أبحاث

الثورات ونقاشٌ في العلاقة بين الوطنية والقومية/ عمار ديوب

تنتمي سورية، بأغلبيتها، إلى الأمة العربية، وتقطنها قوميات أخرى. الانتماء العربي حَمَلتهُ الحركات القومية قبل ظهور حزب البعث، ولم يتفرّد به، وما زال موضوعاً يتجادل فيه السوريون؛ فكان انتماءً مناهضاً للعثمانية أولاً، وثانياً للفرنسيين، وثالثاً للصهيونية. هناك جدل سيئ للغاية، لا يناقِش المسألة وفقاً للأصل التاريخي، وتطوراتها في الدولة العربية الإسلامية، وما تلا ذلك، وكهوية لأغلبية السوريين والعرب. وبغض النظر عن جعل النظام للقومية أيديولوجيا له، يُناقشها، الجدل، وفقاً للاعتبار الأخير، وهذا يدفع إلى رفض القضية من أصلها، فهي هو وهو هي، وهنا يقع الخطأ.

“البعث” والدولة القومية

صادر النظام السياسي في سورية المستند إلى “البعث” القومية، والقضية الفلسطينية، وباسمها عَزَّزَ تسلطيته، وأغلق بوابات الحياة السياسية بإحكام. هذا ما حدث منذ السبعينيات، ولكن للمسألة بعدا آخر، يتجاوز تبجيل الأنظمة المسألة القومية. يتعلق هذا البعد بإشكالية عدم تشكيل العرب دولتهم القومية كأمة، وضرورة ذلك. ارتبط عدم التشكيل باتفاقية سايكس بيكو التي قسَّمت بلاد الشام التي كانت بمثابة وحدة جغرافية وسياسية. وطبعاً هناك ارتباط تاريخي بين الشام ومصر، وبالتأكيد الخليج العربي والمغرب. الاستعمار الحديث في الشرق العربي والمغرب اصطنع للعرب حدودهم ودولهم “القُطرية”، وترسّخت بفعله وبتأثير مصالح فئات سياسية سيطرت بزمنه وفي الفترات اللاحقة على الاستقلال، وما تزال مصالح الطبقات الحاكمة الأكثر رفضاً لفكرة الوحدة. الطبقات هذه، وعلى اختلاف أنظمتها السياسية، ترفض فكرة الوحدة، ولكنها تتدخل في الدول الأخرى كلما أصبحت ضعيفة وفي وضعٍ متأزّم. في عشرية الثورات العربية، تأثرت الدول العربية بعضها ببعض، حيث كانت دول الخليج الأكثر تدخلية، وقبلها النظام السوري في لبنان، وغزو الجيش العراقي الكويت عام 1990. وهناك أشكال لا حصر لها من التدخل، وتتم باسم إرثٍ تاريخيٍّ، أو لغايات استراتيجية. وبسبب قوة الدول المتدخلة؛ للمسألة الوطنية بعد عربي، وهذا ما لا يمكن تهميشه، بل ومن الخطأ ذلك، سيما هو إحدى ضرورات التاريخ لنهوض العرب.

أغلبية التيارات الفكرية والسياسية من قومية وأممية وإسلامية كانت تُغلِب رؤاها الفوق قطرية، وتتجاهل حقوق الأفراد في الدول القُطرية “الوطنية”. وهذه الأيديولوجيات، في العموم، تؤمن بالطبقة أو الدين أو القومية. وبالتالي، ليس الفرد منطلقها، ومنظومة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة غائبة عنها. الحاضر الأقوى لديها هو البحث عن طريق الوصول إلى السلطة (أو التحالف معها)، والسيطرة على جمهور تلك الثلاثية، وهذه حالةٌ كانت تتصف بها البلاد الكولونيالية بعامة. كان وجود فئات منادية بالحرّيات وحقوق الإنسان والمواطنة هامشياً بامتياز في فترة ما بعد الاستقلال، وتحديداً بعد أن وصلت بعض الحركات القومية إلى السلطة. وبالتالي، لم تتشكل أمة المواطنين، وكذلك لم تستطع الأمة الإسلامية أو القومية أو الأممية أن تكون بديلاً. دفع ذلك فئاتٍ كثيرة، ومع إخفاقات كبرى للدولة القُطرية بعامةٍ، وتحديداً الدول التي حكمتها الحركات القومية، للعودة بأفكارها نحو الداخل، والبدء بالنضال من أجل المواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية. ولاحقاً بدأ الكلام عن ضرورة بناء الدولة الوطنية، والابتعاد عن أية أيديولوجيات فوق وطنية. النقاش الأخير لم ينته بعد، بل وتضاعف منذ تسعينيات القرن الماضي من الأيديولوجية الليبرالية التي تجد أن كل مشكلات العرب وتأخرهم متعلقٌ بالتمسّك بالمسألة القومية، وتؤكّد ضرورة الانخراط بالنظام العالمي، والالتفات بشكل حاسم نحو قضايا الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان والتنوير والعلمنة وسواه.

ليبراليات عربية

شكل سقوط الاتحاد السوفييتي، وإفلاس الأنظمة “القومية”، وتحولها إلى تسلطيّة، وتطورات الواقع الذي تحكمه وطرحه ضرورة الخلاص من الأدلجة والتفكير بالمصالح والانفتاح على الخارج؛ شكل ذلك كله الأرض الخصبة للتيارات الليبرالية، لتطرح نفسها بديلاً، سيما أن العالم يتجه نحو ليبرالية جديدة منتصرة على “الاشتراكية”. في هذه اللحظة، تكاثرت التيارات الليبرالية، وحدث نزوحٌ يساريٌّ واسع نحوها، بل تلبرل اليسار العربي بأغلبيته، وبذلك توهم من جديد أن الحل الجذري لكل مشكلات المنطقة يكمن في الليبرالية، وصار لا بد من التخلص من الماركسية والاشتراكية التي كانت الحل الجذري من قبل. طبعاً هناك يسار عربي تلبرل قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، وصار يُعرِّف نفسه بدلالة الديمقراطية، والأدقّ بالليبرالية؛ فالديمقراطية بأساسها شكل للحكم، وكل التطورات اللاحقة عليها لا تخرجها عن ذلك التعريف.

أصبح حديث المواطنة وحقوق الإنسان بدءاً من تسعينيات القرن المنصرم حديث الساعة، والدولة الوطنية هي هدف التيارات الليبرالية بعكس الحركات القومية، أن فلسطين أولاً. وبخصوص فلسطين، لا بد من نظرة واقعية بالنسبة لها، تنطلق من التخلص منها، وأن الفلسطينيين هم أهل قضيتهم. وهناك إسرائيل التي أصبحت إحدى دول منطقتنا. أجرى النظام السوري إصلاحاً ليبرالياً في الاقتصاد سماه اقتصاد السوق الاجتماعي، وأصدر مئات المراسيم الرئاسية بقصد تحويل الدولة من التوجهات العامة إلى سيادة القطاع الخاص ولبرلة السوق. وبالتالي، يجب الانشغال بالداخل “ألوطني”، وشطب القومي، و”كبّ” كل النقاش عن إسرائيل. تطور هذا النقاش، وصارت له غلبة مع الإخفاقات أعلاه. وضمن ذلك دخلت القوى اليسارية والقومية بإحباط شديد، لم تخرج منه بعد. وفي هذا المناخ، التقت مصالح الأنظمة والمعارضات الليبرالية في التحوّل الليبرالي، مع مصالح القوى النيو ليبرالية والعولمة، وساد هذا الوضع بعد التسعينات، وإلى ما قبل الثورات العربية الجديدة نهاية 2010 وبعده.

أنتجت أنظمة الحكم السائرة نحو اللبرلة والانفتاح، وتسيّد الليبرالية في الأوساط المعارضة عربياً وسورياً، ليبرالية وطنيّة مشوّهة، تجد نفسها جزءا من نظام عالمي، ولا تجد خلاصاً لمجتمعاتنا إلّا عبر الوحدة العالمية الليبرالية، ويتأتى على هذا نسف للأفكار التي تلهج بضرورة تشكل الدولة الأمة، أو تتحدّث عن مشروعٍ قومي يسعى إلى تلك الدولة. هنا إشكالية كبرى، تتعلق بكيفية النهوض بالدول الوطنية “القُطرية”، فهل هذا ممكن في ظل سيادة الليبرالية الجديدة، وهل تسمح الأخيرة بذلك من أصله؟ يؤدي فهم الوضع العالمي إلى فهم حاجات المحلي “الوطني فعلاً”؛ العالمي هذا ينشغل بتوحيد العالم في إطار حاجات السوق، والسيطرة على دول العالم المتخلّف، ولا يعنيه بحالٍ تصنيع الأطراف أو دمجها به ضمن السوق العالمي الذي تشكله بوصفه مناطق جغرافية للاستثمار وللصراع مع الدول العظمى. وبالتالي، هي تبتغي تفكيك الاقتصاديات والبنية الاجتماعية والنظام الديمقراطي، أو منع تشكله. هذا ما فعلته أميركا بالعراق وبأفغانستان، وهو ما فعلته روسيا لاحقاً بالجمهوريات التي تبسط سيطرتها عليها وبسورية راهناً، وهذا حال الصين التي تتجه نحو سيطرةٍ عالميةٍ أكبر. وإذا دققنا بهذا الجانب، تصبح مهمة القيام والنهوض بالبلدان المتخلفة دقيقة، فكيف تتطور في عالمٍ تسيطر عليه الليبرالية الجديدة، وسميت متوحشة، وهذه لا يمكنها دعم الديمقراطيات. تناسبُ معها الأنظمة التسلطية، مع الإمعان في تفكيك المجتمعات، ليسهل بسط السيطرة عليها. أصبحت البلدان العربية بعد الثورات ودفع الأخيرة نحو خيارات خاطئة أكثر تبعية لأميركا وللاتحاد الأوروبي وللصين ولروسيا، وللدول الإقليمية التي تعاني من سياسات الدول الأكثر تقدّماً، أقصد تركيا وإيران.

نقاشٌ في الوطنية

يحاجج بعضهم أن سياسات الوطنية السورية أو المصرية أو الجزائرية وسواها ليست كالسياسات الليبرالية الجديدة؛ فهي في أغلبيتها ليبرالية، ولكنها ليست كالجديدة. طبعاً هذا من الأوهام، ولنفترض أنها ليست كالجديدة، وتُطعِم سياساتها بالحديث عن العدالة الاجتماعية ورفع الضرائب على الشركات الكبرى، إلا أن رؤيتها العامة، من ناحية ثانية، حاسمة لصالح التحوّل الليبرالي وحق الملكية الخاصة وتهميش دور الدولة. تجد القوى الليبرالية أن الطبقة البرجوازية وحدها القادرة على تطوير الاقتصاد وتلبية حاجات كل الطبقات، وأن على الطبقات المفقرة أن تقبل بأنها محض قوة عملٍ .. تُصوّر القوى الليبرالية الاقتصادية نفسها بأنها تتمتع بأخلاقٍ كافية، فهي تبتغي تعزيز حرية السوق، وضمان حقوق الطبقات الفقيرة من ناحية أخرى. هذا عبثٌ كامل؛ فقانون السوق السائد في الدول العظمى كلّيٌّ، فكيف بدولٍ لا توجد فيها موانع أو قوانين كابحة للاستغلال، بل وأصبحت مفكّكة بالمعنى الاجتماعي والسياسي، وأغلبية قواها السياسية ما زالت استبدادية، بما فيها الليبرالية. المقصد هنا، لا يمكن تعزيز البعد الوطني للقوى السياسية على أسسٍ ليبرالية، وكذلك لا يمكن نشوء قوى وطنية في بلادنا من دون الاستناد إلى قيم الفرد والمواطنة وحقوق الإنسان، ونستثني حق الملكية الكبيرة. هذا الإشكال يواجه الليبرالية العربية، ويواجه القوى السياسية على اختلاف أشكالها.

التقت توجهات الأنظمة المستبدة في ضرورة اللبرلة مع اللبرلة السياسية. وإذا كانت الأنظمة تؤكّد على الاقتصادية منها، فإن الليبرالية السياسية تحاول الدفاع عن الحريات والديمقراطية والمواطنة، وإن كانت تنطلق من التسليم بقدرة الطبقة البرجوازية على تطوير مجتمعاتنا. الافتراق والالتقاء السابقان يكملان بعضهما، ويُدخلان سورية وسواها في إطار الليبرالية العالمية. ما لم يكن يُحسب له حساب أن تتحرّك الشعوب العربية رافضة الليبرالية الاقتصادية بشكلٍ رئيسيٍ، وراغبة في الليبرالية السياسية، ولكن بإطار يحقّق العدالة الاجتماعية والخبز والعمل. أي لم تجد الثورات أفكاراً سوى التي سادت منذ التسعينيات، وتحرّكت ثوراتها عبرها. وطبعاً، لم تستطع القوى اليسارية أن تقدّم بديلاً، أو رؤية أو أفكارا متماسكة، وكذلك غابت تلك القوى في إطار تفسّح اليسار العالمي، وانحياز بقاياه المتفسّخة إلى الأنظمة وضد الثورات الشعبية.

هناك مشكلة كبرى، وتكمن في فصم كل علاقة بين الوطنية والقومية، وطبعاً فصم كل علاقة بين الوطنية والطبقية، حيث تقدّم الليبرالية السياسية “الوطنية” باعتبارها تمثل الكل الاجتماعي، والقومية محض أيديولوجيا، ولم تعد صالحةً للتقدّم، ومفيدة للأنظمة فقط. وترى القوى الليبرالية الرؤية الطبقية محض أيديولوجيا وثرثرة، ولا تخدم التطوّر. رؤية الليبرالية العربية أقرب إلى الأيديولوجيا والعقيدة الإيمانية، وضمن أوهامها أن الاعتماد عليها سيشكل الدولة والهوية الوطنية، وندخل التاريخ، ونسبق الأمم التي تجاوزتنا منذ قرون.

لا يستقيم الوضع في سورية أو أية دولة عربية خارج ذاتها وخارج العالم العربي وبالطبع ضمن العالم؛ ففي عصر الليبرالية والسوق المفتوح لصالح الدول العظمى، لا يمكن المواجهة اعتماداً على أفكار بسيطة بديلة عن التركيب المُعقد المشار إليه، الطبقي والوطني والقومي، وكذلك العالمي، وأقصد إقامة صلات مع حركات عالمية لها الاهتمامات ذاتها، ترفع من شأن التحرّر والحريات والمساواة بين أمم العالم.

تهميش المسألة القومية فضاءً للدولة الوطنية ليس صحيحاً، وكذلك ليس صحيحاً تغييب البعد الطبقي عن وضع مجتمعاتنا التي ازداد فيها الانقسام الطبقي، وأصبحت معالم طبقات ثرية واضحة للعيان في هذا الدولة أو تلك، بينما اتسعت الطبقات المهمّشة. أمّا بعض شرائح الطبقات الوسطى فاندثرت، وبعضها الأكثر ثراءً لا يزال يحاول الاستمرار والعمل وإنتاج الأفكار.

الثورات العربية

كانت الثورة السورية، في بعض وجوهها، أثراً للثورات العربية، وتأثرت بالأخيرة كل الدول العربية، وهناك من يؤكّد أن تأثير الثورة المصرية تعدّى عالمنا العربي إلى العالم. الجانب العربي ظاهر فيها إذاً، ظاهرٌ من دون أدلجة، سيما أن العرب كرهوا الأدلجة الرخيصة التي امتازت بها الأنظمة، ولكن تتالي الثورات وترابطها، وتكرار ذلك منذ أواخر العام 2010، يقول بضرورة التفكير الجادّ بها، وأن المسألة الوطنية لا تكفي بذاتها لفهم “عدوى” الثورات، وحاجات الشعوب إلى التطوّر ومواجهة الليبرالية العالمية، والهجوم الشرس للدول الإقليمية أو العالمية. لندقّق في تموضع كل الدول المتقدّمة في الوضع السوري وكذلك الليبي وأيضا اليمني، خصوصا، وهناك التدخل في كل شؤون عالمنا العربي. إذاً هناك علاقة بين الوطني والعالمي، فكيف السبيل إلى علاقةٍ كونيةٍ تعزّز من الوطنية والترابط مع العالم، ورفض السياسات الليبرالية الجديدة، ومنها ليبراليتنا العربية معتنقة السياسات ذاتها.

لم يكن علوَّ المسألة الوطنية واللبرلة في الأوساط الثورية وحده المدخل السليم للأفكار الثورية، حيث فشلت فشلاً ذريعاً، بعدما اعتُمِدت بعد 2011. تقول أحوال الدول العربية، ومنها تونس، إن تلك الأفكار، إضافة إلى مشاريع الإسلام السياسي، لم تُخرج البلدان العربية من أزماتها، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبالتالي هناك ضرورة لتفكيك أسباب الفشل الثوري، والإشاحة كليا عن الأفكار “السحرية”، كالقول بالوطنية حلا جذريّا، أو إعادة القول بالقومية أو الإسلام السياسي أو اليسارية كما كانت؛ كل هذه المشاريع قَدمت نفسها بديلا جذريّا، والآن تتقدم الليبرالية بالإطار ذاته، ولهذا فشلت واقعياً بعد ثورات 2011. ولا تُختصر أسباب الفشل بأثر الاستبداد أو العولمة أو إحدى الأيديولوجيات. ونتساءل هنا، وما هو حال تونس؟ ألم تقع فريسة الخلافات “العقائدية” بين تياراتها السياسية، وتَفشل في الخروج من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية، والتي كانت جذر ثورتها، والثورات العربية. القضية إذاً تتجاوز الركون لبعض الأفكار الليبرالية وتصوراتها السياسية، والتي لا تتجاوز الوطنية المحلية.

توضيحا أكثر، أصبحت مسألة الوطنية كحيزٍ للصراع الوطني قضية مركزية لبناء الدولة الحديثة، ولكن ذلك غير ممكن التحقق خارج إطار الصراع الطبقي المحلي، والأخير يأخذ أشكالاً لا حصر لها، ومنها الصراع الفكري. يهمّني توسيع دائرة الرؤية الفكرية والسياسية للفاعلين في الوسط السوري والمنشغلين فيه. أكرّر، الوطنية صفة تطلق على كل المنشغلين بالأوضاع العامة، وبعيداً عن التبعية للخارج؛ هي صفة لكل التيارات السياسية ما دامت تعمل في الشأن المحلي، وتبتغي تطويره، وبغض النظر عن الاختلاف مع الآخر السياسي والفكري والثقافي. إذاً، لا أفكار كثيرة ولا مشروع نهوضيا أو جادا حينما نتكلم عن الوطنية بعلاقتها بالليبرالية، وهناك من يُخفي الأخيرة، ويتقدّم بالوطنية وكأنّها البداية والنهاية، وبدونها لا يقوم التطوّر.

العقائدية

مشكلتنا الفكرية الكبرى هي في العقائدية الفكرية أو السياسية، وهناك مشكلة عالمية وتتعلق بالعولمة، الأميركية والصينية خاصة، وهناك التسلطية الروسية، وبالطبع الدول المتقدمة تستفيد من أجواء العولمة لتعزيز مصالحها الداخلية والعالمية. في هذا الوضع العالمي يجب إنتاج الأفكار، والرؤى، والمشاريع، ونقد التيارات الفكرية المغلقة ونقد الثورات والمشاريع السياسية التي تسلطت عليها. وعالمنا العربي، وعلى خلاف إيران وتركيا وإسرائيل، يتطلب مشروعاً ينهض به، ويزاوج بين الوطني والقومي والعالمي، ولا يقيم تعارضاً بينها جميعاً. نهضت أوروبا عبر الطبقة البورجوازية، وتبنّت الليبرالية، ولاحقاً تم تطويرها عبر الديمقراطية، وبسبب نضالات الطبقات العمالية بالتحديد. وحدث تطوّر كبير في دولة الرفاه، بسبب شراكة الطبقات البرجوازية والأحزاب الاشتراكية والنقابات العمالية. هكذا نهضت أوروبا وتطوّرت، وهي ما عليه حالياً. وبغياب الاتحاد السوفييتي وغلبة اللبرلة وصعود الشعبوية، تراجعت دولة الرفاه، وأصبحت تعاني من مشكلاتٍ لها علاقة بضعف الديمقراطية وتراجع الخدمات للطبقات العمالية. وكَشَفَ وباء كورونا عن تلك المشكلات بشكل كبير. ولكن ماذا عنّا؟

أهم حدث في عالمنا العربي أن شعوبه ثارت، وفشل الثورات في إشادة دول وطنية لا يقلّل مما فعلته. لقد هشّمت النظام العربي بشكل كبير، ودفعته إلى مزيدٍ من التبعية، وتَوضح حدود دوره في الإطار الوظيفي لصالح الدول العظمى، وطبيعة مشروعه القائمة على التبعية والفساد والنهب وقمع الشعوب. فشل الثورات في تحقيق أهدافها لا يعني أن إعادة إنتاجٍ الأنظمة ممكناً. هي من دون شك تعيد إنتاج نفسها، ولكن بصورة أضعف من قبل وأكثر تبعيةٍ، وابتعاداً عن الشعوب وحاجاتها. وبالتالي، لا يمكن الصمت من جديد، فالواقع المأزوم يقول بضرورة ذلك. الواقع ثوري بامتياز، ولكن الأفكار شحيحة، وهي مدار نقاشنا، ورفضنا تصنيم الوطنية، وكأنّها بذاتها وليس بالصراعات التي أوضحت بعضها تقوم وتتطور وتصبح واقعة ذات معنى، ومنطلقاً للتطور الوطني أولاً والقومي ثانياً.

المشاريع السياسية

الإكثار من لصق صفة الوطنية على أية قضايا، المجتمع والدولة والسياسة في سورية، لا يشكل هوية ودولة وطنية. الأخيرات هي حصيلة الصراع المجتمعي متعدّد المستويات، وهو واقع الحال، حيث لا واقع فعليا من دون صراعاتٍ مستترة أو علنية أو ملتبسة. فكّك النظام المستبد في سورية البنية الاجتماعية، ورفع من عناصرها الأهلية، فسيّسها، أي جعلها طائفية وعشائرية وقومية ومحلية وأسرية. المعارضة لم تع بدورها خطورة ما فعله النظام منذ السبعينيات. وقبل ذلك أيضاً لم تتشكل دولة مواطنية أو وطنية في تاريخ سورية، وكذلك لم تساهم التيارات السياسية والفكرية بتأصيل الموضوع بشكل كافٍ. يقول مجمل التطور السوري إن سورية تتطلب مشروعات سياسية ديمقراطية، ليبرالية أم يسارية أم إسلامية وسواها كثير. إن توفر مشاريع كهذه يمكن أن يبني دولة مواطنية، ووطنية، ولكن العكس ليس صحيحاً في مجتمعاتنا، حيث الدولة “الكولونيالية” مُشوّهَة، وليست حيادية إزاء الإيديولوجيات أو الأديان أو الأفراد أو الطبقات؛ وبذلك يصير بناء الدولة الحديثة من مهمات المشاريع الآنف ذكرها.

إذاً، الدولة الوطنية لا تولد من العدم، وتولد وتتطوّر بفعل مشاريع تاريخية واثقة بإمكانية التطور المستقل والمعتمد على الذات. عالمنا تحكمه القوى الرأسمالية العولمية. وبالتالي، بناء دولة المواطنين هو المدخل نحو الخارج وليس العكس، وهو المدخل لتأمين حاجات الأفراد والطبقات، وعبره يمكن التنسيق والتشبيك وتوحيد بعض القضايا بين الدول العربية. وتوضح حالة التبعية في الدول العربية، حتى التي لم تشهد ثورات عربية، ضرورة التنسيق أعلاه، فهو وحده ما يكمل النهوض العام وحاجات الشعوب وكذلك حاجات الأنظمة، فتكون مستقلة، ووطنية، وقابلة للتطوّر التاريخي. وهذا يعني أن مسألة الإصلاح العام ضرورة حياتية للأنظمة العربية وللشعوب في آن. وبرفض الأنظمة للإصلاح، يصبح الأخير من مهمّات الشعوب، وحينما ترفض الأنظمة نضالات الشعوب الإصلاحية لا يبقى أمامها إلا الثورات كضرورات حتمية للتطور.

ذكرت الفكرة الأخيرة نظراً إلى التعقيد الواسع في مجتمعاتنا، وللضغوط العالمية. ونظراً إلى تعقّد مستقبل الشعوب العربية، وبالتالي كما نصبو إلى مناقشة بعض الأفكار في نصنا هذا، كذلك نعطي مكاناً للأنظمة العربية، سيما أن تغييرها ليس مسألةً بسيطةً كما ظهر في العشرية الأخيرة. وهذا يعني أن لتغييرها مداخل كثيرة، منها الثورات العربية والإصلاح، وسواهما كثير، حيث أعطتنا تجارب السودان والجزائر والعراق ولبنان في السنوات الأخيرة مداخل جديدة، واستفادت من أخطاء ثورات 2011.

عانى السوريون طويلاً من نظامٍ تسلطيٍّ يمثل شرائح من الطبقة الوسطى، أيديولوجيته القومية والاشتراكية. وشكلت الانقسامات المجتمعية قبل الثورة وبعدها دافعاً لمثقفين سوريين كثر للبحث عن مشروعٍ جامعٍ، للخروج من حالة الانقسامات تلك، والتخلص من إرث التسلطيّة. المشكلة هنا بالتحديد؛ فالقضية ليست نظرية فقط، أو وصفةٌ معينة وتلتئم الجراح، ويتآخى السوريون ويسيرون معاً نحو بناء هوية وطنية أو دولة جامعة. هذا تبسيط مخلٌّ للغاية. القضية تكمن في القوى المجتمعية والطبقات التي لها مصلحة في الدولة المواطنية الوطنية. فهل للطبقات الثرية المصلحة ذاتها للأغلبية المفقرة. قيام دولة حديثة يتطلب مشروعاً تاريخياً، ينهض بالاقتصاد والمجتمع والسياسة، وألا يخرج عما جرى في أوروبا، من نهوض صناعي، وتغيير عميق في الثقافة واعتماد الحريات ومساواة الأفراد في الحقوق والواجبات، وبالطبع تحييد الأديان عن السياسة، وأخيراً بناء الدولة القومية، وهذا هو جوهر النقاش في هذا النص. استغلت كل أشكال الحكم في سورية منذ نشوئها بعد “سايكس بيكو” الأديان والمسألة العشائرية والمناطقية وسيّستها، وخرّبت البنى المجتمعية. وبالتالي كيف السبيل إلى بناء تلك الدولة، وأن يكون من مهماتنا التنسيق مع بقية الدولة العربية، للنهوض العربي الكامل؟

ما بعد الثورات

زاد في تعقيد حالة التبعية المتعاظمة للدول العربية التطبيع أخيرا مع إسرائيل، والذي يعاكس تأثيره أيّة مشاريع للنهوض القومي أو الوطني. إذاً، لا يجوز تعظيم الأوهام بشأن سهولة القيام بدولة وطنية مواطنية، ولكن الضرورة التاريخية تفترض قيامها.

اللحظة التاريخية الراهنة هي واقع التبعية، والاحتلالات لأكثر من بلد عربي، وهيمنة تركيا وإيران وإسرائيل على العرب، وهناك روسيا وأميركا، واستعداد الصين للدخول إلى منطقتنا. تركيز التيارات السياسية والفكرية نحو قيام دولة وطنية مسألة ضرورية، وهذا يجب أن يخاض في كل بلد عربي أولاً، ولكن ذلك يفترض التشبيك بين هذه الدولة وتلك، وكذلك هناك ضرورة لقيام علاقات متكافئة مع شعوب المنطقة بأكملها، والإقرار لها بحقوقها السياسية، وبدءاً بالأكراد، والأتراك والإيرانيين.

نعم، أخفق العرب في بناء دولتهم القومية الجامعة، ويقع على تياراتهم الفاعلة خوض كل الصراعات ضمن الساحات الوطنية، وتطويرها وإنتاج هويات وطنية، ستعتمد، لا محالة، على العروبة رابطة ثقافية بين أفرادها، وتتجاوز كل أشكال الانقسام ما قبل الوطني. ولا تنتهي مهمة التيارات هذه هنا، بل تبدأ وتطوّر المحلي الوطني بأفق الوصول إلى الدولة الجامعة، وهذه قضية صراعٍ وطنيٍّ وقوميٍّ في آن واحد، ولكن ما لا يجوز اللعب فيه المفاضلة بين الوطني والقومي؛ فالوطني أولاً، ولا يقوم إلّا بالصراعات المجتمعية والطبقية الساعية إلى النهوض الوطني والعربي.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى