أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريالإعلان الدستوري لسوريا 2025التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدةدوافع وكواليس الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

100 يوم سورية جديدة: أحداث، ديناميّات، وتناقضات/ ياسين الحاج صالح

في الحاجة لشبكة أمان وطنية

18-03-2025

        100 يوم بعد نهاية الحكم الأسدي هي مفصل زمني مناسب للنظر في ما حدث خلالها، وفي بعض الديناميكيات السورية الجارية، ثم في التناقضات الكامنة وغير المعالجة فيها. من المعقول أن نفترض أن الأيام الباكرة من عهد جديد، حيث الأمور غضة وقليلة التشكل، تعطي فكرة معقولة عمّا يُرجّح أن يجري على مدى أطول من عمر العهد. 

        الحدث واللاحدث

        قبل كل شيء سقط النظام. لا يزال هذا خبراً مهماً. انطوت 54 سنة من «الأبد» والسلطة المُشخْصنة، من التطييف وتغذية الانقسامات الأهلية، من الإفقار السياسي والمادي، ومن العنف والجشع والكذب والترثيث. السقوط غير المتوقع إطلاقاً تحقق خلال 12 يوماً من هجوم قوات «هيئة تحرير الشام»، ما يدل على درجة متقدمة من اهتراء الحكم الأسدي من الداخل. النظام فرط، مركّبه الأمني أولاً، وقد تصرف قادة هذا المركب كمطلوبين ولاذوا بالفرار مثل رئيسهم. أما الجيش النظامي فقد سرّح نفسه وترك مواقعه الأمامية على جبهة الجولان. الحكومة حلّها الفريق المنتصر الذي تصرف بروحية بدءٍ مطلق، سرعان ما تخلى عنه لصالح مسالك تجريبية بلا قواعد، فأقرّ بعض الوزراء والمدراء على أعمالهم، لكنه أحل رجاله في جميع مفاصل السلطة، وجرى تسويغ ذلك بالحاجة إلى فريق متجانس. جرى تسريح موظفين من مختلف الإدارات بصورة متعجّلة عشوائية كذلك، ربما تتلاقى وراءها اعتبارات عقلنة الإدارة والحد من الهدر، بتصورٍ نيوليبرالي للدولة والاقتصاد، بنزعة عزل أنصار النظام السابق أو المستفيدين منه.

        أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقاً، زعيم هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، صار الرئيس الجديد، ومقامه الرئاسي هو قصر الشعب الذي بناه رفيق الحريري لحافظ الأسد، والقصر يشغل موقعاً «بانوبتيكياً» من دمشق، بما يُمكِّن قاطنيه من المراقبة دون أن يُروا. الرجل البالغ من العمر 42 عاماً، الشرع، شذب لحيته وارتدى ثياباً مدنية، ولم يلبث أن ارتدى طقماً وربطة عنق، وأخذت تظهر له صور مع نساء غير محجبات بعد أن كان طلب من أول امرأة شابة رغبت في أخذ صورة معه أن تغطي رأسها. كما ظهرت صورة لزوجته لأول مرة وعُرف اسمها. وزير خارجيته يتكلم الإنكليزية، ويقول كل «الكلام الصحيح» في المحافل الدولية. القوى الدولية أظهرت، بعد صدمة البداية وتردّد ما بعدها، إيجابية تجاه الوضع الجديد، لكن ترامب الذي عاد إلى البيت الأبيض بعد سقوط النظام يبدو إسرائيلياً في هذا الشأن، وإسرائيل أظهرت عداءً شديداً للوضع الجديد، وتستخدم في وصفه كلمتي الجهاديين والإرهابيين.

        الشرع تكلم على نصرٍ بلا انتقام. وحكم هذا التصور النظر إلى قضية العدالة الانتقالية، ملاحقة ومحاسبة الجناة التي هي مطلب يجمع قطاعات شعبية بمجموعات حقوقية بنشطاء سياسيين ومثقفين، فضلا عن ارتباطه الوثيق بفكرة الثورة بالذات من حيث هي تطلع لإحقاق الحق، أي هو من أكثر المطالب وطنية وعمومية في سورية. الشرع وفريقه عرضوا تردداً بين منطق: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وبين تجاوب تجريبي مع هذا الطلب الجامع، وصولاً إلى تقرير المبدأ في الإعلان الدستوري المؤسف الذي صدر قبل أيام. وبينما يمكن تقدير التردد الأول بأنهم يدركون أن عدالة انتقالية شاملة تعني مساءلة بعضهم عن ارتكابات مسجلة بحقهم، يحتمل أن يكون تفجر عنف طائفي إبادي في الساحل هو ما دفع نحو دسترة المبدأ. ويبدو أن الميل العام في أوساطهم هي قصر مبدأ العدالة الانتقالية على جرائم النظام (وداعش).

        وفي اجتماعٍ لعسكر الحكم الجديد في مؤتمر النصر قبل نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي اختير الشرع رئيساً مؤقتاً، وهو أشار غير مرة إلى مرحلة انتقالية قد تدوم ثلاث سنوات أو أربعة أو خمسة، استقرت على خمسة في الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر قبل أيام.

        وكان قد سُلِق مؤتمر للحوار الوطني أعدت له لجنة سباعية، خمسة رجال وامرأتان، عيّنهم الشرع. أخذت عملية الحوار، التي نُظّمت وفق محاور مناطقية حصراً، وقتاً قصيراً جداً، أعقبها مؤتمر ليومين، تمخّض عن توصيات عامة غير ملزمة. كان هذا مساراً ركيكاً، لا يعكس احتراماً لكفاح مديد، مرير، باهظ الكلفة. غياب الشفافية سمة مطّردة للوضع الجديد، الذي يبدو أنه يحب الكتمان في قضاء حاجاته، فيما يلزم وفيما لا يلزم.

        في المحصلة، كان المؤتمر وما سبقه من تحضير لا-حدثاً، في بلد يحتاج إلى أحداث تُتذكَّر وتُعلِّم وتترك أثراً. 

        الحدث الثاني في الأهمية بعد سقوط النظام هو مذابح طائفية في الساحل أعقبت تفجّر تمرد مسلح على يد بعض عسكريي النظام السابقين، بتنسيق مع ماهر الأسد فيما يبدو، وربما بتشجيع إيراني. المتمردون قتلوا عشرات من عناصر الأمن العام، وقاد ذلك إلى مواجهة هوجاء، استُنفرت خلال أيامها الأربعة قطاعات سنية مُحتقنة، يغلب الظن أنه حفزها هلع من خسارة السلطة التي جرى الإمساك بها بعد مِحَن ويأس كبيرين، وتميل بفعل ذلك إلى خوض صراعات وجودية، أي إبادية. وبحسب معلومات متواترة جرت الدعوة إلى الجهاد في مساجد من قبل خطباء وأئمة سلفيين عينتهم السلطة الجديدة. كما شارك في المذبحة المهولة جهاديون أجانب منضوون في هيئة تحرير الشام، شاركوا في قتل إبادي لعلويين آمنين مسالمين. أُجهز في المذبحة على عوائل بأكملها بمن فيها من نساء وأطفال، هذا بينما قتل المهاجمون كامل ذكور عوائل أخرى. عدد الضحايا غير معلوم، لكنه ربما يبلغ الألف أو يتجاوزها. واقترنت المجازر بعمليات سلب ونهب لصوصية واسعة النطاق، وبإحراق بيوت وأثاث. ويقدر أن 10 آلاف لجؤوا إلى لبنان، وألوف إلى قاعدة حميميم الروسية.

        ومنذ الآن هذه هي أكبر وأسوأ مذبحة ضد العلويين منذ نشوء الكيان السوري الحديث. إنها حدث كبير، أساسي، باقٍ، يتجاوز كونه تروما علوية لا تنسى، إلى جرح عميق في جسد الوطنية السورية بينما هي لا تزال وليدة، بما يهدد فرصها في النجاة.

        وما يزيد سوء الجريمة سوءاً مشاركة متحمسة للقَتَلة الذي صوروا بأنفسهم أفاعيلهم، يمارسونها بتشف، وهم من أتاحوها للعموم. وعرضت بيئات سنية موالية ميلاً ثابتاً للجمع بين إنكار الجرائم والتقليل من شأنها، وبين تبريرها بجرائم سابقة للنظام الأسدي أو بتواطؤ راهن للعلويين مع فلوله المسلحين، وبين تسفيه المنتقدين. 

