بين مكونات الشعب السوري.
ويرى علم الدين أن إجراءات الحكومة والشرع كانت مخالفة لبناء الدولة الجديدة، ومنحت شكل الدولة لونًا واحدًا (من حل الدستور بالكامل، وزج مقاتلين أجانب في بنية الجيش)، وهذا ما أثار نعرات طائفية، وما يجري من انتهاكات في الساحل السوري، يحمل بعدًا طائفيًا وخلافًا وجوديًا، ولا بد من تفادي هذه الحالة ومراجعة الإجراءات والخطوات.
لماذا تصطف مكونات خلف اعتقاداتها
ربما لم تُطرح مسألة الأقليات والأكثرية في أي حقبة من تاريخ سوريا كما يشار إليها خلال الفترة الماضية، في وقت تقف فيه فئات من المجتمع السوري متحصنة بانتمائها الطائفي أمام مجموعات أخرى تنتمي لطوائف أخرى، لكنها تتخذ الموقف نفسه.
قرأ أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز “دراسات الشرق المعاصر” في جامعة “السوربون” الفرنسية، برهان غليون، مصطلح الأقليات في الظروف الحالية بأنه ذو معنى لا يتطابق مع شكله المعروف في كل مكان، وعلى مر العصور.
وفي كتابه “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات” قال غليون، إن معنى الأقلية يُستلهم دائمًا من الظرف التاريخي السياسي الذي يعطيه شحنة تخلية، وأبعادًا اجتماعية، يمكن أن تتراوح بين المطالبة بالمساواة والدعوة إلى الاستقلال وتكوين دولة منفصلة.
وأضاف أن الأمم جمعيها مكونة من أقليات، أي جماعات متعددة ومتميزة كل واحدة عن الأخرى، سواء كانت جماعات اجتماعية أو مهنية أو جغرافية أو قومية، ولا تكون هذه الجماعات دائمًا على المستوى نفسه من القوة أو النفوذ إلى السلطة.
مسألة ذات ارتباطات تاريخية
يحتل الموضوع الطائفي مساحة واسعة ضمن الأدوات التي استخدمت على مر السنوات في الحرب السورية، واستُغل هذا الواقع من قبل أطراف عديدة محلية ودولية، وفسّر الباحث علاء الدين الخطيب، في بحث نشره مركز “تواصل لمناهضة خطاب الكراهية“، خطورة هذا الخطاب بكون الإشكال الطائفي أزمة مستمرة تاريخيًا في العالم والمنطقة وفي سوريا، وهي جزء من حركة ارتداد أصولي عالمي وإقليمي نحو الهويات الضيقة، والأهم أن خطاب التحريض الطائفي يتيح للخطاب الشعبوي الكثير من الأدوات التي تخاطب العواطف الغاضبة أو المحبطة للجماهير.
الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام، قال لعنب بلدي، إن الإشكالية الطائفية في سوريا تعود جذورها لفترات زمنية أقدم مما يُنظر إليه اليوم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النظر إلى أماكن إقامة الأقليات الدينية في سوريا بالمناطق الجبلية التي يسهل الدفاع عنها.
وأضاف أن حالات الاضطهاد التي عانت منها الأقليات في سوريا على مر التاريخ، خصوصًا مع التغيرات السياسية التي مرت بها البلاد، ومنها “فتاوى ابن تيمية بقتل الأقليات”، شكّلت عقلًا جمعيًا عند الأقليات الدينية يخوّفها من الأكثرية في سوريا، وهو ما استثمر فيه النظام السوري السابق، بحسب قسام.
قسام قال أيضًا إن الانتهاكات التي تُهدد بها الأقليات، وحصلت في مناطق متفرقة خلال السنوات، منها بلدة قلب لوزة في إدلب التي تقطنها غالبية درزية، أسهمت في تشكيل حالة من عدم الاندماج بالمجتمع المحيط للفئة التي تعرضت للانتهاك.
ولفت إلى أن التحريض الذي لم يتوقف على مدار الأسابيع الماضية، دون رادع، أدى إلى أحداث الساحل السوري، وأسفر عن سقوط ضحايا من أبناء الطائفتين السنية والعلوية.
الإشكالية الطائفية في سوريا تعود جذورها لفترات زمنية أقدم مما يُنظر إليه اليوم، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال النظر إلى أماكن إقامة الأقليات الدينية في سوريا بالمناطق الجبلية التي يسهل الدفاع عنها.
خلافات في النسق الطائفي استغلها الأسد
يستند الخطاب المبني على الكراهية بشكل عام أو على الكراهية في النسق الطائفي في سوريا، بالتمايز في الهويات الدينية والمذهبية المتجذرة بالمجتمعات المحلية السورية، إلى تصورات نمطية وإلى حد ما عدائية تجاه الآخر، بناء على الهوية الطائفية وفق ما يراه الباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” طلال المصطفى.
المصطفى، وهو دكتور في علم الاجتماع، قال لعنب بلدي، إن الخطاب المبني على الكراهية يتغذى على مشاعر التهميش والخوف التي عادة يضخمها السياسيون، أي أن الفاعل السياسي هو الذي يضخم الحالة، إلى جانب الدور الذي تلعبه القيادات المذهبية أو الدينية في تضخيم هذا الخطاب أيضًا.
وأضاف أن الكراهية تؤدي بطبيعة الحال إلى المزيد من العنف الانتقامي، خصوصًا عند تحميل فئة أو جماعة مسؤولية تهديدات أو صعوبات تواجهها جماعة أخرى، بمعنى أن “نسق الطائفة هو بيئة خصبة لتصعيد العنف وتصعيد الكراهية”.
ولفت الباحث إلى أن النظام السوري عمل بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 على تأجيج خطاب الكراهية، ومع مرور الوقت صار حديث الشارع يركز على حرب غير معلنة طائفية ما بين السنة والعلويين، سواء عن وعي، أو دونه، وهو ما صب عليه نظام الأسد المخلوع جهده.
وأرجع الباحث جذور الخلاف الطائفي في سوريا إلى ما قبل عام 2011، لافتًا إلى أنها مرتبطة بالنسق السلطوي للنظام، وليست من مفرزات الثورة كما كان يحاول النظام المخلوع تصويره سابقًا.
من جانبه، قسّم الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام، نظرة الغالبية السنية للأحداث الطائفية في سوريا إلى تيارات متعددة، أبرزها التيار الذي عاش في شمال غربي سوريا الذي يفكر بعض أفراده من منطلق حالة انتقامية، نظرًا إلى أن أفراده هم من عاشوا في الخيام وتحت البراميل وعانوا من النزوح والقتل.
ولفت إلى أن الحالة المتناقضة جدًا في سوريا مفهومة حاليًا، على اعتبار أن العمليات الانتقامية تقاس كرد فعل من مجموعة لأخرى، الأولى كانت تتعرض لأقسى أنواع الاضطهاد، والثانية كانت تتشفى بجراحها.
وأشار إلى وجود تيار آخر في الغالبية السنية السورية، يؤمن بجوهر الإنسان، وجوهر المجتمع نفسه، وجوهر العلاقات الاجتماعية الطيبة بين الأفراد.
قسام قال أيضًا إن التيار الثالث هو التيار السياسي، وهو الذي يتصدر المشهد الإعلامي غالبًا، ويعتبر المحرك أيضًا للفئة الأولى، ويتيح له واقع الحال استخدام الخطاب الطائفي لتجييش الفئة الأولى بمعركته ضد الأقليات الدينية.
ولفت إلى أن استمرار هذا الخطاب لن يؤدي إلى استقرار، إنما سيعكس انتهاكات للحقوق على أساس طائفي ستعود للواجهة دائمًا.
الطائفية.. مخاطر وحلول
يعتبر التحزب والتخندق الطائفي أحد أسباب التدخلات الخارجية بالدول خاصة خلال القرنين الأخيرين، فالدول الغربية وتحت مسمى حماية الأقليات وجدت ذريعة للتدخل في شؤون العديد من دول المنطقة، ودعم مكونات دينية أو قومية على حساب أخرى، منذ زمن الدولة العثمانية.
في سوريا اليوم، تتعالى أصوات تحريض طائفي أو مطالبة بتدخل وحماية دولية، وهو ما يمكن أن يدفع سوريا إلى عواقب لا يحمد عقباها، وفق ما يراه مراقبون، فالأمثلة على ذلك متعددة.
مخاطر الوصاية الخارجية
دعا الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، خلال كلمة مصورة، في 9 من آذار الحالي، تعليقًا على أحداث الساحل السوري، دول الإقليم والعالم للوقوف إلى جانب سوريا وتأكيد احترامهم الكامل لوحدتها وسيادتها.
وشدد الشرع على أن “سوريا ستظل صامدة ولن نسمح لأي قوى خارجية أو أطراف محلية أن تجرها إلى الفوضى أو الحرب الأهلية، ونحن على العهد ماضون مصممون على المضي قدمًا نحو المستقبل الذي يليق بشعبنا العظيم”.
وقال وزير الدفاع في حكومة دمشق المؤقتة، مرهف أبو قصرة، إن “أكبر إنجاز بعد سقوط نظام بشار الأسد هو عدم اندلاع حرب أهلية”.
وذكر أبو قصرة خلال اجتماع في العاصمة دمشق حضرته عنب بلدي، في 22 من كانون الثاني الماضي، أنه “بوعي السوريين استطعنا تجاوز مرحلة الحرب الأهلية”.
بالمقابل، تظهر عدة أصوات في الساحل أو السويداء، أو حتى شمال شرقي سوريا، تطالب بتدخل دول خارجية، تزامنًا مع عملية إعادة بناء الدولة السورية بعد سقوط نظام الأسد.
وحول مخاطر الطائفية على وحدة سوريا، قال مدير قسم تحليل السياسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، الدكتور سمير العبد الله، إن للطائفية العديد من المخاطر، فبالإضافة إلى حالة الانقسام التي يعيشها المجتمع، وأعمال العنف في حال تطور الأمر، فهي تعزز من تدخل الدول الخارجية بالشأن الداخلي للبلد.
وتعمد بعض الدول لدعم أطراف ضد غيرها، ما يطيل أمد الصراع أو الخلاف، ويعرقل الاقتصاد والمشاريع، ويستنزف موارد الدولة، ويُنتج نخبًا ممثلة لطوائفها، بدل أن تكون نخبًا وطنية تمثل مصالح كل الشعب، وفق العبد الله.
وأضاف العبد الله لعنب بلدي أنه بالنسبة لسوريا “تجاوزت هذه المرحلة”، خاصة أن هناك رغبة دولية بنجاح الحكومة الجديدة، ودعمها لضبط الأوضاع، لكن إيران ستستمر بتحريك الطائفية، وروسيا ستراقب المشهد دون التدخل بشكل مباشر.
أبرز أخطار الوصاية الخارجية هو أن تتحول المصالح الوطنية إلى رهينة مباشرة لمصالح القوى الخارجية، بحسب ما قاله الباحث المتخصص في الشأن السياسي نادر الخليل، ففي الظروف الطبيعية، تسعى السلطة الحاكمة في أي بلد، مثل سوريا، إلى تحقيق توازن بين مصالح الأطراف الخارجية من خلال المساومات ومبدأ المصالح المتبادلة.
وأوضح الخليل لعنب بلدي، أنه في حالة الخضوع لوصاية خارجية، تصبح السلطة المحلية مقيدة بشكل قسري ومباشر بمصالح القوى الخارجية، ما يحدّ من قدرتها على المناورة.
تسعى أي سلطة حاكمة إلى تحقيق توازن بين مصالح الأطراف الخارجية من خلال المساومات ومبدأ المصالح المتبادلة، لكن في حالة الخضوع لوصاية خارجية، تصبح السلطة المحلية مقيدة بشكل قسري ومباشر بمصالح القوى الخارجية، ما يحدّ من قدرتها على المناورة.
ولفت إلى أن هذا الوضع غالبًا ما ينعكس سلبًا على مصالح المواطنين، إذ تُهمّش احتياجاتهم لمصلحة أجندات خارجية.
ومع ذلك، في بعض الحالات، قد تخدم الوصاية الخارجية مصالح المكونات المهمّشة أو المضطهدة، وهذا لا يحدث إلا في حالات تكون فيها السلطة المحلية منحازة بشكل كبير لمصلحة مكون معين على حساب باقي المكونات الأخرى، وفق الخليل.
واعتبر أن هذه الحالة المصلحية تؤدي إلى هشاشة الانتماء الوطني، وتجعل البلد المعني ضعيفًا وقابلًا للاختراق، وعُرضة للتدخلات المتكررة ويكون كيانه السياسي “هشًا للغاية”.
ما الحلول؟
صعّدت أحداث الساحل السوري من حدة الخطاب الطائفي في سوريا، نتيجة مقتل مدنيين على يد فلول النظام السابق، أو مدنيين من الطائفة العلوية من قبل فصائل عسكرية غير منضبطة.
ولم تقتصر حالة مخاطر المرحلة على الأحداث التي شهدتها المدن الساحلية في سوريا، إذ لا يزال الخطاب الطائفي يهيمن على وسائل التواصل الاجتماعي بين السوريين، في وقت تعمل فيه الحكومة للتخفيف من وطأة الأحداث.
الباحث نادر الخليل، يرى في تعزيز سيادة القانون وتجريم تمجيد “الأسدية” أحد مداخل الحل، عبر القوننة ومحاسبة المحرضين والمجرمين بحق الشعب السوري في عهد النظام الساقط، ومحاسبة المجموعات المنفلتة ومعاقبة المتورطين في الانتهاكات، والبدء بتطبيق العدالة الانتقالية، وتجريم التحريض على الكراهية.
وأضاف أن إصلاح النظام السياسي والتمثيل الشامل في الحكم، عبر تبني نظام سياسي يضمن التمثيل العادل لجميع الطوائف والمكونات، وتعزيز اللامركزية الإدارية لتقليل التوترات بين المناطق المختلفة، وتشكيل حكومة انتقالية تضم كفاءات من مختلف الانتماءات، بما يعكس تمثيلًا حقيقيًا لجميع السوريين، تعتبر خطوة ذات أهمية في هذا السياق.
ولفت الباحث إلى ضرورة إدخال مناهج تعليمية تركز على الهوية الوطنية الجامعة وتعزز قيم التعايش والتسامح واحترام الآخر، إلى جانب محاربة الخطاب الطائفي والتحريض، من خلال وسائل الإعلام ومنابر الخطاب العام، وتجريم الكراهية.
الخليل قال أيضًا إن تفعيل دور المجتمع المدني لدعم المبادرات التي تعزز الوحدة الوطنية ونبذ التعصب، ولعب رجال الدين دورًا في التوعية بخطورة الطائفية وتجريم الدعوات التحريضية ذات الطابع الطائفي، يمهد للوصول إلى حل للأزمة القائمة.
ونوّه الباحث إلى ضرورة إشراك المكونات والأطراف في الحوار الوطني، وإطلاق حوارات شاملة بين مختلف المكونات للوصول إلى عقد اجتماعي جديد يعزز الوحدة الوطنية، إلى جانب إعادة بناء الثقة، من خلال جلسات مصارحة وطنية، خاصة في المناطق المختلطة، لتعزيز التفاهم بين المكونات المختلفة.
واعتبر الباحث أن إقرار المسؤولية التاريخية وتشجيع قيادات الطائفة العلوية على الاعتراف بالجرائم المرتكبة في عهد النظام السابق، يعتبر خطوة مهمة وضرورية نحو المصالحة الوطنية.
من جانبه أوصى الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام بثلاث خطوات للوصول إلى حلول في تهدئة النزعة الطائفية على الساحة السورية، أولاها اتباع أسلوب تشاركي في إدارة الدولة، إلى جانب ضرورة أن يكون الإعلام السوري ذا أجندة واضحة وتوفير مصدر واحد للمعلومات، بعيدًا عن مجموعات المؤثرين في منصة “تيك توك” و”يوتيوب” وغيرهما.
ويرى قسام أن إقالة وزير العدل، شادي الويسي، تعتبر عاملًا ضروريًا في هذا الإطار، نظرًا للطريقة التي يُنظر إليه فيها، على اعتباره مسؤولًا عن انتهاكات موثقة سابقًا، واتباع خطوات عملية باتجاه الإصلاح القضائي والقانوني، لأن عدم تفعيل هذا الجسم كلّف السوريين الكثير من الانتهاكات، نظرًا إلى أنه عرقل المسار نحو العدالة الانتقالية.
ويرى الباحث في مركز “حرمون” طلال المصطفى، أن علاج الأزمة القائمة بحاجة لخطاب سياسي وطني شامل، وهذا من مهمة الدولة، والفاعلين السياسيين، الذين يجب أن يتبنوا خطابًا يطمئن الجميع، ويتجاوز التصنيفات الطائفية، وهو ما لم يظهر حتى الآن، نظرًا إلى أن إعلام الإدارة الجديدة لم يبرز بعد.
وأكد ضرورة مسألة إصلاح المؤسسات، خاصة القانونية منها، بهدف تحقيق عدالة شاملة، وتمثيل عادل لمكونات المجتمع بمؤسسات الدولة أيضًا.
ولفت إلى أن الإعلام يلعب دورًا كبيرًا في تضخيم الخطاب الطائفي، كما يمكن أن يكون له دور بتفكيك السرديات الطائفية، وتعزيز قيم التعايش عبر برامج إعلامية تعليمية.
المصطفى قال أيضًا، إن المبادرات المحلية تلعب دورًا جذريًا لبناء الثقة، مثل لجان مصالحة على مستوى البلدات أو الأحياء، وتنظيم حوار بين مكونات المجتمع، لافتًا إلى أن التوعية تحتاج إلى إرادة سياسية جديدة ورؤى سياسية بعيدة المدى تتجاوز هذه الموضوعات الضيقة ذات الطابع الطائفي.
الإعلام يلعب دورًا كبيرًا في تضخيم الخطاب الطائفي، كما يمكن أن يكون له دور بتفكيك السرديات الطائفية، وتعزيز قيم التعايش عبر برامج إعلامية تعليمية.
رئيس سوريا للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع خلال لقائه مع وفد من الطائفة المسيحية في مدينة دمشق – 31 كانون الأول 2024 (رئاسة الجمهورية)
رئيس سوريا للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع خلال لقائه مع وفد من الطائفة المسيحية في مدينة دمشق – 31 كانون الأول 2024 (رئاسة الجمهورية)
الصراع السياسي والانفجار الطائفي
السبب في تحويل الانتماء الديني إلى ورقة سياسية هو استخدامه من قبل الدول الاستعمارية لتوسيع دائرة نفوذها أو التدخل مباشرة سياسيًا وعسكريًا في الدول الجديدة الناشئة.
وفي مرحلة ثانية، توظيفه من قبل الأطراف السياسية المتنازعة على السلطة في هذه الدول ذاتها بالصراع على السلطة، بمعنى آخر، ليس الاختلاف الديني هو الذي يفسر الانفجارات الطائفية وإنما الصراع السياسي.
ولا توجد حروب أو صراعات دينية كبرى إلا في سياق هذا الصراع الخارجي الاستعماري أو الداخلي.
وقد تدفع الدول الأجنبية إلى هذا الصراع بهدف التدخل في شؤون الدول الصغيرة، وفرض الوصاية هو أحد أشكال هذا التدخل أو غايته لجعله تدخلًا دائمًا وبنيويًا يضمن مصالح الدولة المتدخلة بعيدة المدى.
وأخطار الوصاية هي ببساطة تقويض الدول الجديدة، وانتزاع أكثر ما يمكن من المصالح فيها، وحرمانها من أن تتكون كدول مستقلة، تعمل لخدمة شعبها لا لخدمة المصالح الأجنبية.
وإذا أرادت الدول الأجنبية المهتمة بالفعل أن تفرض الوصاية، فأسهل طريق هو أن تشعل الصراع الطائفي، وربما تشارك في إشعاله مباشرة وتزويده بالإمكانيات كي يتحول إلى حرب أهلية.
وما نشهده في سوريا اليوم من انفجار هو ثمرة مزيج من التدخل للقوى الأجنبية التي فقدت مواقعها ونفوذها في البلاد بعد 8 من كانون الأول 2024، وكذلك من رد فعل قوى النظام السابق لخسارتها مواقعها السياسية والاقتصادية.
أما فرص نجاحها فهي محدودة جدًا، لأن هناك إرادة دولية وإقليمية واضحة لتحجيم دور طهران ومنعها من استعادة مواقعها في المشرق ولبنان وسوريا خاصة، وكذلك بسبب فقدان نظام الأسد والقوى المرتبطة به لأي تعاطف أو قبول من قبل الجميع (السوريين والأجانب) نتيجة ما ظهر من جرائمه المنقطعة النظير بعد سقوطه، والتي جعلت قادته ملاحقين من قبل العدالة المحلية والدولية.
أما الحلول لتجنب ذلك فهي تكمن في وسيلتين، الأولى بالبدء بتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية الذي يضع حدًا لأوهام الانقلابيين الذين يريدون استعادة السلطة، كما يطمئن الناس من جميع الطوائف المتوجسة من بعضها البعض على احترام حقوقها الأساسية، وقصر العقاب على مرتكبي الجرائم الكبرى، وفتح الحوار والمصالحة بين الجمهور الواسع وإنهاء الخوف المتبادل لجميع الأطراف.
وفي سوريا يمكن لتشكيل حكومة اتحاد وطني شاملة أن يخفف أيضًا من الاحتقان والخوف على المستقبل.
وعلى المستوى الخارجي، من المفيد تنشيط العمل الدبلوماسي والسياسي لتهدئة غُلو (اندفاع وحماسة) الدول المتدخلة الخاسرة، وربما إيجاد حل دبلوماسي معها للتقليل من هذه الخسارة أو الشعور بها. وهذا ما يبدو لي أن الإدارة السورية تعمل عليه مع موسكو.
عنب بلدي
———————————-
سياسة ترامب تجاه سوريا: التحول نحو الاحتواء الاستراتيجي/ لين خطيب
18 مارس 2025
يتبنى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ولايته الثانية، نهجًا مختلفًا تجاه سوريا يقوم على “التقليل الاستراتيجي”، حيث يتم تقليل التدخل المباشر للولايات المتحدة مع الحفاظ على وجود يخدم المصالح الإقليمية الأميركية. أربعة عناوين تلخص سياسة ترامب تجاه سوريا بعد انهيار نظام الأسد: فك الارتباط العسكري، والتحالف مع تركيا، واحتواء إيران، وخدمة المصالح الإسرائيلية.
الانسحاب العسكري مع الاحتفاظ بالنفوذ الاستراتيجي
أحد أهم التطورات في ظل قيادة ترامب المتجددة هو نيته الواضحة في تقليص وجود القوات الأميركية في سوريا. وقد أدى ذلك إلى محاولة مساعدة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والحكومة السورية الجديدة على التوصل إلى اتفاق يهدف إلى دمج “قسد”، التي يقودها الأكراد، ضمن الحكومة السورية المؤقتة بقيادة أحمد الشرع. وإذا تحقق هذا الاتفاق بالكامل، فسيشكل خطوة نحو استقرار شمال سوريا، مع السماح بانسحاب أميركي يتم بطريقة تمنع حدوث فراغ أمني.
ومع ذلك، فإن الانسحاب الأميركي ليس خاليًا من التعقيدات. فقد استخدمت الولايات المتحدة تاريخيًا وجودها العسكري في شمال شرق سوريا لمواجهة تنظيم “داعش”، ودعم حلفائها من الأكراد، وموازنة النفوذ الإيراني. وقد يؤدي الانسحاب المتسرع إلى ترك فراغ يمكن للاعبين إقليميين استغلاله.
ومن منظور سوري، يُنظر إلى خروج القوات الأميركية على أنه خطوة ضرورية لاستعادة السيادة الكاملة، رغم المخاوف من القوة التي قد تملأ هذا الفراغ. وفي الوقت الراهن، يبدو أن استراتيجية ترامب لن تكون انسحابًا كليًا بل إعادة تموضع تُقلل من البصمة الأميركية مع الحفاظ على النفوذ من خلال تحالفات مع إسرائيل وتركيا.
دور تركيا والمساومات الجيوسياسية
بالفعل، تُعد كل من تركيا وإسرائيل من اللاعبين الرئيسيين في تشكيل سياسة ترامب تجاه سوريا. فيما يتعلق بتركيا، فقد سلطت تصريحات ترامب، التي جاءت فور الإطاحة بنظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، الضوء على الدور المحدود للولايات المتحدة في سوريا، مع الإقرار بالدور الكبير لتركيا في البلاد، وأشارت التصريحات إلى أن تركيا خرجت كالمُنتصر الوحيد في سوريا وتتمتع بجميع المزايا الاستراتيجية فيها.
ومن منظور سوري، يُنظر إلى النفوذ التركي على أنه معقد؛ فبالرغم من معارضة كثير من السوريين لأي تدخل أجنبي، إلا أن الدور التركي يُعتبر في كثير من الأحيان أفضل من التدخل الإسرائيلي أو الأميركي، نظرًا للعلاقات التاريخية لأنقرة مع المنطقة ومعارضتها لنظام الأسد.
وتكمن المصلحة الأساسية لأنقرة في منع إقامة كيان كردي مستقل على حدودها، والذي تعتبره تهديدًا للأمن القومي. وإذا انسحبت القوات الأميركية، فمن المرجح أن تسعى تركيا إلى زيادة نفوذها في شمال سوريا، خاصةً في المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية. وستكون مهمة ترامب هي تحقيق توازن بين هذا الطلب التركي والحفاظ على مصداقيته لدى القوات الكردية، التي كانت حليف الولايات المتحدة الرئيس في مكافحة داعش وتأمين حقول النفط والغاز. كما تتوقع إسرائيل من ترامب أن يضمن تحقيق تحول جيوسياسي أوسع يقوي موقعها الإقليمي على حساب تركيا، ما يثير قلق الأتراك والسوريين على حد سواء.
ويعتبر موقف تركيا من اتفاقيات أبراهام أمرًا حاسمًا معقدًا للأمور، إذ تجادل أنقرة بأن هذه الاتفاقيات تقوض القضية والحقوق الفلسطينية ولا تعالج سياسات الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة بأسرها، وترى أنها جزء من الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية لتعزيز موقع إسرائيل الإقليمي مع تهميش اللاعبين الرئيسيين الآخرين، بما في ذلك تركيا نفسها.
احتواء إيران وسياسة العقوبات
ليست تركيا اللاعب الوحيد الذي تهتم به سياسة ترامب في سوريا. ففي الواقع، ترتبط استراتيجية ترامب في سوريا ارتباطًا وثيقًا بسياساته الأوسع في الشرق الأوسط، لا سيما فيما يتعلق بإيران. يُعد من أهداف ترامب الرئيسية الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا سيما في سوريا والعراق واليمن.
وعلى عكس جو بايدن الذي انتهج نهجًا غير واضح تجاه إيران، من المتوقع أن يواصل ترامب سياسته المتشددة، وربما يكثف التدخلات الأميركية ضد طهران. ففي اليوم الذي تولى فيه ترامب منصبه، أعاد تصنيف المتمردين الحوثيين في اليمن، المتحالفين مع إيران، كمنظمة إرهابية أجنبية. وكان فريقه قد بدأ بالتعامل مع الملف العراقي حتى قبل توليه رسميًا سدة الرئاسة، حيث وجه عدة رسائل إلى الحكومة العراقية طالبًا دمج قوات الحشد الشعبي (PMF) في الجيش الوطني لكبح حرية تحرك إيران في العراق.
ومع ذلك، تُعتبر هذه الجهود الأميركية للحد من النفوذ الإيراني في سوريا كخدمة للمصالح الإسرائيلية بدلًا من أن تخدم استقرار سوريا.
العامل الإسرائيلي وإعادة الترتيبات الإقليمية
يمكن القول إن سياسة ترامب تجاه سوريا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإعطاء الأولوية لأمن إسرائيل. ومن ثم، فإن أحد العناصر الرئيسية في سياسة ترامب هو تقاطعها مع المصالح الإسرائيلية. ففي إدارته السابقة، اتخذ ترامب إجراءات كانت في مصلحة إسرائيل وعلى حساب حقوق السوريين، مثل الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة. وفي ولايته الثانية، يُتوقع أن يحافظ على مسار مماثل من خلال ضمان ألا تتحول سوريا إلى منصة لنشاط عسكري معاد لإسرائيل.
ومن منظور وطني سوري، فإن أي سياسة تعزز موقع إسرائيل على حساب سيادة سوريا غير مقبولة. لا يزال السوريون متمسكين بمعارضتهم لاحتلال إسرائيل لهضبة الجولان، ويعتبرون السياسات الأميركية التي تضع أمن إسرائيل فوق استقرار سوريا وأمن شعبها بمثابة إجراء غير مقبول. وستلعب إعادة ترتيب التحالفات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بما في ذلك الاتفاقيات المحتملة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، دورًا في تشكيل موقف ترامب تجاه سوريا.
التحديات والتوقعات المستقبلية
على الرغم من ميل ترامب إلى تقليل التدخل العسكري، فإن عدة عوامل قد تعقد استراتيجيته في سوريا، مثل احتمال عودة نشاط داعش، والتوترات بين تركيا والقوات الكردية، والمناورات الروسية. علاوة على ذلك، ورغم تفضيل ترامب لتقليل التدخل المباشر، فإن إدارته ستظل مضطرة للتعامل مع تعقيدات السياسة الإقليمية. وفيما يتعلق بتعامل إدارة ترامب مع الحكام الجدد في دمشق، فمن المحتمل أن تستجيب الإدارة للمبادرات الإقليمية التي تقودها تركيا وقطر والسعودية لاستقرار سوريا.
ومن منظور سوري، فإن السيناريو المثالي هو انسحاب أميركي لا يترك سوريا عرضة لمزيد من التدخلات الأجنبية. قد يكون أحد السيناريوهات المحتملة هو التحول نحو نوع من المشاركة غير المباشرة، حيث تعتمد الولايات المتحدة على شركاء إقليميين مثل تركيا وقطر بدلًا من التدخل المباشر. وهذا يتماشى مع نهج ترامب “أميركا أولًا” الذي يركز على الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية بدلًا من الالتزامات العسكرية المطولة.
الترا سوريا
——————————-
==========================
=======================
الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 18 أذار 2025
تحديث 18 اذار 2025
———————————————-
الإعلان الدستوري ليس قضيةً قانونية/ سمير الزبن
18 مارس 2025
أثار الإعلان الدستوري، الذي وقّعه الرئيس السوري المؤقّت أحمد الشرع، جدلاً كثيراً، وتركّز في مواد الإعلان بمعناها القانوني، مثل صلاحيات الرئيس الواسعة ذات الطابع السلطاني، والحرّيات، والفقه الإسلامي “المصدر الرئيس للتشريع”، وفصل السلطات، والمرجعيات، وتراتبية السلطات وفصلها… إلخ، وغيرها من مواد قانونية نصّ عليها الإعلان. وكان لهذا النقاش أن يكون أكثر فائدةً لو أن مسوّدة الإعلان الدستوري طُرحت للنقاش العام، وكُرّست خلاصة هذا النقاش في مواد قانونية ملائمة، لكنّ هذه الفرصة فاتت.
لا يمكن التعامل مع الإعلان الدستوري على أساس أنه مسألة قانونية عادية وشكلية، تتعلّق بتشكيل “لجنة فنية” من قانونيين تعمل في تدبيج موادّ الإعلان، يوقّعها الرئيس فتصبح ساريةَ المفعول خمس سنوات. هذه صيغة مبتسرة، لا تصلح لإقرار إعلان دستوري يتحدّث عن حقوق أساسية في فترة انتقالية بالغة الخطورة لبلدٍ يعاني من الدمار. القضية الدستورية، سواء كانت إعلاناً دستورياً مؤقّتاً، أو دستوراً ثابتاً، قضية تتجاوز الصياغات القانونية الشكلية، فهي يجب أن تعبّر عن توافقاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وشعبيةٍ واسعة بين جميع أطراف المجتمع، الذي ستحكمه هذه الوثيقة. ويحتاج هذا الإعلان الدستوري، على عكس الوثائق القانونية الأخرى كلّها، موافقة شعبية لا يحتاجها قانون جزئي، مثل قانون العقوبات، أو القانون المدني. إنه يمسّ حياة الجميع، ولأنه كذلك كان يجب أن تأتي بعد نقاش حقيقي وعميق يشمل المجتمع وقواه السياسية والاجتماعية. ولأن الإعلان الدستوري وثيقة أُعدَّت بين سلطة الأمر الواقع ولجنة الصياغة في الغرف المُغلقة، كان من الطبيعي أن تخرج بهذه الصيغة المتناقضة والمثيرة للجدل، وهذا يجب ألا يحدُث لوثيقةٍ أساسية ستحكم البلد خمس سنوات مقبلة، تؤسّس لما بعدها.
سلطة الأمر الواقع هي التي صاغت الإعلان الدستوري، ولجنة الصياغة أداة بيدها، وكان لإخراج مشهد إعلان الوثيقة تلفزيونياً دلالة سلبية، جعلت الإعلان يبدو وثيقة انتصار لفئةٍ من الطائفة السُنّية. اقتصر حضور حفل التوقيع على اللجنة المكلّفة من الرئيس بصياغة الإعلان. والأكثر أهميةً أنه جلس في مقابل اللجنة مجموعةٌ من الرجال من لون ديني فئوي واحد، رجال دين سُنّة، جلّهم شغلوا مواقع مقرّرين شرعيين لمجموعات جهادية، واختار الرئيس أن يكون هؤلاء (لماذا لم يكن هناك نساء أو رجال من طوائف أخرى، أو حتى أشخاص من السُنّة غير متديّنين؟) حضور حفل التوقيع فقط، وهذا رسالة واضحة إلى المجموعات التي سيطرت على السلطة، وتأتمر بأمر الشرعيين، وتشكل الجيش الجديد (نحن السلطة).
شكّل الإعلان الدستوري نوعاً من انقلاب ممّن تولّوا السلطة، لكنّه ليس انقلاباً على النظام القديم، بل هو انقلاب على الثورة وعلى الشعارات والقيم التي انطلقت من أجلها قبل 14 عاماً، ودُفِعت تضحياتٌ كثيرة خلال مسيرتها الطويلة. مَنحُ الرئيسِ صلاحيات مطلقة، هو جوهر الإعلان الدستوري، وما عدا ذلك كلّه تفاصيل يمكن تجاوزها، ويمكن تجاوز التناقضات الكبرى في الإعلان الدستوري، حتى إذا نوقِشت نصوص قانونية محضة. لم يكن الإعلان يحتاج اللغة الانتصارية الرثّة في مقدّمة الإعلان، فهذه المقدّمة تصلح مقالاً رديئاً يُطبّل للسلطة الجديدة، وهناك موادّ مضحكة حتى بالمعنى القانوني، مثل “تضمن الدولة مكافحة الفساد”، وكأن هناك إعلانات دستورية تحمي الفساد. ومن جهة أخرى، لا يمكن الجمع بين الفقه الإسلامي مصدراً رئيساً للتشريع واعتبار المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان جزءاً من الإعلان الدستوري، لأن عديداً من الحرّيات التي ينصّ عليها إعلان حقوق الإنسان تتناقض مع الفقه الإسلامي، وفي مقدّمتها المادّة التي تنصّ على حقّ كل شخص “في تغيير دينه أو معتقده”، وهي ممارسةٌ أصبحت عاديةً في أغلب الدول، لكنّها لا تزال تعتبر “رِدّةً” معروفة عقوبتها في الفقه الإسلامي. وإذا كانت هذه الملاحظة جزئية، وهناك من سيقول إن الوضع السوري أعقد من الاهتمام بهذه الجزئيات، فلنذهب إلى الأكثر أهمية، وهو ما ينصّ عليه الإعلان في المادّة 23، التي تنصّ: “تصون الدولة الحقوق والحرّيات الواردة في هذا الباب، وتمارس وفقاً للقانون، ويجوز إخضاع ممارستها للضوابط التي تشكّل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامّة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحّة أو الآداب العامة”. تشكّل هذه المادة إعلاناً مسبقاً للطوارئ على الحرّيات التي ينصّ عليها الإعلان ذاته، فمن يحدّد هذه الضوابط التي ستخضع لها الحرّيات، ومن سيمارسها، فهي حرّياتٌ تولد محاصرةً ومخنوقةً؟ ماذا تعني ضوابط لمنع الجريمة سوى تقييداً مطلقاً للحرّيات، يعود لمزاج السلطة التنفيذية (أو يعود إلى الشرعيين الذين باركوا الإعلان بحضورهم التوقيع)؟… هذا الكمّ الكبير من الحصار للحرّيات من ضوابط للأمن الوطني والسلامة العامّة والنظام العام… إلخ، يجعلها بلا معنى، فالحرّيات التي تولد محاصرةً من الجهات كلّها، مع غياب مفهوم الديمقراطية أساساً مكوّناً لأي سلطةٍ تأتي بعد استبداد طويل، يجعل هذه الحرّيات ديكوراً في الإعلان، وهي للدعاية، وليست حرّيات للممارسة.
الإعلان الدستوري لا يحمي حقوق المواطنين، إذا لم يكن هناك من يحميه، والسلطة ذاتها لا تحمي الدستور، على العكس، يجب حماية الدستور منها، لأنها يفترض أن تخضع له. ولكنّ السلطة التي تصوغ وحدها الإعلان الدستوري، تتجاوزه طالما هو إعلانها الخاص، وطالما ليس هناك من يحمي الدستور من عسفها. فالشعب هو الذي يحمي الدستور، عبر تمثيلاته السياسية والاجتماعية، فالقوى السياسية والقوى الاجتماعية الحيّة، التي تشغل الفضاء العام، هي التي تحمي الدستور من عسف السلطة. لكنّ هذه القوى طُرِدت من التمثيل في كل الإجراءات السياسية التي شرعنت بها السلطة الجديدة ذاتها، فهي بالتالي، ترغب في استمرار فراغ الساحة السياسية من القوى السياسية التي أعدمها النظام السابق، ومنع أيَّ قوىً جديدة من العمل، على قاعدة الذريعة القديمة، أن المخاطر كثيرة لا تحتمل مثل هذا الترف.
إعلان دستوري من دون قوى سياسية ومجتمعية تحميه هو إعلانٌ لا معنى له، سوى تكريس السلطة الجديدة القادمة من مواقع جهادية، لطالما كانت معاديةً للثورة والديمقراطية، ولا تملك حساسيةً لدماء الضحايا. والأغرب أن يكون سلوك السلطة الجديدة الاستئثاري، سلوكاً أقلّوياً للسيطرة على السلطة، مع أنها تدعي تمثيل كل الشعب السوري أو غالبيته.
يشكل هذا الإعلان الدستوري انقلاباً على الثورة السورية، ومحاولةً للاستيلاء على سرديتها، للاستفراد بالسلطة خلال الخمس سنوات الانتقالية، التي ستحدّد مستقبل البلد على شاكلتها سنوات طويلة.
العربي الجديد
———————————
بنظرة قانونية… هل يلبي الإعلان الدستوري تطلعات السوريين؟/ مصطفى رستم
يرى بعضهم أن 5 أعوام فترة طويلة لكنها بالنسبة إلى آخرين معقولة وتتيح المجال لبناء أسس الاستقرار وليست مجرد محاولة لكسب الوقت
الاثنين 17 مارس 2025 ضهم أن خمسة أعوام مدة مناسبة بالنظر إلى حجم التحديات التي تواجه البلاد التي خرجت من حرب استمرت 14 عاماً.
في الـ 13 من مارس (آذار) الجاري أقرّ الرئيس السوري أحمد الشرع “الإعلان الدستوري” الذي يحوي 53 مادة، بعد درس من لجنة صياغة متخصصة في هذا الشأن، وخلّف الإعلان جدلاً واسعاًُ بين مؤيد ومعارض، فرأى فريق وجود إشكال في طبيعة الإعلان نفسه، فقد بدا وكأنه مزيج بين إعلان دستوري موقت ودستور دائم، ومن الملاحظ أن مواده جاءت موسعة أكثر مما هو معتاد في الإعلانات الدستورية التي تُصدر خلال المراحل الانتقالية، والتي تكون عادة أكثر اختصاراً وتركيزاً على الأسس العامة من دون التوسع في التفاصيل.
خطوة نحو الاستقرار
ورحب مدير المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية أنور البني في حديث إلى “اندبندنت عربية” بالإعلان الدستوري الموقت، كما يجب تسميته، لتستقر وتنجح المرحلة الانتقالية، بسبب أنه نص على إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية، واعتبر الاتفاقات الدولية جزءاً من الإعلان، كما حدد مدة الفترة الانتقالية واعترف بضرورة وجود الأحزاب والجمعيات، وكلها بنود مبشرة، على حد قوله.
وفي المقابل يسجل البني مجموعة تحفظات ومنها تجاوز الإعلان الدستوري ليكون بمثابة دستور مصغر، إذ حدد مسبقاً اسم الجمهورية ومصادر التشريع وسلطات الرئيس، “وبذلك صادر إرادة السوريين والسوريات علاوة على عدم النص على إشراك المجتمع المدني بتسمية أعضاء مجلس الشعب”، وانتقد “عدم وجود نصوص تتعلق بتشكيل السلطة القضائية لتكون مستقلة تماماً، وتسمية الرئيس لأعضاء المحكمة الدستورية العليا، وعدم وجود وضوح في كيفية وضع الدستور الجديد”.
وكذلك اعتبر زعيم “تيار الإرادة الشعبية” قدري جميل أن “المشروع لا يرتقي لمتطلبات وخطورة المرحلة التي تعيشها البلاد، وجاء مخيباً للآمال وأقل من أن يكون أساساً صالحاً لانتقال سلس يحمي وحدة البلاد وأهلها، ويغلق الباب على التدخلات الخارجية بمختلف أشكالها”، معتبراً أن “تحديد الفترة الانتقالية بخمسة أعوام وترك البلاد كل هذه الفترة دون دستور دائم ينتج من مؤتمر وطني حقيقي وواسع التمثيل، يفاقم الأخطار التي تعيشها الوحدة الوطنية للبلاد، ويصعب ويعرقل رفع العقوبات”.
الفراغ الدستوري
ويرى متخصصون في القانون أن إصدار الإعلان الدستوري الموقت خطوة حاسمة لسد الفراغ التشريعي الذي استمر خلال الأشهر الثلاثة الماضية بعد سقوط نظام الأسد، فقد عاشت سوريا خلال هذه الفترة مرحلة من الفراغ الدستوري، مما جعل هذا الإعلان ضرورياً لإعادة الحياة الدستورية وتفعيل القوانين وضمان سيادة القانون مجدداً.
ومن العاصمة الفرنسية باريس تحدث الباحث القانوني فراس حاج يحيى إلى “اندبندنت عربية” حول المدة التي حددها الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية وهي خمسة أعوام، ويرى أنها مدة مناسبة بالنظر إلى حجم التحديات التي تواجه البلاد، فعلى الصعيد الداخلي تخرج البلاد من حرب استمرت 14 عاماً مخلفة دماراً واسعاً في المدن والبنية التحتية، إضافة إلى وجود نصف الشعب السوري خارج البلاد بين مخيمات اللجوء ودول الشتات، وكل هذه العوامل تجعل من الضروري تخصيص فترة انتقالية كافية لضمان استقرار البلاد وتهيئتها لمرحلة جديدة.
وأضاف، “قد يرى بعضهم أن خمسة أعوام فترة طويلة، لكن برأيي هي مدة معقولة تتيح المجال لبناء أسس الاستقرار، ولا يمكن اعتبارها مجرد محاولة لكسب الوقت بل هي ضرورة موضوعية للوصول إلى انتقال سياسي شامل يضم جميع السوريين، كما أنها تسهم في الحفاظ على وحدة البلاد في ظل التحديات الإقليمية، سواء في الجنوب مع التدخلات الإسرائيلية أو في مناطق أخرى قد تشهد محاولات انفصالية”.
ووفق يحيى فقد “كان الإعلان الدستوري بحاجة إلى وقت أطول لصياغته بدقة قانونية أكبر، إذ يبدو أنه أُنجز بسرعة مما أثر في مستوى دقة تحديد مواده وضبطها بشكل تقني يمنع تعدد التفسيرات أو التأويلات المختلفة”، مشيراً إلى أن النصوص الدستورية، سواء كانت دائمة أو موقتة، يجب أن تكون واضحة ومجردة ودقيقة لتفادي الالتباس.
آلية التعديل
وبالنسبة إلى وجود اعتراضات من بعض الأطراف، وأبرزها من المكون الكردي، حول اسم الدولة واشتراط دين رئيس الدولة، يرى بعضهم أن هذه الاعتراضات بحد ذاتها مؤشر إيجابي، إذ تعكس تطوراً في النقاش العام، فقد أصبح السوريون قادرين على مناقشة دستورهم وانتقاده بحرية.
ويعتقد الباحث فراس حاج يحيى أن الإعلان الدستوري نفسه يتضمن مادة حول آلية التعديل مما يتيح المجال أمام القوى السياسية والمكونات المختلفة لإجراء التشاور والتنسيق حول التعديلات المطلوبة، وذلك بالتعاون مع رئيس الجمهورية الذي يمتلك صلاحية طلب التعديل بعد تشكيل مجلس الشعب، مضيفاً أن “من وجهة نظري الشخصية فالمادة المتعلقة بتشكيل مجلس الشعب كانت الأكثر ضبابية، إذ نص الإعلان على أن رئيس الجمهورية يعين ثلثي أعضاء المجلس ثم تشكل لجنة عليا للانتخابات تختار هيئة ناخبة لاختيار بقية الأعضاء، وهذه الآلية تحتاج إلى مزيد من التوضيح والتفصيل لضمان الشفافية والوضوح في عملية تشكيل المجلس”.
كما تطرق إلى مسألة تركّز كثير من صلاحيات التعيين في يد رئيس الجمهورية مما قد يحد من التوازن بين السلطات، ولم ينص الإعلان بوضوح على آليات مساءلة رئيس الجمهورية أو الحكومة أو مجلس الشعب، وهي نقطة مهمة لضمان وجود رقابة ومحاسبة ضمن الإطار الدستوري، مردفاً أن “الإعلان جاء شاملاً حين تضمن معظم المواد المتعارف عليها في الإعلانات الدستورية الموقتة التي تصدر خلال المراحل الانتقالية في تاريخ الدول، ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن هذا الإعلان تأخر في صدوره على رغم أن رئيس الجمهورية كان يملك صلاحية إصداره منذ اليوم الثالث لسقوط نظام الأسد أو بعد مؤتمر النصر”.
التشاركية والتفرد
في غضون ذلك يجزم رئيس منظمة “العدالة والسلام” فراس المصري بأن المرحلة الانتقالية هي مرحلة من دون انتخابات، وهذه النقطة أساس في وضع القواعد الدستورية لإدارة هذه المرحلة، إذ عملت اللجنة على صياغة الإعلان في هذا السياق فبدا لبعضهم أنه نوع من التفرد بالسلطة، “وأرى أنه حد أدنى من التشاركية وليس تفرداً كاملاً، ومن الصعب أن تكون مشاركة كاملة من دون انتخابات، وعلينا التمسك بتنفيذ بنود الإعلان ولا سيما إنجاز ‘قانون للأحزاب’ وعدم تدخل السلطة التنفيذية في القضاء”.
ومن أبرز النقاط التي جاءت في الإعلان أنه يضمن لرئيس الجمهورية السلطة المطلقة التي لا تخضع لأية مساءلة أو محاسبة، ويضع مجلس الشعب في خانة التعيين بعيداً من الديمقراطية والانتخابات النزيهة.
وبحسب “المركز الوطني لتوثيق الانتهاكات في سوريا” فإن تحديد خمسة أعوام للفترة الانتقالية يضمن بقاء سلطة الأمر الواقع في دمشق بعيداً من أي انتخابات أو مشاركة للشعب السوري في اختيار ممثليهم، سواء في البرلمان أو الرئاسة، مضيفاً بيان له أن “هذا يعتبر انتهاكاً لحقوق المواطنة وحرية التعبير واختيار الأشخاص بتجربة ديمقراطية، ويجدد منظومة النظام البائد في التعيين وفرض ما تراه سلطات دمشق أمراً واقعاً، إضافة إلى أن عدم طرح مشروع الإعلان الدستوري للاستفتاء لأخذ رأي الشعب يعتبر تغييباً كاملاً لحقوق المواطنة”.
وفي المقابل رأى أعضاء لجنة صياغة “الإعلان الدستوري” أن الإعلان نص على حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر، والحرص على وجود باب خاص بالحقوق والحريات لخلق توازن بين الأمن المجتمعي والحرية، وكذلك رحب المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون بالإعلان، مؤكداً أنه يسد فراغاً قانونياً مهماً في سوريا ويشكل ما وصفه بـ “إطار عمل قانوني متين للانتقال السلمي”، إضافة إلى الجهود المستمرة لضمان حوكمة انتقالية منظمة.
من جانبه أصدر “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى” بياناً انتقد فيه “الإعلان الدستوري”، معتبراً أنه “يكرس الرؤية الشمولية للحكم السابق ويعيد إنتاج ديكتاتورية إقصائية بصيغة جديدة، كما لا يضمن التمثيل العادل لقيام الدولة التي تنشدها أطياف ومكونات الشعب السوري كافة، وهي الدولة المدنية الديمقراطية التعددية الوطنية الشاملة التي تحقق العدالة الاجتماعية، ويضمن دستورها فصل السلطات وحق المواطنة”.
وفتح “الإعلان الدستوري” الباب أمام طيف واسع من السوريين للتعبير إما عن انتقادهم للإعلان أو الترحيب بوجود مواد دستورية جديدة، إذ كتب الفنان السوري فارس الحلو “كانت آمالي كبيرة بتجريم الطائفية والعنصرية بنص واضح وصريح أسوة بنص إنكار جرائم الإبادة الأسدية، التي هي أصلاً من مخلفات الطائفية والعنصرية البغيضتين والمستمرتين منذ 54 عاماً حتى الآن، وتجريم الآفتين المذكورتين يضمن للجميع مستقبلاً آمناً”.
——————————————
المفهوم والما صدق في اسم الجمهورية/ عبد الباسط سيدا
18 مارس 2025
في واحد من اجتماعات المعارضة السورية في لندن في 2004 (كانت المعارضة مُكلفة، ويتعرّض صاحبها لجملة من المخاطر الحقيقية)، تناولنا جملة من القضايا ذات العلاقة بالشأن السوري، في ضوء ما كان يحصل في العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين (2003)، وتبعات الانتفاضة الكردية في القامشلي (2004)، وتطوّرات الأمور في لبنان وبلوغها مرحلة اللاعودة بين رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري وبشّار الأسد. وإذا ما كانت ذاكرتي دقيقة، عُقد الاجتماع بدعوة من المراقب العام للإخوان المسلمين في حينه صدر الدين البيانوني، ومشاركة أحزاب وشخصيات وطنية سورية من مختلف الاتجاهات القومية والفكرية.
اتفقنا على إصدار بيان يلخّص التوافقات بين المجتمعين. وبمجرّد الانتهاء من صياغته، وضعه البيانوني أمامي لأوقّعه، لكنّني ما إن قرأت المقدّمة حتى سلّمته البيان من دون توقيع، وقلت له: “هذا البيان لا يقصدني، فهو موجّه إلى الشعب العربي السوري، وأنا كرديّ كما تعلم. لو عدَّلت اسم الجهة المعنية بالمخاطبة، ليصبح على سبيل المثال: يا أبناء الشعب السوري المسلم، سأوقّع عليه، لأنه سيشملني عندها، ولكنّك ستواجه مشكلةً مع المسيحيين. لذلك اقتراحي أن تعدّل العبارة لتصبح يا أبناء الشعب السوري، فحينئذٍ سيشعر الجميع بأنهم معنيون بالبيان، وسيوقّعونه من دون أيّ تردّد”. فعدّل الرجل العبارة على الفور من دون نقاش، وأعتقدُ أن ذلك كان بناءً على قناعته بصواب ما أشرتُ إليه. وما أكدّ استنتاجي هذا لاحقاً ما ذكره لي البيانوني (أمدّ الله في عمره ومنحه الصحّة والعافية)، في مناسبةٍ أخرى حول الموضوع نفسه، قائلاً: “أحياناً لا يفكّر المرء في أبعاد المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها، وإنما يتصرّف كما جرت العادة. فحينما أشرتَ إلى ضرورة استخدام مصطلح الشعب السوري الأدقّ لمخاطبة السوريين جميعاً، أدركت على الفور صحّة الملاحظة، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أستخدم عبارة الشعب السوري من دون أيّ إضافة أخرى، وعن قناعة”.
وفي سياق ما يتناوله هذا المقال، أشير إلى ما يعنيه المناطقة بمصطلحي المفهوم والما صدق، عند حديثهم عن دلالة، أو دلالات المعنى اللفظي، الذي يتناول الموجودات، فكلّ مفهوم يتضمّن خاصّيةً أو خاصّيات عديدة تصدُق على الفئة التي تمتلك تلك الخاصّية أو الخاصيات، فمفهوم “القلم” على سبيل المثال يشير إلى خاصّية الكتابة، ودائرة ما صدقه تشمل جميع الأقلام التي كانت (والكائنة، وستكون) في العالم. هذا في حين أن دائرة ما صدق المفهوم المركّب “الأقلام السوداء” تقتصر فقط على الأقلام السوداء من دون الأقلام الأخرى، مثل الحمراء والبيضاء والخضراء وغيرها. والعلاقة بين المفهوم والما صدق عكسية، بمعنى كلّما وسّعنا دائرة المفهوم من جهة ما يتضمّنه من خصائص أو سمات، تقلّصت دائرة الما صدق، وكلّما وسّعنا دائرة الما صدق، قلّصنا دائرة المفهوم. وهذه العلاقة تنطبق على أسماء الدول أيضاً، والصفات، والهُويَّات التي تُعرَّف بها.
والدولة الحديثة المدنية غير الخاضعة لتأثير الأيديولوجيات المتشدّدة من قومية أو دينية، تكون على مسافة واحدة من سائر مكوّناتها المجتمعية، فهي حياديّة بالمعنى الإيجابي، تحترم سائر مكوّناتها، وتحرص على ضمان حقوقهم المشروعة التي لا تتعارض مع وحدة الأرض والشعب. ووظيفة الدولة، وفق هذا التحديد، مستمدّة من أنها جهاز إداري يسهر على توفير الأمن والاستقرار المجتمَعيَّين، وضمان مقوّمات العيش الكريم لسائر رعاياها من دون أيّ تمييز أو استثناء بسبب انتماءاتهم المجتمعية الفرعية، الدينية أو المذهبية أو القومية أو الفكرية، ومن دون أيّ تمييز بين الرجل والمرأة. وإذا اعتمدنا الطابع الإداري البحت لوظيفة الدولة، لن نجد أنفسنا ملزمين بتحديد هُويَّتها، لأن الهّويَّة تخصّ المجتمع، تخصّ المجموعات السكّانية ضمن هذا المجتمع وقناعاتها أو توجّهاتها الدينية أو القومية أو حتى الأيديولوجية.
مناسبة ما تقدّم هو ما ورد في الإعلان الدستوري الذي تبنّته الإدارة السورية الجديدة، ممثّلة برئيس الجمهورية الانتقالي أحمد الشرع، بخصوص اسم الجمهورية. وبالمناسبة، هناك نقاط كثيرة وردت في الإعلان تحتاج إلى مزيد من المناقشة والحوار حتى يُتوافق عليها من السوريين، وما يضفي أهميةً خاصّة على هذا التوافق أن العمل بهذا الإعلان سيستمرّ نحو خمسة أعوام، وهي المدّة الزمنية التي حدّدها الإعلان المشار إليه للمرحلة الانتقالية، وهي مدّة طويلة كما هو واضح.
وفي سياق تسويغهم للإبقاء على الاسم “الجمهورية العربية السورية”، بيّن أعضاء لجنة إعداد البيان أنهم ساروا على العرف المعتمد، هذا في حين أنهم أحدثوا تغييراً نوعياً بنيوياً في شكل النظام السياسي في سورية، وذلك عبر اعتماد النظام الرئاسي وإلغاء منصب رئيس مجلس الوزراء من دون أيّ مراعاة للعرف الدستوري في سورية، وسائر الدول العربية. كما أنهم تحاشوا ذكر مصطلح الديمقراطية في إعلانهم، وهو المصطلح الذي أكّدت سائر الدساتير السورية ضرورة الأخذ به.
ونحن إذا عدنا إلى الوثائق المتوافرة، الخاصّة باسم الجمهورية، منذ تشكّل الكيان السياسي المعروف حالياً في سورية بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في عام 1920، سنكتشف أن اسم الجمهورية العربية السورية هو حصيلة جملة من الظروف والمتغيّرات على امتداد مراحل عديدة. فبعد دخول قوات الأمير فيصل إلى دمشق قادماً من الحجاز برفقة توماس لورنس (لورانس العرب)، أُعلنت المملكة السورية العربية، والأمير فيصل ملكاً عليها (في الثامن من مارس/ آذار 1920)، وكان من المفترض أن تضمّ هذه المملكة سورية الطبيعية (سورية ولبنان وفلسطين والأردن). ومع ذلك، كان الانتماء السوري بموجب الاسم متقدّماً على الانتماء العربي، رغم أن أغلبية السكّان الذين كان من المفترض أن يكونوا في عداد تلك المملكة من العرب. لم تدم هذه المملكة في الأرض السورية سوى أشهر، لأن الفرنسيين عارضوا تلك الخطوة بشدّة بموجب الاتفاقات التي كانت بينهم وبين بريطانيا، ودخل الجنرال غورو إلى دمشق (25 يوليو/ تمّوز 1920)، وقسّمت سورية بين دويلات عدّة، دويلات حلب ودمشق والعلويين والدروز ولبنان، ولكنّ السوريين بكل انتماءاتهم وتوجّهاتهم رفضوا هذه الخطوة، وكان إعلان دولة سورية التي ضمّت كلّ المناطق ما عدا لبنان.
ومع خروج القوات الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية من سورية، اعتمد رواد الاستقلال اسم “الجمهورية السورية”، الذي استمرّ معتمداً إلى حين إعلان الوحدة بين سورية ومصر (1958)، في أجواء هيمنة الأيديولوجيا القومية، فأصبح اسمها “الجمهورية العربية المتحدة”، ثمّ بات “الجمهورية العربية السورية” في عهدَي الانفصال القصير وحكم “البعث” (استمرّ أكثر من ستّة عقود)، في محاولة من الانفصاليين لشرعنة أنفسهم قومياً، ومزاودة من البعثيين على عبد الناصر في ميدان الأيديولوجية القومية.
وبناء على ما تقدّم، نرى أهمية اعتماد الخطاب الوطني الجامع الذي يطمئن سائر السوريين، فسورية لا تتحمّل التعصّب الديني أو الطائفي أو القومي أو الأيديولوجي، ووحده المشروع الوطني العام ما ينقذ سورية والسوريين من مشاريع التقسيم وعدم الاستقرار. ولا جديد في القول إن هناك أزمة ثقة بين مختلف المكوّنات السورية، لن تحلّ من دون تبديد الهواجس بعقود مكتوبة تطمئن سائر السوريين، ولا تثير هواجسَ جديدة أو تكرّس القديمة. كما أن إجراءات تعزيز الثقة ضرورة إلى أقصى حدّ، لنبرهن بالأفعال، لا بمجرّد المجاملات اللفظية، وجود انسجام بين أقوالنا وممارساتنا. وفي الوقت ذاته لا بدّ من التوافق على آلية حوارية دستورية لحلّ الخلافات التي ستكون بكلّ تأكيد. أمّا التذاكي، ولي عنق الحقيقة، واعتماد عقلية المحامين في تناول القضايا الوطنية… لن تؤدّي هذه المسائل كلّها إلى الطمأنينة، ولن تكرّس المصداقية، بل ستعمّق الهواجس وتوسّع دائرة انتشارها.
وبالعودة إلى اسم الجمهورية، نرى أن توسيع دائرة ما صدقه عبر تقليص دائرة ما يتضمّنه مفهومه من خصائص، سيكون أكثر انسجاماً مع المشروع الوطني السوري، الذي لا يمكنه بأيّ شكل التنكّر لحقيقة أن العرب السُنّة هم الأغلبية في المجتمع السوري، ولكن هذه الهُويَّة القومية الدينية تخصّ المجتمع العربي السُنّي في المقام الأول. أمّا الدولة السورية فتضمّ سائر المكوّنات بهُويَّاتهم الفرعية المتباينة، ولكنّ الهُويَّة الوطنية السورية العامّة تجمعهم، من خلال دولة يؤكّد اسمها أنها على مسافة واحدة (وبصورة إيجابية) من الجميع. ومثل هذا الأمر لن يكون بدعةً مستحدثةً، فأكثر من نصف الدول العربية (العراق وتونس وقطر والأردن والكويت واليمن وليبيا والسودان والأردن ولبنان وعُمان والبحرين وفلسطين) لا تعرّف نفسها بالعربية، ولا يستطع أحد أن يشكّك في انتماء شعبها العربي وحرصه الشديد على ذلك الانتماء.
إذاً، يكون من الأفضل إعادة النظر في الإعلان الدستوري وتعديله ليرتقي إلى مستوى تطلّعات السوريين، ويساهم في ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري وتعزيز تماسكه.
العربي الجديد
—————————-
سقط الأسد، وماذا بعد؟/ حسن النيفي
2025.03.18
الخطاب الذي صدّرته السلطة الحاكمة إلى الرأي العام منذ انطلاقة معركة ردع العدوان (27 نوفمبر) كان خطاباً مطمئناً بما ينطوي عليه من استعداد كبير للتحلّل من قيود الأيديولوجيا وتجاوز جدرانها الصلبة، كما كان يحيل هذا الخطاب إلى استعداد بدرجة مقبولة من هيئة تحرير الشام للتحوّل من طور الفصائلية الجهادية إلى طور الوطنية العامة باعتبارها الحامل الحقيقي لمفهوم الدولة.
وقد جسّدت التصريحات المتعاقبة – آنذاك – لقيادة العمليات العسكرية المتمثلة بالسيد أحمد الشرع، ترجمة تركت أثراً طيباً لدى الرأي العام السوري وخاصة فيما يتعلق بعملية التحرير التي لم يدّع الرئيس الحالي للبلاد احتكارها لجهة محدّدة أو فصيل معيّن، وإنما أسداها لأصحابها الحقيقيين بإشارته إلى دور جميع السوريين ممّن قدموا التضحيات سواء أكانوا من المعتقلين أو النازحين وحتى شهداء البحار الذين قضوا بين أمواجها، وذلك عبر مسعى واضح لتفنيد مقولة ( من يحرر يقرر) التي بدأت تتعالى هنا وهناك، وبهذا استطاعت السلطة الحاكمة تَحاشي وتحييد كثير من الانتقادات والاعتراضات التي وُجِّهت لحكومة تصريف الأعمال من حيث انبثاقها من لون واحد، مُعلِّلةً ذلك بضرورة توفّر عنصر الانسجام في العمل بين الفريق الوزاري، باعتباره الفريق ذاته الذي تشكلت منه (حكومة الإنقاذ) في إدلب.
جاء الاستحقاق الثاني الذي انتظره السوريون، بل ربما عوّل عليه كثيرون بأنه سيكون منطلقاً تأسيسياً جديداً للدولة السورية، وسيكون ترجمة حقيقية لمفهوم المشاركة في رسم ملامح سوريا التي يتطلع إليها السوريون، ولكن انعقاد المؤتمر بطريقة مباغتة يومي (24 – 25 – شباط الماضي)، إضافة إلى طبيعة الدعوات ووقائع الحوار وفحوى مخرجاته، بل الأهم من ذلك اللجنة التحضيرية التي اتسمت باللون الواحد أيضاً ووسمتْ معايير الدعوات وفقاً لمزاجيتها، لعل هذا كله قد فتح الباب من جديد إلى تسلّل الشكوك والريبة إلى نفوس شطر كبير من السوريين وربما بدا يؤسس لقناعة توحي بأن المراد من براغماتية الخطاب لدى السلطة هو مجرّد الاحتواء للرأي المخالف والتفافٌ عليه أكثر ممّا هو نزوع فعلي نحو مفهوم المشاركة، كما بدا يشيع الاعتقاد لدى بعض الأوساط السورية بأن المَعني الحقيقي في خطاب السلطة هو الرأي العام الخارجي الذي تحرص القيادة الجديدة على كَسْبه واستثماره باعتباره الخطوة التي تمهّد السبيل لحيازة الشرعية الدولية ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، ومع الإقرار بمشروعية هذا النهج – وفقاً لكثيرين – إلّا انه بالنتيجة سوف ينتهي إلى تكريس مبدأ الإقصاء والتهميش، بل ربما إلى التفرّد والاستبداد.
ثم جاء الاستحقاق الثالث التي طالما انتظره السوريون بمزيد من الترقّب، وأعني الإعلان الدستوري الذي لم يكن بالمستوى الذي يتطلع إليه الكثير من السوريين، وليس المعني بهذا الاستياء هم المكوّنات العرقية غير العربية أو الطوائف الإثنية فحسب، بل شطر كبير أيضاً ممّن يحرصون على نجاح السلطة في عبورها للمرحلة الراهنة نحو ضفة الأمان.
ثمة تحدّيات هائلة تواجه الحكومة الحالية ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها، لعل في طليعتها التحدّيات الأمنية التي تتمظهر بأكثر من حالة، بدءً من مواجهة فلول النظام البائد التي أودت بأرواح مئات الضحايا سواء من قوات الأمن العام أو من المدنيين، ومروراً بالمناطق التي ما تزال القوى العسكرية فيها تتردّد بالاندماج بمؤسسات الدولة، وصولاً إلى التحديات الإقليمية التي لم تتوان عن النفخ في النار السورية بغية ازدياد لهيبها، وفي مقدمة تلك القوى إيران وإسرائيل، فضلاً عن
الشطر الآخر من التحدّيات ذات الصلة بالعقوبات الاقتصادية التي غالباً ما تخرج عن سياقاتها القانونية لتصبح سبيلاً للاستثمار والابتزاز السياسي من جانب الدول ذات المصالح في الشأن السوري.
لا شكّ ان هذا المشهد الساخن يُنذر بالانفجار ويرتفع فيه منسوب الخوف لدى غالب السوريين من أن تتحوّل هذه التحدّيات إلى معضلات حقيقية تفتح الأبواب لانفجارات داخل المجتمع السوري من جهة، وتمنح الذرائع للمزيد من التدخلات الخارجية من جهة أخرى.
وحيال هذا الواقع المخيف والمُقلق يقف الفاعلون السوريون عبر أنساق ثلاثة، يتصدّرهم الجمهور العام للثورة، بمن فيهم القوى المؤطرة سياسياً من أحزاب وتيارات وتجمعات وطنية، سواء من القوى الوطنية التقليدية التي سبق تاطيرها انطلاقة الثورة، أو ممّن تشكلت ما بعد 2011 ، ولعل السمة المشتركة لهذه القوى أنها بمجملها أقوى مدنية بعيدة عن التشكيلات العسكرية، ولكنها ناضلت عبر سنوات وجسّدت جانباً من النضال السلمي للسوريين في سبيل التغيير، وهي وإنْ لم تخفِ اختلافها الفكري والسياسي مع القوى الإسلامية التي وصلت إلى سدّة الحكم، إلّا أنها شديدة في حرصها على المنجز الذي تحقق في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، وهذا ما جعلها تطوي جانباً جميع توجساتها السابقة، وتعمل على دعم التجربة التحررية السورية بعيداً عن أي اعتبارات فكرية أو عقدية، بل يمكن التأكيد على أنها باتت شديدة الاستعداد لتوظيف كل طاقاتها في دعم السلطة الجديدة ورفدها بالخبرات والكفاءات العلمية والمهنية، إلّا أنها – وخلال الأشهر الثلاثة الماضية – كانت تصطدم على الدوام بحائط صدّ من جانب السلطة الجديدة، وهذا الموقف ذاته تكرّر حيال مبادرة العديد من الشرائح المجتمعية الأخرى، كالضباط المنشقين عن النظام والقضاة والفئات المهنية الأخرى.
في حين تقف في الطرف المقابل فئة أخرى ممن لا تجد لها أي مصلحة في عملية التغيير الوطني، فهؤلاء وإن لاذوا بالصمت طوال الأشهر الماضية، إلّا أنهم اليوم وجدوا ما يتيح لأصواتهم أن ترتفع، وقد وجدوا في تعقيدات المشهد السوري فرصة جديدة لممارسة التربّص وتصيّد المواقف بغية الاصطياد بالماء العكر، ولعل الصورة المثلى التي تتجلّى فيها هذه الحالة هي التظاهرة التي خرجت في باريس يوم السادس عشر من آذار الجاري والتي تزعّمها الشاعر (أدونيس) وقد تحلّق حوله رهطٌ من مريديه ومعجبيه، وذلك استنكاراً لما جرى من تجاوزات بحق الطائفة العلوية في الساحل السوري، والمعروف لدى السوريين أن أدونيس ومن في فلكه قد باركوا للنظام الأسدي قتله للسوريين بكل صراحة ووضوح، ولم يكن لبراميل النظام ولا سلاحه الكيمياوي الذي حصد أرواح عشرات الآلاف من السوريين أي مدخل إلى ضمائرهم التي لا يوقظها من سباتها سوى السعار الطائفي.
وحيال هاتين الفئتين المتباينتين تمضي السلطة الحاكمة في تعاطيها الذي حدّدت مساره منذ اليوم الأول للتحرير، فهي ترفض أي تفاعل إيجابي مع الفئة الأولى بذريعة أنها لا تؤثر التعامل مع الأحزاب أو أي أطر سياسية أخرى، وكان العمل الحزبي رجس من عمل الشيطان. وحتى على مستوى الأفراد فهي ما تزال تؤْثر الاستمرار في الاعتماد على موالي النظام البائد ومؤيديه وخاصة في قطّاع السفارات والمفاصل الحسّاسة من مؤسسات الدولة، على العديد من الشخصيات المنتمية إلى جمهور الثورة من أصحاب الكفاءات والخبرات، علماً أن معظم الراغبين في العمل بالشأن العام يُجمعون على أحقية القيادة الجديدة في إدارة البلاد، ولا أحد يسعى للمنافسة على حيازة القيادة، فما الذي يجعل السلطة أكثر ارتياباً من نظرائها في الثورة؟
لا شك أن عملية (ردع العدوان) جسّدت نقطة تحوّل نوعي في مسيرة هيئة تحرير الشام، ولكي يكون هذا التحوّل شاملاً لسوريا جميعها فهو يحتاج إلى جهود كل السوريين.
تلفزيون سوريا
—————————
المعضلة السورية والخروج الآمن/ د. حسن أبو طالب
18 مارس 2025 م
لا ينكر أي متابع لما يجري في سوريا، أكان عالماً بدهاليز السياسة أو شخصاً عادياً، أن سوريا تعيش الآن مرحلة مخاض مملوء بالاضطرابات والإشارات المتضاربة. فأبعاد المعضلة السورية تتكشف بين لحظة وأخرى، وما يوصف بأنه خطوة إيجابية مبشرة سرعان ما تتكشف تفاصيله، بأنه إما فاقد لآليات التطبيق، كما هي الحال في الاتفاق بين الرئيس أحمد الشرع والأكراد السوريين، ممثلين في زعيم «قسد» مظلوم عبدي، وإما يتجاوز طموحات قطاعات عريضة جداً من السوريين الآملين في العيش تحت سقف قانون عادل ومنصف، يرسخ المساواة بين كل السوريين، ومساحة من الحريات للجميع، أياً كانت طائفتهم أو دينهم أو منطقتهم الجغرافية.
فكثير من قرارات السلطة الجديدة وإن غُلِّفت بنيَّات حسنة، فإن أسلوب تطبيقها لا يوفر أساساً لمصالحة سورية عامة، ولا يعطي مؤشراً قوياً على أن المستقبل القريب يستند إلى آليات حكم غير التي كانت قبل اختفاء بشار الأسد وانهيار نظامه. والأمثلة كثيرة، فالمنهج الذي صيغت به الوثيقة الدستورية الموصوفة بأنها انتقالية، تشتمل على 53 بنداً، تماثل من حيث الشكل العام الدساتير الدائمة التي تصدرها الدول المستقرة، وفق إجراءات شفافة ومشاركة واسعة، وتخضع لحوار مجتمعي حقيقي؛ إذ لم يحدث شيء من هذا. فلجنة الدستور شُكِّلت بقرار رئاسي، ولم تتواصل مع مكونات الشعب السوري، وفي خلال أسبوع واحد وضعت وثيقة دستورية لخمس سنوات انتقالية مرة واحدة، تماثل من حيث الشكل أيضاً مدة رئاسية كاملة في كثير من الدول التي تعتمد أسلوب الانتخاب لاختيار الحاكم.
ولا أدري؛ لماذا لم تُشكل طاولة حوار مجتمعي موسعة تستمر شهراً أو شهرين، تشارك فيها رموز من مختلف المكونات السورية، وتُقر مبادئ لمرحلة انتقالية لفترة زمنية محدودة لا تزيد على عامين، وبعدها انتخابات حرة لبدء حياة سياسية مستقرة تعلن بها عن سوريا جديدة لكل مواطنيها؟
إن التسرع في إصدار وثيقة دستورية مفصَّلة توفر للرئيس سلطات واسعة -وإن قيل إن ظروف سوريا تتطلب يداً حازمة قادرة على التعامل الحازم مع التحديات- اتضح معه أن ردود الفعل من مكونات سورية كثيرة ترى الأمور عكس ما استُهدف، مما يضع أعباء على الرئيس وحكومته، في الداخل كما في الخارج. فهناك من يرى أن سوريا الجديدة لا تحمي كل مواطنيها، وبخاصة أصحاب العقائد ذات الخصوصية، ومن ثَم يبررون لأنفسهم تقديم مظلة حماية لهؤلاء المتضررين، ويستشهدون بما ورد في الوثيقة الدستورية وطريقة إصدارها.
داخلياً، «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية (قسد)، رأت أن الدستور الانتقالي يتناقض مع المبادئ الواردة في الاتفاق الموقع مع الرئيس أحمد الشرع. ومواقف فئات علوية ودرزية -وإن اختلطت فيها التحفظات والرفض والصمت- تعد إشارات ذات دلالة، وفي الخلفية من ينذر باللجوء إلى السلاح؛ سواء مَن يوصَفون بالفلول، أو بالمتشككين في النظام الجديد، ومن ثم فالأمر يتطلب معالجة رشيدة، بدلاً من أن تتفاقم الأمور، على النحو الذي تنذر به زيارات بعض رجال الدين الدروز السوريين إلى داخل الجولان المحتل، مع مراعاة أن من بين الدروز السوريين من انتقد الزيارة؛ رغم محاولات صبغها دينياً، ونفي دلالاتها السياسية.
وثائق الدستور في المراحل الانتقالية ليست وثائق مقدسة، فإن فرضَت التجربة العملية التغيير في بنيتها كلياً أو جزئياً، فمن الحصافة والحكمة لمن يملك القرار أن يتجاوب مع تلك التحفظات، وأن يوسع مساحة المشاركة، وأن يثبت وعوده في احتواء الجميع من دون استثناء.
معضلة الدستور الانتقالي تمتد إلى كثير من القرارات التي لم تضع في اعتبارها أن انهيار النظم لا يعني بالضرورة التخلص من كل مؤسساتها بجرة قلم، وبالأخص: الجيش، والشرطة، والاستخبارات، والخارجية، والتعليم، والاقتصاد. ففي تلك المؤسسات فئتان: الأولى هي العليا التي تماهت مع النظام السابق، ويُفترض التخلص منها ومحاسبة المخطئين بالقانون على تجاوزاتهم في حق الناس، والثانية الغالبية من التقنيين والإداريين، ولا يعدُّون مسؤولين كالفئة الأولى، وتظل لديهم معرفة معقولة بإدارة كثير من الملفات، والتي يحتاج إليها أي نظام جديد، وبقليل من الترشيد يظل هؤلاء عنصراً مهماً في بناء النظام الجديد.
والثابت أن نتيجة التضحية بالفئتين معاً والبدء من الصفر -كما يحلو للبعض وهم في حالة نشوة ثورية زائفة- تكون بلداً بلا جيش ولا أمن، ولا فئة تكنوقراطية، ولا خبراء ولا علماء، وبالتالي يضع النظام الجديد نفسه في دوامة لا نهاية لها، فضلاً عن أطماع خارجية شرسة.
وقد يجد البعض من صانعي النظام الجديد غضاضة في احتواء قطاعات من العاملين في تلك المؤسسات كأساس تقني يُعتمَد عليه، خوفاً من عدم الولاء للنظام الجديد، وهو أمر تغيب عنه التداعيات الخطرة التي يتضمنها لفظ آلاف من الموظفين والعمال، وتركهم وأُسَرهم بلا عمل ولا مورد رزق، ما يدفع كثيرين منهم إلى الانزلاق إلى أعمال عدائية؛ سواء فردية أو جماعية.
وفي التجارب التي شهدت تحولات ثورية عميقة، واعتمدت مبادئ العدالة الانتقالية منهجاً لإعادة البناء، انتقلت البلاد من الفوضى إلى الارتقاء، وشهد لها الجميع بالرشادة السياسية، وهنا يبرز كل من تجربتَي: رواندا في عهد بول كاغامي بعد المذابح الأهلية 1994 بين الهوتو والتوتسو، والتحول إلى بلد مستقر يحقق تنمية مشهودة، بعد اعتماد سياسة المصالحة الوطنية، ونبذ العنف والتعددية السياسية، وتجربة جنوب أفريقيا الشهيرة بعد سقوط النظام العنصري فيها 1990. قد تأخذ بعض تلك الإجراءات وقتاً لتصبح منهجاً مجتمعياً متكاملاً، ولكنها تستحق التطبيق.
الشرق الأوسط
———————————-
الحرية وما بعد الإعلان الدستوري.. “الأصل الإباحة”/ علي عيد
تحديث 18 اذار 2025
تضمّن باب “الحقوق والحريات”، وهو الباب الثاني من الإعلان الدستوري، 12 مادة (من المادة 12 وحتى 23).
في المادة 13 وردت 3 بنود، الأول بينها يقول: “تكفل الدولة حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة”.
حرية الصحافة والحريات العامة، تعكس مدى التزام السلطة وخضوعها للشعب وإرادته، فهو صاحب المصلحة، وكل سلطة تكتسب مشروعيتها من تفويض الشعب.
مسألة حرية الصحافة في الإعلان الدستوري الذي جرى الإعلان عنه وتوقيعه في 13 من آذار الحالي، تختلف مضمونًا عما جاء في دستور 2012، بكلمتين هما “وﻓﻘًﺎ ﻟﻠﻘﺎﻧﻮﻥ”، إذ نصت المادة 43 منه، “تكفل اﻟﺪوﻟﺔ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ واﻟﻄﺒﺎﻋﺔ واﻟﻨﺸﺮ ووﺳﺎﺋﻞ اﻹﻋﻼﻡ واﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺘﻬﺎ وﻓﻘًﺎ ﻟﻠﻘﺎﻧﻮﻥ”.
بالعودة إلى نموذج ثار الجدل طويلًا حول كونه الأنسب، كلما طرحت قضية الدستور، وهو نموذج دستور 1950، أو ما يسمى “دستور الاستقلال”، بعد انقلاب سامي الحناوي.
تقول المادة 15 في “دستور الاستقلال”:
الصحافة والطباعة حرتان ضمن حدود القانون
لا يجوز تعطيل الصحف ولا إلغاء امتيازها إلا وفقًا لأحكام القانون.
يجوز في حالة إعلان الأحكام العرفية أو الطوارئ أن يفرض القانون على الصحف والنشرات والمؤلفات والإذاعة رقابة محدودة في الأمور التي تتصل بالسلامة العامة وأغراض الدفاع الوطني.
ينظم القانون أسلوب المراقبة على موارد الصحف.
بالنظر إلى ما ورد في الإعلان الدستوري الجديد وما ورد في نموذجي دستوري 2012 و1950، يمكن ملاحظة أن الإعلام في سوريا بمرحلة دستور 2012 شهد أسوأ حقبة في تاريخ البلاد منذ تأسيسها، حتى ما قبل الاستقلال، على الرغم من أن النص الدستوري لم يتضمن أي تقييد على عكس دستور 1950، الذي استمر حتى عام 1958، والمفارقة أن تلك السنوات التي أعقبت إقرار ذلك الدستور هي الأفضل في تاريخ البلاد، لجهة الحريات العامة والحريات الصحفية.
أردت القول هنا إنه أيًا كان شكل الإعلان الدستوري أو الدستور الذي سيأتي لاحقًا بعده، فإن الأكثر أهمية هو التطبيق الفعلي لروحه ومواده.
في النهاية، ستكون هناك قواعد لتنظيم المهنة، ونصوص قانونية بخصوص أي مخالفات نشر، والمهم عدم وجود قوانين تحت القوانين الدستورية تقيّد الصحافة والصحفيين، والمهم أيضًا إلغاء التشريعات التي جرى اعتمادها خلال العقود الخمسة الماضية، والتي تضع الصحافة رهنًا للسلطة، كما تسمح بتوقيف الصحفيين وإيذائهم بسبب نشرهم محتوى لا يتوافق مع سياسات ومصالح السلطة، أو يكشف فسادها.
الأساس هو الفسح وليس المنع، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، هناك عشرة تعديلات على الدستور تسمى “وثيقة الحقوق” يظهر فيها معنى أن “الأصل في الأشياء الإباحة”، تم إقرارها عام 1791، والتعديل الأول الذي أصبح جزءًا أساسيًا وراسخًا حتى اليوم هو المتعلق بحرية العبادة والكلام، والصحافة وحق الاجتماع والمطالبة برفع الأجور، وجاء في النص: “لا يصدر الكونجرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلميًا، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف”.
يعكس احترام الدستور من قبل السلطة، قدر خضوعها لإرادة القانون والشعب، وهو ما يجعل دولة متحضرة وديمقراطية وأخرى متخلفة ودكتاتورية.
لم ألحظ كصحفي تقييدًا لحرية الكلمة، لكن هذا ليس حكمًا قطعيًا، فأي سلطة قد تلجأ لفسح المجال بانتظار إحكام سيطرتها، وهو ما يخشاه معظم العاملين في هذا القطاع.
لحظت ارتباكًا لدى السلطة التنفيذية المؤقتة، ممثلة بوزارة الإعلام، إذ ليس واضحًا كيف سيتم تنظيم عمل الصحافة وضمان حريتها، هل سيكون هناك مجلس إعلام، أم تبقى وزارة الإعلام، أم يتاح المجال أمام التنظيم الذاتي.
ولحظت إرباكًا يشير إلى رغبة سلطوية بالتحكم في القطاع، وذلك عبر قرار رئيس الوزراء المؤقت حلّ المؤتمر والمكتب التنفيذي لاتحاد الصحفيين، وتعيين مكتب مؤقت دون تبيان الأسباب المعلّلة أو الموجبة لاختيار أعضاء المكتب، وينسحب الأمر على الغموض في التأخر بإصدار الرخص الدائمة والتراخيص لوسائل الإعلام، أو إيقاف بعض المؤسسات دون إعلان واضح.
من الآن فصاعدًا، أنصح كل صحفي أن يضع في جيبه نسخة من الإعلان الدستوري، ليعرضها على أي جهة تعرقل عمله، وعندما لا تستجيب تلك الجهة، أنصحه بالاحتجاج بقوله تعالى “فبما نقضهم ميثاقهم”.. وللحديث بقية.
عنب بلدي
———————————
مجادلات دستورية/ غزوان قرنفل
تحديث 18 اذار 2025
لا أنكر أنه كان لدي نصف أمل في أن يكون الإعلان الدستوري مساحة حقيقية للتعبير عن التوافق الوطني المأمول، لنتمكن جميعًا كسوريين من لم شمل وطن مبعثر ومواطنين منقسمين، كل فريق منهم يغلبه شعور بالتفوق والغلبة على أقرانه، بما يدفعه لتجاهل مسألة غاية في الأهمية، وهي أن هذه المساحة الجغرافية التي اسمها سوريا لا تخص فئة بعينها، بل هي لكل السوريين على قدم المساواة، ولا يحق لأي طرف الاستئثار أو حتى محاولة الاستئثار بها، فإما أن نعيش معًا داخل نطاقها بوئام وسلام، وإما أن نحترب وندخل النفق المظلم الذي عندما يخرج الناجون منه لن يجدوا لأنفسهم وطنًا اسمه سوريا.
والحقيقة أن نصف الأمل هذا قد تبدد لدي حقًا، ذلك أني من المؤمنين أن الدساتير، الدائمة منها والمؤقتة، هي كالمرآة، يجب أن يشاهد كل مواطن نفسه وحقوقه فيها، وهذا مع الأسف لم يحصل في الإعلان الدستوري الصادر في 13 من آذار الحالي، وكان من الممكن حتى لو كان مجرد إعلان دستوري لمرحلة مؤقتة وانتقالية أن يتضمن ذلك ويؤسس لما بعده.
وعلى الرغم من تأخر نشر وتداول النص النهائي لهذا الإعلان، فإن ما تسرب منه، وما أدلي بشأنه من تصريحات صحفية عن بعض أعضاء اللجنة وتقديمهم لتفسيرات بعض من مواده، أثار حفيظة الكثير من الحقوقيين ورجال القانون والمهتمين من المشتغلين بالشأن العام ممن خبروا آليات تصنيع الطغاة والنظم السلطوية، وأنا منهم، وأزعم أن تخصصي العلمي وخبرتي العملية التي تتجاوز ثلث قرن يؤهلانني لتكوين رأي بشأن مضامين هذا الإعلان والأثر الاجتماعي والسياسي والوطني الذي سيترتب عنه، وبحكم ذلك ورغم وجود نصوص إيجابية وضرورية فيه، فإن ذلك لا يجعله إعلانًا دستوريًا يؤسس لشراكة وطنية، أو حتى يخلق مساحة لتلاقٍ وطني في ظل ظروف غاية في التعقيد يمر بها بلدنا، بل أراه حقيقة مجرد دسترة للتفرد والاستئثار، ولمقولة “من يحرر يقرر”، وبالتالي هو يرسل رسائل سلبية تجاه بقية السوريين ويحطم المرآة التي يتعين أن يرى كل السوريين أنفسهم فيها.
وإذا ما حاولنا الدخول في صلب الموضوع أكثر فيمكن القول إن هذا الإعلان الدستوري مشوب بالتركز الكبير للسلطة بيد رئيس الدولة، ودون وجود آليات لمحاسبته عن أعماله أو مساءلته فيما إذا غالى في ممارسته لتلك السلطة أو أساء استخدامها، ومن المهم أن ندرك أن “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” حقًا، خصوصًا إذا ما اقترن امتلاك السلطة مع غياب آليات وأدوات للمراقبة والمحاسبة، فالحاكم أو الرئيس ليس ظل إله تم تفويضه بتلك السلطات من الله، لأن الشعب هو مصدر السلطات، وهو الذي يمنح ويمنع ويفوض ويحجب، وما يدعو للغرابة أن هذا الكلام تحديدًا (الشعب هو مصدر السلطات) لا وجود لنص له في الإعلان الدستوري.
الرئيس هنا يملك السلطة التنفيذية بكل أدواتها وتبدياتها ومفاصلها، دون أن يكون مسؤولًا عن أعمالها حتى أمام برلمان هو يعيّنه، برلمان لا يملك حق استدعاء وزير لمساءلته، بل لسؤاله فحسب!
والرئيس الذي يعيّن أعضاء مجلس الشعب مباشرة أو مناورة، حجب عن هذا المجلس حق التصويت على قبول أو رفض التشكيلة الحكومية أو بعض أعضائها، كما حجب عن المجلس الحق في الاشتراك مع مجلس القضاء الأعلى في اختيار وتسمية أعضاء المحكمة الدستورية واستأثر بها لنفسه، علمًا أن هاتين المسألتين موجودتان في النظام الرئاسي أيضًا، فالنظام الرئاسي وفصل السلطات لا يكونان بالشكل الذي قدم شروحاته ومبرراته بعض أعضاء لجنة الإعلان الدستوري لوسائل الإعلام، وكأنه فصل صارم في الدور والصلاحيات يحجب عن كل سلطة حق الرقابة والمساءلة عن السلطة الأخرى بينما تستأثر السلطة التنفيذية وحدها بكامل السلطات والصلاحيات، وكأننا نصنع فرعون لا رئيس دولة.
وفي سياق نصوص أخرى لا بد أيضًا من القول إن نص الفقرة 1 من المادة 3 التي تنص على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع” تثير إشكالية مزدوجة، أولًا لجهة أن دين الرئيس هو الإسلام، وهو ما يناقض مبدأ “المساواة في المواطنة والحقوق والواجبات من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب”، المنصوص عليه في المادة 10 من نفس الإعلان الدستوري، وكذلك يهدر مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين في تولي الوظائف العامة (ورئاسة الجمهورية واحدة من الوظائف العامة).
وأما الإشكالية الثانية في هذه الفقرة أيضًا فتتمثل في اتخاذ الفقه الإسلامي مصدرًا رئيسًا للتشريع، وهذا المسمى فقهًا ليس أكثر من رأي أو اجتهاد بشر، وفي كثير من أحكامه يتعارض ويتناقض بعضه مع بعض، حتى إن هذا التناقض بلغ في بعض الحالات حد العداء والاقتتال بين أنصاره، وهو في جميع الأحوال رأي لبشر عاشوا قبل ألف سنة كتبوا وقرأوا الأحداث والنصوص وفق أدواتهم المعرفية في زمانهم، فيما نحن اليوم، في الألفية الثالثة، نلجأ إليهم ليشرّعوا لنا قوانين وضوابط لحياتنا المعاصرة، وكأننا مجتمعات مؤممة العقل والرشد! وبالتالي لا أعتقد أن هذا الفقه يصلح مرجعًا تشريعيًا، وكان يمكن الاستعاضة عن ذلك بأن تكون القيم العامة لدين الله هي مصدر إلهام تشريعي، وتكون الإرادة الحرة للناس مصدرًا رئيسًا للتشريع بما لا يحل حرامًا ولا يحرّم حلالًا.
وكذلك فإن الإصرار على التمسك بالعروبة اللفظية لاسم الدولة لا موجب له، خصوصًا أن اسم الدولة في دستور عام 1950 كان “الجمهورية السورية”، وهو الدستور الذي برر أعضاء اللجنة اتخاذهم نص المادة المتعلقة بدين الرئيس منه، كحل وسط بين دين الدولة وعدم ذكر ذلك، فلماذا استلهموا نص دين رئيس الدولة من دستور 1950 ولم يستلهموا نص اسم الدولة “الجمهورية السورية” من نفس الدستور!
بطبيعة الحال، هناك الكثير من النصوص التي نراها معيبة، ولكن مساحة الكتابة المتاحة لا تفسح المجال لتفنيد كل شيء، وهناك بالمقابل نصوص جيدة ومهمة ونشكر أعضاء اللجنة على وجودها، لكن في جميع الأحوال أختم بالقول إنه في حال تعذر التعديل على الإعلان، ولا أعتقد أنه متعذر، فإننا نأمل تجاوز كل ذلك عند الشروع بكتابة الدستور الدائم للبلاد، وأن نحرص حينها ألا نكتب دستورًا على مقاس نعل الحاكم، أي حاكم، وإنما على مقاس السوريين بكل تلاوينهم وانتماءاتهم دون جنف أو حيف وعلى قاعدة المساواة التامة في المواطنة والحقوق.
عنب بلدي
————————–
الوطنية السورية والإعلان الدستوري المؤقت
الإعلان الدستوري والدستور هما شكلان من أشكال العقد الاجتماعي، والأخير هو إعادة صياغة لعلاقة أفراد المجتمع ببعضهم من جهة ولعلاقتهم بالسلطة والدولة من جهة أخرى، وبهذا المعنى فهما يرتبطان بالأزمان والأزمات التي تشهد إعادة صياغة ضرورية لتلك العلاقات، وبهذا المعنى أيضاً فإن صياغة مثل تلك الوثائق التاريخية ليست مسألة اكاديمية ينجزها متخصصون في القانون والدستور، بل هي مسألة إعادة صياغة توازن اجتماعي بعد فترة عدم استقرار أو صراع سياسي وربما عسكري وأحياناً طائفي وقومي.
لكل ما سبق من غير المفيد القول إن المواد الأكثر إثارة للاختلاف كانت موجودة في الدساتير السابقة، وكان السوريون يعيشون في ظلها بأمان، مع أن هذا ليس دقيقاً فيما يخص اسم الدولة وبعض التفاصيل الأخرى، ولقد فجرت ثورة 2011 والصراع العسكري الذي تلاها، طوال ثلاثة عشر عاماً، كل ما كان يكمن من إشكاليات في المجتمع السوري، لقد فضحت وَهْمَ وحدتِه الذي كان الجميع ولا يزالون يتحدثون عنه، في حين كانوا ولا يزالون يهمسون، فيما بينهم، بكل ما يزعزع وربما ينسف أسس تلك الوحدة.
بعد عهود من الانكفاء والتقوقع ومحاولات التذرر الفاشلة، والمفتقدة للإجماع، أثناء الفترة الاستعمارية جرب السوريون التوحد بعد الاستقلال فتوصلوا إلى حالة مقبولة من الاندماج الوطني، ويمكن القول الديموقراطي أيضاً، وهي فترة المد القومي والاشتراكي، لكن هذه الفترة القصيرة زمنياً والمرهَقَة بعدم الاستقرار السياسي، انتهت ببدء الاستبداد السياسي عام 1958 والذي انقطع لفترة بسيطة بين 1961-1963، ثم ليعود الاستبداد البعثي ثم الأسدي بأسوأ أشكاله في التاريخ السوري، والذي استمر أربعة وخمسين عاماً.
هكذا فإننا أمام استحقاق جديد هو إعادة بناء مفهوم “الوطنية السورية”، لقد كان شرط إسقاط النظام شرطاً لازماً، ولكن غير كافٍ لإنجاز تلك المهمة، ولم يتحقق التغيير، وفق ما كان يفكر المعارضون السوريون، اعتماداً على قرارات الشرعية الدولية، رغم طول الانتظار، وتحقق على يد قوى وفصائل عسكرية استطاعت الاستفادة من ظروف إقليمية مناسبة، لكن التحدي لا يزال قائماً: إعادة بناء أسس الوطنية السورية.
أمام القوى المنتصرة احتمالان إما أن تعتمد مبدأ “الشرعية الثورية” الممكن ترجمته ب “من يحرر يقرر ” وهو المبدأ الذي عملت بموجبه غالبية القوى المنتصرة عبر التاريخ، وإما أن تدرك الضرورات التاريخية بدءاً من الاستحقاقات الداخلية أو المحلية وانتهاءً بالظروف الإقليمية والدولية مروراً بالتشابك والعلاقة بين الإثنين، ولا تضع نفسها أمام احتمال الفشل سواء كان فشلاً مباشراً وسريعاً أو فشلاً ممتداً مشابهاً لفشل النظام السابق، لكن السوريين ليس لديهم ترف الانتظار فهم لا يستطيعون أن يراقبوا أو يتفرجوا منتظرين مصير السلطة، لأنهم في الحالين سيدفعون الثمن، بهذا المعنى فإن للسوريين مصلحة كبرى في نجاح التجربة لأن الفشل سيجر عليهم جميعاً كوارث كبرى، فهل بدأنا طريق الفشل وفات الأوان؟
منذ الأيام الأولى أعلن الرئيس المؤقت السيد أحمد الشرع عن ضرورة الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة ورغم التراجع الجزئي على الأقل في تصريحات أخرى منها مثلاً، بما معناه، أنكم مثلما قبلتم طريقتنا في النصر يجب أن تقبلوا طريقتنا في الإجراءات التالية، ومن المفترض، ولمصلحتنا جميعاً، أن تعود السلطات المؤقتة للعمل بعقلية الدولة وتعود لمراجعة ما قامت به من إجراءات وتختار حلولاً جديدة مناسبة، فإن عقلية الدولة مثلاً لا تنسجم مع تسليم المناصب الهامة، وخاصة في المؤسسة العسكرية، لمواطنين من مكون واحد ولا مع عدم صرف رواتب المتقاعدين العسكريين…الخ. لن نطلب تغييراً فيما يخص مؤتمر النصر الذي منح السيد الشرع شرعية الرئاسة المؤقتة لكن الوقت لم يفت بعد لاعتبار مؤتمر الحوار الوطني السابق مجرد مؤتمر تشاوري والتحضير لعقد مؤتمر وطني تأسيسي، شامل للمكونات القومية والدينية والطائفية والمناطقية والسياسية، يتكفل بوضع تصور شامل للمرحلة الانتقالية وتكون مخرجاته ملزمةٌ للجميع، وفي هذه الحالة يكون مطلوباً مراجعة الإعلان الدستوري وكل ما اتخذ من قرارات قبله وبعده، فهي بالنهاية إجراءات مؤقتة قابلة للتعديل خلال المرحلة الانتقالية، التي رغم بعض الاختلاف على امتدادها الزمني، فإن هناك توافقاً على أنها ليست قصيرة.
تعرض الكثيرون لنقاش تفاصيل الإعلان الدستوري المؤقت، الذي توسع فأصبح أقرب للدستور، وهو نقاش لابد أن تستفيد منه السلطة المؤقتة، ويجب أن يكون الإعلان موضع إعادة نقاش من حيث ضرورة اقتصاره على أساسيات ما يكفي لإدارة المرحلة الانتقالية، وخاصة النقاط الإيجابية الهامة التي تؤكد على وحدة سورية وعلى المواطنة وسيادة القانون ووحدة سورية والعدالة الانتقالية والسلم الأهلي والحكم الرشيد، أما من حيث تعديل البنود التي هي موضع الخلاف الأكبر والتي يكفي التوافق عليها للسير معاً في الفترة الانتقالية فإننا نقترح المقاربة التالية:
هوية الدولة: إن الاتفاق على الهوية الوطنية السورية يعني اعتبارها الهوية الرئيسة للسوريين، سواء كنا عرباً أو كرداً أو سرياناً آشوريين أو كيفما كانت انتماءاتنا القومية، لإن مشروع بناء دولتنا سيكون على أساس أننا سوريين، وهذا لا ينفي أن يتعاطف معنا أو يدعمنا عرب أو كرد من دول أخرى فالانتماءات القومية الأخرى ستبقى قائمةً كانتماءات فرعية لها طرق تحققها الثقافي في المجتمع بعيداً عن إثارة أي كراهية أو عداوة. وإذا اعتبرنا اللغة العربية هي اللغة الرسمية باعتبارها الأكثر انتشاراً، فهذا لا يتعارض مع قبول استخدام رسمي للغات أخرى في أماكن تواجد المتحدثين بهذه اللغات كحق طبيعي.
هوية رئيس الدولة: طالما قبلنا بالمواطنة المتساوية فلا نستطيع القول إن الرئيس يجب أن يكون منتمياً لدين معين حتى ولو كان دين الأغلبية السكانية.
مرجعية الفقه الإسلامي: إذا كان الفقه الإسلامي مصدراً للتشريع فلا يجب أن يكون المصدر بال التعريف، أو ربما يتم الاكتفاء بصيغة من مثل عدم التناقض مع الفقه الإسلامي، حتى يكون هناك مجال لفقه يخص ديانات أخرى وربما يجب ضمان حق غير المؤمنين في المجتمع، خاصة وأننا نقبل بوجود قوانين خاصة للأحوال الشخصية للطوائف الأخرى.
إذا اقتضت المرحلة الانتقالية صلاحيات كبيرة للرئيس في الفترة الانتقالية وهو أمر مفهوم ومقبول، كما في النظام الرئاسي المقترح، فإن هناك ضرورة للتفكير بتوسيع قاعدة المشاركة، وهذا يقتضي التخفيف من صلاحيات الرئيس لصالح هيئات مؤقتة أخرى مثل الكيان التشريعي، وذلك بالحد من صلاحيات التعيين في المجلس التشريعي وكذلك الحد من صلاحيات التعيين في المحكمة الدستورية العليا لإفساح المجال أمام وضع موقع الرئاسة تحت المحاسبة أو المسائلة.
أخيراً، إن متطلبات العلاقات الإقليمية والدولية هي شيء لا يمكن تجاهله بالنسبة لبلد ينطلق من مستوى قياسي في الخراب والدمار وبحاجة ليس فقط إلى إعادة تأسيس دستوري وسياسي وإنما إلى إعادة بناء اقتصادي وعمراني. وقد تسبب تراكم الممارسات الكارثية للسلطة البائدة في وضع سوريا في موضع الضعف، بل والهشاشة وتحت رحمة العقوبات الدولية التي ستعيق أي عملية جادة وشاملة لإعادة الإعمار والتعافي، وهو ما يجب أن تسعى السلطة الحالية لإيجاد الحلول المناسبة له على المستوى الداخلي بتخفيف، بل بمحاولة إنهاء التوترات والمعارك الطائفية والاجتماعية التي ستقودنا إلى الهلاك في حال استمرارها، مثلما تعمل على المستوى الإقليمي والدولي في إقامة علا قات سلمية متوازنة ومتكافئة.
عاشت وحدة السوريين على أساس المواطنة الكاملة في سورية الديموقراطية.
تيار مواطنة” مكتب الإعلام”
18.03.2025
—————————
هل انتهت الثورة وبدأ دور العمل السياسي في سوريا؟/ رامي العاشق
18 مارس 2025
مرت ثلاثة شهور على هروب الأسد، وانقضت معه عقودٌ من الظلم والأسى والاعتقالات والتعذيب، ومع استيلاء أحمد الشرع على السلطة، ووضعه إعلانًا دستوريًا يمركز السلطة المطلقة في يده، ولكنه في الوقت ذاته لا يجرم العمل السياسي أو حرية التعبير صراحة، يصبح سؤال العمل السياسي سؤالًا أساسيًا في زمن حكمه. سيحكم الشرع سوريا في الفترة الانتقالية ومدتها خمس سنوات، وإلى الآن، ما من شيء يمنعه من الترشح بعدها للانتخابات. ما هو دور ناشطي الثورة السورية في سوريا اليوم؟ هل انتهت الحركة الناشطية بسقوط النظام وستتحول إلى حركات وأحزاب سياسية؟ أم أن حالة النشاط الثوري والسياسي لا يجب أن تختفي بوصفها فعل حشد ورفض ونضال؟
التقينا مجموعة من الناشطين والناشطات، والصحافيين والصحافيات الذين كانوا جزءًا من الثورة السورية، بعضهم اعتقل، وبعضهم هُجر من بيته ومدينته، وبعضهم لم يترك وطنه أو حتى مدينته. حاولنا قدر الإمكان الأخذ بعين الاعتبار تنوع خلفياتهم، والمناطق التي نشطوا فيها على امتداد الخارطة السورية.
هل انتهت الثورة السورية؟
منذ اللحظات الأولى لهروب بشار الأسد، بدأ أحمد الشرع بتكرار عبارة “الثورة السورية انتهت”، وبذكاء بدأ يكرس هذه الفكرة، فأضاف إليها “الانتقال من فكر الثورة إلى الدولة”، ثم بدأ بابتلاع كل ما كان فيها، فحل الفصائل، وحل الهيئات السياسية والثورية، وألغى المعارضة السياسية باعتبار انتهاء سبب وجودها، واشترط أن يكونوا فرادى. استطاع الشرع “إقناع” كثيرين بهذه الفكرة التي بناها تدريجيًا، بعضهم قال إنها انتهت بهروب الأسد والآن وقت البناء، وبعضهم قال لا تنتهي الثورة إلا بتحقيق أهدافها في بناء الدولة المدنية ودولة المواطنة لجميع مواطنيها.
يقول صانع الأفلام عروة الأحمد الذي شارك في الثورة السورية منذ بداياتها في حمص: “الثورة من حيث الفكرة لم تنتهِ بعد بالتأكيد، بل هي مستمرة، إن كنا نتحدث عن الثورة الفكرية والمجتمعية، ولكن أدوات الثورة هي التي يجب أن تتغير، والعمل السياسي اليوم هو أحد أهم هذه الأدوات لتحقيق أهداف الثورة التي خرج السوريون من أجلها”.
من جهته، يقول الصحافي محمد السلوم ابن مدينة كفرنبل الشهيرة باللافتات الاستثنائية خلال سنين الثورة: “انتهى النشاط الثوري الذي كان منصبًا على كشف جرائم النظام ومحاولة ملاحقته دوليًا وتجريمه وإدانته. الحالة الثورية حالة غير منظمة وهي حالة ناشطية أكثر من أن تكون عملًا سياسيًا. التنسيقيات، انتهى دورها بعد السنة الأولى أو الثانية من الثورة، وأصبح وجودها رمزيًا من باب الحنين والذكريات، وأصبح الوجود الفعلي لسلطات الأمر الواقع المسلحة”.
رودي عثمان أحد أوائل الناشطين الذين ثاروا في دمشق يقول: “النشاط السياسي الثوري لم ينتهِ تمامًا، لكنه فقد فاعليته نتيجة عوامل متعددة: إطالة الصراع والخسائر المتكررة واللجوء وصعوبة التأقلم في حياة جديدة والخذلان المتعمد من المجتمع الدولي. هذه العوامل دفعت العديد من الناشطين الثوريين إلى الانسحاب من الفعل السياسي والاكتفاء بالأنشطة الرمزية مثل المظاهرات وإصدار البيانات”.
ليس هذا الحال لدى وضاح عزام، الناشط الذي لم يغادر السويداء طوال 12 عامًا الماضية، فمن وجهة نظره: “في فترة ما، غاب الحراك الثوري تمامًا، ثم أعيد إحياؤه من جديد كموجة ثانية قبل سقوط الأسد، لذلك أستطيع القول إننا عدنا إلى بداية العمل الثوري من جديد”. من جهتها تعتبر الصحفية سوسن أبو رسلان ابنة جرمانا: “أن النشاط السياسي الثوري ضروري لتعديل المسار والتأكيد على مطالب الثورة بالتوازي مع تنظيمات سياسية وتحالفات جامعة تعلو على الانقسامات والشقاقات، وتكون داعمة للحراك الثوري”.
إعلان الدستوري إشكالي
إصدار الإعلان الدستوري خلق بلبلة بين السوريين المهتمين بالسياسة، منهم من رآه خطوة دستورية لا مفر منها، ومنهم من رآه يمنح صلاحياتٍ كبيرةً للرئيس، فاعتبرته الصحفية سوسن أبو رسلان “نكسة لتاريخ سوريا النضالي نحو الديمقراطية والمواطنة”، ورآه وضاح عزام “ذهابًا باتجاه الدكتاتورية” بينما قال عروة الأحمد: “فيه نقاط يبنى عليها وأخرى إشكالية، أبرز الإشكاليات هي تعيين ثلث مجلس الشعب من قبل الرئيس، وتعيين الثلثين من قبل لجنة يختارها الرئيس، وهذه بلا شك نقطة سلبية. كما أتمنى أن أكون في دولة اسمها الجمهورية السورية من دون ربطها بأي مكون عرقي أو طائفي أو مذهبي. الدولة كيان جامع لا يجوز أن يكنى بما هو فئوي”. أما رودي عثمان فلم يجد إيجابية فيه سوى أنه “حدد الفترة الانتقالية بخمس سنوات”.
من جهته، يبدو أوس المبارك، الناشط المهجر من الغوطة الشرقية، أكثر حدة: “هذا الإعلان سيسمح للسلطة بإحكام قبضتها على مفاصل الدولة والتغول في صلاحياتها، ما ينذر بدكتاتورية تبنى أمام أعيننا. سيؤدي هذا إلى تنافر من باقي القوى السياسية في سوريا، وزيادة التمزق والصدام، وإبعاد الحلول التوافقية الممكنة، خصوصًا مع طريقة تشكيل الجيش الذي ليس سوى هيئة تحرير الشام نفسها بعد تسليم كوادره لقيادتها. هذا المسار “الدستوري” يجعل كل الأمور أصعب وينذر بخطر قادم!”.
تشكيل الأحزاب السياسية، حق نظري معلق بانتظار قانون
“تصون الدولة حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقًا لقانون جديد” كانت هذه المادة 14-1 من الإعلان الدستوري. “هذه نقطة إيجابية” يقول محمد السلوم: “ولكن هذا غير كافٍ لتشكيل أحزاب قبل إصدار قانون الأحزاب”. ويتفق معه عروة الأحمد: “لا يمكن الحكم على موضوع الأحزاب السياسية إلا بعد صدور قانون الأحزاب وبنوده، وبناءً عليه يمكننا أن نعرف كيف سيكون شكل الحراك والعمل السياسي في المرحلة القادمة. العديد من الأحزاب تنتظر يوم صدور قانون الأحزاب لتبدأ ممارسة العمل السياسي وافتتاح مكاتبها وتنظيم كوادرها. أما أوس المبارك فيقول: “إذن علينا انتظار إصدار القانون الذي لا نعرف متى يمكن أن يصدر، بعد شهور أم سنوات!”.
أولويات الحركة السياسية بين المعارضة والانخراط في العمل السياسي
يرى أوس المبارك أن “أولوية العمل السياسي الآن هي معارضة هذا المسار والدعوة إلى إيجاد مسار تشاركي توافقي لإدارة المرحلة الانتقالية”. ويقول وضاح عزام: “أولوياتنا مواجهة سلطات الأمر الواقع ومطالبتها بإعادة السلطات المدنية للناس. العمل السياسي في مواجهة سلطات أمرٍ واقعٍ مسلحةٍ يعتمد بشكل كبير على القوى التي تقف خلف سلطات الأمر الواقع هذه”.
من جانبه، يقول محمد السلوم: “جاء وقت العمل السياسي المنظم، نعم، لكن فعليًا لا يمكننا القول إنه بدأ، وذلك لأسباب عديدة منها أن الأرضية ليست مؤهلة، والشروط ليست متوفرة لبدء عمل سياسي حقيقي. هناك العديد من المحاولات لإعلان حركات سياسية، ولكنها حتى الآن غير واضحة، وأصحابها لا يمتلكون أجندة نظرية وأرضية سياسية واضحة يتميز فيها هذا الحزب عن ذاك. هناك نوع من الاستعجال لملء مساحة فارغة، وإمكانية ممارسة عمل سياسي. هل هي جادة؟ برأيي حتى الآن لا نستطيع قول ذلك”.
بدوره، يرى عروة الأحمد أن العمل السياسي ممكن ويجب “البدء بتأسيس الأحزاب، افتتاح المكاتب، ودعوة المواطنين للانضمام”، ويضيف: “لا يوجد قانون أحزاب بعد، هذا صحيح، ولكن لا يوجد قانون يمنع تأسيس أحزابٍ جديدة. لا يوجد ما يمنع السوريين من اجتماعهم وتنظيم أنفسهم بانتظار صدور قانون الأحزاب”.
يخالفه أوس المبارك: “لقد قامت السلطة الجديدة بمنع عدة أنشطة سياسية وحقوقية في الأسابيع الماضية، كمنع مؤتمر العدالة الانتقالية الذي كان مقررًا في دمشق بمشاركة عدد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية وجهات أخرى وناشطين. والأهم من ذلك، قرار وزارة الداخلية بوجوب أخذ موافقة قبل عمل أي نشاط عام. أي لا حرية في الاجتماع والعمل العام إلا برضا سلطة دمشق. يبدو أن السلطة الحالية تعمل على منع أي عملٍ سياسيٍ منظم في مناطق سيطرتها”.
هل ثمة آفاق؟
يقول وضاح عزام متشائمًا: “في الثلاثة شهور الأولى، كان ثمة بوادر حياة سياسية جديدة، ولكن الإعلان الدستوري قضى عليها. تحديدًا المادة 23 من الإعلان الدستوري”. تقول المادة المذكورة: “تصون الدولة الحقوق والحريات الواردة في هذا الباب، وتمارَس وفقًا للقانون، ويجوز إخضاع ممارستها للضوابط التي تشكل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة أو لحماية الصحة أو الآداب العامة”.
في المقابل، يبدو عروة الأحمد أكثر تفاؤلًا ويعتبر أن: “الشعب الذي خاض صراعًا مع أصعب دكتاتوريات المنطقة، لا يمكن أن يلجمه أي تسلط سياسي، المناخ اليوم أكثر تشابكًا وأكثر انفتاحًا في الوقت ذاته. لا يمكن لأي سلطة أن تضبط مناخ الحرية والتعبير. نحن أمام مستقبلٍ حافلٍ بالعمل السياسي والاصطفافات السياسية وهذا شيء إيجابي، فقد شبعنا اصطفافات طائفية ومذهبية وعرقية. من الأفضل أن نتجه إلى اصطفاف الأفكار ووجهات النظر والأهداف والرؤى السياسية لمستقبلنا في بلدنا عوضًا عن فرزنا بناء على أشياء لم نخترها ولا يد لنا فيها”.
من جهتها، ترى سوسن أبو رسلان: “توجد آفاق مفتوحة للحياة السياسية الآن بالرغم من تقييد الحريات الواضح في الإعلان الدستوري، لكن شعبنا اكتسب خبرات كثيرة في الأعوام الماضية، إضافة إلى النشاط الواضح في منظمات المجتمع المدني التي لها دور رئيسي في تشكيل الوعي الجمعي والهوية الوطنية. من وجهة نظري، يجب على القوى السياسية الوطنية أن تتحالف لتكوين بوصلة محقة للشعب السوري للحفاظ على توجهنا الوسطي المعتدل”.
أما محمد السلوم فيقول: “لأول مرة منذ نصف قرن، يشعر المواطن السوري أن بإمكانه العمل في السياسة وأن يعطي رأيًا، وأن يكون لرأيه قيمة”. ويضيف: “السلطة نفسها غير منظمة سياسيًا، غير منتمية لحزب أو تيار سياسي واضح. هناك أصوات متفرقة وغير منظمة، وهذا طبيعي. نحن أمام أقل من أربعة شهور بعد سقوط النظام، وهناك حالة استقطاب عالية في الشارع، وثمة دفاع قوي عن السلطة، وأية محاولة تتعرض للتسخيف، لكن إقرار قانون الأحزاب مهم ليؤسس وينظم هذا العمل من جهة، ولكي تعترف السلطة بدور هذه الأحزاب ككيانات سياسية من جهة أخرى. السلطة تتعامل حتى الآن مع أفراد، وهذا لا ينبئ بخير، فإن ذهبت السلطة بعد إقرار قانون الأحزاب للتعامل مع تيارات سياسية عوضًا عن الأفراد، وبدأنا نرى حياة سياسية، سيكون الأمر جيدًا. حتى الآن ثمة نوايا طيبة وطموحة، ولكن لا شيء ملموس يساعد على الانتقال من مرحلة النوايا الطيبة إلى الواقع، وأفترض أن قانون الأحزاب سيزيل هذا الضباب”.
يختتم رودي عثمان: “أتوقع ظهور العديد من الأحزاب، المنتديات، والمبادرات السياسية خلال الفترة القادمة، بشرط انعدام القمع الأمني والاغتيالات والتفجيرات بحق النشطاء السياسيين. ستشهد سوريا نشاطًا مدنيًا وسياسيًا مكثفًا لفترة، لكن هذا سيتبعه تراجع طبيعي قبل أن تستقر المجموعات السياسية على شكلها وطريقة عملها النهائية. أتمنى أن تبقى السلطة الحالية منفتحة على النشاط السياسي السلمي، وألا تجرم العمل السياسي أو تقمعه”.
الترا سوريا
————————
==========================