منوعات

الكمّون السوري… ذات المطابخ معركةً ودرساً/ آلاء عامر

15 ابريل 2025

كأنّما لا يمتلك السوريون ما يكفي من أسباب الانقسام، ليحوّلوا مطابخهم إلى ساحة أخرى للشجار؛ حمص وحماة وحلاوة الجبن، منسف درعا ومنسف السويداء، وكمّون دمشق.

شهدت مواقع التواصل الاجتماعي، قبل سنوات، واحدة من أشهر المعارك السورية، إذ اشتعلت حرب ضروس بين المطبخ الدمشقي والمطبخ الحلبي، وكانت المساحة الافتراضية مملوءة برائحة الكمّون الذي استُخدم ليس بهاراً فحسب، بل أداة لتحديد الهوية الثقافية لكل مدينة، فبينما الدمشقيات أكّدن ضرورةَ إضافة الكمّون إلى المحاشي باعتباره اللمسة السحرية التي تضفي على الأطباق نكهة مميّزة، كانت المحاشي الحلبية تفخر بنقائها من رائحة ذلك البهار العطري الأصفر، مؤكدة أن الدمشقيات يُضفن الكمون إلى المحاشي كي يُخفين افتقارها إلى اللحم. … وبعد اشتداد المعركة، دخلت حمص وحماه إلى ساحة الاشتباك، ليشكر الجميع الله أن حلاوة الجبن لا تُصنع في دمشق، وإلّا لرشّ الدمشقيون عليها الكمّون أسوةً بما فعلوه في المحاشي.

ليس مُستغرباً أن تكون مشاجرات السوريين على مواقع التواصل منكّهةً برائحة الكمّون، إذ يُعتقد أن سورية هي الموطن الأصلي لنبتة الكمّون، فقد عُثر على بذور الكمّون في أحد المواقع الأثرية في تل الدير صوان في سورية، ويُعتقد أن المزارعين السوريين خبأوا هذه البذور قبل ألفي عام قبل الميلاد، ومنذ ذلك الحين وتُربة سورية مناسبة لزراعة الكمّون.

وكما وجد السوريون أن “البرد هو سبب كلّ علّة” وجدوا أيضاً أن “الكمّون دواء لكلّ علّة”؛ إذ إنّ السوريين هم الشعب الوحيد الذي صنع أكياس شاي تحتوي على كمّون وليمون، المشروب الذي يُعتبر بدعةً لم يجرؤ العقل التركي أو الأوروبي أو الأميركي على تجريبها، تحوّل إلى أكياس شاي تقدّم في أرقى المقاهي والفنادق، ويبدو أنهم، أقصدُ السوريين، قد استمدوا هذه الخبرة الطبية من نصائح أطباء الإغريق الأوائل، إذ أكّد أبقراط و ديسقوريدس فوائدَ نبتة الكمّون الكثيرة، ودورَها في تخفيف الالتهابات وتقوية المناعة وتحسين عملية الهضم، أَلَم أقل لكم إن الكمّون “دواء لكل علّة لك يابي”؟

وخلال سنوات سورية العجاف ردَّ الكمّونُ المعروفَ للسوريين، إذ كان سنداً للمزارعين في الشمال الذين استبدلوا زراعة الكثير من المحاصيل التي تحتاج إلى ظروف زراعة نموذجية كالري والسماد والمبيدات الحشرية بزراعة الكمون؛ النبتة المربحة القادرة على التكيّف مع الجفاف إذ لا يحتاج الكمّون إلى الري.

تَصفُ بقيةُ المحافظاتِ الدمشقيينَ بأنهم حريصون، ولا يحبّون التبذير أو أنهم “أبو كمّونة”، ويُستخدم وصف ” أبو كمّونة” للإشارة إلى الشخص الحريص، أو حتى في بعض الأحيان البخيل، وخلال البحث عن علاقة أبو الكمّون بالبخل أوصلني “غوغل” إلى الشاعر العباسي بشَّار بن بُرْد الذي هجا الشاعر حمَّاد عجرد لأنه أخلف وعده، وقال فيه:

“إذا جِئْتَهُ يوماً أَحَالَ على غَدٍ.. كما وُعدَ الكَمُّونُ ما ليسَ يَصْدُقُ”

“وَعَدْتَ فلم تَصْدُقْ وَقُلْتَ: غداً غداً..  كما وُعدَ الكَمُّونُ شِرْبَاً مُؤَخَّراً”

شبّه الشاعرُ بشّار الشاعرَ حمّاد بأنه صاحب مزرعة كمّون “أبو كمونة” لا يروي الكمّون من بخله، رغم أنه يقدّم للكمّون وعوداً كثيرة. إذاً، ليست المشكلة في الكمّون نفسه بل في صاحبه أي في “أبو كمّونة”، ويبدو أنه من هنا جاء المثل الشعبي “على الوعد يا كمّون”. وعن هذا المثل، يقول التراث الشعبي إن الكمّون اعترض على إهمال المزارعين له، وطالبهم بالاهتمام به وريّه أسوةً ببقية النباتات، لكن الفلاحين كانوا يَعِدونه بالسقي ثم ينكثون وعودهم، ولذلك بقي الكمّون يعيش على الوعود.

وتُعيد بعض التفسيرات سبب استخدام مصطلح ” أبو كمّونة” لوصف البخيل إلى أن الكمّون هو بهار عطري قوي، وصاحب نكهة لاذعة، ولذلك لا بدّ من استخدامه بحذر لأن التفريط في رشّه قد يفسد نكهة الطعام.

بعد سقوط نظام الأسد وبداية مرحلة جديدة في تاريخ سورية، لا يزال الكمّون قادراً على تفرقة السوريين وعلى تصفير ساعاتهم، لتتحوّل المساحات الافتراضية الزرقاء من مكان للحوار إلى ساحة معركة فيسبوكية، تشتعل من أجل اختلاف على أبسط تفاصيل الهوية والثقافة السورية، تماماً مثل الاختلاف الشامي الحلبي حول طبخة محشي، أو الحموي الحمصي بشأن براءة اختراع حلاوة الجبن، واليوم بات السوريون يختلفون على اسم دولتهم وطريقة حُكمها وتاريخ ثورتهم. لكن “الكمّون” كما أشعل وقودَ اختلافاتنا التي تسترت حينها تحت غطاء الطعام كان سنداً أصيلاً للمزارع السوري، إذ كان الكمّون كفؤاً ولبى الفزعة عندما لجأ الفلاحون في إدلب إلى زراعته خياراً اقتصادياً بديلاً، سعياً وراء عوائد مالية أكبر مقارنة بالمحاصيل التقليدية مثل القمح والشعير، إذ سجلت زراعة الكمّون في إدلب أرقاماً قياسية، بعد أن وصلت المساحة المزروعة إلى حوالى 4350 هكتاراً في إدلب وأريافها العام الماضي حسب مديرية الزراعة في حكومة الإنقاذ. إذاً؛ “الكمّون” الذي اختلف السوريون في شأنه، كان العامل الذي أنقذ محاصيلنا الزراعية، لأنه محصولٌ أصيلٌ يحمل الجينات السورية، واليوم أكثر من أي وقت مضى فإنّ السوريين بحاجة إلى الاقتداء بالكمّون، أي إلى تحييد اختلافاتنا، وتلبية نداء “الفزعة” لسورية التي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى جميعَ أبنائها وبناتها.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى