منوعات

المُعتقَل في الدراما التلفزيونية السورية… حساسية الجرح المفتوح/ علاء الدين العالم

12.04.2025

من يمتلك حق سرد حكاية المعتقلين السياسيين في المسلسلات السورية ؟ وما هو تاريخ “تمثيلهم” على الشاشة قبل سقوط النظام ؟

أُسدل الستار على الموسم التلفزيوني الرمضاني في سوريا وسط عدة جدالات شهدتها وسائل التواصل الاجتماعي والصحف الفنيّة، موسم لم يتعرّض إلى قضيّة المعتقلين كوننا أمام أعمال كتبت وصورت قبل سقوط نظام الأسد، لكن الجدل الواسع حول مسلسل “قيصر”، من إنتاج صفوان مصطفى نعمو وإخراجه، وتأليف مجموعة من الكتّاب السوريين حرك تساؤلات حول الحق بتمثيل المعتقلين وكتابة حكاياتهم.

الجدل حول المسلسل بدأ فور الإعلان عن بدء تصويره، وانطلق من أساسين: الأوّل كان الرفض الشامل لأي عمل فنّي يتناول قضيّة المعتقلين اليوم، خاصّة وأن الجرح مفتوح، والمسار القانوني الخاصّ بالمفقودين والمغيّبين لم يبدأ بعد، وأن كلّ المعلومات الخاصّة بالمعتقلين هي بيانات قانونية، ولا يمكن التعامل معها، أو اقتباسها من دون إذن مسبق.

أما الأساس الثاني فكان خاصّاً بالممثّلين الذين يؤدّون أدوار المعتقلين في العمل، وعلاقتهم السابقة مع النظام، وعلى رأسهم غسان مسعود، الذي ناله نصيب وافر من النقد والاعتراض على وجوده في عمل يخصّ المعتقلين.

 على أية حال، وبعد أن أصدر فريد المذهان بياناً أعلن فيه عدم منحه إذناً لاستخدام الاسم “قيصر”، لأي عمل أو جهة فنية، أخذت لجنة صناعة الدراما قراراً بإيقاف تصوير العمل مؤقتاً، وأُغلق ملفّ المسلسل إلى حين، لكن فتح هذا الجدل الباب على أسئلة مختلفة، ما هي الآلية التي سينتظم فيها العمل الفنّي، أي عمل فنّي، عن المعتقلين والمغيّبين؟ وهل ستتعامل لجنة صناعة الدراما مع مسلسل “إضراب سجن صيدنايا”، المزمع تصويره؛ من تأليف سامر رضوان، بالطريقة نفسها التي تعاملت فيها مع مسلسل “قيصر”؟ أم أن صنّاع مسلسل “صيدنايا” سلكوا مساراً قانونياً يشرعن عملهم عن المعتقلين؟ وقبل كلّ ذلك، هل كانت هذه الأعمال هي الأولى التي تناولت موضوع المعتقلين في الدراما التلفزيونية السورية؟ وكيف أدّى الممثّلون والممثّلات السوريات دور المعتقل السياسي؟

المعتقل اليساري… غسان مسعود مرّة أخرى

لم يكن مفهوماً هذا الهجوم الحادّ على أداء غسان مسعود دور معتقل في مسلسل “قيصر”، وعدم الفهم هنا لا يأتي من ردّ فعل الجمهور على موقف مسعود المؤيّد للنظام السابق، بل لأن مسعود كان قد قام بالفعل في أداء دور معتقل سياسي في مسلسل “مع وقف التنفيذ”، الذي عُرض قبل ثلاث سنوات؛ من تأليف علي وجيه ويامن الحجلي، وإخراج سيف الدين سبيعي. “مع وقف التنفيذ” كان من الأعمال التلفزيونية القليلة التي تناولت قضيّة الاعتقال السياسي، وصورة المعتقل، وصُوّرت داخل سوريا. يقدّم العمل صورة عن المعتقل السياسي عبر شخصية حليم/ غسان مسعود، وتبدو الشخصية في بداية العمل متّسقة مع فكرها ومبادئها، وتُقارب في حكايتها حكاية كلاسيكية لمعتقل شيوعي في سجون البعث. مع تتابع الحلقات، تبدأ صورة المعتقل بالاهتزاز عند رواية تاريخ اعتقاله، وتحميله، بصورة أو بأخرى، مسؤولية تدمير عائلته بسبب التزامه بمبادئه، من دون الإشارة إلى أن المسؤول الوحيد عمّا حصل معه، ومع غيره من معتقلي سوريا قبل الثورة، هو النظام الأمني البوليسي الذي ابتليت به المنطقة.

للحقّ، لم يستهن مسعود بأداء دور المعتقل السياسي اليساري، ولم يقدّمه بصورة غير لائقة، أو مبالغة، أو مؤطّرة، على العكس كانت شخصية “حليم” نمطاً من أنماط المعتقل اليساري في سجون الأسد، المتمسّك بمبادئه وأفكاره. وربما كانت شخصية “حليم” ستكون واحدة من الشخصيات المعتقلة التي ستبقى في ذاكرة المشاهد، لولا النمطية التي ذهب إليها مسعود في أدائه، ولولا الهفوات النصّية التي بررها صنّاع المسلسل حينها، بصعوبة الإفلات من الرقابة الأسدية، التي تعتبر شخصية المعتقل السوري خطاً أحمر، حاول المسلسل تجاوزه.

في العودة إلى مسلسل “قيصر” لم يأتِ الجمهور المعترض على غسان مسعود، على ذكر شخصية “حليم” أو تذكّرها، حتى أنه لم يعتبرها هفوة، بقدر ما اعتبر حضور صور قيصر في مسلسل “مقابلة مع السيّد آدم”، الذي كان من بطولة مسعود وإخراج فادي سليم، هو الهفوة الكبرى في تاريخ الفنّان. لا سيما وأن صنّاع “السيّد آدم” استخدموا صوراً من صور قيصر في إطار بحث جنائي متخيّل، من دون الرجوع إلى أي مؤسّسة سورية معنّية بالمعتقلين، وتحصيل الإذن في عرض الصور في مسلسل درامي.

أنسنة المعتقل… سلاف فواخرجي كانت معتقلة أيضاً!

“أنا أنسنت الشخصية، وتعاملت معها بكل أمانة”، بهذه الكلمات أجابت الممثّلة السورية سلاف فواخرجي في مقابلتها الأخيرة، التي أثارت جدل الجمهور السوري وحفيظته. أشارت فواخرجي بتلك الكلمات إلى شخصيتها “رغد” في مسلسل “مال القبان”، الذي عُرض العام الماضي، والذي جسّدت فيه دور المعتقلة السياسية في سجون النظام، ومن دون الدخول في تفاصيل المقابلة الصحافية السرمدية لفواخرجي، نسأل: ماذا كانت تقصد فواخرجي في قولها أنسنة شخصية المعتقل؟ وقبل ذلك ما المقصود بكلمة “أنسنة” الشخصية الدرامية؟

يقصد الممثّلون عادة باصطلاح “أنسنة الشخصية”، العملية التي تتمّ في لحظة أداء الممثّل شخصية شريرة (قاتل، مجرم، لص…) أو شخصية تاريخية موسومة بعيب أخلاقي ومجتمعي (مشركو قريش مثلا) في هذه الحالة، يعمل الممثّل على إيجاد البعد السايكولوجي والعاطفي للشخصية، وإيجاد المبرّرات للأفعال العنيفة والسلبية التي تقوم بها الشخصية، من دون الدخول في حكم مسبق على الشخصية وأفعالها.

إذا طبّقنا الكلام السالف على حديث فواخرجي وأدائها لشخصية معتقلة رأي، نجد أن هناك حكماً مُسبقاً على الشخصية المعتقلة، وهذا الحكم هو ما دفع فواخرجي للقيام بـ”أنسنة” شخصية المعتقل، الإنسان المفرط في إنسانيته. فالممثّلة لا تقوم بأنسنة شخصية من دون أن يكون لها، أو للمجتمع عامّة، حكم مسبق على صحّة أفعال الشخصية وإيجابيتها. ومن هنا يعي المتلقّي، أنه كان لفواخرجي حكمها المسبق على شخصية “رغد” المعتقلة التي تؤدّيها، ولذلك “أنسنتها”! على أية حال، أدّت فواخرجي الدور باحترافية، وبأمانة كما عبّرت، لكن بالطبع مَن لم يقتنع بالاعتقال، وأهواله، لن يقدّم شخصية معتقلة تبقى طويلاً في أذهان الجمهور.

ورد… المعتقلة الأشهر في الدراما التلفزيونية السورية

رغم أنها قُدّمت قبل ١١ عاماً، بقيت شخصية “ورد/ سلافة معمار”، في مسلسل “قلم حمرة”؛ نص يم مشهدي وإخراج حاتم علي، حاضرة في أذهان المشاهدين حتى اليوم، لا بل عادت “ورد” إلى الواجهة مع سقوط نظام الأسد، واسترجع الجمهور أحاديث الثنائي المعتقل “ورد وصبا/ ريم علي) لما فيها من جدل حول أفكار معاصرة وحاضرة في الحالة السورية بعد السقوط.

 المحافظة/ المتحررة، الإسلامية/العلمانية، العاطفية/العقلانية، هذه الثنائيات وغيرها كانت أساس نقاشات ورد وصبا في المعتقل، وهي ذاتها أساس الجدل السياسي القائم في سوريا حالياً. ولو أن الجدل في المسلسل يبدو أبسط بكثير مما يبدو عليه اليوم، خصوصاً مع اللغة  التنظيرية، وضعف الحجج من الطرفين أحياناً (صبا وورد) إلا أن هذا الجدل نقل تجسيد المعتقلة إلى مستوى آخر، وظهرت الشخصيتان بما هما شخصية واحدة داخل رأس المعتقل السياسي، يمينياً كان أم يسارياً، محافظة كانت أم متحررة.

 لا أنسنة هنا ولا مواقف وأحكام مُسبقة، هنا شخصية مركّبة وممثّلة محترفة. لم تنطلق معمار من موقف مُسبق على “ورد”، ولم تستسهل في تقديم نمط مباشر للشخصية اليسارية المعتقلة، بل جبلَتها بنفسها، ورمت الشخصية، ورمت نفسها أيضاً في ظرف الاعتقال وهلاوسه، وتنقّلت في محاكاة معاناة المعتقلة من الفكري الجدلي، والسياسي والمجتمعي، إلى اليومي والحياتي، وصولاً إلى المعاناة الجسدية، وعكس التحدّيات اليومية للنساء المعتقلات. كذلك الحال أدّت ريم علي شخصية “صبا” المحافِظة، بدون حكم مسبق على الشخصية، وبتبنٍّ صادق جعل منها تلقائية وطبيعية، وجعل لحضورها مع “ورد” في الزنزانة نفسها أثراً واضحاً، ولم تكن صدى، بل كانت شخصية من لحم ودم.

في عام ٢٠٠٨، وعقب العرض الافتتاحي لفيلم “خارج التغطية”؛ إخراج الراحل عبد اللطيف عبد الحميد، ظهرت موجة غضب بين المعتقلين الحاضرين للعرض الافتتاحي، بسبب تصوير الفيلم لعلاقة جنسية بين فايز قزق وزوجة صديقه المعتقل صبا مبارك، في فترة اعتقال الصديق نضال سيجري، فورة الغضب جاءت بسبب تقديم المعتقلين السياسيين بهذه الصورة الأخلاقية الإشكالية.

مشكلة صديق المعتقل الساقط أخلاقياً حضرت في أكثر من عمل من الأعمال السابقة، وأحياناً كانت مخرجاً رقابياً في الدراما التلفزيونية المصنوعة في دمشق، أما اليوم، فعقبة الرقيب الأسدي زالت، لكن خرج بدلاً منها رقيب حقوقي وقانوني، وما جرى مع مسلسل  “قيصر” هو جرس إنذار لأي عمل فنّي يتناول قضيّة المعتقلين، من دون السير في المسار القانوني والحقوقي قبل الشروع في العمل، وأنه على الجميع أن يعي حساسية العمل على الملفّ الأكثر قسوة في تاريخ التراجيديا السورية، لكن في الوقت ذاته، يجب ألا يتحوّل هذا المسار إلى رقابة جديدة، بيروقراطية ومتشدّدة ومرتبطة بردّ الفعل الشعبي، الغوغائي أحياناً.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى