أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

تحديات في تنفيذ عدالة انتقالية في سوريا/ مصطفى حايد

لماذا يختلف التعاطي مع العدالة خلال فترات التحولات الكبرى؟

الالتفات إلى الوراء (1)

04-02-2025

        ملاحظة الكاتب: تم استخدام النجمة الجندرية (*) للإشارة إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشمله التعابير المُستخدمة في هذا المقال.

         *****

        بينما أشاهد وأسمع وأقرأ وأتحدثُ مع الأصدقاء* عن ماضينا الرهيب وحاضرنا المفتوح على كل الخيارات، تَحضرُني قصيدة غونتر غراس «لا تمضِ إلى الغابة»، وتحديداً عبارتها الختامية «لا تلتفت إلى الوراء…». فغالباً ما نسمع هكذا نصيحة، «لا تطلّع لورا»، حين نخرج من علاقة ما أو عمل ما أو مأساة. تنطلق هذه النصيحة من مبدأ أن المضي إلى الأمام يتطلّب عدم الالتفات إلى الوراء لأنك «ستَعلَقُ» في ذلك الماضي.

        اليوم، ونحن على أبواب المضي إلى الأمام في سوريا، بدأ البعضُ بالحديث عن المستقبل من مبدأ فكِّ ارتباطه بالماضي، وهو مبدأ مصيبٌ في جزء منه. لكننا لا نتعامل هنا مع ماضٍ «بينتسى» ليكون الفيل الذي سيراه كلّ مَن في الغرفة باستثنائنا، لذلك سأتحدث في هذه السلسلة من المقالات الخمس عن ضرورة الالتفات إلى الوراء، والتعلُّم من البلدان التي التفتت إلى الوراء ثم مضت إلى الأمام، كما عن تلك التي علقت في ورائها وراكمت المزيد منه.

        * * * * *

        تواجه سوريا اليوم تركةً ثقيلة تمتدُّ لأكثر من خمسة عقود من الجرائم الكبرى والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وعلى البلاد، التي تنتظر مستقبلاً بسيناريوهات تتوزع أطيافها بين إمكانية تحول جذري نحو الحريات والحقوق أو فصل دموي آخر واحتكار جديد للسلطات والحريات، أن تواجه خياراتها العديدة الممتدة ما بين الصفح والمُساءلة أو عدم فعل أي شيء.

        وأياً يكن السيناريو الذي ستتخذه البلاد، سيُسهم التعاملُ مع هذه التركة بشكل جوهري في تشكيل مستقبلها وإعادة سرد ما حصل، أملاً في معرفته والإقرار به والتعامل معه لتفادي حدوثه مجدداً، أو لتجاوزه والتعامل مع تبعاته.

        ربما يبدو مصطلح العدالة الانتقالية مبهماً أو معقداً حين نتحدث عنه، لكنه في جوهره ليس أكثر من محاولة لفهم الماضي بكل ما فيه من آلام، والعمل على شفاء الجراح. هذا بالضبط ما تحاول المجتمعات فعله عندما تنتقل من أزمنة ظالمة إلى مستقبل أكثر عدلاً.

        العدالة الانتقالية مصطلحٌ هجين، حديثُ العهد، يشيرُ إلى عملية متكاملة وشاملة تهدف إلى تحقيق العدالة خلال فترات التحوّل الكبيرة في البلدان. كما هو الحال في سوريا، التحول من «سوريا الأسد» إلى «سوريا للجميع». وبسبب التعقيدات التي تحدث في هكذا تحولات كبرى، وأيضاً بسبب حجم وطبيعة الانتهاكات والجرائم، وكذلك الأعداد الكبرى لمُرتكبيها وضحاياها، فإن المقاربة التقليدية للعدالة في التعاطي مع هذه الجرائم، خلال وقت حسّاس وهشّ من عمر البلاد، لن تكون كافية أو فعالة، مما يتطلّب خليطاً فريداً من الأدوات والآليات، سواء كانت قضائية أو غير قضائية، التي تستخدمها الدول لمعالجة هذا الإرث الضخم من الجرائم والانتهاكات الجسيمة. وقد تشمل هذه الآليات المحاكمات، أو لجان الحقيقة، أو حتى برامج التعويض والإصلاح، وكذلك نزع السلاح والتسريح وسواها. وإذا نظرنا إلى هذه العملية من حيث النتائج، نجدها تشمل المحاكمة والعقاب (كالمُساءلة والمحاسبة والتسريح) والتكريم (كالتعويض والاعتذار وجبر الضرر) والتعافي (كلجان الحقيقة وتخليد الذكرى والغفران وإصلاح المؤسسات ونزع السلاح).

        هناك شعوبٌ كثيرة مرّت بتجارب مأساوية مشابهة، ودخلت في مراحل انتقالية مُقارِبة لما نحاولُ القيامَ به اليوم. بلدانٌ كثيرة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ووسط أوروبا. وبالتالي ليس علينا كسوريين* إعادة اختراع العجلة كلّها هنا، وإنما إعادة تشكيلها بما يتناسب مع تركتنا ومواردنا أولوياتنا. ولكن رغم ذلك، لا يجب أن ننظر إلى عملية العدالة الانتقالية كوصفة جاهزة. هي أشبه بمائدة مستديرة يجتمع حولها المجتمع، وكل شخص يضع* على الطاولة ما يراه* ضرورياً للشفاء: البعض يطالب* بالمساءلة، والبعض الآخر بالمصالحة ونسيان الماضي، وآخرون* يبحثون* عن اعتراف بالماضي ومحاسبة مُجرميه.

        مهما تكن الإجراءات التي «نقرّر» اتخاذها، ونون الجماعة هنا هي في غاية الأهمية لأن فاعلية هذه العملية تكمن في كُليتّها وشمولها، فعلينا ضمان أن ما سنقوم به سيكسرُ دورات العنف والانتقام، ولكن أيضاً الإفلات من العقاب.

        في سيراليون، على سبيل المثال، جمعت الدولة بين المحاكم الخاصة لمعاقبة المسؤولين عن الجرائم الكبرى، وبين لجان الحقيقة التي سمحت للضحايا بسرد قصصهم في أجواء داعمة. وفي البيرو، قدمت لجان الحقيقة شهادات مؤثرة ساعدت الناس على فهم ما حدث والتعلُّم منه. وقامت تشيلي بعد حكم بينوشيه بإنشاء لجان الحقيقة، ليس فقط للكشف عن الجرائم، بل أيضاً لكسر دورة «مَن يفلتُ من العقاب اليوم سيعودُ غداً» أو سيعود غيره غداً. وهو ليس حالاً غريباً في سوريا؛ الإفلات من العقاب أصبح قاعدة شبه يومية.

        العدالة الانتقالية يجب أن تهدف إلى كسر هذه الحلقة، لذلك من المهم أن تكون هناك محاكمات عادلة وعلنية وشفّافة. لكن النظام القضائي السوري الحالي، إضافة إلى كونه لا يتمتّع بسمعة حسنة بين السوريين*، فهو غير مؤهل للتعاطي مع الجرائم الكبرى مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (سنشرح طبيعة وتعقيدات هذه الجرائم في مقال آخر)، وكذلك مع حجم الجرائم والمتورطين* فيها.

        أغلب الدول التي مرّت بتجارب مشابهة كان نظامها القضائي غير مؤهل أو غير قادر، تنظيمياً أو مادياً أو من ناحية الخبرات، على النظر بكل القضايا ذات الصلة. لذلك تباينت تجارب الدول بهذا الشأن؛ بعضها أنشأ محاكمَ خاصة مثل محاكم رواندا التي حاكمت المسؤولين عن الإبادة الجماعية؛ وبعضها تبنى أسلوباً هجيناً يتضمّن محاكم وطنية ودولية، وأخرى اعتمدت كلياً على المحاكم الدولية.

        المساءلة والمحاكمة تُعَدّ العمودَ الفقري للعدالة الانتقالية، وهناك أمثلة متعددة من العالم يمكن أن تُلهِمَ سوريا. ففي الأرجنتين، وبعد عقود من الحكم العسكري، أُجريت محاكمات وطنية لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وعوقِبَ قادة بارزون في المجلس العسكري. في سوريا، يمكن للمحاكم الوطنية أن تلعب دوراً مهماً في ذلك إذا ما أُعيد بناء النظام القضائي ليكون مستقلاً ونزيهاً.

        وفي سيراليون، تم إنشاء محكمة مختلطة تضمّنت قضاةً دوليين ووطنيين لمعالجة الجرائم التي وقعت خلال الحرب الأهلية. هذا النموذج قد يكون مناسباً لسوريا، حيث يمكن الجمعُ بين العملية الوطنية والخبرات الدولية. أما في كمبوديا، فأُنشئت محاكم خاصة لمحاكمة قادة نظام الخمير الحمر المسؤولين عن الإبادة الجماعية. كانت هذه المحاكم مدعومة دولياً، لكنها جرت ضمن النظام القضائي الكمبودي. وقد يكون هذا الحل أيضاً مناسباً في سوريا لمعالجة بعض الجرائم الكبرى ومحاسبة كبار المسؤولين.

        إضافة إلى ذلك، تُعتبر المحكمة الجنائية الدولية (ICC) لاعباً مهماً في مجال المساءلة الدولية. حيث حاكمت قادة مُتّهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مثل الرئيس السوداني السابق عمر البشير. ويمكن لسوريا أن تستفيد من مثل هذه الآليات لضمان قيام عملية فاعلة وشفافة وشاملة.

        التعويض وجبر الضرر واستعادة الكرامة أيضاً أمورٌ بالغة الأهمية في سياق العدالة الانتقالية. وهنا يجب الانتباه إلى أن التعويض لا يجب أن يكون مادياً فقط، رغم أهميته ووجوب أولوية حدوثه، بل يجب أن يشمل الإقرار بما حدث للضحايا والاعتراف تفصيلياً بكيفية حدوث ذلك ولماذا، ومَن كان متورطاً فيه. هذا الإقرار في غاية الأهمية للضحايا والمجتمع، ومن أجل المضي قدماً. إذا لم نعترف ولم نقرّ بما حدث، ولم نعتذر عنه ونعالج جذور المشكلة، فلن نضمن عدم تكراره. كما يجب أيضاً جبر الخواطر واستعادة كرامة الناس وتكريمهم*، وحتى تقديم الدعم النفسي للناجين*. بلدانٌ مثل المغرب مثلاً، وبعد سنوات من القمع، أطلقت برامج لتعويض الضحايا مالياً ومعنوياً، وأسست صندوقاً وطنياً لتعويض الضحايا. وفي البوسنة والهرسك، بعد الحرب، أُعيدَ بناء المنازل التي دُمِّرت، وأُعيدَ توطين النازحين. وفي جنوب أفريقيا، تضمّنت برامج التعويض تقديم منح تعليمية لأبناء* الضحايا. يمكن لسوريا أن تتعلّم وتستلهم من هذه البرامج لدعم الفئات الأكثر تضرراً.

        وللقيام بما سبق، لا بد من مؤسسات لا تشبه تلك التي كانت موجودة وفاعلة في الانتهاكات، وخاصة المؤسسات الأمنية والعسكرية. الإصلاح المؤسساتي يضمن عدم عودة الأجهزة التي أساءت استخدام سلطتها، وبالتالي عدم قدرتها على فعل ذلك مجدداً. إعادة هيكلة المؤسسات وإعادة النظر بوجود بعضها أمرٌ مُلحّ، لكن يجب التعاطي معه بحذر شديد. في العراق مثلاً أدت هذه العملية إلى تغذية دورات العنف بدلاً من كسرها، وأغرقت البلاد في صراعات ما زالت تحت وطأتها إلى اليوم. أما ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، فأعادت بناء المؤسسات الحكومية على أُسس تحترم حقوق الإنسان، ونجحت إلى حدٍّ ما في فتح فصل جديد في البلاد. وفي كولومبيا، أُجريت إصلاحات كبيرة في الأجهزة الأمنية لضمان احترامها لحقوق الإنسان.

        أما في مجال المصالحة فالأمثلة كثيرة، أبرزها ما حدث في جنوب أفريقيا، حيث جلس الضحايا والجناة وجهاً لوجه ضمن جلسات علنية نظّمتها لجان الحقيقة والمصالحة. ورغم صعوبة هذه التجربة، ساعدت، إلى حدٍّ ما، في تهدئة النفوس وبناء مستقبل مشترك. هل تشكيل هذه اللجان خطوة ممكنة في سوريا؟ وهناك بالمقابل مثالٌ آخر من لبنان، حيث اجتمع قادة الطوائف اللبنانية في السعودية واتّفقوا على ما بات يُعرَف باتفاق الطائف، الذي تمت من خلاله محاصصة المناصب السيادية على أسس طائفية.

        التحديات وكيفية التعامل معها

        كل ما ذُكر هو أفكار من تجارب طوّرتها بلدان تقاربت أحداثها في بعض أجزائها مع ما عايشناه في سوريا. بعض هذه التجارب مُلهمٌ وبعضها الآخر مقلق ويُشكِّلُ فرصة للتعلم منها وعدم تجريب «المجرّب». لكن مهما كانت خياراتنا في هذا المجال، سيكون أمامنا تحديات كبيرة يجب أخذها بالحسبان أيضاً.

        تُعاني سوريا اليوم على كافة المستويات. البنية التحتية شبه مدمرة، وأعداد اللاجئين* والنازحين* داخلياً بالملايين، وعدد البيوت والمدارس التي دُمّرت كلياً أو جزئياً مَهول. إضافة إلى ذلك، مواردُ سوريا المادية محدودة جداً. هذا التحدي سيؤثر على إنشاء المحاكم أو دفع التعويضات أو تمويل لجان الحقيقة وغيرها من آليات العدالة الانتقالية التي ذكرناها. لكن يمكن تجاوز بعض هذه التحديات من خلال الدعم الدولي، ففي سيراليون، على سبيل المثال، موّلت الأمم المتحدة محكمة خاصة. قد تستفيد سوريا من الدعم الدولي، ولكن يجب التركيز على المبادئ والأولويات الأساسية.

        سوريا بلد متنوع، وهذه ميزة لكنها قد تكون تحدياً أيضاً. فالانقسامات القومية والطائفية والاجتماعية والسياسية يمكن أن تُعرقِل عملية العدالة الانتقالية إذا لم تُدار بحكمة. في البوسنة، على سبيل المثال، كان التحدي الأكبر هو بناء الثقة بين المجتمعات المختلفة بعد الحرب. لذلك على سوريا أن تتبنى مقاربات محلية تُشرِكُ جميع الأطراف بطريقة شاملة وعادلة.

        ويُشكّل الانتقام تحدياً آخر، سواء كان انتقاماً فردياً أو على مستوى الدولة. ففي العراق، وبعد سقوط نظام صدام حسين، تحوّلت بعض المحاكمات إلى أدوات انتقام سياسي وطائفي. ولتجنُّب حدوث ذلك في سوريا، يجب أن تكون العدالة الانتقالية نزيهة وأن تُبنى على الشفافية والحياد. ويمكن لإشراك أطراف دولية كمراقبين أن يكون وسيلة لضمان نزاهة هذه العملية.

        في كثير من الأحيان، يكون جمع الأدلة والشهادات صعباً بسبب الخوف أو غياب الثقة. في الأرجنتين مثلاً، استغرقَ جمعُ شهادات ضحايا الحكم العسكري عقوداً. لذلك علينا التفكير والعمل على بناء الثقة وتوفير الحماية لتجنب هكذا تحدي. ومن الممكن للجان الحقيقة أن تعمل بسرية في البداية لضمان حماية الشهود وكسب الثقة وتشجيع الناس على المشاركة.

        الثقة مفقودة بين المواطنين* ومؤسسات الدولة في سوريا، وسنحتاجُ إلى وقت وجهد لإعادة بنائها. يمكن لسوريا أن تتعلم من جنوب أفريقيا، حيث كانت لجان الحقيقة والمصالحة وسيلة لإعادة بناء هذه الثقة تدريجياً من خلال الشفافية والمشاركة المجتمعية.

        هذه التحديات هي غيض من فيض، ويجب أن ندرك أن هذا الدرب طويل وشاقٌّ ومُكلِف، لذلك من المهم أن نؤمن بأهمية هذه العملية لتجاوز هذه الصعاب.

        معالجة الماضي المؤلم ليست مجرد قضية قانونية فحسب، فهي تتعلق أيضاً بالصحة النفسية والاجتماعية للمجتمع. في رواندا، كان الدعم النفسي للناجين* جزءاً أساسياً من العدالة الانتقالية. وفي سوريا، يجب توفير مساحات آمنة للضحايا للتعبير عن آلامهم* وتلقي الدعم اللازم.

        العدالة الانتقالية ليست مجرد شعار، هي رحلة شاقة لكن ضرورية نحو بناء مجتمع يفهم ما حصل ويتعلم منه ويتجاوزه ويضمن عدم تكراره. هي العدالة التي تجمع بين الحاضر والماضي لتؤسِّسَ لمستقبل أكثر إنصافاً، وبالتالي هي ليست فقط عملية انتقالية، بل أيضاً عدالة تحوليّة. ومن خلال الاستفادة من تجارب الدول الأخرى، يمكن للسوريين* إيجاد نموذجهم* الخاص الذي يُناسب تحدياتهم* وأحلامهم*.

        ومن هذا المنطلق، فإن الالتفات إلى الوراء بغرض التعلُّم والمُساءلة والمصالحة، قد يكون الخطوة الأولى نحو طريق الأمل والتعافي.

        مصطفى حايد: ناشط حقوقي في مجال حقوق الإنسان والمُساءلة والعدالة الانتقالية. عمل كاستشاري دولي مع هيومن رايتس ووتش ومكتب المستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية ومسؤولية الحماية. كتب دليلاً لتدريب المدربين، وحَرَّرَ كتباً وتقارير خاصة بالعدالة الانتقالية منذ العام 2012.

—————————————

تحديات في تنفيذ عدالة انتقالية في سوريا / مصطفى حايد

الالتفات إلى الوراء (2)

20-03-2025

        ملاحظة الكاتب: تم استخدام النجمة الجندرية للإشارة إلى التنوع الجندري والجنساني الذي تشملها التعابير المستخدمة في هذا المقال

         *****

        استعرَض المقال الأول من هذه السلسلة بعض فُرصِ العدالة الانتقالية في سوريا بعد أن عرّفها وبيّن وطبيعتها الهجينة، واستعرض أيضاً التحديات التي قد تواجهنا خلال عملية تخطيطها وتنفيذها. ومنه سيركز هذا المقال على بعض هذه التحديات، مستعرضاً تجارب دولية ذات صلة، من شأنها أن ترشدنا خلال هذه العملية.

        كُتِب هذا المقال بعد زيارة ميدانية في شباط (فبراير) 2025 إلى سوريا، تجاوزت العشرة أيام، وشملت كل من حلب وإدلب وحمص والسلمية ودمشق وريفها، وجرى خلال هذه الزيارة التحدث إلى أفراد ومجموعات شبابية مختلفة حول أفكارهم* ورؤيتهم* للعدالة والمحاسبة في سوريا، حيث تم تضمين بعض تلك الأفكار في هذا المقال، الذي يأتي على جزأين.

        بعض التحديات والعقبات الرئيسية في طريق العدالة 

        تواجه عملية العدالة الانتقالية تحديات معقدة، خاصة لكونها ليست عملية بسيطة أو مباشرة، وليست فورية أو قصيرة الأمد كما تبيّن في المقال الأول، ولا يمكن احتكارها أو الوصاية عليها من قبل الدولة فقط، أو من فئة واحدة ومحددة في المجتمع، إنما هي عملية متكاملة وشاملة وشفافة. وتتوزع هذه التحديات على ثلاث مستويات أساسية: صعوبات متعلّقة بتخطيط وتنفيذ العملية نفسها والجهة المنفذة لها، وتلك المتعلّقة بالملفات التي ستعمل على معالجتها، وصعوبات تتعلّق بالجهات المستهدفة سواء على مستوى الأفراد أو المجموعات أو المجتمعات.

        وسأنطلقُ من قصة سمعتها خلال زيارتي إلى سوريا من شاب في حمص، لندعوه «رامي»، قبل البدء بالخوض في شرح كل مستوى من هذه المستويات الثلاث.

        يعيش رامي في حي من أحياء حمص المأهول بسكّان من خلفيات دينية متنوعة. كان في الثالثة عشر من عمره عندما سمع طرْقاً عنيفاً على الباب وهو وحيدٌ في المنزل، فتح الباب لجد جاره «الشبيح» بعضلاته الضخمة يجرُّ ويركل رجلاً ملطخاً بالدماء. رمى الجارُ الرجلَ داخل المنزل قائلاً: «استلم… هاد من جماعتكون». أخبرني رامي أن تلك الحادثة أثّرت فيه نفسياً إلى درجة كبيرة، وبقي لسنوات طويلة يعاني من الخوف الشديد والهلع. حين جاء «الأمن العام» إلى حي رامي في كانون الثاني (يناير) 2025 وسأله إن كان هناك شبيحة يعرفهم في منطقته، تردد قليلاً ثم أجاب بالنفي. كان رامي عاطفياً جداً إثناء إخباري بالقصة، ولا يعرف إلى الآن إن كان ما فعله هو الصواب أم لا، وختم حديثه بعبارة «بدي جاري الشبيح يتحاسب لأني لهلأ خايف من الموقف اللي صار معي وأنا بالـ13، بس كمان أنا ماني واثق من هدول (الأمن العام) اذا كانوا رح ياخدولي حقي أو لا»، وأضاف: «بدنا عدالة انتقالية مو عدالة انتقائية ولا انتقامية».

        تقدم هذه القصة، برأيي، مثالاً تتقاطع فيه صعوبات المستويات الثلاثة المذكورة أعلاه، وتشكل مدخلاً قيّماً للبدء في الحديث عنها.

        1- صعوبات متعلّقة بتخطيط وتنفيذ العملية نفسها والجهة المنفذة لها:

        ذكرنا أن عملية العدالة الانتقالية لا يمكن احتكارها أو الوصاية عليها من قبل جهة واحدة فقط، حتى وإن كانت الدولة أو الحكومة نفسها، فما بالك إن كانت «الحكومة الجديدة» طرفاً في النزاع، وقد يكون أعضاؤها ومسؤوليها جناة محتملين* و/أو ضحايا محتملين*. لكن الدولة، رغم ذلك، يجب أن تكون الجهة المنفذة لهذه العملية، باعتبار أن المؤسسات القضائية والتشريعية والتنفيذية جزءٌ منها، ومن هذا الاعتبار أيضاً، يمكننا أن نفهم لماذا يعتبر إشراك الضحايا وعائلاتهم*، والمجتمع بكل مكوناته، والمجتمع المدني أيضاً، أمراً بالغ الأهمية، إذ يضمن نزاهة وعدالة وشمولية هذه العملية.

        في المرحلة الانتقالية تكون الحكومات الانتقالية ضعيفة، مهما بدت قوية، فهي تحتاج إلى كسب الشرعية والنفوذ واستعادة السلطات وتوفير الخدمات، وكذلك بناء الثقة. وفي بعض الأحيان، كما هو الحال في سوريا، تكون هناك أعباء أمنية إضافية، خاصةً بعد أن حُلَّ الجيش والمؤسسات الأمنية والحزبية. نحن نتحدث هنا عن عشرات الآلاف من الأفراد ذوي الخبرات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، الذين وجدوا أنفسهم فجأة خارج سلطات تعودوا عليها وأساءوا استخدامها لسنوات، إضافة إلى وفرة وعشوائية في انتشار السلاح في البلاد، مما يهدد بدورات جديدة من العنف والعنف المضاد من جانب، وبإعادة إنتاج الثنائية الكريهة المعتادة؛ «الأمن والإفلات من العقاب مقابل السلم والأمان»، من جانب آخر. لذلك يتمثّل التحدي الأول ضمن هذا المستوى في الضعف البنيوي و/أو الوظيفي للحكومات الانتقالية، وما يترتب عليها من أخطاء مرحلية تتعلق بالقرارات والتعيينات والتشكيلات الحكومية، وكذلك بإدارة المرحلة الانتقالية، أما التحدي الثاني فيكمُن في ضعف «الحكومة الانتقالية»، أو انعدام الإرادة السياسية لتنفيذ عملية حقيقية ومتكاملة لعدالة انتقالية في البلاد.

        عادة ما تستخدم الحكومات الانتقالية تبريرات من قبيل أولوية توفير الخدمات الأساسية أو ضمان الأمن… إلخ، وكأن تنفيذ هذه الأولويات يجب أن يحدث بالتراتب، ولا يمكنه أن يتزامن مع إجراءات العدالة الانتقالية. وفي كثير من التجارب الدولية تشكلت الحكومات الانتقالية من الأطراف التي كانت تتنازع، وبالتالي لم يكن من مصلحة أي طرف فتح ملفات الماضي، لأنها في الغالب متورطة في الجرائم والانتهاكات. وخير مثال على ذلك هو لبنان، وما ذكرناه في المقال السابق عن الاتفاق الشهير لتقاسم السلطة طائفياً، والذي سمي بـ«اتفاق الطائف»، أو كما يحدث في كولومبيا، حيث اتفق الطرفان المتنازعان على إنهاء النزاع ونسيان الماضي بما فيه من انتهاكات قام بها كلاهما.

        التحدي الثالث في هذا المستوى يتمثل في ضعف أو انعدام الخبرات والموارد المالية والبشرية، إذا أن تعقيدات عملية العدالة الانتقالية تتطلب الكثير من الخبرات والموارد المالية والبشرية، وعمادها هو القضاء والسلطات التشريعية وقوى إنفاذ القانون. وبالنظر إلى سوريا، نجد أن هذه العملية لا يمكن أن تنفذ بالشكل المطلوب بما تملكه سوريا وحدها اليوم من قضاة ومحققين* جنائيين وكوادر طب شرعي وتشريحي وأجهزة شرطية، فهذه الكوادر ستكون بالكاد قادرة على الاستجابة للقضايا الجنائية والجزائية المتراكمة منذ 2011. إضافة إلى تحدٍ جديد يتمثل بتعريف من هو «القاضي»، فمنذ عام 2012 تأسست محاكم «شرعية» (من «شريعة» وليست شرعية بمعنى قانونية) يُمثل فيها رجال الدين دور «الشرعيين» أو «القضاة»، حيث عيّنت الحكومة «المؤقتة» عدداً من هؤلاء الشرعيين كقضاة ووزير عدلٍ ورئيسٍ لمحكمة النقض. وهذا التحدي كبير ليس فقط نظراً لطبيعة هذه المناصب، وإنما أيضاً للمرجعية المتعلقة بالقوانين القضائية نفسها، هل هي القوانين الجزائية والجنائية الحالية أم وفقاً للشرع الإسلامي؟

        أما التحدي المالي المتعلق بتكاليف العدالة الانتقالية فهو تحد بالغ الأهمية. سوريا اليوم، ووفق تقديرات البنك الدولي، تحتاج إلى أكثر من 400 مليار دولار لإعادة الإعمار، فكيف سنتمكّن من تمويل تحقيقات وجمع أدلة واعتقالات ومحاكمات وتعويضات؟ ليبيريا عانت من تحدٍ مالي مشابه، واعتمدت بعد انتهاء حربها الأهلية على تمويل دولي لإطلاق «لجنة الحقيقة والمصالحة»، لكن هذا التمويل جاء بشروطٍ دولية أثارت جدلاً في البلاد حول «الوصاية الخارجية»، ويتردد السوريون* اليوم في تكرار تجربة مشابهة، لكن قد يكون الدعم الدولي، مع ضمان الشفافية، خياراً لا بدّ منه. هناك بالتأكيد خيارات كثيرة ممكنة لتمويل جزء من هذه العملية، مثل خيار تضمين ضريبة مضافة للعدالة الانتقالية على بضائع وخدمات ترفيهية في البلاد، أو إنشاء صناديق تبرعات وأعمال خيرية، إضافة إلى فرص أخرى سنتحدث عنها في مقال آخر مخصص للـ«الفرص».

        تحد آخر ضمن هذا المستوى من المهم أن نسلط الضوء عليه، وهو الوثائق وآليات التعامل معها. معظمنا شاهد تلك الفيديوهات واللقطات التي تظهر الناس يقتحمون الفروع الأمنية والسجون وبعض المؤسسات الحكومية، ويأخذون ويصورون بطاقات شخصية وجوازات سفر وقوائم تتضمن أسماء وبيانات مختلفة، بالإضافة لوثائق حكومية واستخباراتية وأمنية. تلك المشاهد حدثت سابقاً في مدن أخرى عام 2012 و2013، وظننا أننا تعلمنا الدرس ولن نكررها، لكنها حدثت وما زالت تحدث. هذه الوثائق في معظمها هي وثائق بالغة الأهمية لعملية العدالة الانتقالية، ورغم أن بعضها صُوِّر وتم تداوله إلكترونياً، إلا أن القيمة القانونية لهذه الوثائق تتمثل في وجودها الفيزيائي، فالوثيقة بحد ذاتها قد تكون دليلاً قوياً، ولكن تتعزز قوتها بشكل كبير عندما تكون مصحوبة بسجل يثبت سلسلة حيازتها، والذي يعرف بـChain of Custody، ويوضح كيف تم الحصول على الوثيقة، ومن كان مسؤولاً عن حيازتها في كل مرحلة، وكيف تم نقلها أو حفظها، وهل تعرّضت لأي تعديل أو تلاعب.

        تأتي أهمية سجل سلسلة حيازة الوثيقة من ضمانه بأن الوثيقة لم يتم التلاعب بها أو تغيير محتواها، حيث يوفر الشفافية والمصداقية ويضمن عدم إساءة استخدام الوثائق بطرق قد تُعرّض الضحايا أو الناجين* للخطر، مما يجعلها مقبولة قانونياً. لذلك، من المهم تأسيس هيئة مركزية وشاملة تضم ممثلين* عن المنظمات الحقوقية وعائلات الضحايا ومؤسسات المجتمع المدني، يشمل دورها توحيد معايير جمع الوثائق وأرشفتها وتوثيق سلسلة حيازتها، وكذلك تدريب الأفراد العاملين* في الميدان على كيفية جمع الوثائق بشكل آمن، وإنشاء السجل وتحديثه. وأيضاً تطوير أنظمة إلكترونية مؤمنة لأرشفة الوثائق والسجلات والاعتماد على تقنيات التشفير لتأمينها ومنع التلاعب بها، وهنا يجب التأكيد على المسارعة في أخذ زمام المبادرة، خاصة في ظل غياب البنى المؤسساتية القادرة على القيام بهذا الدور بشكل مستقل.

        2– صعوبات متعلّقة بالملفات التي ستتناولها العدالة الانتقالية:

        كثيرة هي الملفات التي تقع ضمن ولاية العدالة الانتقالية، لكن تحديد الملفات التي ستُعالجها العملية وتحديد أولويات هذه الملفات وإطارها الزمني يجب ألا يكون منوطاً بالجهات التي ستدير العملية فقط، ولا بتوفر الإيرادات والموارد اللازمة للقيام بذلك، إذ لا بدّ من التأكيد على أهمية التنظيم المجتمعي ككل للضغط والمساهمة الفعالة في عملية العدالة الانتقالية، خاصة مجموعات الضحايا وأهاليهم*، بحيث تكون شريكاً أساسياً في تخطيط وتنفيذ العملية.

        يعتبر ملف انتشار السلاح وعشوائيّته من الملفات الأكثر إلحاحاً ضمن مسار العدالة الانتقالية، إذ يلعب دوراً مهماً في الانتهاكات التي ما زالت تحدث بعد 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024. وهو من الملفات المهمة التي تتناولها عملية العدالة الانتقالية، أي نزع السلاح، بمعنى نزع صفة «المقاتل» عن المقاتلين*، وإعادة دمجهم* في الحياة العامة، أي إعادة مدنيتهم*. بالطبع سيكون هناك مقاتلون* لا يرغبون في العودة إلى الحياة المدنية، وسيكون الجيش السوري الجديد بحاجة إليهم*، لكن هذه العملية تتطلب إجراءات محددة أيضاً، تدعى التحري أو التدقيق (Vetting)، وتتضمن إجراء تحقيقات لضمان عدم ارتكاب هؤلاء المقاتلين* لانتهاكات خطيرة أو جرائم، وهو إجراء بالغ الصعوبة بالمناسبة. الغاية من ذلك ضمان أن يكون الجيش الجديد خال من مرتكبي جرائم محتملين*، وكذلك الالتزام بمعايير حقوقية تضمن بناء الثقة بهذا الجيش، وعدم تكرار ما حدث في السابق من تدخل الجيش في الحياة العامة وارتكاب الانتهاكات والجرائم.

        نلاحظ اليوم في سوريا أن عدد الأفراد الذين يحملون السلاح في الشوارع كبير للغاية، خاصة في الأرياف أو في مدن مثل درعا وإدلب وغيرها، وهو سلاح غير منضبط في الغالب، وعليه يوجد جرائم قتل واعتداءات بوتيرة يومية. بعض ممن يحملون السلاح هم مقاتلون*، وبعض آخر مدنيون اضطروا إلى حمله لضمان الأمان والدفاع عن النفس، في ظل غياب جهات شرعية تضمن الأمن وتتمتع بالمصداقية والثقة لدى المجتمعات المحلية. أياً يكن المبرر، لا يمكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه، ويجب جمع هذا السلاح واستعادته من قبل «السلطات الشرعية» في البلاد. لكن ذلك لن يكون بالأمر اليسير، فالكثير ممن يحملون* السلاح «يملكونه» ولن يتخلوا* عنه بلا مقابل، وآخرون* لن يتنازلوا عنه طواعية حتى بمقابل مادي.

        في حديث أجرته صديقتي مع سائق تاكسي يحمل سلاحاً فردياً، أخبرها بأنه لن يتنازل عن سلاحه حتى يشعر بالأمان، مع أنه يقيم في منطقة بريف دمشق لم تسجل أي حوادث أمنية أو جنائية.

        لم تحاول السلطات السورية الجديدة فتح هذا الملف بعد، بجدية، في مناطق مثل حلب وإدلب ودرعا ودمشق والسويداء، بينما تقوم بحملات لجمع السلاح والمطالبة بتسليمه في محافظات أخرى مثل حمص وحماة وطرطوس واللاذقية. في لقاءاتي مع مجموعات من حمص وحماه أخبروني أن السلطات تسترد السلاح الذي تم استلامه من النظام السابق وليس السلاح الذي تم شراؤه ويعتبر ملكية خاصة، (لم أستطع التحقق من مصداقية هذه المعلومة لكنها تواترت من أكثر من مصدر بمناطق مختلفة). تبايُن التعامل مع هذا الملف أدى إلى شعور بعض المجتمعات بالتمييز ضدهم. على سبيل المثال، أخبرتني بعض المجموعات في مدينة سلمية أن السلطات الجديدة جمعت السلاح من المدينة بينما تُرك مع «البدو» في ضواحي المدينة، وأخبروني أيضاً أن هناك «مشاكل وحساسيات تاريخية بين مدينة السلمية والبدو»، وأن حواجز الجيش سابقاً كانت تمنع «البدو» من دخول المدينة، مما جعلهم* يشعرون بالتمييز والغضب، لذلك، ووفقاً لما أخبرتني به المجموعات، حين تم نزع سلاح المدينة بدأ «البدو» باستعراض سلاحهم والقيام ببعض التعديات على سكان المدينة، إضافة لمحاولة خطف لفتاة (لم يتم التحقق فيما إذا كان «البدو» ورائها). حوادث مشابهة تجري في حمص والساحل السوري، وتنذر باحتمالية نشوب صراعات جديدة وعنيفة في أي لحظة بحال عدم معالجة هذا الملف بشكل شفاف وعادل وعاجل.

        في هذا الإطار يمكن الاستفادة من تجربة كولومبيا مع أعضاء المجموعات المسلحة والتي تدعى «فارك». منذ عدة سنوات يتم العمل على نزع السلاح الخاص بهذه المجموعات وإعادة دمج مقاتليها* السابقين*، والذي كانوا في الغالب مزارعين* خسروا* أراضيهم*، حيث تقوم الحكومة الكولومبية ببرامج «مقايضة» السلاح بفرص عمل أو أراض زراعية. هذه البرامج قدمت للمقاتلين* السابقين* فرص عمل وتعليم مقابل تسليم أسلحتهم* وأعطتهم* الفرصة لبدء حياة جديدة ومختلفة.

        السلاح العشوائي ليس الملف الوحيد ذي الصلة هنا، لكنه الأول نظراً لضرورة وقف الانتهاكات قبل البدء بمعالجتها، وبالتوازي معه، يوجد ملفات أخرى سنتناولها في الجزء الثاني من هذا المقال، وعلى رأسها ملف المفقودين وكشف المصير، كما سنكمل التعمّق في تحديات المستوى الثالث، علّ هذا يُسهم في توضيح أُطر يمكن البدء منها الآن، وفوراً، لضمان مستقبل خالٍ من العنف في سوريا.

 مصطفى حايد: ناشط حقوقي في مجال حقوق الإنسان والمُساءلة والعدالة الانتقالية. عمل كاستشاري دولي مع هيومن رايتس ووتش ومكتب المستشار الخاص المعني بمنع الإبادة الجماعية ومسؤولية الحماية. كتب دليلاً لتدريب المدربين، وحَرَّرَ كتباً وتقارير خاصة بالعدالة الانتقالية منذ العام 2012.

——————————

تحديات في تنفيذ عدالة انتقالية في سوريا (2/2)/ مصطفى حايد

الالتفات إلى الوراء (3)

25-03-2025

        ملاحظة الكاتب: تم استخدام صيغة المذكر لسهولة الكتابة والقراءة، لذا أود التأكيد على أن المحتوى يشير للتنوع الجندري والجنساني الذي تشملها التعابير المستخدمة في هذا المقال.

        *****

        ناقشنا في الجزء الأول صعوبات المستوى الأول وجزء من المستوى الثاني. مقالتنا اليوم ستتابع نقاش تحديات المستوى الثاني والثالث.

        نحن نعرفُ الآن أن العدالة الانتقالية ليست عملية بسيطة أو مباشرة، وليست فورية أو قصيرة الأمد، ولا يمكن احتكارها أو الوصاية عليها من قبل الدولة فقط، أو من فئة واحدة ومحددة في المجتمع، إنما هي عملية متكاملة وشاملة وشفافة.

        هذه العملية تتطلّب مواجهة تحديات معقدة تتوزع على ثلاث مستويات أساسية: صعوبات متعلّقة بتخطيط وتنفيذ العملية نفسها والجهة المنفذة لها، وتلك المتعلّقة بالملفات التي ستعمل على معالجتها، وصعوبات تتعلّق بالجهات المستهدفة سواء على مستوى الأفراد أو المجموعات أو المجتمعات.

        2- صعوبات متعلّقة بالملفات التي ستتناولها العدالة الانتقالية:

        حين فُتحت السجون، اكتشفت الكثير من العائلات أن أحبابَها كانوا أحياء، رغم استلامهم لشهادات وفاة. وآخرون كانوا يرسلون الأموال والطعام واللباس لأحباب ظنوا أنهم أحياء لسنوات، لكن تبين عكس ذلك. وسواء عُرِف مصير بعض المختفين أم لا، ما زال أغلبهم بلا رفات، وحتى الرفات التي يتم العثور عليها، من الصعب الآن التعرف على هويتها والجهة المسؤولة عن قتلها.

        وهنا نعود لأهمية الوثائق ودورها في تحديد هويات المخفيين والجناة المسؤولين عن هذه الجرائم. فكما شاهد العديد منا، هناك الكثير من الجثث التي تحمل أرقاماً، وفَهمُ النظام الخاص بهذه الأرقام قد يكون الخطوة الأولى نحو تحديد هويات أصحاب الرفات، والفروع المسؤولة عن تغييبها وتعذيبها وقتلها.

        سيحتاجُ هذا الملف لسنوات من العمل وأيضاً الخبرات التي لا تتوفر، للأسف، حتى الآن في سوريا. وحتى تتم معالجة هذا الملف نحن بحاجة ملحة إلى العمل على جمع وحفظ الوثائق والأدلة، وأيضاً حماية المقابر الجماعية والقبور والرفات وأجزائها المتناثرة في أماكن كثيرة ومكشوفة، إلى درجة أن الأطفال والكلاب تلعب بها.

        تحديدُ مصير الأشخاص المفقودين ومكان وجودهم يُعدُّ من أولويات عملية العدالة الانتقالية. يشكل هذا الملف أحد أكبر الجراح والمآسي في الصراع السوري. هناك عشرات الآلاف من الأشخاص مجهولي المصير منذ عام 2011؛ بعضهم اعتقلته جهات حكومية مختلفة وأخرى موالية لها، وآخرون اختطفتهم داعش أو فصائل عسكرية مختلفة وحركات جهادية متعددة في مختلف المناطق السورية التي كانت خارج سيطرة نظام الأسد. كما اختُطف أو قُتل بعضهم على يد عصابات جريمة منظمة وعشوائية، وآخرون اختفوا بعد أن عبروا حدود البلاد من جهاتها المختلفة.

        تجربة لبنان في هذا الصعيد غير مبشرة أبداً، ولا نريد أن نرى تجربة مشابهة في سوريا، بحيث يبقى هذا الملف مفتوحاً لعقود دون تحديد مصير مفقودينا، ودون معرفة المسؤولين عن اختفائهم ومحاسبتهم.

        ومن المهم أيضاً التأكيد على عدم استخراج أي رفات الآن، لأن المكان، كما هو، يعتبر جزءاً أساسياً من الأدلة، ويقدم معطيات كثيرة تساعد في تحديد سياق ما حدث، وكشف الهوية وتحديد الجناة، إضافة إلى عدم توفر الخبرات اللازمة لاستخراج الرفاة بالطريقة السليمة، كما لا توجد أماكن لحفظها وتأمينها. لكن للأسف، هناك أخطاء كثيرة على هذا الصعيد ترتكبها منظمات مجتمع مدني وجهات إعلامية، وتترتّب عليها أضرار لا يمكن إصلاحها.

        تمثل العدالة الانتقالية مفهوماً أوسع بكثير من العدالة الجنائية. فالمساءلة الجنائية الفردية تلعب دوراً رئيسياً في عملية العدالة الانتقالية، لكن جوانب أخرى من المساءلة تعدُّ أيضاً عوامل حاسمة لبلوغ الأهداف الأوسع لهذه العملية. من هذا المنطلق يمكننا فهم الصعوبات الإضافية للتعامل مع هذه الملفات ضمن عملية العدالة الانتقالية، إذ سيواجه المحقّقون والقضاة والمحاكم قضايا جنائية غير اعتيادية، وجرائم كبرى لم يُعمل على مثيلاتها من قبل.

        هناك ثلاث فئات رئيسية من الجرائم المصنفة بموجب القانون الدولي: جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. ولكننا في هذا المقال سنستعرضُ نوعين من الجرائم الكبرى فقط، واللذين سنتعامل معهما ضمن هذه العملية: جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

        لكي تصنّف الجريمة على أنها جريمة حرب، يجب إثبات مجموعتين من العناصر:

        أولاً: وجود نزاع مسلح، أي حرب.

        ثانياً: أن يكون الجرم أحد الأفعال المحظورة الواردة في المادة (8) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ومنها: استهداف المدنيين أو الأهداف المدنية عمداً، استخدام أسلحة محظورة، تجنيد الأطفال أو تطويعهم، الاغتصاب، التعذيب وإساءة معاملة الأسرى… إلخ.

        ومن أجل إثبات المسؤولية الجنائية الفردية فور تأكيد هذين العنصرين، يجب إظهار أن الجاني كان على علم بأن الفعل المرتكب وقع ضمن سياق الصراع المسلح، أي أنه لم يكن حادثاً عرضياً منعزلاً.

        أما الجرائم ضد الإنسانية، فتعني أي فعل من الأفعال المحظورة الواردة في المادة (7) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، عند ارتكابها في إطار هجوم واسع النطاق، أو ممنهج موجّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، وتتضمن مثل هذه الأفعال: القتل العمد، الإبادة، الاغتصاب، الإبعاد القسري للسكان مثل التهجير، التعذيب، اضطهاد أي جماعة لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس، والإخفاء القسري للأشخاص.

        ويجب أن يتحقق في الفعل الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية العناصر الأربعة التالية:

            وقوع هجوم ضد مجموعة من السكان المدنيين.

            أن يكون هذا الهجوم واسع النطاق أو ممنهجاً.

            ارتكاب الفعل الجرمي كجزء من هذا الهجوم.

            أن يكون المتهم أو الجاني على علم بالسياق الأوسع الذي ارتُكب فيه هذا الفعل الجرمي.

        وهنا لا يوجد أي شرط لوجود نزاع مسلح أو حرب، فالقانون الذي يحظر الجرائم ضد الإنسانية ينطبق في أوقات السلم كما في أوقات الحرب، وبالتالي، يمكن لبعض جرائم الحرب أن تصنف أيضاً كجرائم ضد الإنسانية. كما أنه ليس من الضروري أن يكون المتهم عضواً في القوات المسلحة لكي يتحمل المسؤولية، إذ يمكن للمدنيين أيضاً أن يكونوا مسؤولين جنائياً عن انتهاكات القانون الجنائي الدولي. ولا تعفي المتهم حقيقة أنه كان يتصرف بناءً على أوامر من الحكومة أو الرئيس من المسؤولية الفردية الجنائية، على الرغم من أن ذلك يمكن أن يُؤخَذ في الاعتبار وفقاً للمبادئ العامة للقانون في تخفيف العقوبة. ووفقاً لهذه المبادئ الخاصة بالمسؤولية، إذا أُمر قائد بتنفيذ أفعال معينة، فإنه يحمل المسؤولية المباشرة عن تلك الأفعال. ومن المهم أيضاً أن نذكر أن القانون الجنائي الدولي يَفرض ما يُعرَف باسم «مسؤولية القيادة» (Chain of Command)، وهو المبدأ الذي يكون فيه الرئيس مسؤولاً عن أفعال مرؤوسيه ممن يعملون تحت قيادته.

        هناك تشعبات أخرى تتعلق بالمسؤولية المباشرة وغير المباشرة والجرم المشترك لن نخوض فيها هنا، لكن لا بدّ أن نذكر أن هذه الجرائم، أي جريمة الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لا تسقط بالتقادم الزمني، ويمكن ملاحقة مرتكبيها قضائياً حتى خارج بلادهم، وذلك باستخدام آليات قضائية دولية محددة، والغاية من كل هذا الحديث هي توضيح أن الجرائم الكبرى تتطلب توثيقاً وتحقيقاً أكثر تعقيداً من القضايا الجنائية الاعتيادية، مما يضيف بعداً أعمق للتحديات على هذا المستوى.

        من الملفات الأخرى المهمة، والتي يجب تسليط الضوء عليها، هي ملفات الجرائم الثقافية والاقتصادية والسياسية، والتي تعود جذورها إلى ما قبل 2011. أبرز هذه الجرائم ارتُكبت بحق المكون الكردي في سوريا، حيث تعرّض الكرد السوريون لعقود طويلة من القمع والحرمان من التحدث بلغتهم بحرية، وإطلاق الأسماء الكردية على أولادهم وبناتهم، وممارسة بعض الطقوس الاجتماعية… إلخ. على سبيل المثال، لدي صديق اسمه الرسمي، وفقاً لبطاقته الشخصية، «جمعة»، في حين أن اسمه المتعارف عليه بين عائلته وأصدقائه الكرد هو «جوان»، إذ لم يُسمح لعائلته بتسجيله رسمياً باسم جوان، وهذه حالة تنطبق على الآلاف من الكرد السوريين. بالإضافة إلى ذلك، هناك عشرات الآلاف ممن لم يتم تسجيلهم رسمياً، ويعتبرون «غير مجنسين» أو بلا جنسية (كنت قد كتبت عن هذا الملف عام 2005 في مجلة «البوصلة»، كما نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً مفصلاً عن هذا الموضوع في العام نفسه).

        إلى جانب ذلك، تبنّى النظام السوري، على مدى عقود، سياسات اقتصادية تقشفية في مناطق عيش الكرد، وتحديداً تلك التي يشكلون فيها أغلبية، كما فرض قيوداً صارمة ومنعَ كل ما يتعلق بثقافتهم وأعيادهم القومية. هذا الملف يعتبر من أكثر القضايا إثارة للانقسامات بين السوريين، وسيشكّل تحدياً بالغاً أثناء التعامل معه.

        3- صعوبات تتعلق بالجهات المستهدفة:

        أهم تحديات هذا المستوى تتمثل في الوعي المحدود بعملية العدالة الانتقالية وأهميتها وتعقيداتها، إضافة إلى الانقسامات المجتمعية. وتنعكس نتائج هذه التحديات في السرديات المختلفة لما حدث في سوريا منذ 2011، والمفاضلة والكيل بمكيالين، وكذلك تنميط الضحايا والجناة، إلى جانب للشائعات والتضليل الإعلامي.

        في مجتمع متنوع مثل سوريا، تختلف مفاهيم وأولويات العدالة بشكل كبير بين المجتمعات والمدن المختلفة؛ ففي المناطق التي عانت من العقاب الجماعي، كالحصار والقصف الجوي، قد تكون الأولوية بالنسبة إلى سكانها هي محاكمة المسؤولين عن هذه الهجمات، أما في المناطق التي عانت تاريخياً من التمييز والحرمان، فقد تكون الأولوية هي الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية. وفي مناطق أخرى، قد يرى البعض أن الأولوية هي الحفاظ على الاستقرار وعدم فتح ملفات الماضي، خوفاً من الانتقام الفردي وانتشار العنف الأهلي، بينما في مناطق أخرى قد تكون الأولوية هي إعادة ترميم المنازل والعودة إليها، والتعويض وجبر الضرر.

        ولا يمكننا القول إن بعض هذه الأولويات صحيح وبعضها الآخر خاطئ، أو بعضها ملحٌّ بينما الآخر يمكن أن ينتظر. لذلك، من المهم إجراء مشاورات مجتمعية مختلفة لفهم وجهات النظر المختلفة، والعمل معاً على تخطيط عملية تحترم هذه الاختلافات وتأخذها بالحسبان، من خلال نهج متكامل وتشاركي.

        يضاف الى ما سبق تباينُ السرديات عما حصل في سوريا عموماً، وفي كل منطقة على وجه الخصوص، وكذلك تباين الروايات حول كيف تطورت الأمور منذ عام 2011 إلى اليوم، وكيفية النظر إلى القوى السياسية والعسكرية والدينية والإثنية المختلفة.

        ما حدث في الساحل السوري في آذار (مارس) ٢٠٢٥ من مجازر وانتهاكات يُبيّن حجم الانقسام والاختلاف بين السوريين من كافة المناطق والمكونات والإيديولوجيات في رؤيتهم لما حدث، وفي مسألة مُساءلة المسؤولين عن ذلك. فالسوريون اليوم أيضاً منقسمون حول من هو «القتيل» ومن هو «الشهيد»، ومن هم «الأبطال» ومن هم «المجرمون»، ومن هم «الضحايا» ومن هم «الجناة». وسيختلفون كذلك حول هذه هذه الفقرة ضمن المقال وسيهاجمُها كثيرون ممّن سيعتبرون أن هذا النقاش مجحف بحق «الضحايا» وبحق ما حصل في سوريا، لأنه موضوع «واضح وغير قابل للنقاش أصلاً».

        بعض هذه الاختلافات والنقاشات ستكون سلمية وصحية، ولكن بعضها أيضاً سيكون عنيفاً وقد يصبح دموياً، ومن هنا تأتي أهمية تناول هذا الملف ومعالجته. أحد خبراء العدالة الانتقالية في المانيا ذكر، خلال أحد اللقاءات، أن أهم خطوة اتُّبعت في ألمانيا الموحدة بعد هدم جدار برلين الفاصل بين ألمانيا الشرقية والغربية، كانت الاتفاق على الحكاية أو السردية حول «قصة ما حدث». وسيكون هذا أيضاً من أهم الخطوات الأولى التي يجب أن نتفق عليها في سوريا، ولن يكون ذلك ممكناً دون حوارات مجتمعية كثيرة، وأحياناً قاسية.

        هذا الانقسام ليس جديداً أو حكراً على الوضع في سوريا، ففي رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994، اختلفت روايات الضحايا والجناة حول «من بدأ العنف أولاً». الحل الذي اتبعته رواندا كان إنشاء برامج حوارية وتوعوية في المدارس وأماكن العبادة لتعريف الجميع بمفهوم العدالة المشتركة، وساعدت هذه البرامج في بناء لغة مشتركة بين الضحايا والجناة. في لبنان أيضاً تتباين الروايات حول ما حدث خلال الحرب الأهلية، وإلى اليوم لم يتم الاتفاق على سردية مشتركة، وبسبب ذلك، لا يتم تدريس هذه الفترة من تاريخ الى الآن.

        في سوريا، نحن بحاجة ماسة لبرامج استشارية وتوعوية وحوارات مجتمعية تُسهم في بناء لغة وسرديات مشتركة. يمكن البدء بمبادرات محلية (وبعضها قد بدأ بالفعل، مثل مجموعة السلم الأهلي في حمص وبعض المبادرات المدنية في طرطوس) تنطلق من نقاشات مجتمعية بين الأحياء، ثم تتوسع لتشمل أحياء أخرى ضمن المنطقة. ثم يمكن لهذه المبادرات، بعد أن أصبحت تمثل مختلف المناطق، أن تبدأ بلقاءات تنقاشُ وتحاججُ خلالها سلمياً، بحيث تنتهي بحوارات على المستوى الوطني وفق نهج تصاعدي، من قاعدة الهرم إلى قمته.

        ومن المهم هنا إدراك أن مثل هذه الحوارات تتطلب ميسرين ومديرين للحوار يتمتعون بمهارات اجتماعية وحوارية عالية، مع اطلاع واسع وحرص على مبدأ عدم الضرر وضمان السلامة. فرغم أهمية هذه والحاجة الماسة إليها، قد تنحرف في الاتجاه الخاطئ إذا لم تدار بحكمة، مما قد يحولها إلى تجمعات تحريضية مليئة بالكراهية والطائفية والانقسامات، بدلاً من تكون جامعة. وسيكون التوقيت، وضمان توفير مساحات آمنة، والاعتماد على مهارات خاصة في إدارة الحوار وظروفه، عوامل بالغة الأهمية لضمان نجاح هذه العملية.

        بُعدٌ آخر مهم ضمن هذا المستوى، لكنه يمتد للمستويات الأخرى أيضاً، وهو موضوع الشائعات والتضليل الإعلامي. أغلبنا على اطلاع على حجم الشائعات والتضليل والمعلومات المغلوطة منذ عام 2011، لكننا اليوم، وفي المستقبل القريب أيضاً، نشهد وتيرة متزايدة من الشائعات الممنهجة، إضافة إلى التضليل المتعمّد والفيديوهات والأخبار المزيفة التي تهدف إلى نشر الكراهية والتحريض على العنف.

        في أغلب الحروب والصراعات، يتم الربط بين العفو وبناء السلام، وليس بين العدالة وبناء السلام، وينبعُ ذلك من مبدأ أن معظم، إن لم يكن جميع، الأطراف المتصارعة ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وهي نفسها التي تجلس على طاولة المفاوضات أو يفوز أحدها في النهاية، سواء كان طرفاً واحداً أو تكتلاً من الأطراف، ولكل من هذه الأطراف «إعلامٌ حربيٌّ» يدور في فلكها، ويملك موارد بشرية ومادية لا يستهان بها.

        هذه الشبكات الإعلامية، إلى جانب أخرى فردية وعشوائية وغير ممنهجة، تنشطُ دائماً قرب الأحداث الكبرى أو المفصلية، وغالباً ما يكون يكون السلم المجتمعي والعدالة والمساءلة من أبرز ضحاياها أو مستهدفيها. لذلك، يُعدُّ الإعلام المستقل والاحترافي ضرورة لا غنى عنها، ليس فقط في مراحل التحول والانتقال، بل أيضاً في الحد من هذه التحديات وتوفير معلومات ذات مصداقية.

        إن مراجعة سريعة لكل ما تم ذكره في الجزأين الأول والثاني من صعاب، تُبيّن أن القاسم المشترك لمعالجتها يتمثل في إجراء حوارات ومشاورات مجتمعية. حوارات تبدأ ضمن المستويات المحلية الصغيرة على مستوى المناطق والبلدات، ثم تتوسع تدريجياً لتشمل المدن والمحافظات، وصولاً إلى المستوى الوطني الشامل.

        هنالك العديد من التجارب المشابهة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال، حيث أجرت دول مثل رواندا وسيراليون وأفغانستان مشاورات وطنية واسعة النطاق، نتج عنها بناء استراتيجيات وبرامج وطنية ساعدت في تشكيل عملية عدالة انتقالية تشاركية وفعّالة. المجتمع المدني السوري يمتلك الكثير من الخبرات للبدء بهذه العملية، ويجب عليه اليوم قبل الغد المباشرة بها في مختلف المناطق السورية.

موقع الجمهورية،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى