إلفة الإدلبي: منظورات غير حولاء/ صبحي حديدي

13 – أبريل – 2025
في مناخات سوريا الجديدة، المنعتقة من ربقة «الحركة التصحيحية» وعصابات آل الأسد؛ يصحّ، بل لعله واجب الحدّ الأدنى، إعادة التذكير ببعض المؤلفات الغربية التي سعت إلى إنصاف البلد والشعب والحضارة والثقافة، من زاوية غير مألوفة وغير آمنة فعلياً، هي الإضاءة على الإبداع المعارِض أو الانشقاقي، كما في التعبير الشائع.
وهذه المؤلفات ليست كثيرة في واقع الأمر، بسبب من منظومات استبداد خانقة ظلت تعيق التواصل مع ممثلي الإبداع السوري المعارض، وتجعل البحث الميداني شبه مستحيل عملياً؛ الأمر الذي قد يفرض اليوم مسؤولية أخلاقية، قبل تلك النقدية والمعرفية، في العودة إلى تلك الأعمال: من باب استثمارها والاستفادة من خلاصاتها، أوّلاً؛ ثمّ تكريمها ووضعها هي أيضاً في خانة الانشقاق عن مألوف البحث الأكاديمي الغربي، الاستشراقي إجمالاً، ومقاومة تنميطاته الراسخة المرسّخة، ثانياً.
الأمريكية مريام كوك، واحدة من هؤلاء، سواء خلال مهامها الأكاديمية حول دراسات الشرق الأوسط والعالم العربي في جامعات عديدة، أو رئاسة تحرير «مجلة دراسات المرأة في الشرق الأوسط»، أو في مؤلفات رائدة مثل «نظيرة زين الدين: سيرة نسوية إسلامية رائدة»، و»الرقص في دمشق: الإبداع، المرونة، والثورة السورية»؛ ثمّ كتابها «سوريا الانشقاقية: الإفصاح عن فنون المعارضة»، 2007، موضوع هذه السطور، الذي تتحمل ترجمة حرفية لعنوانه الفرعي وجهة «الإعلان رسمياً» Making official عن تلك الفنون.
وبين خريف 1995 وربيع 1996 قضت كوك ستة أشهر في سوريا، وكان غرضها الابتدائي هو دراسة أدب المرأة السورية، بالنظر إلى أنّ الآداب النسوية كانت موضوعاً محورياً في انشغالاتها النقدية والأكاديمية، قبل أن تقودها اللقاءات مع أهل الثقافة في البلد إلى توسيع نطاق الدراسة، والتركيز أكثر على النتاجات المعارضة أو الانشقاقية. ولهذا فإنّ فصول الكتاب الثمانية تتوزّع على نتاجات الشعر والرواية والسينما والمسرح، ولأنها تتوخى تمثيل مختلف الأجيال التي أنتجت إبداعاً مغايراً، فالقارئ يعثر على مقاربات عريضة واسعة، تضمّ إلفة الإدلبي وناديا الغزي وملاحة الخاني، إلى جانب زكريا تامر وممدوح عدوان وغادة السمّان وأسامة محمد وغسان الجباعي، وسواهم.
في الفصل الثالث، تتناول كوك، شخصية إلفة الإدلبي (1912ـ2007) القاصّة والروائية السورية الرائدة، التي تستحقّ بامتياز صفة أديبة الشام الشعبية العميقة؛ والتي رحلت في صقيع العاصمة الفرنسية باريس، وليس حيث يعبق الياسمين في حيّ الصالحية الدمشقي العريق، حيث وُلدت. ولا تتردد كوك في اعتبار الإدلبي «سيدة الأدب السوري الكبيرة»، منذ أقاصيصها الدمشقية المبكرة في سنة 1954، حيث لا يُكرّس الماضي العريق جامداً مقدّساً لا يُمسّ، بل يتفتح حيوياً في ذاكرة شخصيات شعبية من نساء ورجال، وفي سلوك الحياة اليومية أو مشاقّ العيش، وروحية التطلّع إلى أفق فسيح يجب التماسه في المستقبل المعقد.
وأمّا في ثمانينيات القرن المنصرم، فإنّ روايتها «دمشق يا بسمة الحزن» تعود مجدداً إلى هواجس امرأة دمشقية بين عشق الثائر وتسلط الأب التقليدي وانتفاض سوريا ضدّ الانتداب الفرنسي ونزوع الاستقلال والتحرر. ولا يفوت كوك استذكار تفصيل حاسم في سيرة الإدلبي، يشير إلى أنها ابتدأت الكتابة في ثلاثينيات القرن المنصرم، حين كانت كتابة المرأة لا تحظى إلا بالقليل من الاهتمام، أو حتى الاعتراف. وتنقل عن الإدلبي، خلال حوار جرى مع الكاتبة السورية في دمشق، أنّ القاصّ المصري البارز محمود تيمور، أبدى إعجاباً شديداً بكتاباتها وعرض أن يقدّم لمجموعتها القصصية؛ لكنها في نهاية المطاف، فضّلت أن يحسم الرأي أستاذُها لمادّة اللغة العربية، فكان حزنها شديداً حين عرفت أنه توفي قبل شهر واحد فقط!
وعلى شاكلة هذا الحوار مع الإدلبي، ورغم أنها تلامس بعض نوستالجيا استشراقية شائعة، حين تُبصر في القاصة السورية شخصية الحكواتي في مقهى النوفرة؛ فإنّ كوك تتفادى الوقوع في المزالق المعتادة للنظرة الاستشراقية التنميطية الضيّقة، المألوفة خصوصاً لدى الحديث عن المرأة عموماً والأدب النسوي خصوصاً، في الشرق الأوسط. بل هي، على العكس، تذهب بموقف الحكي هذا إلى مستويات عميقة من التأويل، اقترحها أمثال الناقد الثقافي الأمريكي هايدن وايت في قراءة الأبعاد الاجتماعية والسياسية والشعورية لآثار السرد والسرديات.
ذلك أيضاً، لأنّ الإدلبي انتمت إلى جيل شهد نهوضاً ملموساً، ومميّزاً تماماً، في عدد النساء كاتبات القصة والرواية من جانب أوّل؛ ونوعية فنّية ناضجة ومفاجئة، من جانب ثانٍ. بين أبرز أسماء تلك الحقبة كانت ماري عجمي (1888ـ1965)، نازك العابد بيهم (1887ـ1959)، وداد سكاكيني (1913ـ1991)، وسلمى الحفار الكزبري (1923ـ2006). وآنذاك، كان يُطبع في سوريا 25 صحيفة يومية، و12 مجلة نصف شهرية، و3 مجلات شهرية. واستطراداً، ذاك جيل تولى التأسيس والريادة في الجانب الفنّي، كما انخرط في مبادرات تحرير المرأة وانعتاقها اجتماعياً، وأضاف بالتالي الكثير من المدلولات الثقافية ـ السياسية الناجمة عن ائتلاف هذين الجانبين.
وكان تفصيلاً منتظَراً أنّ لائحة مراجع كوك، في تأليف هذا الكتاب الرائد، ضمّت عشرات المؤلفات في التاريخ والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وليس النصوص الإبداعية أو الدراسات النقدية وحدها؛ ولعلّ هذا الخيار المنهجي هو أوّل منافذ النجاة من مساوئ نظرة استشراقية، قاصرة وسطحية و… حولاء!
القدس العربي