سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنصوص

بلاد من غبار: في استحالة العودة/ سمير الزبن

(1) الجزء الأول

«نحن جميعًا مذنبون تعني ليس هناك مذنب، إن الاعتراف بالخطيئة الجماعية لهو أفضل طريقة ممكنة للحيلولة دون اكتشاف المذنبين الحقيقيين، كما أن ضخامة الجريمة نفسها تُعتبر خير عذر لمن لا يريد أن يفعل شيئًا»- حنه أرندت

فجأة، أصبحت العودة إلى دمشق ممكنة، وأنا في حيرة من أمري: هل أستكين للمنفى، وأحفظ الذكريات القديمة عن المدينة، مشيحًا بوجهي عن آلام المدينة، وآلام الأصدقاء الذين صمدوا في بلد، كان الصمود فيه خلال العقد الأخير معادلًا للانتحار يوميًا، أم أعود إلى المدينة وأحدق في الفظيع الذي نجوت منه، وأتأمل المدينة التي ذرفت فيها جلَّ سنوات حياتي؟ التي لم تكن هانئة، لكن هذه السنوات هي السجل التاريخي لحياتي، تاريخ من الألم والحب، والمعاناة والمهانة، والضعف والقوة، إنها الخلطة العجيبة لحياتي التي شاء القدر أن أعيشها في هذه المدينة، التي اختار أهلي بعد هروبهم من فلسطين أن يستقروا فيها نهاية المطاف. ماذا لو استقروا في مكان آخر، في مخيمات لبنان، أو بقوا في الأردن؟ بالتأكيد، لكنت عشت حياة أخرى، وأصبحت شخصًا آخر، وربما، استطاعوا الاحتفاظ بأخي الذي ولد قبلي، ولكان رضع حليبي من أمي، الذي ستُرضعه لي لخمس سنوات بعد وفاته وولادتي، وربما، نجا من عيون جارتنا في المخيّم، التي قتلته بحسدها لجماله، كما اعتقدت أمي. وبذلك، لن تتمكن من إنجابي، لأن أمي لطالما استخدمت أبناءها الرُضع، كأدوات منع حمل، لأنها نوع من النساء اللاتي يخرجن أثداءهن لسنوات لإرضاع أطفالهن، وطالما يفعلن ذلك لن يحملن مرة أخرى، ولن ينجبن، طالما الأطفال يكبرون ويستمرون في الرضاعة. في ذلك الزمن، ليس من العيب على الأم أن تخرج ثديها وتلقم ابنها حلمتها في كل مكان، في الشارع، والباص، والسوق، وعيادات الأونروا، وغيرها من الأماكن. بالنسبة للأم، أن يهدأ الطفل الباكي أهم ألف مرة من أخلاقيات رثة، جعلت ممارسة الأمومة في الشارع ممنوعة على الأمهات، اللاتي لم تعدن قادرات على إخراج أثدائهن للأطفال الباكين، وليبقوا يبكون إرضاءً لأخلاقيات بائسة. لو استمرت أمي بإرضاع أخي الذي توفي قبل ولادتي بعدة أشهر، كما أرضعتني، لتجاوزت الخمسين من عمرها، وبقيت أنا أسكن العدم، وأُعفيت من تجربة الحياة التي عشتها.

استمر أهلي في مسيرتهم، لأن ذلك العام من نكبتهم كان عام محل في مدينة عمان التي لجأوا إليها أولًا. لم يجد أهلي الفلاحون ما يفعلونه في عمان في عام نضب فيه ماء السماء، فتابعوا السير إلى مدينة دمشق، التي سأولد في مخيم للاجئين الفلسطينيين على أطرافها، بعد ستة عشر عامًا من النكبة، التي أفقدتهم وطنهم، ونبت مكانه نبت غريب عن المنطقة، أخذ اسم إسرائيل، جاء سكانه من كل مكان من العالم، لطرد السكان الأصليين، بناء على أن الله وعد هؤلاء بأن يكون هذا المكان وطنهم قبل ثلاثة آلاف سنة. ومن المفارقة أن علمانيين هم من أقاموا إسرائيل، ليس حسب النظريات الحديثة للقومية، بل وفقًا لوعد إلهي يعود إلى ثلاثة آلاف عام. هذا الوعد الذي طرد أهلي من ديارهم، جعلني أولد في أوحال دمشق، بعد أن ضربت جارتنا أخي الأكبر مني بالعين، فقتلته، ما اضطر أمي إلى إخفائي عن عيونها، حتى لا تقتلني كما فعلت بأخي، وتنجو بفعلتها، كما نجت في المرة الأولى. هذه المرة، نجوت، وكنت خاتمة خلفتها بعد ثمانية أبناء، من رجل لم تحبه يومًا، كما ردّدت، حتى بوجوده، وكان إعلانها عدم حبها له، يُضحكه، وكأنها تروي نكتة لا تُضحك أحدًا سواه. بصرختي الأولى في مخيم بائس وموحل على أطراف دمشق، أصبحنا عائلة من ستة رجال وثلاث نساء. أنا الذي نجوت من عيون الجارة، ونجوت من ولادتي منغوليًا، لأن أمي أنجبتني وهي في الثامنة والأربعين من عمرها، ما يعني أن نجاتي من الجنون هي معجزة إضافية، ليست سارة بالنسبة لي، لأني أعتقد أن المجانين هم الأقلية العاقلة في هذا العالم المجنون.

عودة أم رحيل

قبل أن تطأ قدماي أرض مدينة دمشق، أدركت أن الكلام عن العودة هو كلام عن الرحيل، والعودة والرحيل هي مسيرتي الشخصية، وهي تحيل مباشرة على سؤال الأنا. فوجدت نفسي أرتطم بسؤال الهوية، من أنا؟ اصطدمت بالسؤال، وأنا لا أملك القدرة ولا المهارة لتعريف نفسي، ولا الإجابة على الأسئلة الوجودية. وأن هويتي أكثر هشاشة مما تصورت طيلة حياتي، وتأتي هذه الهشاشة مباشرة من هشاشتي الشخصية، والتي اعتبرها الآخرون نقطة ضعفي الأساسية. ولكني شخصيًا لم أستطع اتخاذ موقفًا من هشاشتي، التي علمتني درسي الأهم، إني غريب.

منذ وعيت حياتي في شوارع المخيّم الموحل القريب من دمشق ولا ينتمي إليها، شعرت نفسي أشبه المخيّم، لا أنتمي إلى المكان، لا إلى المخيّم ولا إلى دمشق، فقرّرت أن أربي نفسي كغريب طيلة الوقت، ولذلك اعتبرتني عائلتي دائمًا شخصًا غريب الأطوار.

عندما تعود إلى المدينة التي عشت فيها جلَّ عمرك، ولا تجد منزلك ولا مكتبك اللذين تعرضا للدمار، ولا يستطيع أي من أصدقائك استقبالك في منزله، وتجد نفسك في غرفة باردة في فندق رديء، ارتفعت أسعاره بطريقة جنونية، لأن المصابين بمخلب الحنين العائدين إلى البلد، أكثر مما تتسع لهم فنادق المدينة، التي رفع أصحابها أسعارها إلى السماء، فأنت تواجه السؤال الذي لم يخطر لك قبل القدوم، وتعرف أنّ السؤال ليس على أي دمشق جديدة تتعرف بعد هذا الغياب الطويل، وبعدما تعرضت له من دمار ودم وآلام ومعاناة بشرية هائلة، وإنّما يصبح السؤال من أنت قبل هذا الغياب ومن أنت بعده؟ من أنت وأي معنى للحياة التي عشتها وتعيشها؟ إنه سؤال الوجود الإشكالي الذي لا جواب شافٍ له. وما أكتبه هنا، محاولة عبثية ومجنونة للإجابة على السؤال، محاولة للتحديق إلى نفسي وحياتي وإلى المكان الذي احتواني في مرآة مكبرة، محاولة لرؤية صورتي بدون غبش المنفى، وبدون أوهام الأوطان، صورة أكثر وضوحًا لعودة مهزوزة، والخضوع لعملية جراحية لاختبار صلاحية هوية شخصية في غاية الهشاشة.

الاستعداد

قبل سقوط النظام، حصنت نفسي ضد الحنين إلى البلد، وضد الفضول لمعاينة تاريخ الألم في البلد الجريح عن قرب، وضد الشوق إلى الأحبة الذين كانوا عالمي كله قبل الرحيل، أو بالأصح كانوا فقاعتي الجميلة في بلد تحكمه سلطة لا ترى سكانه ولا تحترمهم. أهدرت عمري هناك في دمشق، في بلد أردت في منفاي الطويل والقاسي، دفعه إلى مواقع النسيان العميقة بكل تفاصيله المؤلمة وغير المؤلمة. لم أرد فعل ذلك انتقامًا من البلد أو انتقامًا من نفسي، ولا كرهًا في البلد الذي عشت فيه عمري، ولم أغادره، إلا عندما تحولت ثورته إلى بحيرة هائلة من الدم. أردت ذلك لأني لم أحتمل الجرائم الرهيبة في البلد، التي ارتكبها حاكم مجنون قرّر أن الردَّ الوحيد على احتجاجات المواطنين في مزرعته، هو قتلهم بوصفهم مجرد وقود لمعركة الحاكم التي رآها مع الكون كله، نافخًا نفسه لدرجة صدَّق أنه والمجرمين حوله هزموا الكون، بقتلهم مواطنين خائفين من أسلحتهم، ومن غبائهم، ومن هدم المدن على رؤوس، هؤلاء المواطنين الخائفين عاملهم كخونة!

كان هروبي حلًا فرديًا، بعد قناعتي بأن الحل الجماعي أصبح متعذرًا على المدى المنظور من عام 2012 وهو العام الذي غادرت فيه البلد على أمل عودة قريبة. اثنا عشر عامًا وأربعة أشهر خارج البلد، وأنا أحصي باكيًا اختفاء الأحبة من المكان بالقتل أو بالاعتقال أو بالهروب، وأتأمل بقلب مجروح اختفاء الأماكن والذكريات تحت ركام القصف الوحشي الذي صنع جغرافيا بشرية جديدة داخل البلاد وخارجها، جعلت خارطة توزع الأقارب والأصدقاء، نوعًا من مصير سريالي، كأن تعجز عن توقعه أعتى العرافات، جنسيات مختلفة لأخوة وجدوا أنفسهم في منافٍ متباينة، مع بقاء بؤساء العائلة عالقين في بقايا وطن ممزق، أبناء عمومة ولدوا في المنافي بلغات متعدّدة تعود إلى أمم في أربع بقاع الأرض.

هؤلاء المحظوظون وجدوا بلادًا جديدة ينزفون فيها أحزانهم بترف، باعتبار المنافي بلادًا لا تُطاق، وقد تركوا وراءهم أفرادًا من عائلاتهم، ينزفون حياتهم دون ترف، على مدى أكثر من عقد تحت خطر الموت الذي هدّد حياتهم بالقذائف والاعتقال وحتى بالجوع بسبب حصار قاتل فرضه النظام بأدوات قتله على مناطق اعتبرها شريكة في المؤامرة الكونية عليه، في الوقت الذي لا يريد سكان هذه المناطق المنكوبة سوى العيش بسلام والحصول على الحد الأدنى من الطعام الذي يقيهم الموت المحقق. لكن من كان يستطيع إقناع النظام أن من يحاصرهم هم بؤساء وطن، لا يصلحون، وليسوا مطلوبين للاشتراك في المؤامرة الكونية التي توهمها حاكم أبله مفصول عن الواقع، لا يرى سوى ذاته المتضخمة في مرآة قصره.

انقلاب

لم يكن أحد حتى رأس النظام يدرك أوضاع البلد، بعد سنوات طويلة من الاهتراء، ولا أحد يملك المعلومات اللازمة لمعرفة مستوى تفكك النظام. ما كان حاسمًا بالنسبة لي، أن النظام لا يستطيع حماية ذاته من شعبه، دون حماته الخارجيين. ففي كل مرة ترنح النظام فيها وبدأ بالسقوط، وجد من ينقذه، مرة بالتدخل الإيراني، عبر حزب الله والميليشيات العراقية، ومرة بصفقة الكيماوي مع الولايات المتحدة وإسقاط الخطوط الحمر الأميركية، التي وضعتها إدارة أوباما على استخدام السلاح الكيماوي، استخدم النظام الكيماوي وابتلع أوباما خطوطه الحمر. ومرة بالتدخل الروسي، الذي استخدم المدن والبلدات السورية دريئة لاختبار أسلحته الغبية، وعلى رأسها المكان الذي ولدت فيه، مخيم اليرموك والذي ناله ما ناله من الصواريخ الروسية، فوق البراميل المتفجرة والقذائف التي أهداها النظام للمكان، وقياس مدى قدرتها التدميرية على رؤوس السكان الفاقدين لأي خيار، حتى خيار الهروب من القذائف.

مكر التاريخ

في مكان آخر في المنطقة، وفي قطاع غزة تحديدًا، قام مقاتلو حركة حماس، في «طوفانهم» باقتحام بلدات غلاف غزة، ونجح الهجوم نجاحًا باهرًا، مترافقًا مع فشل إسرائيلي هائل، جعل يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يومًا تاريخيًا يؤسس لتغيرات هائلة في المنطقة، لن ينجو منها النظام السوري، حيث الجنون الإسرائيلي الوحشي والمدمر، أطلق العنان لآلة الحرب الإسرائيلية، لتحرث غزة وجنوب لبنان، والكثير من المواقع الإيرانية في سورية وفي إيران ذاتها.

وفي مكان آخر من العالم، حاولت روسيا اختبار عظمتها المزعومة، في احتلال أوكرانيا البلد المجاور، فشلت في المهمة ووجدت نفسها عالقة لسنوات في حرب مدمرة، ليس لأوكرانيا التي رغبت في احتلالها فحسب، بل للجيش الروسي «العظيم»، الذي غرق في أوحال أوكرانيا. هذه الحرب البعيدة جعلت روسيا الهزيلة غير قادرة على الدفاع عن طاغية دمشق.

كان مكر التاريخ قاسيًا علينا، أن تساهم إسرائيل في إسقاط النظام السوري، الذي اعتبرته أفضل جار لها، رغم التاريخ اللفظي للنظام شديد العداء لها. لكن هذا الخطاب لم يُفرّخ على الحدود مع إسرائيل أي جندي مجنون يطلق النار بعد الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، كما جرى لجنود مجانين على كل من الحدود المصرية والأردنية.

بإفلاس حماة النظام، وتركه وحيدًا، وبعد فقدانه داخليًا كل الأقدام التي يمكنه الوقوف عليها، أصبح سقوطه مسألة وقت. فكان الهجوم الذي هدف إلى «ردع عدوان» النظام، الشعرة التي قسمت ظهر النظام. فكان السقوط المدوي، والمفاجأة الأكبر تبخر النظام، وكأنه حفنة غبار ذهبت مع ريح متواضعة. فتبين أن البلد التي طالما تغنى فيها الرئيس الأبله، لا وجود لها، ولم يُبق الأبله في البلد، لا دولة عميقة ولا دولة سطحية، كل شيء تبخر، حتى الجوزة الصلبة الطائفية للنظام وحاميته من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري تبخرت، ولم يبقَ منها، سوى سيارات عسكرية، ودبابات وأسلحة فردية مركونة أو مرمية على جانب الطرقات، وهؤلاء المجرمون الذين مارسوا «بطولتهم» على المواطنين العزل، تركوا حتى ملابسهم العسكرية على قارعة الطريق، كدليل حاسم على مدى «عقائدية» جيش الرئيس الأبله.

من شمال البلد أتى الجهاديون مصدومين بهذا السقوط، مثل كل شخص في البلد. بتبخر النظام، ولأنهم الأكثر تنظيمًا، بعد التلف الهائل الذي أصاب البلد، وجدوا أنفسهم يحكمون البلد. نزعوا لباسهم الأفغاني وارتدوا الملابس الرسمية مع ربطات العنق لعلها تغير هويتهم. ركبوا السلطة، ويسعون لسرقة سردية الثورة التي لم يكونوا جزءًا منها، بل عبئًا عليها، وهم لا يعرفون ماذا يفعلون في البلد، ولا يعرفون كيف يخرجون من جلودهم وينسون «الخلافة» التي نادوا بها. هم ضائعون مثلما كل البلد، لكن البلد الضائعة فرحة لدرجة لا تصدق بالخلاص من النظام الذي أثبت للناس أن الشياطين أنفسهم أفضل منه. ولأن من جاءوا إلى السلطة إسلاميون، وهناك في دمشق من يملك سرعة هائلة على التأقلم، تحولت العبارة على واجهة المحلات المغلقة من: «نحن في الجامع، سنعود بعد قليل» إلى: «نحن في الجامع الحق بنا…»…

تناقضي

مع سقوط النظام، أكدت لنفسي أولًا، وللآخرين ثانيًا، على حالتي المضادة للحنين والفضول، وعندما سألني الأبناء والأصدقاء، هل ستعود إلى البلد الذي تركته؟ جاء جوابي حاسمًا: «ليس لي ما أملكه هناك، وليس هناك من فائدة لعودتي، فالبلد المحطم مباني وسكانًا، يحتاج همة الشباب لصنع الفرق بعد جبال من الجرائم ارتكبت بحقه، وهذه الميزة لم أعد أملكها».

بعد خلّوي إلى نفسي، وجدت كلامي لا يشبهني، أقول ما يصنع حاجزًا من زجاج مع رحلة كانت مستحيلة قبل أيام، ويبدو أني اقتنعت أن هذه الاستحالة ستبقى للأبد، وإنّ ما حاولته هو تحصين ذاتي من الحنين والفضول، مع بقاء الوحش جاثمًا على صدر البلد، وعلى صدورنا في المنافي. ويبدو أن الغياب الطويل والحرب المديدة وتحطم المكان وأمراض المنفى، جعلتني ضائعًا، لا أعرف ما يشبهني وما أشبهه. متجاهلًا أنّ هناك عشرات الأسباب التي توجب عليَّ الذهاب إلى هناك، ليس الحنين والفضول أبرزها، هناك الغامض الذي ينمو داخلنا، والرغبة الرهيبة في زيارة تاريخنا الشخصي بجماله وقبحه، والتأمل في تجربة عيش ليست مشرفة في بلد أهان كل من عاش فيه خلال نصف القرن المنصرم.

——————————

(2) الجزء الثاني

“نحن جميعًا مذنبون تعني ليس هناك مذنب. إن الاعتراف بالخطيئة الجماعية لهو أفضل طريقة ممكنة للحيلولة دون اكتشاف المذنبين الحقيقيين، كما أن ضخامة الجريمة نفسها تُعد خير عذر لمن لا يريد أن يفعل شيئًا”.

حنه أرندت

رحلة ضد الحنيّن

لأن ما قلته يوم السقوط كان حالة إنكار مستمرة من زمن الوحش، فقد بقيت أيامًا بعد السقوط غير متأكد من أن هذا السقوط حقيقي. كل يوم كان عليّ أنّ أصحو صباحًا، وعندما أفتح عيني أتأكد أنّ السقوط حقيقي، ولست أحلم. احتجت لأسبوع لأتأكد أن الأبد الوحشي الذي خيّم على البلد لنصف قرن قد تبخر هو وكل دولته في ساعات. كان النظام نمرًا من غبار، تبدّد وكأنه لم يقتل البشر، ويهدم البلد، وتبث أجهزة الأمنية الرعب بين الناس، ويقوم جيشه «الأبي» بفرق النخبة هائلة التسليح بإنتاج المخدرات على نطاق واسع، وتوزيعها في الداخل والخارج. جيش ينتج المخدرات مصيره التبخر، وتبين بعد ثلاثة عشر عامًا من الجرائم المستمرة أن من يحكم البلد مجرد عصابة. وبهرب زعيمها الأبله، اختفت كل العصابة، وتبخرت بجيشها وضباطها، وبمسؤوليها المدنيين.

نعم، تأكدت من سقوط النظام، وعليّ مواجهة الواقع، والذهاب لفحص البلاد المريضة، وفحص هشاشتي، أو مرضي الشخصي، بين المتعبين الذين نجوا من مذبحة النظام. وقبل أن أسترسل في أوهام جديدة، سألت نفسي: هل نجونا حقًا؟! إذا كنا نحن الذين هربنا إلى بلاد أخرى، وعشنا السنوات المنصرمة، مع ترف شتم المنفى والغربة، نشعر أننا لم ننجُ من الجريمة، كيف أسمح لنفسي أن أرى من بقي في البلد في ظل هستيريا القتل والاعتقال والتجويع، أنهم مجرد متعبين نجوا من المحرقة الكبرى التي عمت البلد خلال السنوات الماضية. كان عليّ ترك أي قناعة مسبقة، والذهاب لمعاينة الجحيم الدمشقي.

الآذان

بلا أي سبب محدّد، اخترت الذهاب إلى دمشق عن طريق عمان. لم تكن هنالك رحلات مباشرة، فدمشق مازالت تحت الحصار والعقوبات بفضل الرئيس الأبله.

في عمان، استضافني صديقي الهارب من محرقة أخرى جرت وتجري في غزة. خرج ناحلًا، بنصف وزنه، ودفع للأخوة المصريين خمسة آلاف دولار رسم دخول الى أرض الكنانة، لينجو من محرقة غزة، ويتحول إلى لاجئ من جديد، بعد عودة إلى البلاد في زمن وعدوه بالسلام، واعتقد أن الوعد نهائي. صديق هارب من محرقة أخرى، وكأن قدرنا نحن الفلسطينيين ألا ننجو من أي محرقة، لا محارقنا الذاتية، ولا محارق أخوتنا العرب.

في ليلتي الأولى في عمان، سمعت للمرة الأولى آذان الصبح بعد عشر سنوات من العيش المتواصل في السويد جارة القطب، الباردة لدرجة الرعب، لمن يأتي من البلاد الدافئة. عندما صحوت على صوت الآذان، ابتسمت، وتذكرت تاريخي الشخصي مع الآذان.

وأنا طفل، لم أنتبه يومًا إلى صوت المؤذن، إلا في رمضان، ونحن ننتظره لبدء الطعام. كانت فترة الانتظار تعذيبًا حقيقيًا لي وأنا طفل، أُجبر على انتظار الآذان لتناول الطعام، وأنا لست صائمًا، لا أستطيع بدء الأكل وحدي، وهذه جريمة لا تغتفر. الأهم أن عواقبها ستكون وخيمة، ولن أتحملها. كان عليّ أن أقمع نفسي، وأبلع لعابي أكثر من الصائمين، وأنتظر. والتعذيب الأكبر كان تلك الدقائق الموسيقية الرهيبة التي يبثها التلفزيون، قبل الآذان مباشرة، والتي تجعلني أنهار من التعب، وأشعر أنها دقائق لا تنتهي، وموسيقى تستخدم لتعذيبي وتعذيب الصائمين الذين ينتظرون الآذان ليباشروا طعامهم بعد جوعهم الطويل. يأتي الآذان لينقذنا من هذا العذاب القاسي، فأشعر بالنجاة من موسيقى تكاد تقتلني، ويمكن أن تستمر إلى الأبد.

المؤذن

أحببت الآذان لأني أحب الأصوات الجميلة. وكنت أستمتع بصوت الآذان القادم من بعيد، خاصة أن أصوات المؤذنين في دمشق جميلة، ولا أعرف إن كانوا في أوقاتهم الأخرى يمتهنون الغناء. في حياتي، تحول الآذان الذي أحبه مرتين إلى تعذيب حقيقي.

المرة الأولى، عندما سكنت مؤقتًا عند صديقي، الذي يقيّم في منزل مجاور لجامع العدس في المهاجرين. وهو بيت يعود أصلًا للأوقاف، وسكن فيه والد زوجته، عندما منحته الأوقاف هذا المكان للسكن لمكانته الدينية، وبقيت زوجته فيه بعد وفاته، واضطروا للإقامة معها في ملحق المنزل، الذي كنت فيه ضيفًا عليهم. كان يفصل مكان نومي عن مئذنة الجامع ثلاثة أمتار، وعندما يرفع المؤذن آذان الصبح بمكبر صوت كهربائي يصل مداه إلى كيلومترات عدة، أشعر أن قذيفة مدفع اصطدمت بصدري، لتعلن أن يوم الحشر قد بدأ، وأن الجحيم في انتظاري. في كل آذان صبح أصحو مرعوبًا، ليس لبشاعة الصوت، بل لقوته التي لا تحتمل.

المرة الثانية، عندما أقمت في القاهرة، وكانت مئذنة الجامع خلف بيتي، تبعد حوالي عشرة أمتار، وكل من ينام عندي عليه أن يمر برعب يوم القيامة، ليس بفعل قوة الصوت فحسب هذه المرة، بل بسبب بشاعته أيضًا. اشتكى سكان الحي للمسؤولين عن الجامع من بشاعة صوت المؤذن، وطلبوا تغييره. لكن المؤذن أخذ يبكي ويتهم الجيران أنهم يريدون منعه من دخول الجنة. وأمام بكائه السخي، تراجع السكان عن مطلبهم بتغيير المؤذن، وبقينا نشهد رعب يوم القيامة كل يوم.

عند مروري بالقاهرة لأيام عدة، بعد زيارتي دمشق، طلبت من صديق المرور بجوار البيت الذي سكنته، وعندما وصلنا إلى هناك، رفع المؤذن آذان العشاء. وعندما سمعته ضحكت، إنه المؤذن ذاته، ما زال يعذب السكان، بعد عشر سنوات من غيابي عن القاهرة.

الدخول

وصلت عمان ليلًا، وفي اليوم التالي غادرتها ظهرًا. حاول السائق الوصول إلى الأراضي السورية نهارًا، ولكننا لم نستطع تجاوز الحدود السورية قبل حلول الظلام. فقد وجدنا النقطة الحدودية في غاية الازدحام. وكثير من السوريين العائدين إلى بلدهم لا يملكون جوازات سفر، مما يتطلب التدقيق الأمني الإضافي لأوراقهم. السوريون المتعبون العائدون من بلاد عربية كانوا الأكثر استعجالًا لدخول الأراضي السورية، لاعتقادهم بأنهم سيتخلصون من كل متاعبهم وآلامهم وأحزانهم بمجرد الدخول إلى البلد الذي تركوه لأسباب قاهرة. بعضهم اِحتجز في مطار عمان، وتم نقلهم من المطار في حافلات إلى الحدود مباشرة. عائلات كاملة بلا أوراق، تفترش الأرض في انتظار فرج انتظروه طويلًا. ترى الإرهاق الشديد في عيونهم المتعبة والحزينة. صحيح أنك لا تعرف عدد السنوات التي غابوها عن البلد، لكنك تعرف من ملامحهم المتعبة أي أوضاع صعبة عانوها خلال الغياب. ينتظرون العودة إلى المكان الذي من الممكن أن يعانوا فيه العذابات ذاتها، لكنه في نهاية المطاف مكانهم، لا يتم الانتقام منهم بسبب قضايا أخرى، لأنهم الطرف الضعيف في معادلة الأماكن التي لجأوا إليها، كما حصل في بلدان التي لجأوا لها، خاصة البلدان العربية.

عبرنا الحدود ليلًا. لم أبكِ، ولم أنحنِ لتقبيل الأرض بشكل درامي. لا أملك فائض مشاعر لأمثل هذه الأوضاع. بالتأكيد، كنت متأثرًا، وبقوة، لكني غير قادر على تمثيل مشاعر زائفة رأيتها على الحدود، وفي البلد، خلال الأيام القليلة التي قضيتها هناك. كل ما فعله الليل الحالك في يوم من أيام كانون الأول / يناير هو أنه منعني من التحديق بالبلد في وضح النهار بعد مغادرة الحدود. وبعد أن سارت السيارة داخل البلد، اكتشفت أني لست في حاجة إلى الضوء لأعرف مستوى الخراب في البلد. أشارت العتمة التي ترزح تحتها الأشباح السوداء للمناطق السكنية على طريق دمشق ــ عمان بسبب انقطاع التيار الكهربائي إلى مستوى الخراب.

نصائح سابقة

قبل مغادرتي القاهرة منذ عشر سنوات، وكنت قد قضيت فيها حوالي عامين وبضعة أشهر، عبَّرت في حديث مع أحد الأصدقاء الباقين في دمشق عن رغبتي في زيارة دمشق قبل الذهاب الى منفى آخر. قال: “بصرف النظر عن الخطر الأمني، لا أنصحك بزيارة المدينة، فالمدينة التي تعرفها وتحبها، لم تعد تلك التي تركتها قبل عامين، إنها مدينة أخرى يعيش فيها أناس لا تعرفهم”.

حينها، أرعبني الجواب. سألت نفسي: ما دمشق بالنسبة لي؟!

شعرت وقتها أن المدينة والذكريات تتبدّد كفقاعة صابون، وأنا عار بلا ذكرياتي، وباختفاء المدينة التي صنعت حياتي بحلوها ومرها. تموت المدن عندما تفقد روحها، ونتحول نحن إلى غرباء مطلقين، حتى عندما نعيش فيها كل عمرنا. المدن هشة، تغير ملامحها بالضد من رغبة محبيها. ولأن دمشق شديدة الهشاشة، فإنها تختفي في موتها، ونختفي نحن، فلسنا سوى ظلال مدينة تختفي، نتوارى تحت بساط الاختفاء، ونختفي مثلها، لا نحملها ولا تحملنا.

تذكرت هذا الحوار القاسي وأنا داخل البلد، وفي طريقي إلى دمشق. هل أنا حقًا داخل البلد من جديد، وهل دمشق غيرت ملامحها، كما قال صديقي قبل عشر سنوات؟

بطرح السؤال على نفسي من جديد، عرفت أني لست جاهزًا للتجربة التي أقدمت عليها، وأني هش مثل المدن التي تغيّر ملامحها، وهي لا تتغير وحدها، نحن نتغيّر أكثر منها، فالزمن حاد، لدرجة أنه يقطع أعمارنا إلى أجزاء لا تنتمي إلى بعضها، ولا شيء يوحدها.

في دمشق

استقبلتني دمشق المظلمة، وأصدقائي الذين ملّوا من انتظار وصولي، استقبلوني بحفاوة، لاعنين الانتظار، ولاموني على تأخري، خوفًا عليّ من مخاطر الطريق. لم يمسني الفرح وأنا أسير في شوارع دمشق من جديد، استولت عليّ الدهشة وأنا أتفحص أصدقائي والشوارع التي بالكاد أتذكرها. أمشي وكأني فقدت لغتي، وجسدي يتعثر بكل حجر، وبكل رصيف. أعدت ذلك لانقطاع التيار الكهربائي، لكن الحقيقة فشلت بوصل حياتي التي أعيشها مع حياتي السابقة التي عشتها في هذه المدينة. وسألت نفسي: هل عشت فعلًا في هذه المدينة جلَّ حياتي قبل سنوات فعلًا، وأعود إليها الآن العودة المستحيلة، وأسير في شوارعها، أم أنني عشت في المكان في حياة أخرى سابقة، أتذكر أشباحها بعودتي غير المقصودة إلى المكان، الذي صادف أنه مكاني في حياتي السابقة؟ لا أعرف هل أحاول العثور على إجابات، أم أحاول العثور على نفسي التي فقدت طريقها في مكان ما، وأعجز عن وصلها مع حياتي السابقة، وكأن هوة رهيبة تفصلني عن المكان الذي أسير فيه، ووحده شعور الدهشة يستولي عليّ بقوة هائلة.

ما أذهلني في ساعات وصولي الأولى إلى المدينة هو فراغ ذاكرتي من الصور، عكس ما توقعت، فلم يحصل أن قامت الصور المحتشدة في رأسي عن حياتي السابقة في المدينة بحذف بعضها لغزارتها. الفراغ هو كل ما يحتل رأسي، وكأن ذكرياتي سقطت في نفق مظلم وبعيد، وتحتاج إلى زمن للوصول إلى مكانها الطبيعي، ويبدو أن هذا المكان لم يكن طبيعيًا كما افترضت.

مدينة منهكة

المدينة التي تركتها متعبة. ومن فرط ما حاول الطاغية إخضاعها، تحولت بعد سنوات القتل إلى مدينة منهكة. لم تكن دمشق مدينة متعافية قبل الاحتجاجات، كانت مريضة بالاستبداد الذي احتقرها وحولها إلى مدينة بشعة. قاومت المدينة بقدر ما تستطيع، لا تستطيع المدن المتسامحة رد البرابرة، ودمشق ليست استثناء.

لطالما أحببت المشي في شوارع دمشق ليلًا، لأن العتمة تخفي الأقذار المتراكمة على المباني، وتخفي جرائم كراهية الطاغية للمدينة، مع قليل من الكحول الرديء، والسير إلى جانب صديق حرّره الكحول كما حرّرني من ضوابط فائضة عن الحاجة، نحلق في سماء المدينة في فقاعة نملكها ولا تنتمي إلى المكان، نخوض رحلة سعيدة في ثرثرة حول الحب والنساء والخيبات، قبل أن نعود إلى السياسة والدكتاتور الذي يعدُّ على المدينة أنفاسها، بفائض رجال المخابرات الذين يحدقون في كل شيء حتى بلاليع المدينة، ويكفون للتجسس على قارة بأكملها.

أمشي في شوارع المدينة وكأنني شخص آخر فقد ذاكرته، تائهًا في مدينته، ولا يرغب في عودتها إلى ذاكرته، حتى لا يتأكد أن المدينة هي ذاتها التي سقطت من ذاكرته. أكذب إذا قلت إني أحببت دمشق التي عشت فيها جلَّ عمري، أحببت أصدقائي وفقاعتنا، وأحببت هامش المدينة الذي يحاول التحايل على سلطة فاجرة، ويحاول الغياب عن عيون عسسها ولو لحين. لكن حتى المدن التي لا نحبها، لا تستحق التحطم.

دمشق المحطمة والمنهكة والمهملة والمتهالكة تحاول الوقوف على قدميها، ومحو آثار البرابرة، لكنها لم تملك القدرة بعد، فالجريمة أكبر من أن تتحملها مدينة هشة كدمشق.

بسقوط النظام، احتل البؤساء فضاء المدينة، البسطات التي كان يشغلها رجال المخابرات للتجسس على البشر تحولت إلى ملكية عامة. الفقر الرهيب أعلن عن نفسه، في انتشار هائل للبسطات على مد النظر، حتى باتت تحتل إسفلت الشوارع، ولم تعد تقتصر على الأرصفة. وقود سيء من بنزين ومازوت، ألبسة مستعملة في كل مكان، بضائع تركية من كل نوع، بضائع مسروقة، العاملون في تبديل العملة، التي كانت تؤدي بصاحبها إلى السجن بتهمة تمويل الإرهاب، أصبحت في كل مكان. العشرات منهم يحتلون كل ساحة، يضعون أمامهم كتلًا هائلة من العملة السورية منخفضة القيمة، وينادون على من يملك الدولار ويرغب بالتبديل. فوضى هائلة تعم المدينة، فوضى البسطات، وفوضى السيارات القادمة من كل مكان، والمخالفة لأبسط قواعد السير، تلوث هائل تبثه السيارات في الأجواء، بسبب الوقود الرديء…

ضفة ثالثة

—————————–

(3) الجزء الثالث والأخير

نحن جميعًا مذنبون تعني ليس هناك مذنب، إن الاعتراف بالخطيئة الجماعية لهو أفضل طريقة ممكنة للحيلولة دون اكتشاف المذنبين الحقيقيين، كما أن ضخامة الجريمة نفسها تُعتبر خير عذر لمن لا يريد أن يفعل شيئًا – حنه أرندت

أصدقائي

أصدقائي الباقون في دمشق، يشبهون المدينة، مرهقون لدرجة التلف، سعداء برحيل القاتل، تحسنت صحتهم مع تبخر أجهزة النظام وحواجزه التي قطعت حياتهم لأجزاء، وحولت تحركهم وتحرك أحبتهم الباقين في البلد إلى رعب من خطأ ما يجعلهم يذهبون إلى المسالخ البشرية للنظام، المنتشرة في كل مكان. أي منهم لو كان في المكان والزمان الخاطئين، يمكن أن يتحول إلى مختفٍ قسري، أو يغذّي حفر يملأها القتلة بجثث الأبرياء، ليس لسبب ما، بقدر ما هو إرضاء لغريزة القتل التي لا تشبع، ومحاولة جديدة لإخضاع الخاضعين، لأن وحشية النظام لم تستطع أن تستأصل الخاضعين الذين تمردوا على وحشيته، رأى أن من حقه أن يقتلهم، وأن عليهم أن يشكروه على هذا القتل. فكان على آلة القتل الوحشية، أن تستأصل غير المرغوب بهم من الخاضعين للوصول إلى “سورية المفيدة” كما يراها كبيرهم الذي علمهم الاجرام.

لطالما اعتقدت أني أعرف ما جرى لأصدقائي هناك، وبعد انهيار النظام، كتب صديقي: “اليوم أستطيع نعي ابني”، لم أكن أعرف أن النظام قتل ابنه منذ سنوات، ومنع عليه الحداد. عندما قابلته قال لي: “أنا متأكد أن ابني مات، وقد أخبرني الرجل الذي دفنه بمكانه”. وهذا مهم جدًا له، حتى لا يعاني مثل أهالي المفقودين الذين لم يظهر أحببتهم بعد فتح السجون. جاء التأكيد ليقول إنّ هناك موت أقسى من موت. المفقودون هم عذاب الأهالي الذي لا ينتهي، حرمانهم من الحداد على أحبتهم، وإكمال حياتهم. المفقودون جرح حزين ومؤلم ومفتوح على الزمن. عندما سمعت بعض أهالي المغيبين قسرًا في ساحة المرجة، لم يستطع أي منهم إكمال جملة واحدة دون بكاء، وكل الحاضرين، إما يبكون، وإما هناك غصة في حلوقهم أسوأ من البكاء.

نجا أصدقائي من المحرقة، وعندما قالوا لي: “الحمد لله على سلامتك”، كنت أرد: “الحمد على سلامتكم أنتم”، وأنظر إليهم بدهشة، لقد نجوا فعلًا من زورق الموت الذي ركبوه ورفضوا النزول منه على مدى ثلاثة عشر عامًا. رغم كل الكلام المطمئن الذي قالوه لي، هناك شيء في وجههم، ومسافات الفراغ في كلامهم، وعيونهم غير المصدقة والتي تنظر في الفراغ، واعتذارهم عن ظروف ليسوا مسؤولين عنها، يقول، لم تكن نجاة تمامًا. وإذا كنا نحن الذين فرّرنا إلى المنفى أصابتنا المحرقة التي شهدها البلد، ولا نشعر بالنجاة، فكيف الحال بمن بقي. فبالتأكيد، لم ينجُ أحد.

عندما سألت صديقي عن الأمل، هزَّ رأسه ساخرًا وقال: “أي أمل يا صاحبي؟! الأمل في مثل حالتنا وهم لا يمكن الوصول اليه، كل يوم أربي الأمل ليلًا وأسقيه الماء. أصحو في الصباح لأجده ميتًا بقوة الواقع التي لا تقهر”.

أصدقائي مرة أخرى

لم توفر دمشق المحطمة لقاء أصدقائي الباقين في البلد، بل وفرت لي لقاء أصدقائي المنفيين أيضًا، لم يكن من الممكن لقاؤهم مجتمعين دون رحيل القتلة عن البلد. فقد وفّر سقوط النظام عودة لمن لم يكن يستطيع زيارة البلد، فالمطلوب اعتقالهم من قبل الأجهزة الأمنية أكثر من أن يحصوا. ولم أكن قادرًا على مقابلة كل هؤلاء الأصدقاء بمناسبة أخرى غير سقوط النظام، هذا الحدث الكبير الذي سمح للجميع زيارة البلد أو العودة للإقامة فيها بعد عذابات المنافي.

على تلك الطاولة في مطعم اسكندرون الصغير، الذي يقع في زقاق خلف شارع العابد، الذي استهوى بعضنا، وأنا منهم، وكان يعجب وزير داخلية في عهد الأسد الابن منذ كان ضابطًا في المخابرات العسكرية، وعندما كنا نراه جالسًا هناك، نمتنع عن الدخول، ويعكر يومنا. هو ليس مطعمًا بمعنى الكلمة، في الحقيقة هو مجرد ملحمة صغيرة بطاولتين صغيرتين بالكاد تتسع لستة أشخاص، تم توسيعها خلال غيابنا عن البلد إلى ثلاث طاولات، وهذا أقصى حد لاتساعها. عندما أردت التأكد من فعالية ذاكرتي، قلت لصاحب المطعم، كان ترتيبه مختلفًا، وكثيرًا ما كان والدك يلف ورق العنب، لمن كان يفعل ذلك؟ قال، هذا صحيح، وكان أبي يلف ورق العنب للبيت وليس للسوق.

عندما اقترح أحد الأصدقاء الذهاب إلى المكان، اعتقدت أنه يتحدث عن المحل من الذاكرة، وعندما سألته: ألا تعتقد أن المكان مغلق؟ قال: لا، كنت فيه من يومين. ذهبنا نحن الخمسة الذين اجتمعنا صدفة ودون موعد في مقهى الروضة، إلى هناك. وفي جو خانق من التدخين الرهيب في المكان، تأملت حالنا نحن الجالسين في هذا المكان الضيق ذي الإضاءة الخافتة. كل واحد منا جاء من بلد، الأول جاء من بريطانيا، والثاني من ألمانيا، والثالث من أميركا، والرابع من تركيا، وأنا من السويد.

لم نكن مطرودين من البلد بإرادتنا، بلا ثمن، ثلاثة من الجالسين على الطاولة، مكلومون بأعزاء، الأول بابنه، والثاني بزوجته، والثالث بأخيه، وأمام من خسر أحبته، تفقد خسائري معناها.

خارج المدينة

لا تُعبّر دمشق المتهالكة عن حال المدينة وريفها، فمركز المدينة لم يتعرّض للدمار. رسم النظام المنهار خط نار حول مركز المدينة وأهدى محيط المدينة كل أنواع القتل والقذائف والبراميل المتفجرة، وجرف مناطق واسعة من سكانها.

في الطريق إلى دوما لزيارة أبناء أخي، أخذني ابن أخي بسيارته في جولة على الدمار المهول. منطقة القابون التي كانت عامرة بالحياة، تحولت إلى أكوام تراب لا أكثر، لم يكتفِ جيش النظام بهدمها وتسويتها بالأرض، إنما قام بسرقة كل ما يسرق، والكثير من المناطق، دمارها من دمار القابون.

عندما أتأمل الدمار الرهيب في كل مكان، لا أتساءل عن مصير المباني، فما حل بها شاهد أمامي وليس بحاجة إلى شرح. التساؤل يكون عن مصير أصحاب الأماكن المدمرة، هل نجوا من القذائف والصواريخ التي دمرت المكان؟ ومن نجا؟ أي قصة مؤلمة خاضتها العائلات بكبيرها وصغيرها التي اقتلعت من المكان، وأين ذهبت بهم مصائرهم، وأي معاناة أصابتهم؟ حكايات الألم السوري أكثر من أن تحصى.

مركز المدينة لم يتعرض للدمار، رسم النظام المنهار خط نار حول مركز المدينة وأهدى محيط المدينة كل أنواع القتل والقذائف والبراميل المتفجرة (Getty)

تكنيس اللاجئين

تردّدتُ كثيرًا قبل زيارة مخيّم اليرموك، كنت أدرك أن مواجهة المكان هي مواجهة لحياتي، وستكون مواجهة مؤذية لي بشكل أو بآخر. لم أملك أوهامًا مسبقة، فأنا أعرف أن المكان مدمر. لكن، أنا أعرف أن المكان الذي أذهب إليه مدمر من خلال الخيال أو الصور أحادية الجانب التي تعطيني بعدًا واحدًا للدمار، هذا شيء مختلف عن أن أجد نفسي في قلب الدمار وهو يحيط بي من كل الجهات، وأنا أعرف أن هناك جثثًا ما زالت تحت هذا الدمار الرهيب. أصابني إحساس فظيع وأنا وسط الدمار، حطام المكان تسرّب إلى روحي، وشعرت أن رحلة العذاب هذه، كان يمكن توفيرها، لم أستطع ذلك، هناك دروب مؤلمة علينا السير عليها، ليس تعذيبًا للذات، إنما نوعًا من التطهر من تجربة رهيبة مرّرنا بها.

لم يرغب سادة دمشق في الخمسينيات برؤية أبائنا اللاجئين من فلسطين في شوارع دمشق، فقرّروا تكنيسهم إلى خارج المدينة، صحيح كانوا أرحم من أقرانهم اللبنانيين ومنحوا الفلسطينيين حق العمل، لكنهم أبقوا اللاجئين غير مرغوب فيهم ومطرودين خارج المدينة. ولأن جلَّ اللاجئين من الفلاحين، وفي ريف دمشق فائض منهم، كان عليهم إيجاد مهن أخرى للعيش في المنافي. في مكانٍ لا يصلح للعيش، بنى اللاجئون المطرودون من المدينة مخيمهم، عندما أصبح المخيّم وسط المدينة، انضم مواطنون سوريون مطرودون بالفقر من المدينة إلى هامشها إلى سكان المخيّم. هؤلاء المفقرون الجدّد في المدينة القادمون إلى المخيّم كهامش اعتبروا أنفسهم مساوين للفلسطينيين في غربتهم في وطنهم، فاستعاروا غربة المكان وفلسطينيته واندمجوا فيها.

هنا ولدت

ولدت في براري الغوطة التي زُرع فيها المخيّم، وفيها تربيت، كبرت أنا والمخيّم معًا، وأنا طفل، قطفت الجوز عن الشجر، بعد حصادها من فلاحي الغوطة، هذا كان التقليد في ذلك المكان. كنا نستطيع اصطياد حبات الجوز التي نجت من حاصدي الشجر الذين ينتقلون إلى مربع آخر في البساتين الشاسعة، على ألا نخرب الشجر ولا نزعج الفلاحين. كان هذا الطقس عيدًا لنا نحن الأطفال، نصطاد حبات الجوز بقصبة طويلة في نهايتها سلك معدني غليظ معكوف نعده سلفًا في انتظار حفل القطاف، لم يكن أحد منا يعرف كم من حبات الجوز سيحصل عليها. يعتمد هذا على الحظ، وعلى شطارة جامعي الجوز الذين يستأجرهم أصحاب الأرض، لكن الأكيد، كلنا سنرجع بحبات الجوز، قليل أو كثير منها. وسنكتب على جدران المخيّم بقشر الجوز، أو نحكه على هذه الجدران لنتخلص منه، ولتصبح أيدينا بلون الحناء في موسم قطاف الجوز.

عرفت المخيّم بأفراحه وأحزانه وخيباته، في المخيّم عرفت الخوف، وفيه عرفت الحب، وفيه عرفت أني لا أنتمي إلى المكان الذي ولدت فيه، وبقيت لسنوات طويلة لا أفهم لماذا يولد جاري سوري ابن المكان، وأنا أولد فلسطيني غريب عن المكان، مع أن ما فصل بين ولادتي وولادته مجرد جدار هش ومتآكل؟!

“وجدت نفسي أعيش في مجتمع حرّ لا أنتمي إليه، ولا إلى قضاياه، وأشعر نفسي عالقًا هناك من حيث أتيت، حيث بات المكان من غبار غير صالح للعيش البشري”

عرفت المخيّم الذي يفتقد إلى الخدمات، عندما كانت الآبار الصغيرة بالقرب من المنازل حلًا للمياه العادمة، والتي يجب تنفيسها بين الحين والآخر، حتى لا تنفجر في وجوهنا بسبب غاز الميتان الذي ننتجه كبشر ونحبسه في آبار صغيرة، لأن المكان لا يملك شبكة صرف صحي.

نشلت من ماء البئر ما يكفي لأساعد أمي في حفلة الغسيل التي تنجزها بيديها، لأن الكهرباء الضعيفة والميتة التي تصل المخيّم، ليس لها القدرة على تشغيل محرك غسالة تافهة. رغم عذاب العملية، كنت أعشقها، وأعشق صوت بابور الكاز الذي يصدر سمفونية موسيقى أعشقها، أيام الغسيل عندما أدفن نفسي في الغسيل المتسخ الذي ينتظر وأغفو على صوته قبل بدء حفلة الغسيل، وأيام البرد الشديّد عند استعماله للتدفئة باستخدام غطاء مثقب لعلبة حديدية ما.

في المخيّم

عندما دخلتُ المخيّم لم أتعرّف على معالمه، كتل أسمنتية رمادية محطمة ومبانٍ مدمّرة تنتشر على مد النظر. لم يكتفِ المجرمون بتدميرها، بل سرقوا كل شيء من المكان، حتى حديد الأسقف، فلا ترى بين الأنقاض أي لون آخر غير رمادية الإسمنت. مكان مدمّر، يعلن أنه لم يبقَ هناك عناوين تصل إليها عبر طرق المخيّم فقط، بل وليس هناك حياة في المكان، ولم يعد يصلح للعيش البشري أيضًا. لذلك، صُدمتُ عندما قابلت بعض جيراني الذين لم يخرجوا مطلقًا من المخيّم، بين أنقاض هذا الدمار الهائل، لأنه ببساطة، لا مكان آخر لهم يذهبون إليه. وعاصروا كل مراحل الجريمة بحق المخيّم على مدى 13 عامًا كانت في غاية القسوة، منها حصار الجوع، الذي لم يعد عند أهل المخيّم أي نوع من أنواع الطعام، ذهب ضحية هذا الحصار 260 شخصًا جوعًا من سكان المخيّم.

تصعب قراءة وجوه من بقوا في المخيّم، لا أعرف إذا كان بسبب الدهشة التي تعتريني والتي أصابتني بالحمى، وكأني لم أعد أدرك الأشياء ولا أرى الوجوه على حقيقتها، أو لصعوبة قراءة وجوه شهدت كل هذه القسوة؟ هناك شيء غريب في ملامح الباقين في المخيّم، وكأنّهم قادمون من عالم آخر، عالم لا يشبه عالمنا، قادمون من موت ترك آثاره على ملامحهم. تقول الوجوه إننا عشنا ومتنا عشرات المرّات، أمواتٌ مع وقف التنفيذ، لا يجدون قبورًا تحتضنهم. لم أتعرّف على وجوه الجيران الذين بقوا، هم من تعرّفوا عليّ. صديق الدراسة الذي تحوّل إلى هيكل عظمي، فقد ولديْن في المخيّم. جارتنا التي فقدت ولديْن كذلك، وهي حدّثتني عن خسائر الجيران الآخرين الذين لم يعودوا موجودين. بكيتهم وبكيت نفسي، وعرفت مرة أخرى المعرف سلفًا، الكل منكوب، مع حصص متفاوتة من قسوة النكبة.

في منزلي

عندما دخلت حطام منزلي، لا أدري عما كنت أبحث في المنزل الفارغ من كل ما كان فيه، سوى من بعض الصحون المحطمة بين الردم، فالمكان مدمر ومحروق وآيل إلى السقوط، لأن أعمدة الطابق الذي يقع تحته مباشرة تحطمت وباتت أرضية المنزل مائلة. جدران المنزل منهارة كليًا أو جزئيًا، الجدران الجانبية الخلفية منهارة بالكامل مع كامل البناية الواقعة خلف هذه الجدران وقد تحولت إلى أنقاض. ومن الواضح أن المنزل قد سرق، حتى أسلاك الكهرباء سحبت من جدرانه، ومن ثم أحرق، قبل أن يصيبه مزيد من الدمار بفعل القصف الروسي اللاحق.

أدور في المنزل محمومًا، ورأسي يشتغل كمرجل ويخلط ذكريات رهيبة شهدها هذا المنزل، طفولة أبنائي وذكرياتهم، نقاشات الأصدقاء الصاخبة، تحليلات مجنونة لمستقبل لا يأتي، توقعات لحياة الأحبة، جدل عن الحب والسياسة والكراهية والمعنى، وفساد حياة في بلد يحكمه الطاغية، وتوقعات لأسماء الجمع في بداية الاحتجاجات. هل كنت حقًا في هذا المكان، وهل أعود له حقًا، أم أن الذاكرة تأخدني وتأخذني في رحلة إلى منزل يشبه منزلي، هل أنا من يعود؟ هل كنت أنا قبل أن أغادر؟ من أنا الذي لم يملك منزلًا في حياته، وعاش ذكرياته وحياته في بيوت الآخرين؟ من أنا وهل هي عودة أم وداع؟ هل كان لي ماضٍ في هذا المكان؟ وهل أملك مستقبلًا، هنا أو في مكان آخر؟

لا أملك إجابة على هذه الأسئلة، ولا على غيرها. لأول مرة شعرت أن الأسئلة ترعبني، سواء كانت عن الماضي، أو عن الحاضر، أو عن المستقبل.

عندما شاهدتُ الفيديو الذي صوّرني إياه صديقي وأنا أجول بين حطام منزلي المدمّر بدوْتُ تائهًا، أبحثُ عن نفسي وعن طفولة أولادي وضحكاتهم في هذا البيت، وعن صخب الأصدقاء في سهرات لا تنتهي، كنّا نحاول العيش في بلد احتله الطغيان من دون أن نتلوّث به، لكنه لم يتركنا بحالنا، فاستخدم كل وسائل القتل فينا، سوريين وفلسطينيين، وأنا بين دمار منزلي، شعرتُ بتناقض رهيب، أني نجوت من جهة، ومن جهة أخرى، أن جزءًا من حياتي وروحي طمره الدمار.

العودة إلى ترف المنفى

لنهزم المنفى، علينا أن نملك وطنًا، وأنا شخصيًا لا أملكه، ذهبت للبحث عنه فلم أجده، فهو أصلًا ليس لي، ولا أريد خوض معارك جديدة من أجل هوية، فأنا لا أدّعي بطولة من أي نوع. مشكلتي الرئيسية أني خسرت مكاني فهزمني المنفى، وعرفت كم أنا متخشب وأفتقد لمرونة التحول. هناك حياة طمرها الركام الذي خلفته القذائف المنفجرة في أجساد البشر، وهنا حياة يدمرها المنفى الذي لا أنتمي إليه، ويحول كل قضاياي إلى تفاهات أو إلى ترف فائض عن الحاجة. من الطبيعي أن أفقد توازني، ولا أصدق ما مرّرت به، فهو فوق كل تصور. فجأة، وجدت نفسي أعيش في مجتمع حرّ لا أنتمي إليه، ولا إلى قضاياه، وأشعر نفسي عالقًا هناك من حيث أتيت، حيث بات المكان من غبار غير صالح للعيش البشري. وبعد هذه الرحلة الحزينة أدركت أن قتل الأوطان ممكن، وإحياء الأوطان مهمة مستعصية. استسلمت للخيبة، وعدت بها، وظل السؤال الذي يشغلني طيلة طريق العودة إلى المنفى: من يستطيع أن يبني وطنًا من الغبار؟!

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى