الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

أيام حمصيّة ما بعد الأسد، نحن، آهٍ مِن نحن، مازلنا غير مُصدِّقين/ منى رافع

18-03-2025

        اليوم الأخير

        أحاولُ ولكني أفشل في كل مرة، في كل مرة، أريدُ أن أكتب ما يحدث، أريدُ أن أنقل كل ما أشاهد، لكنني عاجزة عن ذلك، كل تلك المعلومات التي أحشُدها في رأسي تباعاً تنمحي وتتغير في كل مرة أضغط بها أزرار اللابتوب، أنظرُ إلى أصابعي الباردة وأشعر أنها غير موجودة، وأنّ كفي هو وحده الضائع على لوحة المفاتيح، أنا خائفة من أني فقدتُ القدرة على نقل ما يحدث، والذي يحدث يستحق أن يروى، فهو جميل وقبيح في آن، جميل في الحرية التي نتفّسها أخيراً، وقبيح في الأحداث الأمنية التي تجري في المدينة والأرياف، والتي بصدق لا أعرف كيف أصفها، أريد أن أكتب وأن أعبّر وأن أكون إحدى عيون المدينة الصادقة، والدامعة.

        يوم كارثي

        في طريقي في شارع الملعب لمقابلة مغتربة عزيزة، كان صوت خطيب جامع عمر بن الخطاب مسموعاً في كل الشارع، كان يخطب في الناس في نهاية صلاة التراويح ضد «الخنازير»، فهمتُ لاحقاً أنهم فلول النظام، كان يخطب بصوت جهوري حماسي يتصاعد باضطراد، لم أفهم فحوى الخطاب في البداية، ثم فهمت لاحقاً أنها كانت دعوى للنفير العام، كان الوضع في المدينة مضطرباً أشدّ الاضطراب، سيارات السنتافيه العالية تروح وتجيء بسرعة، أصوات رصاص لا تهدأ، سيارات المقاتلين «البيك أب» تمرُّ من شارعنا بسرعة مرعبة. نقرأ أولاً أنّ فلول النظام تقدموا في الساحل، أين؟ كيف؟ متى؟، لا أحد يعلم، علمتُ لاحقاً أنّ الساحل سقط فعلاً لفترة من الزمن، قبل أن تتم استعادته بعد إطلاق النفير العام.

        تتوالى الأخبار تباعاً عن سقوط ضحايا من قوات الأمن العام في الساحل، ثم تتوالى الأخبار عن سقوط ضحايا من فلول النظام، نفكر إن كنا سنعود للمربع الأول، تأتي تطمينات صفحات الفيسبوك لتؤكد عكس ذلك، وصفحات الفيسبوك تلك، تضمن صفحات مشايخ حمص الذين صرنا نقرأ آراءهم عما يجري بعد سقوط النظام.

        لم نكن مدركين الكارثة بعد.

        يوم أول بعد الكارثة

        إلى الآن لم نستوعبُ ما حدث، وفاة المئات من الأمن العام، ثم، وفاة المئات من الناس المدنيين في مدن الساحل، لم نصدق في البداية، أو لم نستوعب، لكن أين الدليل، يسأل ذلك المعلقون على صفحات الفيسبوك، تتوالى الأسماء والصور والفيديوهات، الآن الكل يصدق، الآن الكل يرفع حاجبيه بتفاجؤ، تفاجؤ بالحدث كله، باحتمال سقوط الساحل، بهشاشة الوضع الأمني، وفوق كل ذلك، بوفيات مدنيين عُزّل من العلويين. تبكي أمي طويلاً، وتتصل بصديقاتها في الساحل، يقولون لها ما نقرؤه على الصفحات التي لم نكن نحب أن نقرأها، ويخبرونها بالأخبار التي ما كنا نريد أن نصدقها، لكنها حصلت، لكن من قال إنها كانت مفاجأة، ربما إنها كانت مفاجأة لأنها تأخرت، كلنا كنا متوقعين حصول ذلك، القتل على الهوية، القتل بسبب الانتماء الطائفي وحده ولا شيء غيره، جربنا ذلك على صعيد مختلف وأصغر في حمص، والكل كان يضع يده على قلبه من حدوث شيء مماثل في المدينة.