        الشرع أعلن في اليوم الثالث للمذبحة عن تشكيل لجنة للتحقيق في الجرائم ومحاسبة الفاعلين، مكونة من سبعة أشخاص، بينهم امرأة واحدة؛ ولجنة أخرى، ثلاثية، أحد أعضائها علوي، لحماية السلم الأهلي. ليس ظاهراً إن كانت اللجنتان ستقومان بعمل جدي. فاللجان قد تشكّل لكسب الوقت واحتواء الضغوط، فتكون بذلك مقبرة للمشكلات لا معالجات حية لها.

        الحدث المهم الثالث هو إعلان اتفاق بين «الجمهورية العربية السورية» و«قوات سورية الديمقراطية»، وقع عليه «الرئيس» أحمد الشرع و«القائد» مظلوم عبدي، وأُعلن عنه مساء يوم 10 آذار (مارس)، وقت كانت لا تزال تتوالى أخبار المجازر في الساحل. وهو ما حدا بالبعض إلى ربط منفعل بينهما، رافضاً واحدة من أجل الأخرى أو متعجلاً طي صفحة واحدة من أجل الأخرى.

        هل سيطلق الاتفاق ديناميات توحد و«اندماج في الدولة السورية» لقوات «قسد»، وضمان هذه الدولة حق «المجتمع الكردي» في «المواطنة» والحقوق الدستورية الأخرى كافة؟ هذا ما يؤمل إن أخلص الطرفان في نياتهما، وإن لم تعبث قوى خارجية نافذة. ويبدو أن الأميركيين إيجابيون حيال الاتفاق الذي يرجّح أنهم دفعوا قسد لتوقيعه، وسط تقديرات بأن يسحبوا قواتهم من سورية قريباً. هذا أن ثبتوا على موقف ولم ينصاعوا للتفضيلات الإسرائيلية. وليس مؤكداً أن الأتراك سعداء بالاتفاق. زيارة وزير الخارجية ورئيس المخابرات التركية لدمشق يوم 14 آذار تثير التساؤلات عن مصيره.  

        والحدث الرابع وقع يوم 13 آذار: الإعلان الدستوري. غاب عن مراسم إعلان الوثيقة ممثلون للجماعات السورية، فيما كان الحضور السني، الديني والسياسي، طاغياً. الإعلان يركز السلطة بيد الرئيس، ويفتئت على الحقيقة بالكلام على فصل السلطات، بينما الرئيس يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويشكل لجنةً عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، تقوم من جهتها «بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة»، تنتخب ثلثي أعضاء مجلس الشعب. ما يخص الحريات العامة يبدو أنه يسهل التلاعب به عبر جواز إخضاع ممارسة تلك الحريات «للضوابط التي تشكل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحة أو الآداب العامة». هذا كلام مرسل مفتوح على تأويلات متعددة تلغيه.

        وبينما يعني مفهوم الدستور ذاته أن الحكم دستوري، أي مقيّد وغير مطلق، فإن احتياطات الإعلان الدستوري ليست موجهة نحو السلطة ومخاطر إساءة استخدامها، بل نحو ضمان إطلاقها.

        وبعد يوم واحد من صدوره، أعلن مجلس سورية الديمقراطية (مسد)، الجسم السياسي لقسد، رفضه للإعلان الدستوري بوصفه «مشروعاً مفروضاً من طرف واحد»، ما ينذر بسقوط اتفاق الشرع- عبدي الموقّع قبله بأربعة أيام. كلام «مسد» جاء في يوم زيارة المسؤولين التركيين المشار إليهما فوق.   

        وفي حين أن هناك إيقاع للزمن السوري اليوم يتصل ببدءٍ من الصفر في كل شيء تقريباً، بمشكلات على كل مستوى تقريباً، بسيولة عالية في «الأنفس والآفاق»، بما يضفي صفة تأسيسية على هذا الزمن، وما يوجب أن يكون ما يجري فيه أحداثاً مكونة وتأسيسية، فإن ما جرى ترتيبه بعد سقوط النظام لا يرتفع للمرتبة المفترضة من حيث الحدثية والتكوين والتأسيس، أو هو يسيء إلى ثلاثتها معاً. 

        ديناميات

        من الواضح أن العمليات السياسية السورية خلال 100 يوم تدور حول الجماعات الأهلية الوراثية، وأن تطلعات التمثيل ومشاعر الاستبعاد تحيل إليها. القوى النابذة اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً تحيل إلى هذه الجماعات دون غيرها: الكرد في مناطق من الجزيرة وعفرين وكوباني (عين العرب)، والدروز في السويداء وفي جرمانا، والعلويون في الساحل ومناطق من حمص وحماه. وسِجِلّ الانفجار المفرط للعنف في الساحل يظهر قوة حضور هذا العنصر في اجتماعنا وسياستنا. وهي قوة لا تنفصل دون شك عن نزع وطنية الدولة والمجتمع طوال عقود الحكم الأسدي، بعد أن كانت هذه الوطنية ضعيفة أصلاً ولا تستند إلى قوة اجتماعية مِتنيّة، يلتئم البلد حولها. ربما يُفَكّر في أن العرب السنيين السوريين، بنسبتهم الأكثرية وبانتشارهم في مناطق البلد كلها، هم هذه القوة المتنية، لكن من الظاهر اليوم أنهم بعيدون عن ذلك، وإنهم أنتجوا قوى سياسية أقلّوية وليس بحال أكثروية، تعكس مزيجاً من فقد الثقة بالنفس والخوف من العالم، وتميل إلى العنف بسبب أقلّويتها أساساً. يقول إيديولوجيو الجماعة إن السنّيين ليسوا طائفة، وإنما هم الأمة. الواقع أن التعبيرات السياسية السنّية في سورية تعطي الانطباع بالأحرى بطائفة خائفة، تخشى انقساماتها المتعددة فتكبتها وتحاربها فتنقسم أكثر، وتخشى غيرها فتتصرف بلجاجة وعنف، فتكون قوة انقسام عامة. الفزعة الهائجة إثر هجمات فلول النظام في الساحل تدل على قلق وجودي كان المرء يفترض أن السنّيين هم الأقل معاناة منه، وأنهم الأرسخ وجوداً بالأحرى. ظاهر أنهم ليسوا كذلك، والانفعالات الموتورة التي يواجَه بها أي نقد للوضع الجديد تدل على الخوف وعدم الثقة أكثر من أي شيء آخر.   

        كان لافتاً مع ذلك أن المجتمع السوري أظهر ميلاً إلى التوحد والاتفاق، أقوى مما يتوقع المرء بخاصة إن أخذنا بالاعتبار أن قوى الإدارة الجديدة ليست سنّية فقط، بل هي ذات ماض قريب متطرف جداً. والأصل في ذلك على الأرجح هو إدراك واقعي لحقيقة أن كياناً له من العمر قرن ونيف له، على علّاته، فرص في الحياة أكثر من كيانات جزئية تنشأ اليوم، أو لبعضها من العمر بضع سنوات؛ وأنه يوفر فرص ترق اجتماعي وثقافي وسياسي وأخلاقي أوسع مما توفر أي من هذه الكيانات المحتملة الجزئية، بحكم تعدده المتعدد المستويات وتاريخه. أياً يكن الأمر فإنه لا يمكن لأحد أن يقول إن السوريين في أكثرهم لم يعطوا الإدارة الحالية فرصة.

        وفي المقام الثاني ظاهر أن القوى الإقليمية والدولية ذات وزن كبير في العمليات السياسية السورية، أكبر مما لا يسمح بتوحد البلد وتعافيه، وبطبيعة الحال استقلاله. إسرائيل وسّعت احتلالها في الأراضي السوري ودمرت قدرات تسليحية سورية في الساعات الأولى التالية لفرار بشار وانهيار نظامه. وهي تثابر على الضرب في سورية ضد قدرات عسكرية، ويطلق قادتها تصريحات استعمارية بالغة العدوانية حول انتشار القوات السورية وزعم الاهتمام بمصير الدروز والكرد من الجماعات السورية. وفي حين أن إيران وتوابعها هزمت في سورية، فإن روسيا لا تزال تحتفظ بقاعدتين وبعض القوات، وعلى نحو مستغرب لم تطلب الإدارة الجديدة من الروس الخروج من البلد. ربما فكرت في أن وجودهم يوازن وجود القوى الأجنبية الأخرى، أو ربما تجنباً لاستعداء طرف قوي ويُخشى منه. الأميركيون لا يزالون هناك في الجزيرة وفي التنف، والأتراك في مناطق من الشمال، وهم يتصرفون كمنتصرين ورعاة للحكم الجديد مثلما تقدم.

        ويشكل تفاعل الانقسامات الأهلية الداخلية والقوى الخارجية مُركّباً نعرفه منذ أيام المسألة الشرقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني مركبات داخل/ خارج، أو تدخلات خارجية (من دول أساساً) و«تخرّجات» داخلية (من روابط أهلية وراثية)، بما يحول دون انحلال هذه «الروابط ما دون الوطنية» بلغة ياسين الحافظ قبل نصف قرن، وبما يوسع من هامش مناورة تلك القوى الخارجية، ويضيق من مساحة استقلال البلد ويحد من الفاعلية الدمجية للدولة، كما يضعف القوى الاجتماعية التي تتوافق مصلحتها مع تشكل داخل وطني مستقل.

        والتفاعل نفسه يضع سورية في موقع صراع بين قوى إقليمية ودولية، يشابه ما وقع بين الاستقلال والحكم البعثي. الحكم الأسدي شكّل قطيعة مع نموذج «الصراع على سورية» الذي كتب عنه باتريك سيل كتاباً مهماً، لكن باستحداث نموذج أكثر كارثية: إغلاق تام للملعب الداخلي بالاعتقالات والمجازر، والتعامل مع السوريين كتابعين سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً، وهذا مقابل اللعب في البلدان المجاورة و«الصراع على الشرق الأوسط» مثلما بيّن سيل نفسه في كتاب مهم آخر له عن حكم حافظ الأسد. دارة الدورة في عهد الابن، وطلب النظام نفسه حماة خارجيين ضد محكوميه، وصارت سورية ملعباً لأجانب من دول ومنظمات ما دون الدولة، هذا بعد أن كان مؤيدو النظام يثنون عليه بأنه حوّل سورية من ملعب إلى لاعب.

        سورية في حاجة إلى كسر هذا التعاقب بين وطنية هشة ذات تعددية متقلبة غير مستقرة، وبين وطنية مصمتة تدور حول الحاكم الفرد، تؤول في مواجهة محكوميها إلى محمية لقوى أجنبية. وبينما يبدو أن سورية اليوم أقرب إلى النموذج ما بعد الاستقلالي من حيث قوة حضور الأهلي والخارجي في حياتها السياسية اليوم، فإن الإعلان الدستوري يدفع نحو نموذج أسدي بالأحرى. هل تستقيم هذه الوصفة؟ هذا صعب، ويستحسن التعامل مع مؤشرات اليوم المُبعِدة عن المركز على أنها مُحَكِّمة.

        ما يمكن أن يكون أساساً أمتن لوطنية سورية جديدة هو تعطيل التخرّجات الداخلية بكسب الجماعات السورية كلها إلى جانب مشروع غير طائفي للدولة، ليس هو ما يبشّر به «الإعلان الدستوري». تحييد القوى الخارجية والحدّ من تدخلاتها مرغوب في كل حال ولكل أنواع الأسباب، الأمنية والاقتصادية والسياسية. مؤشرات 100 يوم لا تستجيب كفاية للتطلع الأول، ولا للثاني. السياسة الأسوأ بطبيعة الحال هي التي تجمع بين الاستئثار الفئوي بالدولة وتنفير القوى الإقليمية والدولية.

        تناقضات

        حجم التغيّر الذي حدث قبل 100 يوم كبير، إنه يطوي صفحة 54 عاماً أسدية ونحو 62 عاماً بعثية. من حيث حجم الحدث وتاريخيته يمكن التفكير فيه كاستقلال ثان، يطرح من جديد مهمة البناء الوطني: احتكار السلاح من قبل الدولة، مدّ سلطة الدولة إلى كامل التراب الوطني، توحيد القوانين، عقلنة وتوحيد نظم الإدارة، نظام تعليم وطني جامع، بنية تحتية تربط الجغرافية الوطنية وتكثّف التفاعلات بين أقاليم البلد، إلخ. الاستقلال الثاني مثلما نشأ كمفهوم يحيل إلى الديمقراطية، أو التحرر من السلطة الطغيانية للدولة بعد الاستقلال الأول الذي هو التحرر من الاستعمار. فهل إننا بالكلام على استقلال ثان نتكلم على ديمقراطية في سورية؟ إذا تكلمنا بلغة لم تعد مألوفة يمكن أن نقول إن المهمة الموضوعية المطروحة على سورية والسوريين هي الديمقراطية، حكم الشعب السوري المكوّن من مواطنين مستقلين، لكن «العامل الذاتي»، القوى الفعلية التي أسقطت الحكم الطغياني ليست ديمقراطية، بل وكانت تكفر الديمقراطية قبل سنوات قليلة. 

        هذا تناقض كبير أول بين المهمة الموضوعية والقوى الذاتية. وما يشبه هذه القوى الأخيرة من حلول يتراوح بين نظام تسلطي سنّي، وبين حكم متطرف ديني (هذان شيئان مختلفان، لا يبدو أن أحداً يريد تجنّب الخلط بينهما)، وقد يعمل على تمثيل الجماعات السوري الأخرى وفق نموذج «سياسة الأعيان» التي سبق أن تكلم عليها ألبرت حوراني وفيليب خوري بخصوص السلطنة العثمانية في زمن ما بعد التنظيمات، وكان ساري المفعول في سورية حتى الوحدة مع مصر عام 1958. بالمناسبة، كان ألبرت حوراني ينسب إلى ما سماه «العالَم السني» خاصية جامعة تتمثل في «الثقة بالنفس والحس بالمسؤولية»، خلافاً للجماعات الأخرى في المشرق التي كانت «هامشية ومعزولة عن السلطة والقرار التاريخي». قال هذا عام 1947، أي بعد قليل من استقلال سورية الأول. اليوم، بُعيد استقلالنا الثاني وبعد نحو 70 عاماً من كلام حوراني، لا يبدو حال «العالم السنّي» كذلك، هو أقرب في الواقع إلى ضعف الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس معاً.      

        تحيل معالجة هذا التناقض الأول إلى معضلات بناء الدولة السورية.

        وفي المقام الثاني، هناك تناقضات تحيل إلى الذاكرات والرضوض والآلام السورية، نراها تفجرت بعنف وضغينة بعد كارثة الساحل. هناك ذاكرة ورضوض قطاعات من جمهور سنّي محتقن وشديد الانفعال ويشعر بأن آلامه لا تُحترم؛ ثم ذاكرة وألم جمهور علوي نشّطت المذابح الأخيرة مخاوفه الوجودية، وهو وريث تهميش مديد سابق للحكم الأسدي، جغرافي واجتماعي وسياسي. وهناك ذاكرة وألم جمهور كردي، تعرّض لإبادة ثقافية منذ نشوء الكيان السوري الحديث، ويشعر بالغربة في «الجمهورية العربية السورية» التي ثبّت الإعلان الدستوري تسميتها هذه لخمس سنوات (رغم تبنّي علم الاستقلال وتخصيص مادة لوصفه في الإعلان نفسه، العلم الذي كان اسم سورية وقت اعتماده أول مرة: الجمهورية السورية). وهناك بعد ذلك مخاوف وجودية للجماعات الأهلية السورية كلها، يبرز من بينها اليوم الدروز، لكن ظاهر كما قلنا من قبل أن العمليات السياسية تحيل إلى الجماعات الوراثية، والمخاوف والآلام والذاكرات المحتقنة تسهم في تصليب كياناتها. هذا بينما لا تسمح الانفعالات الحادة اليوم بتناول شامل وتأسيسي لصراع الذاكرات هذا. من يركزون على واحدة منهما ينسون الأخرى، وبعض من ينكرون مظلومية طرف أهلي (والمظلومية مزيج من مظالم وتمييز حقيقيين ومن أفعال سردية تضفي عليها النسقية، وتسهم في تشكّل هوية الطرف ذاته) يمضون إلى إثبات مظلومية أطراف أخرى. هذا الحاجة إلى بطل شرير في القصة السورية لا تصلح كأرضية لسياسة وطنية ولا كمعرفة تاريخية ولا كبيان حقوقي عادل. وبخاصة أنها تميل إلى تعريف البطل الشرير بالأهلي وليس بالسياسي، بالطائفة أو الإثنية وليس بالموقع والدور السياسي الفعلي.

        ويفاقم من ذلك، ومن احتداد الانفعالات، أن من في الحكم، أي من في الموقع العام، اليوم، ليسوا ورثة مجادلاً فيهم لإحدى الذاكرات فقط، وإنما هم كذلك المتسببون بتنشيط ذاكرات اضطهاد سابقة.  

        تحيل معالجة هذه التناقضات الثانية إلى معضلات بناء المجتمع السوري كمجتمع موحد قابل للحكم.

        وهذه كلها مسائل تأسيسية، نراها تُعالج اليوم بوعي غير تأسيسي، شكلي وإجرائي، مفتقر إلى معرفة كافية بالمجتمع السوري وتاريخه، كما إلى الحس التاريخي. 

        يضاف إلى ذلك تناقض إجرائي لفت إليه ياسين السويحة بعد ظهور الإعلان الدستوري بين طول الفترة الانتقالية، خمس سنوات، وبين «السلق» المتعجل للحوار الوطني والإعلان الدستوري. قد تلزم مرحلة انتقالية طويلة لمعالجة المشكلات والتوترات الكبيرة المذكورة وغيرها إن كانت الأجواء العامة في البلد إيجابية تحفّز أعداداً متزايدة من السوريين على المشاركة في التفكير والنقاش والفعل، لكن التعجّل والشكلانية تضعف الثقة بالإدارة الجديدة والثقة العامة بين السوريين، وتنشر بالعكس من ذلك أجواء من التشاؤم والانكفاء، على نحو يجعل من خمس سنوات فترة طويلة جداً، ليس مضموناً ألا تشهد كوارث وآلاماً رهيبة جديدة. بعد مجازر الساحل ارتفع منسوب التشاؤم بحدة في البلد، انخفض قليلاً بعد الاتفاق مع قوات سورية الديمقراطية، قبل أن يعاود الارتفاع بعد الإعلان الدستوري.

        وللتقدم نحو معالجة هذه التناقضات لا بد من الإجابة على سؤال: ما هي الأمّة في سورية؟ إلام تحيل ما سماها أحمد الشرع وهو يوقع الإعلان الدستوري «الأمة السورية»؟ أإلى السوريين على اختلاف منابتهم الأهلية؟ أم إلى السنّيين السوريين دون غيرهم؟ أم إلى  المسلمين السنيين في العالم؟ وهل الدولة دولة السوريين؟ أم دولة السنّيين السوريين؟ أم هي دولة للمسلمين السنيّين في سورية؟ ذلك أن احتكار الدولة للسلاح يستقيم فقط على أرضية كون الدولة دولة وطنية سيدة، تقوم باسم «الأمة السورية». وهو ما يتعارض كل التعارض مع امتلاك أجانب للسلاح، واستخدامه ضد سوريين مثلما جرى في مذابح الساحل. يُجرِّم مفهوم الدولة كمقر للسيادة امتلاك أي قطاعات من السوريين خارج الدولة للسلاح، لكنه يجرِّم أكثر امتلاك غير سوريين للسلاح في سورية. هذا عدوان أجنبي، ينزع وطنية الدولة التي لا تقاومه. ولا يحل هذا التعارض بغير تجريد غير السوريين من السلاح، وطردهم إلى بلدانهم أو إلزامهم، إن كانوا لا يستطيعون العودة، بالإقامة المعلومة في مناطق بعينها كلاجئين مسالمين.  

        وقد يمكن إجمال كل هذه التناقضات تحت التناقض بين الثورة السورية والدولة السنية، أو بين الرهان الوطني الجامع للثورة واللون الواحد للفريق المسيطر اليوم. لهذا التناقض تاريخ بالغ القسوة هو الزمن الفاصل بين بدء الثورة في مثل هذا اليوم من عام 2011 وبين يوم 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، الذي بدأ فيه هجوم هيئة تحرير الشام ومن معها، الذي تمخض عن إسقاط النظام خلال 12 يوماً. ثلاثة عشر عاماً وثمانية أشهر وثماني أيام، هي زمن فظيع من القمع والتعذيب والإبادة، والخسارات العظيمة، والتهجير، واللجوء إلى بلدان قريبة وبعيدة، دفعت ثمنه بصورة خاصة البيئات السنّية السورية. هل حكم اليوم وريث 13 عاماً وفوق ثمانية أشهر، أم وريث 12 يوماً؟ إن كانت الأولى فينبغي أن يكون الحكم تعددياً، جامعاً، واستيعابياً، وإن يكن لسنّيين فيه وزن أكبر. وإن كانت الثانية، يقرر فيها من يحرر على ما قيل في شعارٍ يذكّر بشعارات أسدية مسجوعة مثله، فإننا نحصل على حكم واحدي لبلد متعدد، متناقض مثلما كان الحكم الأسدي، وقد لا يحل تناقضه بغير التوسع في العنف. وفي هذا ما يقود إلى قلب مفهوم الدولة على نفسه، ليطابق الدلالة العربية القديمة لكلمة دولة: نوبة أو دور في الحكم، يقصر أو يطول، لكنه ينتهي بعد سنوات أو عقود عاصفة. ثم إنه لما كان السنّيون أكثرية السوريين ديمغرافياً، ولما كان يتعذر أن يحظى بالنفاذ إلى الحكم غير نسبة محدودة منهم، فإنه يُرجّح لانقساماتهم الجهوية أن تلعب دوراً في فرز من هم أقل ومن هم أكثر تساوياً بينهم في فرص النفاذ. وهكذا نخسر سورية موحدة، ولا نحصل على غير جماعة سنية منقسمة.   

        هل تنجو سورية؟

        ركز هذا التناول على مسؤولية من هم في السلطة لأنهم الفريق الأقوى، والشاغل للموقع العام. في الواقع عرضت قطاعات من المهتمين بالشأن العام، بعد مجازر الساحل بخاصة، استعداداً للانزلاق نحو الهياج والتحريض، وحتى الخطاب الطائفي المُصقِع. وهو ما يساهم في مفاقمته تهتك وإباحية مواقع التواصل الاجتماعي، الجديرة بالفعل بأن تسمى مواقع قطيعة اجتماعية. منسوب قلة الاحترام العام، المرتفع سورياً أصلاً، رفدته مواهب قلة الاحترام التي برع فيها منافحو الفرق الكثيرة.

        هل تنجو سورية؟ ليس مضموناً بحال. يجزع كثير من السوريين من فشل الحكم الجديد في معالجة هذه الملفات، حتى وهم يعارضونه، لأنه يُحتمل لذلك أن يعني انهيار البلد. لكن لا يبدو أن الحكم الجديد ينصح نفسه ويشق له ولسورية مسالك غير استئثارية. وبعد أن رأينا بعض «البروفات» الكارثية خلال الـ100 يوم المنقضية، لا بد من التساؤل عن سبل ضمان نجاة البلد في حال جرى الانزلاق نحو مهاوي العنف والانقسام. سورية في حاجة إلى شبكة أمان وطنية في مواجهة هذه المخاطر، والعمل من أجل ذلك من أوجب ما يلزم اليوم.

موقع الجمهورية

لتحميل كتب باتريك سيل

كتاب الأسد ؛ الصراع على الشرق الأوسط

وكتاب: الصراع على سورية، دراسة للسياسة العربية بعد الحرب، 1945 1958 باتريك سيل

أو من الرابط

لتحميل كتاب الشرق الأوسط الحديث (جزئين) لـ ألبرت حوراني وفيليب خوري وماري ويلسون

الشرق الأوسط الحديث  الجزء  الأول

الشرق الأوسط الحديث  الجزء  الثاني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى