جوبر: مدينة الصمود والركام/ سمر شمة

19 مارس 2025
عندما تدخل إلى مدينة جوبر السورية في الغوطة الشرقية تطاردك مشاهد الدمار الكامل في كل ركن من أركانها، وبقايا ركام المنازل ودور العبادة والمواقع الأثرية التاريخية والمقامات والمدارس والمشافي، وحتى المقابر التي لم تسلم أيضًا من وحشية النظام الأسدي وقصفه المتواصل على مدى سنوات. لا لون في المدينة سوى السواد وأطلال منازل كانت دافئة ذات يوم تضجّ بضحكات الأطفال وحكايا الأمهات وأحلام الشباب والشابات.
تعرّض هذا الحي الدمشقي بعد انطلاق الثورة السورية لقصف همجي متواصل بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة، ولحصار خانق وتجويع ممنهج. صمد أهله ومقاتلوه صمودًا أسطوريًا، وكان من الأحياء الأولى التي احتضنت تظاهرات الريف الدمشقي السلمية نهاية آب/ أغسطس 2011 والتي نادت بإسقاط النظام الديكتاتوري القمعي وبوحدة الشعب السوري، لكن قوات الأسد أطلقت النار على المتظاهرين منذ البدايات وقتلت وجرحت العشرات من المدنيين.
من ساحة للتظاهرات الكبرى ونشاط لتنسيقيات جوبر تحولت المدينة إلى جبهة قتال ضارية مشتعلة، وذلك بعد أن صعّد جيش النظام وحليفاه الروسي والإيراني قصفهم المدفعي والجوي يوميًا مستخدمين “الفيل” و”الزلزال” و”القنابل الفراغية والعنقودية” وغيرها من الأسلحة المحرمة دوليًا وذلك لمنع تقدم قوات المعارضة المسلحة التي تشكلت في الغوطة الشرقية وجوبر ولحماية العاصمة السورية التي تبعد بضعة أمتار عنها، ولفرض طوق محكم وخانق بعد أن أصبحت المدينة عصيّة على النظام وعصاباته وشكلّت خطرًا كبيرًا عليه.
سُميت جوبر نسبة لغار كان يختبئ فيه نبي الله الياس، وفيها بئر ماء فسمي المكان “جب بر” ثم تطورت التسمية إلى ما هي عليه الآن، وكان البئر يقع ضمن الكنيس اليهودي الموجود هناك والذي يرتاده بعض اليهود السوريين والزوار. كانت المدينة تتبع لمحافظة ريف دمشق، ثم تمّ ضمها للعاصمة السورية عام 1968 وجرى فيها توسع عمراني كبير منظم وعشوائي.
تقع في شمال شرق دمشق بين باب توما والقصاع والتجارة غربًا والقابون شمالًا وعين ترما وزملكا شرقًا، وعين ترما والدويلعة جنوبًا، ويمر فيها نهر بردى من طرفها الجنوبي. ويذكر المؤرخون أنها كانت المكان الثاني لليهود في دمشق قديمًا حيث يوجد وسطها أقدم كنيس يهودي في العالم يحتوي على أقدم نسخة توراة معروفة، إضافة إلى وجود “إلياهو هنافي”، وهو كنيس مقدس ليس عند اليهود فحسب، بل عند بعض المسلمين لاعتقادهم بوجود مقام “النبي الخضر” فيه، وعند المسيحيين لوجود قبر “النبي الياس” فيه حسب اعتقادهم. يوجد في جوبر أيضًا “الحمام القديم” الذي يعود تاريخ بنائه إلى العهد التركي قبل 650 عامًا، وشارع “الخرار” نسبة إلى نهر بالاسم نفسه وتنتشر المحلات التجارية في أرجائه، وشارع وسوق “الأصمعي” وهو الشارع الأكثر شهرة وينتهي بجامع “جوبر الكبير” أو “مسجد الأصمعي” نسبة لعالم اللغة الشهير عبد الله الأصمعي، وهو مسجد أثري ومن أقدم مساجد الحي وبجانبه مقام بالاسم نفسه، إضافة إلى مسجد الصحابي الجليل حرملة بن الوليد، ابن خالة النبي محمد (ص). وقبره داخل المسجد. وهو شقيق الصحابي الجليل خالد بن الوليد. وكذلك جامع الصحابي محمد الأوس وجامع العمادي الذي يعد من أقدم مساجدها، وفيها أيضًا العديد من الأسواق الضخمة. وتبعد عن القصر الجمهوري 7 كيلومترات وعن ساحة العباسيين بقلب دمشق أمتارًا قليلة. ويبلغ عدد سكانها حسب إحصائيات 2008 حوالي 300.000 نسمة.
تُعتبر جوبر بوابة الغوطة الشرقية إلى مدينة دمشق، وشريانًا اقتصاديًا هامًا لما فيها من تعدد مجالات العمل من مهن شعبية وتجارية وطبية وصناعات صغيرة وحرفية.
كانت خلال سنوات الثورة ساحة قتال ضارية ومشتعلة، وفي أوج احتدام المعارك عام 2012 ظهرت الحاجة لبناء أنفاق فيها لمواجهة قوات النظام وروسيا التي تعتمد على القصف بالطيران والمدفعية الثقيلة لتدمير المدينة وقتل سكانها، وهنا بدأ الحفر باستخدام أدوات تقليدية لبناء شبكة من الأنفاق وصل طولها إلى 27 كيلومترًا وبأعماق وصلت لعشرين مترًا. وتمّ تقسيمها إلى ثلاثة أنفاق رئيسة كبيرة تربط بين منطقتي الغوطة وجوبر وتُستخدم لمرور سيارات الإسعاف والإمداد التي تنقل العتاد العسكري والمقاتلين وتحمل أيضًا الغذاء والدواء للسكان. وكانت تضم فتحات للتهوية وبطاريات للإنارة وغرفًا لتجمع المقاتلين، ونقاطًا لمراقبة الصور القادمة إلى الشاشات عبر كاميرات تم زرعها في عدة مناطق لمراقبة تحركات النظام، وقد استُخدمت هذه الأنفاق أيضًا ككمائن لتدمير دبابات جيش النظام حيث كانت تتم مراقبة الدبابة التي تتمركز في منطقة معينة ثم يتم الحفر إلى منطقة تمركزها ومن ثم تفجيرها، وهذا ما تسبب في تدمير أعداد كبيرة منها وأوقف توغلها في المدينة.
كانت جوبر كما أطلقوا عليها مقبرة للدبابات وكان لأنفاقها أبعاد مدنية وإنسانية وطبية وعسكرية وصارت ملاذًا آمنًا وسكنًا للهاربين من قصف النظام وإجرامه وطريقًا لنقل الشهداء ودفنهم، وقد لجأ إليها عام 2018 وبعد تدمير المدينة بالكامل أكثر من عشرة آلاف مدني بين شباط/ فبراير وآذار/ مارس جراء تصعيد النظام لقصفه وغاراته المكثفة على مناطق وبلدات الغوطة الشرقية.
الجدير ذكره أن المعارضة المسلحة سيطرت على جوبر عام 2013، واستمرت فيها، على مدى سنوات، معارك طاحنة، منها معركة رص الصفوف عام 2015 عندما أعلنت سبع فصائل عسكرية إصرارها على استعادة نقاط يتمركز فيها النظام، والفصائل هي: جند العاصمة – فيلق الرحمن- جيش الإسلام- أجناد الشام وغيرها. وفي عام 2017 سيطرت فصائل الغوطة الشرقية على منطقة كراجات العباسيين ومحيطها في دمشق، وشنّت هجومًا على قوات النظام واستعادت بعض المناطق التي خسرتها سابقًا. وفي العام نفسه في حزيران/ يونيو شنّ النظام وحلفاؤه على جوبر وعين ترما والضواحي الشرقية للعاصمة هجومًا عنيفًا وتصدت له المعارضة وتكبد الطرفان خسائر كبيرة بالأرواح والمعدات. وبعده قامت قوات الأسد وروسيا بعملية عسكرية كبيرة على معقل المعارضة في هذه المدينة وأحرزت تقدمًا كبيرًا فيها وفي عين ترما المجاورة، وقد أكدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن هجومًا كيماويًا حدث في 22 حزيران/ يونيو على شمال جوبر. واستمرت المعارك بين الجانبين وسط تعرض المدينة والغوطة لهجوم متكرر بغاز الكلور إلى أن تم التوصل لوقفٍ لإطلاق النار تم استبعاد فيلق الرحمن وتحرير الشام منه.
وفيما بعد خرج المقاتلون من جوبر مع عدد كبير من المدنيين باتفاق روسي عام 2018 وتمت السيطرة الكاملة عليها وعلى بلدات الغوطة الشرقية المحاذية بعد هجوم عنيف واستشهاد مئات المدنيين واعتقال المئات أيضًا، ودمار أكثر من 90% من الأبنية التي انهارت بالكامل وتحوُّل المدينة إلى أنقاض بلا ماء ولا كهرباء ولا اتصالات ولا حياة.
وكعادته حاول النظام طمس الجرائم التي ارتكبها في جوبر وتزوير التاريخ وتشويهه، ودفن ما حدث من ترويع وخراب، وقرر محو الشاهد على اختيار أهاليها للحياة بدلًا من الموت، فحوّل الأنفاق إلى ورشة فنية نحت فيها الفنانون التشكيليون وجوه القتلة بدلًا من الضحايا الذين استُشهدوا في مواجهات أسطورية معه.
حاول بعض سكان جوبر العودة إليها بعد خروج المقاتلين منها رغم افتقارها لمقومات الحياة، ولكن النظام منعهم من ذلك نهائيًا بحجة أن الوضع الإنشائي غير آمن وأن هناك مخططًا تنظيميًا للمنطقة، وقامت شركات تابعة له بعملية هدم واسعة لما تبقى من الأبنية واستخرجت منها الحديد ومواد البناء لإعادة تدويرها وبيعها في حين أكدت مصادر مطلعة محلية أن النظام باع المنطقة بأسرها لإيران وأن مشاريع استثمارية إيرانية ستقام هناك.
يقول أحد الأهالي بهذا الشأن: “لقد سرقوا كل شيء، ما تبقى من المنازل والمساجد والمقامات”.
بعد سقوط النظام المجرم عاد بعض سكان جوبر إليها يبحثون عن منازلهم التي سوّيت بالأرض ومنهم من بنى غرفة واحدة تضمّ عشرات الأشخاص، وآخر شيّد خيمة مكان منزله وسكن فيها في محاولة لإعادة الحياة إلى المدينة، وبعضهم وجد ذكريات من بيته وآخر لم يجد سوى الركام: “هون كان بيتي. هون كنا نعيش أنا وأسرتي. لم يبق لنا شيء. ما في كلام يعبر”. وهناك من لم يستطع معرفة مكان بيته وسط هذا الخراب وراح يصرخ: “أين بيتي. لم يبق إلا التراب”!
مراجع:
– بوابة سورية؛
– بوابة الإسلام.
ضفة ثالثة