إبراهيم درّاجي: نقاط جيّدة في الإعلان الدستوري وأخرى مقلقة

عز الدين عز الدين
15 ابريل 2025
منذ صدور الإعلان الدستوري في سورية في مارس/ آذار الماضي، لم يتوقف النقاش حوله، وبرزت وجهات نظر مختلفة ومتباينة بين من يعتبره إنجازاً دستورياً هاماً ومن اعتبره نكسة مخيبة للآمال بعد ثورة عظيمة خاضها الشعب السوري وقدم خلالها تضحيات جسيمة.
يعرض أستاذ القانون الدولي إبراهيم درّاجي، في المقابلة معه، ما تعد مؤاخذات قانونية على الإعلان الدستوري، مع مناقشة عدة تفاصيل بشأنه.
ماذا يعني مصطلح الإعلان الدستوري؟ وما الفرق بينه وبين الدستور الدائم والمؤقت؟ وهل يعتبر إصداره من حالات الضرورة؟
هذا جدل فقهي وأكاديمي غير محسوم، حيث لا يستطيع أحد أن يزعم إن هناك قواعد وضوابط لما يسمّى إعلاناً دستورياً أو دستوراً مؤقتاً أو دستوراً دائماً. حاول الفقهاء استخلاصه من تجارب الدول التي كانت تصيغ خلاصات دستورية في مرحلة ما بعد الحرب والنزاع المسلح. كانت هذه الخلاصات تقوم على أن الإعلان الدستوري هو الوثيقة الأولى التي تعلن نهاية مرحلة دستورية من دون أن تحدّد المسار الدستوري الذي ستسير عليه المرحلة المقبلة. أما الدستور المؤقت فهو الذي ينظم الأوضاع القانونية بمرحلة انتقالية، ويجب أن يكون مقيّداً بانتهاء هذه الفترة، ويكون مقتضباً بنطاق زمني محدّد، إما أن يكون محدداً بنص الإعلان الدستوري نفسه، أو بربطه بالمرحلة الانتقالية. بالتالي، ووفقاً لهذا التصنيف، الوثيقة التي نحن بصدد نقاشها في سورية دستور مؤقت، أما الإعلان الدستوري فهو مقرّرات مؤتمر النصر في 29 يناير/ كانون الثاني الماضي (2025)، وفي سورية يجب أن نمر بثلاث مراحل: إعلان دستوري، وهو مقرّرات مؤتمر النصر، والدستور المؤقت وهو موضوعنا، الموقّع من الرئيس أحمد الشرع في 13 من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، وصولاً إلى دستور دائم.
للوصول إلى تقييم موضوعي وواقعي، هل نقارن الإعلان مع الدساتير السورية السابقة، أم مع الدساتير الدولية الديمقراطية؟ وما هي الآلية العلمية في تقييمه؟
غلبت على تقييماتنا، نحن السوريين، بعد 8 ديسمبر (2024)، الانطباعات الشخصية، فالذين يحبّون الإدارة ويؤمنون بها يعتقدون أن كل ما يصدر عنها هو جيد، والذين لا يحبونها يعتقدون أن كل ما يصدر عنها سيئ بالضرورة. نحن نمر بمرحلة تاريخية، وعلينا الآن أن نقيّم بصورة موضوعية. ولذلك من الطبيعي أن تعجبنا مواد بهذا الإعلان، ولا تعجبنا مواد أخرى، وهنا تبرز الحاجة إلى الاستناد لعدة معايير يمكن أن تقوم عليها عملية التقييم، وهي:
الأول: يجب مقارنة هذا الإعلان بالدساتير السورية السابقة لكي نحدّد بدقة مستوى ثقافتنا الدستورية، والتي تراكمت منذ بداية تشكل الدولة الوطنية ومراحل تطوّرها، إذ لا يمكننا إلا أن نبني عليها، حيث إن سقفنا الدستوري منخفضٌ جداً. على سبيل المثال، ينص الإعلان الدستوري الحالي على مادّة خاصة بالجيش والقوات المسلحة، وهذه المادة وفق المعايير الدولية عادية جداً، ولكن بمقاييسنا السورية هي ثورة، لأننا، ببساطة، لم نكن نجرؤ على الاقتراب من هذه المواضيع في دساتيرنا السابقة.
الثاني: أن نقارنه مع دساتير دول ما بعد الحرب والنزاعات المسلحة وليس مع دساتير الدول الديمقراطية المستقرّة. عملتُ أكثر من سبع سنوات مع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) لإنجاز وثيقة اسمها “سورية… بدائل دستورية”. وعندما كنا نعمل، لم نكن نستند إلى الدستور الأميركي أو الفرنسي مثلاً، بل كنا نعمل على استلهام تجارب مثل تجربة رواندا وسيراليون والعراق وليبيا ومصر وتونس، لأنها جميعاً دولٌ أتت دساتيرها بعد ثورات أو انقلاب أو حرب أهلية.
الثالث: عدم الفصل بين الواقعين القانوني والسياسي، فعلى سبيل المثال لا يمكنني مقارنة هذا الإعلان بالإعلان الدستوري المصري الذي صدر بعد ثورة يناير (2011)، حيث إنه صدر بعد ثورة شعبية سلمية لأسابيع أسقطت نظام حسني مبارك. أما في سورية فكان هناك صراع مسلح وقوة عسكرية أسقطت النظام، وهذه خصوصية يجب النظر إليها عند إجراء أي تقييم لهذا الإعلان.
ما هو المبرّر الدستوري والقانوني للنص على تحديد دين رئيس الدولة في الإعلان؟ باعتبار أنه إعلان مؤقت ولا إمكانية لإجراء انتخاب لمنصب رئيس الجمهورية؟ بالإضافة للنص على الشرع الإسلامي مصدراً للتشريع.
تحديد دين رئيس الدولة موضوع هام جداً ومتداخل ويحمل إشكالية. فعندما سألنا اللجنة لماذا لم تضعوا مادة تحدد جنسية المرشّح لرئاسة الجمهورية؟ كان الجواب أنه لا توجد انتخابات. سألناهم لماذا وضعتم نصاً يحدد دين رئيس الجمهورية إذا كانت لا توجد انتخابات؟ … يرتبط تحديد دين الرئيس في الإعلان بالنقاش حول هوية الدولة أكثر من شروط الترشّح لرئاسة الجمهورية. كنتُ من المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني. وللأمانة، كانت أغلبية الحضور تطالب بأن يكون الإسلام دين الدولة، بل تطالب بنصوصٍ قاطعة وصريحة بموضوع هوية الدولة الدينية. وكانت وجهة نظري أن لا أحد يملك الحقّ في تغيير هوية الدولة لا لنا ولا ضدنا. واللجنة التي تقوم بالصياغة ليست مخولة بذلك، لأن هذا الدستور لن يعرض على الاستفتاء العام. العرف السائد في مرحلة الدساتير المؤقتة أن لا يجري المسّ بالثوابت، ومنها هوية الدولة. وبالرغم من أن توجهي دولة مدنية ومن أنصار عدم تغيير هوية الدولة في المرحلة الانتقالية لعدم إمكانية إجراء استفتاء شعبي، باعتقادي أن هذا النص حيادي أبقته اللجنة تماشياً مع الدساتير السورية المتعاقبة، مع ملاحظة أنه بحاجة إلى نقاش هادئ. كما أن أهم القوانين التي تؤثر في حياتنا اليومية من خلال التطبيق هما قانونا العقوبات والأحوال الشخصية، وهما صدرا قبل الخمسينيات وما زالا ساريين، ولم يتعدلا ولم يؤثر عليهما النص أو عدم النص على أن الفقه مصدر التشريع أو المصدر الرئيس للتشريع. نصّ دستور تونس عام 1957 على أن الإسلام دين الدولة. وبالرغم من هذا النص فإنه لم يحدّ من وجود قوانين تونسية مدنية في عهد الرئيس بورقيبة، بل نصّ على عدم تعدّد الزوجات.
ما تقييمك للإعلان من حيث الحقوق والحريات؟ هل رأيت فيه تطوّراً عن دستوري 1973 و2012 من حيث ضمان الحقوق والحريات؟ وما أهمية المادة التي تذكر القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان؟
طبعاً، لا نستطيع مقارنته بدستور 1973 أو دستور عام 2012، لأنه دستور مقتضب، فلا يمكن لنا مقارنته بدستور دائم، فالمواد الواردة فيه المتعلقة بالحقوق والحرّيات محدودة. ولكن من المناسب الإشارة إلى بعض المواد، مثل المادة المتعلقة بالحقوق الجماعية التي لا يجري التركيز عليها عادة، مثل الحقوق الثقافية، وقد تم ذكرها ولأول مرة بالدساتير السورية، وهذا يعدّ أساساً دستورياً يمكن أن يمهد نحو التفكير في كيفية تجسيد هذا النص، كإقرار لغة رسمية ثانية في بعض المناطق (لغة كردية في شمال سورية مثلاً). أما الفقرة الخاصة بمعاهدات حقوق الإنسان، فهذا كان دوماً مطلباً لنا، لأن الدساتير السورية كانت صامتة تماماً عن ذلك، بل ولم تذكر “حقوق الإنسان” على الإطلاق. وكانت مطالباتنا بأن تتشكّل المنظومة القانونية وفقاً للتالي: أن يكون الدستور أولاً، والمعاهدات الدولية ثانياً، ثم القوانين الوطنية ثالثاً. وقد جاء هذا النص بشيء يفوق توقعاتنا، أن هذه المعاهدات جزء من الدستور، أي تسمو على القوانين الوطنية. وهذا إنجاز جيد، ولكن يجب أن ننتبه إلى أن المقصود بذلك اتفاقيات حقوق الإنسان فقط التي صادقت عليها الحكومات السورية، وليس كل قواعد القانون الدولي. ويجب ملاحظة أمرين هامين لا ينتقصا من النص، ولكنهما يثيران القلق، هما كيفية التطبيق وأن الحكومات السورية قد تحفّظت على مواد في اتفاقياتٍ مصادقٍ عليها لأسباب مختلفة، وينبغي العودة إلى كل اتفاقية، ومعرفة حدود هذه التحفّظات؟ والقضية الثانية أن هذا النص يحتاج تطبيقاً على أرض الواقع، وبالتالي لا نقدر ان نذهب إلى قاضٍ، ونطلب منه تطبيق أي معاهدة قبل أن تصبح جزءاً من القوانين، تستند إليها المحاكم، وهذا بحاجة إلى نص تشريعي يدمج المعاهدات المصادق عليها مع القوانين الوطنية.
تنصّ المادة 23 على حق السلطة التنفيذية بتقييد الحريات حفاظاً على النظام العام والصحة العامة والآداب العامة، هل تجدها مادة مقلقة، وهل تشكل خطراً على الحقوق والحريات العامة؟
هذه المادّة موجودة بدساتير عديدة، بل هي مأخوذة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. ولكن المشكلة ليست في النص، إنما في بيئة التطبيق، في أوروبا مثلاً، لن يخشى من إساءة تطبيق هذا النص، لوجود رقابة شعبية حقيقية ومحكمة دستورية مستقلة وبرلمان قادر على مراقبة أداء الحكومة وأمين مظالم ورأي عام وأحزاب ومجتمع مدني وصحافة. فإذا تم التفكير بخرق هذا المبدأ والتوسّع بمفهوم النظام العام أو الآداب العامة والأمن العام ستكون هناك آلية رقابة. ولكن عندنا في سورية ولدى أغلبية الدول العربية، قلق كبير منه، ولا سيما أن لدينا، في الأساس، مشكلة كبيرة مع المصطلحات والنصوص الفضفاضة العائمة، فلدينا نصّ ما زال في قانون العقوبات يجرّم “وهن نفسية الأمة”، وحوكم سوريون كثيرون بسببه، وأنا أحمل الدكتوراه في القانون منذ ربع قرن ولا أعرف ماذا يعني هذا المصطلح، ولا أعرف كيف يمكن لأحد أن يوهن نفسية الأمة.
ما رأيك بالمادة المتعلقة بالمرأة؟ هل تؤسس لواقع جديد للمرأة السورية، وتمهّد الطرق نحو تحقيق المساواة بينها وبين الرجل، وحمايتها من كل أشكال العنف والتمييز؟
هذا أيضاً من النصوص التي تحمل إيجابيات وشيئاً من القلق. موضوع حقوق المرأة أكبر من مادّة دستورية، عندما نريد الحديث عن حقوق المرأة نتحدّث عن لغة جندرية واضحة، عن “كوتا” نسائية، عن تعديل قوانين، عن هيئاتٍ دستورية، عن حقوق واضحة، ويجب أن أذكّر بأنه دستور مقتضب، ولم نكن نتوقع أن يحقّق جميع مطالبنا في ما يتعلق بحقوق المرأة. وأيضاً المادة التي تنصّ على اعتبار الاتفاقات الدولية جزءاً من الإعلان الدستوري يمكن البناء عليها، لأن سورية موقعة على اتفاقيات دولية رئيسية في مواضيع حقوق المرأة.
هل جرى ضمان استقلال السلطة القضائية في هذا الإعلان؟ مع العلم أن قانون السلطة القضائية الذي لا يزال ساري المفعول ينص بشكل واضح على أن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى، ووزير العدل نائبه؟
في موضوع القضاء، نص الإعلان على إيجابيات عديدة، أهمها إخضاع القضاء العسكري لوزارة العدل، وإلغاء المحاكم الاستثنائية. وعندما صدر الإعلان الدستوري ولم أجد فيه ما ينصّ على أن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى، اعتبرت هذا من أهم الإيجابيات. ولكن عندما شاهدت عضواً في لجنة صياغة الإعلان يقول على التلفزيون عندما سئل عن ذلك: نعم، لا يزال الرئيس رئيس مجلس القضاء الأعلى، لأن القانون ينص على ذلك، وبرّر بأنه إذا لم يكن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى، فقضاة النظام البائد سوف يترأسون المجلس. ولكن هذا لا يعني أن النص الدستوري غير هام، بل قد يفتح نافذة أمل بتعديل قانون السلطة القضائية في المستقبل، وأن ينص على مادّة تضمن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، تشبه النصوص في قوانين الدول الديمقراطية، بالتالي، هذا النص جيد بانتظار التطبيق.
هل تعتقد أن إعطاء الرئيس صلاحية تعيين أعضاء المحكمة الدستورية خرق لمبدأ فصل السلطات؟ ولكن هل توجد طريقة أخرى لتعيينهم في ظل عدم وجود مجلس تشريعي، وعدم استقلال مجلس القضاء الحالي؟
نعم، يعيّن الرئيس في أميركا رئيس المحكمة العليا، ولكن لمرّة واحدة، ويبقى رئيس المحكمة في منصبه حتى وفاته. ولكننا لا نستطيع مقارنة حالتنا بحالة الولايات المتحدة. لدينا مشكلاتٌ عديدة، ونحن نتحدث عن ضوابط. النظام رئاسي ولكن الرئيس سيعيّن السلطة التشريعية، النظام رئاسي ولكن الرئيس ما زال رئيس السلطة القضائية. وبسبب خصوصيتنا السورية، وتجربتنا المرّة مع الديكتاتورية عقوداً طويلة، لا نستطيع أن نأخذ كل معايير النظام الرئاسي ونقارن أنفسنا بدول لديها كل الآليات الفعّالة للرقابة المجتمعية على السلطات، وأولها سلطة رئيس الجمهورية. كان علينا التفكير بخيارات مبتكرة أخرى مع تعقد الوضع السياسي والقانوني، أحدها على سبيل المثال في دستور 1950، والذي كان نظاماً برلمانياً، كان الرئيس يقترح 15 اسماً ليكونوا أعضاء المحكمة الدستورية، والبرلمان ينتخب سبعة منهم. هذه آلية تشاركية على سبيل المثال، كما يمكن أن يقوم مجلس القضاء الأعلى بالترشيح، ويقوم الرئيس بالتعيين أيضاً. هذه آلية أخرى. وبالمناسبة، رشّح الرئيس هاشم الأتاسي عدة قضاة لعضوية المحكمة، ولكن القضاء رفض المرشحين، وقالوا إنهم لا يريدون ترشيح الرئيس، وفشلت جلسة البرلمان التي كانت معدّة لتشكيل المحكمة الدستورية. هذا حصل في سورية عام 1950. الحقيقة، نحن في مأزق، فنحن بحاجة إلى رئيس قوي حتى يستطيع ضبط الأمن والحيلولة دون شبح التقسيم. وفي الوقت نفسه، نخشى من صلاحيات واسعة لرئيس قوي يعيد منظومة دكتاتورية مستبدة. نحن نسير على خط خطير جداً. ولذلك مشاعرنا تتبدّل عشرات المرات في اليوم الواحد.
من الانتقادات الكثيرة التي طاولت الإعلان عدم النص على آلية لكتابة الدستور الدائم وإقراره، ألا تعتقد أن لجنة صياغة الإعلان أصابت بذلك؟
ليس المطلوب أن يضعوا مضمون الدستور، فقط آلية صياغة الدستور وإقراره، أي كان يجب أن يحدّدوا كيف ستتم صياغة الدستور الدائم وإقراره. نحن كنا بحاجة لنصٍّ في الدستور المؤقت يقول إن الدستور الدائم سيلتزم بمعايير المشاركة المجتمعية، ولو بجملةٍ أو جملتين، تؤكد على المشاركة الشعبية بنص دستوري، يكون مُلزماً حتى لا تُصاغ الدساتير في غرف مغلقة من دون مشاركة وتشاور مجتمعي. كما كان المطلوب أن تحدّد آلية إقرار الدستور إما عبر جمعية تأسيسية منتخبة كدستور 1950. وفي هذا الحالة الجمعية، تنتخب لجنة لصياغة الدستور ثم تتم مناقشته وإقراره. وعندها لا داعي لعرضه على الاستفتاء الشعبي، لأن هذه الجمعية منتخبة ومفوّضة من الشعب. أو عبر لجنة خبراء تصوغ الدستور من أجل عرضه على الاستفتاء العام، ومن ثم إقراره، والطريقتان ديمقراطيتان. وكان يجب أن ينصّ على مدة إنجاز الدستور الدائم، حتى لا تتكرر تجربة تشكيل لجنة مؤتمر الحوار، أو لجنة صياغة الإعلان، من حيث السرعة وعدم التنوع. حيث يخشى أن ننتظر أربع سنوات أخرى، وفي آخر ثلاثة أشهر نصوغ دستوراً دائماً. مع ملاحظة أن في الإعلان آلية مرنة لتعديله، حيث يملك الرئيس صلاحية اقتراح التعديل الذي يتم بموافقة ثلثي المجلس التشريعي. وبالتالي، لو جرى النص على أن يتم خلال ثلاث سنوات إنجاز الدستور الدائم للبلاد من لجنة منتخبة أو لجنة معيّنة، على أن يعرض للاستفتاء مع مراعاة المشاركة المجتمعية. كان هذا مطمئناً، ولو وجدوا في المستقبل أن الأمر بحاجة إلى جمعية تأسيسية منتخبة، يمكن أن يعدّل ذلك في نص الإعلان بآلية التعديل المنصوص. وانأ لا أعرف لماذا لم يتم ذلك؟
وجّهت انتقادات كثيرة إلى طول المرحلة الانتقالية، بينما وجدتها آراء أخرى مناسبة بالنظر إلى المدّة التي يحتاجها بناء المؤسّسات المنهارة، كيف تقيم ذلك؟
ليس معيار الفترة الانتقالية مدة ولاية الرئيس، أربع سنوات أو سبع سنوات، وهي ليست فترة رئاسية. المطلوب من الفترة الانتقالية حل مشكلات الدولة، وهذه قد تحتاج 50 سنة. مفهوم الفترة الانتقالية هو إيجاد بيئة آمنة للشعب لاستعادة انتمائه السياسي والوطني بالانتخابات. لأن من ستأتي به الانتخابات، حكومة منتخبة أو رئيس منتخب، هو من سيقوم بعملية الإعمار وعودة اللاجئين، وهذا يتطلب سنوات. هناك خلط ومفهوم خاطئ أن المرحلة الانتقالية ستحوّل سورية جنّة. هذا يحتاج سنوات طويلة. معيار الفترة الانتقالية أن يصبح الشعب قادراً على استعادة دوره السياسي. وفترة خمس سنوات طويلة. ربما كان التفكير من سنتين إلى ثلاث سنوات أفضل. ربطت أكثرية الدول الفترة الانتقالية بمدّة إنجاز الدستور. ولذلك كان يجب التفكير في ما إذا كان الدستور الدائم يحتاج خمس سنوات؟ يحتاج الوضع الطبيعي سنتين مع مشاركة مجتمعية ونقاش ثلاث سنوات، فإذا أنجزنا دستوراً دائماً خلال هذه المدّة ماذا نفعل به؟ هل نضعه في البرّاد حتى تنتهي الفترة الانتقالية؟ صحيح أن هناك دولاً مشابهة كانت الفترة الانتقالية فيها ست سنوات وسبع سنوات. لكن المدّة مرتبطة بالأوضاع الخاصة بكل دولة. ولكن، كمؤشر أولي، كان يجب أن تضع ثلاث سنوات، وإذا احتاج الأمر أكثر من ذلك يمكن التمديد على ضوء التطور الميداني.
توجد مادة تنصّ على صياغة قانون أحزاب وقانون جمعيات لكن متى؟ لم تحدّد المادة أجلاً زمنياً. أحد الأمثلة التي علّمنا إياها الآباء الدستوريون في دستور 1950 أنهم قالوا: نحن بحاجة إلى قانون أحزاب، وقانون انتخاب، وقانون سجل مدني، ولكن لم يتركوا الأمر للمجهول. وضعوا قيديْن: نص ذلك الدستور على إنجاز قانون الأحزاب خلال عامين. كما نصّ الدستور بشكل واضح على تنظيم ذلك بقانون وفق مبدأ الإعلام (الإخبار)، وليس الترخيص المسبق، بمعنى أنهم هم أنفسهم وضعوا المبادئ التي يجب أن يُصاغ عليها القانون بنص الدستور، وبذلك أرادوا تقييد السلطة التشريعية حتى لا تقرّ قوانين سيئة. ولكن الدرس المهم الذي علمونا إياه أنهم هم أنفسهم حوّلوا أنفسهم من جمعية تأسيسية إلى سلطة تشريعية، أي بمعنى آخر هم وضعوا هذه القيود على أنفسهم، وقد كانوا على علم مسبق بذلك، أي أنهم خشوا على القوانين من أهوائهم ونزعاتهم، هذه الدروس كان يجب أن نستفيد منها في صياغة الإعلان الدستوري.
في النهاية، يمكن القول إن الإعلان الدستوري يحوي نقاطاً جيدة، ولكنه يحتوي على نصوص مثيرة للقلق، ونصوص عدم وجودها يثير قلقاً. ومن أجل الوصول إلى تقييم موضوعي، يجب النظر إلى الإعلان منظوراً متكاملاً، والتطبيق هو معيار الفصل.
أثارت المواد المتعلقة بصلاحيات الرئيس وآلية تشكيل المجلس التشريعي، في الإعلان الدستوري، نقاشات وآراء مختلفة، ومن أهم الانتقادات منح صلاحيات كبيرة لرئيس الجمهورية على حساب باقي السلطات، مع العلم أن هذا من ميزات النظام الرئاسي المطبق في دول عديدة، إضافة إلى أن رأياً آخر يقول إن منح السلطة التنفيذية يحتاج الحرية اللازمة لإدارة هذه المرحلة من أجل إعادة بناء المؤسّسات، ما رأيك؟
ما ورد في الإعلان الدستوري، إذا أردت مقارنته بما ورد في صلاحيات الرئيس بالدساتير السابقة، جيد ومتطور، فهناك تقليص لصلاحيات الرئيس، وأهمها صلاحية التشريع، فالرئيس المعزول على سبيل المثال أصدر 25 مرسوم عفو من 2011 حتى 2024، بالرغم من أن الدستور الملغى كان يعطيه الحق في إصدار مراسيم العفو الخاص، بينما العفو العام من صلاحية البرلمان الذي لم يُصدر أي مرسوم عفو عام، ولكن استنادا إلى نص بالدستور كان يعطيه سلطة التشريع ليس فقط في حال غياب البرلمان، وإنما أيضاً في حال الضرورة التي كان يقدّرها كما يريد. كما أن حالة الطوارئ يستطيع إعلانها بقرار من مجلس الوزراء، وليس عليه أي قيود من حيث السبب أو المدة. أما الإعلان الحالي فقد وضع ضوابط جيدة، منها موافقة المجلس القومي، ثلاثة أشهر فقط، لا تجدّد إلا بموافقة البرلمان. ولكن الإشكالية أن الرئيس في النظام الرئاسي ليس له صلاحية اقتراح القوانين، بينما منحه الإعلان هذه الصلاحية. ويجب أن نعترف بأننا نسير في وضع استثنائي في هذا الإعلان. وأعتقد أن هناك مواد زرعت قد تفيدنا في كتابة الدستور الدائم قد لا نشعر بقيمتها حالياً، فإذا أبقينا في الدستور الدائم أن لا تكون للرئيس صلاحية التشريع أو في الإبقاء على ضوابط إعلان حالة الطوارئ فهذا جيد.
ما رأيك بآلية اختيار المجلس التشريعي. هل لدينا الحرية باختيار طريقة أخرى بالنظر إلى عدم وجود أي سلطة شرعية سوى سلطة الرئيس؟ وهل نستطيع اللجوء إلى الانتخاب المباشر؟ وبالاستناد إلى أي قانون؟
الطريقة التي نص عليها الإعلان في اختيار المجلس التشريعي هي أنسب خيار، فتجربة الانتخابات في الوقت الحالي غير ممكنة، لأننا نحتاج قانون انتخاب، ولا توجد سلطة تشريعية لإقراره. كما أن مقرّرات مؤتمر النصر، الذي يعد باعتقادي إعلاناً دستورياً، أعطى الرئيس سلطة تعيين كل أعضاء المجلس التشريعي، والخيار المعتمد في الإعلان هو الأقل سوءاً. ولم يعد لدينا في سورية اليوم، ترف الخيار المثالي، بل الخيار الأقل سوءاً. وهذا الخيار الذي جرى تبنيه العبرة في كيفية تطبيقه. وقد يكون هذا الخيار مفيداً جداً، وقد يكون كارثة، حيث يعيّن الرئيس ثلث أعضاء المجلس، وفي الوقت نفسه، يعين هيئة تعيّن هيئات ناخبة، تنتخب ثلثي الأعضاء الباقين. إذا جرى الأمر بمعايير الشفافية والتشاركية والتعدّدية والتنوع والنزاهة، فهذا قد يؤدّي الى إنتاج مجلس تشريعي مقبول. وإذا كان الثلث الذي سيعيّنه الرئيس يعبّر عن التنوع ويسدّ الخلل في التوازن، ويعوض النواقص والعيوب التي يمكن أن تحصل في الانتخاب، فهذه قد تكون بداية جيدة، فالعبرة بكيفية التطبيق. رغم أن تجاربنا السابقة لم تكن موفقة مع اللجان، سواء في لجنة مؤتمر الحوار أو لجنة صياغة الإعلان الدستوري، فقد أنتجت في الغالب أعضاء من لون واحد.
العربي الجديد