        تظهر صورة للأمن العام في حمص وهم يمنعون شباناً غاضبين من اقتحام أحياء العلويين، الكابوس يتحقق في الساحل، وكان على وشك أن يتحقق في المدينة، لا يعني هذا أن خطر حصوله قد زال، إلى الآن تتوالى أخبار الخطف والقتل في أحياء العلويين بشكل يومي.

        أصبح شيئاً معتاداً وضاع زخمهُ إزاء ما يحصل في الساحل.

        يوم ثانٍ بعد الكارثة

        أُصدّق ما يقوله بعض الأصدقاء على الفيسبوك، وأصدق دموع أمي، أحاول أن أتحرّى الصدق في ما يجري في الساحل. على الأخبار يقول شاب علوي، انتقمتُم بمقتل مئات من الأمن العام بقتل الكثيرين من المدنيين العزل في الساحل، من نحن؟ من نحن فعلاً؟ ثم من قام بهذه المجازر؟ ومن سيحاسبهم؟ من يضع عينه بعين طفل ويقتله لن يردعه شيء عن قتل أي إنسان آخر. تتوالى التحليلات من هنا وهناك، تتوالى الإدانات، تتوالى الصرخات من أناس فقدوا أحبتهم، أسأل نفسي هل كان لا بدّ لهذا أن يحدث؟ ومَن الملام؟ أتقصى مشاعر الناس من حولي فأجدهم خائفين أن يعود النظام مجدداً، وأن تسود الفوضى أكثر مما هي سائدة اليوم..؟

        -والدم؟

        -أي دم؟

        -الدم الذي سال في الساحل؟

        منهم من يصمت، منهم من يبربر بأنّ مقتلتنا أكبر بكثير، منهم من يقول إننا فهمنا أنّ هناك منهم من قُتل، منهم من يبرر، منهم من يترحم، ومنهم من يرفع الصوت بوجه السؤال لأنه لا يريد أن يسمعه، منهم من يخوّن، منهم من يدير ظهره لأنه لا يريد أن يشوه صورة النصر التي زرعها في رأسه، ومنهم كثيرون ممن يقولون إنَ الدم يغلي هنا أيضاً.

        أسبوع على الكارثة

        تتصعّد الأمور على الإعلام وتتصّعد الأمور على صفحات الفيسبوك، تتوجه كثير من أصابع اللوم إلى السلطات لأنها المسؤولة عن حماية مواطنيها، بينما يزداد التوتر بين أهالي المدينة، أسأل زميلتي العلوية عن وضعهم الآن، تقول لي إن دمهم مباح، وإن هذه هي الخلاصة، أرفض ذلك القول ولا أستفيض، وأعرف أنّ رفضي لا يقدم ولا يؤخر، لكني أعرف أيضاً أن ذلك لم يكن ولن يكون، ولا نوافق عليه، من نحن؟ من نحن فعلا؟ أسأل نفسي ذلك مجدداً، وأخاف، لا أريد أن أكون طرفاً في المقتلة، وأراهن أن معظم الناس هم كذلك، لكن أصواتنا غير مسموعة، أمام أصوات من يصرخون من ألمهم. يضعون صور الأمهات اللواتي فقدن أبنائهن من الأمن العام مقابلَ أمهات المدنيين العلويين، يظهر الأمر كمحاولة يائسة للمساواة في حرمة الدم، «دم السوري على السوري حرام»، تلك مقولة الراحلة مي سكاف، وهي مقولة صادقة، لكن هل كان لهذا من بدّ أن يحدث؟ هل ينقصنا شرخ جديد وهمّ جديد فوق همومنا؟ همومنا التي ما يزال بعضها مشابه لتلك قبل أن يسقط النظام، قد يبدو كلامي مثيراً للحنق، لكنها الحقيقة، الحقيقة التي ليس لها رفيق، والتي ليس لها حرمة.

        اليوم ما قبل الأخير

        تقول لي زميلتي العلوية إنها تريد أن تسافر إلى جورجيا لأنّ البلد غير قابل للعيش فيه، ويقول لي زميلي المسيحي إنه سيهاجر إلى ألمانيا لأنه، وبحسب قوله، الوضع أسوأ من قبل، مع أنه كان يكره الذي من قبل، حاولت أن أقول لهم بعض الكلمات كي أحثّهم على البقاء، أنا قليلة الكلام في العادة وهذا التفصيل عديم الأهمية يصبح مزعجاً في هذه الظروف، تمنيت أن أشرح لهم باستفاضة بأن يعطوا البلد فرصة، وأن يستحملوا قليلاً عسى أن تتغير الأمور للأفضل، البلد يستحق منا أن نصبر أكثر، وهذا ليس كلاماً إنشائياً، بل حقيقة ما أؤمن به، ولا أعرف ما قيمة ذلك، لكننا كلنا الآن صابرون ومترقبون عسى أن تتغير الأمور للأفضل، كل منا لديه قصته ومعاناته التي تستحق أن تروى، كل منا فقد شيئاً ثميناً خلال الأربعة عشر عاماً السابقة، والصبر قليلاً لن يضر.

        اليوم الذي لا أعرف رقمه

        الحقيقة قبيحة، هذا أمر يمكن الاتفاق عليه، الحقيقة أقبح مما نتصوّر، والدم المُراق الذي سال ما يزال أحمر لزجاً، ما يزال حاراً، للدم رائحة مميزة لطالما ميّزتها في كل مرة أراه فيها، أفتح كتاباً عن العدالة الانتقالية وأغلقه، لأنّ طرقها كلها مؤلمة، الصفح مؤلم لأنّ الناس لن تنسى أساها وهذه حقيقة، المحاكمات العادلة تأخذ وقتاً طويلاً ولن يصبر المتألمون عليها، العنف الثوري والقصاص باليد يفتح دائرة للعنف لن تنتهي، أُغلق الكتاب لأني أخاف، أخاف على البلد أن تفقد ما وصلت إليه أخيراً بعد كل أنهار الدماء تلك، وأتذكر جاك بريفيير الذي يسائل الأرض في قصيدته عن المكان الذي يذهب إليه كل ذلك الدم المسال، الدم المسال، دمنا، يتراكم فوقه دم مسال جديد، وهو دمنا أيضاً.

        اليوم ما قبل الحزن

        أعتصمُ بالكتب وأبتعد عن مواقع التواصل الاجتماعي، أفتح كتباً متنوعة لكي أنسى، ولا أعرف ماذا أنسى، ولا أعرف إن كنت أريد أن أنسى، تقول لي الكتب أشياء كثيرة، كتب تحكي عن الحروب وكيف تعافى الناس منها، الأمر يأخذ وقتاً طويلاً، والوقت الآن هو عدوّنا اللدود، في إحدى الكتب يروي الناجون قصصهم، يبدو الأمر مرعباً، لا سيما عند أولئك الذين لا يستطيعون روايتها بسبب ما تسببه لهم من ألم شديد، الذاكرة لا تنسى الألم، ذاكرة الألم حية دائماً في قلوب من عاشوها، هناك الكثير من الناجين الذين عبّروا عن ألمهم باستخدام طرق مختلفة، هم لا ينسون، لا أعرف كيف نقدم لهم مواساة جماعية، لا أعرف كيف يمكن احتواءهم، لكن الذي أعرفه أن أولئك لهم ذاكرة حية، لن تموت أحداثها بالتقادم.

        اليوم ما بعد الحزن

        أمشي في طرقات المدينة بشكل يومي وكأني أبحث عن شيء مهم جداً ضائع مني ولا أعرف ما هو، أمشي وأنا أُحدّق بالجدران وبالإسفلت وبالسماء، وكثيراً في الوجوه، كثيراً جداً في الوجوه، أحاول أن أتلمّس ما تغير في المدينة ولا أعرف كيف أصفه، أخشى أن أصرّح بالصدق، فالصدق مثل الحقيقة أحياناً، مؤلم ومستمعوه قلائل. ما يزال هناك شيء حزين في المدينة، أنا واثقة من ذلك، لكن لا أعرف ما هو بالتحديد. في السابق وتحت حكم النظام المخلوع كان الحزن جلياً في المدينة في ظل انهزامها، وفي ظل غياب أهلها ودمار أبنيتها، أما الآن، فهي تتعافى ببطء دون أن تشفى تماماً. في السابق، كنتُ أشعر أنه حتى تراب المدينة حزين، الآن هناك شيء يجعل المرء يشعر بغصة نافذة في القلب، لعله العمر الذي مضى، ولعله الحزن المتراكم وهو يظهر للسطح بعد أن كبتناه سنين طويلة، مقياس الفرح والحزن هنا مرتبك، فكثير من الناس فرحون وحزينون في الوقت نفسه، لكن الأهم أن هناك شيئاً قد تغير، الوجوه الجديدة التي أراها والتي أتفرّس بها طويلاً هم من المهجرين، هذا وحده يكفي.

        يوم من الحزن

        اليوم قابلت بعضاً من الماضي، والماضي هنا أناس تهجروا وعادوا إلى البلد، رأيتهم من بعيد وخشيت أن أسلم عليهم، كانوا نفسهم تماماً، وكأنني رأيتهم البارحة، أما أنا، «وأناي هنا لا تخصني وحدي»، فقد تغيرتُ كثيراً، دعكم من بعض الشيب وبعض التجاعيد، لكني تغيرت، كما تغير كثير من أبناء المدينة، لقد تغيرنا جميعاً بعد أن بقينا في المدينة خلال السنين السابقة، أصبحنا أكثر انعزالاً وأكثر يأساً وأكثر خوفاً وأكثر تشوُّهاً، نحن مشوهون من الداخل، وبالنسبة لي، وأنا هنا لا تحدث عن نفسي فقط، فقد تشوهنا من الخارج أيضاً، ملامحنا أصبحت أكثر قسوة وأجسادنا أصبحت أكثر هشاشة، نحتاج الكثير من الوقت للتعافي، نحتاج القوة والصبر لكي نلملم ما فقدناه خلال السنين السابقة، لا أعرف كيف حال البقية، أعني المهجرين، لا أعتقد أنهم أفضل حالاً منا على جميع الأحول.

        يوم أول

        نستقبل المهجّرين القادمين من بلاد الغربة في بيوتنا بالعراضات والزغاريد، حتى الأعراس صار في كل منها فقرة للرقص على الأغاني الثورية، نستأنس بفرحة المهجرين العائدين الذين لا يصدقون ما جرى إلى الآن، ونتضامن معهم، نبدو شعثاً أمامهم ونحن نعيش الفرح، لا أعرف لِمَ نبدو مشعثين ورثّين أمامهم، أم أنّ هذا مجرد شعور خلفه لنا النظام المخلوع، يسألوننا عن الأمان في المدينة ونتفاجأ أن لديهم أخباراً دقيقة عن كل ما يجري، نتلعثم أحياناً في الإجابة عليهم لأننا نحن أيضاً لا نملك أجوبة مكتملة عما يحدث في المدينة وأريافها، الكثير من الإشاعات والكثير من التخبط والمظلوميات، ونحن، آه من نحن، ما نزال غير مصدقين، ما نزال نحلم بمستقبل أفضل، وما نزال لا نعرف ما الذي تخبئه لنا الأيام، أحاول أن أكتب عما يجري حقاً في المدينة، لكنني أعجز عن ذلك وأمحي كل ما أكتبه وقلبي في كل لحظة يتقطع من الحزن والفرح والشوق والخوف.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى